توطين المنهج … توطين العلم
في كل المتغيرات يظل المنهج آية وغاية، آية العلم والعلم آيته. فما خطب المنهج ذاته؟ أجل، لا بد من إرهاف السمع للدرس الغربي الثمين في مضمار المنهج العلمي الحديث واستيعابه جيدًا، وطبعًا استيعاب حصائله من قوانين ونظريات علمية في التخصصِ المعنيِّ، ومن البديهي أن هذا عمادُ أيِّ نموذج إرشادي علمي. ولكن لكي يكون النموذج الذي يستوعب هذه الحصائل المعاصرة إسلاميًّا كفيلًا بتوطين العلم في العالم الإسلامي، نطرح السؤال: هل المنهج ذاته أصلًا غريبٌ عنَّا وسلعة مستوردة من الغرب، أم أن الأمر يتطلب تطويرًا وتنمية لممكنات متوطنة، مطروحة وماثلة؟
ولكي نرجح البديل الثاني نطرح حجيته عن طريق تفصيل مفهوم المنهج ووضعه في الثقافة الإسلامية. وأولَى دعوانا أن «المنهج» لفظٌ قرآني ومصطلح تراثي، وهذا ما يمكن تفعيله في توطين المنهجية العلمية تحديدًا.
وفضلًا عن هذا يحفل القرآن، كما أشار طه جابر العلواني، بألفاظ منهجية في المقام الأول، لا تنفصل عن نمط ومهام وسبل التفكير العلمي المنتج، من قبيل: التعقل، التفكر، التفقه، التبصر، الاعتبار، التدبر، النظر، التذكر … ولكن مقصدنا الآن لفظة «المنهج» تحديدًا وتعيينًا.
•••
إن المنهج هو الطريق والطريقة، الأسلوب والوتيرة، الديدن والسبيل، المسار والشرعة، الطبع والناموس … وفي تطوراته اللاحقة صار يُراد به تجسيد أسلوب للتفكير السديد منظم ومثمر، ملتزم بالانتقال من المشكلة إلى حلِّها، ومن مقدمات البحث إلى غايته. وبات «منهج البحث» هو الاستعمال الأكثر للفظة المنهج في سياق اللغة التداولية المعاصرة في خطابها المعرفي.
منهج البحث منجمٌ أو مناجم نستخرج منها فرائد العلم والمعرفة … هو استراتيجيات العمل العقلي وأركانه وأداته الكبرى، القوة الحقيقية والمجد الحقيقي للإنسان الذي جعله قادرًا على أداء أمانة الاستخلاف والعمران والتزكية في أنضر صِوَرها، وجعله تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية. فهل لحكمته سبحانه أن ورد الجذر «نهج» في القرآن الكريم مرة واحدة وورد الجذر «بحث» أيضًا مرة واحدة، وكلاهما في سورة واحدة هي سورة المائدة؟!
رأينا «المنهج» في الآية ٤٨: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (المائدة: ٤٨)، وفي الآية ٣١: فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ. وفي «المعجم الوجيز»: بحث عن الشيء؛ أي طلبه وفتَّش عنه، أو سأل عنه واستقصى، وبحث أمره واجتهد ليعرفه.
ولا مبالغة في القول: إن أهم إنجازات تراثنا تأتَّت في مجال المنهج والمنهجية. وجاء الدور الذي قاموا به في تطور الحضارة محصلة لجهدهم في مأسسة المنهجية. وفي إطار انفتاحهم على منجزات الآخر وميراث الحضارات والثقافات الأخرى، جاءَت عنايتُهم المشهورة بنقل ودراسة وتفعيل وتطوير المنطق الأرسطي الذي يمكن اعتباره أول محاولة متكاملة لمَنْهَجة الاستدلال والتفكير. والمحصلة أن ترسم رصيد هائل من المنهجية. وبخلاف مناهج المتكلمين الجدلية أو الخطابية، ومناهج المتصوفة الذوقية العرفانية، ومناهج الفقهاء الدائرية، ثمة المناهج البرهانية في الفلسفة الإسلامية، وطبعًا الأهم بالنسبة لقضيتنا مناهج العلوم الرياضية، ومناهج العلوم التجريبية عند العرب التي تحمل إسهاماتهم الباهرة في ملحمة التقدم العلمي العالمي إبَّان عصرهم الذهبي، وكانت المقدمة الشرطية المفضية منطقيًّا وتاريخيًّا وجغرافيَّا إلى مرحلة العلم الحديث في أوروبا. لم يَعُد ثمة معنًى بتفهُّم نشأة العلم الحديث، أو بتاريخ العلم وفلسفته يستطيع أن يتجاهل مناهج علماء الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة العصور الوسطى التي كانت شمسها غاربة عن الغرب ومشرقة في الشرق.
