الفصل الثاني

المتشاعرون

فتح راجنو طاهي الشعراء والممثلين مطعمه مبكرًا كعادته، والطيور لا تزال جاثمة في أوكارها، فجلس بين يدي مِنضدته ينظُمُ على ضوء المصباح قطعةً شعرية في وصف «اللَّوْزينج»، فكان يُكِبُّ على أوراقه مرة ليقيد ما حضره من الأبيات، ويرفع عينيه إلى السماء أخرى ليستمد من إلهة الشعر روحها، ويستلهمها وحيها، ولم يزل على ذلك ساعةً حتى بدأت الشمس ترسل أشعتها الأولى من خلال النوافذ والكُوَى، ودوت في المطبخ جلبة العمال وضوضاؤهم، وصلصلة الآنية والقدور، فألقى قلمه واعتدل في جلسته وتأوه آهة طويلة، ثم قال مخاطبًا إلهة الشعر: وداعًا أيتها الإلهة القوية القادرة، قد انقضى الليل وانقضى سكونه وهدوءه، وجاء النهار بجلبته وضوضائه، فدعيني الآن، واذهبي لشأنك غير مَقْلِيَّة ولا مُجْتَواة، وموعدنا الليلة القابلة.

ثم مشى إلى المطبخ، فرأى في مدخله إناءً من النحاس الأصفر قد ألقت الشمس عليه أشعتها الصفراء، فاشتد وميضُه ولألاؤُهُ، فوقف أمامه لحظة يتأمله ويقول: ها هي ذي الشمس قد استطاعت أن تصنع ما لا يصنعه الكيميائيُّ الماهر، فقد حوَّلت النحاس الأصفر بشعاعٍ واحد من أشعتها إلى عسجدٍ وهَّاج، ثم قال: ما أجمل هذا المعنى وأبدعه! لا بد لي من تقييده حتى لا يفلت من يدي إذا احتجتُ إليه، وأخرج دفتره من جيبه فقيده.

ثم وقف بأحد الغلمان وهو يشق بِمُدْيَة في يده رغيفًا إلى شقَّين. فقال له: لقد أخطأت القسمة أيها الغلام؟ فالمصراعان غير متوازنين، ورأى آخر يشوي في نصْلٍ واحدٍ ديكًا كبيرًا وعصفورًا صغيرًا. فقال له: إنها طريقة الشاعر «مالْرب» وهي لا تعجبني، فإمَّا أن يكون البيت تامًّا كله، أو مجزوءًا كله.

ومر بطباخ يطبخ مرقًا في قدرٍ، فتناول الملعقة وأدارها فيه ثم قال له: ما أرقَّ هذا الحساء! إنه كالشعر المهلهل، وأنا لا يعجبني إلا الجَزْلُ المتين.

ووقف أحد العمال بين يديه وسأله: كم قيراطًا تحب أن يكون ارتفاع قبة الفالوذج اليوم؟ قال: ثلاثة تفاعيل!

وتقدم بين يديه آخر حاملًا على يديه صينية مغطاةً بنسيجٍ رقيق، وقال له: لقد اخترعت اليوم هذا الشكل يا سيدي، فلعله يعجبك، ثم رفع النسيج، فإذا قيثارةٌ مصنوعةٌ من الحلوى مغشاةٌ بدقيق السكر الأبيض، فتهلل وجهه فرحًا وصاح: فكرة شعرية جميلة لم يسبقك إليها أحد، وقد أعفيتك اليوم من العمل مكافأة لك على حسن تصورك وسمو خيالك، فاذهب لشأنك وخذ هذه القطعة الفضية واشرب بها نَخْب الفنون الجميلة.

دواوين الشعراء

ولم يزل يطوف بالعمال ويخاطبهم بهذا الأسلوب المضحك الغريب، وهم يتغامزون عليه ويتضاحكون من ورائه، حتى خرج فمشى إلى قاعة الطعام، فرأى زوجته «ليز» تصفف على المائدة أنواع الحلوى والفطائر والقدائد والرشارش والرقائق، وقد اتخذت أوعيتها وأكياسها من صحائف الكتب الأدبية ودواوين الشعراء التي كانت تبتاعها من الوراقين لهذا الغرض، فألقى على الأكياس نظرةً حزينةً مكتئبة، وقال: أهكذا تصنعين بدواوين أصدقائي الشعراء المجيدين! لقد كنت أتمنى أن أرى وجه الموت قبل أن أرى تلك الأعلاق النفيسة والجواهر المنتقاة أوعية للفطائر والحلوى في حوانيت الطهاة والحلويين؛ فوا رحمتاه للأدب! ووا أسفا عليه وعلى عهده الزاهر النضير! فألقت عليه نظرة ازدراءٍ واحتقار، وقالت له: إننا ما أردنا إهانة دواوين أصدقائك ولا الزراية بها، ولكننا علمنا أنها لم تخلق إلا للعُثَّة والأَرَضَة، وأن شعاع الشمس لن يصل إلى مكامنها أبد الدهر، فأردنا أن نحتال على الناس في أمرها، فنشرناها من قبورها وقدمناها إليهم لفائف للفطائر والحلوى، علَّهم يلمحونها عَرَضًا فيقرءونها، فليشكر لنا أصدقاؤك منَّتنا عليهم ويدنا عندهم! فاحتدم راجنو غيظًا وقال لها: أيتها النملة الضعيفة، لا تهيني الثَّور العظيم فيصرعك بحافره صرعةً لا قيامة لك من بعدها! فقالت: لعنةُ الله عليك وعلى جميع ثيرانك من عهد هومير إلى عهدك وتركته وانصرفت.

وما هي إلا هُنَيْهَةٌ حتى دخل المطعم غلامٌ صغير يطلب قرصًا من الحلوى، فتناول راجنو أحد الأكياس وتأمله قبل أن يعطيه إياه، فوقع نظره على هذه الكلمة: «ولما فارق عولس بينيلوب …» فأعاده إلى مكانه، وقال: شعر بديع لا أستطيع أن أسمح به، وتناول كيسًا آخر فقرأ عليه هذا العنوان: «إلى أبولُّون». فقال: ولا هذا، ووضعه في مكانه، وتناول كيسًا ثالثًا فقرأ عليه: «إلى فيلبس». فقال: ولا هذا أيضًا، وأراد أن يعيده إلى مكانه، فالتفتت إليه زوجته فخافها وأعطاه الغلام فأخذهُ وانصرفَ.

ولم يلبث أن تَغَفَّلَ زوجتَه وعدا وراء الغلام حتى أدركه في الطريق، فضرع إليه أن يرد له الكيس فارغًا، فأبى الغلام إلا إذا أخذ في مقابله قرصًا آخر أو أخذ القرص بلا ثمن، فردَّ إليه راجنو الثمن وعاد بالصحيفة فرحًا مغتبطًا يمسح عنها الدهن، الذي غَمَرَها ويضمها إلى صدره ويترنم بأبياتها!

الموعد

وإنه لكذلك إذ فُتح الباب فجأةً ودخل سيرانو وهو مصفر الوجه شاحب اللون على أثر تلك المعركة الليلية، التي دارت بينه وبين أعداء لينيير، فسأل راجنو: كم الساعة الآن؟ قال: السادسة يا سيدي، وقدم له كرسيًّا فجلس عليه، ثم وقف بين يديه متأدبًا متخشعًا وقال له: أهنئك يا سيدي بانتصارك العظيم الذي انتصرته ليلة أمس، فلقد كانت تلك المعركة أجمل معركة حضرتها في حياتي، وسيمرُّ بي زمنٌ طويلٌ قبل أن أنساها وأنسى حسنها وجمالها، فالتفت إليه سيرانو وقال: أي معركةٍ تريد؟ قال: معركة «بوروجونيا». قال: لعلك تريد المبارزة؟ قال: نعم، أريد تلك المبارزة الغريبة التي ألَّفت فيها بين نغمات سيفك ونغمات شعرك تأليفًا بديعًا كأحسن ما يصنع الموسيقار الماهر، وارتجلت فيها ذلك الموشح الجميل الذي لم يسبقك إليه شاعرٌ من قبلك، كأن إلهة الشعر كانت مرفرفة فوق رأسك تمدك بروحها وقوَّتها. فقالت ليز وهي تشير إلى زوجها: نعم يا سيدي، إنه ما زال يلهج بتلك الحادثة مذ رآها حتى الساعة، لا يفارق خيالُها يقظته ولا منامه، حتى ليخيل إليَّ أنه قد أصابه مسٌّ من الشيطان. فقال راجنو: نعم، إنها لم تفارق خيالي قط، وما حسدت أحدًا في حياتي على موقف من المواقف حسدي إياك على موقفك هذا، ثم مد يده إلى المائدة وتناول مُدْيةً طويلةً وأخذ يلوح بها في الهواء مقبلًا مدبرًا، متقاصرًا متطاولًا، كأنما يمثل تلك المبارزة، ويترنم في أثناء تمثيله بهذا الشطر: «وفي المقطع الأخير أصيب، وفي المقطع الأخير أصيب» ثم يقول: ما أجمل هذه النغمة! وما أبلغ هذا الشعر! وما أمتن تلك القافية! وسيرانو ينظر إليه مدهوشًا مستغربًا، حتى فرغ من تمثيله. فقال له: كم الساعة الآن يا راجنو؟ قال: ستٌّ وعشرون دقيقة يا سيدي. فقال في نفسه: لم يبق على السابعة إلَّا القليل.

ثم وقف وأخذ يتمشى في أرجاء القاعة ذهابًا وجيئةً، فمر بليز وهي واقفة بجانب المائدة، فلمحت في يده جرحًا داميًا. فقالت له: ماذا أصابك يا سيدي؟ وما هذا الجرح الذي في يدك؟ قال: خدشٌ بسيطٌ لا أهمية له. فقالت: يخيل إلي أنك كنت في معركة. قال: لا. قالت: أخاف أن تكون كاذبًا. قال: هل رأيت أنفي يضطرب؟ تلك هي العلامة الوحيدة للكذب في مذهبي، ثم التفت إليها وإلى راجنو وقال لهما: إنني أنتظر بعض الناس هنا، وأحب أن أكون معه على انفراد، فاتركا لي القاعة الآن، فلم يبق على حضوره إلا القليل. قال راجنو: ولكن ماذا أصنع بشعرائي يا سيدي وهم على وشك الحضور الآن؟ قال: لا بأس أن يحضروا، على شرط أن تؤذنهم بالانصراف أو بالتحول إلى غرفة أخرى عندما أشير إليك، ثم سأله: كم الساعة الآن؟ قال: ستٌّ وثلاثون دقيقة. قال: أعطني قلمًا وقرطاسًا، فإني أريد أن أكتب، فجاءه بما أراد، فجلس على منضدة راجنو، وأمسك بالقلم وأنشأ يقول بينه وبين نفسه: ليس في استطاعتي أن أفاتحها في شيءٍ مما أحب أن أفاتحها فيه، فخير لي أن أكتب لها كتابًا أقدمه إليها بنفسي عند حضورها، ثم أتركها وأنصرف لشأني لتقرأه وحدها، وأطرق برأسه هُنَيْهَة، ثم تنفس نفسًا طويلًا وقال: آه! لقد كنت أظن أنني شجاعٌ جريءٌ لا أهاب الإقدام على أي خطرٍ من الأخطار مهما كان شأنه، فإذا أنا جبانٌ عاجزٌ لا حول لي فيما يعرض لي من الخطوب ولا حيلة، ويخيل إليَّ أن الموت أهون علي من أن أقف أمامها وجهًا لوجه، وأفضي إليها بشيءٍ مما يجيش به صدري.

