هذا البعد القريب

وأنا في الطائرة البوينج ٧٦٧ القادمة من نيروبي كان الطريق طويلًا، حوالي خمس ساعات بدأت في السابعة صباحًا (السادسة بتوقيت القاهرة) ومنذ أن بدأت وهي تقطع منطقة غابات كثيفة، ومراعٍ خضراء، مئات الكيلومترات وراء مئات الكيلومترات. الطائرة جديدة وأنيقة وفاخرة، والمضيفة لبقة ومصرية ورشيقة، والطيار معلم كبير، صعد بنا دون أن نشعر، وهبط بنا في مطار القاهرة دون ارتجاجة واحدة، وأنا سعيد أنني أخيرًا أصبحت في حضن مصري طائر، أتحدث العربية وأقرأ الجرائد والمجلات، سعيد كأني أستيقظ على حلم جميل أو أنام مستريحًا بعد يوم حافل من التحقيقات والنجاحات. رحلة، أشق رحلة، تكاد تكون بلا راحة حقيقية وبلا نوم إلا لمامًا، وبلا متعة ولكنها في الزمان والمكان رحلة العمر.

مضت الطائرة تقطع أوسع مساحات رأيتها في حياتي من الخضرة والأشجار والمراعي، وأنا أسترجع اثنين وعشرين يومًا مضت أسترجعها ككتلة زمنية متداخلة مختلطة مظلمة في أغلب الأحيان ولكن داخلها لؤلؤة تلمع، أراها تلمع ولا أستطيع الإمساك بها وكأنها لؤلؤة الحقيقة. وبين الحين والحين أعود أنظر من نافذة الطائرة فأرى الخضرة لا تزال باقية والساعة قد مضت منها ثلاث ساعات ولم يكن الأمر خداع بصر، ولكن الخضرة كانت قد بدأت تبهت وتصْفَر ثم ما لبث الأصفر أن طغى وأزيد وأصبح غامق الصفرة البنية لون الجدب الأعظم.

والمحرك اليدوي وكأن صوته قادم من الفضاء واللون الأصفر البني يشمل الكون الرابض تحت سحاب، إنها صحراء السودان الشمالي لون أخضر لا لمعة سراب، صحراء كالوجه الصخري الكالح لا توحي إلا بالعدم أو الموت أو بهما معًا.

وخُيِّل إليَّ أن عمرًا قد مضى وليس ساعة زمن، والطائرة معلقة بين سماء لا سحاب فيها وصحراء داكنة، طبيعة صامتة من فوق وصامتة تمامًا على الأرض، والطائرة وحدها بمن فيها كانت صمتت وصمتنا عن الكلام.

وفجأة بدا شيء يلمع من بعيد جدًّا، قلت لقد بدأ السراب، وما كنت ظمآن لأخرِّف، ولكن عيني كانتا ظمأيين لمشهد يختلف وقد ملَّتا الرؤية، ولكنه لم يكن سرابًا، ولا ضلالة عين. كان ماءً تفرَّست فيه فوجدته فعلًا شيئًا كالنهر الغليل وكنت متأكدًا أنه ليس النيل؛ فالنيل لا يمكن أن يبدو هكذا غليظًا من ارتفاع عشرة كيلومترات فوق سطح الأرض. أيكون بحيرة السد العالي؟ أقصد اسمها الحقيقي بحيرة ناصر.

ناصر. ناصر. لكأن مئات السنوات قد مضت علينا منذ أن ودَّعنا هذا الجبار الذي نازل الاستعمار وأراد أن يغلبه، كالأبطال، وحده، لكي تتكوَّن هذه البحيرة بأعظم كنوز الأرض، الماء العذب، كان لا بد أن يخوض ونخوض معه أهوالًا، كل قطرة ماء من هذه البحيرة التي ظهرت كالجنيَّة الحورية راقدة وسط القحط والجدب والموت، كل قطرة وراءها قطرة دم، ولتر عرق وجهد، وكفاح شعب، وعزيمة قائد بطل عنيد.

أخذت أتأمل البحيرة من أعلى عليين وكنت لأول مرة أراها من طائرة بهذا الارتفاع، ورد منظر الماء الذي قلنا له بإرادتنا، كن فكان، رد منظر الماء روحي، وأحسست أني مشتاق لهذا الشعب الذي بنى السد بعد جولة في بلاد، هي منبع النيل نفسه، وتشكو المجاعة والظمأ.

