التصور الأول: الزمان والمكان مكوِّنان لنسيجٍ زمكاني مرن

«ليس للجاذبية وجودٌ بشكلٍ ما؛ ما يحرِّك الكواكب والنجوم هو اختلال الزمان والمكان.»

ميتشيو كاكو

«يعرف الجميع» أن ألبرت أينشتاين هو أول مَن وصف الزمن باعتباره «البُعد الرابع» في نظريته عن النسبية الخاصة المنشورة عام ١٩٠٥. و«الجميع» مخطئون في ذلك، بل وخطأ مضاعَف.

قبل ذلك بعشْر سنوات، أي في عام ١٨٩٥، نُشِرت قصة إتش جي ويلز الكلاسيكية «آلة الزمن» للمرة الأولى في شكل كتاب. وفي واقع الأمر، كان ويلز هو مَن كتب — في قصة «آلة الزمن» — أنه «لا فرق بين الزمن وأي من أبعاد المكان الثلاثة، عدا أن وعينا يتحرَّك عبره». ويمضي في وصف الأشياء التي نراها بأبعادٍ ثلاثية — كالمكعَّب — باعتبارها كِياناتٍ ثابتة تمتد عبر الزمن في واقعِ الأمر؛ ومن ثمَّ يكون لها الأبعاد الأربعة، وهي الطول والعَرض، والارتفاع، والزمن. لكن حتى في عام ١٩٠٥، لم يصِف أينشتاين الزمنَ باعتباره البُعدَ الرابع. فمن أدخل الفكرة إلى النظرية الخاصة في الواقع هو هيرمان مينكوفسكي، في محاضرةٍ ألقاها في مدينة كولونيا في سبتمبر من عام ١٩٠٨. كان مينكوفسكي أحد محاضري أينشتاين حين كان طالبًا في زيورخ، وأطلق عليه حينها وصفَه الشهير له بأنه «كلبٌ كسول» والذي «لا يعبأ أبدًا بأمرِ الرياضيات». غير أنه كان أول مَن ثمَّن تحقيقَ ذلك الكلبِ الكسولِ شيئًا بارزًا بنظريته عن النسبية الخاصة. وفي مقدمة محاضرته في مدينة كولونيا، قال مينكوفسكي:

الآراء حول الزمان والمكان التي أرغب في طرحها على مسامعكم وُلِدت من رحم الفيزياء التجريبية، وفيها تكمُن قوَّتها. إنهما مطلقان. ومن ثمَّ فإن المكانَ في حد ذاته والزمانَ في حد ذاته مآلهما إلى التلاشي والتحوُّل إلى مجرَّد ظلال، وحدوثُ اتحاد من نوعٍ ما بينهما هو فقط ما سيحفظ لنا واقعًا مستقلًّا.

وسرعان ما عُرف ذلك الاتحاد بينهما باسم الزمكان. لكن أينشتاين في البداية أبغَضَ الفكرةَ، ورأى أنها مجرد خدعة رياضية؛ إذ علَّق بفظاظة بقوله: «منذ أن هاجم علماء الرياضيات نظريةَ النسبية، لم أعُد أنا نفسي أفهمها.»

«السببُ الوحيد لوجود الزمن هو ألا يحدث كل شيء دفعة واحدة.»

ألبرت أينشتاين
figure
إتش جي ويلز

أرشيف هولتون/جيتي

من السهل جدًّا فهْم هذا في واقع الأمر. فأيُّ موقع على مستوى الشارع في إحدى المدن — على سبيل المثال — يُمكن أن يوصف على أساسِ رقمين، أو إحداثيين. قد أرتِّب للقائك خارجَ البناية عند ناصية شارع فيرست وجادة ثيرد. ويدخل إحداثيٌّ ثالث إذا ما رتَّبنا للقاء في المقهى الكائن في الطابَق الثاني من تلك البناية. ويدخل الزمن في المعادلة باعتباره البُعد الرابع إذا ما رتَّبنا للالتقاء في ذلك المكان، لِنقُل في الساعة الثالثة. وبذلك يمكن أن نمثِّل أيَّ موقع في ذلك المكان من خلال ثلاثة أرقام، وأيُّ موقع في الزمكان يمكن أن يُمثَّل في أربعة أرقام. جميعنا يعرف اللعبةَ التي نصل فيها سلسلةً من النقاط بعضها ببعض على صفحةٍ لنكوِّن بها صورة. يتمثَّل موقع كل نقطة من تلك النقاط (في هذه الحالة) في رقمين، هما إحداثياتها على الصفحة. وإن كانت الورقة من المطاط وممدودة، تصبح الصورة مشوَّهة، وهنا يمكن أن نصِف الصورةَ المشوَّهة على أساس الطريقة التي تحرَّكت بها كلُّ نقطة من موضعها الأول. ويمكن استخدام المعادلات التي تقيس العلاقة بين النقاط لوصف هذا التشوُّه. وبالطريقة نفسِها، يمكن استخدام المعادلات التي تربِط بين الإحداثيات (النقاط) في الزمكان لوصف التشوُّهات أو الانحرافات في الزمكان.

