الفقر «الدكر»

قبل أن أسافر إلى شرق أفريقيا، حرصت على لقاء ثلاثة من المسئولين عن سياسة مصر الأفريقية منذ الخمسينيات وإلى الآن، كان أولهم السيد محمد فائق مبعوث الرئيس جمال عبد الناصر الشخصي إلى أفريقيا لحقبة طويلة من الزمان، ومحمد فائق نموذج رفيع لواحد من رجالات مصر في عهد عبد الناصر، أخلاق كأخلاق الأولياء وأدب جم، وأفق سياسي واسع مدرب وفاهم، كنت أريد أن أعرف منه جذور علاقاتنا بأفريقيا في فترة التحرر الوطني والاستقلال تلك التي تراوحت بين استضافة الزعماء الجدد في القاهرة أثناء رحلة الحصول على الاستقلال، إلى التدخل العسكري العلني في الانحياز للومومبا الزعيم الوطني الكونغولي على تشومبي وعصابة ألمانيا الأوروبية التي كانت ولا تزال تمتص كل ثروة الكونغو، وكان ذلك التدخل سياسيًّا أول الأمر ثم انتهى بإرسال قوات الصاعقة المصرية بقيادة سعد الدين الشاذلي آنذاك وبراعة الدكتور مراد غالب سفير مصر. فترة غريبة من التاريخ والسياسة، والعسكرية المصرية تكاد تعادل — رغم الفارق الشاسع — الفترة التي أرسل فيها الخديو إسماعيل جزءًا من القوات المصرية ليحارب مع جيش صديقه نابليون الثالث في أمريكا أو المكسيك، لست أذكر ولكن شتان بين الهدفين؛ فعبد الناصر كان يؤمن أن تحرير مصر من الاحتلال البريطاني لن يتدعم إلا بخروج الإنجليز والفرنسيين من كافة مستعمراتهم في أفريقيا، وكانت الولايات المتحدة لا تعترض على هذا الهدف باعتبارها تخطط لتَرِثَ الإمبراطوريتين القديمتين فيما بعد، وإن يكن هذا قد حدث إلى حد كبير وأصبحت المصالح الأمريكية في القارة الأفريقية الآن تشكل أكبر المصالح قاطبة، تليها المصالح الفرنسية؛ ذلك لأن الاستعمار الفرنسي كان استعمارًا حقيقيًّا بالمعنى الثقافي والحضاري الذي قد وصل إلى درجة اجتثاث الهوية القومية من لغة وعادات وتقاليد، ولهذا كان طبيعيًّا أن تجد دول «الفرانكوفون» أي المستعمرات الفرنسية السابقة، نفسها، في ورطة هائلة بعد «الاستقلال» لا تملك معها إلا عودة الصلات الحميمة مع فرنسا، وفي حين أن دولة الجزائر قامت بمعركة بطولية لاستعادة اللغة العربية واللسان العربي والخصائص القومية؛ لأنها كانت ترتكز في مقوماتها الوطنية على الدين الإسلامي الحنيف واللغة العربية بكل تراثها وتاريخها ذلك لم تمسه اللغة والثقافة الفرنسية إلا لأقل من مائة وأربعين سنة، في حين حدث هذا، بقيت كل أفريقيا (الفرنسية) تعتمد على اللغة الفرنسية والتجارة والصناعة الفرنسيتَين إلى الآن، بل وأصبحت فرنسا في بعض الأحيان بقواتها العسكرية في تشاد مثلًا وأماكن أخرى تدافع عن المصالح الغربية كلها بما فيها المصالح والسياسة الأمريكية في القارة.

أقول: من محمد فايق استمعت إلى تفاصيل كثيرة عن تاريخ مصر القريب في مساعدة حركات التحرر الوطني الأفريقي من المساعدة في تحرير الكونغو إلى إيقاف حرب الانفصال الاستعمارية في نيجيريا إلى الاتصال بحركة الماوماو في كينيا واستضافة القوى الثورية في روديسيا (زيمبابوي الآن) وعشرات من زعماء حركات التحرير الأفريقي في أواخر الخمسينيات والستينيات إلى أن نالت كل الدول الأفريقية تقريبًا ما عدا ناميبيا وجنوب أفريقيا استقلالها الكامل، وأصبحت دولها تشكِّل خمسين صوتًا من أصوات الدول في هيئة الأمم المتحدة، خمسين صوتًا كلها تقريبًا تصوت في جانب مصر وجانب العرب وكانت من أوائل الدول التي بادرت إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل بعد عدوان ٦٧.

