الفصل الرابع

الميدان

بدأ الفجر يرسل أشعَّته الأولى إلى جوانب الميدان، وكانت فرقة الحرس نائمةً في سفح تل مرتفع يحميها ويحمي مواقعها؛ وكانت قد مرت على الجنود ثلاثة أيام لم يذوقوا طعامًا، ولم يتبلَّغوا بشيءٍ، حتى ساءت حالهم، وشحبت ألوانهم، وخارت قواهم، فاستيقظ أحدهم وهو يَتَضَوَّر جوعًا، ويقول: آه! ما أشد ألمي! فاستيقظ بعض رفاقه على صوت أنينه وظلوا يتضورون مثله، فشعر قائدهم بحركتهم، وكان واقفًا على قمة التل ليله كله يتولى حراسة الموقع بنفسه، فانحدر إليهم وقلب نظره في وجوههم، ثم قال لهم: ناموا يا أولادي فالنهار لا يزال بعيدًا! فقال له أحدهم: وكيف لنا بالنوم، وقد أقلق الجوع مضاجعنا، وحال بيننا وبين الغمض؟ فنكس رأسه وصمت، وقد أضمر بين جنبيه لوعةً لا يعلم إلا الله مكانها من أعماق نفسه.

وإنهم لكذلك إذْ سمعوا من ناحية العدو بضع طلقاتٍ نارية، فثاروا جميعًا وابتدروا سيوفهم فجردوها من أغمادها، فصاح فيهم «لبريه»: هدِّئوا روعكم يا إخواني والبثوا في أماكنكم، فإن سيرانو قد عاد من رحلته التي اعتاد أن يرحلها سَحَرَ كل ليلة، وأظن أن الأعداء قد لمحوا شبحه من بعيدٍ فأطلقوا عليه بعض المقذوفات، وأرجو ألا يكون قد أصابه منها شيء! فسكن جأشهم وعادوا إلى مضاجعهم، وما هي إلا هُنَيْهَة حتى ظهر سيرانو على قمة التل، فهرع إليه صديقه لبريه متلهفًا وقال له: هل جرحت؟ قال: لا؛ لأنهم يخطئونني دائمًا! قال: ولكني أخاف عليك إن أخطئوك اليوم أن يصيبوك غدًا. قال: وماذا أصنع، وقد وعدتها عنه أن يكتب إليها كثيرًا، ولا بد لي من الوفاء بعهدي! قال: إنك لم تخبرني حتى الآن عن الطريقة التي اتخذتها للتنكر والتواري عن عيون الأعداء وأرصادهم قال: لقد اهتديت من زمنٍ إلى مسلكٍ خفي وراء هذا الجبل، لا تناله أنظارهم، ولا تمتد إليه خواطرهم، فأنا أسلكه برفقٍ وحذر حتى أصل إلى الموضع الذي أجد فيه من يتولى توصيل الكتابٍ إلى روكسان. قال: إذن يمكنك أن تأتينا كل ليلة بشيءٍ من القوت نسد به جوعتنا. قال: ليتني أستطيع ذلك، بل ليتني أستطيع أن أَقُوت نفسي، إننا جئنا هنا لنحاصر الأعداء في أراسَ، فأصبحنا محصورين خارجها، وقد أحاط بنا جيش العدو من كل جانب، وأخذ علينا شعاب الأرض، فلا سبيل لنا إلى أي شيءٍ حتى إلى القوت! وأطرق برأسه هُنَيْهَة ثم قال: ولقد وقفت الليلة أثناء عودتي على حركةٍ في جيش العدو هائلة جدًّا، ويخيل إليَّ أن الغد يحمل في طياته أعظم حادثة مرت بنا في هذا الميدان، فإما نجا الجيش الفرنسي من مخالب الجوع، أو هلك من أوله إلى آخره!

فاصفر وجه لبريه وقال له: قل لي ماذا رأيت؟ قال: لا أستطيع؛ لأني لست على يقينٍ، فدعني وشأني وأستودعك الله. قال: إلي أين؟ قال: إلى خيمتي لأكتب إلى روكسان رسالة الغد، وربما كانت الرسالة الأخيرة!

ثم مشى إلى خيمته ولبريه يتبعه بنظراته الحزينة الدامعة ويقول: وا رحمتاه لك أيها البائس المسكين!

الوطن

نشرت الشمس رايتها البيضاء في آفاق السماء، فاستيقظ الجنود من نومهم يتألمون من الجوع ويترنَّحون ضعفًا وإعياءً، فتقدم نحوهم قائدهم، وحاول أن يعزيهم ويهون عليهم آلامهم، وهو إلى التعزية والتهوين أحوج منهم، فلم يأبهوا له، وأخذوا يرمونه بنظرات السخط والغضب، فأمرهم أن يتقلدوا أسلحتهم ويأخذوا أهبتهم، فأعرضوا عنه ولم يحفلوا له، ومشى بعضهم إلى بعضٍ يتهامسون ويتغامزون، ومرت بأفواههم كلمة «الثورة»، وهي الكلمة الهائلة التي تأتي دائمًا في ترتيب قاموس الحياة بعد كلمة الجوع!

