الفصل الأول

إبستمولوجيا الاجتهاد

نحو توطين الظاهرة العلمية في الثقافة العربية١

أولًا: مفتتح: نقاط الانطلاق

ربما يكون ملائمًا أن ننطلق من الخلفية المشتركة بيننا في ملتقانا هذا؛ أي مما هو مطروح في «أرضية الملتقى»، ليُطالعَنا في السطر الأول وفي الجملة الأولى: «غياب التأسيس الثقافي والفكري للحداثة»، مما يعني أن هذا هو منطلقنا الأولي، ولا يصعب تبينان أن غياب التأسيس هم رابض في سويداء الفكر العربي الحديث، وإذا كان لا يخلو من محاولات عديدة وجادة لتُجاوزه بدرجة أو بأخرى، فإنها محاولات فردية، ولم نَصِل إلى رؤية جمعية تمثِّل فعلًا التأسيس العام للحداثة العربية.

هذا عن التأسيس، أما عن الحداثة فلا يصعب أيضًا تبيان أن العلم الحديث بدوره يرابض في سويدائها. فلم يكن العلم الحديث مجردَ مشروع معرفي ناجح، ولا هو مجرد عامل من عوامل الحداثة أو بُعد من أبعادها، بل إن العلم الحديث هو عينه جوهر الحداثة، هو الحداثة ذاتها. وبالتالي لم يكن المنهج التجريبي مجردَ وسيلة أو أسلوب معرفي تميَّز به العصر الحديث. إن إغلاق أبواب العصور الوسطى في أوروبا وفتْح بوابة العصر الحديث هو بشكل ما إقصاءٌ للقياس الأرسطي — أورجانون؛ أي أداة العصور الوسطى — الذي لا يأتي بجديد، ورفع لواء المنهج التجريبي، منهج العلم. وهذا هو سرُّ الأهمية الكبرى لكتاب فرنسيس بيكون صغير الحجم وذائع الصيت كتاب «الأورجانون الجديد، ١٦٢٠»؛ أي الأداة الجديدة التي هي المنهج التجريبي، والسبب في أن فرنسيس بيكون يُعَد نبيَّ العلم الحديث المبشر بعصره، ويُنقَش اسمه بالأحجار الكريمة على إحدى بوابات مكتبة الكونجرس، على الرغم من الصورة الفجة للمنهج التجريبي الحافلة بالكثير من الأخطاء والمعروضة في كتابه، والتي ربما لم يستفِد منها أحد من علماء عصره. وقد كان بيكون على الرغم من كل هذا هو الأقدر بمنهجه التجريبي على تجسيد روح الحداثة وروح العصر الحديث الذي هو عصر العلم.

عوامل عديدة أدَّت بالحضارة الأوروبية إلى الولوج إلى العصر الحديث، عصر العلم، لعل أبرزها الكشوف الجغرافية، التي جعلَت إنسان العصر الحديث يُدرِك كيف أن العالم الطبيعي أوسع كثيرًا من كل ما بدَا للأقدمين، فضلًا عن أنها أدَّت إلى تصويب النظرة الفلكية ليبدوَ الكون الطبيعي بأَسْره هو الآخر أوسع كثيرًا … كثيرًا. ومع نهايات القرن السادس عشر كان سؤال الطبيعة قد ارتفع إلى الصدارة بعد طولِ توارٍ، وأوشك أن يكون سؤال العصر الذي تنشغل به العقول وطبقة المثقفين وصفوة العلماء والبحاث والفلاسفة، بل وموضع الحوار بين وجهاء القوم وسيدات المجتمع. ومنذ عهد الفلاسفة السابقين على سقراط لم تُثِر الطبيعةُ كلَّ هذا الاهتمام. وسرعان ما توالَت المتغيرات على الصُّعُد كافة؛ الصعيد الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والتجاري … ظهرت المطبعة وبدأت المخترعات والماكينات تُغيِّر وجهَ الحياة، وراحَت العقول الواعدة تتلمَّس الجديد من كشوف العلم الطبيعي، وفتَح جاليليو الطريقَ إلى فك شفراته حين أعلن أن كتاب الطبيعة المجيد مكتوبٌ بلغة الرياضيات. لقد كان المنهج التجريبي هو طريق الإجابة على سؤال العصر: سؤال الطبيعة، إنه العقلانية التجريبية التي تَعني الفحص المباشر لموضوع البحث، وليس اللجوء إلى ما قاله الأقدمون، رفع الوصاية عن الإنسان ليبحث عن الحقيقة بنفسه، بعقله وحواسه، وما يتبع هذا من قيم الفردية والحرية والمسئولية وسائر قِيَم الحداثة، إنه طريق العقل والعلم والحرية والتقدم، في كلمة واحدة: طريق الحداثة.