ثم جاءت السبعينيات ورحل عبد الناصر وتولى أنور السادات الأمور وكانت سياسته إلى ما بعد حرب ٧٣ هي سياسة الاستمرار على الخط الناصري التحرري.

ولكن …

بعد مفاوضات فض الاشتباك وزيارة القدس ومعاهدة كامب ديفيد تغيرت الأوضاع تمامًا؛ فقد نفض أنور السادات يده من سياسة مصر الأفريقية.

ورغم أن السادات قد أعاد العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل بما فيها التطبيع، إلا إن معظم الدول الأفريقية لا تزال علاقاتها مقطوعة مع إسرائيل.

وحدثت تغيرات كثيرة في القاهرة.

فزعماء ما بعد الاستقلال تهاووا واحدًا وراء الآخر؛ سقط نكروما، ومات سيكوتوري، وذهب أحمدو أهيدجو وجومو كينياتا وغيرهم كثيرون.

وتلك ظاهرة لا بد أن نتوقف عندها.

•••

ماذا أقول؟!

أأقول إن الاستقلال قد جاء مبكرًا أكثر مما يجب لمعظم الدول الأفريقية قبل أن ينشأ «كادر» وطني متمرس يستطيع أن يقوم بكل أعباء «التركيب التحتي» Jnfra Structure للدول الجديدة؟

أم أقول إن الدول الأوروبية المستقرة كانت حريصة على ألا تدرب الوطنيين على أي عمل مؤثر في الحكومة، وإن كل الوظائف الرئيسية والصغرى حتى كان يقوم بها البلجيكيون والفرنسيون والإنجليز والبرتغال؟

أم إن «الدولة» بحدودها المصنوعة والتي أقامها الأجانب أنفسهم فيما بينهم كانت لا تزال غريبة على النظام السائد في القارة منذ القدم نظام القبائل والعشائر؟

أم إن هذا كله معًا، جعل أمور أي بلد أفريقي بعد الاستقلال أسوأ مما كانت قبله.

صحيح أن بلادًا مثل كينيا والصومال وأوغندا وتنجانيقا (تنزانيا الآن) كان يُعامَل المواطن فيها معاملة الخدم والحمالين لعدة «السفاري» ولقد تغير الوضع الآن كثيرًا وأصبح المواطن سيد بلده.

ولكن الاستقلال أفرز أنواعًا غريبة من الحكم في أفريقيا.

فلأنه لم تكن هناك حياة حزبية بالمعنى المفهوم فإن الذي بادر واستولى على الحكم هم الضباط بقايا الجيوش الملحقة بالجيوش المحتلة، وهكذا قامت دكتاتوريات عسكرية سافرة في كثير من البلاد، وقد اختار الغرب من يخلفه بعناية زائدة؛ فقد راعى أن يكون الحاكم العسكري للبلاد فردًا من أقل القبائل عددًا وأضعفها نفوذًا حتى لا ينقلب إلى ديكتاتور وطني حقيقي يملك الأغلبية، وحتى يظل في حاجة ماسة إلى البلد الأوروبي الذي أعطاه الاستقلال.

كانت تلك هي القاعدة.

ولكن كانت هناك حالات قليلة ورثت فيها الحكم فئة لم يحسب — أو حسب — لها الاستعمار الغربي حسابًا.

أولئك هم فئة القادة الشعبيين الأيديولوجيين في القارة مثل «المعلم» جوليوس نيريري في تانزانيا، وبكاسا، ونكروما، وسيكوتوري، وروبرت موجابي في زيمبابوي، وكان أكثر هؤلاء ماركسيين سابقين، أو عرفوا الماركسية كمذهب وأرادوا خلق ما يمكن أن يسمَّى بالحكم الاشتراكي الوطني، وساروا على نفس الخُطى تقريبًا التي سارت عليها مصر في ثورتها مع الفارق الكبير بين مصر المتقدمة ذات التاريخ والثقافة العريقَين والحركة الوطنية التي بدأت منذ مائة وخمسين عامًا، وبين حركات وطنية لم يمضِ على بعضها أكثر من عشر سنوات؛ ولهذا فلم يحفل الأوروبيون كثيرًا بأن يتسلم هؤلاء الزعماء الماركسيون مقاليد الحكم مثلما فضلت الحكومة البريطانية أن تتفاوض مع الماركسيين في عدن ترفض تمامًا أن تقبل أو تتفاوض مع الجبهة القومية لميولها الناصرية الوطنية.