فانتفض القائد واستطير رعبًا وفزعًا، وهرع إلى خيمة سيرانو فهتف به، فلبَّاه. فقال له: أدرك الجنود يا سيرانو، فقد نال منهم اليأس أو كاد، حتى نطقوا بكلمة الثورة المخيفة! فخرج إليهم سيرانو، وأخذ يخطو بينهم خطواتٍ هادئة مطمئنة، ويسارقهم من حينٍ إلى حينٍ نظرات العتب والتأنيب، حتى سكنوا وهدءوا، وغضوا أبصارهم حياءً منه وخجلًا، ثم أخذ يمازحهم ويداعبهم ويَفْتَنُّ في مفاكهتهم ومطايبتهم، حتى سرَّى عنهم بعض ما بهم، فقال له أحدهم: أما في هموم الحياة وآلامها ما يشغلك عن الفكاهة يا سيرانو؟ قال: لا، ولو أن لامرئ أن يختار لنفسه الميتة التي يريدها لاخترت لنفسي أن أموت في ليلةٍ صافية الأديم متلألئة النجوم تحت قبة السماء، بأجمل سلاح وهو السيف، وفي أجمل بقعة وهي الميدان، وأن يكون آخر ما أنطق به ملحةً لطيفةً يتحرك بها فمي في الساعة التي يلمس فيها ذباب السيف قلبي.

ثم هتف: يا «برتراندو»، فلبَّاه جنديٌّ شيخٌ قد أوفى على الستين من عمره. فقال له: أخرِج نَايَكَ من كِيسك، وَغَنِّ لهؤلاء الأطفال الشرهين تلك الأغنية الجاسكونية، التي تذكرهم ببلادهم ومعاهد طفولتهم ومغاني صباهم، فأخذ الرجل يغنيها ويجيد في توقيعها، وسيرانو يغني معه، فأطرق الجنود برءوسهم وقد تمثلت لهم بلادهم كأنها حاضرةٌ بين أيديهم، يرون جبالها ووديانها وغاباتها وأحراشها، ويرون الرعاة السُّمْر بقلانسهم الحمراء يسوقون أمامهم قطعان البقر والأغنام، والفتيات الجميلات في أثوابهن القصيرة حاملات جرارهن على رءوسهن وهن ذاهباتٌ إلى الغدران أو صادرات عنها، فأخذت مدامعهم تتحدَّر على خدودهم، فيمسحونها بأطراف أرديتهم في صمتٍ وسكونٍ.

فقال القائد لسيرانو: إنك تُهَيج أشجانهم وتستثير آلامهم بهذه الذكرى. قال: فليبكوا وليتألَّموا، علَّهم يتلهَّوْن قليلًا عن آلام الجوع التي يكابدونها، وليت جميع آلامهم تنتقل من أمعائهم إلى قلوبهم فيستريحوا! قال: إني أخاف على حميَّتهم أن تفتُر وتتضعضع، قال: لا يُخفك ذلك يا سيدي، فإن بكاءَهم على وطنهم الصغير لا ينسيهم واجبهم لوطنهم الكبير، وإن أردت أن تكون على بيِّنة من ذلك فانظر ماذا أصنع، ثم أشار إشارةً خفية إلى حامل الطبل أن يدق طبله دَقة الهجوم، ففعل، فانتفض الجنود من أماكنهم وثاروا إلى أسلحتهم يتقلدونها. فقال للقائد: انظر يا سيدي إلى هؤلاء الأطفال الباكين كيف استحالوا في لحظة واحدة إلى ليوثٍ كواسر، عندما سمعوا نداء وطنهم! ثم التفت إليهم فهدَّأ روعهم وقال: لا عَدِمتكم فرنسا يا أبناء جاسكونيا!

وإنهم لكذلك إذ هتف الحارس القائم على رأس التَّلِّ باسم الكونت دي جيش رئيس أركان الحرب، فما سمع الجنودُ اسمه حتى وَجَمُوا وامتعضوا، وانتشر على وجوههم الألم والانقباض، وأخذ بعضهم يقول لبعض: ما أثقل ظله! ما أسمج وجهه! إنه فاسد الذوق، يلبس الشفوف الرقيقة فوق الدرع، ويلبس الحذاء اللامع في ميدان الحرب؛ ما أكثر تملُّقه! إنه لم ينجح في حياته إلا من طريق المداهنة، حسبه أنه صهر ذلك الرجل الذي يأكل في اليوم أربع أكلاتٍ في الوقت الذي لا نكاد نظفر فيه بأكلةٍ واحدة في الأربعة أيام! فانتهرهم قائدهم «كاربون دي كاستل»، وقد سمع حديثهم، وقال لهم: ولكن لا تنسوا أنه جاسكوني مثلكم، فقال له أحدهم: نعم، ولكنه جاسكوني عاقل، وما خلق الجاسكوني إلا ليكون مجنونًا! فقال سيرانو: نصيحتي إليكم يا إخواني أن تتجلدوا أمامه، وتكتموا في أعماق نفوسكم همومكم وآلامكم، ولا تسمحوا له بالشماتة بكم، أما أنا فسأجلس هناك قليلًا على هذه الصخرة لأقرأ شيئًا في كتاب «دي كارت»، حتى ينصرف ذلك الرجل لشأنه، فأسرعوا بمسح آثار الدموع من خدودهم، واستداروا حلقات صغيرة، وأخذوا يلعبون الورق، ويتضاحكون كأنهم لا يشكون همًّا ولا ألمًا، فدخل الكونت دي جيش متجهم الوجه مكفهر الجبين، وكان قد سمع آخر حديثهم، وقرأ على وجوههم ما يضمرون له من البغضاء بين جوانحهم، فصاح فيهم: لقد سمعت بأذني بعض ما تقولون أيها الأشقياء، فعلمت أنكم لا تتركون فرصة تمر بكم دون أن تتناولوني بألسنتكم، وتنالوا مني، فتسموني تارةً متملقًا، وأخرى منافقًا، وتعيبوا عليَّ حسن هندامي ونظافة ملبسي، كأنما ترون أن الجاسكوني لا يكون صحيح النَّسب إلا إذا تصعلك وتشعَّث، وأصبح من البائسين المفلوكين.

