عيوني تترقرق فيها الدموع

أعتبر حي «ناتنج هيل جيت» في لندن قريتي اللندنية التي أعرف محلاتها وأناسها وعلى كل ما يلزمني للإقامة فيها، ربما لأنه أول حي نزلت فيه في الستينيات حين أقمت في لندن للعلاج مدة تقترب من العام، ودائمًا ما أختار فندق «إمباسي» المطل على هايد بارك مكانًا مختارًا لإقامتي كلما زرت لندن؛ فهو في قلب نانتج هيل جيت من ناحية، ومن ناحية أخرى قريب من الشارع العربي المشهور كونترواي التي لا تُغلق المحلات فيه أبدًا، ويا لذكاء البريطانيين السياحي؛ فحين كنت آتي في أوائل الستينيات كان قانون إغلاق المحلات العامة والخاصة قانونًا صلبًا باترًا يُطبَّق على الجميع بلا استثناء، ولكن مع توافد العرب إلى لندن، واكتشاف الإنجليز للطبيعة العربية التي لا تعرف التخطيط مسبقًا أبدًا، ولا تبني حياتها اليومية على أساس الحسابات المسبقة، بدأ الإنجليز يسمحون لبعض المحلات في «إدجوار رود» و«كوبنزوي» و«إيرلز كورت» سواء كان أصحابها من الهنود أم الباكستانيين أم العرب بفتح المحلات إلى منتصف الليل، وربما طول الليل، لا أعرف، وليس لهذا أكتب ما أكتب، فمنذ أيام وأنا في لندن احتجت أن أصوِّر بعض مسرحياتي وقصصي بالفوتو كوبي لإرسال نسخ منها للناشرين واﻟ Agent الأدبي الذي أتعامل معه تمهيدًا لطبع ونشر «نيويورك ٨٠» رواية و«بيت من لحم» مجموعة قصص قصيرة و«الفرافير» المسرحية، وكلها مترجمة إلى الإنجليزية في طبعات محدودة قامت بها جامعات شيكاجو والجامعة الأمريكية في القاهرة، والدكتور فاروق عبد الوهاب أستاذ الأدب العربي في أمريكا، وتصورت الموضوع مشكلة من أعقد المشاكل اعتمدت له كل صباح وظُهر ذلك اليوم، ولكن الغريب أنها تمت في سرعة لم أتصورها؛ فقد وجدت مكتب طبع قد افتُتح جديدًا قريبًا من محطة الأندر جروند طبع لي ست نسخ من الأعمال الثلاثة، وجلَّدها بغلاف جميل، وكل هذا لم يأخذ نصف ساعة، واحتجت إلى ظروف كبيرة تسع النسخة فوجدتها بجوار المكتب تمامًا، والبوسطة كانت قريبة فاشتريت قلم ماستر لأكتب العناوين وذهبت إلى البوسطة وأنا عقلي مشتت حتى لا أنسى شيئًا (وتكون النتيجة بطبيعة الحال أن أنسى أهم الأشياء نتيجة لهذا التشتت)، ودخلت البوسطة وأخذت رفًّا من رفوف الحائط وارتكنت عليه وكتبت العناوين، وأنا بين الحين والحين أنظر إلى طابور المنتظرين لدورهم فأجده يتلوى ويزداد طولًا حتى ليبلغ الباب الخارجي لمكتب البريد، بمعنى أن انتظاري لدوري بعد أن أكتب العناوين لن يقل عن نصف ساعة بأي حال، وأكره ما عليَّ في الدنيا أن أنتظر شيئًا خاصة إذا كنت أنتظره واقفًا، وممنوعًا من التدخين.

وانتهيت من العناوين وحملت المظاريف واتجهت إلى حيث آخر الطابور لآخذ دوري، وإذا بصوت عربي يقول لي: اتفضل يا دكتور. أنا حاجز لك دورك هنا.

وفتحت فمي في ذهول، وذهبت إلى حيث هو واقف فقال لي: أنا رأيتك داخلًا متجهًا إلى كتابة العناوين فقلت أقف في الطابور أحجز لك الدور إلى أن تنتهي والحمد لله أصبح الدور عليك الآن، تفضل.

وأنا لا أكاد أصدق نفسي، تفضلت، آخذ مكانه، وغمغمت سيدة إنجليزية عجوز تحتج على هذا الانتهاك (في نظرها) للأسبقية فقلت لها: لا تنزعجي يا سيدتي سيظل هو واقفًا في دوره ويتولى هو إرسال المظاريف.

