مشروع وفاة توفيق الحكيم

قرأت بعض ما كُتب عن توفيق الحكيم بعد وفاته، قرأت مقالات الرثاء والتقييم والتصعب، وحمدت لكتابها وشكرت سعيهم الجليل في جنازة شيخنا وأستاذنا وأبي الحركة الفنية العربية المعاصرة، توفيق الحكيم.

ولكن هاتفًا خبيئًا كان يردد لي وأنا أقرأ خبر وفاته وأنا في الخارج، وأنا أقرأ عن جنازته، كان يردد لي أن هكذا لم يُرد توفيق الحكيم الأمر، بل وأحسست به غاضبًا، وفي معظم الأمر ساخرًا مما يُكتب عنه، ولو تُرك له الأمر، ولو كانت الجرائد تصل إلى الدار الآخرة لوجدناه قد صحا من غفوته الجليلة وعلق بقلمه الرصاص، الباهت جدًّا، الذي كان يكتب به منذ عرفته، مفندًا هذا كله، ورافضًا إياه، جملة وتفصيلًا.

توفيق الحكيم لم يكن مجرد رجل عاش لنبكي عليه حين يموت، ولم يكن مجرد كاتب زميل صديق كبير، لنفتقد رحيله، ونرسل الدمع مرارًا من ورائه، وليعتب بعضنا على بعض أنه لم يحضر جنازته أو مأتمه، أو أنه «تقاعس» عن أداء «الواجب».

توفيق الحكيم في الحقيقة ظاهرة، لم يكن لها وجود قبله في الأدب العربي، وأعتقد، أن بعده، لن يكون لها وجود، ليس شاذًّا، ولكنه فريد في نوعه وبابه وقدراته، حتى لقد كان يربكني أحيانًا، وكنت أطيل إليه النظر، دون أن أنظر إليه أو يحس هو بذلك، وأتساءل: ماذا في هذا الرجل «الفلتة» يصنعه؟ ويصنع منه هذا الخليط الغريب المجيد، الهازل تمامًا حين يجد، الجاد تمامًا حين يهزل، الممثل في الحقيقة وعلى الورق، المدعي الصمت تمامًا حين يتكلم أبطاله وممثلوه، الخبيث إلى حد الدهاء، والداهية إلى حد السذاجة والطفولة، الذي آثر، منذ وقت طويل، أن يقف على الخط الحرج المحرج للحياة، فلا هو مع التقدم ولا ضده، ولا هو مع الديمقراطية ولا ضدها، ولا هو مع الثورة وأيضًا — وهذا هو المحير — ليس ضدها، الذي اصطنع عداوة المرأة من فرط وَجْده وغرامه بالمرأة، واصطنع حمار الحكيم قناعة ليقول أذكى الأشياء، وتقمص العصا والبيريه، ليبدو، كما قال لي هو بنفسه، «فنانًا» وسط فقهاء اللغة ودكاترة الأدب والفلسفة، أولئك الذين كانت تزدهر بهم الساحة حين ظهر في سماء الأدب، فمثل عليهم أنه «فنان» ليعفوه من مئونة المظاهر الجادة المنافقة، ويعفوه أيضًا من لبس العمامة أو الطربوش حتى لا يُحتسَب على المطربشين أو المعمَّمين، واختار البيريه حتى لا يبدو أيضًا خواجة ببرنيطة، أما العصا فأعتقد أنها كانت الشيء الوحيد الذي يعجبه في ملابس والده، فورثها عنه، واقتبسها.

أجل، مساكين، أولئك الذين أخذوا وفاة توفيق الحكيم جدًّا.

ذلك أني أراقب مشروعه مع الموت منذ أكثر من خمس سنوات.