وكان يتكلم والجنود مقبلون على ألعابهم يتشاغلون بها كأنهم لا يسمعون ما يقول. فقال لهم وهو يشير إلى قائدهم: ولقد كنت أريد أن آمر قائدكم بمعاقبتكم، ولكنني …

فقاطعه القائد وقال له: لو أنَّك فعلت ذلك يا سيدي لما أذعنت لأمرك!

فاصفرَّ وجه الكونت وقال: ولماذا؟ قال: لأنني دَفَعت للقيادة العامة ضريبة الرئاسة، وهي تجعلني صاحب السلطان المطلق على فرقتي، لا ينازعني فيها منازعٌ ولا أخضع في أمرها لإرادةٍ غير إرادتي، وبعد، فليس من الرأي أن يحاسب القائد جنوده على الحب والبغض والرضا والسخط، أو أن يطلب إليهم شيئًا سوى الطاعة والإذعان لأوامره ونواهيه!

فوجم الكونت ولم يستطع أن يقول شيئًا، ولكنه التفت إلى الجنود وقال لهم: إني أحتقركم جميعًا أيها السُّفهاء الثرثارون، وأحتقر مطاعنكم ومغامزكم؛ لأنني أعرف مكانة نفسي، كما أن الناس جميعًا يعرفونها، وأعلم أنني جنديٌّ شريفٌ مقدامٌ لا أبالي بالمخاطر التي تعترضني في طريقي، وقد رأيتم جميعًا موقفي العظيم في «بابوم» الليلة الماضية، وهجومي بنفسي ثلاث مرات على رجال الكونت «دي بكوا»، حتى ألجأتهم إلى الهزيمة التي تعرفونها.

وكان سيرانو لا يزال مكبًّا على كتابه يقرأ فيه؛ فقال له وهو مطرق برأسه لا يرفعه: وما رأيك في وشاحك الأبيض يا سيدي؟ فدهش الكونت واصفرَّ وجهه وقال له: ومن أين لك علم ذلك؟ نعم، وقع لي ليلة أمس أنني بينما كنت أجول في أنحاء الميدان لأجمع رجالي استعدادًا للهجوم الثالث، إذ لمحت فصيلةً صغيرةً من فصائل جيش العدو تتقهقر على مقربة مني، فطمعت فيها واندفعت وراءها اندفاع اليائس المستقتل لا ألوي على شيءٍ مما ورائي، فما هو إلا أن أدركتها وأعملت سيفي في ساقَتِها، حتى رأيتني بعد قليل وسط خطوط جيش العدو الأكبر، وإذا الخطر محدقٌ بي من كل جانبٍ فخفت الأسر، لا من أجل نفسي بل من أجل الجيش الذي أقوده وأدير حركاته، وكان الظلام حالكًا جدًّا فلا ينم علي شيءٌ سوى ردائي الأبيض، فأسرعت بإلقائه إلى الأرض لأستطيع أن أتوارى عن عيون الأعداء، فيخفى عليهم مكاني، ثم انسللت من بينهم، وغادرت صفوفهم آمنًا مطمئنًّا، وما هو إلا أن بلغت مأمني حتى جمعت رجالي وكرَرْت عليهم كرةً هائلةً، فكانت الواقعة الثالثة التي أحرزنا فيها ذلك النصر العظيم، فماذا تقولون في هذه الحيلة الغريبة؟ وكان الجنود لا يزالون مكبين على ألعابهم لا يرفعون إليه أنظارهم، يستمعون القصة وكأنهم لا يسمعونها، حتى انتهى منها، فأمسكوا عن اللعب وشخصوا بأبصارهم إلى سيرانو ليروا ماذا يقول. فقال له: إن هنري الرابع يا سيدي ما كان يرضى لنفسه — مهما كان الخطر المحدق به عظيمًا — أن يتنازل عن ريشته البيضاء لأعدائه! فتهلل الجنود فرحًا وانبسطت أساريرُهم وعادوا إلى جلبتهم وضوضائهم. فقال له الكونت: ذلك لا يعنيني، إنما الذي يعنيني أنني قد حقنت دمي، واستبقيت حياتي لوطني، وسلبت العدو يومًا كان يريد أن يَعُدَّهُ من أيام مجده وفخاره. قال: أما الفكرة فبديعة جدًّا لا أرتاب فيها، ولكن الذي أعلمه أن الجندي ما خلق إلا ليموت، فمن العار أن يخسر هذا الشرف بأي ثمنٍ كان، وأقسم لك يا سيدي أنني لو كنت حاضرًا معك في تلك الساعة ما هان عليَّ أن أرى وشاحك العظيم في يد أعدائك دون أن أقاتل عنه حتى أفتديه ولو بحياتي. قال: قسم ضائعٌ لا قيمة له؛ لأنك لم تكن معي! قال: بل كنت معك يا سيدي، وقاتلت عن وشاحك حتى استنقذته من يد أعدائك، وها هو ذا.