ولكن الرجل المهيب الواقف بعدي استنكر هذا الاستنكار منها، وقال: لا شيء هناك يوجب هذا الاحتجاج؛ فدور أيٍّ منا لن يتأخر بخروج شخص وحلول آخر مكانه.

وهكذا بعد دقيقة كنت أمام موظفة الشباك آخذ الطوابع وألصقها وأناولها لآخر شباك.

ولم تستغرق عملية البريد التي كنت قدَّرت لها ساعة، سوى بضع دقائق ولكن وترًا عميقًا في نفسي كان قد ارتعش لما حدث، مسألة أن يقابل الإنسان معجبًا أو معجبة أو قارئًا فيقبل عليه لتحيته، مسألة كثيرًا ما تحدث لأي كاتب أو إنسان يعمل في مجال الفن أو الأدب أو حتى السياسة، ولكن ما أثَّر في نفسي تمامًا وعور فيها، هو أن هذا المعجب لم يَرَ سوى إعجابه بي، فاندفع يسلم عليَّ بحرارة ويعطلني عما كنت أقوم به، وإنما بإعجاب فوق العادة وبذكاء شديد قد أدرك مدى «اللخبطة» التي كنت فيها، وفعلًا كانت لخبطة؛ إذ كانت المرة الأولى في حياتي التي أتولى فيها إرسال طرد صغير أو كبير بنفسي ومن أي مكاتب بريد سواء في القاهرة أو في غيرها، إنما تصرف بهذا الذكاء المصري الجميل، الذي لا مثيل له بين أنواع الذكاء، ذكاء الشهامة والإعجاب وبدلًا من مصافحتي وتعطيلي ساعدني في أداء مهمتي الثقيلة أولًا، ثم قدَّم لي نفسه بعد هذا. كان شابًّا مصريًّا له عشر سنوات يعمل في المجال الصحفي في لندن، وحين رحت أشكره من صميم قلبي فعلًا، قال: إن هذا أقل واجب، لقد قرأت لك كتابًا غيَّر مجرى حياتي اسمه «الإرادة» ولولا هذا الكتاب لكنت ما زلت أعمل في مراقبة تموين الوايلي، بينما أنا الآن صحفي وكاتب وتعلمت الإشراف على «المطبخ الصحفي» في الجرائد والمجلات، وعرفت أسرار الإخراج وأنا الآن بجانب الكتابة سكرتير تحرير مجلة «…» التي تصدر في لندن، وحين قلت له إني سأروي هذه القصة الفريدة استحلفني بحق قصتي «اليد الكبيرة» وهي يد أبي التي ظهرت من كفنه لحظة دفنه، ولها في نفسي مكان مقدس فريد، استحلفني ألا أذكر اسمه أو اسم المجلة.

كثيرة هي الأهوال التي يلاقيها الإنسان وهو يكتب وهو ينشر وهو يُفصل أو يُسجن لأنه كتب أو نشر، كثيرة هي المرارات، ولكن حلاوة ما حدث، والتي تضاف إلى عدد آخر من حلاوات مماثلة كفيلة بأن تزيل مرارة وملوحة كل محيطات الدنيا التي عانيناها من السلطة ومن غير السلطة في بلادنا، إني متأكد أن مال الدنيا كلها ونفوذ كل رؤساء الجمهوريات والملوك والحكام لا تستطيع أن تمنحهم سعادة لحظة كالذي منحها إليَّ ذلك القارئ المعجب الكاتب.

شيء آخر لاحظته، كلما نظرت إلى عيون أي مصري الآن في أي مكان من العالم، أجد في أعمق أعماق العيون، مصر (مصرنا نحن، وليست مصر التي يغنون لها) أجدها سليمة متميزة كالجوهر العظيم الرابض يغذي الروح ولا ينهيه البعاد، لقد جاء علينا وقت كنا فيه نعتقد أن كل مصري مهاجر، هو فار من المعركة، وما أبشع ما يحسه الإنسان من خجل الآن لهذا التفكير المراهق، فلم يفر أحد من المعركة سواء من خاضها على أرض مصر، أو خارج مصر؛ فمصر هي كل لحظة أنا حي فيها.

إن عيوني تترقرق فيها الدموع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