كم تشبهنا ونشبهها

المرعى، المراعي، رعى، يرعى، قبائل الرعاة، كلمات وإن كانت عربية الأصل والمعنى إلا إن استعمالنا لها في مصر قليل، ذلك أننا مصر، بلاد إما الصحراء التامة الغالية، وإما أرض زراعية أو مستنقعات وبحيرات تكوَّنت بعد انحسار البحر المتوسط، لا توجد لدينا «مراعٍ» إلا تلك المساحات المحدودة جدًّا التي نزرعها «برسيمًا» أو بالأصح نصنع المراعي.

لن تعرف المعنى الحقيقي لكلمة المراعي إلا إذا تركت حوض النيل واتجهت شرقًا أو غربًا لتجد عشرات الملايين من المساحات التي لا يملؤها سوى الحشائش وأشجار قليلة متناثرة، وأنهار قليلة تأتيها من قمم الجبال، بعضها منابع صغيرة جدًّا للنيل العظيم، بالمناسبة لأول مرة في حياتي أعرف أن النيل ينبع من تسع دول أفريقية؛ إذ كانت معلوماتي الجغرافية السابقة تتوقف عند حدود أن ١٠٪ من مياه النيل تأتي من بحيرة فيكتوريا في أوغندا و٩٠٪ بما فيها الفيضان تأتي من النيل الأزرق الذي ينبع أساسًا من بحيرة تانا في الحبشة، ولكن اتضح أن جذور هذا النيل العظيم تمتد من الكونغو كينشاسا إلى أجزاء من تانزانيا وكينيا وبلاد أخرى كثيرة.

ولكن حديثنا ليس عن النيل، حديثنا لا يزال عن المراعي، عن ملايين الأفدنة من العشب التلقائي الذي لا ينقطع، مكانًا وزمانًا؛ فهو ينمو تقريبًا طوال العام لأن الأمطار الغزيرة التي تسقط صيفًا، والأمطار التي تسقط شتاءً أيضًا، تضمن للأرض مياهًا كثيرة تنبت العشب والأشجار ولكنها ليست من الكثافة بحيث تصنع الغابة أو كما يسمونها البوش، تلك المراعي تمتد من شرق السودان وجنوبه إلى الصومال وكينيا وتنزانيا ورواندي وزامبيا والكونغو، هكذا خلقها الله سبحانه، وعليها تحيا قبائل قليلة العدد أهمها قبائل «الماساي» التي تجدها في كل تلك البلاد، ومن الطريف أن أذكر أن دليلي، وهو من نفس القبائل، وكنا تقريبًا على بُعد خمسمائة كيلومتر من نيروبي، سائرين بالعربة اليابانية المجهزة خصوصًا لاتقاء هجوم الحيوانات إذا هجمت، وللسماح للراكب أو الركاب أن يفتحوا سقفها ليصبحوا وجهًا لوجه أمام الأسد أو الفيل أو سيد قشطة أو … وهذا هو المضحك حقًّا، الجاموس البري الأسود، أكثر أنواع الحيوانات في المراعي شراسة واستعدادًا للهجوم حتى إن السائق الدليل ذكر لي أن سيارته السابقة قد دشدش موتورها تمامًا جاموس، ولاحظت أن السائق لا يخاف من الأسود أو الأفيال أو حتى الزراف الطويل ولكنه يتجمد في مكانه إذا رأى جاموسًا بريًّا واحدًا فما بالك — كما حدث مَرَّة — إذا رأى طابورًا طوله أكثر من ٢ كيلومتر من قافلة ذلك الجاموس، وقلت في سري هذا الرجل قد أصيب بعقدة الجاموسة؛ فقد كان، لكي يتفادى أي مرور قريب منها يلف لفة طويلة قد تكلفنا ساعة زمن ليدور دورة كبيرة يبتعد بها عن ذلك الذي يبدو كطابور النحل الأسود الضخم تصنع خطًّا سميكًا من السواد المتحرك عند نهاية الأفق.

سألته لماذا لا يحمل بندقية يدافع بها عنا وعن نفسه، قال: إن الحكومة تمنع وجود البنادق لأنها تحرم قتل أو صيد أي حيوان هنا فهو ثروة قومية، وكاد في فترات توحش الأوروبيين للصيد والقتل ينقرض بعضه.