ومد يده إلى جيبه فاستخرج منه الوشاح وألقَى به بين يديه، فاربدَّ وجه الكونت وانتفض غيظًا، وألقى على سيرانو وعلى الجنود نظرةً شزراء ملتهبة، وقال لهم: أتدرون ماذا أصنع الآن بهذا الوشاح؟ قالوا: لا. قال: سألوِّح به في الجو تلويحًا لا يسركم ولا يهنؤكم، وصعد إلى التل ولوح به ثلاث مراتٍ في الهواء، والجنود يعجبون لأمره ولا يدرون ماذا يريد، ثم نزل وهو يقول: أمَا وقد انقضى كل شيء، فسأفضي إليكم بسر من أسرار الحرب ما زلت أكتمه في صدري حتى حان وقته، فاستمعوه: لقد اتفقت منذ أيامٍ مع جاسوس من جواسيس العدو على أن يكون عونًا لي على قومه فيما أريد، وأن يكون مخلصًا لي مؤتمرًا بأمري … فقاطعه سيرانو وقال له: ولكنك تصطنع رجلًا خائنًا يا مولاي. قال: ومن أصطنع إن لم أصطنع الخائنين؟ فهو يدلني على مَقَاتِل قومه وعوراتهم ومكامن أسرارهم، من حيث لا يدلهم على شيء إلا على ما أريد أن يدلهم عليه، أي إنه يخدعهم ويضللهم من حيث يظنون أنه ينصحهم ويصدقهم، وقد جمع قائدنا العام مجلسه الحربي صباح أمس، ونظر في كارثة الجوع التي نزلت بنا، فاستقر الرأي على أن يسافر هو بنفسه خلسةً على رأس فرقتين من فرق الجيش إلى «أورلنس»؛ ليجلب منها المئونة والذخيرة، فسافر من حيث لا يشعر العدو بمكانه، وترك بقية الجيش هدفًا للهجوم العام. فقال له كاربون: أخاف أن يعلم العدو بذلك فيكون الخطب عظيمًا، قال: قد علم فعلًا وهو يتأهب منذ الأمس لمهاجمتنا! فهمس سيرانو في أذن لبريه: ذلك ما حدثتك عنه صباح اليوم، واستمر الكونت يقول: وقد بعثوا جاسوسهم هذا ليتفقد لهم خطوط جيشنا، ويدلهم على أضعف نقطة فيها ليهاجموها، فاتفقت معه على أن يدلهم على النقطة التي أريدها وأعطيه الإشارة منها، مضمرًا في نفسي أن أغريهم بالهجوم على أقوى فرقة في الجيش؛ لتستطيع مشاغلتهم ومطاولتهم زمنًا طويلًا حتى يتمكن قائدنا من العودة بجيشه إلى مركزه آمنًا سالمًا، ولما كانت فرقتكم هي أقوى فرق الجيش وأمضاها عزمًا، وأصلبها عودًا، فقد رأيت أن أجعلها هدف ذلك الهجوم، وإن كنت أعلم أنها ستموت عن آخرها، وقد كنت أمرت ذلك الجاسوس أن يقف وراء هذا التل؛ لينتظر إشارتي فيذهب بها، وهأنتم أولاء ترون أنني قد أعطيته إياها بخفقة ذلك الوشاح، فاستعدوا للموت، فقد انقضى كل شيء.

فقال له سيرانو: أهذا كل انتقامك يا سيدي؟ إنك قد أحسنت إلينا من حيث أردت إساءتنا، فالجاسكوني لا يخاف الموت، بل يخاف الحياة مع الذل والعار! قال: ما شككت في شجاعتك قط يا سيرانو، فإن من يقاتل مائة رجلٍ وحده فيغلبهم لا يبالي بخطرٍ مهما عظم شأنه! ثم التفت إلى الجنود وقال لهم: لا أكتمكم أنني كنت أستطيع أن أختار لاستقبال هذه النازلة فرقةً أقل شجاعة من فرقتكم، لو أنني أحببتكم ورضيت عنكم وحمدت عشرتكم وسيرتكم، أما الآن فقد استطعت بعملٍ واحدٍ أن أُؤَدي واجبي وأشفي غليلي! فقال له سيرانو: وشيءٌ آخر يا سيدي. قال: وما هو؟ فمشى نحوه خطوةً وأسرَّ في أذنه: أن تترمل روكسان!

