القسم الثاني

(١) أدونيس وعشتروت

المقدمة

لم يكن أدونيس وعشتروت إلهين فينيقيين حسب، وإنما كانت عبادتهما مزدهرة في كل الأصقاع التي أثر فيها الفكر الفينيقي والمدنية الفينيقية، ويعتقد المستشرق ج. فرايزر في كتابه «أدونيس» أن عبادة هذا الإله نشأت عند الشمريين، ثم انتقلت إلى بابل فإلى فينيقية في القرن السابع قبل المسيح.

واسم أدونيس الأصلي «تموز»، ومعناه في اللغة الشمَّرية: «الابن الحقيقي للماء العميق»، أما لفظة «أدونيس أو أدون» فساميَّة معناها «سيدي» كانوا يلقبون بها «تموز» احترامًا له، فجعلها اليونانيون علمًا لهذا الإله، وتناسوا اسمه الأصلي.

ويزعم القبرسيون القدماء أن أدونيس هو ابن ملكهم سينيراس، وهذا الملك هو الذي وضع شريعة الزناء المقدس في معبد أدونيس وفينوس، في جزيرة بافوس، الواقعة من قبرس في جنوبها الشرقي، وقد تولى أدونيس المُلك بعد أبيه، وليس اسمه إلا لقبًا حمله كل أبناء الملوك الفينيقيين في جزيرة قبرس.

وأدونيس هو أحد الآلهة الذين رمزوا إلى القوات المنتجة في الطبيعة، وقد اعتبروه روح الحقل، ويوائم موته وبعثه تبدُّل الفصول أو تواري الحياة النباتية في الشتاء وظهورها في الربيع، ومغزى خرافته هو الكفاح بين قوات الحياة وقوات الموت، بين العالم الأرضي وعالم تحت الأرض، حتى إنهم زعموا أن سيطرة الحب تقف في أثناء غياب أدونيس في الجحيم، فينقطع البشر والحيوانات عن إنتاج الجنس، وتُهدد الحياة كلها بالفناء.

أما عشتروت فإلهة أشركها عبَّادها في كل الأعمال الجنسية في المملكة الحيوانية، فهي المولدة لكل شيء والممثلة لقوة توليد الطبيعة، وليست عشتروت إلا عشتار البابلية وأفروديت اليونانية وفينوس الرومانية والزهرة العربية، فأسطورة أدونيس إذًا شمرية بابلية فينيقية قبرسية يونانية رومانية، وقد استلهمها الشعراء منذ الزمان القديم وتغنوا بها وتفننوا في تلوين صورها ما شاء لهم خيالهم.

المعجم

  • الشمريون: شعب كان في فجر التاريخ ينزل في السهول المنبسطة بين دجلة والفرات قرب الخليج الفارسي، وقد أصيبت بلادهم قبل المسيح بثلاثة آلاف سنة بطوفان عرف في التاريخ بالطوفان الشمري، فاجتاحها وهدَّم مدنها التي كانت في ملء ازدهارها، ولكنها لم تلبث أن عادت إليها الحياة، وانبعثت مدنها وفيها «نيبور» المدينة المقدسة، ثم أخذت تطغى عليها رمال البحر، فكافحت طغيانها فلم تستطع ردها، حتى تلاشت نفسًا في نفس، وبادت مدنيتها ونشأت على أنقاضها المدنية البابلية.
  • فينوس: هي بنت جوبيتر والحورية ديونه بنت أورانوس (السماء) وريا (الأرض)، وكانوا يزعمون كذلك أنها تولدت من زبد البحر، فخرجت منه في صدفة لؤلؤية عارية ترفع بيديها شعرها الطويل المبلل، ومعنى اسمها الغرام أو الوصال والعرب يسمونها الزُّهَرة، ويسميها الفينيفيون عشتروت، وقد سميناها — في الأسطورة — فينوس حينما كان مدار عملها خارج لبنان، ثم سميناها عشتروت منذ اجتمعت بأدونيس في أفقا حتى آخر الأسطورة، وعشتروت أو فينوس هي إلهة الحب والتهتك وربة الجمال.
  • كوبيدون: هو إيروس اليوناني، إله الحب، وكانوا يمثلونه ولدًا أشقر جميلًا مجنحًا مسلحًا بقوس، وحاملًا على كتفه جعبة ملأى بالسهام، وعيناه معصوبتان يرمي القلوب بسهامه، فتقع حيث اتفق لها الوقوع.
  • المرُّ: مادة صمغية عطرية كان عبَّاد أدونيس يحرقونها في معابده؛ لأنها دموع الشجرة التي تحولت إليها أمه.
  • فُرْسِفين: ملكة الجحيم. ومعنى اسمها مميتة، جلَّابة الموت. أبوها زفس «جوبيتر» وأمها ذيتيمير «سيريس» أي الأرض الوالدة إلهة الزروع والخصب والحصاد.
  • ديانا: أو فيبه. كانت إلهة تمثل القمر. إلهة برية تطوف في الغابات والجبال الموحشة تصحبها عصبة من الحوريات.
  • قبرس: لفظة يونانية معناها حِنَّاء.

(٢) أسطورة أدونيس والشعراء

نثبت على الصفحات التالية ما أوحته هذه الأسطورة إلى الشعراء في بعض الآداب العالمية.