غيَّر أينشتاين موقفَه وقبِل بتطبيق القواعد الهندسية على نظريته على هذا النحو حين أدرك أن ذلك يُعدُّ أحدَ أساليب وضع نظرية عامة أكثر عن النسبية، والتي من شأنها أن تصِف الجاذبية وكذلك الزمان والمكان. فالنظرية الخاصة للنسبية تصِف ما يحدث للأشياء حين تتحرَّك بسرعات ثابتة عبر الفضاء. والنظرية العامة تفعل ذلك أيضًا، لكنها، إضافة إلى ذلك، تصِف ما يحدث للأشياء حين تتسارع، وكيف تؤثِّر الجاذبية على الأشياء. وتخبرنا المعادلات (التي، لحسن الحظ، لست في حاجة إلى أن أتطرَّق إليها هنا) بأن التسارع يساوي الجاذبية تمامًا ويكافئها. ويؤدي هذا، من بين أشياءَ أخرى، إلى خلق القوة التي تقع على رائد فضاء على متن صاروخٍ ينطلق من الأرض، والتي عادة ما تُقاس على أساس G؛ أي قوة الجاذبية على سطح الأرض. فقوة الجاذبية التي يكون قياسها 4G تعني حرفيًّا أن وزن رائد الفضاء يعادل أربعة أضعاف وزنه على الأرض. وفي المدار الذي يسقط سقوطًا حرًّا حول الأرض، والذي يُعَد نوعًا من التسارع الذي لا ينتهي أبدًا؛ لأن المدار يُعدُّ حلقة مغلقة، يكون رائد الفضاء حرفيًّا منعدِم الوزن؛ لأن التسارُع في هذه الحالة يُلغي عمل الجاذبية الأرضية.

وفي إطار المنظور الهندسي للزمكان، تكون الجاذبية هي نتاج انبعاج أو تجويف في نسيج الزمكان سببُه كتلةُ الأرض (أو أي جسم آخر كبير الحجم؛ فأي جسم مهما كان صغيرًا يُحدِث عمليًّا انبعاجًا في نسيج الزمكان، لكن آثاره تكون أصغرَ من أن نلاحظها في حياتنا اليومية، مثلي أو مثلك أو مثل كوب القهوة أو تاج محل). ولم يأتِ أحد حتى الآن بتشبيهٍ أفضل من ذلك التشبيه الخاص بمِنصة الترامبولين. إذا كان الترامبولين مشدودًا بإحكام، فإنه يكوِّن سطحًا مستويًا، يشبه «نسيجًا زمكانيًّا مستويًا»؛ حيث يسير سلوك كل شيء وفقًا للنظرية الخاصة للنسبية. مرِّر كرةً زجاجية عبر سطح الترامبولين وستجد أنها تسير في خط مستقيم. والآن ضعْ جسمًا ثقيلًا — ككرة بولينج — على الترامبولين. ستجد أنها أحدثت به انبعاجًا. جرِّب أن تدحرج كرةً زجاجية بالقرب من الجسم الثقيل، وستجد أنها تنعطف حول الانبعاج قبل أن تمضي في طريقها. يشبه هذا تأثيرَ الكتلة على الزمكان؛ إذ يؤثِّر على مسارات الأجسام بحيث تبدو وكأنها تنجذب بفعلِ قوةٍ تشدُّها تجاه الأجسام الضخمة. لكن من المهم أن نضع في اعتبارنا أن الانبعاج قد تكوَّن في الزمكان وليس في المكان وحدَه. فالزمن يمرُّ بمعدَّل مختلِف في المنطقة المنبعجة من الزمكان بالقرب من الأجسام الضخمة، مقارنةً بمعدَّل مروره على سطح الزمكان المستوي.