قلت: ولكن الدفاع عن النفس؟! قال: إن أي صائد كذاب يستطيع أن يقتل الحيوان ويزعم أنه كان في حالة دفاع شرعي عن النفس.

والحقيقة أنه لا يوجد في تلك المراعي، ما دمت في السيارة، شيء يستاهل الدفاع الشرعي عن النفس، فباستثناء حادثة الهجوم على سيارة «التويوتا» التي ذكرها الدليل السائق ولم أرها، كنت أضرب ببصري إلى أبعد ما أستطيع، والمراعي تتيح لك رؤية ممتدة، فليس لها لمعان الصحراء، وسراياتها، فأجد الحيوانات (المتوحشة كما يقولون) تحيا في حالة من الاكتفاء والسلام لم أحس بها أو أرها في أي مجتمع بشري أبدًا، الأرض ممتدة وشاسعة، ولا مسافات تقاس هناك؛ فالمسافات بآلاف وملايين الأفدنة، والعشب كثير كثير، والرزق واسع، وكل أسد وأليفته لهما منطقة نفوذ لا يحرسها أحد، فبين عائلة الأسود هنا وعائلة الأسود هناك، مسافة كبيرة، تسمح بحرية تامة للحركة، ولا طمع هناك ولا جشع يدفعك للاستيلاء على أراضي الغير أو اغتصابها، والحيوان أبدًا لم يعرف حكاية الاستعمار والاحتلال، والسلام مستتب بطريقة ساحرة مذهلة.

أما المعارك فهي تنشأ بين جنس البشر فقط، كما كان يحدث في البادية العربية حين ينتهي الكلأ من مشرب قبيلة فتزحف إلى مضارب القبائل الأخرى وتنتزعها عنوة وتكون حرب البسوس مثلًا، أو ما لا نزال نذكره من سِيَر الحروب القبائلية قبل الإسلام وحتى إلى العهد القريب قبل أن ينفجر البترول وتنشأ الدولة السعودية الحديثة وحرسها الوطني الذي تولى إنهاء فترة الحروب بين القبائل للأبد.

•••

أشار السائق الدليل إلى حجر من الإسمنت المسلح وقال: هذه علامة الحدود بين كينيا وتنزانيا. سألته: هل نستطيع أن نهبط، نظر إلى الأفق هنا وهناك، وتطلع من خلال فتحة السقف وبالذات حين تأكد أنه لا وجود لآثار عفاريته الخاصة، الجاموس البري، قال: ممكن، وهبطت، وتأملت الحجر الذي يحدد هنا تنزانيا، وهنا كينيا، فلم أجد شيئًا يميز بين الأرضين، إن هي إلا أرض الله واسعة، وحيواناتها طليقة حرة.

وخطر لي سؤال قلت له: أنت من الماساي؟

قال: نعم.

قلت: أي ماساي؟ كيني أم تنزاني؟

قال: كيني.

قلت: وهل من حق ماساي تنزانيا المجاورين أن يأتوا إلى كينيا ما دامت الأرض كلها مراعي الماساي؟

قال: نو، مستحيل، لا. (وأشار بسبابته إلى أسفل رأسه) سيجد الواحد منهم حربة مغروزة أسفل ذقنه هنا.

وأدركت في الحال مشكلة أفريقيا الحديثة.

•••

لم تحدث معارك حقيقية بين المستعمرين الأوروبيين وبين أهل أفريقيا، إلا فيما ندر، وبالذات بين الإنجليز وبين مملكة يوجندا (أوغندا الآن) ذلك أن الأوروبيين منذ ماركو بولو جاءوا تحت ستار النزعة الدينية التبشيرية التي سادت شبه القارة الأيبيرية «إسبانيا والبرتغال» بالذات بعد سقوط الممالك الإسلامية في الأندلس، ارتفع المد المسيحي الإسباني والبرتغالي متجهًا إلى الشرق أقصاه وأدناه وإلى جزر الهند الغربية وإلى الأمريكيتين.

ولمدة تكاد تصل إلى ثلاثمائة سنة تنافس الإسبان والبرتغاليون ثم الفرنسيون والإنجليز والهولنديون والألمان والإيطاليون على احتلال أفريقيا، وكانت تنشأ بينهم منازعات، تتفاقم أحيانًا، وتخمد أحيانًا أخرى.