في الأدب البابلي

نواح القيثارات على تموز
لما توارى ناحت هاتفة: يا ولدي!
لما توارى تنهدت زافرة: يا سيدي!
لما توارى ارنَّت معولة: يا سروري ودليلي!
لما توارى أنَّت حسرة.
أرسلت أنتها في «إِيانا» بين الجبال والأودية.
عويل أسرة لا ربَّ لها، هكذا عويلها.
نواح مدينة لا سيِّد لها، هكذا نواحها.
تنوح على العشب لا جذور له.
تنوح على القمح لا سنابل له.
بقي بيتها لا فرح فيه.
هي امرأة منهوكة وولد ملول ذوى قبل أوانه.
تبكي النهر الكبير حيث لا تنمو صفصافة.
تبكي حقلًا لا ينبت قمح ولا عشب فيه.
تبكي غديرًا هجرته الأسماك.
تبكي بقاعًا عارية من القصب.
تبكي الغابات غابَ الأثْل عنها.
تبكي السهل لا ينهض السرو فيه.
تبكي البستان الظليل لا قفير فيه ولا كرمة.
تبكي المروج المعرَّاة من الأزهار.
تبكي قصرًا غادرته الحياة الطويلة.

في الأدب الإنكليزي

لقاء فينوس وأدونيس لشكسبير

ما كادت الشمس تستقبل بوجهها القرمزي آخر وداع من الفجر الباكي حتى مضى أدونيس بخدَّيه الورديين إلى الغاب، كان يحب الصيد ويهزأ بالحبِّ، ومشت عشتروت الكئيبة إليه، ودنت منه بجرأة العاشق قائلة: أنت يا من أنت أجمل مني بثلاث مرات، يا زهرة المرج الطريَّة التي لا شبيه لطيبها، أنت الذي يكسف حسنه حسن حوريات الماء. يا ألطف الخلق! إنك أشد بياضًا من الحمام وأكثر احمرارًا من الورد، والطبيعة التي صورتك تناقض نفسها في قولها: إن العالم ينتهي بانتهاء حياتك.

تنازل أيتها الآية العجيبة وترجَّل عن جوادك واربط في سرجه عنانه المحبوك من فوق رأسه المتعجرف، وإذا أصغيت إليَّ وأوليتني هذه المنة علمتك ألف نجوى لذيذة عذبة. تعال واجلس حيث لا أفعى دنَّست الأرض، وحين تقعد أغمرك بالقبل، لماذا أنت مطبق شفتيك لا تشبعهما من القبل، تجوِّعهما مع أنهما خصبتان بالنضارة؟

قالت هذا وأمسكت كفه الممتلئة حياة وهي ترتجف غرامًا، ثم جمعت قواها وهي في ملء اضطرابها لتحدره عن فرسه، أمسكت لجام الفرس بيد، وبالأخرى ذاك الصبي الطري وقد احمرَّت وجنتاه حياء وأظهر بحركة من شفتيه نفوره، كانت عشتروت الممتلئة شهوة محمرة كالجمرة لاشتعالها بحرارة الحب، وكان هو باردًا محمر الوجه من الخجل، ربطت فرسه وحاولت ربطه بقوتها البدنية لا باستسلامه إليها.

من قصيدته «أدونيس»

في الأدب الفرنسي

بكاء فينوس على أدونيس للافونتين

إن حبي لم يستطع أن يحبِّبك بالحياة، تتركني أيها القاسي، فعلى الأقل أظهر أنك تحس وداعي المحزن، انظر بأي ألم أصيبت حبيبتك، ويلاه! بكيت كثيرًا ولكنه لا يسمع نواحي، إن ليلًا أبديًّا يكرهه على تركي، فلا دموعي ولا تنهداتي تستطيع إمساكه، وليتني أقدر أن أتبعه إلى تلك الأماكن المظلمة.

أيها المقدور إذا كنت قد شئت أن تراه يفنى سريعًا، أترى من الواجب إكراهي على أن لا أموت أبدًا؟

يا فينوس التاعسة، ماذا تفيدك هذه الدموع؟ تبجَّحي الآن بسلطان مفاتنك! إنها لم تستطع أن تعصم حبك من الموت.

الوداع إذًا يا ذا النفس الجميلة!

احمل إلى ما بين الأموات هذه القبلة المشتعلة.

إنني لن أراك أبدًا، فالوداع يا أدونيس العزيز.

من قصيدته «أدونيس وعشتروت»

في الأدب اللبناني

من خطاب على لسان أدونيس لهكتور خلاط

ما دام جسدي سيتحول يومًا إلى تراب، أودُّ ساعة أنحدر إلى الجحيم، أن أجتاز بخطوة المتكبر عتبة القبر الباردة، حتى لا يبدو للفانين ميت أجمل مني. وحينما تستعاد ذكرى صورتي المتنائية، بشرية كانت أو فوق البشرية، وهمية أو حقيقية، فعذارى صيدون وغرانيق صور يحلمون بأن يسيروا في موكبي الذهبي، وهم موقنون من أنهم في اتباعهم أثري يصلون، دون عائق، إلى الشواطئ المعتمة التي تحوِّم عليها الأطياف الشاحبة، والشعراء الخلَّص، الذين لا يؤمنون بسوى الحلم، يجهدون أن يتغنَّوا في شعرهم، برزيئتي على قيثارتهم المجنَّحة، باذلين قواهم في إذاعة اسمي على كل ريح.

وهكذا حين أنام نومة الأبد كاسف اللون مشوَّهًا متجلِّي الصورة تمجدني أناشيد البحارة، وتبكي علي شبَّابات الرعيان، وأُتَّخَذُ موضوعًا يتبارى فيه الشعراء والنائحات، وتغمرني الطيوب والأشعار المتعالية حتى النجوم المنطفئة، أكون، لضيق جسدي عن استيعاب روحي، قد خلعت ثوبي البشري وأنا مكلل بالنضار وفي يدي سعفة نخل وجثماني مكفن بالأرجوان تحت أرزة نفسها أبدية الاخضرار، خلعت ثوبي البشري هاربًا من هذا العالم الباطل لأصير إلهيًّا.