نحن الآن على استعدادٍ لتناول تداعيات كلِّ هذا على السفر في الزمن. أحد الاحتمالات ينبثق من النظرية الخاصة للنسبية، التي لا تنطبق إلا في الزمكان المستوي. وكذلك ينبثق من النظرية العامة للنسبية؛ لأنها تشمل كلَّ ما تشتمل عليه النظرية الخاصة إلى جانب أشياءَ أخرى. بالنسبة إلى الأجسام التي تتحرَّك بسرعات ثابتة (الأمر الذي يعني أنها تتحرك بسرعات ثابتة في خطوط مستقيمة) في الزمكان المستوي، فإن المعادلات تخبرنا بالسلوك النسبي للساعات (بمعنى أي جهاز لضبط الوقت) وعِصيِّ القياس (بمعنى أي جهاز لقياس المسافة) حين تتحرَّك الأشياء — كسفن الفضاء مثلًا — بعضها نحو بعض. والحركة في مجملها نسبية؛ لأن أي «ملاحظ» (كرائد الفضاء على متن إحدى تلك السفن الفضائية) مخوَّل له أن يقول إنه ثابت (أي «في حالة سكون») وكل شيء حوله يتحرَّك بالنسبة إليه. فيُقال إنها في «إطار مرجعي». وبالمقارنة مع ذلك الملاحِظ الثابت، نجد أن الساعات التي تكون على متن سفينة فضائية متحرِّكة تسير ببطء، بينما تتقلَّص السفينة المتحركة في الاتجاه الذي تتحرَّك فيه. فالوقت حرفيًّا يمرُّ ببطء أكثرَ في السفينة الفضائية المتحرِّكة، وكلما زادت سرعة السفينة (حتى تصل إلى حد السرعة الذي يتحدَّد بسرعة الضوء)، مرَّ الزمن أبطأ. ولعل أحد الأسباب التي تجعل سرعةَ الضوء هي الحد الأقصى للسرعة، أن الوقت يقف ساكنًا عند تلك السرعة؛ لكن لهذا الأمر أيضًا تداعيات مثيرة للاهتمام فيما يتعلَّق بموضوع السفر عبر الزمن سوف أناقشها في التصور الرابع. ونظرًا إلى أن رائد الفضاء في سفينة الفضاء المتحرِّكة مخوَّل له أن يقول إنه في حالة سكون، وإنك أنت مَن تتحرَّك، فبالنسبة إليه، ساعتك أنت هي التي تتحرك ببطء. كلتا وجهتَي النظر صحيحة، وليس هناك تناقض أو تضارب؛ لأن سفينتَي الفضاء كلتيهما لا تتوقفان أبدًا عن الحركة بعضهما إلى جوار بعض في الإطار المرجعي نفسه. لكن ثمَّة أشياء مثيرة للاهتمام تحدُث إذا ما حدث واجتمعتا بهذه الطريقة.

إذا ما انطلقت سفينة فضاء في رحلةٍ بجزء لا بأس به من سرعة الضوء، ثم استدارت وعادت أدراجها لمقارنة الوقت من خلال الساعة، فسيجد رواد الفضاء أن الوقت قد مرَّ أبطأ بالفعل وهم على متن السفينة التي انطلقت ثم عادت، وأيُّ راكب على متنها سيكون قد زاد عمره بمعدلٍ أقل من أي رفقاء له ظلُّوا في منازلهم. ما زال هذا لا يمثِّل تناقضًا؛ لأن الموقف لم يَعُد متماثلًا. نحن نعرف أيَّ سفينة ذهبت وعادت؛ لأنه تَحتَّم عليها أن تستدير. وهذا يقتضي حدوث تسارع، وحساب فارق الزمن على نحوٍ صحيح يتم عن طريق استخدام النظرية العامة للنسبية؛ لكن الأمر صار أسهل لأي شخص يريد أن يقوم بهذه العملية الحسابية؛ إذ تبيَّن أنه حال استخدام معادلات النظرية الخاصة المطبَّقة على رحلتَي الذهاب والإياب، كل على حدة، ووضعنا فرضيةً غير حقيقية بأن عملية الاستدارة تحدُث في الحال، فإنها تقدِّم الإجابة نفسَها. فعند نصف سرعة الضوء، يتباطأ الوقت («يتمدد») بنسبة ١٣ بالمائة؛ وعند نسبة ٩٩ بالمائة من سرعة الضوء، يتباطأ الوقت بنسبة ٨٦ بالمائة. عند تلك السرعة، لكل سنة تمرُّ على الصديق الماكث في منزله، يمرُّ ما يزيد قليلًا على شهر واحدٍ على المسافر على متن السفينة. وفي الرحلة التي تدوم ٥٠ سنة على ساعة المسافر، سيعود ليجد أنه في حين أن عمره قد زاد بمقدار ٥٠ سنة فعلًا، إلا أن ٣٥٠ عامًا مرَّت على الأرض، وأن صديقه قد فارق الحياة منذ وقت طويل. لقد تحرَّك المسافر في المستقبل ٣٥٠ عامًا فيما لم يمرَّ من عمره إلا ٥٠ عامًا.