•••

في السنوات الأخيرة بدأ إحساس يتنامى داخلي ويقلقني، إحساس أنني أريد أن أرى أفريقيا الحقيقية، وليست أفريقيا الشمالية التي زرت بلادها جميعًا، وكان أقصى ما وصلت إليه الخرطوم، التي مكثت فيها أقل من ٤٨ ساعة ثم أُرغمت على العودة للقاهرة بعد أن اعتقلني البوليس السياسي النميري لمدة نصف يوم، رغم أن الذي كان قد دعاني لزيارة السودان هو وزير الثقافة السوداني آنذاك لحضور الاحتفالات السودانية، وعلمت بعد هذا أن السبب فيما حدث لي كان للحيلولة بيني وبين أن أُلقي محاضرة في جامعة الخرطوم، وتخوف سلطات الأمن وقتها من رد الفعل لدى الطلبة والأساتذة.

لم يكن إحساسي هذا مبعثه رغبة سياحية في «السفاري» أو رؤية الرقص الأفريقي، إنما كان نداء في الحقيقة غامضًا، لكأنه نداء العودة إلى الجذور أو العودة لقرية نزح عنها الإنسان إلى المدينة وترك أهلها لا يعرف ماذا فعل بهم الدهر أو ماذا فعلوا بالدهر.

وكنت أيامها لا أكاد أعرف شيئًا عن جغرافية أفريقيا الحديثة، أسمع مثلنا جميعًا، أسماء مثل بوروندي وزامبيا وليسوتو، أو مثلما تسمعون اليوم بوركينا فاسو وكوماسي ولا أعرف بالضبط موقعها على الخريطة، بل إنني متأكد أننا لو أجرينا امتحانًا لطلبة الليسانس في أقسام الجغرافيا عندنا عن عاصمة ليبيريا مثلًا لما أجاب إلا واحد في المائة منهم عن السؤال، بينما نحن نعرف تمامًا أسماء بلاد لا يتعدى سكانها بضعة آلاف مثل دوقية لوكسومبرج وإمارة موناكو.

وليس هذا مجرد جهل، ولكنه نوع من التوجه في المعرفة؛ فنحن نقع إلى أقصى الجنوب من أوروبا ولهذا فرأسنا وعقلنا، وربما إحساساتنا أيضًا تتوجه دائمًا إلى فوق إلى الشمال، تطمع أن تحيا مثلهم وتعرف لغاتهم وتعتبر إنسانهم وإنسانتهم كائنات أرقى نطمع إلى تقليدها حتى في أدق شئوننا حبًّا أو ملابس أو سينما، وقد انخرطنا في تقليد هذه الحضارات الشمالية القوية المقتحمة بلادنا بالعنف مرة وبالاقتصاد وبالثقافة وبالعلم إلى درجة كادت، بل أفقدتنا فعلًا كياننا نفسه وأصالتنا، ولكي ندرك المدى الرهيب الذي وصلنا إليه فلنقارن مثلًا أحدث شعاراتنا وهي الشعارات الداعية لتشجيع واستعمال الصناعات المصرية باليابانيين الذين وجدوا أن الدعاية الوحيدة التي تتبناها الدولة هناك هي الدعاية لشراء وامتلاك الصناعات الأوروبية، والأمريكية؛ ذلك أن اليابانيين متحمسون إلى حد الهوس للصناعة اليابانية، لا يثقون بأي صناعة غيرها مثلما لا يثقون في أي غريب، نحن نولي ثقتنا التامة للمستورد إلى درجة أخلَّت بميزان مدفوعاتنا إلى ديون وصلت إلى عشرات المليارات من الجنيهات كلها استنفدناها في شراء بضائع أو معدات أجنبية، وأيضًا ليست هذه أخطاء الرأسمالية المصرية، طفيلية كانت أم وطنية أصيلة، ولكنها خطأ التوجُّه المصري الذي دائمًا يعتبر الأجنبي القادم من الشمال أو من الغرب أكثر رقيًّا وإتقانًا، وكلمة الخواجة وتعني الكلمة الواحدة التي لا شك فيها، أخطاء أجيال وأجيال من المفكرين والمثقفين المصريين، وبالذات الكُتاب، الذين حدَّثونا عن لندن وباريس كما لو كانتا الجنة، وعن الأدب الأوروبي وكأنه لا ينطق عن الهوى، حتى شاعر شعبي كبير كبيرم التونسي قال:

ح أجن يا ريت يا إخوانا ما رحتش لندن ولا باريز.