من قصيدته «أدونيس»

وصف أدونيس

للدكتور حبيب ثابت
يا إله الجمال والحب والسحر
حلالًا ويا حبيب العذارى
جاءك الكون ساجدًا وتمنَّى
لو يصير الجمال ربًّا فصارا
مسح الليل خصلتيه بعينيك
مرارًا حتى أغار النهارا
والنجوم الزهراء في جبهة الشـ
ـرق تمنَّت لو أصبحت لك دارا
وتمنَّى الشقيق في كل وادٍ
لو تملَّى من وجنتيك احمرارا
وتمنى الحمام في كل طوقٍ
لو تهادى عن جانبيك وطارا
وتمنى الغصن المصفِّق لو سا
ر صباحًا إلى حماك، فسارا
أنت يا جمرة القلوب على الشوق
ويا قِبلة الهوى كيف دارا
جعلوا الشعر في جمالك غمزًا
والقوافي المؤنَّثات ستارا
من قصيدته «عشتروت»

(٣) قدموس وأوروبا

المقدمة

أسطورة قدموس فينيقية يونانية يمثل فيها زفس، رب أرباب الأولمب وإله المطر والريح والصاعقة، وزوجته هيرا الإلهة الحامية للزواج، دورًا عظيمًا، ثم تبنَّاها الرومان فجعلوا جوبيتر وزوجه جونون يحلِّان فيها محل زفس وهيرا، وقد ذكر هذه الأسطورة كثيرون من المؤرخين منهم هيرودوت وسيك وبوسانيا ونقولا الدمشقي، ونظمها كثيرون من الشعراء شعرًا، وأشار إليها هوميروس، وقصها الشاعر اللاتيني أوفيد بين الأساطير التي نظمها في كتابه «التحوُّل». وقدموس فيها بطل لبناني أبوه آجينور ملك صور، وأوروبا أخته، وهو عند علماء الميثولوجيا رمز تأثير حضارة الفينيقيين وثقافتهم في حضارة الإغريق وثقافتهم الفطريتين، ثم في حضارة أوروبا وثقافتها، وإليه يعزى نشر العمران في تلك الأصقاع، وإذاعة فنون بناء المدن وكدن الثيران إلى المحاريث، والفلاحة، واستثمار المعادن والمناجم، واختراع الأبجدية ونقلها إلى اليونان، وينسب إليه كذلك كل ما يتعلق بما اقتبسته الحضارة الإغريقية من الحضارة الفينيقية.

المعجم

  • قدموس: لفظة يونانية معناها: القاهر المظفَّر، وأوروبا لفظة ساميَّة أصلها عَرُوبَا ومعناها الغرب، ويقول هيرودوت: إن أوروبا الفينيقية هي التي أعطت القارة الأوروبية اسمها؛ لأن هذه القارة لم يكن لها اسم في ذلك الزمان البعيد.
  • زفس: هو جوبيتر الرومان ومعنى اسمه: المحيي أو الهواء الأعلى، ويسميه العرب المشتري.
  • هيرا: هي جونون الرومان ومعنى اسمها: الاتحاد الزوجي ورئيسة المجتمع. وهي أخت زفس وزوجته.
  • أوفيد: واسمه نازون من أسرة ستيفاليه، وُلدَ في سولمون عاصمة مملكة أستوريا في إيطاليا، سنة ٤٣ق.م. وكان مولده في عهد المثلث الروماني: أوكتافيوس، وأنطوان، وأوريبيدس، عهد الدسائس والخيانات والجرائم والحروب. ودرس على الخطيب الروماني ميسالا، ونبغ في الشعر حتى قال عنه سينيكا: إنه الشاعر العبقري الفتان. كان شاعر الشبيبة السعيدة، شاعر الأمل والحب الطروب والجمال والتهتك والمرح والأناقة، وكان العاشق الحقيقي في الجاهلية اللاتينية، يحب الحياة ضحاكة ويسعد بحياته معتقدًا أن الشباب أبدي، وكان في أول أمره يتمتع بعطف الإمبراطور أوغسطوس، غير أن هذا الإمبراطور لم يلبث أن نفاه، في السنة التاسعة للمسيح، لأمر لا يزال سرًّا، فترك روما وزوجته وابنته بيريلا وسافر باكيًا شاكيًا إلى بلاد السيت، شمالي البحر الأسود، بلاد الجيت والسرمات البرابرة، ومات هنالك سنة ١٦ للمسيح.

    وبينما كانت الإمبراطورة كاترين الروسية العظيمة تسيح في مملكتها الواسعة عثرت بين خرائب مدينة «القتل» التي سميت بهذا الاسم؛ لأن الخرافات تقول: إن الساحرة ميدي مزقت هنالك جسد أخيها، عثرت الإمبراطورة على قبر مهمل، فوقفت قربه حالمة، وأرادت أن تعرف من يرقد فيه بين العواسج، فقيل لها: إنه شاعر روماني منسي اسمه. وكانت كاترين تعرف تاريخ إمبراطوريتها، وهي تلميذة فولتير وصديقته، فعرفت أنه قبر أوفيد فترقرقت دمعة في عينيها، دمعة مجيدة بليغة في عيني امرأة لم تكن تبكي إلا نادرًا، وهكذا بعد ثمانية عشر قرنًا غسلت الإمبراطورة المطلقة السلطة بدمعتها خطيئة أوغسطوس الإمبراطور المطلق السلطة.

