التصور الثالث: أسرع من الضوء تعني العودة بالزمن

«أي شيء ليس محظورًا هو شيء إلزامي.»

موراي جيل-مان

شجَّعت فكرة الزمن، باعتباره البُعدَ الرابع، العديدَ من العلماء والكثيرَ من كتَّاب الأدب على التخمين بشأن احتمالية «تدوير» محاور الزمكان بطريقةٍ ما بحيث يُصبح أحدُ أبعاد المكان بُعدًا للزمن ويُصبح الزمن بُعدًا للمكان. الأمر يشبه بعض الشبه قلب طائرة رأسًا على عقب بحيث تصبح «مقدِّمتها» «ذيلها» ويصبح «ذيلها» «مقدِّمتها». حينها، كلُّ ما عليك فعْله هو السفر عبر بُعد الزمن بقدرِ ما تشاء، قبل أن تُعيد الأشياء إلى نِصابها الصحيح وتجد نفسك في الماضي أو في المستقبل. لكن ثمَّة مشكلة كبيرة في استبدال الزمان بالمكان بهذه الطريقة، حتى ولو كنت تملك آلةً يمكنها أن تحقِّق هذا الغرض. فلسوء الحظ، لا تقف أبعاد الزمان والمكان على قدم المساواة في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد.

تكمُن المشكلة في الطريقة التي تدخل بها سرعة الضوء إلى الحسابات. تحمَّلني قليلًا فيما أقدِّم لك بضع معادلات بسيطة، أو يمكنك أن تتخطى ذلك وتنتقل إلى الخلاصة إن كنت تخشى المعادلات.

في الفضاء الثلاثي الأبعاد، يمكن تحديدُ المسافة (أو المسافات) بين أي نقطتين باستخدام النسخة الثلاثية الأبعاد من مبرهنة فيثاغورس الشهيرة التي تنص على أن:
تعتبر «، و و» هي الفروق ومن ثَم () في المسافة بين النقاط في الاتجاهات و و، وينطبق التربيع على المسافات كلها وهكذا، وليس فقط على الجزء بداخل الأقواس. الأمر بسيط حتى هذا الحد. لكن في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد، الطريقة المكافئة لذلك لقياس «المسافات» بين الأحداث هي:
حيث هي سرعة الضوء و هي الزمن. المسافة (بالكيلومترات) ببساطة هي حاصلُ ضرْب السرعة (كيلومتر/ثانية على سبيل المثال) في الزمن (بالثانية)، الأمر الذي يجعل كل شيء في توازن.

الخلاصة: كلُّ ما تحتاج إلى فهمه من هذا هو أن المسافة المكافئة لأي فترةٍ زمنية هي تلك الفترة الزمنية «مضروبة في سرعة الضوء». وسرعة الضوء (بأرقام تقريبية) تساوي ٣٠٠٠٠٠ كيلو متر/ثانية. إذا كان بإمكانك تدوير المتسلسلة الزمكانية الرباعية الأبعاد والسير عبر اتجاه الزمن نحو الماضي، فسيكون عليك السير مسافة ٣٠٠ ألف كيلومتر من أجل العودة بالزمن ثانية واحدة. قد لا يؤدي هذا إلى الاستبعاد التام لاحتمالية حدوث شيء كهذا — كما أناقش في تصوري الخامس — لكنه يشير بالفعل إلى أن هذا النوع من السفر عبر الزمن ليس بالسهولة التي يتخيَّلها كتَّاب القصص. لكننا لم نفقد كلَّ أملٍ لنا في ذلك. فالمشكلة تشير بالفعل إلى حلٍّ آخرَ للغز السفر عبر الزمن. إن كان بإمكانك السفر أسرع من الضوء، فلن يتطلب الأمر وقتًا طويلًا كي تعود إلى الدرب متجهًا نحو الماضي. لكن السرعات الأعلى من سرعة الضوء محظورة طبقًا لنظرية النسبية، أليس كذلك؟ ليست محظورة تمامًا، وهذا يفتح أمامنا المجال، إن لم يكن للسفر جسديًّا عبر الزمن، فللتواصل مع المستقبل (أو منه).