فارتعد الكونت ونكس رأسه وتسلل من مكانه دون أن يقول شيئًا.

فالتفت سيرانو إلى الجنود وقال لهم: لقد آن أيها الأصدقاء أن نضع على شعار جاسكونيا ذي الألوان الستة، لونًا دمويًّا أحمر كان ينقصه ليكون أجمل شعارٍ في العالم، فكونوا عند ظنِّي وظن فرنسا بكم، واعلموا أنه ما من ميتة في العالم أفخر ولا أمجد من هذه الميتة التي ستموتونها اليوم! فهتفوا جميعًا بحياة جاسكونيا وحياة فرنسا، وابتدروا أسلحتهم يشحذونها ويصقلونها.

الدمعة

والتفت سيرانو فرأى كرستيان واقفًا وراءه مطرقًا جامدًا، وقد انتشرت على وجهه غبرةٌ سوداء من الحزن، فتقدم نحوه وقال له: أخائفٌ أنت يا كرستيان؟ قال: لا، بل حزينٌ لأني سأفارقها، فانتفض سيرانو عند سماع كلمة الفراق، ووضع يده على قلبه، ورفع عينيه إلى السماء، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئًا، وصمت هُنَيْهَةً ثم قال له: هون عليك الأمر يا صديقي، فرحمة الله أوسع من أن تضيق بنا. فقال: كنت أريد على الأقل أن أكتب لها كتاب وداعٍ أبثها فيه خواطر نفسي ولواعجها في ساعتي الأخيرة. قال: لقد حدثتني نفسي ليلة الأمس — ولا أعلم كيف كان ذلك — بهذا المصير الذي سنصير إليه الآن، وأن هذا اليوم هو آخر أيامنا على وجه الأرض، فكتبت إليها على لسانك الكتاب الذي تريده، وسأبعث به إليها الآن. قال: أرنيه. قال: ها هو ذا، وأخرج الكتاب من جيبه فأعطاه إياه، فأخذ يقرؤه حتى وصل إلى سطرٍ من سطوره الأخيرة، فتوقف ذاهلًا مدهوشًا وقال: غريبٌ جدًّا! ما هذا الذي أرى؟ قال: ماذا؟ قال: نقطةٌ بيضاء على الورق كأنها دمعة! فاختطف سيرانو الكتاب من يده وقال: أرني، وظل يتأمل فيه مصعدًا منحدرًا كأنه يفتش عن النقطة فلا يراها. فقال له كرستيان: إنها دمعةٌ يا سيرانو ما في ذلك ريب ولا شك، فهل كنت تبكي؟ فانتفض، إلا أنه تجلد وتماسك وقال: نعم! قال: وما الذي أبكاك؟ قال: ذلك شأن الشعراء دائمًا، لا يتناولون موضوعًا من الموضوعات المحزنة للكتابة فيه عن لسان غيرهم، حتى يتأثروا به كأنهم أبطاله، وأصحاب الشأن فيه، ولقد بدأت في كتابة هذا الكتاب، وأنت ماثلٌ في ذهني لا تفارقه، فما زال يمتد بي الخيال ويطير بي في أجوائه، حتى تمثل لي أنني أنا الحزين المتألم والمفارق المفجوع، وأن الذي أصفه إنما هي هموم نفسي وآلامها، فانحدرت من عيني بالرغم مني هذه الدمعة التي تراها! فنظر إليه كرستيان نظرة غريبة، واختطف الكتاب من يده، وقال له: دعه معي الآن! ثم طواه ووضعه في ثنايا قميصه وانصرف.

جواز المرور

وقامت في هذه اللحظة ضجةٌ في المعسكر، وسُمِعَتْ أجراس مركبةٍ قادمة من بعيد، وصائح يصيح من رجال الحرس بصوتٍ غليظٍ أجش: من القادم؟ فصعد سيرانو وكرستيان وبعض رجال الحرس إلى التل لينظروا ماذا جرى، فرأوا مركبةً مقفلة جميلة تحمل شارة من شارات الشرف، ويجلس بجانب حُوذيِّها غلامان حسنا الزي والهندام، فما شك الجميع في أنها قادمة من باريس، وأن راكبها رسولٌ من قبل الملك يحمل أمرًا من أوامره؛ فاصطفوا صفين متقابلين، وسكنوا سكونًا عميقًا لا حسَّ فيه ولا حركة، حتى وقفت المركبة على مقربة منهم، فأتلعوا إليها أعناقهم وشخصوا بأبصارهم لينظروا من القادم، ثم فتح بابها فإذا سيدة باهرة الجمال مشرقة الطلعة قد وثبت منها وثبة الجُؤْذُر من خميلته؛ فصاح سيرانو وكرستيان معًا بصوتٍ واحدٍ: روكسان! وكانت كما يقولون، فصعدت إلى التل بخفَّةٍ ورشاقة حتى بلغت قمته، وقالت: صباح الخير أيها الأصدقاء، لعلكم جميعًا بخير! فرفع الجنود قبعاتهم وأحنوا رءوسهم وعقدوا حولها نطاقًا منهم ومن أنظارهم، وظلوا باهتين لمرآها ذاهلين، وكأنما أدركهم الخجل منها لرثاثة ملابسهم وتشعُّث هيئاتهم، فظلوا يمسحون لحاهم، ويفتلون شواربهم ويقلِّبون النظر في أعطافهم؛ ليروا هل لصق بها أو خالطها ما تقذى به عيون السيدات الجميلات، ومرت بهم روكسان في مواقفهم تحييهم واحدًا فواحدًا بابتساماتها اللامعة المتلألئة، وكلماتها العذبة الجميلة، حتى بلغت موقف كرستيان، فألقت نفسها بين ذراعيه. فقال لها وهو ذاهلٌ مدهوش: ما الذي جاء بك يا روكسان؟ قالت: أنت الذي جئت بي يا زوجي العزيز.