«لا بد لشَعرك أن يشيب بفعل هندسة الزمكان الرياضية.»

براين كوكس، «قوى الطبيعة»

استُخدِم تأثيرُ التمدد الزمني هذا أساسًا للكثير من قصص الخيال العلمي، ليقدِّم بذلك وسيلةً للذهاب في رحلة في المستقبل في اتجاه واحد. وقصَّتي المفضَّلة بين تلك القصص هي قصة «تاو زيرو» لبول أندرسون، والتي تدفع هذه الفكرة إلى أقصى حدودها المنطقية.

لكن تمدُّد الزمن ليس «مجرد خيال علمي». فأكثر النتائج الخاصةِ بتجارب السفر عبْر الزمن أهميةً تأتي من دراساتٍ أجريت على جسيمات أولية قصيرة العمر في مسرِّعات كبيرة للجسيمات، كتلك الموجودة في مختبر سيرن في جنيف أو مختبر المسرِّع الخطي الوطني بستانفورد (سلاك) بولاية كاليفورنيا، الذي يصل طوله إلى ثلاثة كيلومترات. في تلك التجارب، تُصنع الجسيمات من الطاقة الخالصة — توافقًا مع معادلة أينشتاين الشهيرة — من خلال تحطيم جسيماتٍ أخرى معًا على سرعات عالية للغاية. تُكتَشف الجسيمات التي تُصنع بهذه الطريقة بأدواتٍ تقع على مسافة من موقع تصنيعها. ولبعض هذه الجسيمات الجديدة فترةُ حياة قصيرة جدًّا، وتتحلل إلى أشكالٍ أخرى أكثرَ ثباتًا في جزء ضئيل للغاية من الثانية. وفي كثيرٍ من الحالات تكون مدة حياة هذه الجسيمات قصيرة جدًّا لدرجة أن السفر حتى بجزء كبير من سرعة الضوء لا يسمح لها بالوصول إلى أجهزة الكشف، إلا أنها تُكتشَف رغم ذلك. ويرجع هذا إلى أن الزمن الذي مرَّ عليها أقلُّ من الزمن الذي مرَّ في العالم الخارجي. فهذه الجسيمات تكون قد سافرت، بطريقةٍ ما، مسافةً قصيرة في المستقبل. أما بالنسبة إلى جسيمٍ ساكنِ الإطار بفترة حياة ١٠ ملايين جزء من الثانية ويسافر بسرعة ١٢ /١٣  من سرعة الضوء، فينبغي له أن يكون قادرًا على قطع مسافة هي أقل قليلًا من ٣٠ مترًا قبل أن يتحلل. لكن تأثير التمدد الزمني يسمح له بالسفر مسافةً ضعف هذه المسافة بمقدار ٢٫٦، أي ما يزيد قليلًا عن ٧٠ مترًا.

اختبرت بعض التجارب الأخرى تأثير تمدُّد الزمن على المسافرين لمسافات بعيدة، وإن كان ذلك على نطاق محدود، ومرة أخرى وُجِد أن النتائج تطابق توقُّعات نظرية أينشتاين تمامًا. في إحدى مجموعات التجارب، صُنِعت جسيمات متطابقة بالطريقة المعتادة، بتثبيت جزء من مجموعة الجسيمات في مكانها بواسطة حقول مغناطيسية وكهربية، في حين ذهبت البقية في دورةٍ حول مسرِّع جسيمات وعادت إلى نقطة البداية. وعادت تلك الجسيمات وقد تبقى من عمرها قدر أكبر مقارنةً بنظيراتها التي لم تذهب إلى الرحلة.