طبعًا أوروبا متقدمة ولسنا نسعى من وراء نظرتنا إليها واهتمامنا الذي جرفنا لفقد أصالتنا إلى التقدم في حد ذاته المتمثِّل أمامنا في الدول والأمم والحضارة الأوروبية ثم الأمريكية من بعدها.

ولكن الزمن تغير.

ولم تعد أوروبا وأمريكا هي الظاهرة المبهرة للحضارات، لقد تقدمت الحضارة الغربية كثيرًا، ولأنها فعلت ذلك، فقد تقدم الصدق الأوروبي المتمثل في الفن والصحافة والسينما والرواية والمسرحية، ووجدنا داخل هذا الإنسان المتحضر قسوة وحشية غير بشرية في أحيان كثيرة، وقدرة على الجريمة وارتكابها بمثل ما لم يره التاريخ البشري كله، وتمييزًا عنصريًّا رهيبًا لمسناه حين رأينا في بلاد أوروبا ذلك الكم الهائل من الاحتقار الذي يكنُّونه لكل ما ليس أوروبيًّا أو فرنسيًّا وإنجليزيًّا أو أبيض أمريكيًّا بروتستنتيًّا وبالذات للملوَّنين والعرب.

وهذه طبيعة الأشياء أن يحب الشمالي الشمالي مثله، أما أن يشرئب الجنوبي أو تخدعه المقولات الجميلة ويتصور أن الشمالي سيعترف ويحس به أخًا أو رفيقًا، فهذا يتطلب درجة من السمو البشري لم تتحقق بعدُ للأجناس الشمالية القوقازية البيضاء للأسف الشديد.

•••

ذهب مرة أحد كبار المسئولين المصريين لزيارة السنغال، وقابل أيامها الشاعر ليوبولد سنجور رئيس جمهورية السنغال في ذلك الحين، وسأله سنجور عن رأيه في السنغال فقال: أنا سعيد جدًّا أنني في أفريقيا يا فخامة الرئيس.

فقال له ليوبولد سنجور: هل سمعت جيدًا، أنت سعيد لأنك في أفريقيا؟ قال: نعم يا فخامة الرئيس لقد سمعتني فخامتك جيدًا.

فقال ليوبولد سنجور بابتسامته التي تحمل قدرَين متساويَين من الخبث والطيبة: ألست مصريًّا يا صديقي؟!

قال: بالطبع فخامتك تعرف أنني مصري. قال: ألا تقع مصر في أفريقيا؟

قال: بالطبع تقع في أفريقيا.

قال: إذن أنت طول حياتك في أفريقيا دون أن تشعر؟!

وضحك المسئول المصري عاليًا، أعلى مما يجب وكأنما اكتشف لحظتها فقط أن مصر دولة أفريقية.

ومشكلة المصريين ومشكلة الشماليين الأفريقيين العرب كلهم أنهم يقعون في «شمال» أفريقيا، وأنهم دائمًا وأبدًا يرون أنفسهم جزءًا من الشمال الحقيقي للكرة الأرضية، وأن قربهم من السواد الأفريقي والوسط الأفريقي والجنوب الأفريقي يجعلهم ربما أشد الناس رفضًا لهذه الحقيقة، فكلمة العبد مثلًا التي كانوا يطلقونها على الأفارقة السود، كان يطلقها أشد الناس «سمرة» القريبين كثيرًا من أفريقيا للرجل «الأسود» نأيًا بأنفسهم عن أن يكونوا من نفس النوع.