ثم أكب على المنضدة وحاول أن يكتب شيئًا، فازدحمت الأفكار في رأسه، وانتشرت عليه خيالاته وتصوراته، فلم يستطع أن يكتب حرفًا واحدًا، فألقى القلم من يده وقال: قبَّح الله التكلف والتَّعَمُّل لولا أنها تلميذة «المدرسة القديمة»، وأنها من فريق المتأنقين المتشدقين المفتتنين بالصور والأساليب، لما وجد قلمي في طريقه ما يعترضه دون الوصول إلى الغاية التي يريدها، فالكتاب مسطورٌ في صدري بأكمله، وليس بيني وبينه — إن أردته — إلا أن أضع قلبي بجانبي وأستمليه ما يشعر به، فيمليه عليَّ ببساطةٍ ووضوح، ثم تناول القلم مرة أخرى وشرع في الكتابة، فإذا صوتٌ غليظٌ أجش يقعقع ناحية الباب: «صباح الخير يا ليز»، فرفع سيرانو رأسه، فإذا ضابطٌ ضخم الجثة، هائل الخلقة، ذو شاربين كثيفين مستطيلين، فسأل راجنو: من الرجل؟ فقال: إنه ضابطٌ من ضباط الجيش الفرنسي يسمي نفسه «الرجل الهائل»، وهو كما يزعم بطلٌ من الأبطال المغاوير الذين لم يسمح الدهر بمثلهم في جيش من جيوش العالم، وهو صديق زوجتي ليز، ولا يأتي هنا إلا لزيارتها، فألقى سيرانو على الضابط نظرة حادة، ثم عاد إلى شأنه واستمر يكتب كتابه ويهمهم بينه وبين نفسه من حين إلى حين بأمثال هذه الكلمات: «أحبك حبًّا يعجز القلم عن بيانه؛ لأن القلم مادة من مواد العالم الأرضي، والحب روحٌ من أرواح الملأ الأعلى»، «لا يرى الناس من عينيك الجميلتين سوى صفائهما ورونقهما، أمَّا أنا فإني أستشفُّ من ورائهما نفسك الجميلة العذبة المملوءة رقةً وشعورًا، فإذا قال الناس: ما أجمل عينيها وأحلاهما! قلت: ما أجمل نفسها المترقرقة في عينيها وما أصفى أديمها!» «إنني أعيش في هذا العالم عيش اليائس القانط، واليأس يقتل الفضائل في النفوس ويُمِيتها، فأحييني بالأمل واخلقي مني إنسانًا جديدًا تتخذي عندي — بل عند العالم أجمع — يدًا لا أنساها لك أبد الدهر، وفي اعتقادي أن ليس بيني وبين أن أكون إنسانًا نافعًا في المجتمع — بل نعمةً على الدنيا بأجمعها — إلا أن تُسْبِلي عليَّ ستر حمايتك ورعايتك».

بؤس الأدباء

وظل مستغرقًا في تَصوُّراته وأفكاره التي كان يرسمها على قرطاسه، كما يرسم المصور منظرًا بديعًا من مناظر الطبيعة على لوحه كما يراه، لا يزخرف ولا يوشي، ولا يبتدع ولا يبتكر، فلم ينتبه إلى جماعة الشعراء حين دخلوا الحانوت هاتفين مهلِّلين وهم في ملابسهم الزَّرية الغبراء، ونعالهم البالية، وقبعاتهم الممزقة. فقالت «ليز» لزوجها — وأشارت إليهم: ها هم أولاء صعاليكك وقاذوراتك يا راجنو! فلم يعبأ بها وقام لاستقبالهم والترحيب بهم، فعانقوه وحيوه، ودعوه بالزميل، والرصيف، والصديق، وبكل ما يحب من الألقاب والنعوت، وهو فرحٌ مغتبط، فوقف زعيمهم وسط القاعة وأخذ يتشمم بأنفه ويقول: ما أذكى رائحة بلاطك يا ملك الطهاة والشوائين! فانحنى راجنو بين يديه شاكرًا وقال: ما أسعد الساعة التي أراكم فيها أيها الأصدقاء الأوفياء! ثم أشار لهم إلى المائدة، فوقفوا حولها وضربوا بأعينهم في أنحائها، وظلوا يأكلون ويقصفون ويمزحون ويمجنون، فيقول أحدهم ويشير إلى قطعةٍ من الحلوى ذات رأسٍ مسنَّم: إن هذه القطعة لم تُحْسِنْ وضع قلنسوتها على رأسها، فلا بد من معاقبتها! فيقول له الآخر: وبم تُعاقبها؟ فيقول: بهشم رأسها، ثم يتناولها فيهشمها كلها رأسًا وجسدًا، وينظر آخر إلى قطعةٍ أخرى محشوة بالقشدة، ويضغطها فتبرز قشدتها البيضاء، فيقول: ما أجملها! كأنها ثغرٌ ضاحكٌ فلا بد لي من تقبيله! ثم يدنيها من فمه ليقبِّلها فيأكلها، ويقول آخر وهو ينظر إلى قيثارة الحلوى التي صنعها ذلك العامل في الصباح وأجازه راجنو عليها: كانت القيثارة قبل اليوم غذاء الأرواح، أما اليوم فهي غذاء الأجسام! ثم ينقضُّ عليها فيأكلها، وراجنو واقفٌ أمامهم يبتسم ويتهلل، ويقول في نفسه: ما أجمل هذه المعاني وأبدعها! يأبى الشَّاعر إلا أن يكون شاعرًا في كل موقفٍ وفي كل مقام.

ثم قال: هل تأذنُون لي أيها السادة أن أنشد بين أيديكم قصيدتي الجديدة التي نظمتها في وصف «اللَّوزينج» وسميتها باسمه؟ فصاحوا جميعًا: نعم، نعم، ولا بد أن تكون قصيدةً جميلةً جدًّا؛ لأن عنوانها جميل جدًّا! فاغتره مدحهم وثناؤهم، فرفع عقيرته وأخذ ينشد قصيدته ويُرَجِّع في إنشادها ترجيعًا مضحكًا، وهم لاهون عنه بشأنهم لا يعبئون به، ولا يلتفتون إليه إلا في الفينة بعد الفينة. فقال له الرجل الهائل: ألا تراهم يا راجنو وهم يلتهمون حلواك وأنت لاهٍ عنهم بألحانك وأغانيك؟ فمشى نحوه وانحنى عليه وألقى في أذنه هذه الكلمات: إنني أراهم أيها الغبي الأبله، ولكنني أغض الطرف عنهم رحمةً بهم وإشفاقًا عليهم، فهم قومٌ بؤساء معدمون، قَلَّمَا يرون وجه الطعام الشهي إلَّا في حانوتي، وأظنك لا تجهل أن ضيوفي أولى بالتَّجِلَّة والإكرام من ضيوف زوجتي! وكانا على مقربة من مكان سيرانو، فانتبه لكلماته الأخيرة، فرفع رأسه وقال له: ادن مني يا راجنو، فدنا منه فقال له: إنك تعجبني جدًّا أيها الرجل، فالشعراء في هذا العالم كالشجرة الوارفة في الْمَهْمَهِ القَفْر، يفيء إلى ظلها الغادون والرائحون، وهي وحدها التي تحتمل حر الهاجرة ولظاها، فرحمة الله ورضوانه على من يحسن إليهم ويتصدَّق عليهم.

ثم عاد راجنو إلى شأنه الذي هو فيه، وظل الشعراء يأكلون ويقصفون، ويبتاعون ما شاءوا من فطائر راجنو وحلواه بطرفهم الأدبية وملحهم النادرة، حتى فتح الباب ودخل عليهم أحد زملائهم، وكان قد تخلف عنهم قليلًا، فهللوا حين رأوه، وصاحوا بصوتٍ واحد: لقد تأخرت أيها الصديق! قال: قد حال بيني وبين اللحاق بكم ازدحام الناس ازدحامًا شديدًا عند «باب نيل». قالوا: وهل حدث شيء هناك؟ قال: نعم، كان ازدحامهم على ثمانية قتلى وجدوهم هناك مضرجين بدمائهم، ولا يعلم أحدٌ كيف قتلوا، ولا من جنى عليهم هذه الجناية الفظيعة! فانتبه سيرانو للحديث واعتدل في جلسته، وقال في نفسه: يا للعجب! كنت أظنهم سبعةً فقط، إذن قد ربحنا واحدًا آخر. فقال راجنو للمتكلم: وما ظن الناس بهذه الحادثة؟ قال: يقول بعضهم: إن رجلًا واحدًا هو الذي قام بمفرده بمقاتلة هؤلاء اللصوص، وكانوا مائة أو يزيدون، فانتصر عليهم جميعًا وفرق شملهم، وقتل منهم هذا العدد الكثير، ولقد رأينا العصي والخناجر والمُدَى التي كانت مع أفراد تلك العصابة مبعثرةً ههنا وههنا، وظل الناس يلتقطون القبعات التي طارت عن رءوس المنهزمين، من باب نيل إلى النهر، فمشى راجنو إلى سيرانو وقال له: أسامعٌ أنت هذا الحديث يا سيدي؟ قال: نعم. قال: فما ظنك ببطل هذه الواقعة، فرفع رأسه إليه وقال: لا أعرفه، فهرعت ليز إلى صديقها «الرجل الهائل» تسأله: وأنت يا سيدي؟ فابتسم وفتل شاربيه وغمز بعينيه وقال: أظنني أعرفه.

وكان سيرانو قد أتم كتابه وأراد أن يوقع عليه، ثم توقف وقال: لا لزوم للتوقيع؛ لأنني سأقدمه إليها بنفسي، ثم طواه ووضعه في صدره، ونهض قائمًا على قدميه، وهتف براجنو فأسرع إليه، فسأله: كم الساعة الآن؟ قال: ستٌّ وخمسون دقيقة. فقال في نفسه: لم يبق إلا عشر دقائق، وأخذ يتمشى في القاعة ذهابًا وجيئةً، وكانت ليز وصديقها الضابط جالسين على انفرادٍ في أحد أركان القاعة، فخيل لسيرانو أنه رأى بينهما شيئًا مريبًا، فدنا منهما ووضع يده على كتف المرأة وقال لها: يُخيَّل إلي أيتها السيدة أن هذا البطل الجالس بجانبك يُدَبر خطةً للهجوم على حصنك! فانتفضت وتظاهرت بالغضب، وقالت له: ماذا تقول يا سيدي؟ إن نظرةً واحدةً مني تكفي لهزيمة من يحاول ذلك. قال: ولكني أرى عينيك ذابلتين متضعضعتين تلوح عليهما علائم الانكسار! فاضطربت وحاولت أن تقول شيئًا فخانها صوتها، فصمتت. فقال لها: أيتها الفتاة، إن راجنو يعجبني جدًّا؛ لذلك لا أسمح لأحدٍ أن يعبث بشرفه أمامي! ثم التفت إلى الضَّابط فنظر إليه نظرةً شزراء، وقال: ولقد سمع من كانت له أذنان! أليس كذلك أيها «الرجل الهائل»؟

ثم تركهما واستمر في سبيله، فهمست «ليز» في أذن صديقها تقول له: إنك تدهشني جدًّا يا صديقي، ولا أعلم سببًا لسُكُوتك وصمتك، حتى ليخيل إليَّ أنك تخافه وتخشاه، قل له كلمة تؤلمه وتكسر من شِرَّتِه، أو اسخر من أنفه على الأقل، فإنه موضع الضعف منه، فنظر إليها ذاهلًا مشدوهًا وقد سرت في جسمه رعدةٌ شديدةٌ، وقال: أنفه؟ لا، لا، ما لنا وللسخرية بمصائب الناس وأرزائهم؟ ثم تسلل من مكانه وخرج من القاعة فتبعته، وكانت الساعة قد أشرفت على السابعة، فصاح سيرانو: قد جاء الميعاد يا راجنو، فهتف راجنو بشعرائه: هيَّا بنا أيها الأصدقاء إلى الحجرة الثانية، فتباطئوا وتلكئوا؛ فظل يدفعهم بيديه وهم يتخطفون الحلوى ويتناهبونها، حتى أدخلهم الحجرة وأغلق بابها عليهم، ووقف سيرانو على مقربةٍ من باب المطعم ينتظر قدوم روكسان ويقول في نفسه: لا أعطيها الكتاب إلا إذا رأيت في وجهها بارقة أملٍ.

اللقاء

وهنا سمع حَفِيف ثوبٍ مقبلٍ، فخفق قلبه خفقانًا شديدًا، ثم فُتِحَ الباب ودخلت روكسان ووراءها وصيفتُها، وهي تخطِر في مِشيتها تلك الخطرة البديعة التي عرفت بها، وافتتن بها الناس من أجلها، وقد أسبلت قناعها على وجهها، فحيته، فحيَّاها تحيةً محتشمة تترجح بين الأدب والكبرياء، وأشار لها إلى كرسيٍّ قد أعده لها فجلست عليه، ثم تركها وذهب إلى الوصيفة، وكانت واقفة على عتبة الباب تُقلب نظراتها في صنوف الأطعمة المنتشرة على المائدة. فقال لها بلهجة المازح المداعب: أشرهةٌ أنت أيتها الفتاة؟ قالت: نعم يا سيدي، فمشى إلى المائدة، وتناول كيسين من أكياس الحلوى وقال لها: هاك قصيدتين بديعتين للشَّاعر العظيم «بنسراد»، فخذيهما، فلم تفهم ما يريد، وقالت: وماذا أصنع بهما؟ قال: قد اتخذتهما «ليز» كما اتخذت غيرهما من قصائد الشعراء المجيدين أكياسًا للحلوى وأوعية للفطائر، فخُديهما واجلسي خارج الباب، فإنك ستجدين فيهما من ألوان الحلوى ما تشتهين، ولا تعودي إلا بعد أن تَشْبَعي، فتلألأ وجهها فرحًا وسرورًا، وتناولت الكِيسَين وعادت أدراجها.

