الهلس السينمائي لم يعد يُجدي

العائد إلى القاهرة بعد غيبة ولو قصيرة لا بد أن يفاجأ بشيء لا يمكن أن تراه في أي عاصمة في العالم، المشهد هو هذا الكم الكبير من الإعلانات عن المسرحيات والأفلام والمطربين والمطربات والراقصات وأماكن وكازينوهات اللهو، في الخارج تجد إعلانات أيضًا عن الأفلام والمسرحيات، ولكنها جزء ضئيل جدًّا من إعلانات عن الشركات والمؤسسات الكبرى والبضائع التي تنتجها تلك الدولة.

وإذا أخذنا الإعلانات كمقياس لنوع الإنتاج، فمعنى هذا أن أهم إنتاجنا في هذه الفترة هو اللهو، ولهذا أنا أضحك في سري حين أقرأ عنوان الصفحة الثانية في الأهرام وهو «بعيدًا عن العمل» وكأننا فعلًا منهكون إلى درجة قطع النفس في العمل.

والكلام الكثير الذي دار ويدور في صحفنا حول أزمة السينما إنما يعبر عما يجيش في نفوسنا جميعًا تجاه هذا الفن المفترى عليه في بلادنا وهو فن السينما، وإذا كان دور المسرح قادمًا بالضرورة فلنقصر كلامنا الآن على السينما.

صناعة أو تجارة أو هنكرة، هذه ليست المشكلة، تشغيل استوديوهات وعمال ونجوم، أيضًا ليست هذه مشكلتكم أو مشكلتي؛ فنحن إذا اكتشفنا فجأة أن أحد مصانع معلباتنا ينتج وعن عَمْد أغذية مسمومة، فلا يمكن أن نظل ننتج لأن علينا أن نشغل المصانع وأن تروج الصناعة، وكما نحن لدينا هيئة عليا لمراجعة ومراقبة تركيب الدواء نفس الذي تنتجه مصانعنا، فمن باب أولى أن تفحص ما قد أصبح أهم في رأيي من مشكلة الدواء والأغذية المحفوظة، مشكلة الغذاء الروحي والثقافي، أو ما أسميه بالغذاء الأمني الذي يشكِّل ضمير الإنسان وقِيمه ومُثله وبالتالي قيمته في الحياة.

لقد أتيح لي أن أشاهد في الأسابيع الأخيرة بضعة أفلام مصرية لا أحب أن أذكر اسمها، وعقب كل فيلم كنت أراه كنت أعود إلى البيت وأتأمل ما رأيت، كل فيلم فيه قصة وعقدة ومشكلة هذا صحيح، كل فيلم يحاول أن يقول شيئًا هذا صحيح، ولكن مشكلة أفلامنا لم تعد هي: ما قصتها؟ أو من كاتبها؟ أو ماذا تعالج؟ المشكلة الحقيقية أن كثيرًا جدًّا من تفاصيل عرض القصة ومن المواقف ما يسمونه بلغة السينمائيين هذه الأيام ﺑ«التوابل» ومفروض أنها لفتح شهية المتفرج، ولكن المتمعِّن في هذه التوابل الفاحص لها يجد أنها ماء نار كاوٍ يذيب أصلب القيم، ويجرد الإنسان من إنسانيته، ولأن المرأة تحظى بقدر كبير من اهتمام أصدقائنا السينمائيين باعتبارها مصدرًا للشباك، فإن هذا الماء الكاوي يتولى فيلمًا بعد فيلم، وتفصيلة وراء تفصيلة، ومشهدًا وراء مشهد؛ يتولى عملية غسيل مخ «آسف أقصد توسيخ مخ» كامل، ليس فقط لشبابنا وسيداتنا ورجالنا ولكن — وهذا هو أخطر ما في الموضوع — جمهور السينما الرئيسي هو فتياتنا الصغيرات وأطفالنا وصبياننا أولئك الذين بعدُ لم تتكون لديهم نواة بعض القيم التي قد تتكفل بالوقوف في وجه ماء النار هذا، زمان حين لم يكن هناك سينما أو تليفزيون أو إذاعة أو صحافة، كانت الأسرة تتولى عملية تربية «الطفل» والتربية ليست هي التأديب كما قد يعتقد البعض، التربية هي تكوين جهاز ضميري داخلي للطفل، أو على الأقل مساعدته على تكوين هذا الجهاز. أما الآن فإن أجهزة الإعلام وأصدقاء الطفل أو الطفلة يتولون على الأقل ٩٠٪ من عملية التربية، ولأنهم بالطبع ليس لديهم الخبرة فأنهم يستوردون هذه الخبرة وينقلونها من هذه الأجهزة الخطيرة جدًّا، وأنا لا أقول إن مصر وحدها هي المصابة أو بلادنا العربية إن المرض أصبح عالميًّا وخطيرًا ونتيجة لأفلام الجريمة مثلًا في أمريكا، فإن الأجيال الجديدة «صدَّقت» الأفلام والحلقات، وأخذت تزاول الإجرام وكأنه شيء عادي تمامًا والبركة بالطبع في التليفزيون والسينما.