  • فينيقية: بلاد البلح.
  • بوصيدون: هو نبتون الرومان، أخو زفس وآذيس (بلوتون الرومان)، ومعنى اسمه غير المنظور، وكلهم أبناء قرونوس أي المتمم (زحل العرب وساتورن الرومان) إله الزمان، اقتسموا الكون فكان لزفس السماء والأرض، ولآذيس الجحيم فهو إله الظلمات والسافلين، ولبوصيدون البحر ذو الزبد الأبيض، ويرمز بوصيدون الفينيقي إلى ازدهار ملاحة الفينيقيين الحربية والتجارية.
  • مركور: هو هرمس اليونان وعطارد العرب، أبوه جوبيتر وأمه الحورية مايا، كان رسول الآلهة إلى الأرض وإله البلاغة والتجارة واللصوصية وحامي الطرق، وكان معهودًا إليه بأن يقود نفوس الموتى إلى الجحيم، وقد مثَّلوه لابسًا قبعة ذات جناحين وفي رجليه حذاء لكل فرد منه جناحان.
  • الأولمب: جبل بين مقدونيا وتساليا كانوا يزعمون أنه مقام الآلهة، أما عرش زفس رب الآلهة فلم يكن فيه، وإنما كان على قمة جبل أيدا (المشرق) في جوار طروادة.
  • أكريت: معنى اسمها المعتدلة.
  • أبولون: إله النور والفنون الجميلة والكهانة عند اليونان والرومان، أبوه جوبيتر وأمه لاطونة (الليل) وهو وأخته ديانا إلهة الصيد توأمان، كان له معبد في دلف على سفح جبل البرناس مبنيٌّ مقدسه فوق شقٍّ من الأرض ينبعث منه بخار يحدث لمتنشَّقه سكرًا موقوتًا، فكانوا يُقعدون فوقه نساء لا تقلُّ سن الواحدة منهن عن الخمسين ويسمونهن بيثي، وكانت هؤلاء النسوة هواتف أبولون يعلنَّ إرادته ويتعاقبن في القعود فوق الشق في المقدس السري بعد أن يتطهرن بأن يشربن من ماء ينبوع كاسوتيس ويعلكن أوراق غار، وكانت الواحدة منهن تجلس فوق الشق على كرسي ذي ثلاث قوائم، ويقعد قربها كاهنان، فإذا أخذتها النشوة وجعلت تهذي، التقط الكاهنان هذيانها وفسراه شعرًا بأمور معقولة، على أنهم كانوا إذا أشكل عليهم شيء أجابوا عنه بجواب مبهم، وكثيرًا ما كان أصحاب المآرب من كبار الناس يتفقون والكهنة على مبلغ من المال ليأخذوا منهم ما يريدونه من جواب على أسئلتهم، واسم أبولون معناه الهدَّام ويلقبونه بفيبوس أي المنير.
  • المريخ: هو آريس اليونان ومارس الرومان، أبوه جوبيتر وأمه جونون، وهو إله الحرب والقتل والتدمير ومعنى اسمه اليوناني «الحرب».
  • الثعبان: مأخوذ وصفه مع بعض تصرف عن أوفيد.
  • آثينا: وتلقب بفالاس، هي مينرفا الرومان تولدت من دماغ جوبيتر، كانت إلهة الحرب والحكمة والفنون والعدل والصحة العقلية والبدنية، إلهة عذراء حامية الأسرة والمدن.

    علَّمت اليونانيين زراعة الزيتون، وكانت بارعة بالنسج، وخصص بها من الطيور البومة، كانوا يمثلونها فتاة جميلة على رأسها خوذة وفي يديها حربة وترس، وعلى صدرها درع من جلد المعزاية أمالتِه التي غذت جوبيتر بلبنها.

  • تريتون: هو ابن بوصيدون (نبتون) إله البحر، وأمفيتريت بنت الأوقيانوس الإله الذي لا إله فوقه إلا زفس، ومعنى اسمه السريع الجري.
  • هيفِست: معناه برَّاق، هو فولكان الرومان، إله النار ومثير البراكين والصواعق وحداد الآلهة.
  • أكتيون: ربيب خيرون (الأدنى) القنطور (مثير الثيران) الشهير، والقنطور رجل حتى أسفل بطنه بمؤخرة فرس ذكر وأربع قوائم، وخيرون هو ابن قرونوس وأخو زفس وأمه فيليريا بنت الأوقيانوس، أحبها قرونوس إله الزمان ففاجأته وإياها زوجه رِيَا (الأرض) والدة زفس وهيرا، ففرت فيليريا إلى الجبال، وولدت خيرون، فسكن هذا في مغارة في سفح جبل بليون، وكان يتميز من سائر القناطرة بطبيعته المحسنة وحبه للعدالة وعنايته بالجرحى والمرضى، ويعتبر أنه أحد مخترعي الطباعة.
  • ديانا: أرطميس اليونان وتلقب فيبه، إلهة الصيد، إلهة عذراء شديدة المحافظة على عذرتها وهي ابنة جوبيتر ولاطونه وأخت أبولون.
  • بان: معناه الريح، هو ابن مركور ورب الرعاة والقطعان يمثلونه برأس رجل له قرنان وأسفل جسمه يشبه جسم التيس، ويضعون في يده عصا.
  • نيفيله: إلهة ثنوية.
  • فريكسوس وهلَّه: كانت تبغضهما أينو زوجة أبيهما أتاماس، فأرسلت لهما أمهما نيفيله خروفًا ذا جزة ذهبية فحملهما وطار بهما في الهواء، فزلت هلَّه عن ظهره، وسقطت في البحر، فحمل اسمها «هلَّسبونت» (الدردنيل)، أما فريكسوس فنزل في بلاط أتيس ملك كولخيد وذبح الخروف قربانًا لجوبيتر، وأهدى جزته الذهبية للملك أتيس.