هكذا كان العلم الطبيعي هو جوهر الحداثة، وبالتالي فإن النظرة الفلسفية التي تسعى لتأسيسه هي بشكل ما تأسيس للحداثة ذاتها، تأسيس للمنهج الحديث الذي يتبعه العقل الحديث للإنسان الحديث؛ لتشييد العلم الحديث في العصر الحديث.

وبالتالي فما دامت أرضية الملتقى تسعى نحو تأسيس الحداثة، فإنه يحق لنا أن نسعى إلى تأسيس العلم الحديث في بنيتنا نحن الثقافية.

وما زلنا مع أرضية الملتقى، لنجد «إعادة تأسيس القيم المحررة للإنسان عن طريق ممارسة النقد»، وأن هذا تجديدٌ للفكر الإسلامي، بحيث لا ينفصل عن الدين، ولكن لا يغضُّ النظر عن المكونات الثقافية الأخرى. وهذا هو على وجه الدقة موضوع الورقة التي نتقدم بها: ماذا عن تجديدِ الفكرِ الإسلامي المعنيِّ بمكون ثقافي آخر؟ هو تحديدًا العلم الطبيعي الذي رأيناه جوهر الحداثة. إنه اجتهادٌ من أجل إبستمولوجيا علمية قادرة على توطين العلم الطبيعي في بيئتنا الحضارية.

ثانيًا: في وجوب الاجتهاد

بدايةً الجهد هو الطاقة، والاجتهاد لغويًّا هو استفراغ الوسع؛ بمعنى بذل غاية الجهد (= غاية الطاقة) في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة. وهو عند الأصوليين استفراغُ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية، على أن الاجتهاد الذي هو موضوعنا هو اجتهاد من أجل التجديد؛ أي استفراغ الوسع في تحديث وتنهيض معاملات أصالتنا، أو بمصطلح أفضل وأكثر حيوية وحركية نقول تحديث معاملات خصوصيتنا الحضارية لكي تتواصل فيها عواملُ النماء والتقدم والازدهار، دون أن تتماوه الحدود وتتميَّع شخصيتها، دون أن تتحول إلى ظل باهت للآخر الغربي، وتتدثر خصوصياتها بحرائر العلم الأمريكي ونجومه الزاهية.

إن إبستمولوجيا الاجتهاد تصبُّ في تأسيس ظاهرة العلم الطبيعي في ثقافتنا وأيديولوجيتنا، فلا يعود غريبًا مغتربًا، لا يعود نبتةً مجلوبة أو سلعة مستوردة كأنواع العطور الراقية أو صنوف الوجبات السريعة الرديئة.

الاجتهاد فعلٌ منهجي راهن، انعكاس لحاضر ينزع إلى تجاوز أزمة التخلف والتراجع، انعكاس لحاضر ينطلق من الماضي … من التراث … الإطار المرجعي الذي يُعطينا خامة الاجتهاد. إنه انطلاق من الماضي صوبَ مستقبل نريده واعدًا بالتقدم المنشود، والعلم الطبيعي من المفاتيح الكبرى لهذا التقدم.