كان المفتاح الذي فتح الباب أمام ألبرت أينشتاين للتوصُّل إلى نظرية النسبية الخاصة هو اكتشاف جيمس كلارك ماكسويل للمعادلات التي تشرح سلوك الإشعاع الكهرومغناطيسي، بما في ذلك الضوء. تشتمل تلك المعادلات على ثابت، وهو ما لم يتوقَّعه ماكسويل، بل ظهر فجأة دون سعي لإيجاده، وسرعان ما أدرك ماكسويل أن ذلك الثابت يمثِّل سرعة الضوء. غير أن هذا قد أثار مشكلةً محيِّرة للفيزيائيين في نهاية القرن التاسع عشر. فقد نصت المعادلات على أن هذه السرعة — التي غالبًا ما يرمز إليها الآن بالرمز — ينبغي أن تكون هي نفسها بالنسبة إلى الجميع، بغضِّ النظر عن حركتهم. فإن كنتَ تقود سيارة باتجاهي بسرعة ١٠٠ كيلومتر في الساعة، فإن الضوء الصادر من المصابيح الأمامية لسيارتك يسافر بسرعة بالنسبة إلى سيارتك؛ لكن لو قستُ أنا سرعة الضوء بينما يمر بي، فسأحصل أيضًا على الإجابة نفسها وهي ، وليس كيلومتر/ساعة. وهذا يتعارض تمامًا مع قوانين نيوت للحركة التي كانت مسيطرة آنذاك لأكثر من مائتي عام. لا يمكن أن يكون نيوتن وماكسويل محقَّين كليهما. فقد كان من عبقرية أينشتاين أنه أدرك أن قوانين نيوتن في حاجةٍ إلى تعديل، وليست معادلات ماكسويل، والبقية معروفة.

لكنَّ ثمة شيئًا آخرَ غريبًا بشأن معادلات ماكسويل. هناك مجموعتان صحيحتان بالقدرِ نفسه من الحلول للمعادلات التي تصف الموجات الكهرومغناطيسية. يصف أحد هذه الحلول موجةً كهرومغناطيسية تتحرَّك خارجة من مصدرها متجهةً إلى المستقبَل في طريقها عبر الكون. قد تكون هذه الموجة شعاعَ ضوءٍ صادرًا من مشعل كهربائي، أو بثًّا إذاعيًّا، أو أي نوع آخر من الموجات الكهرومغناطيسية. وهذه الموجة يُطلق عليها موجة «متأخرة». لكنَّ ثمة حلًّا صحيحًا بالقدرِ نفسه للمعادلات التي تصف موجةً آتية من المستقبَل عائدة في الزمن وتتركَّز على مشعلك الكهربائي، أو جهاز إرسالٍ لموجات الراديو، أو أيًّا يكن. ويُطلق على هذه الموجة اسم الموجة «المتقدمة».

«يمكن للإنسان أن يصَّعَّد في السماء ضد الجاذبية في منطاد، فلمَ ينبغي له ألا يتطلَّع إلى قدرته في النهاية على إيقاف حركته عبر بُعد الزمن أو تسريعها، أو حتى الالتفاف والسفر في الاتجاه المعاكس.»

إتش جي ويلز
ثمَّة طريقة لشرح كل هذا، وذلك في إطارِ ما يُطلِق عليه الفيزيائيون «المخروط الضوئي». في نسيج الزمكان الرباعي الأبعاد، يُقال لكل شيء في المستقبل يُمكن أن يتأثَّر بما نفعله في المكان والزمان الحاليَّين بأنه في المخروط الضوئي المستقبلي. وكل شيء في الماضي ربما يكون قد أثَّر على ما يحدث في المكان والزمان الآنيَّين كامن في المخروط الضوئي الماضي. خارج هاتين المنطقتين، يوجد الزمكان الذي لا يمكن أن يؤثِّر علينا في الزمان والمكان الحاليين ولا يمكن أن يتأثَّر بأي شيء نفعله نحن فيهما. وهذا ما يُطلق عليه «زمان آخر». في ضوء هذا المصطلح، تخبرنا معادلات ماكسويل أن بإمكاننا استقبال إشارات في الزمان والمكان الحاليين من المخروط الضوئي المستقبلي وأيضًا من المخروط الضوئي الماضي «على حد سواء». ولا يزال الجدل قائمًا بين علماء الفيزياء بشأن أهمية هذا التناظر الزمني في معادلات ماكسويل، وأدَّى هذا الجدل إلى بعض الأفكار المثيرة للاهتمام في نظرية الكم.١ عند مستوًى أساسيٍّ ما، تسمح المعادلات التي تستند إليها الآليات الأساسية لعمل الكون بالرجوع في السفر عبر الزمن، أو على الأقل الرجوع في التواصل الزمني. لكن الوصول إلى نقطة الزمان الآخر يتطلب إما آلة زمن أو السفر أسرعَ من الضوء، أو بما يتخطى حاجز سرعة الضوء.