(٤) مينوس وأريان

المعجم

  • مينوتور: معناه نصف ثور.
  • إيريس: رسولة جونون، ومعنى اسمها عاقدة، وهي من الإلهات الثنويات، كانت تحمل رسائل جونون إلى الأرض، فتنحدر في شكل قوس ملون بأجمل الألوان.
  • باخوس: هو ذيون اليونان إله الخمر والكرمة والطرب واللهو، كان عبَّاده يمثلونه وعلى رأسه قرنان؛ لأنه كان في رحلاته يلبس جلد تيس؛ ولذلك كانوا يقربون له التيوس في الأعياد الباخوسية، وقد أعطي اسم التيس الأناشيد التي كانت تنشد إكرامًا لهذا الإله، فقيل لها «تراجيدي»، ومعنى هذه اللفظة «أنشودة التيس»، ثم إن الشاعر اليوناني تسبس أدخل على هذه الأناشيد الحوادث المحزنة فكان ذلك أصل التراجيدي التي نسميها بالعربية المأساة، كما كان تمثيل الأسرار المقدسة عند مسيحيي إسبانيا الأقدمين أصل المسرح الأوروبي.

(٥) ديدون الصورية

المقدمة

يعتبر بعض المؤرخين ديدون الصوريَّة بانية قرطاجنة شخصًا أسطوريًّا ولدَّته مخيلة الشعب الفينيقي، ويراها آخرون شخصًا حقيقيًّا غامر مغامرة جريئة أدَّت إلى تأسيس تلك المستعمرة الفينيقية في الشمال الأفريقي، المستعمرة التي ملأ شعبها التاريخ العالمي بأعماله الحربية وبطولته وسيطرته التجارية زمنًا طويلًا.

وأسطورة ديدون فينيقية مغربية تبتدئ في صور وتنتهي في قرطاجنة، واسم ديدون الأصلي عليشار وليس «ديدون» ومعناه «الهاربة أو اللاجئة» إلَّا لقبًا لها لقبت به بعد فرارها من صور على أثر فتك أخيها بغماليون بزوجها سيشاربعل.

وفي قتل بغماليون لسيشاربعل قولان: أحدهما أن سيشاربعل كان ذا ثروة عظيمة فطمع فيها بغماليون وقتله ليستأثر بها. والقول الثاني أن بغماليون كان مهملًا شئون المستعمرات الفينيقية في أفريقية، ولم يكن يهتم بتدارك الاستعمار اليوناني في تلك الأصقاع، الذي كان يزاحم صور، سيدة التجارة والبحار في ذاك العهد، في مستعمراتها الأفريقية ويهدد تجارتها في جنوب أوروبا، ونفوذها الأدبي والفني، فرأى سيشاربعل، وهو أكبر كهنة ملكرت وأول شخص في المدينة بعد الملك، أن في عمل بغماليون هذا خيانة لمصالح صور وتفريطًا فيها، فألف حزبًا من الغاضبين على سياسة بغماليون، ودعاهم إلى تأسيس مركز قومي في الشمال الأفريقي من المغرب ليكون قاعدة تحمي السواحل، فعرف بغماليون بذلك وتوقع شرًّا، فدسَّ من رجاله من اغتال بعض رجال الحزب المعارض، ثم اغتال صهره زعيم المعارضة، فتزعمت زوجته عليشار الحزب وفرت بأصحابها وأموال زوجها وأموال مبعد ملكرت، ونزلت في بروجيتانه، قرب تونس، في مكان يعرف اليوم بدوار الشط، وبنت حصن برسا على تلال جون البحر، وعلى مقربة من أوتيكا لتزاحمها وتنتزع منها السيادة، فكان ذلك الحصن نواة لقرطاجنة، ولكنَّ عليشار لم تتمتع بثمرة عملها العظيم؛ لأن يارباس، ملك جيتول وزعيم القبائل البربرية، أراد الزواج بها فأبت وقتلت نفسها تخلصًا منه.

وقد زعم فرجيل الشاعر اللاتيني أن ديدون انتحرت حزنًا لفراق حبيبها إِنياس الأمير الطروادي، وذاك أن إنياس بن أنخيز وفينوس، إلهة الجمال والحب، فرَّ بعد سقوط طروادة بيد الإغريق، مع جماعة من الطرواديين فتقاذفت سفنهم العواصف حتى قذفت بهم إلى شواطئ قرطاجنة، فذهب إنياس إلى بلاط ديدون يستأذنها البقاء في أرضها إلى أن تجتمع سفنه التي بعثرتها العواصف فيرحل عنها، فأُخذت ديدون بجماله وبطولته وأحبته، وعطفت جونون ربة الأولمب على حبها، فأخرجتهما معًا إلى الصيد، ثم فجأتهما بعاصفة شديدة فلجآ إلى مغارة، وهناك باركت جونون زواجهما.