وكان الإنجليز أكثرهم ذكاء وسياسة في احتلال مصر والسودان وكينيا وإلى حدٍّ ما جنوب أفريقيا وغانا ونيجيريا وروديسيا وبلاد أخرى كثيرة، بل إن البريطانيين قد استعملوا اسم مصر والدولة العثمانية في إثبات أحقيتهم في احتلال بلاد وسط أفريقيا تجنبًا للمواجهة المباشرة مع الفرنسيين في واقعة مشهورة في التاريخ، واحتلت البرتغال أنجولا وموزمبيق، واحتل الفرنسيون شمال أفريقيا والصومال الفرنسي «سابقًا» وغينيا وسيراليون وبلاد أخرى كثيرة.

واحتل الإسبان الريف المغربي، وبقيت ألمانيا وإيطاليا بغير قضمة واحدة تسمح بها فرنسا أو إنجلترا، ولكن الألمان تسللوا إلى تنجانيقا واحتلوها، وكان للعرب نصيب؛ فقد احتلوا جزيرة زنزبار وأصبح لها سلطان عظيم الشأن، أما الإيطاليون فقد أخذوا الأمر عنوة واقتدارًا وبأحلام إعادة الإمبراطورية الرومانية احتلوا ليبيا بوحشية منقطعة النظير، وبشراسة مقاومة رهيبة من الليبيين الذين كانوا اسمًا تحت الاحتلال العثماني، أما ونحن أطفال فكلنا لا نزال نذكر حرب «الحبشة وإيطاليا»، ذلك أن الحبشة كانت فيها دولة وكنيسة مستقلتان بقيادة «إمبراطور» وتبعية للكرازة المرقسية المصرية، ولذلك دارت حروب طاحنة حتى استطاعت إيطاليا أن تحتل الحبشة وجزءًا من الصومال سموه الصومال الإيطالي.

وهكذا استقام الأمر للاستعمار الأوروبي ووُزعت الأسلاب، وأُقيمت الحدود، وقد لفت نظري سفيرنا في أنجولا محمود عثمان وهو سفير مثقف، أو بالأصح مثقف سفير لا بد أن يفخر به أبناء وزارة الخارجية، لفت نظري إلى أن حدود البلاد الأفريقية الحديثة هي أغرب حدود، ذلك أنها في معظمها تكاد تكون مستقيمة، وهذا ليس شأن الحدود في أوروبا وآسيا، تلك التي وُضعت بناءً على حوائل جغرافية من جبال أو أنهار، أو حوائل لغوية وقبلية قديمة، ذلك لأنها — تلك الحدود الأفريقية — حدود مصنوعة، تقسيمة بالمسطرة والقلم صنعتها الدول الأوروبية فيما بين مناطق نفوذها.

مثل ذلك الحجر، علامة الحدود، الفاصلة بين كينيا وتنزانيا.

ذلك أن الوحدة السكانية والديموغرافية والإثنوجرافية والأفريقية الحقيقية هي القبيلة؛ فأرض أفريقيا كلها، ما عدا مناطق قليلة جدًّا، أرض متشابهة تنقسم إلى مراعٍ وغابات وصحارٍ، وللصحاري قبائل، وللمراعي قبائل، وللغابة سكانها وقبائلها، وهي ليست مجرد مراعٍ وصحارٍ وغابات، إن كل هذا يحتوي في بطنه على أعظم كنوز لأرض أفريقيا أغنى قارة في العالم في معادنها، فمن الماس في جنوب أفريقيا، إلى اليورانيوم إلى الذهب إلى النحاس إلى القصدير إلى الأحجار الكريمة لا تستطيع أن تحصي عدد المعادن التي تنتجها ويمكن أن تنتجها الأرض الأفريقية.

ويبدو أن نفس الشمس التي أحدثت بأشعتها فوق البنفسجية وتحت الحمراء ذلك الاختلاف في اللون عن الأجناس الشمالية الأوروبية والآسيوية أحدثت بحرارتها الشديدة، وتسلطها معظم العام شبه عمودية، ووجود معظم المنطقة الاستوائية الأرضية في أفريقيا؛ إذ إن معظم خط الاستواء يمر بالمحيط الهادي والأطلنطي والهندي ولا ينصبُّ إلا على قليل جدًّا من أراضي أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، يبدو أن هذا كله عمل عمله في بطن أرض القارة وأنتج كل تلك الكمية من الثروة الخفية.