وكان سيرانو واقفًا مذ رآها وراء إحدى الربوات موقف الذَّاهل المشدوه، يرعد ويضطرب ويغالب في نفسه ثورةً هائلةً تتوثب نارها بين أضالعه، ثم ما لبث أن سمع صوتها تناديه، فانتبه من غشيته وتقدم نحوها، وانحنى بين يديها، فابتسمت له وصافحته مصافحةً طويلةً وقالت له: لعلك بخير يا ابن عمي! قال: نعم، وأشكر لك تفضلك بزيارتنا، وإن كنت أرجو أن تكون زيارةً قصيرةً! قالت: لماذا؟ قال: لأننا في ميدان حربٍ وأخشى أن يصيبك من شرها شيءٌ! قالت: بل سأبقى معكم أطول مما تظنون، فأعدوا لي مقعدًا أجلس عليه، فابتدر الجنود تلبية أمرها، ولم يبقَ بينهم حامل طبل أو صاحب صندوق إلا قدمه إليها، فجلست وهي تقول: ما أطول المسافة بين باريس وأراس، لقد كنت أظنها أقصر من ذلك، ولقد مررت في طريقي ببلاد شملها الخراب والدمار، ورأيت بعيني منظر الجائعين والمتألمين والصارخين، وما كنت أحب الحرب تنال من الإنسانية هذا المنال العظيم، والحق أقول يا أصدقائي: إن العاطفة التي جاءت بي إلى هنا أجمل وأرق من العاطفة التي جاءت بكم، فكم بين من يأتي ليُقبل حبيبه، ومن يأتي ليقتل عدوه؟! والتفتت إلى كرستيان، وقالت له: أليس كذلك يا زوجي العزيز؟ قال: بلى. فقال لها سيرانو: ولكن كيف استطعت اختراق خطوط العدُو، وتجشُّم هذه المخاطر كلها، قالت: لقد كان ذلك سهلًا جدًّا يا ابن عمي، واسمحوا لي أيها الأصدقاء أن أقول لكم: إن أعداءكم الإسبانيين قومٌ ظرفاء أرقَّاء، لم تسمح لهم شهامتهم وشرف نفوسهم أن يطلقوا النار على امرأةٍ عزلاء، فلقد كنت كلما مررت بحارسٍ من حراسهم فتحت نافذة مركبتي وأشرفت عليه، وابتسمت في وجهه ابتسامةً لطيفةً، فلا يلبث أن يستقبلني بمثلها، ويتنحى لي عن طريقي، فأمضي في سبيلي، فكانت الابتسامة هي «جواز المرور» الذي فتح لي جميع الأبواب الموصدة أمامي، حتى وصلت إلى هنا. قال: ألم يسألك أحد عن وجهتك التي تقصدينها؟ قالت: كان إذا سألني أحدهم قلت له: إنني ذاهبة لرؤية عشيقي! فتقع هذه الكلمة العذبة الجميلة من نفسه موقع الماء من مهجة الظامئ الهيمان، فيبشُّ في وجهي ويحييني بإحناء رأسه ويتركني وشأني، فقاطعها كرستيان وقال لها: ولكنني لست بعشيقك يا سيدتي، بل زوجك. قالت: ما ارتبت في ذلك قط يا زوجي العزيز، ولكن كلمة العشيق تنال من نفس العاشق المفارق — وكلكم ذلك الرجل — ما لا تنال منها كلمة الزوج، فسامحني واغفر لي ذنبي.