لكن فينوس أمُّ إنياس لم ترضَ عن هذا الزواج؛ لأنها كانت تخشى أن يبقى ابنها في قرطاجنة، وهي تعدُّه لإنشاء الشعب اللاتيني العظيم، فشكت أمرها إلى والدها جوبيتر، فأرسل ابنه مركور فحوَّل فكر إنياس عن حب ديدون، وبيَّن له عظم الرسالة التي سوف تتم على يديه، فأبحر إنياس، على دموع ديدون وتوسلاتها، قاصدًا إلى إيطاليا، فنزل بديدون حزن شديد أدى بها إلى الانتحار. وفي زعم فرجيل هذا كذب على التاريخ بثلاثمائة سنة ونيِّف، فإن الدكتور شوش ديدلبرغ بعد درسه زمان كسوف الشمس الذي وصفه هوميروس في إِنياذته، ومقابلته إياه بأزمنة الكسوفات التي تعاقبت بعده، تمكن من تحديد بداية حرب طروادة في سنة ١١٩٧ق.م. ونهايتها بسقوط المدينة في يد الإغريق في سنة ١١٨٧، في حين أن بناء قرطاجنة كان بين سنة ٨٦٠ و٨٨٣، ولا يمكن أن يكون إنياس قد عاش هذا العمر الطويل، إلا إذا كانت أمُّه فينوس قد منحته الخلود، وهذا لا أثر له في الميثولوجية اليونانية.

المعجم

  • صور: لفظة فينيقية معناها الصخرة، ويزعمون أن صور بُنيت سنة ١٢٥٢ق.م. ويقول المؤرخ اللاتيني جوستين: إن الصيدونيين الذين كانوا يحاربون في طروادة بنوها بعد رجوعهم إلى بلادهم.
  • قرطاجنة: بنيت سنة ٨٨٣ق.م. على الشاطئ الغربي من تونس الحالية على أنقاض مدينة صيدونية قديمة كان اسمها غامبه، في صدر جون عرف قديمًا بجون قرطاجنة، ويعرف اليوم بجون تونس، ويقول بعض المستشرقين: إن اسمها الفينيقي «قريتا حادت»، ومعناه «القرية الحديثة»، ويرجح الأب يوحنا شديد الكاهن الماروني العالم باللغات الشرقية أن اسمها الفينيقي «قريتا جَنْتا» ومعناه «قرية الجنَّات»؛ سُميت به لكثرة ما هناك من جنان وبساتين، بدليل أن تونس تلقب من أجل ذلك ﺑ «الخضراء»، وقد سماها اليونان «كارشيدون»، وسماها الرومان «قرطاجنة» وهذا الاسم تبنَّاه العرب.
  • الملك الفينيقي: كان الفينيقيون يسمون ملك المدينة أو حاكمها «شقطيم».
  • إيزابُل الصوريَّة: تزوجها آخاب ملك إسرائيل، فولدت له عَثَلْيَة التي وضع الروائي الفرنسي راسين من أجلها مأساة «أتالي»، بنت عثلية لبعل الفينيقي هيكلًا في السامرة عاصمة ملك زوجها، ونشرت فيها عبادة عشتروت.

(٦) سميراميس البابلية

المقدمة

تختلف الروايات بشأن سميراميس ملكة بابل، فالمؤرخون القدماء أمثال هيرودوت وستيزياس وديودور وجوستين يتكلمون عليها كملكة تاريخية، ويجعلونها في منزلة سامية تضارع منزلة سيزوستريس في التقاليد المصرية، ويعزون إليها أروع المباني والمنشآت البابلية وأفخمها، وقد زوجوها الملك نينوس مؤسس نينوى، ونسبوا إليهما معًا فتوحًا عظيمة.

ويقول هيرودوت: إن سميراميس كانت قبل نيتوكريس ملكة بابل الشهيرة بخمسة أجيال، تملكت نحو سنة ٧٥٥ق.م. ويظهر من هذا القول أن هيرودوت يعتبر الجيل ثلاثين سنة؛ لأن نيتوكريس هي أم نبو كدنصَّر تملك على بابل من سنة ٦٠٤ إلى سنة ٥٦١، فتكون سميراميس قد تقدمت نيتوكريس بزهاء مائة وخمسين سنة.

ويزعم بعض المؤرخين أنها كانت قبل المسيح بألفي سنة، وأنها ملكت اثنتين وأربعين سنة، وماتت في عام ١٩٦٤، ولكن الأكثرين يوافقون هيرودوت على أنها كانت في القرن الثامن …

وليس نينوس الذي زوجوها إياه إلا تشخيصًا لمدينة نينوى، أي أنهم توهموا من نينوى شخصًا سموه نينوس، ومسحة سميراميس الميثولوجية أظهر في أقوال المؤرخين من مسحة نينوس، فقد جعلوا أمها «ديركيتو» الإلهة السمكة، وجعلوا الحمائم تغذيها، ولكننا إذا نظرنا إلى ما قاله هيرودوت وستيزياس عنها نرى أنها في قول الأول أقرب إلى التاريخ وفي قول الثاني أقرب إلى الأسطورة.

ويرجح المؤرخون المتأخرون أن أسطورتها حيكت على أصل تاريخي، فقد كشف السر رولنسون، البحاثة الإنكليزي في الآثار الآشورية، تمثالين كتب عليهما بالقلم المسماري ما ترجمته:

إن هذين التمثالين تقدمة من حاكم آشوري للمعبود ينبو ليرعى الملك إيفالُّوش وزوجته سموراميت، ويطيل أيام ملكه، ويلقي السلام في بيته وبلاده وينصر جيوشه.

والملك إيفالُّوش هو ابن الملك جاماسب، وخلفه على عرش آشور ملك من سنة ٨٠٠ إلى سنة ٧٨١ق.م. ولما كان ذكر الملكة مع الملك في كتابةٍ على تمثالين يراهما الناس مما ينافي العادات الشرقية المرعية في تلك العصور، فقد استنتج من التنويه باسم سموراميت أن هذه الملكة كانت ذات شأن خطير وأن زوجها الملك لا بد من أن يكون قد أشركها في إدارة شئون المملكة.