ورجع سيرانو إلى روكسان، فوقف بين يديها حاسر الرأس، وقال لها: لقد أسديت إليَّ يا سيدتي بزيارتك هذه نعمةً لا أنساها لك مدى الدهر، وإني أفتخر بهذه الثقة التي أوليتنيها، وأنتظر بكل شوقٍ سماع ما تريدين أن تفضي به إليَّ، فحسرت قناعها عن وجهها، فأضاء ضوء القمر الساطع في الدجنة الحالكة، وقالت له: شكرًا لك يا ابن عمي، إنك قد أحسنت إليَّ ليلة أمس إحسانًا عظيمًا بقتلك ذلك الفتى الوقح الجريء، الذي حاول أن يعبث بك ويستهين بكرامتك، فغضبت لنفسك غضبة الأبيِّ الأَنُوف، ولم تَرِمْ مكانك حتى غسلت بدمه أثر الإهانة التي لحقت بك، أتعرف هذا الفتى يا سيرانو؟ قال: لا يا سيدتي. قالت: أبارزته دون أن تعرف اسمه؟ قال: نعم. قالت: إنه الفيكونت «فالفير» الذي أراد أحد المغرمين بي من عظماء هذا البلد — وهو الكونت دي جيش — أن يزوِّجَني منه على الرَّغم مني زواجًا لا أعرف كيف أُسميه؟ قال: زواجًا اسميًّا! فأطرقت برأسها حياء وخجلًا، وقالت: نعم. فقال لها: ما أفظع ما تقولين! لقد أصبحت الآن راضيًا عن نفسي كُلَّ الرضا في تلك الخطة التي انتهجتها معه، والتي انتهت بانتهاء حياته، بعد ما علمت أنني إنما كنت أقاتل في سبيلك لا في سبيل نفسي، وأذود عن عينيك الجميلتين لا عن أنفي، فاستضحكت وأشارت له إلى كرسي بجانبها، فجلس عليه صامتًا ساكنًا ينتظر ما تقول.

وساد السكون بينهما هُنَيْهَة، ثم أقبلت عليه وقالت له: كنت أريد أن أقول لك كلمة أخرى يا سيرانو، فهل تسمح لي بها؟ قال: نعم، أسمح لك بكل شيء، فقولي ما تشائين. قالت: أتذكر تلك الأيام الماضية التي قضيناها معًا ونحن صغيران في «بيرجراك»، في تلك المروج الخضراء على ضفاف البحيرة؟ فانتعشت نفسه وخفق قلبه خفقانًا شديدًا، وقال: نعم يا ابنة عمي، أيام كنت تأتين هناك مع أبويك لقضاء فصل الصَّيف في كل عامٍ. قالت: إني أذكر تلك الأوقات الجميلة كأنها حاضرةٌ بين يدي، وأذكر تلك الأعواد الشائكة التي كنت تقتطعها بيديك من أشجار الغاب، وتتخذ منها أسيافًا صغيرة تلعب بها في الهواء، كأنك تبارزُ أشباحًا خفية تتراءى لك. قال: نعم، أذكر ذلك ولا أنساه، وأذكر أنك كنت تجمعين أعواد الذرة من الحقل، ثم تجلسين على ضفة البحيرة لتتَّخذي من خيوطها شعورًا ذهبية لعرائسك الجميلة. قالت: نعم، ما كان أجمل تلك الأيام! وما كان أسعد ساعاتها! وما كان أحلى مذاق العيش فيها! لقد كان يخيل إليَّ في ذلك الوقت أنِّي صاحبة السلطان المطلق عليك، وأنك تحبني حبًّا شديدًا، وتهتم بشأني اهتمامًا عظيمًا، بل تأتمر بأمري في كل ما أشير به عليك، وتنزل عند جميع رغباتي وآمالي، وأظن أني كُنت جميلة في ذلك الحين، أليس كذلك؟ فازداد خَفَقان قلبه، وخُيِّل إليه أنه يرى بين شفتيها ظل تلك الكلمة العذبة التي يتلهَّف شوقًا إلى سماعها من فمها، فرفع رأسه ونظر إليها نظرةً باسمة عذبة، وقال: نعم يا سيدتي، كما أنت الآن! قالت: وكنت كثير الشَّغف بتسلق الأشجار الشائكة والمخاطرة بنفسك في ذلك مخاطرة عظيمة، فكنت إذا أصابك جرحٌ في يدك هرعت إليك وعطفت عليك عطف الأم الرءوم على ولدها، وأخذت يدك بين يدي هكذا، ومدت يدها إلى يده فجذبتها إليها، فوقع نظرها على ذلك الجرح الدامي الذي أصابه في معركة الليل، فدهشت وقالت: ما هذا يا سيرانو؟ ثم ابتسمت وقالت: ألا تزال تتسلق الأشجار حتى الآن! فضحك وقال: نعم، لا أزال أحب اللعب حتى الآن، ولقد لعبت ليلة أمس لعبةً شيطانية عند «باب نيل»، سفكت فيها من دم أعدائي فوق ما سفكوا من دمي أضعافًا مضاعفة.

ثم حاول أن يسترد يده، فأمسكت بها وقالت له: لا، بل لا بد أن تدعها لي الآن حتى أرى الجُرح وأَسْبُرَه كما كنت أفعل في عهد طفولتي، وأعالجه بالطريقة التي كنت أعالج بها جروحك من قبل، ثم أخرجت منديلها من صدرها، وغمست طرفه في قدحٍ من الماء، وظلت تمسح به الجرح برفق وتُؤدةٍ، وتقول له: هكذا كنت أعالج جروحك التي كانت تصيبك من تسلق الأشجار الشائكة في عهد طفولتك الأولى، وهو يرتعد بين يديها ويضطرب من تأثير ملامسة جسمها لجسمه، ويقول: نعم يا روكسان، إنها رحمةٌ لا تكون إلا في قلوب الأمهات. قالت له: قل لي: كم كان عدد أعدائك الذين قاتلتهم في تلك المعركة؟ قال: مائة أو يزيدون. قالت: مائة! يا للشجاعة النادرة! قال: وربما كنت لا تعلمين أنها المرة الثانية التي قاتلت فيها من أجلك في ليلةٍ واحدة! قالت: من أجلي؟ لم أفهم ما تريد. قال: نعم؛ لأنني إنما كنت أدافع عن ذلك الشاعر المسكين الذي انتصر لك، وذادَ عنك ومثَّل بخصمك أقبح تمثيلٍ في قصيدته التي هجاه بها، فحقدها عليه ودسَّ له هؤلاء الرعاع ليقتلوه في جنح الظلام. قالت: ما أعظم شكري لك يا ابن عمي! وما أكبر شأن تلك النعمة التي أسديتها إليَّ! حدثني حديث الواقعة من مبدئها إلى منتهاها، فلا بد أن تكون واقعةً غريبةً جدًّا لم يسطر التاريخ مثلها. قال: سأحدثك عنها فيما بعد، أما الآن فحدثيني أنت عن ذلك الأمر الذي جئتِني من أجله، والذي لم تجرئي على أن تفاتحيني فيه حتى الآن. قالت وهي لا تزال آخذةً بيده تمسَحها وتستغِثُّها: أما وقد ألقينا نظرةً على ماضينا الجميل، وجدَّدنا عهد تلك الذكرى القديمة، وعلمنا أن الصلة التي بيننا صلةٌ وثيقةٌ محكمةٌ لا تنال منها يد الدهر، ولا تأخذ منها عاديات الأيام، فاسمح لي أن أفضي إليك بسرِّي، وأن أقول لك بصراحة: إنني عاشقة يا سيرانو! فتلألأ وجهه وانتعشت نفسه، ومشت رعدةٌ خفيفة في أجزاء جسمه، وكاد منظره ينمُّ عما في نفسه، لولا تجلده واستمساكه، وقال لها: ومن هو هذا الإنسان السعيد الذي يتمتع بنعمة حبك؟ قالت: إنه لا يعلم شيئًا مما أضمره له في قلبي حتى الآن، ولم أفض إليه بسريرة نفسي حتى الساعة، وسيكون سروره عظيمًا جدًّا حينما يعلم أن الفتاة التي يحبها ويموت وَجْدًا بها تضمر له بين جوانحها من الوجد فوق ما يضمر لها! فازداد سروره وانتعاشه، وقال: ألا تستطيعين أن تقولي لي من هو يا روكسان؟ قالت: سأصفه لك لتكون أول ناطقٍ باسمه: هو شابٌّ خجولٌ شديد الحياء، يحبني حبًّا يملك عليه كل حواسه ومشاعره، ولكنه يكتم سِرَّه في صدره. قال: وكيف وقفت على سريرة نفسه؟ قالت: عرفتها من ارتجاف شفتيه، واكفهرار وجهه، وتَدَلُّهِ نظراته كلما رآني. قال: ثم ماذا؟ قالت: وهو ذكيٌّ نبيه، تلوح على وجهه علائم التفوُّق والنبوغ، فأطرق برأسه حياءً، وحاول أن يجتذب يده من يدها، وكانت قد انتهت من تضميدها. فقالت له: دعها لي الآن، فهي لا تزال ملتهبةً بالحمى، فتركها لها وهو يقول في نفسه: ما أسعدني وأعظم هنائي!

واستمرَّت في حديثها تقول: وهو فوق ذلك شجاعٌ مقدامٌ، شريف النفس، عالي الهمة، يأبى الضيم ويأنف الذل، ولا يبيت على ضيمٍ يراد به. قال: هيه؟ قالت: وهو جنديٌّ في فصيلة شُبَّان الحرس، أي في فصيلتك يا سيرانو؛ فهمهم بين شفتيه: لم يبق في الأمر ريب. قالت: أما صورته فهي أجمل صورةٍ خلقها الله في العالم! فصعق عند سماع هذه الكلمة التي ذهبت بجميع آماله وأحلامه، وتأوه آهةً شديدةً كادت تخرج فيها نفسه، فعجبت لأمره وقالت له: ماذا أصابك يا سيرانو؟ فتراجع إلى نفسه سريعًا، واستجمع من قواه في تلك اللحظة ما يعجز أشجع الرجال وأصبرهم عن استجماعه فيها، وقال: لا شيء، لقد أحسست بوخزٍ في يدي من تأثير الحمى، وقد ذهب الآن كل شيء، وصمت لحظة، ثم قال: نعم قد ذهب كل شيء، فتحدَّثي فإني مصغ إليك. قالت: لقد أحببت هذا الفتى حبًّا ملك علي عواطفي واستغرق مشاعري، ولا عهد لي به إلا منذ أيام قلائل، كنت أراه فيها يختلف إلى قاعة التمثيل، فيجلس منفردًّا وحده، فأنظر إليه من بعيد؛ وقد جئتك الآن أتحدث إليك في شأنه، فأطرق هُنَيْهَة ثم رفع رأسه إليها وقال لها بصوتٍ ساكن هادئ: ألم تتحدَّثي إليه قبل اليوم؟ قالت: لم نتخاطب إلا بالعيون. قال: وكيف عرفت جميع هذه الصفات التي ذكرتها فيه وما حادثته ولا جلست إليه؟ قالت: سمعتها منذ أيامٍ تحت أشجار الزيزفون في الميدان الملكي في مجتمع العجائز الفضوليات، لا حرمنا الله ثرثرتهن وفضولهن! قال: وهل هو من فرقة الشبان؟ قالت: نعم، شبان الحرس قال: أعترف لك يا سيدتي أنني قد عجزت عن معرفة اسمه، فقولي من هو؟ قالت: هو «البارون كرستيان دي نوفييت» قال: لا أذكر أني سمعت بهذا الاسم قبل اليوم. قالت: إنه لم يدخل الفرقة إلا في هذا الصباح، تحت قيادة «كاربون دي كاستل جالو».