في ميلاده السبعين، منذ أكثر من سبعة عشر عامًا، كان توفيق الحكيم شابًّا شيخًا سعيدًا بابنه إسماعيل، وحياته العائلية، وكانت ضحكاته تجذبنا إلى غرفته جذب الأطفال إلى جدهم الشاب الأبيض الشعر، الحافل بالحيوية، وبالذات الحيوية الذهنية، وأشهد أني أحيانًا كنت أشفق على بعض أصدقائي مما تحمل رأسي من أفكار وعرة، وكنت لا أتردد أن أذهب إلى توفيق الحكيم وأطرح له القضية، فتلمع عيناه البارقتان دائمًا، وبسرعة شديدة، يكون كمبيوتر عقله قد استوعب الأبعاد، وساهم بالرأي، لم يكن يدهش أو يصعق أو يهاب في السفر الفكري شيئًا، لقد أعطاه الله قريحة فنية عالية الدرجة من الإتقان وفي نفس الوقت أعطاه عقلًا من ذهب، أما قلبه فنادرًا ما كنت أحس به، لم أسمعه مرة يقول أنا أحب فلانًا، أو أحب هذا الشيء أو ذاك، تغيب عنه عامًا أو عامين وتعود فكأنك كنت معه بالأمس، وقد تغضب ولكنك حين تحس أنه يعامل ابنه أو أقرب الناس له نفس المعاملة لا تبتئس، لكأن مزاجه الفني أخذ شكل التفكير، ولم ينحرف أبدًا صوب العواطف، فالعواطف مهلكة أحيانًا، ومكلفة في معظم الأحيان، وهو رجل، كالجاحظ يحترف التقتير في كل شيء، عن إيمان عميق بأنه أجدى شيء يصنعه الإنسان؛ ولهذا نأى توفيق الحكيم بنفسه عن تجارب كثيرة، فلا سافر، ولا غامر ولا تهور، حتى لتكاد تجاربه في الحياة تنحصر في أعوام تلمذته التي كتبها في عودة الروح، وصدر شبابه الذي قضاه هنيهة مع فرقة عكاشة وأهل الفن، ثم الجزء الخام منها في باريس في «عصفور في الشرق» و«تحت المصباح الأخضر» وغيرهما وكاد ينحصر ما تبقى من حياته الطويلة بعد هذا في سلسلة من الوظائف انتهت به مديرًا لدار الكتب، ثم عضوًا متفرغًا بالمجلس الأعلى للآداب، ثم كاتبًا متفرغًا في الأهرام.

ولكن من هذا الشريط المحدود للوجود، استطاع توفيق الحكيم، أن ينسج أروع أعماله المسرحية، ويفرز تأملاته الفكرية، ويظل حيًّا، أكثر من كل الكُتاب الأحياء من حوله، وموجودًا حتى بغير إنتاج، إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله.

وفلسفة البخل والتقتير عند توفيق الحكيم لم تكن مرضًا ولم تكن، أو بالأصح، لم يكن هو يعتبرها عيبًا خلقيًّا ليخفيه مثل نجيب محفوظ؛ فالصديق نجيب محفوظ بخيل هو الآخر، إن لم يكن أبخل من توفيق الحكيم، ولكن مشكلة نجيب محفوظ أنه ابن حارة وابن بلد يعتبر البخل صفة معيبة، ولكن توفيق الحكيم كان لا يفخر ببخله فقط، ولكنه يعتنقه عن إيمان قوي به، بالبخل، كفلسفة. منذ أن عملت بالأهرام سنة ٦٩ وتوفيق الحكيم يكتب بقلم رصاص واحد لم يغيره، قلم رصاص أصفر «بافاري» رصاصه باهت جدًّا، وحين ضقت بالقلم مرة وسألته لماذا لم يغيره بآخر ثقيل الخط، قال: الثقيل يخلص بسرعة. وهكذا كان يبري القلم مرة واحدة في العام، وبه كتب إنتاجه منذ مسرحية الصفقة إلى مقالاته الأخيرة، وحين ضحكت وقلت له سأكتب عنك هذا، قال: يا ريت، يا ليت كل الناس يعلمون أني بخيل فلا يطالبني أحدهم بما يطالب به الناس العاديين. قلت: ألا تعتبر هذا عيبًا؟ قال: أبدًا، اسمع هناك مثَل شعب مصري يقول: طولة العمر تبلغ المُنى، ما هي طولة العمر؟ هي ألا تنفق صحتك بإسراف، أن تقتر في صحتك، ولكي تقتر في صحتك لا بد أن تتعلم وأن تمارس التقتير في كل شيء، إنهم يتهمون المرأة الجميلة دائمًا أنها لا بد بالضرورة بخيلة، وعندها حق، واحدة عندها مليار جنيه جمال، لا بد أن تحافظ عليه وتنميه، فالحمقاوات القبيحات وحدهن هن اللاتي ينفقن بقية الجمال فيهن بإسراف، وأنا فلسفتي أن أعيش طويلًا، لأجعل الزمن يحل معي كثيرًا من القضايا التي أعجز عن حلها وحدي.