وقد كان هذا هو المطمح الرئيسي لمعظم بلاد أوروبا التي سعت منذ زمن بعيد لاستعمار القارة، المهاجرون الأمريكيون والعرب المشارقة كان اهتمامهم الرئيسي منصبًّا على جلب القوة البشرية الأفريقية في مرحلة كانت البشرية فيها — أو كان الطمع — في حاجة إلى أيدٍ عاملة بكميات كبيرة لإقامة المشاريع الزراعية الضخمة في القارة الجديدة تلك التي أدت إلى قيام أخصب أرضٍ زراعية في العالم وجمعت ثروات هائلة كان من السهل بعدها أن تتحول أمريكا إلى الصناعة وتصبح أكبر الدول الصناعية.

بمعنًى آخر:

منذ القدم وأفريقيا مطمع، ومغنم، وإنسانها الطيب المسالم بطبعه لا يعرف خبث العالم ولا جشعه وحتى في أحيان كثيرة، لا يعرف للذهب أو الماس قيمة؛ إذ الذهب أو الماس لا تحتاجه إلا طبقات شبعت طعامًا وشرابًا وملابس وتريد أن تتزين. الزينة عند الإنسان الأفريقي زينة رائعة الجمال مأخوذة من المواد الرخيصة المتاحة؛ بحيث لا يمكن أن تبيع امرأة أفريقية نفسها، مثلما تفعل النساء في العالم الثاني، مقابل عقد ماس أو خاتم، وبحيث تضطر زوجها كان أم عشيقها أن يؤلف جيوشًا ويغزو بلادًا، ويستعمل السوط والبندقية لإخضاع شعوب سخية الإنسانية قليلة التوحش لاستخراج الماس والذهب لإهدائه لزوجته، أو في معظم الأحيان لعشيقاته.

إذن ما هو الشيء الثمين الذي كانت تتعامل به القبائل الأفريقية فيما بينها عوضًا عن الذهب والماس، وحتى إلى يومنا هذا، الدولار؟

مسالمة هي تلك العملة الأفريقية، ومفيدة تمامًا، ورائعة.

إنها البقرة في مناطق المراعي.

•••

البقرة.

أكثر المخلوقات سلامًا وفائدة، تلك الكائنات المستأنسة الوسنانة الوديعة، الحلوب الولود، العاملة، الدائبة، التي هي الخير كل الخير في حياتها وهي الطعام وأعظم الشراب، حليبها، حتى قرونها وجلدها وأظلافها فيها نفع للناس.

وهي العملة والثروة والمهر والقيمة في مراعي أفريقيا.

رئيس القبيلة هو صاحب أكثر عدد من الأبقار، به يستطيع أن يتزوج، أو يُطلِّق أكبر عدد من النساء، والمسألة مسألة العلاقات والزواج، تمضي ببساطة وبلا غيرة ولا عنف ولا اغتصاب، ولا مؤامرات ولا عصبيات، إنما الأمر كالسلام المستتب في مملكة الحيوان، مستتب أيضًا في مملكة الإنسان، والجميع من الحيوانات التي تتغذى على اللحم، إلى الإنسان الذي يأكل اللحم والعشب معًا، يحلُّون للبقرة، القاسم المشترك لغذائهم، مكانًا فريدًا، بل ويرفعونها إلى رتبة عليا من مراتب الحرص والحب، إلى درجة أن في الأزمان البعيدة، عبدوها وقدسوها، كما لا يزال الأمر في مراعي الهند، قابلت مرة في دار السلام مثقفًا من مثقفي رعاة الماساي، خريج هارفارد الأمريكية، مضى يحدثني عن قبائل الماساي وعمرهم الطويل وحياتهم الصحية وأطفالهم الأشداء الخالين من كل الأمراض المعدية، وعلاقة الحب التي تربطهم بأبقارهم إلى درجة أن بقرة أحد الرعاة ماتت فمات بعدها بشهر حزنًا وكمدًا، وسألته عن حكاية شرب حليب البقرة مخلوطًا ببعض دمائها فقال لي: هذه تخاريف الأوروبيين عنا، نحن لا نجرؤ على جرح البقرة أو إسالة دمائها، نحن أكثر تحضرًا من فرسان الفايكنج الهمج السويديين والعسكريين البروس، وحتى من وزراء مجموعة السوق الأوروبية الذين شاهدتهم في التليفزيون في اجتماع هدفه إنقاص المحاصيل الزراعية للمنتجين المزارعين الأوروبيين، وتعويضهم عن عدم زراعة الأرض أو إنقاص محصولها بمليارات الدولارات، هؤلاء الناس الذين يرتدون نظارات طبية أنيقة ويجلسون في غرفات مكيفة الهواء، وحاصلون على أعلى الدرجات الجامعية من أرقى الجامعات مجرد قتلة وسفاكين ولصوص ومصاصي دماء؛ فالمجاعة تجتاح بعض أجزاء أفريقيا من الجفاف والتصحر وأنانيتهم البشعة تأبى إلا أن ينفقوا مليارات الدولارات لإنقاص محصولاتهم الزراعية ومنتجاتهم الحيوانية، أتعرف أن في ألمانيا وفرنسا ودول الشمال تِلالًا من الزبدة تُقدَّر بملايين الأطنان يكلف الاحتفاظ بها ملايين الملايين حتى يظل سعرها ثابتًا، لو كان لدى هؤلاء الناس ذرة من إنسانية أو انتماء للجنس البشري ألا يصدروها لبلاد نهبوا ثرواتها واستعبدوا إنسانها وامتصوا دماءه وعرقه؟!