إذن الاجتهاد هو فعل التجديد، وهو بهذا فرضُ عين كما يُنبئنا أمين الخولي (١٨٩٥–١٩٦٦) الملقَّب بشيخ الأصوليين في التجديد، وشيخ المجددين في الأصولية.٢ في كتابه «المجددون في الإسلام» الذي يُحيل إلى كتاب الإمام السيوطي «التنبئة بَمن يبعثه الله على رأس كل مائة»، نجد أن المحن الاجتماعية تقتضي التجديد؛ جبرًا لما حدث من الوهن بالمحن، فكان الاجتهاد؛ أي فعل التجديد سُنَّة مقررة وأصلًا ثابتًا بيَّنه الرسول في حديث متفق عليه: «إن الله يبعث لهذه الأمة كلَّ مائة سنة مَن يُجدِّد لها أمرَ الدين.» فيقول السيوطي في فاتحة كتابه المذكور: «الحمد لله الذي خصَّ هذه الأمة الشريفة بخصائص واضحة للمجتهدين، وبعث لها على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها أمر الدين.» ويقول: لا يجوز خلو العصر من مجتهد، واستعاذ من صيرورة الأمر إلى هذا الحد.٣
هكذا نتفق على الاجتهاد إنما يكون في قراءة أصولنا قراءةً تجديدية لا أن ننفصل عنها، ونتنكَّر لها إمعانًا في التبعية والاستسلام؛ ليغدوَ السؤال: كيف يمكن الاجتهاد في قراءة أصولنا التراثية قراءةً إبستمولوجية تُفضي إلى توطين ظاهرة العلم الطبيعي الحديث في عالمنا؟ والإجابة على هذا السؤال تقتضي سؤالًا أسبق: ماذا عن وضع الطبيعيات في تراثنا؟٤

ثالثًا: الطبيعيات في تراثنا

لقد أتى التراث كمعلول لعلة هي الثورة الثقافية العظمى التي أحدثَها نزولُ الوحي في المجتمع القبلي، وتتالي الدوائر المعرفية حول المركز الحضاري الثابت الذي هو النص القرآني.

وعلى خلاف الظن الشائع، احتلَّت الطبيعيات مكانًا فسيحًا على صدر المسرح الفكري في الحضارة الإسلامية، ولئن لم تكن من المشكلات الكبرى أو العناوين التقليدية، فإنها منبثَّة في كل هذا؛ فالطبيعيات هي العالم الحادث، هي كلُّ موجود سوى الله وعالم الغيب، هي عالم الشهادة الذي تسمِّيه الإبستمولوجيا: العالم الفيزيقي.

وفي هذا يجمل بنا أن نتوقَّف عند التفرقة التي صنعها المتكلمون بين جليل الكلام وهو العقائد التي يُفزَع فيها إلى كتاب الله والسنة، وبين دقيق الكلام الذي هو مجال العقل وحده. إن الطبيعيات هي دقيق الكلام … هي اللطائف: الجسم والحركة والمادة في الزمان والمكان. وتلك هي بداية اشتباك العقل الإسلامي بالعالم الفيزيقي، بتعبير حسن حنفي، هي بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني المهيمن.

ومن شأن هذا أن يُساهم في تفسير زخم الدفع العلمي الذي جعل الحضارة العربية تحمل لواء العلم التجريبي والرياضي طوال العصور الوسطى … فكان تاريخ العلوم عند العرب يتدفق في إطار الأيديولوجيا السائدة، وتحت رعاية السلطة وبتمويلها، وليس ضدَّها كما كان الحال في بدايات العلم الحديث في أوروبا الذي كان ينبجس كالدم وليس يتفتح كالزهر. وسوف يفسِّر لنا أيضًا لماذا وصل العلم العربي إلى طريق مسدود ولم يواصل النماء والازدهار.

ذلك أن العالم عند المتكلمين لم يكن إلا علامة دالة على وجود الله، دليل الحدوث هو إطار الطبيعيات الكلامية، وكانت المشكلة المحورية هي العلاقة بين الله والعالم، التي اتخذت شكل الإيجاد والخلق من العدم. دليل الحدوث لا يعدو أن يكون عملية قياس الغائب (= الإلهيات أو عالم الغيب) على الشاهد (= الطبيعيات أو عالم الشهادة). وهذا شكلٌ من أشكال الاستدلال العلمي الإمبيريقي، ينطلق من المحسوس إلى المعقول. ولكن التوغل في الدوائر المغلقة كان من العوامل التي أدَّت إلى الانفصال عن البحث في الطبيعة بعد انتهاء عصور الازدهار، وإجهاض الفكر العلمي البازغ لحساب الفكر الديني وحده.

الدوائر المغلقة تتمثل في أن الطبيعيات لم تكن إلا سُلَّمًا للإلهيات والعقائد، دليل على وجود الله الغني عن العالمين، وخادمة للإلهيات، وليس للإنسان، في حين أن الإنسان هو الذي يحيَا في الطبيعة ويحتاج لترويضها وتطويعها.