لكن انتظر. أليس كلُّ هذا نسبيًّا؟ ما الذي يحدُث من منظور الجسيم؟ من ذلك الإطار المرجعي، فإن جهاز الكشف ونظام التجربة (بل كوكب الأرض كله) هما اللذان يتحرَّكان بجزء كبير من سرعة الضوء؛ لذا تقلَّصت المسافة إلى جهاز الكشف، بالقدر الذي نحتاج إليه بالضبط لشرح كيفية انتقال الجسيمات من أحد طرفَي التجربة إلى الآخر قبل أن تتحلَّل. وبالنسبة إلى الجسيم الذي يسافر بسرعة ١٢/ ١٣ من سرعة الضوء، فإن المسافة تقلَّصت بمُعامل قدره ٢٫٦. أي النتيجة نفسها!

يُبرِز هذا حقيقةَ أن التشوهات التي تحدث في الزمان والمكان بعضها يوازن بعضًا دائمًا. فالحركة تجعل المكان يتقلَّص والزمن يتمدَّد. والسمة الأهم في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد هي عبارة عن مزيج بينهما، وتُدعى الامتداد. وامتداد جسمٍ ما يظل كما هو دائمًا، بغض النظر عن كيفية حركته، فيما يُشوَّه الزمان والمكان على نحوٍ منفصل. هذا أشبه بشكلٍ ما بالطريقة التي يمكن أن تُلقِي بها عصًا بظل متغير على جدارٍ ما بينما تلتف وتتقلَّب، رغم أن طول العصا يظل كما هو. فتمدُّد الزمن وتقلُّص المسافة هما الظلال في زمان ومكان امتداد يتعرَّض للتدوير والالتفاف في نسيج الزمكان (تذكَّر ما قاله مينكوفسكي!). وهذا أحد الأشياء التي علينا أن نبقيها نُصبَ أعيننا فيما ننظر بتفصيلٍ أكثر في الأدلة المباشرة على تمدُّد الزمن.

تأتي هذه الأدلة المباشرة من تجارب تجْمع قياسات لتأثير تمدُّد الزمن الذي ينتج عن الحركة، وتأثير التمدُّد الثاني الذي ينشأ عن تشوُّه نسيج الزمكان بالقرب من جسمٍ ضخم، أو بفعل الجاذبية باللغة الدارجة. وينطبق هذا التمدُّد الزمني الثقالي حتى على الساعات التي تقف ساكنة في حقل جاذبية، وإن كان ينطبق أيضًا على الساعات التي تتحرك. بتعبيرٍ مبسَّط، كلما كنت أقرب إلى جسم ضخم كالأرض، مرَّ الزمن أبطأ؛ لذا وباعتبار تساوي العوامل الأخرى، فإن رائد الفضاء في المدار حول الأرض سيتقدم في العمر بمعدل أسرع (بمقدار ضئيل للغاية) من شخص على الأرض. ولكن لسوء الحظ ليس الأمر بهذه البساطة؛ لأن رائد الفضاء يتحرك، وتمدُّد الزمن الناشئ عن الحركة ينبغي أيضًا أن يوضع في الحسبان. وهذا هو ما جعل إجراء اختبارات عملية على تنبؤات نظرية أينشتاين هذه في غاية الصعوبة.