فصمت هُنَيْهَةً، ثم نظر إليها نظرة عطفٍ وحُنُوٍّ وقال لها: ولكن يُخيل إليَّ يا روكسان أنك تخاطرين بقلبك في هذا الحب مخاطرةً عظيمة لا تدرين ما عاقبتها، وأنك تلقين بنفسك في هُوَّةٍ لا تعرفين السبيل إلى الخلاص منها، وكانت الوصيفة قد فرغت من طعامها في هذه اللحظة، فدفعت الباب وأطلت برأسها وقالت: قد أكلت كل شيءٍ يا سيدي، فماذا أصنع؟ فالتفت إليها وقال: حسبك ذلك، فاقرئي ما على الأكياس من الأشعار، ولا تعودي إلا إذا دعوتك، فانصرفت وعاد هو إلى إتمام حديثه فقال: أنت يا ابنة عمي فتاةٌ رقيقة الشعور، ذكية الفؤاد، لا يعجبك إلا التفوق والنبوغ، ولا تأنس نفسك إلا بالذكاء الخارق والفطنة النَّادرة، فماذا يكون شأنك غدًا لو أن ذلك الفتى الذي أحببتِهِ واصطفيتِهِ لنفسك كان بليدًا، أو عييًّا، أو ضعيف الذهن، أو خامل الفكر؟ قالت: لا يمكن أن يكون كذلك! قال: لماذا؟ قالت: لأن منظر شعره الذي يشبه في صفرته ولمعانه منظر شعر أبطال «أورفيه»، يدل على نبوغه وذكائه! قال: ربما كان جميل الشعر بديع الصورة، ولكنه بليد الذهن، ضيِّق العَطَن. قالت: لا أظن ذلك، بل يخيل إليَّ — وإن لم أجلس إليه ولم أسمع حديثه — أنه أرقُّ الناس حديثًا، وأعذبهم سمرًا، وأفصحهم لسانًا، وأغزرهم بيانًا. فقال في نفسه: نعم، كل الألفاظ جميلة ما دام الفم الذي ينطق بها جميلًا، ثم قال لها: ولكن ماذا تصنعين لو تبيَّن لك أنه جاهلٌ أحمق؟ قالت: إذن أموت همًّا وكمدًا. قال: هذا الذي أخاف عليك منه.

وصمت هُنَيْهَة وهو يردد بينه وبين نفسه: وا رحمتاه لها! إنها على شفا الهاوية، ثم قال لها: وفي أي شأنٍ من شئونه تريدين أن تتحدثي إليَّ؟ قالت: قد علمت بالأمس أمرًا أحزنني جدًّا وأقلق مضجعي، فلم أطعم الغمض ساعةً واحدة. قال: وما هو؟ قالت: علمت أن جنود فصيلتكم جميعهم من الجاسكونيين الجفاة، وأنهم لا يحبون أن يدخل فصيلتهم غريبٌ عنهم، فإذا دخل ناوءوه وشاكسُوه حتى يخرجوه! وربما تعللوا عليه العلل فبارزوه وقتلوه، ففطن لغرضها، وقال: نعم إنهم يفعلون ذلك، ولهم الحق فيما يفعلون، وخاصة إذا كان هذا الواغل عليهم أحد أولئك الأغبياء الجهلاء الذين ينتظمون في سلك الفرقة من طريق الشفاعات والوصايات، لا من طريق الكفاءة والاستحقاق. قالت: ذلك ما جئتك من أجله، فقد أعجبني موقفك الشريف الذي وقفته ليلة أمس أمام ذلك الفتى الوقح البذيء الذي حاول أن يهزأ بك، وينال من كرامتك، وامتلأ قلبي ثقة بما كنت لا أزال أعرفه لك طول حياتك من الشجاعة والحمية، وعلو الهمة وإباء الضيم، فأتيت إليك أسألك أن تتولَّى كرستيان بحمايتك.

فصمت سيرانو لحظةً ذهبت نفسه فيها كل مذهبٍ، وتمثلت له روكسان في صورتين مختلفتين، وقد وقفت إحداهما بجانب الأخرى: صورة امرأةٍ عاشقة مستهترة تريد أن تُسخِّرَه في غرضٍ من أغراضها الغرامية، وتطلب إليه أن يضع يده في تلك اليد التي قتلته، وأتلفت عليه نفسه، وأن يكون صديقًا لذلك الفتى الذي حرمه سعادته وهناءه وقطع عليه سبيل حياته، ووقف عقبةً بينه وبين آماله وأمانيه، وصورة امرأةٍ مسكينة ضعيفة من أقربائه وذوي رحمه، قد نزلت بها نكبة من النكبات العظام، ففزعت إليه فيها تسأله أن يعينها عليها، ثقةً منها بفضله وكرمه، وهمته ومروءته، وهي لا تعلم من شئون قلبه شيئًا، ولا تدري أن هذا الذي تفزع إليه فيه إنما هي نفسه التي بين جنبيه، وحياته التي لا يملك في يده حياةً غيرها!

ثم ما لبث أن رأى الصورة الأولى تتضاءل في نظره وتتصاغر حتى تلاشت واضمحلَّت، وظلت الثانية ثابتةً في مكانها بارزةً واضحة، تنظر إليه نظرة الضراعة والاسترحام، وتبسط إليه يد الرجاء والأمل، فالتفت إليها وقد هبَّت من بين أردانه رائحة الكرم، وقال لها بصوتٍ قوي رنان لا تتخلله رنة الحزن، ولا تمازجه نغمة اليأس: «كوني مطمئنةً يا روكسان، فإني سأتولَّى حمايته!» وما علم أنه قد نطق في نطقه بهذه الكلمة بحكم الموت على نفسه.

فقالت له: شكرًا لك يا ابن عمي، فسأعتمد على وعدك ما حَيِيتُ. قال: اعتمدي ما شئت. قالت: وكُنْ صديقه الوفيَّ الذي يأخذ بيده في جميع شدائده ومخاطره. قال: بل أصدق أصدقائه. قالت: وَحُلْ بينه وبين التعرض لأخطار المبارزات والمشاجرات. قال: إنه لن يبارز أبدًا. قالت: أتقسم لي؟ قال: لا؛ لأني ما تعودت الكذب، فتلألأ وجهها فرحًا وسرورًا وقالت: الآن يمكنني أن أنصرف آمنةً مطمئنة، شاكرةً لك فضلك الذي لا أنساه أبدًا، ثم تناولت برقعها فألقته على وجهها وهي تقول: إنك لم تُتَمم لي حديث الواقعة التي جرحت فيها، فحدِّثني عنها قليلًا، يا للعجب! مائة رجل كانوا ضدك؟ إنك كفءٌ لكل عظيمةٍ يا ابن العم! لا تنس أن تقول له: أن يكتب إليَّ اليوم كتابًا، حدثني حديث الواقعة يا صديقي، مائة رجل؟ يا للشجاعة النادرة؟ إن كرستيان لا يعلم أني أحبه حتى الساعة، فكن أول من يحمل إليه هذه البُشرى، وقل لي: كيف استطعت أن تلقى وحدك هذا العدد الكثير، أو قل لي ذلك فيما بعد؛ لأنني تأخرت كثيرًا، ولا بد لي من الذهاب الآن!

ثم نهضت ومدَّت إليه يدها، فقبَّلها. فقالت: إلى اللقاء يا ابن العم، إني أنتظر من كرستيان كتابًا اليوم، ثم انصرفت.

فوقف على عتبة الباب يشيِّعها بنظراته، حتى غابت عن عينيه، ثم عاد يترنح همًّا وحزنًا، حتى وصل إلى كرسيه فتهافت عليه وهو يقول: إنها تعجب لشجاعتي في تلك المعركة، وأنا في هذه الساعة أشجع مني في كل موقفٍ وقفته في حياتي!

وكان راجنو قد أحسَّ بخروج روكسان، فأطل من باب الحجرة، فرأى سيرانو جالسًا جلسته تلك، فصاح به: أيمكننا الرجوع الآن يا سيدي؟ قال: نعم، فأشار إلى أصدقائه الشعراء، فدخلوا جميعًا، ودخل في تلك الساعة نفسها من باب المطعم «كاربون دي كاستل جالو»، قائد فرقة الحرس، وهو يهدر بصوتٍ كالرَّعد: قد عرفنا كل شيءٍ يا سيرانو، وإني أهنئك من صميم قلبي بذلك النجاح العظيم الذي أحرزته ليلة أمس على أعدائك المائة! فنهض سيرانو متضعضعًا، وانحنى بين يدي قائده وقال: شكرًا لك يا سيدي. فقال: ما لي أراك شاحبًا مصفرًّا؟ وما هذه الغبرة السوداء المنتشرة على وجهك؟ يخيل إليَّ أنك قد لقيت في تلك المعركة عناءً عظيمًا! قال: نعم يا سيدي. قال: إن ورائي ثلاثين جنديًّا من أبناء فرقتك قد اجتمعوا في تلك الحانة المقابلة لهذا المطعم، وهم يريدون تهنئتك والاحتفال بانتصارك، فاذهب إليهم وقابلهم، ثم قال: لا، بل لا بد أن يأتوا هم إليك بأنفسهم ليهنِّئوك، تكرمةً لك وإعظامًا لشأنك، ثم وقف على عتبة باب المطعم، وصاح بأعلى صوته: أيها الأصدقاء، إن البطل لا يستطيع الحضور إليكم؛ لأنه تعبٌ قليلًا فاحضروا أنتم إليه، وما هي إلَّا هُنَيْهَة حتى أقبل الجنود الثلاثون يزلزلون الأرض بخفق نعالهم وصلصلة أسلحتهم، ويطمطمون بلغتهم الجاسكونية: سانديوس – ميل ديوس – كاب ديوس – مور ديوس – بوكاب ديوس، ثم دخلوا، ففزع راجنو عند رؤيتهم، لما هاله من طول قاماتهم وضخامة أجسامهم، وقال لهم: أكلُّكم أيها السادة جاسكونيون؟ فأجابوا جميعًا بصوتٍ واحد: نعم، كلنا، ثم اندفعوا نحو سيرانو يقبِّلونه ويعانقونه، ويهزون يَدَه ويهتفون: ليحيَ البطل، لتحيَ جاسكوينا، ليحيَ الجيش، وهو يتململ في نفسه ويتبرَّم؛ ولكنه كان يبتسم في وجوههم ويستقبل تهانئهم له بالشُّكر والارتياح.

وكان خبر تلك المعركة قد انتشر في أنحاء باريس جميعها، فوفد جمهورٌ عظيمٌ من الناس إلى المطعم، يتقدمهم «لبريه» صديق سيرانو، وهم يصيحون: ليحيَ البطل، لتحيَ فرنسا، ثم دخلوا جميعًا يركضون ويتدافعون، ويحطمون كلَّ شيءٍ بين أيديهم، وراجنو واقفٌ مكانه يتأمل هذا المنظر الغريب بسرورٍ وارتياح، ويقول: وا طرباه! ها هو ذا الفنُّ يتوج اليوم في مطعمي! حتى بلغوا مكان سيرانو، فداروا به يهنئونه ويقبِّلونه، وكلهم يناديه: أيها الأخ، أيها الصديق، أيها الزميل، فيقول في نفسه: وا عجبًا لكم أيها الناس! لم يكن لي بالأمس بينكم صديقٌ، واليوم كلكم أصدقائي!

ووقفت في تلك الساعة مركبةٌ فخمةٌ أمام باب المطعم، ونزل منها ثلاثة من الأشراف، فدخلوا الحانوت، وظلوا يدفعون الناس أمامهم دفعًا حتى دنوا من سيرانو، فوضع أحدهم يده في يده وشدَّ عليها بقوة، وقال له: آه لو كنت تدري يا صديقي مقدار سروري بك وبنجاحك! فالتفت إليه سيرانو غاضبًا، وقال له: ما أنا بصديقك يا سيدي؛ لأنني ما عرفتك قبل اليوم! وقال له الآخر: إن بعض السيدات ينتظرنك في مركبتهن أمام الباب ليهنِّئنك بانتصارك، فلو تفضلت بمرافقتي إليهن لأقدمك لهنَّ! فقال له: وكيف تسمح لنفسك يا سيدي أن تقدمني إلى غيرك قبل أن تُقدِّم نفسك إليَّ؟ وقدم إليه الثالث كأسًا من الخمر وقال له: اشرب معي يا سيدي نخب بأسك وشجاعتك، فالتفت إليه وقال له: يخيل إليَّ يا سيدي أنك أشجع مني؛ لأنك قدمت إليَّ شيئًا قبل أن تعلم ما رأيي فيه، ثم دفع الكأس عنه بقوة فهراقها، وجاءه أحد مراسلي الصحف وقد أمسك بيمينه قلمًا وبيسراه قرطاسًا، وقال له: قصَّ عليَّ حديث واقعتك أيها الفارس البطل لأنشره في جريدتي، فنظر إليه شزرًا وقال له: إنني لم أقاتل من أجلك يا سيدي، ولا من أجل جريدتك، بل من أجل صديقي لينيير، فتململ لبريه من خُشونته وجفائه، وكان جالسًا على مقربة منه، فجذبهُ من ثوبه وقال له همسًا: ما الذي أصابك يا سيرانو؟ وما هذه الخشونة التي تستقبل بها أصدقاءك الذين يهنئونك ويمجدونك؟ فقال له: لا تصدق كل ما تراه يا لبريه، فليس لي في العالم صديقٌ سواك.