وليس هذا عيبًا في السُّمر أو العرب الأفريقيين، ولكن يبدو وكأنه جزء من طبيعة البشر؛ فقد قابلت عددًا من الناس السود تمامًا في بعض البلاد الأفريقية يقولون عن الذين يعيشون في منطقة الغابات في أفريقيا وهي المنطقة الأكثر جنوبية، هؤلاء الزنوج، وكنت أكاد أضحك، وكأن صفة اللون أصبحت سمة في حين أنها ظاهرة طبيعية تمامًا؛ فالشمس الاستوائية شمس عمودية على سطح الأرض معظم ساعات النهار، وأشعتها فوق البنفسجية تنزل بكل قوتها على الأرض والناس والزرع والحيوان؛ تلك الكائنات الحية التي تدفع عن نفسها مغبة الأشعة فوق البنفسجية بعمل غشاء كثيف من الميلانين (وليس الميلامين طبعًا) هو الذي يصبغ الجلد باللون الأسمر أو الأسود أو الأسود الغامق حسب كثافة الأشعة فوق البنفسجية، وهذه الصبغة الخلوية تتوارث جيلًا بعد جيل فينتج عنها الأسود أو الأبنوسي أو البني أو الأصفر أو القوقازي الأبيض، شيء لا حيلة للإنسان فيه إلا الحكمة العليا التي أرادت للإنسان وللحيوان أن يعيش في هذه الشمس اللافحة؛ فقد لاحظت أن لون الجاموس الوحشي المطلوق في مراعي كينيا وتنزانيا أسود فاقع السواد بينما الجاموس في مصر رمادي وأحيانًا فاتح الرمادية يكاد يقترب من الرمادية الحمراء.

على أساس هذه الحقائق العلمية البسيطة تم أسر ناس والمتاجرة في ناس، واحتقار ناس وخطف ناس وتجارة عبيد، وثورة عبيد، وتقسيم البشر إلى حاميين وساميين ولا أعرف ماذا أيضًا.

لقد شاهدت مرة طفلة زنجية في محطة قطار ممباسا-نيروبي تلهو بعروسة تسرح شعرها الذهبي الناعم وتساعدها أمها وهما يلهوان معًا بتلك العروسة الشقراء ذات الشعر الأصفر، هذه البنت قطعًا ستصاب بكارثة عقدة اللون دون أن تدري؛ فصناع العرائس في العالم لم يعترفوا بعد بألوان البشر، وصنعوها كلها شقراء، صفراء الشعر بحيث إن من تنشأ وشعرها كثيف أكرت تصبح كالمضغة في أفواه صناع زيوت الشعر ومليناته «البيض أيضًا»؛ بمعنى أن الشمال قد استعمل الشمس أيضًا وما توزعه من ألوان وخصائص في استعمار شعورنا ومقاييسنا للجمال، وفي تكوين العُقد لدينا منذ نعومة أظفارنا.

•••

لماذا لا أكون صريحًا معكم ومع نفسي وأقول لكم إنني لن أجد حماسًا كبيرًا من القراء لهذا الحديث عن أفريقيا، فما يكاد بعض القراء يلمحون كلمة أفريقيا حتى ينحوا الجريدة جانبًا ويقولون: أفريقيا تاني، مش كفاية اللي عملوه في لعيبة الأهلي.

ولهذا سأتعرض للموضوع حالًا، إن الخطأ في مباراة الأهلي وكوتوكو خطأ جغرافي بحت؛ هو خطأ قبول إدارة الأهلي مثل إدارة الزمالك بملعب كوماسي كساحة للقاء مع الفريق الغاني؛ فكوماسي تقع في قلب منطقة قبائل أو قبيلة الأشانتي بينما العاصمة الغانية لا تسودها القبلية إلا بأقل القليل، والقبلية ليست عيبًا ولا تأخرًا؛ إنها نوع من النظام البشري لا يزال سائدًا في أفريقيا، بل حتى في أوروبا، وما تعصب الإنجليز للإنجليز إلا نوع من القبلية، وما تعصب الألمان للألمان إلا أحدث أنواع القبلية، بل ما تعصب البورسعيديين للنادي المصري أو الإسكندرانيين إلى الاتحاد أو الأولمبي إلا نوع من القبلية. وأن يتعصب جمهور الأهلي للأهلي شيء فجماهير الأهلي والزمالك والترسانة موزعة على القطر أو حتى كما شاهدت بنفسي على القارة الأفريقية كلها، أما أن يكتمل التعصب في وحدة جغرافية واحدة مثل مدينة كوماسي فهنا تخرج جماهير القبيلة الواحدة الموجودة في مكان واحد عن «عقلها» الجماعي بالذات إذا هُزمت، وتتحول المسألة من رياضة إلى عملية انتقام قبلي وقتل.