وورود اسمها دون أية امرأة غيرها في تاريخ الآشوريين حمل مؤرخي اليونان ومخرِّفيهم على إطراء جمالها والإشادة بصفاتها ومآتيها، وعلى تحريف اسمها فسموها سميراميس، ولا يعارض هذا قول هيرودوت إنها أميرة بابلية، فقد تكون سموراميت أميرة بابلية الأصل تزوجها الملك إيفالُّوش ليؤيد سلطته بواسطتها على الولايات الجنوبية، فأشركها في ملكه فشيدت في بابل تلك المباني العظيمة.

غير أن المنقبين عن الآثار الآشورية يرون أن سميراميس إلهة أسطورية شرقية، هي عند البابليين كفينوس عند الرومان، ويقال: إن اسمها الآشوري «شاميرام» ومعناه «حمامة» سميت به لتوهمهم أن الحمائم احتضنتها وغذتها، وقيل: بل اسمها هو اسم إلهة آشورية قديمة كانوا يعتبرونها وسيطًا أسمى بين مبدأي الخير والشر، ويرونها رمز الحب والسعادة وفرح الرجال والظفر في الحرب، ويرى آخرون أن اسمها مأخوذ من اللفظة السنسكريتية «سميراما» ومعناها «المحب»، وأسطورتها رمز إلى عهد القوة الآشورية وتوسعها العظيم، وإلى مدنية السلالة الملكية الآشورية.

المعجم

  • دجلة والفرات: طول دجلة ١٨٥٠ كيلومترًا وطول الفرات ٢٣٥٠، وينبع دجلة في جبل نيفاتيس قرب مناجم سيوان في جبال أرمينية غير بعيد عن المكان الذي ينبع فيه الفرات، ويلتقي النهران قرب قرية القرنة، فيؤلفان شط العرب الذي يزيد طوله على ١٦٠ كيلومترًا خطًّا مستقيمًا، واسم دجلة في الآشورية أيديجلات واسم الفرات بوراتو.
  • بابل: لفظة بابلية معناها «باب الإله»، ولها معنى آخر هو التبلبل، ولعل للاسم علاقة بأسطورة تبلبل الألسنة.
  • بيلوس: هو أنليل الشمريين وبعل الفينيقيين أصله شمري ثم صار إلهًا ساميًّا، ومعنى اسمه السيد، وهو إله العالم البشري ومقرِّر مصيره.

(٧) بيرام وتسبا

المقدمة

هذه أسطورة شرقية بابليَّة نشأت حوادثها في منزلين متلاصقين في جوار السور العظيم الذي سوَّرت به سميراميس مدينة بابل، وانتهت في ظاهر المدينة تحت شجرة من التوت الأبيض قرب عين ماء تجاور قبر نينوس الملك، انتهت بمصرع عاشقين انتحر كل منهما أسًى على صاحبه، وسقى دمهما عروق شجرة التوت الأبيض، فتحوَّلت إلى توتة حمراء أو ما نسميه بالتوت الشامي، ولبست أثمارها البيضاء ثوب السواد حدادًا على العاشقين، ولا تزال تحدُّ عليهما إلى ما شاء إلهة الحب والأساطير.

وأول من ذكر هذه الأسطورة أوفيد الشاعر اللاتيني في كتابه «التحوُّل»، ولا بد من أن يكون قد استقاها من ينبوع بابلي، بيد أن ما بقي من الكتابات البابلية لا يشير إليها.

وقد وضع الروائي الفرنسي تيوفيل ده دفيو في هذه الأسطورة مأساة دعاها بيرام وتسبا، ونقلت إلى العربية ومثِّلت مرارًا، وعلى بحثي في المكاتب لعلي أقع على نسخة منها، وسؤالي غير واحد من قدماء الأدباء لأعرف من هو معربها، لم أصل إلى ما أردته.

وللشيخ عبد الله البستاني قصيدة سماها الفرصاد أي التوت الشامي سرد فيها حوادث هذه المأساة الفاجعة.

(٨) سليمان وبلقيس

المقدمة

ولد سليمان لداود ملك إسرائيل من بتشابع امرأة أوريَّا التي أخذها داود امرأة له بعد أن فتك بزوجها، واسم سليمان عبري ومعناه «ذو سلام» وأصله في العبرية «شليم» والألف والنون للنسبة، وكانت مملكة والده تمتد من نهر الفرات إلى تخوم مصر ومن البحر المتوسط إلى خليج العقبة، وقد ازدهرت هذه المملكة وزادت اتساعًا في أيام سليمان، وامتدت تجارتها حتى بلغت أوفير في نواحي الهند، وعقد سليمان معاهدة تجارية مع حيرام ملك صور، واستمد مساعدته لبناء هيكل أورشليم، فأمده من لبنان بالصناع وبخشب الأرز والسرو والصندل.

وبنى سليمان مدنًا كثيرة للخزن، وبنى تدمر في البادية، بين الشام والفرات، محطة لقوافله، وحماية لها من غارات العرب الرحَّل، ولكي يأخذ مكوسًا على أصناف التجارة التي كانت تجتاز مملكته.

أما بلقيس فيقول مؤرخو العرب: إنها بلقمة بنت شرحبيل بن مالك بن الريان، ويتصل نسبها بيعرب بن قحطان. وضربوا بها المثل في المجد والعزة والجمال.

وأسطورة سليمان وبلقيس التي نحن في صددها عربية صميم، وهي وإن اتفقت في أصولها وما جاء في الكتب المنزلة وأقوال المؤرخين، تتباين وإياها في أمور كثيرة، ولا عجب فللخيال في الأساطير المقام الأول، ولولاه لما كان فيها متعة ولذة.