هكذا كان توفيق الحكيم في عيد ميلاده السبعين، ويومها أهديته عصًا من الغاب الجميل المعقوف أحضرتها له خصوصًا من يوغوسلافيا، فأخذها مني وظننته سيستعملها لأنها كانت أجمل بكثير من عصاه، فإذا به في اليوم التالي يحضر إلى المكتب، ويعلق العصا على المكتب وإذ بها نفس عصاه القديمة، قال: أنا لا أستطيع بسهولة أن أغير عصاي، وفعلًا ظل لأكثر من عشر سنوات يستعملها، وفي يوم رأيت العصا الهدية معه، وظلت معه إلى آخر أيامه. وفي عيد ميلاده الخامس والسبعين، ذهبت إلى محل أزهار في الزمالك، وقلت له أنا فلان وأريد أن أهدي الأستاذ توفيق الحكيم أجمل بوكيه ورد عملته في حياتك، وفعلًا يبدو أن صاحب المحل كان معجبًا هو الآخر بتوفيق الحكيم؛ فقد صنع أجمل بوكيه رأيته في حياتي، حتى لقد حمله اثنان من السعاة، ودخلنا به عند توفيق الحكيم، فلم يدهش الرجل إلا للحظة واحدة فقط، سعدت بها تمامًا؛ إذ لم يكن من السهل إدهاشه، ثم سألني عن ثمنه، وحين قلت له الرقم رأيت وجهه يتماوج بمزيج من الفرحة والغضب، لا بد أن الثمن أغضبه وأفرحه أيضًا.

•••

منذ عيد ميلاده الخامس والسبعين بدأت الحياة في مصر تتغير، كل شيء بدأ يتغير، بدأت الألوان الزاهية تبهت، ومصر التي في قلوبنا وأرواحنا تتدارى تحت وابل من أقدام غلاظ كثيرة، وضجات عالية، وغوغائية، وكأنما قد انفتح مزراب من باطن الأرض وخرجت مجموعة من الواغش البشري سدت الأفق، بدأت لقاءاتنا في الأهرام تقل وبدأت أنا أمرض، وبدأ الناس يتسللون من بيننا، مهاجرين، ومنفيين، وناقمين بأنفسهم، وميتين، سيان، بدأ المسرح يتغير.

تنطفئ الأضواء الحقيقية المسلَّطة على أبطال حقيقيين، وتضاء على نماذج من ورق، ومسخ، وهيافات، وتحولت الفيلهارمونيك أوركسترا إلى واحدة ونصف، فجة، قبيحة، عارية الوجه بلا أدنى حياء.

وكتبت أنا مقالة اسمها: تعالوا ننظِّف مصر!

وكأنما كانت الحشرجة الأخيرة لملحمة ثقافية فكرية إبداعية توشك أن تبتلعها مياه المجاري التي كانت قد أغرقت حي روض الفرج، والتي من أجلها كتبت المقال، وفي ذهني أشياء كثيرة أخرى.

وأضحك وأنا أتذكر الأعوام من ٧٥ إلى ٨٠ وصرخات المتشنجين تنعى على الكُتاب قلة إبداعهم، ونكوصهم، وانتهائهم، وكأنما يمكن لكاتب لديه أي ذرة من ذوق أو حس للجمال أن يبدع ليضع باقة زهور وسط — أسف جدًّا للكلمة — «بكابورت».

عدت من رحلة العلاج إلى الخارج عام ٧٧ لأجد برج الدور السادس، أو برج توفيق الحكيم كما أرجو أن يطلق الأهرام عليه، ساكنًا، والأبواب مغلقة، ونجيب محفوظ أصبح يأتي مرة فقط كل خميس، وتوفيق الحكيم أيام وأيام، ولويس عوض في جامعة لوس أنجيلوس، وبنت الشاطئ في المغرب، وحسين فوزي في فرنسا، وزكي نجيب محمود يرسل المقالة من المنزل، وصلاح طاهر في مرسمه.

كانت المسألة قد وصلت إلى الدور السادس في الأهرام، وبدأ إنتاج من نوع آخر يطل على الساحة.

خطب ناعقة.

وعواءات.

وهلوسات.

وميكروفونات.

والعذاب قد حلَّ على أهل المدينة، بلا ذنب جنوه، وبلا جريرة.