لم تكن الطبيعيات مطلوبة في حدِّ ذاتها كمشكلة إبستمولوجية، بل هي وجود أنطولوجي، يُدلِّل على وجود الله … على الثيولوجيا. ولم يتغيَّر الأمر كثيرًا بالتطور العقلي ونشأة الفلسفة أو الحكمة. في الفلسفة الإسلامية — الحكمة — انتقلت الطبيعيات من الحدوث إلى الفيض والقدم. ولكن لم يحمل ذلك تغيُّرًا بنيويًّا ذا بال؛ فقد ظلت الدائرة المغلقة مهيمنة، من الأنطولوجيا إلى الثيولوجيا وبالعكس.

رابعًا: الاجتهاد في الطبيعيات

المطلوب من الاجتهاد أن يشقَّ هذه الدائرة المغلقة، ويجعل الطبيعيات في حركية من الأيديولوجيا إلى الإبستمولوجيا وبالعكس. إبستمولوجيا الطبيعيات على وجه التعيين هي الحلبة الكبرى للفعالية الإنسانية والتقدم المستمر.

وحين يقوم الاجتهاد المعاصر بتحويل الطبيعيات إلى مشكلة إبستمولوجية، فإنه يعمل بهذا على إعادة الإنسان المسلم إلى الطبيعية تمهيدًا لاستملاكها والسيطرة عليها. وبقدر ما تتأسس إبستمولوجية الطبيعيات في أيديولوجيتنا، بقدر ما تتحقق رسالة الوحي الإسلامي كخاتمة للأديان، كوحيٍ طبيعي لا كهنوتي، وتتحول الطبيعة من موضوعٍ حسيٍّ وجداني إلى موضوع علمي عقلي.

لقد كان الإعلان الغربي الصريح بتحويل الطبيعيات إلى مشكلة إبستمولوجية هو قول جاليليو الشهير: إن كتاب الطبيعة المجيد مكتوبٌ بلغة الرياضيات، وكان العلم آنذاك لا يزال يصارع رجال الكنيسة الذين استمدوا سلطانهم من أنهم الأقدر على قراءة الكتاب المقدس. ولكي يستطيع رجال العلم الاستقلال راحوا يؤكدون أنهم هم الآخرون الأقدر على قراءة كتاب آخر لا يقلُّ عظمة ولا دلالة على قدرة الرب، ألا وهو كتاب الطبيعة. وأصبح تعبيرُ جاليليو «قراءة كتاب الطبيعة المجيد» شائعًا آنذاك للكناية عن عمل العلماء، بقدر ما هو دالٌّ على الخروج من العصور الوسطى ودورانها في الكتب المغلقة، إلى العصور الحديثة وانطلاقها في عالم الطبيعة المفتوح.

وقد كان الأحرى بنا اختصار مراحل من تاريخ العلم الطبيعي انشغل فيها بفضِّ نزاعه مع سلطة الكنيسة والدين؛ فالحضارة الإسلامية لا تعرف ذلك الصراع الغربي الذي استعر أُواره بينهما، وكان العلم الطبيعي في الشرق الإسلامي يَسْري في إطار حضارة مركزها الوحي، بهديه وتحت رعاية السلطة. فالإسلام دين للدنيا والآخرة، للشهادة والغيب، للطبيعة والإنسان. لم ترَ قِيَمه الإنسانية ما رأَته القِيَم الكاثوليكية الغربية في الطبيعة: مصدر كل إثم ودنس وخطيئة. لم يكن البحث في الطبيعة ضد البحث في الدين، ولم يكن رجال العلم فريقًا ينازع فريق رجال الدين. كانت الطبيعة في تراثنا هي العالم، هي العلامة الدالة على وجود الله. وكان أعلام التراث الإسلامي من أمثال العلَّاف والنظَّام وابن الهيثم والبيروني وابن سينا وابن رشد … يبحثون في الطبيعيات وهم يستدلون على وجود الله، ويقرءون حكمتَه وبديعَ صُنْعه في عقلنة الطبيعة واستكناه أغوارها.

كنَّا الأسبق في الانتقال الجدلي من قراءة الكتاب المقدس إلى قراءة كتاب الطبيعة المجيد، في تعقيل الطبيعة وتطبيع العقل، تعقيلًا وتطبيعًا للوحي، وزدناه عمقًا حين انشغلنا بالتقابل بين عالم الأذهان وعالم الأعيان. لكن ما جدوى الأسبقية التاريخية ما دام العلم الغربي قد جعلهما — أي العقل والطبيعة — صنوَين بينهما يكشف العربي والمسلم المعاصر عن عجز وتخلُّف مشين في مواجهة الطبيعة … لا جدوى من هذه الأسبقية التاريخية ما لم تَنمُ نموَّها المشروع لينشأ فكر طبيعي في وَعْينا الحضاري، وبعد طبيعي علمي في أيديولوجيتنا.