هذا الحاجز موجود؛ نظرًا إلى عدم إمكانية تسريع حركةِ شيء يتحرَّك أبطأ من الضوء بحيث يصل إلى سرعة الضوء بالضبط. وهناك عدة زوايا للنظر إلى هذا الحاجز، كلها قائمة على معادلات نظرية النسبية، وكلها مؤكَّدة بتجاربَ استُخدِمت فيها جسيمات سريعة الحركة، كتلك التي تحدَّثت عنها في تصوري الأول. إحدى تلك الزوايا أن الزمن يسير أبطأ وأبطأ حين تقترب من سرعة الضوء؛ لذا سيتطلَّب الأمر وقتًا لا نهائيًّا لتصل إلى سرعة الضوء التي تبتغيها. ثمَّة زاوية أخرى أن الأمر سيتطلب مقدارًا لا نهائيًّا من الطاقة للوصول إلى الكتلة اللانهائية اللازمة للقيام بالمهمة؛ وذلك لأن كتلة الجسم تزداد مع زيادة سرعته. وأيًّا كانت الزاوية التي ستنظر منها إلى الأمر، فإن سرعة الضوء تمثِّل حاجزًا حقيقيًّا لا يمكن تخطيه أبدًا (على عكس «حاجز» الصوت الذي هو ببساطة تحدٍّ تكنولوجي تخطيناه قبل زمن طويل). للضوء نفسه أن يسافر بسرعة الضوء؛ لأنه جُبل على التحرُّك بسرعة الضوء، ولا يُبطئ إلا حين يُمتص. لكن هذا استحثَّ فكرَ البعض. فلو أن جزيئًا جُبل على التحرُّك بالفعل بسرعة الضوء، فبمَ ستخبرنا معادلات أينشتاين عن خصائصه؟

«الزمن ليس خطًّا وإنما بُعد، كأبعاد المكان. وإن كان باستطاعتك ثني المكان فباستطاعتك ثني الزمن كذلك، وإن كنت تعرف ما يكفي وكان بإمكانك التحرك أسرع من الضوء، يمكنك إذن أن تعود بالزمن.»

مارجريت آتوود، رواية «عين القطة»

ثمَّة منطقٌ معاكس تجاه العالم على الجانب الآخر من حاجز الضوء. إن كان الزمن يسير أبطأ وأبطأ فيما تزداد سرعتك أكثرَ وأكثر على الجانب الآخر من الحاجز، حتى يتوقف تمامًا بلا حَراك عند سرعة الضوء، فمن المنطقي، على الجانب الآخر من الحاجز، وبالنسبة إلى جزيء يتحرَّك أسرعَ من الضوء بشيء قليل، أن الزمن يمضي ببطء إلى الخلف، وكلما زادت سرعة الجزيء، عاد الزمن إلى الخلف أسرع. هذا ما تخبرنا به المعادلات بالضبط. وتخبرنا أيضًا أنه على كلا جانبَي الحاجز، كلما أضفتَ طاقة إلى حركة جسمٍ ما، قاربت سرعته سرعةَ الضوء. وهذا يعني أنه في عالمنا، كلما أُضيفت طاقةٌ إلى جسمٍ ما تحرَّك بشكل أسرع، أما في العالم الأسرع من الضوء، فكلما أضفتَ طاقة إلى جسمٍ ما تحرَّك على نحوٍ أبطأ. ومع فقدان الجسيمات في العالَم الأسرع من الضوء للطاقة، تتحرَّك أسرع وأسرع وتندفع إلى الخلف في الزمن. واللافت في الأمر أن هذه السمة الغريبة في العالم الأسرع من الضوء قد اكتُشفت «قبيل» توصُّل أينشتاين إلى نظرية النسبية الخاصة. ففي عام ١٩٠٤، أدرك عالِم الفيزياء أرنولد سومرفيلد — الذي أصبح لاحقًا رائدًا من رواد نظرية الكم — أن معادلات ماكسويل تتنبأ بذلك بالضبط فيما يتعلَّق بسلوك الجسيمات في العالم الأسرع من الضوء، رغم أن سومرفيلد في ذلك الوقت لم يكن على درايةٍ بحاجز سرعة الضوء. ولما كانت نظرية النسبية قائمةً إلى حدٍّ كبير على معادلات ماكسويل، فلا غرابة في أنها تنص على الشيء نفسه، لكن من المعلوم أن معادلات ماكسويل قالت بذلك أولًا.