وإنهم لكذلك إذ ساد السُّكون وانقطعت الضوضاء، وانفرج الجمهور صفين متقابلين خاشعين مستكينين، وإذا الكونت دي جيش القائد الفرنسي العظيم قد أقبل يجرِّر أذياله، ويسدد أنفه إلى كبد السماء عظمةً وخيلاء، ووراءه كثير من الأشراف ورجال الجيش، حتى توسط القاعة، فوقف ونادى: أين سيرانو؟ فالتفت سيرانو فرآه، فدهش وقال في نفسه: لعله جاء أيضًا ليهنئني، ولئن فعل لتكوننَّ أعجوبة الأعاجيب، ثم أجابه وهو واقف مكانه لا يتحرك ولا يحتفل: هأنذا يا سيدي. قال: أقدم إليك تهنئتي الخاصة، وأبلغك أن جناب القائد العام المارشال «دي جاسيون» قد أمرني أن أبلغك تهنئته لك، وثناءه عليك، وإعجابه بك، واغتباطه بعملك العظيم الذي قمت به ليلة أمس، وأضفت به إلى سجل الشجاعة الفرنسية صفحةً من أشرف الصفحات وأمجدها، ولقد كان في شك من صحة الخبر، لولا أن أقسم له بعض الضباط الذين صحبوك ليلة أمس إلى «باب نيل» أنهم شاهدوا الحادثة بأعينهم، فرفع سيرانو نظره إلى الكونت بهدوء وسكون، وقال له: لا شك أن للمرشال قدمًا راسخة في الفنون الحربية وأساليبها، ومثله من يقدِّر أقدار الرجال، فبلغه شكري، فدهش الناس لجوابه الخشن الجافي، وطاش عقل لبريه حتى كاد يتفجر غيظًا وحنقًا، إلا أنه تماسك وتجلَّد وهمس في أُذنه: إن هذا لا يليق بك مطلقًا، قل له كلمةً أجمل من هذه ردًّا على تحيته، واستقبل الصنيعة بمثلها، فصمت سيرانو هُنَيْهَة، ثم قال له بصوت خافت: دعني يا لبريه فإنني لا أطيق أن أشكر رجلًا جاء لتهنئتي بانتصاري عليه! فقال له: يخيل إليَّ أنك متألم يا صديقي، فانتفض سيرانو وقال: أنا! لا، أتظن أنني أتألم أمام أحدٍ مهما برَّح بي الهم وأمضَّني، أو أسمح لعدو من أعدائي أن يشمت بي ويرى بعينيه منظر بؤسي وشقائي؟ انتظر قليلًا فسوف ترى، وكان الكونت قد جلس على كرسيه المعد له جلسة العظمة والكبرياء؛ فالتفت إلى سيرانو وقال له بنغمة الساخر الهازئ: إن تاريخك يا مسيو سيرانو حافلٌ بالحوادث والوقائع، ويخيل إليَّ أنني رأيتك في فرقة هؤلاء الجاسكونيين الشياطين، أليس كذلك؟ فصاح الجاسكونيون جميعًا: نعم هو في فرقتنا، ولنا بذلك الفخرُ العظيم، فالتفت الكونت إليهم، وقلب نظره في وجوههم وهم وقوفٌ بجانب قائدهم «كاربون دي كاستل جالو»، وقال: أكل هؤلاء الذين تلوح عليهم مخايل العظمة الكاذبة جاسكونيون؟ فهتف كاربون بسيرانو وقال له: تفضَّل أيها البطل الباسل بتقديم فرقتي بالنيابة عني إلى حضرة القائد العظيم.

فمشى سيرانو نحو الكونت خطوتين، وأخذ يقدم إليه الفرقة بموشَّح بديعٍ ارتجله في الحال، وضمنه الثناء عليهم والتنويه بفضلهم والإشادة بذكرهم حتى أتمه، فأعجب الكونت ببداهته وحضور ذهنه، وقال في نفسه: إن اصطناع شاعر مجيد كهذا الشاعر مفخرةٌ عظمى لمن يصطنعه، وليس من الرأي أن يفلت مثله من أيدينا، ثم استدناه منه وقال له: أتحب أن تكون لي يا سيرانو؟ فانتفض وقال: لا يا سيدي، ولا لأي إنسانٍ! قال: إن خالي الكردينال «ريشلييه» كثير الإعجاب بك وبأدبك، ويحب أن يراك، فإن شئت قدمتك إليه، ولقد قيل لي: إنك نظمت منذ عامين روايةً تمثيلية جميلة لم توفق إلى تمثيلها حتى اليوم، فلو أنك ذهبت بها إليه، ورفعتها له لعرف لك فضلك فيها، وأحسن جزاءك عليها، كما أحسن من قبلك إلى غيرك من الكتَّاب والشعراء، فهمس لبريه في أذن سيرانو: لقد آن لروايتك «أجريبين» أن تمثل فليهنئك ذلك، فلم يلتفت إليه سيرانو، وقال للكونت بنغمة السَّاخر المتهكم: أحقٌّ ما تقول يا سيدي؟ قال: نعم، والرجل كما تعلم أديبٌ بارع، راسخ القدم في النقد الأدبي، وسينظر في روايتك هذه نظر الناقد البصير، وربما أجرى فيها قلم تهذيبه وتنقيحه، فجاءت آية الآيات في حسنها وجمالها. فاكفهر وجه سيرانو وتفصد جبينه عرقًا، وقال للكونت: ذلك مستحيلٌ يا سيدي، وإن دمي ليجمد في عروقي عندما أتخيل أن إنسانًا في العالم يحدث نفسه بتغيير حرفٍ واحدٍ من قصيدة من قصائدي، وما أنا في حاجةٍ إلى الاستعانة على أدبي بأحدٍ من الناس كائنًا من كان! قال: ولكنك تعلم أنه إذا أعجبه بيتٌ من الشعر دفع ثمنه غاليًا، قال: نعم، أعلم ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يبذل فيه ثمنًا مثل الذي بذلته؛ لأنني إنما أسكب فيه دم قلبي حارًّا، ودم القلب أغلى قيمةً من الفضة والذهب. قال: إنك أبيُّ النَّفس يا سيرانو. قال: نعم، وقد كان جديرًا بك أن تفهم ذلك من قبل.

وهنا دخل رجلٌ يحمل على يديه قبعاتٍ كثيرةً قذرة، كان قد وجدها في ميدان المعركة عند «باب نيل»، من آثار الفارين والمنهزمين، فألقاها بين يدي سيرانو، وقال له: ها هي ذي أسلاب المعركة التي تركتها احتقارًا لها وازدراءً بها، قد حملتها إليك؛ لا لأنها تستحق عنايتك والتفاتك؛ بل لأنها دليلٌ قاطعٌ على جبن أعدائك ونذالتهم، فضحك الجمهور طويلًا وظلوا يهتفون: قبعات الهاربين! قبعات الهاربين! وقال سيرانو وهو ينظر خلسةً إلى وجه الكونت: ليت شعري من هو ذلك الجبان النذل الذي جرَّد مثل هذا الجيش السافل ليحارب به شاعرًا مسكينًا؟ ما أحسبه الآن إلا خزيان نادمًا، يتمنى أن لو انفجرت الأرض تحت قدميه، فهوى في أعماقها أبد الآبدين! فصاح الجمهور من كل ناحية: لا شك في ذلك، فارتعد الكونت غيظًا، واربدَّ وجهه، وصاح بصوتٍ أجش كهزيم الرعد: ماذا تقولون؟ أنا الذي جرد هذا الجيش السافل كما تقولون؛ لأنني أردت تأديب ذلك الرجل الوقح البذيء، ولا يتولى تأديب سافل دنيء مثله إلا سفلةٌ أدنياء، فقهقه سيرانو ضاحكًا، وأخذ يجمع القبعات بحد سيفه، ثم دفعها تحت قدمي الكونت وقال له: إذن يمكنني يا سيدي أن أكلفك برد هذه القبعات إلى أصدقائك.

فثار الكونت من مكانه غاضبًا، ونظر إلى سيرانو نظرةً ملتهبة ينبعث الشرر من جوانبها، وقال له: هل قرأت أيها الرجل «دون كيشوت»؟ قال: نعم، قرأتُهُ وأنا حاسر الرأس إعجابًا بذلك البطل الشَّريف. قال: أتذكر من قصصه قصة الطواحين الهوائية؟ فانحنى سيرانو وقال: نعم، «في الباب الثالث عشر». قال: ما رأيك فيمن يحاول مهاجمة تلك الطواحين أو اعتراض سبيلها؟ ففطن سيرانو لما أراد، وقال: ما كنت أظنُّ أن أعدائي طواحين هوائية تذهب مع كل ريحٍ. قال: إنها تمد أذراعها الطويلة لتتناول بها من يجسر على مقاومتها وتقذف به في الهوة العميقة. قال: أو الكوكب العالي! فصاح الكونت: مركبتي وخدمي! فابتدر الأشراف تنفيذ أمره، وظلوا يتراكضون ويتدافعون كأنهم بعضُ الخدم، وما هي إلا لحظات حتى حضرت المركبة، فخرج الكونت وخرج بخروجه جميع الأشراف والنبلاء، من حضر منهم معه، ومن حضر قبل ذلك، لا يحيون سيرانو ولا يدنون منه، ولا يرفعون أنظارهم إليه — مصانعةً للكونت ومداهنةً — فمشى وراءهم سيرانو يشيعهم إلى الباب، وهو يقول لهم: ماذا دهاكم يا أصدقائي؟ ما لكم تُعرضُون عني وتفرُّون مني؟ ما لكم لا تودعون البطل الذي جئتم الساعة لتهنئته وتكريمه؟

وما زال يشيعهم بأمثال هذه الكلمات حتى ركبوا جميعًا مركباتهم وانصرفوا، فعاد إلى مكانه الأول وهتف بلبريه، فلبَّاه فاستدناه منه واحتضنه إلى صدره وقال له: ألم أقل لك أيها الصديق: إنه ليس لي في العالم صديقٌ سواك؟

نفس الشاعر

نكسَ لبريه رَأْسَه مليًّا، ثم نظر إلى سيرانو نظرةً حزينةً مكتئبة، وقال له: قل لي أيها الصديق: ماذا أعددت لنفسك من الوسائل غدًا للخلاص من هذه الهوة العميقة التي قذفت بنفسك فيها؟ واسمح لي أن أقول لك: إنك قد جننت جنونًا لا أدري كيف يتركونك بعده خارج المارستان، أليس كل ما تستطيع الذود به عن نفسك في سلوك هذه الخطة العسراء أن تقول لي — كما تقول كل يومٍ: إنك تحب أن تعيش حرًّا مستقلًّا في حياتك، لا يسيطر عليك أي مسيطرٍ من القيود والتقاليد؟ فليكن لك ما تريد، ولكن هل تستطيع أن تنكر أنك مغالٍ متطرف؟ إنني لا أطلب إليك شيئًا سوى أن تعترف لي بذلك، فابتسم سيرانو وقال له: إن كان هذا هو كل ما يرضيك فإني أعترف لك به، فتهلل لبريه فرحًا وقال له: آه! لقد اعترفت أيها الصديق، فلزمتك الحجة التي لا قبل لك بدفعها. قال: إنني لا أنكر يا لبريه أنني رجل مغالٍ متطرف كما تقول، ولكن في سبيل المبدأ والفكرة، والتطرُّف قبيحٌ في كل شيءٍ إلا في هذا السبيل، قال: ولكنك في حاجة إلى شيء من حسن السياسة وسعة الصدر، ولين الجانب؛ لتستطيع أن تصل إلى المجد الذي تحبه وتتعشقه.

فاستوى سيرانو في مكانه جالسًا، وقد ظللت جبينه سحابةٌ سوداء من الهَمِّ، واستحالت صورته إلى صورةٍ مريعة مخيفة، وقال: ماذا تريد مني يا لبريه؟ وما هي الخطة التي تحب أن ترسمها لي لأنْفُذَ من طريقها إلى المجد الذي تتحدث عنه، وتزعم أنني أتعشقه وأصبو إليه؟

أتريد أن أعتمد في حياتي على غيري، وأن أضع زمام نفسي في يد عظيمٍ من العظماء أو نبيلٍ من النبلاء يصطنعني ويجتبيني ويكفيني مئونة عيشي، ويحمل عني هموم الحياة وأثقالها، فيكون مثلي مثل شجرة «اللبلاب»، لا عمل لها في حياتها سوى أن تلتف بأحد الجذوع تلعق قشرته، وتمتص مادة حياته، بدلًا من أن تعتمد في حياتها على نفسها؟ ذلك ما لا يكون.

