التصور السابع: كل شيء سيُوجَد موجودٌ بالفعل

«الزمن الحاضر والزمن الماضي/كلاهما ربما حاضر في المستقبل/والماضي ربما يحتوي المستقبل.»

تي إس إليوت، «الرباعيات الأربع»

لم تبدأ فكرة أن المستقبل ثابت كالماضي — ومن ثَم يشكل الزمكان الرباعي الأبعاد كتلةً مصمتة وغير قابلة للتغيير — مع هيرمان مينكوفسكي وتطبيق المفاهيم الهندسية على نظرية النسبية الخاصة، ولم تظهر حتى مع إتش جي ويلز. فقد استخدم أكثر من فيلسوف من فلاسفة القرن التاسع عشر مصطلح «وحدة بنائية» في هذا السياق، إلا أن استخدامًا واضحًا ومحددًا بصفة خاصة لهذا المصطلح ورد في كتاب فرانسيس هيربرت برادلي بعنوان «مبادئ المنطق» الذي نُشِر في عام ١٨٨٣. في هذا الكتاب وصفنا هيربرت بأننا ركَّاب على متن مركب يسافر عبر نهر الزمن، وعلى ضِفة هذا النهر يقف صفٌّ من المنازل المتلاصقة، كلٌّ منها يحمل رقمًا (ربما اختار هذا الوصف ليحاكي ترقيم القرون). وفيما ننزلق عبر النهر مرورًا بالمنزل رقم ١٩، ثم رقم ٢٠، ثم رقم ٢١، وهكذا، «يمتد صف الماضي والمستقبل الثابت في وحدة واحدة أمامنا وخلفنا.»

ما فعله مينكوفسكي هو أنه وضع هذا النوع من التفلسف التأملي على أساس رياضي آمن. ففي سياق الحديث نفسه الذي أشار فيه إلى اتحاد المكان والزمان في وحدة واحدة، قدَّم مينكوفسكي فكرة خطوط العالم. وبعد أن أوضح كيف أن أي «نقطة عالمية» في نسيج الزمكان يمكن أن تتمثَّل بأربعة أرقام في «نظام قيم يتكوَّن من القيم أ، ب، ج، د»، وبعد أن وصف «مسار» أي نقطة بأنه «منحنًى في العالم، أو خطٌّ عالميٌّ»، مضى مينكوفسكي يقول: «في رأيي أن القوانين الفيزيائية يمكن أن تجد أمثل تعبير عنها في وصفها بأنها علاقاتٌ بين خطوط العالم هذه.» وقد أصبحت تلك الفكرة عنصرًا رئيسًا في نظرية النسبية العامة، وبعد فترة وجيزة من إثبات صحة أحد تنبؤات تلك النظرية من خلال ملاحظات عن انحناء الضوء وراء الشمس، أشار أحد المساهمين في مجلة «نيتشر» إلى أحد تداعيات ذلك:١

لنفترض أن ماضي الكون ومستقبله مصوَّران في فضاء رباعي الأبعاد، وظاهران لأي كائن لديه وعي البُعد الرابع. إذا كانت ثمَّة حركة لفضائنا الثلاثي الأبعاد بالنسبة إلى البُعد الرابع، فإن كل التغيرات التي نشهدها وننسبها إلى تدفُّق الزمن ستُعزى ببساطة إلى هذه الحركة؛ إلى وجود المستقبل كله وكذلك الماضي في البُعد الرابع.

من المثير أيضًا أنه في النسخة التي نُشرت في حلقات مسلسلة في مجلة «ذا نيو ريفيو» من رواية ويلز القصيرة «آلة الزمن»، التي صدرت قبيل صدور الكتاب مباشرة، لكنها حُذِفت من النسخة الشائعة، يخبر المسافر عبر الزمن رفاقَه على العشاء في بداية القصة قائلًا:

بالنسبة إلى مراقبٍ عالِم بكل شيء لن يكون ثمَّة ماضٍ سحيق — فترة من الزمن سقطت من الوجود — ولا مستقبل مبهم للأشياء لم يتكشَّف بعدُ … فالحاضر والماضي والمستقبل بلا معنى لمثل هذا المراقب … فسيرى — إن جاز التعبير — «كونًا جامدًا» يملأ المكان والزمان … وإذا كان «الماضي» يعني شيئًا، فسيعني النظرَ في اتجاه بعينه، في حين يعني «المستقبل» النظر في الاتجاه المعاكس.