لم تؤخذ تلك الفكرةُ على نحوٍ جادٍّ طيلة عقود. والقلة من العلماء الذين كانوا على وعيٍ بها اعتبروها من غرائب الرياضيات، كالحلول السالبة التي تبرُز فجأة في المعادلات التربيعية. فإن كان هناك مهندس معماري يحاول أن يحسب كم ينبغي أن يكون ارتفاع أحد المباني، ويقوم بعملية حسابية تخبره بأن الإجابة هي الجذر التربيعي للعدد ٤٠٠،٢ فإن الرياضيات تقول إن ارتفاع المبنى يمكن أن يكون إما ٢٠ مترًا أو «سالب» ٢٠ مترًا. وبافتراض أن هذا المهندس لا يصمِّم مرأبًا للسيارات تحت الأرض، فسيُتجَاهل الحل السالب، وهو نفس ما حدث بالضبط مع حلول معادلات أينشتاين المقابلة لجسيمات العالَم الأسرع من الضوء. على الأقل، تم تجاهلها حتى ستينيات القرن العشرين، حين بدأ علماء الفيزياء في دراسة الأشعات الكونية بالتفصيل.
لكن لم تكن هذه هي المرة الأولى (ولا الأخيرة) التي يدُلنا فيها الخيال العلمي على الطريق. ففي عام ١٩٥٤، نشرت مجلة «جالاكسي ساينس فيكشن» رواية قصيرة بعنوان «صافرة التنبيه» للكاتب جيمس بليش.٣ لا تعتبر هذه الرواية من أفضل ما كتب، لكنها تقدِّم فكرة «راديو ديراك» الذي يوفِّر تواصلًا فوريًّا عبر أي مسافة. لكن متى استُقبلت رسالة صوتية، فإنها تبدأ بصافرة تنبيه مزعجة. وقد تبيَّن أن تلك هي نسخة مضغوطة من «كل رسالة من رسائل ديراك أُرسِلت من قبل أو ستُرسَل فيما بعد». تتجاوز الإشارات كلًّا من المكان «والزمان»؛ وأدرك بليش أن الإشارات التي تسافر أسرع من الضوء (فوريًّا في هذه الحالة) لا بد أنها تسافر أيضًا عبر الزمن عكسيًّا. لم يولِ أحدٌ القصةَ اهتمامًا كبيرًا، حتى قرأها عالِم الفيزياء جيرالد فاينبرج — الأستاذ بجامعة كولومبيا — في مجموعة مختارات أدبية٤بعد مرور أكثر من عَقد على نشرها، فأوحت إليه بفكرة البحث في العلوم والخوض فيها، وقدَّم ورقةً بحثية علمية بعنوان «احتمالية وجود جسيمات أسرعَ من الضوء»، والتي نُشِرت في دورية «فيزيكال ريفيو» في عام ١٩٦٧. في تلك الورقة البحثية قدَّم جيرالد اسم «تاكيون» للإشارة إلى الجسيمات الأسرع من الضوء الافتراضية، وهي كلمة مشتقة من اللفظة اليونانية tachys، ومعناها «سريع أو خاطف». لكن إن وُجِدت إشارة ديراك في المستقبل من الأساس باستخدام عمليات إرسال تاكيونية، فسيكون لذلك الراديو سمةٌ غاية في الغرابة. تتمثل هذه السمة في أنه سيفقد الطاقة حين تصله إشارة، ومن ثَم سيبرد. لكن وبما أن أحدًا لا يتوقَّع أن يُصمَّم مثل هكذا جهاز، فلن أقلق بشأن ذلك في هذا الصدد. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن التاكيونات إذا فقدت الطاقة وزادت سرعة حركتها، فستكون طاقة معظم التاكيونات الموجودة طبيعيًّا في الكون (إن وُجدت) صفرًا بصفةٍ أساسية وستتحرك بسرعة شبه لا نهائية، الأمر الذي سيجعل كشفها أمرًا في غاية الصعوبة. لكنَّ ثمَّة حلًّا لهذه المشكلة.