ذلك أن تلك الدول كانت تعرف سلفًا أن تطبيق الاشتراكية علمية أو وطنية مسألة صعبة تمامًا حتى على مجتمع أوروبي يعج بالمثقفين والمتعلمين والاشتراكي فيها محصور في دائرة ضيقة تمامًا، ومن الصعب على جماهير مواطنيه أن تستوعب التجربة.

وكأنما فعلت هذا عن وعي خبيث، لتفشل التجربة، وتتعلم الجماهير الأفريقية أن الاشتراكية والقطاع العام في كل شيء لا يصلح نموذجًا للحكم، في حين أنها الوسيلة الوحيدة لحكم وطني حقيقي يعمل لصالح الجماهير الفقيرة في فترة ما بعد الاستقلال، لو وجدت مقوماته، وأولها العناصر المخلصة الواعية المدربة.

وجاءت السبعينيات.

نكسة حقيقية.

أسعار المواد الخام من بُن وشاي وكاكاو ومعادن ومحصولات زراعية قليلة، تهاوت أسعارها إلى الحضيض، بينما ارتفعت أسعار البترول والمواد المستوردة إلى معدلاتها القصوى؛ بمعنى آخر زادت الدول الغنية من غناها، وازدادت أفريقيا فقرًا.

وبدأ تهاوي زعماء ما بعد الاستقلال ونظرياتهم.

وبدأت الحروب الأهلية في أوغندا وتشاد وموزمبيق، وبدأ تحرش جنوب أفريقيا بأنجولا وناميبيا، وبدأت النزاعات على الحدود بين الصومال والحبشة، وبدأ الجفاف وبدأت المجاعة.

وأيضًا وهذا هو المهم تأثرت سياسة مصر الأفريقية وتحولت ١٨٠ درجة؛ كان الرئيس السادات يكره الماركسيين كراهية التحريم؛ فألغى من قاموسه كل دولة أفريقية تدين أو أن لها أدنى صلة بالماركسية، في حين أن معظم الدول الأفريقية التي تحكم بالماركسية لا علاقة لها أبدًا بالشيوعية أو حتى بالاشتراكية وإنما هي نُظم وطنية أخذت الحكم، إما من إمبراطور كإمبراطور الحبشة، وإما من حكم استعماري غاشم، وإما لأنها كانت الفئة الوحيدة المنظمة في بلاد لا أحزاب فيها ولا تنظيمات.

حتى بلغ الأمر حد القطيعة التامة مع «جمهورية الحبشة الديمقراطية الشعبية» واتهام رئيسها مانجستو هيلا ميريام في خطبة سمعتها من الرئيس السادات بأنه — أي ميريام — مصاص الدم، وبلغت حد أن ميريام وضع أمامه زجاجات مليئة بالدم، يتوعد فيها الرئيس السادات بالقتل، ويلقي بزجاجة دم من فوق المنصة تغمر ما أمامها بالدم الأحمر المراق.

وانكمشت علاقاتنا الاقتصادية تمامًا بأفريقيا، شركة النصر للتصدير والاستيراد تلك التي كان لها فروع في كل بلد أفريقية، اقتصرت على وجود مندوب لها، والتبادل التجاري وصل إلى الحضيض.

وبدأت بعض الدول الأفريقية السيطرة على منابع النيل تتحدث عن إقامة سدود وخزانات على بحيرات فيكتوريا في أوغندا، وتانا في الحبشة والنيل الأزرق وعطبرة بحيث لا يعود يصل إلى مصر مياه تكفي حتى كي يشرب الناس.

وظل هذا يحدث إلى أن جاء حادث المنصة وتولى الرئيس مبارك.

•••

الحقيقة كانت تركة مثقلة تقريبًا في كل شيء وكل مجال.

وكان على الرئيس مبارك أن يحل عشرات العُقد التي كبَّلت مصر عربيًّا ودوليًّا وأفريقيًّا، وأفريقيًّا بالذات، فمن الحبشة التي يقال إنها ماركسية تأتينا ٩٠٪ من مياه النيل، كذلك تأتي روافد أخرى من تانزانيا الاشتراكية والصومال وكينيا، وكدت ذات يوم لا أصدق نفسي وأنا أرى الرئيس مبارك في التليفزيون يزور الحبشة ويصافح ويعانق الرئيس مانجستو ميريام، وأنا أرى ميريام في القاهرة يشيد بعظمتها، شيء لا يكاد يُصدق.

ولكن ما كان لا يُصدق، قد حدث.