أتريد أن أحمل نفسي على عاتقي كما يحمل الدلال سلعته، وأدور بها في الأسواق مناديًا عليها: من منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء، وأصحاب الجاه والسلطان يبتاع نفسًا بذمتها وضميرها وعواطفها، ومشاعرها بلقمة عيش وجرعة ماء؟

أتريد أن أنصب نفسي سخريةً في الأندية الخاصة والمجتمعات العامة، ألعب كما يلعب القرد، وأنطق كما تنطق الببغاء، وأتلون كما تتلون الحرباء رجاء أن أجد التفاتةً من عيني أمير، أو أرى ابتسامةً على شفتي وزير؟

أتريد أن تستحيل قامتي إلى قوسٍ من كثرة الانحناء! وأن تتهدل أجفاني من كثرة الإطراق والإغضاء، وأن تجتمع فوق ركبتي طبقةٌ سميكةٌ من كثرة السُّجود والجثي بين يدي العظماء؟

أتريد أن يكون لي لسانان: لسانٌ كاذبٌ أمدح به ذلك الذي اصطنعني واجتباني، ولسانٌ أعدد به عيوبه وسيئاته؟ وأن يكون لي وجهان: وجهٌ راضٍ عنه؛ لأنه يذود عني ويحميني، ووجهٌ ساخط عليه لأنه يستعبدني ويسترقني؟

أتريد أن أقضي حياتي كلها واقفًا وسط دائرةٍ واحدةٍ أثب فيها وأطفر، وأتطاول بعنقي ليتوهم الناس أني طويلٌ، وما أنا بطويل؟ أو أن أتخذ لي بوقًا ضخمًا فيه ليتوهَّم السامعون أني جهوري الصوت، وما أنا إلا نافخٌ في بوق؟

أتريد أن أسير سفينة شعري في العالم بأذرع العظماء والكبراء بدلًا من المجاذيف التي أَنْحتُها بفأسي، وبشعور «الدوقات» الغانيات بدلًا من الأشرعة التي أنسجها بيدي، وبتنهدات الأميرات العاشقات بدلًا من الرياح الجارية التي يسخرها الله لي؟ أتريد أن أجعل حياتي الأدبية تحت رحمة المقرِّظين والناقدين، والراضين والساخطين، فإن شاءوا رفعوني إلى علياء السماء، وإن شاءوا هووا بي إلى أعماق الجحيم؟

ذلك ما لا يكون، والموت أهون عليَّ من ذلك.

أريد أن أعيش حرًّا مستقلًّا، لا أخشى أحدًا، ولا أهاب شيئًا، لا يعنيني تهديد الجرائد التجارية الساقطة، ولا يفرحني أن تنشر الصحف الكبيرة اسمي بالأحرف الضخمة في أكبر أنهارها، ولا أبالي أَتَدَاوَلَ الناس قصائدي وتدارسوها، ورنت نغماتها في أرجاء المسارح أم بقيت في كسر خزانتي أقرؤها بنفسي لنفسي، وأتغنَّى بها في ساعات وحشتي وخلوتي!

أريد أن أعيش حرًّا مطلقًا، أضحك كما أشاء وأبكي كما أريد، وأحتفظ بنظري سليمًا، وصوتي رنانًا، وخطواتي منتظمةً، ورأسي مرتفعًا، وقولي صريحًا، أنظم الشعر في الساعة التي أختارها، وفي الشأن الذي أريده، فإن أعجبني ما ورد عليَّ منه فذاك، وإلا تركته غير آسفٍ عليه، وأخذت في نظم غيره، بدلًا من أن أتوسل إلى الطابعين أن ينشروه، والأدباء أن يقرِّظوه، والممثلين أن يمثلوه، والعظماء أن ينوهوا به، ويرفعوا من شأنه.

أحبُّ ألَّا أنظم من الشعر إلا ما يجود به خاطري، وألَّا أنظم إلا بالطريقة التي أريدها أنا، لا التي يريدها الناس لي، وألا أمتع نظري إلا بمنظر الأزهار التي أغرسها بيدي في حديقتي، فإن قدر الله لي منزلةً في الحياة فلن أكون مدينًا بها لأحدٍ غيري، ولن يكون فخرها عائدًا إلا عليَّ وحدي، ولا أسمح لأحدٍ من الناس — كائنًا من كان — أن يرفعني، بل لا بد لي من أن أرفع نفسي بنفسي.

أريد أن أعيش حرًّا طليقًا، أناضل من أشاء، وأجادل من أشاء، وأنتقد من أشاء، وأن أقول كلمتي الخير والشر للأخيار والأشرار في وجوههم، لا متملقًا أولئك، ولا خاشيًا هؤلاء.

إن العبد المقيد بقيود الإحسان والنعم، لا يمكن أن يكون حرًّا طليقًا، فليُعفني الناس من أياديهم وصنائعهم؛ لأني لا أحب أن أكون عبدًا لهم، ولا أسيرًا في أيديهم.

وآخر ما أقول لك: إني أفضل أن أعيش ممقوتًا مرذولًا عند الناس على أن أعيش ذليلًا مُستعبدًا لهم، ولا أحب أن أرتفع ارتفاع الزيزفون والسَّرْو إذا كانت اليد التي ترفعني غير يدي، وحسبي من الرفعة والشرف أن أنال منها نصيبي الذي قسم لي قدر ما تسمح به قوَّتي ومواهبي، لا أزيد على ذلك شيئًا.

فقال له لبريه: عش بنفسك وحيدًا كما شئت، ولكن لا تكن عدوًّا للجميع.

قال: ربما أكون مغاليًا في ذلك، ولكن ما دعاني إلى المغالاة في المعاداة إلا مغالاة معشر المتكلفين، والمُتَعَمِّلِين في المصادقة والموالاة، وتصنعهم في اجتذاب الخلان والأصدقاء، وما بغَّض إليَّ التوادَّ والتحابَّ إلا بغضي لتلك الابتسامات الباردة الثقيلة التي تنفرج عنها شفاههم كلما قابلوا صديقًا أو عدوًّا، شريفًا أو وضيعًا، كريمًا أو لئيمًا، حتى أصبحت لا أحب شيئًا في العالم حبي لبغض الناس إياي، ولا أكره شيئًا كرهي لحبهم لي، وتودُّدهم إليَّ.

هذا هو عيبي الوحيد الذي لا أعرف لنفسي عيبًا سواه، ولكنه عيب يعجبني جدًّا ويلذ لي كثيرًا، وإنك لا تستطع أن تُدرك مقدار ما أجده من اللذة والغبطة في نفسي عندما أسير في طريقي فأراه مملوءًا بنظرات البغض، ملتهبًا بنيران الحقد، وأرى نفسي محاطًا بنطاقٍ محكمٍ من قلوب السَّاخطين والناقمين.

أما الشتائم التي أسمعها، واللعنات التي تصوب إلي، فهي أشبه الأشياء عندي بذلك البَرَد المتساقط الذي يتناثر من الجو على ردائي، ثم ينزلق عنه إلى الأرض فأدوسه بقدمي.

إن الصداقة الباردة المتفككة التي يسعى وراءها الناس أشبه شيء بالياقة الإيطالية اللينة، التي تتهدَّل حول العنق، فيتهدل العنق معها، فهي وإن كانت لينة مريحة إلا أنها رخوةٌ مهلهلةٌ ليست لها مُسكةٌ ولا قوام.

أما العداوة فهي الدرع الفولاذية الصلبة التي تدور بالجسم فتحفظ كيانه وقوته، وتمنعه عن أن يضعف أو أن يخور، وكل عدوٍّ جديد هو حلقةٌ جديدةٌ في تلك الدرع القوية المتينة.

فقال لبريه: إنني لم أرك في حياتي راضيًا عن البغض مثل اليوم، وإن نفسي تحدثني بأن كارثةً من الكوارث العظيمة قد نزلت بك فأثارت هذه الخواطر في نفسك.

فاضطربَ سيرانو وخفت صوته، وهدأت تلك الزوبعة التي كانت ثائرةً في نفسه، وقال: ماذا تقول يا لبريه؟ قال: أظن أنك قد عرفت منها عندما قابلتها أنها لا تحبك، فأنت ناقمٌ على الحب، راض عن البغض، فنكس رأسه وصمت صمتًا طويلًا لا يقول فيه شيئًا، ففهم لبريه كل شيء.

المعركة النفسية

وفي هذه اللحظة دخل المطعم البارون كرستيان يختال في حُلَّته الجميلة، ورونقه الشائق البديع، ورأى أبناء فرقته مجتمعين، فتقدم لتحيتهم فلم يعبئوا به، وحاول أن يداخلهم ويتحبب إليهم كما هو شأن أبناء الفرقة الواحدة عندما يجتمعون في مكانٍ واحد، فانقبضوا عنه، وتسللوا من جواره، فلم يرَ بدًّا من أن ينتبذ مكانًا قصيًّا، ويجلس فيه وحده، فلم يقنعهم ذلك منه حتى أرادوا إزعاجه وإقلاقه، وكان من شأنهم — كما حدثت روكسان عنهم — أنهم لا يحبون أن يدخل فرقتهم غريبٌ عنهم، عصبيةً لأنفسهم، واحتفاظًا بجامعتهم، والجنوبيون في فرنسا ينظرون دائمًا إلى الشماليين بعين البغض والازدراء، ويسمون تَرَفهم ونعومتهم ضعفًا وجبنًا، فمشى أحدهم إلى سيرانو وقال له وهو يغمز كرستيان بعينه: قد كنت وعدتنا يا سيدي منذ هُنَيْهَة أن تقص علينا حديث الواقعة التي انتصرت فيها ليلة أمس على أعدائك الشماليين الجبناء، فحدثنا ذلك الحديث الآن؛ ليكون درسًا تهذيبيًا لهذا الفتى الشمالي المتأنث، وأشار إلى كرستيان، فانتفض كرستيان غضبًا، والتفت إلى المتكلم وقال له: ماذا تقول؟ وكان سيرانو مشتغلًا بمحادثة صديقه لبريه، وكان يفضي إليه بشأنه مع روكسان، فلم يشعر بشيء مما حوله، فتركه الفتى ومشى إلى كرستيان، فوَقف أمامه وقال له: عندي نصيحة لك أيها السيد أحب أن أقدمها إليك؛ لتنتفع بها في مستقبل حياتك معنا، فألقى عليه كرستيان نظرة ازدراءٍ واحتقار، وأشاح بوجهه عنه. فقال له الفتى: أترى هذا الرجل ذا الأنف الكبير والسحنة المخيفة الجالس هناك؟ إن ههنا كلمة لا يجوز لأحدٍ النطق بها أمامه مطلقًا، كما لا يجوز النطق بكلمة الحبل في بيت المشنوق، وأحب أن لا يفوتك العلم بها ضنًّا بحياتك، فعجب كرستيان لأمره، ورفع رأسه إليه وقال: أي كلمةٍ تريد؟ قال انظر إلى وجهي تفهم معناها، فإنني لا أستطيع النطق بها، ثم وضع أصبعه على أنفه وهو يتلفت ويتحذر. فقال له: أتريد كلمة الأنـ …؟ فقاطعه الفتى وقال: صهٍ! إياك أن تتمها فيسمعها فيكون فيها هلاكك، فلم يرفع كرستيان طرفه إليه أنفةً وكبرياء، فتقدم نحوه فتًى آخر وقال له: ولا بد لك أن تعلم أيضًا أن أحدًا من الناس لا يحدث نفسه بمناوأة هذا الرجل أو مخاشنته، إلا إذا كان من رأيه أن يلاقي حتفه قبل نهاية أجله، ثم وقف به آخر وقال له: احذر الحذر كله من أن تنطق على مسمع منه بهذه الكلمة أو ما يشبهها، لا تصريحًا ولا تلميحًا، ولا كناية ولا تعريضًا، فقد قَتَل في الأسبوع الماضي رجلًا أخنف؛ لأنه ظنه يتخانف هزءًا به وسخرية، وقتل آخر منذ يومين؛ لأنه أخرج منديله من جيبه وأدناه من أنفه!