سعى الناس خلال السنوات التي تلت نشْر فاينبرج لورقته العلمية إلى إيجاد دليل على وجود التاكيونات في الأشعات الكونية. والأشعات الكونية هي جسيمات عالية الطاقة تأتي من الفضاء (تتكوَّن في معظمها من البروتونات)، تُنتَج في الأحداث الكونية العالية الطاقة، وتنطلق هذه الأشعات متسارعة عبر المجرَّة في جزء كبير من سرعة الضوء (يصل إلى ٩٠ بالمائة أو أكثر منها)، وتصطدم بالغلاف الجوي العلوي للأرض. وتحمل هذه الأشعات مقدارًا هائلًا من الطاقة، حتى إنه حين تصطدم أشعة كونية «أوَّلية» كهذه بنواة ذرَّة كالنيتروجين مثلًا — وهو المكوِّن الأكثر شيوعًا لغلافنا الجوي — فإنها لا تدمِّر النواة فحسب. بل يتحوَّل قدْر كبير من الطاقة إلى جسيمات جديدة — أشعات كونية «ثانوية» — تُصنَّع من الطاقة الخالصة بما يتوافق مع معادلة أينشتاين الشهيرة، وتنهمر هذه الجسيمات على سطح الأرض فيما يُعرف بسيل الأشعة الكونية. لا تسبِّب لنا هذه الجسيمات أيَّ ضرر (وإن كانت قد تسبِّب ضررًا حال إنتاج أعداد هائلة منها بسبب انفجارِ مستعرٍ أعظمَ قريبٍ، على سبيل المثال)، لكن يمكن كشفها باستخدام كلٍّ من الأدوات على الأرض وأجهزة الكشف التي توضع على متنِ مناطيدَ شاهقة الارتفاع. وإن كان بعض الجسيمات التي أنتجتها هذه العملية لإحداث سيل من الأشعة الكونية هي في أصلها تاكيونات، فإنها ستصل إلى أجهزة الكشف الكائنة على الأرض ليس قبل وصول كل الجسيمات العادية في السيل فحسب، بل حتى قبل أن تصطدم الأشعة الكونية الأولية بالطبقة العلوية من الغلاف الجوي؛ وذلك لأنها تسافر عبر الزمن عكسيًّا. قد يكون من الممكن كشف هذه الجسيمات قبل أن تفقد كلَّ طاقتها وتنطلق عبر الكون بسرعة لا نهائية.