وشكرًا لسياسة مبارك الأفريقية، وشكرًا لمهندس سياسي مصري حقيقي هو الدكتور بطرس غالي، الذي تولى برحلاته الكثيرة طوال أعوام، وبمناقشاته وما يحضره من مؤتمرات «الفرانكوفون» و«الأنجلوفون» الدول الناطقة بالفرنسية والناطقة بالإنجليزية شكرًا له بدأت العلاقات المصرية الأفريقية تعود إلى نبضها الطبيعي وتقريبًا إلى سابق عهدها في الستينيات وربما على مستوى أكبر؛ فقد كان دور مصر التحرري في الستينيات يحول بينها وبين إقامة علاقات طبيعية مع ما يمكن أن يسمى بالنُّظم القريبة من السياسة الغربية في القارة، الآن نحن على علاقة مع الجميع وبالذات مع الدول الشريكة في النيل ومنابعه، ولقد أنشأ الرئيس مبارك ما يُسمى «صندوق أفريقيا» وهو هيئة ثقافية علمية ذات ميزانية متواضعة، هذا صحيح (عشرة ملايين جنيه) ولكنها تتولى إيفاد أطباء وأساتذة جامعة وخبراء لإغاثة بعض البلاد الأفريقية المحتاجة في أحيان، ولعمل علاقات ثقافية وثيقة مع بقية البلدان.

وقد يقول قائل: وهل تملك مصر المديونة أن تقدم خدمات على هيئة إعانات لدول القارة الأفريقية؟

والسؤال مشروع تمامًا ولكن الإجابة عليه واضحة؛ فماء النيل حياتنا، وأفريقيا هي المتنفس الوحيد لأي صناعة مصرية أو أي صادرات ودون أرضية من العلاقات الودية والثقافية وحتى الشخصية لا يمكن أن نقوم بدور فعال في القارة.

ولقد أفادتني مناقشاتي الكثيرة مع الدكتور أسامة الباز الوكيل الأول لوزارة الخارجية ومدير مكتب الرئيس للشئون السياسية في فلسفة مصر العميقة تجاه أفريقيا وفي التعرف على الجهود الكبيرة التي دارت وتدور من وراء الستار؛ وكأن مصر تؤمن بالحديث الشريف القائل: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان.» فهي جهود بطلة حقًّا، ونتيجتها مذهلة، في أسبوع واحد زار كينيا وشرق أفريقيا ثلاثة من المصريين، كلٌّ فذ في مجاله، السفير سمير أحمد ليحدثهم عن استراتيجية مصر في أمن البحر الأحمر، والدكتور علي الدين هلال، وكاتب هذه السطور، حتى لقد وقف أحد أساتذة جامعة نيروبي يتحدث عن هذه الظاهرة ضاحكًا: إن المسألة تبدو وكأن هناك غزوًا مصريًّا لأفريقيا. ثم أضاف ضاحكًا: ولكن ما أروعه من غزو! إنه غزو الأشقاء والعلماء والمثقفين المصريين الأفريقيين، غزو نريده ونسعى إليه.

ذلك فوق مئات الأطباء والمصريين المتناثرين في أنحاء القارة من النيجر إلى أوغندا، يأخذون بالقياس العالمي بضعة دولارات، ويقومون بأعمال بطولية في مناطق لا توجد بها أحيانًا مياه شرب أو لقمة عيش.

والنتيجة …

بدأت مصر تستعيد دورها الطبيعي كالقاعدة الطبيعية للدول الأفريقية، وأصبحت القاهرة حلمًا من أحلام أي أفريقي، نفس الحلم الذي كان يراود أجيالنا السابقة لباريس عاصمة النور والثقافة، وللندن عاصمة النظام والتحضر، القاهرة عندهم أكثر ثم أنها منهم، من قارتهم بل وصل الأمر كما ذكر لي الدكتور بطرس غالي أن الأفارقة تبنوا الحضارة الفرعونية القديمة كلها واعتبروا أفريقيا بهذا، القارة التي نشأت فيها أول حضارة من صُنع الإنسان على سطح الأرض.

ولا يستطيع إنسان أن يدرك القيمة الحقيقية لمصر إلا إذا زار وتوغل في بلاد أفريقيا البعيدة، ورأى كم «يسلِّم» الناس بزعامة مصر (إلا في كرة القدم!) وينظرون إلى قاهرتنا التليدة وكأنها ماسة الوجود تلمع من بعيد جدًّا وسط الأحراش والغابات وتلهمهم المسيرة والطريق.

