نسمة مؤلفة

اكتشفت كارثة، ابنتي الصغيرة نسمة (١٤ سنة) كتبت مسرحية عثرت عليها بالصدفة وأنا أبحث في مكتبها عن صورة شهادة ميلادها، احتجت لها، تصوَّرت أول الأمر أنها واجب مدرسي طويل بعض الشيء، ولكن كان هناك شخصيات وحوار، قرأت وقرأت، وإذا به حوار مسرحي فعلًا، وحين حضرت من المدرسة سألتها فتضايقت أول الأمر ولكنها ذكرت لي في النهاية أنها مسرحية ألَّفتها، ولم أُفاجأ؛ فنسمة عوَّدتنا أن تتقمص بعض الشخصيات وتقلِّدها أو أن تمسك سماعة التليفون و«ترغي» وكأنها سيدة مع جارتها على نسق ما تجده في البيوت المصرية والعربية من رغي شديد بين الصديقات والجارات والقريبات إلى آخر الظواهر «المسرحية» التي كانت تفاجئنا بها، وأعدت قراءة المسرحية فأُصِبت بما يشبه «التوله»؛ ذلك أني وجدتها فعلًا فكرة مسرحية وحوارًا مسرحيًّا، والفكرة غريبة، هي فكرة ثلاث بنات، أمام إحداهن ورق وقلم وتكتب، ومع الأخرى فرشاة وأمامها لوحة وترسم، وثالثة تعزف على آلة موسيقية و: اسمعي هذا اللحن، وتنصت البنتان، وتعزف الأولى أو: انظري إلى هذه اللوحة، تأملي خط الأفق.

المهم أننا بتغيير في الأضواء نكتشف أن لا لوحة هناك ولا فرشاة ولا آلة موسيقية ولا قلمًا ولا ورقة، ولكن البنات منهمكات لا يزلن متحاورات معقِّبات مختلفات وكأنهن فعلًا يعزفن ويكتبن ويرسمن، المهم أن الحوار يقودك، إلى أن يرتبك عليك الأمر فلا تستطيع أن تُدرك إن كانت البنات مجنونات فعلًا، أو إن كان الفن نفسه هو عملية إيهام ووهم كبرى، إيهام الإنسان لنفسه أنه «يفنن» والاندماج في هذا إلى أن يتبنى الآخرون هذا الوهم ويعتقدون أنه حقيقة!

يا رب!

ماذا أفعل، البنت لديها أفكار، وأفكار خطيرة في تلك السن التي لم أكن أعرف فيها معنًى واحدًا لكلمة فن. أيامها كنا فقط نتكلم عن الأدب والشعر ولا نتخيل أبدًا وجود علاقة بين الأدب العظيم وهذا المسمى فنًّا.

أكذب عليكم إن قلت لكم إني كأب لم أفرح؛ فهذه النسمة هي أولى أولادي التي تبدو عليها مخايل التأليف.

ولكن بعد فرحة مؤقتة أحسست بما يشبه الغُصَّة، فمعنى هذا أن الفتاة ستبدأ تنغيص حياتها مبكرًا جدًّا بهذا «الفن»، «الوهم»، «الحقيقة»، «الإيهام» سيضيع منها العالم الجميل جدًّا الذي كنت أتمنى أن تحيا فيه، وتضيِّع في «الأوهام» عمرها، كما فعلت أنا، وكما كان علي محمود طه يقول في ذلك الوقت: «أنا من ضيَّع في الأوهام عمره، نسي التاريخ أو أُنسي ذكره.»

يا إلهي!

في اليوم التالي سألت نسمة، هل تريدين أن تصبحي كاتبة يا نسمة؟ قالت: أنا، وأتعذب مثلما تتعذب أنت في لياليك ونهارك، مستحيل.

قلت: إذن ماذا تريدين أن تكوني؟

قالت: رائدة فضاء لا أقل.

قلت لها: ألا تحلمين بشيء أقل خطورة؟

قالت ببلاغة الكاتبة المسرحية «اللمضة»: الكتابة أكثر خطورة بكثير من ريادة الفضاء، ومعاناتك في الكتابة التي أراها بعيني خير دليل على هذا.

قلت: أمري إلى الله، رائدة فضاء، رائدة فضاء.

وسلامي لرواد الفضاء الذين اخترعوا لشبابنا وشاباتنا حرفة أن نجوب الفضاء بغير كتابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