ونظرًا إلى أن علماء الفلك الذين يدرُسون الأشعات الكونية يملكون أجهزةَ كشفٍ تعمل معظم الوقت تقريبًا في مواقع مختلفة حول العالم، فلم يتطلب الأمر منهم جهدًا كبيرًا، أو تمويلًا إضافيًّا، لفحص تسجيلاتهم لرصد أي آثار لومضات أولية على شاشات أجهزتهم قبيل وصول سيل كثيف من الأشعة الكونية. وقد فعل كثيرون ذلك في مطلع سبعينيات القرن العشرين، حين كانت التاكيونات موضوعَ نقاش رائج، ووجد بعضهم بوادر تشير إلى حدوثِ أمر غريب. لكن الدليل الوحيد المقنع بحق جاء من باحثَين اثنين في أستراليا، وهما روجر كلاي وفيليب كراوتش في عام ١٩٧٣. فقد وجدا ما بدا بمثابة مؤشرات قوية لومضات أولية أسرع من الضوء تظهر على أجهزة الكشف لديهما، وكان الدليل قويًّا بما يكفي بحيث تمكَّنا من نشر اكتشافهما في مجلة «نيتشر» عام ١٩٧٤، وذلك بعد أن تحقَّق علماء آخرون من الأمر أثناء مراجعة الأقران لتقييم إنجازهما. ولم يتمكَّن أحد من إيجاد خلل في تحليلاتهما. كنت في ذلك الوقت أعمل في مجلة «نيتشر»، ونتذكر فورة الحماس التي أثارها الخبر الذي وضع علماء الفيزياء في حَيرة وجعل يوم الصحفيين حافلًا. لكن للأسف، لم تَجِد أيُّ تجربة أخرى دليلًا مقنعًا على وجود مثل هذه المؤشرات الأولية ترتبط بسيولٍ أخرى من الأشعة الكونية، ومع أنه لم يتمكن أحد إلى يومنا هذا حتى من اكتشاف أيِّ مواطن خلل في تحليل بيانات كلاي وكراوتش، فإنه متقبَّل باعتباره شيئًا من تلك الأشياء التي لا يسعنا تغييرها أو تفسيرها؛ إذ لا بد أن شيئًا آخر فعَّل جهاز الكشف الأسترالي في الوقت المناسب (أو غير المناسب، الأمر يتوقف على وجهة نظرك) بما يحاكي دفقة سالفة من جسيمات تاكيونية. وبحلول عام ١٩٨٨ بدت احتمالات إيجاد أدلة على وجود التاكيونات قاتمة للغاية؛ حتى إن نيك هيربرت حين لخَّص الموقف في كتابه «أسرع من الضوء» خلص إلى أن معظم علماء الفيزياء «يضعون احتماليةَ وجود التاكيونات في مكانٍ أعلى بقليل من احتمالية وجود وحيد القرن».

لكن إنهاء قصة السفر بأسرعَ من الضوء والتواصل العكسي في الزمن عند هذه النقطة شيءٌ كئيب ومحزن للغاية. في عام ١٩٨٠، تناول أحد الفيزيائيين، وهو جريجوري بينفورد، تداعيات ذلك في روايته «منظر طبيعي للزمن»، والتي لا تتناول فكرة التواصل التاكيوني فحسب، بل تعالج أيضًا مشكلةً تغافلنا عنها في معظم قصص السفر في الزمن، وهي أن السفر في الزمن يُعد أيضًا سفرًا في المكان. إن الأرض في حالة حركة دائمة؛ إذ تدور حول محورها وحول الشمس وتسير عبر المجرَّة. فلو كنت أملك آلةً زمنية في غرفة معيشتي وأردت أن تعود بي هذه الآلة إلى غرفة معيشتي في يوم الثلاثاء الماضي، لوجب أن أكون قادرًا على برمجة الآلة بحيث تذهب إلى الموقع الذي كانت به غرفة معيشتي يوم الثلاثاء الماضي، والذي يُعَد الآن منطقةَ فضاء خالية. وقد جُسدت هذه التداعيات بدقةٍ في قصة كريستوفر بريست «آلة الفضاء»، لكن في قصة «منظر طبيعي للزمن» يقرُّ بينفورد بالمشكلة، رغم أن أبطال روايته لم يكن عليهم سوى الانشغال بالوجهة التي يوجِّهون إليها الأشعة التاكيونية. يُسأل أحد هؤلاء الأبطال: «نوجهها إلى ماذا؟». «أين العام ١٩٦٣؟» فيجيبه: «إنه بعيد جدًّا، كما يتبيَّن. العام ١٩٦٣ بعيد للغاية». لكن المؤلِّف لم يوضِّح أبدًا كيف تمت عملية التوجيه؛ فالتواصل العكسي عبر الزمن هو صميم قصته ومحورها.