وبطيئة بطيئة ثقيلة كوقع أحذية الأمن المركزي، مضت الأيام، إن مشروع الحياة الفردية يستمد وجوده من أمة حية، أما إذا بدأت عيناها تجحظ، وتنكتم في جوفها الأنفاس.

فماذا يبقى من مشاريع الوجود؟!

•••

ذات ليلة من ليالي منتصف الستينيات، وكانت الكافيتريا الوحيدة الساهرة في القاهرة هي كافيتريا هيلتون، حيث كنا نلتقي فيها منذ إنشائها نحن وشاعرنا العظيم الفذ الموهوب كامل الشناوي، حيث بوجوده الحاضر الشامل، وقلبه الكبير، يفتحه، ليدخلنا فيه، مجموعة من الكُتاب الشباب والموسيقيين والمطربين الجادين والمطربات الجادات، وأهل الثقافة، والعلم، نسهر ونتحدث، سهرات كما قال فيها كامل الشناوي: لا فسق فيها ولا طهور، إنما تجمعنا الونسة والصحبة والحب للفن واللاتنافس واللاخبث واللادهاء أو طعن من الخلف، في ذلك المكان حيث كنا نلتقي بانتظام وطوال سبع سنوات منذ أُنشِئ الفندق في عام ٥٨.

دخلت في تلك الليلة فوجدت كامل الشناوي جالسًا وحده على منضدة، واستغربت تمامًا فعمري ما رأيت كامل الشناوي، حتى في غرفة نومه، بمفرده أبدًا.

ذهبت إليه وحييته وجلست معه، فإذا به صامت لا يريد، هو أروع المتحدثين، أن يتحدث. مالك يا كامل بك؟ هكذا كنا نناديه، قال: أنا أحس أني أعيش الآن كالمبتدئ، هذا مجتمع لم أعد أعرفه ولا أستطيع التعرف عليه، هذا مجتمع لم أره، وأخافه فأنا غريب عنه وهو غريب عني.

ذلك أن مرحلة حكم المخابرات الفردية المطلقة كانت قد استمرت أكثر مما يجب، وكشطت من فوق سطح المجتمع كل من به نبض، أو في نيته أن ينبض، وبات الناس خائفين، المعتقلات موجودة، المخابرات موجودة، صلاح نصر موجود، انفضَّ الناس، وجاء أناس، أناس جُدد، طبقة جديدة نشأت في الظلام المفروض، ودون أن يحس أحد احتلت المسرح، وفعلًا أصبحت الكافيتريا تعج بأناس لم يكن لهم بها قبلًا علاقة بالسهر أو بالفن أو حتى بالحديث، وإنما هم نجوم المجتمع الجديد.

وأعتقد أن هذا الإحساس نفسه، الإحساس أن الدنيا تغيرت تمامًا وأن أناسًا ذهبوا وأناسًا جاءوا، هذا الإحساس بالغربة الرهيبة هو السبب، وليس غيره أبدًا، الذي أدى إلى وفاة كامل الشناوي بعد هذه الليلة بقليل.

•••

وقد بدأت غربة توفيق الحكيم بداية مختلفة.

هذا رجل صاحي الفكر بطريقة لم نعهدها في حياتنا.

إلى آخر لحظة في حياته كما ذكر كثيرون هو دائمًا يُعْمل عقله بطريقة يحسده عليها أصح شاب، ولكن جسد توفيق الحكيم بدأ يخذله.

ذلك الجسد العظيم بدأ يخذله.

زمان كان يأتي إلى الأهرام سائرًا على قدميه من بيته على كورنيش النيل في جاردن سيتي.

وكنت أعود به في سيارتي الصغيرة، هكذا كان يطلب مني، مع أن له الحق كعضو مجلس إدارة الأهرام أن تكون له سيارة من الأهرام توصله، ولكنه، رحمه الله كان يقتر للأهرام هو الآخر، فيستخسر أن يستعمل سيارته، ويسعدني أنا بتوصيله، وكنت أحيانًا أذهب إلى مدرسة أولادي سامح وبهاء وأجلسهما في المقعد الخلفي ويجلس الحكيم بجواري، ونذهب لنوصله، وكان الأولاد لا يعرفون من هو هذا الرجل اللطيف العجوز الطيب، وكانوا يشاكسونه، وأحيانًا مد أحدهم يده إلى البيريه فيرفع توفيق الحكيم عصاه ويقول: إلا البيريه. ويصرخ الأطفال فرحًا وحبًّا.