تشرح فكرةُ الكون كوحدة زمكانية رباعية الأبعاد (block universe) ما كتبه أينشتاين في عام ١٩٥٥، بعد وفاة صديقه ميشيل بيسو وقبل شهر واحد فقط من وفاته هو نفسه، في خطابٍ منه إلى أبناء بيسو:
وها هو الآن قد سبقني ببرهة قصيرة إلى توديع هذا العالَم الغريب. ليس في هذا دلالة على شيء. فالاختلاف بين الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة إلينا، نحن المؤمنين بالفيزياء، ما هو إلا محض وهم، حتى وإن كان وهمًا عنيدًا يصر على الاستمرار.٢

«لا تخبرنا معادلات الفيزياء أيُّ الأحداث يجري الآن؛ فهي أشبه بخريطةٍ لا تحتوي على الرمز الذي يحدِّد موقعك فيها. واللحظة الراهنة لا وجود لها في هذه المعادلات؛ ومن ثَم لا وجود أيضًا لتدفُّق الزمن فيها.»

كريج كاليندر، مجلة «ساينتيفيك أميريكان»، يونيو ٢٠١٠

سارع كتَّاب الخيال العلمي إلى التقاط فكرةِ الكون كوحدة زمكانية رباعية الأبعاد وخطوط العالم. وكان روبرت هاينلاين أحدَ أولئك الذين عادوا مرارًا إلى موضوع إشكاليات السَّفر عبر الزمن واحتمالاته. ففي قصةٍ بعنوان «خط الحياة» نُشرت في مجلة «أستوندينج» في شهر أغسطس من عام ١٩٣٩، ذكر هاينلاين جهازًا يرسل إشارةً عبر خط العالَم لشخصٍ ما ثم يجعلها ترتد عند نهاية الخط؛ ويكشف التأخير الذي يسبق عودة صدى تلك الإشارة متى سيموت ذلك الشخص. لكن نادرًا ما تنطوي تلك القصص على أي علم حقيقي، وفي هذا المثال يهتم هاينلاين بتداعيات ذلك على شركات التأمين على الحياة أكثرَ من اهتمامه بشرح الجانب العلمي الخاص بآلية عمل ذلك الجهاز. وجاء الاستثناء لغياب التناول العلمي في مثل هذه القصص حين اتَّجه علماء حقيقيون، مثل جريجوري بينفورد، إلى الخيال العلمي، ونتناول في هذا الإطار روايةً من تأليف العالِم الفلكي البارز فريد هويل بعنوان «الأول من أكتوبر متأخر للغاية»، والتي تقدِّم حلًّا واضحًا وعلميًّا بحق لأكبر ألغاز فكرة الكون الكتلة: إذا كانت كل النقاط عبر أحد خطوط العالَم ثابتة وتقع على مستوًى واحد في الكون الذي يمثِّل وحدة زمكانية، فلماذا ندرك «لحظة راهنة» خاصة تتحرَّك بمحاذاة اتجاه الزمن؟

نُشرت رواية «الأول من أكتوبر متأخر للغاية» في عام ١٩٦٦، وقد قرأتها قبيل التحاقي مباشرة بمعهد علم الفلك النظري٣ بكمبريدج بعد عام واحد من نشرها. والسفر عبر الزمن في هذه الرواية من نوعية غريبة، حيث تقع مناطق مختلفة من الأرض في أزمنةٍ مختلفة. فإنجلترا في العام ١٩٦٦، وأمريكا الشمالية في القرن الثامن عشر، وفي فرنسا تُوافق الأحداث عام ١٩١٧، واليونان في عصر الحضارة الكلاسيكية. لكن في هذه المرة يكون العلم الكامن وراء هذه القصة مثيرًا للفضول أكثرَ من القصة نفسها.