وهنا دخل الكونت دي جيش رئيس أركان حرب الجيش، فرأى روكسان واقفةً موقفها هذا بين الجنود، فدهش دهشةً عظيمة إذ رآها، ودنا منها فحياها وقال لها: ما الذي جاء بك إلى هنا يا سيدتي؟ قالت: جئت لأرى زوجي؛ لأنني لم أتمتع برؤيته بعد زواجي منه إلا تلك اللحظة القصيرة التي تعلمها، فاربدَّ وجهه غيظًا وقال لها: لقد أخطأت بعملك هذا خطأً عظيمًا، وليس من الرأي أن تلبثي هنا بعد الآن لحظةً واحدة، فأعدي عدتك للرجوع من حيث أتيت، قالت: لماذا؟ قال: لأن المعركة ستدور بعد ساعة أو ساعتين، ولا مكان للنساء في ميادين الحروب. فقال كرستيان: وسنموت في تلك المعركة يا سيدتي عن آخرنا؛ لأن الكونت أراد ذلك، فذعرت روكسان واصفر وجهها، والتفتت إلى الكونت وقالت له: أصحيحٌ ما يقول يا سيدي؟ إنك إذن تريد أن أصبح أرملة. قال: لا، وأقسم لك. قالت: ألا تعلم أنه إذا قُدِّر لي هذا المصير كان ذلك آخر عهدي بالدنيا ونعيمها، واستحال على عين الشمس أن تراني بعد اليوم، إلا إذا استطاعت أن تخترق بأشعتها صفائح القبور! قال: أقسم لك يا سيدتي أنني … فقاطعته وقالت: كيفما كان الأمر فمحالٌ أن أغادر هذا المكان؛ لأنني أريد أن أموت مع أبناء وطني، فهتف سيرانو بصوتٍ عالٍ: لقد نطقْتِ بكلمة الأبطال يا سيدتي فأهنئك، فابتسمتْ وقالت: ذلك لأنني ابنة عمك يا سيرانو، فصاح الجنود جميعًا بصوتٍ واحدٍ: سنُدافع عنك يا سيدتي إلى الموت. قالت: شكرًا لكم يا أصدقائي، ذلك أملي فيكم، وفي الدم الجاسكوني الذي يجري في عروقكم، فتقدم نحوها «كاربون» قائد الفرقة وانحنى بين يديها، وقال لها: أما وقد أصبحت شريكتنا في حظنا ومصيرنا فائذني لي أن ألجأ إليك في طلبةٍ واحدة. قالت: وما هي؟ قال: أن تفتحي يدك القابضة على هذا المنديل الحريري الجميل. فلم تفهم ما يريد، ولكنها فتحت يدها فسقط المنديل على الأرض، فالتقطه وقال لها: إنَّ فرقتي يا سيدتي ليست لها رايةٌ، وسيكون منديلك هذا رايتها التي تقاتل في ظلها، واعلمي أن جنودي سيموتون جميعًا دفاعًا عن الراية التي قدمتها لهم أجمل فتاةٍ في فرنسا! ثم عقد المنديل بسنان رمحه الطويل، وركزه على قمَّة التل؛ فظلت الريح تعبث به، وظل الجنود ينظرون إليه نظر السائر إلى نجمة القطب الخافقة في كبد السماء.

الوليمة

فالتفتت روكسان إلى الجنود باسمةً وقالت: ألا تقدمون لي شيئًا من طعامكم وشرابكم أيها الإخوان، فإني أكاد أموت جوعًا! فنظر القوم بعضهم إلى بعضٍ، وقد مشت في وجوههم صفرة الموت، ودهمهم من الأمر ما لم يكن يخطر لهم ببال، فشعرت روكسان بحيرتهم واضطرابهم، فابتسمت وقالت: أو قوموا بنا جميعًا إلى مطعم «راجنو»؛ لنتناول عنده من الطعام ما نريد، فقال لها أحدهم: إنك تهزئين بنا يا سيدتي، فأين نحن من راجنو ومطعمه؟ قالت: إذن لا أستطيع أن أتصوَّر كيف يكون سروركم واغتباطكم، إذا علمتم أنني قد نقلت لكم هذا المطعم وصاحبه من باريس إلى هنا؟

وتركتهم ذاهلين مدهوشين لكلامها، وصعدت إلى التل وصاحت: راجنو! راجنو! هاتِ لنا غداءنا، فما أتمت كلمتها حتى أقبل راجنو، والغلامان الخادمان يحملون على أيديهم سلال الخبز، وصناديق الخمر، وأفخاذ اللحم الناضجة، وأنواع الفطائر والحلوى، فهتف الجنود: راجنو، راجنو! وداروا به يحيُّونه ويعتنقونه، ويجاذبونه أثوابه، فصاح فيهم: دعوني أيها الكسالى، واذهبوا إلى المركبة واحملوا الطعام الذي جئناكم به بأنفسكم، فحسبنا ما حملنا لكم، فهرعوا إلى المركبة وعادوا بما بقي فيها من لحم وخمر وحلوى وفاكهة، فرحين مغتبطين، وهم يقولون: كيف غفلت عيون الأعداءِ يا راجنو عن هذا الطعام الشهي؟ قال: لأن عيون روكسان الجميلة كانت أشهَى إليهم منه.