قدَّم الرياضيون والطبائعيون والأطباء معًا نماذج ماثلة وناضجة للمنهج العلمي وأساليب البحث العلمي الإجرائية. إنها مطروحة ومذكورة، صدرَت وتصدر فيها مئات الأبحاث والكتب والمراجع، وتعقد من أجلها المؤتمرات، وتتكرَّس لها العشرات من مراكز الأبحاث في أنحاء شتَّى من العالم شرقًا وغربًا. ويصعب الخوض فيها في الحيز المتاح الآن؛ فنكتفي بأن نسلِّم تسليمًا بالدور العظيم لهذه المناهج وحصائلها في ملحمة العلم وملحمة العقل وملحمة الحضارة. وبالنسبة لقضية التوطين، الأهم أن ننتقل إلى ما هو أعمق من سردِ ماضي المناهج العلمية وإجرائياتها، ننتقل إلى جذر العقلية المنهجية ذاتها وأصول روحها المنبعثة في أعطاف حضارة أنتجت تلك المناهج العلمية وممارساتها.
نذكر في هذا الصدد المهمة الجليلة التي اضطلع بها فلاسفةُ المنهج في الحضارة الغربية إبَّان القرن السابع عشر، فكانت بيئة مواتية لانطلاق عملاق العلم الحديث، خصوصًا فرنسيس بيكون الذي اقترن اسمه بحركة العلم الحديث، وتُعدُّ نظريتُه المنهجية درسًا لا بد أن يردِّدَه كلُّ مهتمٍّ بأمر المنهج العلمي على الرغم من الشقة الواسعة بين نظرية المنهج العلمي التجريبي المعاصرة وبين نظرية بيكون التي تبدو الآن بالغة السذاجة والضحالة، فضلًا عن قصوراتها الجمة، وأن بيكون نفسه — قاضي القضاة وحامل أختام الملكة — لم يكن عالمًا ولا حتى متابعًا جيدًا لتقدُّم العلم والخطوات الشاسعة التي قطعها في عصره، لم يؤمن بفرض مركزية الشمس ولا بدور الرياضيات؛ لأن كلَيهما لا يعوِّل على قوة التجريب … وكل هذا لا ينفي فضله العظيم في تجسيد المنهجية التجريبية العلمية روحًا للعلم وللعصر الأوروبي الحديث وللحداثة ذاتها. وإذا عبرنا إلى الجانب الآخر من البحر الفاصل بين إنجلترا وفرنسا، المتصارعتَين آنذاك على سيادة العلم والعالمين، وجدنا ديكارت ببساطة منهجه التحليلي الذي يستلهم روحَ الرياضيات علامة فارقة في تاريخ الفلسفة، مؤكدًا أن العبقرية في البساطة. استطاع تأسيس الفلسفة الحديثة وتشييد الهندسة التحليلية، وساهم في تأسيس منهجية العلم الطبيعي ذاته، من حيث إن الرياضيات قطب منهجي كما علَّمَتنا ميثودولوجيا العلم القائم على التآزر بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب. والشُّقة واسعة أيضًا بين بساطة منهجه وبين المنهج الأكسيوماتيكي الاستنباطي والمناهج التحليلية المصوغة حاليًّا. ليس منهج بيكون هو المنهج العلمي، ولا هو الآن آليات إجرائية ضرورية أو حتى ممكنة. فلماذا يتردد اسمه في دروس منهجية العلم؟ ولا بد أن يُثنيَ عليه وعلى ديكارت كلُّ باحث عن طريق العلم ومنهجه؟ ذلك لأنهما قامَا بتأصيل روح المنهجية في قصة الحداثة الغريبة.
فلاسفة المنهج المبجلون في القرن السابع عشر ودورهم العظيم، خصوصًا فرنسيس بيكون وديكارت، يوضح كيف أن المنهجية العلمية الخلَّاقة قوة متجذرة في بنية الثقافة ونموذجها المعرفي، كروح للمعرفة وللعصر وللحضارة. وفي بحثنا عن توطين المنهجية العلمية في ثقافتنا يعوزونا تأصيل الروح المنهجية ذاتها. وهذا لا يتأتَّى أبدًا عن طريق نقل أو ترديد أو استيراد الدرس البيكوني ليظلَّ العلمُ غريبًا مغتربًا. الأصول لا تنبع إلا من تربة الوطن وبيئته الثقافية. ولا توطين للحركة العلمية إلا إذا كان لدينا أصولٌ للمنهجية كامنة لنقوم بتطويرها في طريقنا لاستيعاب آليات المنهج المحدثة وتطوراتها المعاصرة.
وعن طريق بذْل الجهد اللازم لاستنطاق مكونات تراثنا يبدو علم أصول الفقه علمًا منهجيًّا بامتياز، يمكن أن يُناطَ به التأصيل وتأسيس الفاعلية المنهجية؛ ليقوم بدور استراتيجي في توطين روح المنهجية العلمية في العالم الإسلامي.