وبصفتي واحدًا من محبي أدب الخيال الممتزج بالعلم الحقيقي، أذهلتني الملاحظة التمهيدية للكتاب التي قال فيها هويل: «المناقشات حول مدلول الزمن ومعنى الوعي مزمع لها أن تكون جادة للغاية.» ورغم أنني كنت أصغر أعضاء المعهد وأقلهم شأنًا، وكان هويل هو مديره المؤسس وشخصية جديرة بالإعجاب والاحترام، كان هناك اختلاط بين الجميع في استراحة تناول القهوة، وبعد بضعة أسابيع قصدت الرجل العظيم وأنا أشعر بالتوتر وأخبرته عن مدى إعجابي بكتابه وسألته إن كان قد تعمَّد حقًّا أن يُؤخَذ الجانب العلمي فيها على محمل الجِد. كان هذا سؤالًا غبيًّا؛ إذ كان الرجل قد ذكر ذلك في الكتاب، لكنه كان لطيفًا بما يكفي ليجيب بالإثبات، وفي تلك اللحظة تملكتني مشاعر الخجل والتردُّد وانصرفت دون أن أحاول الاستمرار في الحديث أكثر من ذلك. لكني على الأقل أعرف أن لدي الآن مبرراتي في تقديم أفكار هويل إليك باعتبارها علمًا جادًّا.

يخبرنا هويل (بصوت إحدى شخصياته، لكنني لن أعبأ بالإشارة إلى هذه الملحوظة من الآن فصاعدًا) بأن الصورة الذهنية للزمن باعتباره دفقًا متواصلًا ما هي إلا «وهم غريب وعبثي». ففي عالم الفيزيائيين الرباعي الأبعاد للزمكان، لا يكون مدار الأرض حول الشمس دائريًّا، بل حلزونيًّا٤ في أربعة أبعاد حول الخط العالمي للشمس: «ليس من الوارد على الإطلاق انتقاءُ نقطة معينة على هذا المسار الحلزوني والقول إن تلك النقطة بالذات هي الموضع الحالي لكوكب الأرض.» فكل شيء كان من قبلُ أو سيكون فيما بعدُ موجودٌ دائمًا، وإدراكنا الواعي وحدَه هو ما يعطينا إحساسًا بالماضي ويوهمنا بمرور الزمن. وقد توصَّل هويل إلى صورة ذهنية علقت بذهني في عام ١٩٦٦، وظلَّت محفورة به منذ ذلك الحين. فقد تصوَّر المعلومات الفيزيائية عن الأحداث التي تجري في الزمكان وكأنها جميعًا موضوعة في مجموعة ضخمة من «كوات خزانة رسائل»، مجموعة لا نهائية من صناديقَ صغيرةٍ تحمل ترقيمًا مسلسلًا، يحمل كلٌّ منها مجموعةَ رسائل تصف محتويات كوات أخرى. وسيجد أي مخلوق كوني باستطاعته الاطلاع على محتويات أي من تلك الصناديق أن الرسائل في أي كوة من هذه الكوات ستكون دائمًا دقيقة إلى حدٍّ كبير في وصفها لمحتويات كوات تقع أدنى الترتيب الهرمي للكوات، إلا أنها ستكون مبهمة ومتناقضة حين تصف محتويات كوات تقع أعلى الترتيب. والتسلسل الرقمي هو بالطبع خط زمني، تكون فيه الأرقام الأقل أسبقَ في الزمن والأرقام الأعلى تقع في وقتٍ متأخر منه، وكل صندوق يمثل «لحظة راهنة».
figure
فريد هويل

إكسبريس نيوزبيبرز/جيتي

سنطلق كلمة الحاضر على الكوة الخاصة التي يتصادف أنك تطَّلع عليها الآن. أما الكوات السالفة والتي تجد فيها عباراتٍ صحيحة إلى حد كبير، فسنطلق عليها الماضي. والكوات اللاحقة التي لا تحوي الكثير من العبارات الصحيحة سنطلق عليها المستقبل … العالم الحقيقي أشبه بهذا كثيرًا.

يقترح هويل بعد ذلك أن نتخيل شعاعًا من الضوء يتراقص حول مجموعة الكوات، فيضيء الأولى ثم يضيء أخرى.٥ يحدث الإدراك حين يصطدم الضوء بصندوق بعينه، وسيكون ذلك الإدراك على وعي بالماضي والمستقبل تمامًا كوعينا به. ولأغراض روايته، يمضي هويل إلى اقتراح أنه قد يكون ثمَّة أكوام عديدة من الكوَّات، يناظر كلٌّ منها وعيًا إنسانيًّا مختلفًا: «ثمة مجموعة من تلك الكوات تطلق أنت عليها «أنت»، وأخرى أطلق عليها أنا «أنا» … لا يمكن أن يكون هناك إلا إدراك واحد، وإن كان لا بد أن يكون هناك أكثر من مجموعة من الكوَّات». لكنني أريد أن أنطلق بالفكرة نحو اتجاه جديد، وأجعلها مواكبةً لبعضٍ من أحدث التصورات حول طبيعة الزمن.