•••

كنت ألقي محاضرة في جامعة أفريقية كبرى، ولحسن حظي كان في مقدمة الحضور السفير محمود عثمان والسيدة سميحة غالب رئيسة الأقسام الثقافية في التليفزيون التي كانت تمثِّل مصر في مؤتمر الإذاعات الأفريقية، أما حظي الأكبر فقد كان في حضور الصديقة العزيزة والزميلة الأهرامية بهيرة مختار، وكان موضوع المحاضرة، هو: هل توجد ملامح عامة للأدب الأفريقي وللشخصية الأفريقية في أدب القارة؟

وكنت من تجوالي في كتب الأدب الأفريقي التي تصدرها دار «هاينمان» البريطانية وقراءات للكُتاب الأفريقيين الكبار أمثال: أوجوجي وجريس بوجوث وكريس وأنجالا واند نجازي وفرانسيس أمبوجوا وموسوكا وكنارابي وماسامبا ومولو كوزي وغيرهم، أولئك الذين يكتبون بالإنجليزية والقليلون منهم الذين يكتبون باﻟ «كي سواحيلي» والسواحيلية المترجمة، كنت قد اكتشفت ملامح رئيسية لأبطالهم تتشابه كثيرًا جدًّا مع ملامح شخصيات يول سوينكا الكاتب النيجيري الحاصل على جائزة نوبل، والشاعر النيجيري الكبير وليم كلارك كذلك مع ما يكتبه شعراء وكُتاب القصة القصيرة في موزمبيق (وعندهم أحسن كُتَّاب القصة القصيرة).

وليس هذا هو كل شيء.

فلقد وجدت أيضًا أن كتابات هؤلاء سواء كانت بالسواحيلية أو الفرنسية أو الإنجليزية يتشابه أبطالها إلى حد كبير مع أبطال كُتاب الشمال الأفريقي العربي في المغرب والجزائر وتونس وليبيا.

وأيضًا في مصر.

وهنا بدأت تنبت لديَّ فكرة الشخصية الأفريقية العامة في الأدب وكيف أنها قد تختلف في التفاصيل ولكن ملامحها العامة جد مشتركة، بل وواحدة، إلى درجة أننا يمكن أن نتحدث عن وجود شخصية أفريقية عامة في الكتابة، وكاد الموضوع يبدو غريبًا على الجمهور الحاضر ومعظمه من كبار المثقفين، والنقاد والكُتاب ودارسي الأدب الأفريقي وحتى الغربي.

ولم تكن تلك أول مرة يقابَل كلامي بالدهشة أول الأمر، ثم بالاقتناع التدريجي من طول النقاش.

وفي سبيل إقناعهم بهذا كانت أمامي عدة مشاكل ليس أقلها ذلك الستار الحديدي الذي أقامه الاستعمار الأوروبي بين أفريقيا السوداء أو أفريقيا ما تحت الصحاري الكبرى، وبين شمال أفريقيا العربي ومنه مصرنا العزيزة، قالوا لهم أفريقيا هي القارة السوداء، وهؤلاء عرب بيض أو سمر لا ينتمون إلى القارة لا لونًا ولا لغة ولا تقاليد.

ونجحوا في هذا إلى حد كبير.

ثم قسَّموا القارة السوداء جنوب الصحراء إلى أفريقيا تتكلم الفرنسية، وأفريقيا التي تتكلم الإنجليزية، وجزء ضئيل من شرق أفريقيا يتكلم السواحيلية والكي سواحيلية.

وبضرب الأمثلة للتناول وأبطال الأدب استطعت أن أقنعهم بتشابه الأبطال الأفريقية فوق الصحراء وتحت الصحراء الذين يتكلمون العربية أو الإنجليزية القاطنين في الشرق أو في الغرب أو في قلب القارة.

ولكن بقيت مشكلة اللون.

كان هدفي واضحًا، فمثلما أخذنا نحن وقتًا طويلًا جدًّا في أن نقتنع أننا أفريقيون فعلًا وجزء لا يتجزأ من القارة جغرافيًّا وإنسانيًّا وثقافيًّا، فقد كانت تلك أول مرة يُواجَهون هم فيها بفكرة أننا أيضًا أفريقيون مثلهم.