كتب بينفورد قصَّته في سبعينيات القرن العشرين، لكن أحداثها تدور في بداية الستينيات وأواخر التسعينيات من القرن نفسه، وهي «مسافات» شبه قريبة من وقت نشر الكتاب. والمستقبل الذي يتصوَّره في القصة أكثرُ قتامة بكثير مما تبينت عليه فترة التسعينيات؛ إذ كان العالَم على حافة كارثة بيئية. يحاول مجموعة من العلماء في جامعة كمبريدج في ذلك الوقت إرسال رسالة تحذيرية إلى الماضي أملًا في إمكانية تجنُّب بعض الأخطاء التي أدَّت إلى هذا الموقف، ويستقبل باحث شاب يُدعى جوردون بيرنشتاين بجامعة كاليفورنيا بسان دييجو نسخةً مشوَّشة من هذه الرسائل التاكيونية. وليس من قبيل المصادفة أن بطل القصة يتشارك مع بينفورد الأحرف الأولى من اسمه، أو أن بينفورد قد أنهى شهادة ماجستير في جامعة كاليفورنيا بسان دييجو وعمل في كمبريدج في أواخر سبعينيات القرن العشرين. لذا فإن خلفية القصة لها أصل حقيقي إلى حد كبير وتضفي عليها شيئًا من الصدق، رغم أن الجانب العلمي فيها قائم على التخمين.

figure
جريجوري بينفورد

شاترستوك

المشكلة في قصة بينفورد — كما هو الحال مع كل القصص التي تتناول التواصل مع الماضي من المستقبل — أن المستقبل يغيِّر الماضي، وبذلك فإن المستقبل نفسه يتغيَّر، وليس بالضرورة أن يكون التغيير نحو الأفضل.٥ وأناقش بعض الحلول الممكنة لهذه المشكلة في تصوري التاسع. لكن ثمَّة طريقة واحدة للالتفاف حول هذه المشكلة وهي ملائمة بشكل خاص للحديث عن التاكيونات. نحن معتادون على فكرةِ أن الأحداث في مخروط الماضي الضوئي تؤثِّر على ما يحدث هنا في الحاضر، وأن «خطوط العالَم» في الماضي تلك تُعد ثابتة. ونرى أن المستقبل ليس ثابتًا بعد. لكننا إذا ما قبِلنا فكرة أن المخروط الضوئي المستقبلي يؤثِّر أيضًا على ما يحدث هنا في الحاضر، فإننا بذلك نكون أمام موقفٍ لخَّصه لورنس شولمان في مقالٍ بعنوان «مفارقات تاكيونية» نُشِر في دورية «أمريكان جورنال أوف فيزيكس» في عام ١٩٧١: «التاريخ هو مجموعةٌ من خطوط العالم مجمَّدة بالأساس في الزمكان. وفي حين أننا على الصعيد الشخصي على قناعةٍ قوية بأن أفعالنا تتحدَّد فقط بمخروطنا الضوئي الماضي، فإن الحال قد لا يكون على هذا المنوال دائمًا.» وفي ذلك إشارة إلى أن «خطوط العالم» لمخروطنا الضوئي المستقبلي مجمَّدة أيضًا في الزمكان، وأنها تؤثِّر أيضًا على حاضرنا، لكن أيضًا لا يمكن تغييرها مثلما لا يمكننا تغيير خطوط العالم الماضي. وفي إطار هذا السيناريو، فإنه ما من شيء فعله «جوردون بيرنشتاين» في الستينيات من شأنه أن يغيِّر ما جاء في الرسائل التي تلقَّاها من حِقبة التسعينيات. وهذا موضوع سأعود إلى الحديث عنه في تصوري السابع. لكن قبل أن أترك موضوعَ السفر بأسرعَ من الضوء، أريد أن ألفت انتباهك إلى احتماليةٍ مثيرة للفضول. إن الضوء قد يكون قادرًا على السفر بأسرعَ من سرعة الضوء.

هوامش

(١) تناولت بعضها بالنقاش في كتابي «ستة أشياء مستحيلة».
(٢) لا يمكنني تصوُّر أن عملية حسابية كهذه ضرورية في العالم الواقعي، لكن يحدوني الأمل في أن تغض الطَّرْف عن ذلك.
(٣) تطوَّرت لاحقًا إلى رواية كاملة بعنوان «تخميسة الزمن» نشرتها دار ديل للنشر في عام ١٩٧٣.
(٤) عنقودٌ مَجرِّيٌّ.
(٥) أستعرض هذا في روايتي «ضد عقارب الزمن»، وهو عنوان مختلَس جزئيًّا من قصة بينفورد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