ولهذا لو كانت معرفتنا بأفريقيا معرفة مصرية من وجهة نظر مصرية أو حتى كروية، لما اخترنا أو وافقنا أبدًا على أن تكون المباراة أو أي مباراة قادمة في عاصمة ريفية قبلية، ولاخترنا العواصم دائمًا مكانًا للقاء حتى لو كان النادي اللاعب ناديًا محليًّا غير قومي.

•••

وهكذا ترجع إلى أصل السبب في رحلتي الجنوبية، إن كل معلوماتنا عن أفريقيا أخذناها من مصادر إنجليزية أو فرنسية أو ألمانية أو أخيرًا أمريكية، وكل ما قرأته بالعربية كان كتابًا ألَّفه رحالة مصري عن رحلته إلى أفريقيا وجنوب أفريقيا بالذات وأنا طالب في الثانوي، كلها مأخوذة من كتب أوروبية أو أمريكية أخيرًا ومن الأفلام. طرزان والقردة شيتا والسفاري، وكلها حتى العلمية منها لم يصل بها إلى حقيقة الحقائق بالنسبة لأفريقيا أو الإنسان الأفريقي، وذلك أن العقل الأوروبي مهما بلغ في موضوعيته لا يمكن أن يتقمص أبدًا الوجدان والعواطف، والأفكار التي تدور في عقل أي أفريقي، وإنما ستكون نظرته سطحية مهما بلغت في عمقها.

وصدقوني حين أقول لكم إن كل ما قرأته عن أفريقيا والإنسان الأفريقي شيء، وما رأيته وأحسسته ووجدته فعلًا، شيء آخر مختلف تمامًا، ذلك أنني كنت أراه كما سترونه إذا ذهبت بعيون أفريقية لأنني من نفس القارة وتحكمني نفس العوامل الجغرافية والتاريخية التي عاشها إنسان هذه القارة منذ زمن بعيد.

أجل، كان هدفي من هذه الزيارة أن أرى بنفسي، وأن أجيب على السؤال المحض، من نحن؟ مصريون نعم، عرب، حين سافرت ورأيت البلاد العربية والعرب ووجدت صورة طِبق الأصل من حياتي في قريتنا ومركزنا ومحافظتنا وقاهرتنا ومصرنا، نعم نحن عرب أيضًا، مسلمون، نعم مسلمون، والكعبة كعبتنا والنبي العظيم نبينا .

إما مصريون عرب مسلمون أو أقباط وأفريقيون أيضًا فهذا هو السؤال.

الذي دفعني أن ألبِّي ذلك الهاجس وأذهب أبحث إن كنا كذلك أيضًا بقيت كمقدمة كلمة إلى الاعتراف أقرب، إنني أدين بهذا الشعور للقائد القومي جمال عبد الناصر الذي منذ ما قبل منتصف الخمسينيات رسم لنا دوائرنا المصرية العربية الإسلامية الأفريقية، دائرة كنا غافلين عنها بالحلم الرومانسي حول وحدة وادي النيل وأملاكنا المنهوبة منذ عهد محمد علي وإسماعيل في مصوع وهرر.

في فلسفة الثورة قرأت لأول مرة عن دائرتنا الأفريقية وقت أن كان شغلنا الشاغل بالكاد هو إجلاء الإنجليز عن قاعدة القنال، وكان الرجل يمد حلمه بالاستقلال إلى القارة المستعبدة، قارتنا يربطنا بها ويربطها بنا، ويساعد حركات التحرر الأفريقي بكل ما يملك من قدرة، وقد استثمرت مصر الكثير من اقتصادها وأبنائها في تحرير الشعوب الأفريقية والعربية، وفي غمضة عين كدنا نضيع كل رأس المال، ولكن لا العرب ولا الأفريقيون نسوه.

إن البُعد المصري في أفريقيا والبعد الأفريقي في مصر أخطر بكثير، يكاد يوازي تمامًا البُعد العربي لمصر والبُعد المصري للعرب، وإذا كان البعد الإسلامي يُعد عقيدة وانتماء فالبعد الأفريقي يُعد طبيعة وأرضًا وماءً ونيلًا ودمًا ولحمًا. إن من يزعمون أن عبد الناصر كله كان خطأً هم كمن يحاولون أن يفقئوا عين الشمس بأصبعهم المرتعشة.

لقد كان للرجل رؤية مستمدة من الحلم المصري العظيم، كل ما في الأمر أنه لوى عصره بعنف لا مبرر له ليرينا ما كان يراه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