وهكذا ظلوا يتقدَّمون نحوه واحدًا بعد آخر، ينذرونه ويتوعدونه، ويهمسون في أذنه بكلمات مختلفة، ويشيرون بين يديه بإشارات غريبة، تهويلًا عليه وإرهابًا له، وهو صامتٌ ساكن، لا يرفع طرفه إليهم، حتى بَرِمَ بهم، فنهض من مكانه بهدوءٍ وسكون، ومشى إلى «كاربون دي كاستل» قائد الفرقة وهو جالسٌ على كرسيه، فوقف بين يديه وقال له: ماذا يصنع الإنسان يا سيدي القائد إذا رمت به المقادير بين جماعةٍ من الجنوبيين الوقحاء، وهم لا يزالون يشاكسونه ويناوئونه، ويستثيرون غيظه وحفيظته بسفاهتهم ووقاحتهم؟ فأجابه القائد ببساطة غير محتفلٍ به ولا مكترثٍ: يبرهن لهم على أنه، وإن كان شماليًّا فهو شجاعٌ مثلهم، فانحنى كرستيان بين يديه، وقال: سأفعل ما أشرت به يا سيدي، وعاد إلى مكانه الأول.

وكان سيرانو قد فرغ من حديثه مع لبريه واعتدل في جلسته، فهرع إليه الجنود من كل ناحية وأحاطوا به، وقالوا: الحديث يا سيرانو، فاتجه إليهم وأنشأ يقص عليهم قصته، ويقول:

تقدَّمت نحوهم وحدي منفردًا، وكان القمر يلمع في قبة السماء لمعان القطعة الفضية في رمال الصحراء؛ ثم لم يلبث أن غشيته سحابةٌ دَكْناء، فصار الظلام حالكًا مُدْلَهِمًّا، لا يستطيع المرء أن يرى فيه أبعد من …

فقاطعه كرستيان وقال: «أنفه.»

فدهش القوم، واصفرَّ وجه سيرانو وتهالك في نفسه، ثم صرخ بصوتٍ كهزيم الرعد قائلًا: من هذا الرجل؟ وهَمَّ بالهجوم عليه ليفتك به. فقال له أحد الجنود: هو رجلٌ شماليٌّ دخل فرقتنا صباح هذا اليوم، فجمد سيرانو في مكانه ذاهلًا، ومر بخاطره كلمح البصر حديث روكسان. فقال: صباح هذا اليوم! وما اسمه؟ قال: يزعم أن اسمه البارون كرستيان دي نوفييت، فتضعضع سيرانو وتخاذل، وشعر أن نفسه تتسرب من بين جنبيه، وقال: آه، إنه هو، ثم استحالت صورته إلى صورة مرعبة مخيفة، وظلت أطرافه ترتجف ارتجافًا شديدًا، فتهافت على كرسيٍّ بجانبه، وصمت صمتًا عميقًا لا حس فيه ولا حركة، ثم أخذ يعود إلى نفسه شيئًا فشيئًا حتى هدأ، فألقى نظرةً على الجنود المحيطين به، وقال لهم: ماذا كنت أقول لكم؟ آه لقد تذكرت، كنت أقول: إن الظلام في تلك الساعة كان حالكًا جدًّا، حتى إن المرء لا يستطيع أن ينظر إلى أبعد مما تحت قدميه.

وتوقف عن إتمام كلامه؛ لأنه تذكر مقاطعة كرستيان إيَّاه عند وصوله إلى هذه الكلمة، فوثب من مكانه وثبة النَّمر الجائع، وهجم عليه هجمة ما كان عند الحاضرين ريبٌ في أنها تحمل في طياتها الموت الأحمر، وهو يطمطم بلهجته الجاسكونية مورديوس – ميل ديوس، ولكنه لم يبلغ مكانه حتى جمد أمامه جمود التمثال فوق قاعدته، وظل يزفِر زفيرًا متتابعًا، ثم تراجع بهدوءٍ وسكونٍ إلى مكانه الأول، والقوم يتبعونه بأنظارهم ويعجبون لأمره، ويقولون في أنفسهم: ما له يُقْدِم ثم يُحْجِم! وما الذي يبدو له فيتراجع بعد اندفاعه!

وما هي إلا هُنَيْهَة حتى هدأ وسكن، وعاد إلى حديثه يقول: وكنت أعلم أنني مقدمٌ على خطرٍ من أعظم الأخطار، وأنني إنما أحارب في الحقيقة رجلًا عظيم الجاه والسلطان، لو شاء أن يسحقني بقدمه كما يسحق السائر النملة الدارجة في طريقه لفعل، بل لو شاء أن يضعني بين …

فقاطعه كرستيان وقال: «منخريه.»

فاهتز سيرانو في كرسيه يمنةً ويسرةً، وغلى دمه في رأسه غليان الماء في مرجله، ولكنه لم يتوقف، بل استمر في حديثه يقول: … بين شدقيه لَمَا حال بينه وبين ذلك حائلٌ؛ لأنه صهر الكردينال، والكردينال هو كل شيء في فرنسا، ومرَّت بي ساعة ضعفٍ كنت أقول فيها لنفسي — وهنا نظر إلى كرستيان كأنه يخاطبه — إنك قد عرَّضت نفسك أيها الرجل المسكين بتهورك وجنونك للهلاك الذي لا بد لك منه، ووضعت أصبعك بين الشجرة ولِحائها، وليس بكثيرٍ على رجلٍ قاسٍ مستبدٍّ كهذا الرجل أن يرغم …

فقاطعه كرستيان وقال: «أنفك.»

فتصامم سيرانو، وكأنه لم يسمع شيئًا، وقال: … إرادتك على ما يريد، ولكنني تجلَّدت واستمسكت، ولم أعبأ بهذه الاعتبارات جميعها، وقلت في نفسي: سِرْ أيها الجاسكوني الحر، وامض في سبيلك قُدُمًا، لا تحفِل بشيء مما يعترض طريقك، وقُم بواجبك الذي حملت عبئه وعاهدت نفسك عليه، كما يفعل الحر الشريف، وبينا أنا أفكر في ذلك، إذ لمحت شقيًّا من أولئك الأشقياء يهيئ لي في هذا الظلام الحالك المدلهمِّ ضربة قويةً، فما هو إلا أن لمحتها حتى رُغت منها بأسرع من ضربة السَّيف، فأفسدتها عليه، ولكنني لم ألبث أن وجدت نفسي في الحال وجهًا لوجه …

فقاطعه كرستيان وقال: «أوْ أنفًا لأنف.»

فزأر سيرانو زئيرًا مخيفًا، ووضع يده على مقبض سيفه وصاح: «يا لصواعق السماء ورجومها!»

فذعر القوم وأيقنوا بالشر، وأتلعوا إليه أعناقهم لينظروا ماذا يفعل، فلم يفعل شيئًا، بل استمر في حديثه يقول: وجدت نفسي أمام مائةٍ من الغوغاء الساقطين، تنمُّ ثيابهم البالية وأزياؤهم القبيحة عن حقارتهم وسفالتهم، وتتصاعد من أردانهم القذرة روائح كريهة تملأ … فقاطعة كرستيان وقال: «الأنف.»

فانفجرت شفتاه عن مثل ما تنفرج عنه شفتا الليث، ولكنه لم يلتفت إليه، واستمر يقول: تملأ الجو وتزهق النفس، فلم أتردد لحظةً واحدةً في الهجوم عليهم، ففتكت باثنين منهم، ثم أتبعتهما بثالث، وإذا بأحدهم يصوب إليَّ سهمًا …

فقاطعه كرستيان وقال: «أنفيًّا.»

فلم يستطع على ذلك صبرًا، وهبَّ من مكانه هبوب العاصفة، وصرخ صرخة عظيمة: اخرجوا من هنا جميعكم ودعوني مع هذا الرجل وحدي!

ففروا من وجهه جميعًا يستبقون الباب ويتراكضون، ويهمس كلٌّ منهم في أذن صاحبه: إنها وثبة الأسد ما في ذلك ريب، وراجنو يُقلِّب كفَّيه حزنًا وأسفًا، ويقول: وا أسفا عليك أيها الفتى المسكين! ما أحسبها إلا لمحة الطرف حتى أراك قطعًا متناثرةً على مائدتي.

فلما خلا المكان بسيرانو وصاحبه، ظلا يتناظران ساعةً في صمتٍ وسكونٍ، لا يفوهان بحرفٍ واحدٍ، وكرستيان ينتظر وقوع الكارثة، ويتأهب لها تأهب الجريء المقدام، ثم ما لبث أن رأى سيرانو يتقدم نحوه رويدًا رويدًا حتى وقف أمامه، ووضع يده على عاتقه، فارتعد كرستيان ارتعادًا خفيفًا، وبينا هو ينتظر عاصفةً من الشر تهب عليه، إذ سمعه يناديه بنغمة لطيفة هادئة، ويقول له: سيدي كرستيان؟ فرفع طرفه إليه، فرآه باسمًا متطلقًا، فعجب لأمره وقال له: ماذا تريد يا سيدي؟ قال: أريد أن أعانقك وأقبلك أيها الصديق، فتعال إليَّ، فظل كرستيان ينظر إليه نظرًا حائرًا متضعضعًا، لا يفهم من أمره شيئًا. فقال له سيرانو: تعال إليَّ وقبِّلني فإني أخوها، وقد بعثتني برسالةٍ إليك فاستمعها، فازدادت حيرة كرستيان، ولم يفهم ما يريد، وقال له: أخو من يا سيدي؟ قال: أخو الفتاة التي تحبها. قال: أي فتاة تريد؟ قال: روكسان! أأنت أخوها؟ وظل يقلِّب نظره في وجهه كأنه يفتش عن وجه الشبه بين الأخوين فلا يجده، ففطن سيرانو لغرضه وقال: أخوها تقريبًا، أي ابن عمها، فتلألأ وجه كرستيان سرورًا، وقال: وهل حدثتك عني؟ قال: نعم. قال: وهل أخبرتك أنها تحبني؟ قال: ربما، فازداد سروره واغتباطه وقال له: ما أجمل هذه البشرى التي جئتني بها يا سيدي! وما أعظم شكري لك! فابتسم سيرانو وقال: ما أغرب عواطف النفوس، وما أسرع تقلُّباتها! فقال: اعف عني يا سيدي فقد أسأت إليك. قال: وما رأيك في تلك الأنفيات التي رميتني بها منذ هُنَيْهَة؟ قال: إنني أستردُّها جميعها وأجثو تحت قدميك معتذرًا عنها، معتمدًا على كرمك وإحسانك!

قال: الآن أستطيع أن أقول لك: إنها اعترفت لي بأنها تحبُّك حبًّا شديدًا وشريفًا، وتضمر لك في قلبها من الوجد مثل ما تضمر لها، وقد كلَّفَتْني أن أقول لك: إنها تنتظر منك اليوم كتابًا. قال: وا أسفاه يا سيدي، ذلك ما لا أستطيعه. قال: ولِمَ؟ قال: لأنني رجلٌ عاطلٌ من جميع المواهب والمزايا، لا أملك حليةً من حُلي الدنيا غير حلية الصمت، فإن عطلت منها هلكت وافتضحت! قال: عجبًا لك، ألا تستطيع أن تكتب كتابًا؟ قال: لا؛ لأني عييٌّ بليدٌ! قال: إنك مغالٍ جدًّا، وحسبك من الذكاء أنك تعرف مقدار نفسك، على أن أسلوبك في مقاطعتي ومغايظتي يدل على أنك لم تحرم فضيلة الشجاعة والذكاء!

قال: أستطيع أحيانًا أن أكون شجاعًا إذا كان الحديث بيني وبين رجل، أما المرأة فإني أضعف الناس مُنَّةً بين يديها. قال: ولكنك جميلٌ، والجمال قوة يستمد منها اللسان فصاحته وبيانه. قال: لا أنكر أن لنظراتي تأثيرًا خاصًّا على النساء، وأنني ما مررت بهنَّ إلا استثرتُ بجمالي إعجابهن ودهشتهن، ولكنني أذوب حياءً وخجلًا إذا جلست إليهنَّ أو جمع الحديث بيني وبينهن، وربما استطعت في بعض الأحيان أن أتحدَّث إليهن في بعض الشئون العامة التي لا يتحامى فيها أحدٌ أحدًا، حتى إذا وصلنا إلى حديث الحب كان الموت الأحمر أهون عليَّ من أن أنطق بحرف واحد فيه! قال: إني لأعجب لأمرك جدًّا يا كرستيان، ويخيل إليَّ أنني لو كان لي مثل حظك في الجمال لأحسنت الكلام في الحب. قال: ويُخيَّل لي أنا أيضًا أنني لو كان لي مثل حظك في الفصاحة لاستطعت الكلام فيه. قال: ليتني أستطيع إذا جلست إلى النساء أن أستثير بجمالي إعجابهن ودهشتهنَّ. قال: وليتني أستطيع إذا جلست إليهن أن أسترعي ببياني أسماعهن.