لقد استلهمت رؤيتي المغايرة لهذا الموضوع من رواية «وولفبين» لفريد بول وسيريل كورنبلوث، التي ظهرت في كتاب للمرة الأولى في عام ١٩٥٩ (وكانت قبل ذلك بعامين قد نُشرت في حلقات مسلسلة في مجلة «جالاكسي») لكنني قرأتها في أواخر ستينيات القرن العشرين، عقب قراءتي لرواية هويل. يظهر في تلك القصة شكل من أشكال الذكاء الفضائي يملك معلومات مختزنة على سلسلة من الحواسيب اللوحية قابعة في كومة مختلطة. ونظرًا إلى أن ذلك الذكاء يتمتَّع بما وصفه المؤلفان بأنه قدرة تنبؤية متواضعة، فإن أي حاسوب لوحي يلتقطه سيكون هو الحاسوب الذي يرغب في قراءته. وقد أوحى لي هذا (وكذا حقيقة أن زوجتي أيضًا في ذلك الوقت كانت تعمل أمينة مكتبة) بنسخة من التشبيه الذي توصَّل إليه هويل، قائمة على فكرة المكتبة.

تخيَّل مكتبةً تُوصف فيها أحداث كل سنة (أو كل أسبوع أو كل يوم أو أيًّا ما كان) في سلسلة من الكتب مرتَّبة بعناية في أرففٍ متراصة عبر جدرانها. وكما هو الحال مع كوَّات هويل، يحوي كل كتاب معلومات موثوقة حول محتويات الكتب الأدنى منه في التسلسل، ومعلومات مبهمة وغير موثوقة حول الكتب الأعلى منه في التسلسل. لكن ليس بالضرورة أن تكون الكتب متراصة بعناية ونظام على الجدران. جرِّب أن تلقي بها في شكل كومة مختلطة بغير نظام على الأرض، وأيًّا كان الكتاب الذي ستلتقطه لتقرأه، ستجد أنه لا يزال يحوي معلوماتٍ موثوقة حول الكتب الأدنى منه في التسلسل ومعلومات مبهمة وغير موثوقة حول الكتب الأعلى منه في التسلسل. لست في حاجةٍ حتى لأن تتمتع بقدرة تنبؤية متواضعة. فحتى لو أُزيلت كل الصفحات من الكتب وكانت متناثرة على الأرض، ستظل «القصص» صالحة للقراءة، بشرط أن تحمل كل صفحة رقمًا يشير إلى الكتاب الذي تنتمي إليه ورقمًا آخر يشير إلى موضعها في الكتاب. وكل صفحة من صفحات الكتب ستتوافق مع «لحظة راهنة».

«في واقع الأمر، نحن نظنُّ أن الوقت «يمر»، أو يتدفَّق أمامنا، لكن ماذا لو كنا نحن مَن نمضي إلى الأمام، من الماضي إلى المستقبل، في حالة اكتشاف دائم لكلِّ ما هو جديد؟ سيكون الأمر أشبه قليلًا بقراءة كتاب. إن محتوى الكتاب موجود دفعة واحدة بين دفتيه. لكنك لو أردت أن تقرأ القصة وتفهمها، ينبغي أن تبدأ بالصفحة الأولى، وتمضي قُدمًا بالترتيب دائمًا. وهكذا سيصنع الكون كتابًا غاية في الروعة، وسنكون نحن قرَّاء غاية في الضآلة.»