والكتب المنزلة نفسها تتباين في صفات سليمان، ولكنها تتفق على أن الله آتاه الحكمة والمجد والغنى، فتقول التوراة: إن سليمان طلب من الله أن يهبه قلبًا فهمًا ليحكم بين شعبه ويميِّز بين الخير والشر، وتجلى له الرب في الحلم، وقال له: «ها أنا ذا قد أعطيتك قلبًا حكيمًا فهمًا، حتى إنه لم يكن قبلك مثلك ولا يقوم بعدك نظيرُك، وأيضًا ما لم تَسله قد أعطيتك إياه الغنى والمجد حتى لا يكون رجل مثلك في ملوك كل أيامك.»

ويقول الإنجيل: «ملكة التيمن (اليمن) أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان.»

وفي سورة سبأ في القرآن: (وسخرنا) لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ.

وفي سورة النمل: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.

واسم ملكة سبأ في الأسطورة وأقوال المؤرخين هو بلقيس، أما الكتب المنزلة فلا تعطيها اسمًا، ففي الفصل العاشر من سفر الملوك الثالث في التوراة: «وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان واسم الرب، فقدمت لتختبره بأحاجيٍّ» والإنجيل يدعوها ملكة التيمن، والقرآن يذكر أنها ملكة سبأ: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وكلها تتفق على الإشارة إلى مجد ملكة سبأ وعزتها.

والأسطورة والمؤرخون يزوجون سليمان ببلقيس، أما الكتب المنزلة فلا تذكر شيئًا من ذلك، فالتوراة تكتفي بقولها: «وأعطى سليمان ملكة سبأ كل بغيتها التي سألتها فوق ما أعطاها من العطايا على حسب كرم الملك سليمان، وانصرفت وذهبت إلى أرضها وعبيدهَا»، وليس في الحواشي المعلقة على سفر الملوك الثالث ما يفسر المراد من إعطائه إياها كل بغيتها، وربما أُريد بذلك أنه أعطاها ما ابتغته من تفسير الأحاجيِّ التي حملتها معها، وبعيدٌ أن تكون قد ابتغت منه أن يتزوجها، والفصل الحادي عشر من سفر الملوك الثالث يعدُّ زوجات سليمان سبعمائة زوجة وثلاثمائة سرية، ولا يذكر بلقيس ولا ذكرتها الفصول الأخرى، فلو كان سليمان قد تزوجها لذكرت التوراة ذلك كما ذكرت زواجه ببنت فرعون، ولم تكن بنت فرعون بأعزَّ من بلقيس. والأسطورة تسخر الجنَّ لسليمان فيبنون له تدمر، قال النابغة الذبياني في داليَّته «يا دار ميَّة»:

إلا سليمانَ إذ قالَ الإلهُ لهُ
قم في البرية فاحددها عن الفندِ
وخيَّس الجن أني قد أذِنت لهم
يبنون تدمرَ بالصُّفَّاح والعَمدِ

أما التوراة فتقول: «وبنى سليمان … وتدمر في البرية.» ولا تذكر أن الجن بنوها له، وليس في القرآن ما يشير إلى ذلك. وسليمان في التوراة إسرائيلي وهو في القرآن والأسطورة مسلم دعا ملكة سبأ إلى الإسلام، فأجابت دعوته، وهو يموت في الأسطورة مخلصًا قلبه للرب، ولكنه في التوراة: «أزاغت نساؤه قلبه ومِلْنَ بقلبه في شيخوخته إلى اتباع آلهة غريبة، فلم يكن قلبه مخلصًا للرب إلهِهِ وتبع عشتاروت إلهة الصيدونيين»، وجائز أن يكون قد تاب قبل موته ورجع إلى ربه. ومهما يكن من أمر فالكتب المنزلة والأسطورة تتفق على أن سليمان كان رجلًا حكيمًا وملكًا عظيمًا في ملوك أيامه.

المعجم

  • فرعون: الذي تزوج سليمان بنته هو في رأي المستشرق ماسبرو ملك الدلتا «سبيناكيز».
  • سليمان: تولى الملك على إسرائيل سنة ١٠١٦ق.م.
  • أورشليم: معناها مدينة السلام.
  • القَيْل: كان هذا اللقب في اليمن لقب الملك دون الملك الأعظم.
  • بلقيس: اختلف المؤرخون في زمن موتها، فقال بعضهم: إنها ماتت قبل سليمان. وقال آخرون: إنها ماتت بعده بسبع سنوات وسبعة أشهر، ولا نعلم لماذا خص المؤرخون والأسطورة بلقيس بعدد «سبعة»؟ فأبياتها سبعة وأبوابها سبعة وقصورها سبعة وعاشت بعد سليمان سبع سنوات وسبعة أشهر. ويقولون: إنها دفنت تحت حائط في مدينة تدمر، ولم يعلم أحد بموضع قبرها إلى أيام الوليد بن عبد الملك. خبَّر أبو موسى بن نصر قال: بُعثت في خلافته (الوليد بن عبد الملك) إلى مدينة تدمر ومعي العباس ابنه، فجاء مطر عظيم، فانهار بعض حائط المدينة، فانكشفت الأرض عن تابوت طوله ستون ذراعًا متخذ من حجر أصفر كأنه الزعفران مكتوب عليه: هذا مدفن تابوت بلقيس الصالحة زوجة سليمان بن داود دُفنت ليلًا تحت حائط بمدينة تدمر، ولم يطلع على دفنها إنس ولا جان إلا من دفنها. فرفعنا عنها غطاء التابوت وإذا هي غضة كأنها دُفنت في ليلتها، فكتبنا بذلك إلى الوليد، فأمر بتركه في مكانه وأن يُبنى عليه بالصخر والمرمر. ويستدل من كلام أبي موسى أن الكتابة كانت بالعربية (؟).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