وصمت كرستيان لحظة، ثم قال: ولقد حدثوني عنها أنها فتاةٌ ذكية متفوقة، تتعشق في الرجال الذكاء والفطنة قبل أن تتعشَّق فيهم الحسن والجمال، فماذا يكون شأني معها إذا كتبت إليها كتابًا، فقرأته فلم ترَ بين سطوره إلا عيًّا وركاكة وضعفًا واضطرابًا؟ فقال وهو يصعِّد نظره في وجهه ويصوِّبه، ويعجب بجماله ووضاءته: يُخيَّل إليَّ يا كرستيان أنك لو أعرتني جمالك، أو لو أني أعرتُك لساني، لتألَّف منا إنسانٌ تام المواهب والمزايا! قال: نعم، ما في ذلك ريبٌ. قال: ألا تتمنَّى أن تكون ذلك الإنسان؟ قال: نعم، أتمنى أن أكونه؛ ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ قال: إن في استطاعتي أن أنفخ فيك روح الفصاحة وأنفث في صدرك سحرها، فإذا أنت أجمل الناس وأذكاهم معًا! قال: لا أستطيع أن أتصور ذلك إلا إذا زعمت أنك من الساحرين. قال: ما في الأمر سحرٌ ولا مَخْرَقةٌ، حدثني عن نفسك أولًا، هل تعجز عن حفظ ما يُلقى إليك من الجمل والكلمات، وإن لم تفهم معناه؟ قال: لا، فإن ذاكرتي قوية جدًّا، ولكنها كذاكرة الببغاء: تنقل ولا تعقل مما تنقل شيئًا، وأظن أني قد فهمت غرضك الآن، وإني لأعجب أشد العجب من اهتمامك بهذا الأمر الاهتمام الشديد، ومن إلحاحك في تلمُّس الوسائل للوصول إليه هذا الإلحاح كله، كأنه شأن من شئونك الخاصة التي تعنيك.

قال: سأفضي إليك بسر المسألة، فاستمع لما أقول: إن روكسان ابنة عمي وصديقتي، ورفيقة صباي وطفولتي، ليس لها في العالم من صديقٍ ولا معينٍ سواي، ويهمني جدًّا أن أراها سعيدةً في حياتها، هانئةً في عيشها، لا يُكدر عليها مكدِّرٌ من عوادي ونكبات الأيام، ولا أكتمك أني أخاف عليها الخوف كله أن تحل بها في هذا الحب الذي اختارته لنفسها نكبةٌ من النكبات العظام، أو فاجعةٌ من الفواجع الجسام تقضي عليها وعلى آمالها، وما أحسبك تتمنى لها إلا ما أتمناه، أو تضمر لها في نفسك إلا العطف الذي أضمره لها، خصوصًا أنَّ الصلة التي بينكما ستتحول طبعًا إلى عشرةٍ زوجيةٍ طويلة، لا يقطع حبلها إلا الموت؛ لذلك أردت أن نتعاقد يدًا واحدة على إسعادها وترفيه عيشها، وحماية ذلك الحب في قلبها، وحراسته من أن تغشاه غاشيةٌ من وساوس اليأس أو خيبة الأمل، أنت بحسنك وجمالك، وأنا بفصاحتي وبياني، تسمع صوتي ولكن من فمك، وتحس بروحي، ولكن في جسمك، وتشرب عواطفي ولكن من كأسك، وتطرب لنغماتي ولكن من قيثارتك، أي إنني أتقمص في جسمك، وأتسرب بين حنايا ضلوعك، وأكمن في قرارة نفسك، فنستحيل — نحن الاثنين — إلى شخصٍ واحد، أو تصبح أنت كل شيء، وأصبح أنا لا شيء، وما دامت سعادتها في الحياة تتوقف على أن ترى بجانبها إنسانًا يجمع في نفسه بين موهبتي الفصاحة والجمال، فليتألف مني ومنك ذلك الإنسان الذي تريده وتتمناه، ولا تقل: إننا نخدعها بذلك أو نغترُّها، فإنا لا نريد بما نفعل إلا سعادتها وهناءها، هذا هو الغرض الذي أرمي إليه، ولا أرمي لغرض سواه.

فارتجف كرستيان وقال: إنك تخيفني جدًّا يا سيرانو، ويخيل إليَّ أن عقلي يحاول الفرار مني دهشةً وعجبًا، فإنك تقترح عليَّ أمرًا ما سمعت بمثله في حياتي! قال: إنك مغالٍ يا كرستيان، والمسألة بسيطة جدًّا، ألم تقل لي منذ هُنَيْهَة إنك تخاف إن جالستها أو تحدثت إليها أن تمَلَّكَ وتجتويك فتموت عواطف الحب في قلبها، فما الذي يريبك مني وأنا لا أريد إلا ما تريد؟ ولا أرمي إلا إلى بقاء عاطفة الحب حيةً في قلبها نامية، فتتمتع أنت بعطف الفتاة التي تحبها، وأتمتع أنا بسعادة الصديقة التي أجلُّها وأحترمها وأحرص على راحتها وهدوئها. قال: وهل تشعر في نفسك أنك سعيد بذلك؟ فانتفض سيرانو انتفاضةً خفيفةً لم يشعر بها كرستيان، وقال بصوتٍ خافتٍ: سعيدٌ! وصمت لحظة، ثم قال بصوتٍ متهدج مرتعش: نعم سأكون سعيدًا يا كرستيان؛ لأنني شاعرٌ، والشاعر ممثِّلٌ بفطرته؛ يلذ له دائمًا أن يلبس ثوبًا غير ثوبه، ويتراءى في صورةٍ غير صورته، فيمثل دور المجنون وهو عاقلٌ، ودور الشجاع وهو جبانٌ، ودور السعيد وهو شقيٌّ، ودور العاشق الولهان، وما في قلبه ذرةٌ واحدةٌ من الحب والغرام، فاسمح لي أن أمثل دور العاشق الولهان، فهو الدور الذي يلذ لي تمثيله أكثر من غيره، وكُنْ أنت المسرح الذي أمثله عليه، وأخطر في أرجائه جيئة وذهوبًا، كُن اللسان وأنا الفكر، كُن الجسم وأنا الروح، كُن الجمال وأنا العقل، كُن الزهرة وأنا العطر، كُن العين وأنا النور المنبعث منها، كُن القلب وأنا حبته الكامنة فيه، فلا تكتب إليها إلا ما أمليه عليك، ولا تحدثها إلا بما ألقنك إياه، وليكن ذلك سرًّا بيني وبينك لا تعرفه روكسان ولا يعرفه أحدٌ من الناس.

فهدأ كرستيان وسُرِّي عنه، واستقر في نفسه أن الرجل صادقٌ فيما يقول، ولكنه لو استطاع أن يفهم الحقيقة كما يفهمها بقية الناس لأدرك أن سيرانو عاشقٌ مثله لتلك الفتاة التي يحبها، وأنه لما أخفق في حبه وساء حظه فيه، وعجز عن أن يفضي إلى حبيبته بذات نفسه وسريرة قلبه وجهًا لوجهٍ، أراد أن يتخذ منه بوقًا يهتف في جوفه بأناته وزفراته؛ لتصل إلى آذانها فتسمعها من حيث لا تراه ولا تشعر بمكانه، لا يرجو من وراء ذلك غرضًا ولا غاية سوى أن يُرَفِّهَ عن نفسه بعض همومها وآلامها بالمناجاة والشكوى، كما يُرفِّه المريض عن نفسه آلامه وأوجاعه بترديد الأنات وتصعيد الزفرات!

فقال له كرستيان: ولكن ما العمل في الكتاب الذي قلت لي إنها تريد أن أرسله إليها اليوم؟ فمد سيرانو يده إلى صدره، وأخرج تلك الرسالة التي كان يريد أن يقدِّمها إليها في الصباح فلم يفعل، وأعطاه إياها وقال له: ابعث إليها بهذه الرسالة، فهي تامةٌ لا ينقصها غير التوقيع، فدهش كرستيان وعاودته وساوسه وهواجسه، وقال له: وهل كَتَبْتَها من أجلي؟ وما الذي دعاك إلى ذلك؟ قال: لم أكتبها من أجلك، ولا من أجل أحدٍ من الناس، ولكننا معشر الشعراء لا تخلو جيوبنا غالبًا من أمثال هذه الرسائل الغرامية الخيالية، فإننا — وإن كنا محرومين سعادة الحب وهناءه — نتخيل أحيانًا صورًا وهمية لا وجود لها في الخارج، نخاطبها ونناجيها كما يناجي المحبُّ محبوبه؛ لنستطيع إمداد الفن الذي نشتغل به بحقائق الحياة وصورها، ولقد أودعت هذه الرسالة جميع ما يمكن المحب المفتتن أن يضمره في نفسه من لواعج الحب وخوالج الغرام، ولقد كانت أنَّاتي وزفراتي قبل اليوم طائرة هائمةً في أجواز الفضاء، لا تجد لها مستقرًّا ولا مهبطًا، أما الآن فقد وجدت على يدك المستقر الذي تتطلبه وتسعى إليه، وستقرأ روكسان هذه الرسالة بعد ساعة، وسترى أنها الصورة الحقيقية لعواطفك وشعورك لا ينقصها شيءٌ، حتى روح الإخلاص وجوهره. قال: ألا نحتاج لتغيير شيءٍ فيها؟ قال: لا. قال: أخاف أن ترتاب بها. قال: كن على ثقةٍ من أنها ستعتقد حين تقرؤها أنها ما كتبت إلا لها، وأنها هي التي أوحت بها إلى نفس كاتبها!

فتناول كرستيان الرسالة طائرًا بها فرحًا، وترامى على عنق سيرانو يقبِّله ويلثمه ويضمه إلى صدره ويقول: آهٍ يا صديقي الكريم! ما أعظم شكري لك واغتباطي بصحبتك! وظل على ذلك هُنَيْهَةً، وكان القوم وقوفًا أمام باب المطعم، ينتظرون إذن سيرانو لهم بالرجوع، وهم يسمعون ضوضاء الحديث بينه وبين صاحبه، فيتوهمون أنه الجدال العنيفُ والخصام الشديد، حتى شعروا بذلك السكون الذي ساد بينهما، فريعوا وخُيِّل إليهم أنه سكون الموت، فدفع راجنو الباب قليلًا وأطلَّ من فجوته فرأى هذا المنظر، فذُعر وخُيِّل إليه الرعب الذي لحقه أنه يرى منظر الموت، وأن كرستيان صريعٌ بين يدي سيرانو، فظل يرتجف ارتجافًا شديدًا، فهمس القوم في أذنه: ماذا ترى؟ قال: دعوني، فإني لا أجرؤُ على النظر وأكاد أموت خوفًا ورُعبًا! فدفعوا الباب جميعًا ودخلوا، ففهموا الحقيقة التي ما كانوا يتصورونها ولا يقدرونها في أنفسهم، ورأوا أن ذلك الصراع الذي كانوا يتوهمونه بين خصمين متباغضين، إنما هو عناقٌ طويل بين صديقين مخلصين، فدهشوا دهشة كبيرة، وظل بعضهم يهمس في أذن بعض: إنه يعانقه ويلتزمه كأنه أصدق أصدقائه، وقال «كاربون دي كاستل»: أحمد الله تعالى فإن شيطاننا قد اهتدى، وصاح آخر: عجبًا لك يا سيرانو! لقد أصبحت مسيحيًّا تقيًّا: إذا ضربك أحد على أحد منخريك أدرت له الآخر، فلم يغضب سيرانو هذه المرة، ولم يكترث، بل ابتسم له وتَطَلَّقَ.

وكان بين الدَّاخلين «الرجل الهائل» صديق «ليز»، فأطمعه هذا الموقف في حلم سيرانو، وقال في نفسه: لقد فقد الرجل حميَّته وانطفأت شعلة حماسته، وأظن أني أستطيع أن أتكلم عن أنفه الآن باطمئنانٍ، ثم أشار إلى ليز فاقتربت منه. فقال لها: سأريك الآن منظرًا من أبدع المناظر وأبهجها، وأخذ يدور في أنحاء القاعة ويتنشق الهواء بصوتٍ عال كأنما يشعر برائحةٍ غريبة، حتى دنا من سيرانو فلمس كتفه، وقال له: ما هذه الرائحة الغريبة يا سيدي؟ فصمت سيرانو ولم يقل شيئًا، فأدنى وجهه من وجهه، وأطال النظر إلى أنفه، وقال له: قل لي ما هذه الرائحة الغريبة المنتشرة في هذا الجو؟ فإنك تستطيع أن تفهمها أكثر مني! فما أتم كلمته حتى لطمه سيرانو على وجهه لطمةً هائلة رنت في أرجاء القاعة، وقال: رائحة الذعر أيها الجبان! فصفق القوم تصفيقًا شديدًا، وأغربوا في الضحك جميعًا، حتى «ليز»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