أورسولا كيه لي جوين، رواية «النازحون»

لا يختلف هذا في واقع الأمر عن الطريقة التي تعمل بها ذاكرة الكمبيوتر. فحين أحفظ كتلةً نصيةً ما، كهذا الفصل مثلًا، فإنها لا تُوضع داخل جهاز الكمبيوتر في شكل مجموعة مرتَّبة من الأصفار والآحاد، بل تُخزَّن في شكل كتل، قطعة هنا وقطعة هناك، في أي مساحات متاحة من الذاكرة. ويكون لكل كتلة علامة أو عنوان يحدِّد الموضع الذي تنتمي إليه تحديدًا في السردية بأكملها. والمصادفة أنني أكتب كل فصل على حدة (ليس بالضرورة بالترتيب الذي تظهر به الفصول في النهاية) وأحفظها على نحوٍ منفصل، وأراجع بعضها بين الحين والآخر، حتى أنتهي من الكتاب. ثم أجمعها في ملفٍّ واحد لأُخرِج الكتاب في صورته الكاملة. لكن حتى هذه المرحلة الأخيرة لا تقتضي أن يجمع الكمبيوتر الفصول معًا في كتلةٍ واحدة؛ إذ يُعاد تصنيفها بحيث أرى سردية مستمرة لها بداية ومتن ونهاية حين أفتح الملف على شاشة الكمبيوتر أو حين أطبعها (وهو أمر نادر الحدوث).

بعد نحو ثلاثين عامًا من قراءتي لرواية «الأول من أكتوبر متأخر للغاية» وكذا رواية «وولفبين»، التقيت شخصًا أمهر مني كثيرًا أرسى كلَّ هذه الأفكار على أساسٍ أكثر متانة. هذا الشخص هو جوليان باربور، ويمكنك أن تجد أفكاره في كتابه «نهاية الزمن» الذي نُشِر في عام ١٩٩٩.٦ يتناول باربور لغز ما يُطِلق عليه «الإحساس البالغ القوة بأن للزمن اتجاهًا»، لكنني ناقشت أمرَ سهم الزمن في تصوري الثاني؛ لذا لن أخوض في التفاصيل هنا. وتتمثل استعارته المفضَّلة للتعبير عن أحد أشكال فكرة الكون كوحدة زمكانية في سلسلة من «لقطات ثلاثية الأبعاد»، قد تحتوي على ذكريات للقطاتٍ أخرى. وكما كتب في تسعينيات القرن العشرين، فقد أشار إلى أن بالإمكان إنتاجَ هذه اللقطات الثلاثية الأبعاد «إذا ما أخذ أشخاص مختلفون كُثُر لقطات عادية ثنائية الأبعاد لمشهدٍ ما في اللحظة ذاتها»، واستخدام تلك اللقطات للخروج بصورة ثلاثية الأبعاد للعالم. وبعد عقدين من الزمن، أصبح هذا إجراءً روتينيًّا، يحبه المعلنون بصفة خاصة؛ إذ يستخدمون مجموعةً من الكاميرات يتصل بعضها ببعض لتصوير حركة شيء، كتصوير بجعةٍ تطير، وذلك من أجل الخروج بصورةٍ يمكن بالفعل النظر إليها من أبعاد ثلاثة. يقول باربور إن الفضاء هو «الصمغ» الذي يلصق هذه اللقطات معًا. فالعالَم يتكوَّن من «لحظات راهنة» يلتصق بعضها ببعضٍ على هذا النحو.
figure
جوليان باربور

ديفيد باركر/ساينس فوتو لايبراري

لكن اللحظات الراهنة أعقدُ بكثير من مجرد كونها لقطات، ويفضِّل باربور مصطلح «كبسولة الزمن» لوصف حالة العالَم فيما نُطلق عليه أي لحظة في ظل افتقارنا إلى مصطلح أفضل. كل شيء بدءًا من ملحوظةٍ تذكيرية كُتبت على قطعة من الورق إلى الأحفوريات في الطبقات الجيولوجية أو صور المجرَّات البعيدة التي سجَّلها تليسكوب هابل الفضائي يشكِّل سجلات حقيقية توجد في كبسولات زمنية؛ إلا أن كلَّ فرد منا يختبر كبسولته الزمنية الخاصة به، لا كبسولة شخص آخر. «كل هذه الوفرة المذهلة من الأدلة على الزمن والتاريخ مشفرة في شكل تكويني ثابت، في بنًى لا تزال قائمة». وعلى حد وصف باربور، فإننا «نؤمن» بفكرة الزمن فقط؛ لأننا نختبر العالم في هيئة لقطة ثلاثية الأبعاد. «لا وجود للوقت. كلُّ ما هو موجود هي أشياء تتغير». وشكل التغيير مشفَّر في تلك «الأشياء» الثابتة بالطريقةِ نفسها التي يمكن من خلالها نقل انطباع عن حركةٍ في صورة واحدة، «على سبيل المثال [القارب البخاري] «آريال» في العاصفة في لوحة تيرنر.»