مرَّ على ذهني كله وأنا أقرأ حكاية عجيبة فعلًا، أقرأ خطابًا لولي أمر تلميذة في إعدادي تناقش أباها حقها في أن تركب مع أي رجل عربته الخاصة «ليوصلها» إذا أعوزتها المواصلات، وحين حاول أبوها أن يناقشها، أسرعت وأحضرت له زميلة صباحية كتب فيها أحد الصحفيين في «عموده» «الخاص» رأيه، الذي يسفِّه به رأي ضابط بوليس الآداب الذي أعلن أن مسألة ركوب الفتيات في العربات الخاصة مسألة لا بد أن نتوقف عندها بل ونمنعها؛ لأن في هذا أكبر جناية على الفتيات — وبالذات الصغيرات منهن — واختلاط الحابل بالنابل والمحترفات بالهاويات، اتهم ذلك الزميل الصحفي الضابط بأنه يفكر تفكيرًا رجعيًّا وأن سائق التاكسي، وبالطبع في هذا مغالطة كبرى فسائق التاكسي «شغلته» هي هذه، ولكن الأفندي أو الشاب الذي يركِّب فتاة أو فتيات ربما لا يكون يفعل هذا لوجه الله، أو لحل المشكلة أو من أجل أكل العيش، قطعًا هناك نسبة كبيرة ستفعل هذا لأسباب أخرى، وصحيح أن المشكلة في الأوتوبيسات لا تقل سوءًا حيث تنحشر نساؤنا وسط أكوام الرجال، وحيث الجنس الجبان يفرضه التكدس فرضًا، مما أقترح معه احترامًا لأجساد نسائنا أن تخصص أتوبيسات بأكملها للسيدات وأخرى للرجال، أو نلغي حكاية الدرجة الأولى تمامًا، ونجعل نصف الأتوبيس الأمامي للسيدات يصعدون إليه من الباب الأمامي والنصف الخلفي للرجال يصعدون إليه ويهبطون من الباب الخلفي، فما يحدث في أتوبيساتنا أشد دمارًا لنفس المرأة والرجل من أفلامنا ومسرحياتنا؛ فهو يُفقد الإنسان أو الإنسانة السيطرة على جسده ليصبح مباحًا، وقد يُستباح مرة ويغضب، ولكنه، وبالقوة، وبالحياء، ورغمًا عنه يغتصب اغتصابًا ويجعل من المرأة إنسانة قطعت نقطة الوصل بين إرادتها وجسدها فخلاص، انتهت.

نعود إلى المناقشة التي دارت بين الأب وابنته، فقد ردت على أبيها بقولها إنه «رجعي» ما دام الصحفي صاحب القلم قد كتب هذا واتهم هذا الاتجاه بالرجعية إذن الصحفيون وكُتاب السيناريو ومقتبسو المسرحيات والمخرجون هم الذين «يعملون» و«يربون» هذه الأجيال الجديدة.

وإني أريد أن أسأل ذلك الزميل الصحفي ماذا يقول لابنته؟ التي في إعدادي (يعني سنها ١٢-١٣ سنة) إذا جاءت لتطلب منه «حق» الركوب مع الرجال في عرباتهم الخاصة؟ هل سيوافقها؟ بل لا أقول ابنته إنما لو جاء ابنه الولد وفي هذا السن يطلب منه هذا؟ ويتهمه بالرجعية لأنه حال بينه وبين اعتداء جسدي قد يقع عليه فيفسد حياته كلها؟ في الواقع لقد ضايقني كثيرًا أن يرسل هذا الأب برسالته إلى بريد الأهرام، فمعنى هذا أنه أب عاجز لا يزاول دوره، لم يشرح لابنته المشكلة، لم «يحزم» الموقف معها، وبالمناسبة فإن أحدث طرق التعليم في إنجلترا أعادت عقوبة الضرب بعدما ثبت أنها أنجح وسيلة في بعض الأحيان لأنه «يدرك الطفل أنه أخطأ فعلًا» ولكن الأب المصري «رخرخت» قبضته كثيرًا؛ فالحياة صعبة تمامًا وهو مثقل بمطالب الأسرة الاقتصادية، والأجيال متوثبة إلى حياة رفاهية واستمتاع، والأفلام والمسرحيات «على ودنه» تضرب على هذا الوتر وتشجِّع الأجيال الجديدة على الثورة على العقليات «القديمة» وكأن الأسرة نفسها أصبحت من مخلفات الماضي البغيض، في حين أنها كانت وستظل أهم مناخ لتربية إنسان، وهذا كلام ستحمله بعض الأجيال الجديدة على أنه كلام «رجعي» مثل تلك الطفلة التي تريد أن تجرب لعبة الركوب مع الرجال في سياراتهم. (مش لسه بدري شوية. مستعجلة على إيه؟)

وكأنما الحديث عن السلوك أو الضمير أو منع الامتهان الجسدي وليس منع الحب مسائل رجعية، وكأن التقدم هو التحلل ولا أقول الانحلال، أقصد التحلل من أي منطق أو قيمة أو ارتباط.

من قال هذا؟ قالته كثير من أفلامنا سواء وهي تقصد أو دون أن تقصد.

أي امتهان لكرامة نسائنا وبناتنا، أي قذارة، أي تخلف عقلي مهين، أي رجعية؟ أجل رجعية تشل القشرة الحضارية التي أضافها الإنسان إلى عقله خلال آلاف السنين والتي تعلَّم في أثنائها أن يحترم نفسه وجسده، وأن كرامة جسده من كرامته، بل هي بؤرة كرامته، وأن بيع جسده أبشع عمل ممكن أن يرتكبه الرجل أو المرأة في حق نفسه أولًا، فهو إذن استهان بجسده، كما قلت هذه الاستهانة فأي قيمة تبقى؟ وما معنى أي قيمة إذا كان جسده بلا قيمة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