فالقاعة عامرة بالوجوه الغامقة السمرة، وأنا الذي يحاول إثبات أفريقيته فاقع البياض مثلي مثل محمد فائق الذي كنت دائمًا أتساءل كيف يختار عبد الناصر هذا الرجل الأشقر ليكون المتحدث باسمه في قارة سوداء، وهنا أخذت أتحدث عن موضوع مضحك تمامًا، ذلك هو موضوع الأقلية البيضاء الأفريقية التي تجيء من شمال القارة، أجل نحن البيض والأفريقيين أقلية ضئيلة جدًّا في القارة الأفريقية لا نتعدى الكسر من الألف في المائة فمعظم المصريين سُمر، وكذلك عرب المغرب العربي الأفارقة فيما عدا الخط الساحلي الضيق للبحر الأبيض المتوسط.

ولكي أثبت لهم أن لوني هو الشاذ في مصر وليس التقليدي، أشرت إلى صديقتي العزيزة بهيرة مختار الجالسة في الصف الأول، وقلت لهم هذا هو لوننا نحن المصريين، ووقفت بهيرة مختار وأعطتهم وجهها وصفق الحاضرون حماسًا واستحسانًا؛ ذلك أن الله سبحانه منح بهيرة سمرة أبنوسية فاتحة رائعة، هذا فوق ملامحها المصرية الجميلة التي ألهبت الأكف بالتصفيق، ولحظتها فقط أحسست بفخر بمصريتي وأفريقيتي.

وبدأ نقاش جاد وخطير حول الملامح العامة للبطل الأفريقي في الأدب.

•••

كما قلت انحدرت الأوضاع الاقتصادية في أفريقيا إلى حد المجاعة بعد الاستقلال؛ ذلك أن الحكومات الأيديولوجية لم تنجح في إقامة المجتمعات التي كانت تحلم بها، والحكومات العسكرية تحولت إلى مافيا داعرة تسرق وتنهب وتضع المليارات في بلاد يموت الناس فيها فعلًا من الجوع.

يموتون من الجوع وهم صابرون وكأنهم يستعدون ليوم الدين، أو يوم الثورة الكبرى التي لن تُبقي ولن تذر، وإن أنسى، لا يمكن أن أنسى منظر المواطنين الأفريقيين المنتظرين على محطة الأوتوبيس في واحدة من كبريات المدن الأفريقية، كانت الشمس الاستوائية تنصبُّ في وحشية منقطعة النظير وكان الوقت ظهرًا، مررنا على محطة الأوتوبيس بسيارة مستشار السفارة وتغدينا وجلسنا نتناقش طويلًا حتى مضت حوالي أربع ساعات، وعدنا من نفس الطريق لأجد نفس طابور المنتظرين الذي يمتد طوله لأكثر من مائة متر، ولا أتوبيس قد جاء بعده، وحين سألت مرافقي المستشار لماذا هذا؟ قال: لأن عدد الأتوبيسات قليل جدًّا ولا يأتي الأوتوبيس في العادة قبل مضي ثلاث أو أربع ساعات والركوب فيه بالطابور. طابور صامت صامت بلا شماسي أو مظلات ينتظر وينتظر وينتظر، فإذا جاء الأتوبيس فالركوب بالدور المنظم ولا هرجلة ولا زق ولا دفع.

يا لهؤلاء الناس!

الشغالة التي تعمل في بيت المستشار تبدأ رحلتها إلى بيتها الواقع في الضواحي في الثالثة ظهرًا وتصل إلى منزلها في العاشرة مساءً، وتقوم في الخامسة صباحًا لتصل إلى منزل المستشار في العاشرة، كل يوم، كل يوم، أي فقر وأي صبر أي إنسان بطل يتحمل كل هذا؟ إنه الفقر «الدكر» كما نسميه بالمصري، فقر الأنظمة والحكومات، وبأمر الدول الغربية اللصة التي تدفع المليارات لتمنع فلاحيها من الزراعية والمنتجات الحيوانية المكدسة كجمال الزبدة في دول السوق الأوروبية وأمريكا، وهو فقر «دكر» لأن الحكومات التي تسوس هذه الشعوب إما متفرغة للنهب أو فشلت تجاربها الاشتراكية بالحصار الرأسمالي، والآن فقط بدأت تفكر في الانفتاح بعد خراب مالطة.

•••

كما قلت قبلًا كانت رحلتي إلى قلب أفريقيا رحلة عمر وخبرة وتعلُّم ولقد تعلمت وعرفت الكثير.

وإن كنت قد قدمت لهذا كله في تلك المقالات الثلاث التي كتبتها هنا، فان الموضوع لا يصلح له إلا كتاب كامل أعدُّ له منذ الآن، وأتمنى الانتهاء منه قريبًا إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