ولكن ذهاب الحكيم إلى الأهرام قل تمامًا، وبدأ ينقطع.

وبدأ في المرات القليلة التي يتصادف أن نلتقي فيها أقل مرحًا وأميل لاجترار ذكرياته، ولكن ذهنه كان أحيانًا يبرق فيقول لي: تصوَّر كل الناس اللي أعرفهم تقريبًا ماتوا إشمعنى أنا لسه عايش؟

وأحسست في اليوم الذي تساءل فيه هكذا، وكان في الحقيقة يسائل ربه وخالقه، أن ثمة مشروعًا ما، يدبره توفيق الحكيم الكاتب المسرحي.

لست أدري شعور الإنسان حين يصل إلى الثمانين ويجد عقله لا يزال فتًى يعمل، بينما جسده قد وهن، أقول جسده ولا أقول حواسه، فلآخر يوم في عمره كان جيد السمع جيد النظر، جيد الذوق.

وبدأ الحكيم يكتب مقالاته عن الموت الذي يطلبه ويعتب على العمر الذي يأبى إلا أن يمتد.

وكنت وأنا في بيتي أتصور ما يفعله توفيق الحكيم بنفسه ولا أملك إلا أن أضحك، فأنا أعرف أن ليس توفيق الحكيم وحده ولكن الناس جميعًا يرفضون الموت ويكرهونه، ولا أحد يتمناه مهما قال عن نفسه هذا، ولو بلغ من العمر أرذله.

إذن هي لعبة أخيرة لعبها الحكيم مع الموت.

بدلًا من أن يداهمه الموت على غرة، يداهم هو الموت ويطلبه وهو عارف تمامًا أن من يطلب الموت عقليًّا، لا يموت، الإنسان فقط يموت حين تقرر قوى فوق طاقة وعيه، قوى في داخله وقوى خارجه، قوة الخالق والخلَّاق، أن تُنهي الحياة في ذلك الجسد، فيدمر نفسه ذاتيًّا عن طريق القلب، أو السرطان أو أي انهيار آخر.

وحين دخل الحكيم مستشفى المقاولين منذ عامين أو أكثر، كنت متأكدًا أنه سيخرج صحيحًا سليمًا معافًى، وهكذا، رغم كل ما أورده أطباؤه من تشخيص، للدقة تشخيصات كل منها في حد ذاته مميت، قلت لهم: سيُخرج لكم الحكيم لسانه وسينطلق من هنا معافًى.

هل كانت بروفة للموت، أيقن الحكيم بعدها، أن الموت ليس لعبة، وأنه مخيف، وأن من المستحسن ألا يلعب الإنسان مع هذه الآلة الجهنمية، الموت، فربما «تقلبها جدًّا» وتقضي على الإنسان؟!

لا ريب أن شيئًا كهذا قد حدث؛ ففي زياراتي له في المستشفى كان واضحًا أن الحكيم يريد أن يقول للناس: لا تتركوني مع الموت وحدي، فربما يقضي عليَّ، فيمثل أنه سوف يموت، ويرى ما يفعله الناس، وحين يتقاطرون عليه، وتختفي وحدته، يتأملهم جميعًا بعينيه البراقتين ويقول: أما عجيبة. إزاي أنا صحيت؟

وكأنها لعبة الاستغماية.

وحين دخل قصر العيني أحسست أنه يبعث استغاثة أخرى. إن رجلًا كهذا لا يحتمل إلا أن يكون ملء الأسماع والأبصار، لا يحتمل أن يقرأ الصحف والمجلات فلا يجد شيئًا عنه، رجل كهذا، السكوت عنه جريمة، واللاحديث قتل.

وفي مرضه الأخير صحوت من النوم فوجدت خبر إدخاله إلى المستشفى في أخبار اليوم منشورًا بطريقة مزعجة، وفي الثامنة تمامًا كنت إلى جواره في مستشفى مصر الدولي، وفوجئت أنه ليس في غرفة الانعاش، ولقيني صديقي العزيز وطبيبه الدكتور أحمد عبد العزيز إسماعيل، وأخذني إليه، وكنت قد تعمدت أن أرتدي حلة صيفية بيضاء، ناصعة، وأن أُقبل عليه حاضنًا باسمًا مقبِّلًا يده ورافضًا تمامًا أن أعترف بخطورة مرضه، ولكنه حدثني بفم جاف — لا بد من ضعف شديد في وظائف الكبد وإفراز البولينا — وبنصف وعي كنت أخاطبه، بينما بالنصف الآخر كنت أزجر جسده، أو أزجر موته؛ فقد أحسست أنه فعلًا — أو بالأصح — أن اللعبة حقيقة بدأت تصل إلى مرحلة خطرة.