أجرى الاختبارَ الكلاسيكي لهذه التنبؤات كلٌّ من جوزيف هافيلي بجامعة واشنطن بسانت لويس، وريتشارد كيتنج بمرصد البحرية الأمريكية في مطلع سبعينيات القرن العشرين. فقد أرادا أن يأخذا ساعات ذرِّية شديدة الدقة في رحلةٍ حول العالم على متن طائرة، ثم إعادتها إلى المختبر لمقارنتها مع ساعات ذرِّية مطابقة لها ظلَّت في المختبر، وذلك لقياس فارق التوقيت الذي تراكم. كانت العقبة التي واجهتهما — فضلًا عن الصعوبات الجليَّة في التجربة — أنهما لم يتمكنا من الحصول على التمويل الكافي لاستئجار طائرة خاصة، ولم يتمكنا كذلك من استعارة طائرة عسكرية للقيام بالمهمة. لم تثنهما التحدياتُ عن المضي في مسعاهما، فقررا إرسال الساعات على متن رحلات تجارية مُجدولة، حيث لم تسمح ميزانيتهما إلا بحجز مقاعد في مقصورة الدرجة الاقتصادية. وبطريقةٍ ما، تمكَّنا من إقناع شركات الطيران بالسماح لهما باصطحاب الساعات معهما، وربطاها إلى الجدار في مقدِّمة المقصورة. وكإجراء احترازي في حال وقوع تأثيرات غير متوقَّعة، اضطرا إلى القيام بهذه الرحلة مرتين: الأولى حول العالم من الشرق إلى الغرب والثانية من الغرب إلى الشرق؛ لأن سرعة الطائرة على الأرض وبالنسبة إلى الساعات التي ظلَّت في المختبر في كلتا الحالتين كانت مختلفة، وذلك بسبب دوران الأرض تحت الطائرة. بدأت الرحلة نحو الشرق (والتي كانت في واقع الأمر سلسلة من الرحلات تخللها توقُّفات حتمية) في الرابع من شهر أكتوبر لعام ١٩٧١ وانتهت في السابع من الشهر نفسه، فيما امتدت الرحلة نحو الغرب من الثالث عشر إلى السابع عشر من الشهر نفسه. في الرحلة المتجهة غربًا، اكتسبت الساعات التي كانت على متن الطائرة ٢٧٣ مليار جزء من الثانية، مقارنةً بتنبؤ ببلوغ مجموع تأثيرَي حالتَي تمدُّد الزمن إلى ٢٧٥ مليار جزء من الثانية. كانت نتائج الرحلة المتجهة غربًا أقلَّ دقَّة، لكن في المجمل قدَّمت تجربة هافيلي-كيتنج أدلةً قوية على أن كلا تأثرَي التمدُّد الزمني حقيقي. أما الدليل الحاسم فقد ظهر بعد ذلك بخمس سنوات.

في يونيو من عام ١٩٧٦، أُجريت تجربة تُدعى مسبار الجاذبية أ نفَّذها كلٌّ من مرصد سميثسونيان للفيزياء الفلكية ووكالة ناسا، حيث أُطلق المسبار إلى ارتفاع عشرة آلاف كيلومتر في مهمة صعود وهبوط بسيطة دامت ساعة و٥٥ دقيقة، ليسقط بعدها في المحيط الأطلنطي. حمل المسبار ساعةً ذريَّة تُرصَد «دَقَّاتها» من خلال وصلة أرضية أثناء الرحلة وتُقارن بدَقَّات ساعة مماثلة لها على الأرض. وبعد أخذ طريقة تغيُّر حمولة الطائرة بفعل السرعة والارتفاع أثناء سير التجربة في الاعتبار، تطابق الفارق الزمني المسجَّل بين الساعتين مع تنبؤات نظريةِ أينشتاين بدقةٍ تصل إلى ٧٠ جزءًا من المليون، أو سبعة آلاف جزء من ١ بالمائة.

وقد انتقل هذا الأمر الآن من عالم التجارب العلمية إلى الحياة اليومية. فالأقمار الصناعية لأنظمة التموضع العالمي (GPS) التي تنتج الإشارات المستخدَمة في أنظمة الملاحة بالأقمار الصناعية (ساتناف) والهواتف الذكية لتخبرنا بموقعنا بالتحديد على سطح الأرض تدور في مدارٍ أعلى بقليل من الارتفاع الذي وصل إليه مسبار الجاذبية أ. وتدور هذه الأقمار أيضًا بسرعة بالنسبة إلى سطح الأرض. ولو لم يُراعَ تأثيرَا تمدُّد الزمن، فسينشأ فارقٌ بين وقت تلك الأقمار ووقتنا، يصل إلى نحو ٣٨ ميكروثانية في اليوم، الأمر الذي سينتج عنه أخطاءٌ في قياسات تحديد الموقع بزيادة تصل إلى ١٠ كيلومترات كلَّ يوم. لذا فإن أنظمة تحديد المواقع تقوم فعلًا بعملِ تصحيحات لهذه التأثيرات. فحين تسأل هاتفك الذكي عن موقعك وتأتي الإجابة في حدود أمتار قليلة، فإنه بذلك يستخدم النظرية العامة للنسبية ويراعي كلا تأثيرَي تمدُّد الزمن ليعطيك الإجابة. إن نسيج الزمكان مرن حقًّا. وتمدُّد الزمن حقيقي. والمعدَّل الذي ننتقل به من الماضي إلى المستقبل يعتمد على شكل الزمكان في محيطنا. لكن كيف لنا أن نعرف الفارق بين الماضي والمستقبل؟ لماذا يتحرَّك الوقت في اتجاه واحد فقط؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