وتلك هي مهمة إبستمولوجيا الاجتهاد. والسؤال الآن: كيف؟

خامسًا: إبستمولوجيا الاجتهاد … كيف؟

كيف تكون إبستمولوجيا الاجتهاد؟ أو كيف يكون الاجتهاد الإبستمولوجي؟ كيف تنقل الأيديولوجيا الإسلامية الطبيعيات إلى دائرة الإبستمولوجيا؟

إن السبل عديدة. هناك عموم مسئولية الإنسان عن أدوات المعرفة: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (الإسراء: ٣٦)، تحويلها إلى مسئولية الإنسان إلى الشكل الجديد لتآزر العقل والحواس: المنهج العلمي. إن المنهج العلمي يحوي قِيَمًا منشودة في أيديولوجيتنا النهضوية التي يسعى الاجتهاد لتأسيسها، قِيَمًا من قبيل التخطيط والتفكير الملتزم بالانتقال من المشكلة إلى حلِّها، والإبداع، والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، والالتجاء إلى محكِّ الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات في كل محاولة، والمجال المفتوح دومًا للمحاولة أو النظرية الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى، وبالتالي الاحتمالية والنسبوية، فلا شيءَ مطلق أو يقيني، وليس ثمة حقيقة نهائية تُتَّخذ مبررًا لكبح انطلاق العقول وفرض الوصاية على البشر.٥
وأيضًا نجتهد لنجد في تراثنا موجهات الموقف العلمي: التجريب، نبْذ التقليد، التأمل في الطبيعة، السير في الأرض واكتشاف مناكبها … وفي التنزيه، وهو من أثمن الذخائر الإسلامية. وكما أشار حسن حنفي، الانتقال من التشبيه إلى التنزيه هو انتقال من الله المشخص إلى المبدأ العقلي الشامل الذي تتوحد أمامه قُوَى الإنسان المعرفية بإزاء استقلالية الطبيعة. التنزيه هو التعالي، هو التقدم المستمر غير المحدود، هو رفض الصيغ الجاهزة، رفض تحويل الذات إلى موضوع، رفض القطعية والمذهبية والتوقف.٦

بالاجتهاد نجد مثل هذه المثُل العلمية لتعينَنا على تحويل الطبيعة إلى أطروحة إبستمولوجية، وتغدو فلسفة العلم فلسفة لتحرير الإنسان، تجعلنا نحرِّر طاقاتِنا وننفعل بواقعنا ولا نهرب من عصرنا.

هكذا يكون الاجتهاد الإبستمولوجي لتأسيس العلم الطبيعي.

١  بحثٌ أُلقيَ في: الملتقى الدولي: الاجتهاد ورهانات التحديث في الوطن العربي، الذي عقدته المكتبة الوطنية، بالجزائر، ٢٦–٢٨ فبراير ٢٠٠٨.
٢  انظر كتابنا: أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد، سلسلة اقرأ، دار المعارف، القاهرة، ٢٠٠٠.
٣  أمين الخولي، المجددون في الإسلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٢، ص١٥.
٤  ثمة إجابة تفصيلية على هذا السؤال، موثقة بالنصوص التراثية، هي مضمون الفصلَين الثالث والرابع من كتابنا: الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل، الطبعة الثانية، دار قباء، القاهرة، ١٩٩٨.
٥  ناقشنا هذه القضية تفصيلًا في دراستنا: المنهج العلمي: كيف يُفيد المشروع الحضاري؟ مجلة القاهرة، العدد ١٢٠، نوفمبر ١٩٩٢. ص٢٦–٣١.
٦  انظر: د. حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، خمسة مجلدات، مكتبة مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨. وقارن: د. يمنى طريف الخولي، المنهج في مشروع التراث والتجديد: دراسة نقدية — «من العقيدة إلى الثورة» مثالًا تطبيقيًّا، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد ٥٦، أبريل، ١٩٩٧، ص١٠٥–١٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