وفي الأيام التالية كان قد صحا واستيقظ وتحدث في التليفون واستقبل الزوَّار ومن محاسن «الصدف» أن أكتوبر جعلت غلافها صورته وأن أكثر من مقالة قد أظهرت عنه، وأنه فعلًا، أصبح، حتى بمرضه، حديث الناس.

وكنت أقرأ من زمن في عينيه أنه يريد إذا مات أن يكون موته حديث النفس فعلًا، وربما «بروفاته» للموت، كانت في حقيقتها بروفات «للميتة» وما يتلوها، وليس أبدًا رغبة حقيقية في مواجهة الموت معاذ الله.

وليس هذا غريبًا على تفكير توفيق الحكيم؛ فهو الذي كتب مسرحية «عرف كيف يموت» عن ذلك الباشا الذي رتَّب كل شيء لموته، حتى النعي، ومندوب الملك، وشكل الجنازة، ثم كانت الضحكة الكبرى التي أطلقها توفيق الحكيم المؤلف المسرحي حين حدث ما لم يتوقعه الباشا أبدًا، وحين مات حدث عكس ما رتَّب له تمامًا، ودُفن في مقابر الصدقة.

فعلًا كان الحكيم مريضًا هكذا قال لي الدكتور عبد العزيز إسماعيل، ولكن مرضه قديم، والأطباء الشبان حين يرون التشخيصات تنتابهم الخضة؛ فقد درسوا في كتبهم أن من يعاني منها يموت بعد ساعات، بينما الحكيم عانى منها طوال عشرين عامًا وأكثر، وذات يوم دق التليفون في منزلي وكان توفيق الحكيم يتكلم من المستشفى، ويهنئني، ويا للمضحك، بعيد ميلادي، ويُسر لي بأمنيته أنه كان يتمنى لو كنت ابنه ولو كان قد تزوج مبكرًا كفاية لكنت ابنه، أية سعادة غمرني بها الرجل حتى قلت له ما قاله جور كي لتشيكوف في خطاب، إن معرفتي بك يا أبي، أنت أبي، هو خير مدح حصلت عليه، وخير تكريم نلته في حياتي.

وجذبت الممرضة منه السماعة إشفاقًا عليه؛ إذ كان يكح كحة يظنها غير الطبيب خفيفة، ولكني كطبيب سابق عرفت أنها كحة هبوط القلب.

وجمدت يدي على سماعة التليفون، أيكون الحكيم قد نوى أن يودعنا هذه المرة، هو الذي عودنا على أن يقول للموت باي باي، ويخرج صحيحًا معافًى؟!

وأسرعت إلى المستشفى، كان نائمًا، وكانت ابنته الحنون زينب غافية بجواره، وعلى أطراف أصابعي انصرفت بعد أن اطمأننت من الأطباء أن علاج الهبوط بالقلب جارٍ على قدم وساق وأنه سيمر.

ولارتباطي بمواعيد حديدية لا سبيل إلى إلغائها ركبت الطائرة في رحلة طويلة لم أعد منها إلا منذ أيام، وقرأت فيها الخبر.

سأم من الحياة طال، ورغبة في الموت لا بأس من ملاعبتها وملاعبته.

ولكن، في لحظة، تنقلب اللعبة «جدًّا» ويحس توفيق الحكيم أن شيئًا حقيقيًّا يسحب الإرادة من جسده أو يحس أنه غاب عن الوعي، فلم يُخلق بعد ذلك الإنسان القادر أن يرى الموت رأي العين ولا يصيبه الرعب الأعظم، أعظم درجات الرعب، وكان الحكيم لا يرعبه شيئًا، ولم أره مرعوبًا أبدًا، ولكني، من فرط حبي له لم أكن أتصوره أبدًا يواجه الموت.

ولكنه رأى الموت، حتى في إغمائه رآه.

وحمدًا لله أن الرعب ألغى الوعي.

فهي لمحة رعب أولى وأخيرة.

يا لبشاعتها كنهاية لعبة!

•••

مات توفيق الحكيم الشخص والعصر رحمهما الله.

مات عصر.

وخيَّم عصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