يطلِق باربور اسم بلاتونيا على «أرض اللحظات الراهنة»، تيمنًا بالفيلسوف أفلاطون، الذي وجَّه إلى أن الأشياء الحقيقية الوحيدة هي أشكال أو أفكار مثالية، لا نحظى إلا بلمحة غير كاملة عنها.

في كل مكان في بلاتونيا توجد لحظات من الزمن يؤلِّف فيها فاجنر مقطوعةَ «تريستان وإيزولدا» ويصلِح فيها روَّاد الفضاء تليسكوب هابل الفضائي، وتبني الطيور الأعشاش، وأخبز أنا الخبز.

حتى الآن، لا تختلف هذه الصورة كثيرًا عن صورة هويل، أو حتى عن الفكرة المألوفة الخاصة بالكون كوحدة زمكانية وخطوط العالم المستمرة. لكن كتاب باربور يأتي بنهاية إشكالية غيرِ متوقعة، تتعلَّق بميكانيكا الكم مثل إشكالية سفر الضوء بأسرعَ من سرعة الضوء. في مؤتمر عُقِد في أكسفورد في عام ١٩٨٠، ألقى عالِم الفيزياء الكبير جون بيل خطابًا وصف فيه طريقة غير مألوفة لتفسير التاريخ، تتسق مع قواعد ميكانيكا الكم.٧ فقد أشار إلى احتمالية وجود سجلات لتواريخ كثيرة، من دون أن يكون ثمة تواريخ بالفعل. على سبيل المثال، حقيقة أن لدينا أحفوريات للديناصورات هي حقيقة واقعة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن ثمة ديناصوراتٍ كانت موجودة بالفعل. في ذلك المؤتمر، قال بيل إن الاحتمالية ينبغي ألا تُؤخَذ على محمل الجِد بالضرورة، حتى وإن كانت متسقة مع كل شيء نلاحظه. غير أن باربور، الذي كان أحد الحضور في المؤتمر، سلك الطريقَ المعاكس لذلك. تخبرنا الأفكار الكلاسيكية (في الفيزياء يعني هذا أيَّ شيء — بما في ذلك نظرية النسبية العامة — قبل ظهور فيزياء الكم) بأن ثمة تاريخًا مميزًا واحدًا هو ما أدَّى إلى الوقت الحاضر. كان طرح بيل أنه قد لا يكون ثمَّة ما يُعرف بالتاريخ. أما فكرة باربور، فتذهب إلى أن تواريخَ كثيرة مختلفة أدَّت إلى الوقت الحاضر. وهذا يشمل ما يُعرف عادة بتفسير العوالم المتعدِّدة لفيزياء الكم ومفهوم الأكوان المتوازية. ويدخل على الخط أيضًا كوَّات فريد هويل، التي تقدِّم لنا طريقة أخرى للسفر عبر الزمن، وسأشرح جوهر هذه الطريقة الآن.

هوامش

(١) ورد في الإصدار المؤرَّخ بتاريخ الثاني عشر من فبراير ١٩٢٠. هذا المقال موقَّع بالحرفين «دبليو جي» فقط، ولا يوجد سجلٌّ للكاتب في أرشيف مجلة «نيتشر»؛ وأنا أعرف ذلك لأنني كنت أعمل في تلك المجلة وبحثت في الأمر.
(٢) توجد عدة تراجم مختلفة للنص الألماني الأصلي، لكن هذه الترجمة تبدو الأقرب إلى روح كلمات أينشتاين.
(٣) يسمَّى الآن معهد الفلك، بعد أن استوعب المراقبين بين صفوفه.
(٤) لست راغبًا في التصحيح لهويل، لكنه يقصد «لولبي».
(٥) أيًّا كان ما تعنيه عبارة «للمرة الأولى» في هذا السياق!
(٦) في النسخة الورقية، وبعد أن أخبرته بشأن رواية «الأول من أكتوبر متأخر للغاية»، أومأ باربور لهويل. حاشيتي سيخلِّدها التاريخ!
(٧) انظر كتاب «الممنوع والمسموح في ميكانيكا الكم». كان بيل أحدَ أكثر المتعمقين في تأويل نظرية الكم، وعلى الأرجح أنه لم ينل جائزة نوبل فقط بسبب وفاته المبكرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