كان هذا الحديث في ردهة الفندق المتواضع تمامًا «أحد أهم» فندقَين في عاصمة أفريقية كبرى، وكنت وأنا أسمعه لا أكاد أصدق أن هذا المتحدث من قبائل الماساي.

فلقد أخذني السائق الدليل، حين طلبت، إلى قرية من قرى الماساي، وهي ليست القرى السياحية التي نجحت بعض الحكومات الأفريقية في تجهيزها للسياح ليتفرجوا كيف يحيا الماساي، والمضحك أنهم يسمونها، «قرية الماساي الثقافية»، إنها قرية حقيقية لم يطلب مني أحد فيها ٢٠٠ شلن لآخذ له صورة كما هي الحال في القرى السياحية.

كانت القرية غريبة فعلًا، ولكنها ليست غريبة عليَّ كمصري، فللقرية سور من البوص إذا دخلت منه وجدت نفسك في «حوش» كبير جدًّا بنيت حوله مساكن الرعاة، هذا الحوش مستعمل كحظيرة للأبقار؛ بمعنى أنه لا يمكن الوصول للأبقار، الثروة والرأسمال وكل شيء إلا باختراق البيوت نفسها، والقرية كلها تحفل برائحة بقايا الأبقار، وهذا ليس غريبًا علينا في مصر؛ ففلاحونا المصريون لا يجعلون الحظائر «خارج» الدور ولكنها في الداخل، في أمتع مكان من بيت الفلاح.

أما أشكال الناس فعادة الماساي لكي يميزوا أنفسهم أن — منذ الصغر — يثقبوا الأذن ويعلقوا فيها شيئًا ثقيلًا يتولى توسيع الثقب إلى أسفل وأسفل، إلى حيث — أحيانًا — يصل إلى منتصف الرقبة، ويبدو أن هذا التقليد كان شائعًا بين الرجال والنساء على حد سواء إلى أن اختصت به المرأة وحدها وأصبح من مظاهر الأنوثة والجمال، أما ما عدا هذا من أقراط وعقود مصنوعة من خرز ملون بكثير من الألوان الباهرة التي تزخر بها أحجار أفريقيا ومعادنها، فلا شيء يختلف في قرية الماساي عن عزبة صغيرة مصرية أو سودانية، صعيدية أو بحراوية، وكثرة الأطفال واحدة، أطفال فعلًا أصحاء رغم الذباب الكثير، أطفال لا يطعَّمون ضد الدفتريا أو الجدري أو الحمى الصفراء ولا يمرضون بها أبدًا.

وهناك نظريات كثيرة حول هذه الظاهرة الطبية بعضها يقول إن روث البهائم والكم الهائل من الميكروبات ومزارعها فيها تتولى تحصين الأطفال منذ الصغر؛ فلا كحة ولا حصبة والغذاء الأعلى والأوحد اللبن الحليب يشربونه من آنية مخصوصة أصبحت صناعتها وإتقانها من الموروثات الشعبية.

وكم تشبهنا أفريقيا وكم نشبهها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