وما هي إلا هُنَيْهَة حتى استداروا حلقاتٍ واسعةً وأنشئوا يأكلون ويقصفون، وروكسان قائمةٌ في خدمتهم؛ تقدم لهذا كأسًا، ولهذا رغيفًا، ولهذا سكينًا، ومدامعها تتلألأ في عينيها رحمةً بهم وإشفاقًا عليهم، وسيرانو واقفٌ ناحية ينظر إليها نظرة السرور والغبطة، ويردد بينه وبين نفسه: يا ملاك الرحمة والإحسان! يا أجمل نسمة طاهرة على وجه الأرض! يا نفسًا نفية صافية لم يخلق الله لها مثالًا بين نفوس البشر! حسبي منك أن أراك، وأن ينفذ شعاعٌ من أشعة جمالك إلى قلبي المظلم الحالم، فيضيء ظلمته ويشرق في جوانبه.

وإنهم لكذلك إذ سمعوا صوت الكونت دي جيش مقبلًا من بعيد. فقال بعضهم لبعض: محال أن ينال هذا الرجل البغيض لقمةً واحدة من طعامنا، فلنطوِ عنه كل شيء حتى ينصرف لشأنه! وما هي إلا كرة الطرف حتى اختفى كل شيءٍ في ثنايا معاطفهم وفروج أكمامهم، ووراء صناديقهم، ثم دخل الكونت وهو يقول: ما هذه الرائحة الجديدة؟ فصمت الجنود ولم يقولوا شيئًا، فظل يقلب النظر في وجوههم فيرى الحمرة التي سرت فيها من حرارة الغذاء ونشوة الشراب، فيعجب لها عجبًا شديدًا؛ ثم قال: ما لي أراكم منتعشين متهلِّلين، وعهدي بكم قبل هذه اللحظة تتهافتون جوعًا، وتتساقطون ضعفًا وإعياءً! فقال له سيرانو: إنها صحوة الموت يا سيدي! فأشاح بوجهه عنه، والتفت إلى روكسان، وقال لها: أباقيةٌ أنت هنا حتى الآن يا سيدتي؟ قالت: نعم، وما أنا ببارحةٍ هذا المكان حتى أعود بكم أو أموت معكم! فأطرق هُنَيْهَة ثم رفع رأسه وهتف بكاربون، فلباه ووقف بين يديه. فقال له: إنك ستدير المعركة المقبلة بالنيابة عني يا حضرة القائد. قال: وأنت يا سيدي؟ قال: أما أنا فباقٍ هنا لأدافع عن روكسان بنفسي؛ لأني لا أستطيع أن أترك امرأةً في خطرٍ، فأكبر القوم جميعًا هذه الشهامة الكبرى والعظمة النفسية، وهمس بعضهم في أذن بعض: إن الرجل لا يزال يجري في عروقه الدم الجاسكوني! فقال لهم سيرانو: إذن يمكننا أن نقدم إليه شيئًا من طعامنا وشرابنا، فاندفعوا جميعًا نحوه ومدوا إليه إيديهم بما معهم من الطعام والشراب، فألقى عليهم نظرة عالية مترفعة، وقال لهم: نعم، إنني أموت جوعًا وَسَغَبًا، ولكن الجاسكوني الشريف لا يأكل فضلات طعام غيره، فصاح سيرانو: شهامة أخرى أيها الأصدقاء لا تنسوها له! وهتف: ليحيَ الكونت دي جيش! فهتف الجند بهتافه، فشكرهم الكونت بإيماءة رأسه، ثم أنشأ يخطب فيهم خطبة الحرب، ويلقي عليهم الأوامر العسكرية، حتى قال لهم، وهو يشير إلى مدفعٍ جاثم بين يديه: إنكم ما تعودتم إطلاق المدافع قبل اليوم، فاعلموا أن المدفع يتراجع بشدةٍ عند خروج القذيفة منه، فكونوا على بينة من ذلك واحذروه، فصاح أحدهم بصوت عال: إن مدفع الجاسكونيين مثلهم يا سيدي لا يتراجع أبدًا! فابتسم له وشكره، وقال: لا يخيبن أملي فيكم يا أبناء وطني، ثم التفت إلى روكسان وقال لها: تعالي معي يا سيدتي لتشاهدي منظر استعراض الجيش، فأعطته يدها فصعدا معًا إلى قمة التل.

وما أبعد إلا قليلًا حتى مشى سيرانو إلى كرستيان، وقال له همسًا: كلمة واحدة أريد أن أقولها لك يا سيدي، فامشِ معي قليلًا، فمشى معه فقال له: ربما فاتحتك روكسان في شأن الرسائل التي كانت ترد عليها منك، وستقول لك إنها كانت تتلقى منك كل يومٍ رسالةً؛ فلا يدهشك ذلك، ولا ترتبك لئلا يفتضح الأمر. قال: وهل كنت تكتب إليها كل يوم؟ قال: نعم؛ لأنني تعهدت لها عنك قبل سفرنا — كما تعلم — أن تكتب إليها كثيرًا، فلم أرَ بدًّا من الوفاء، وما كان يكلفني ذلك أكثر من التعبير عن شعورك وخوالج نفسك، وذلك ما لا ينقصني العلم به، فإذا فاتحتك في هذا الشأن فلا يكن لك فيه قولٌ غير الذي قلت لك. قال: وكيف كنت تستطيع توصيل هذه الرسائل إليها وقد حصرنا العدو من كل جانبٍ وذادنا عن كل شيء، حتى عن طعامنا وشرابنا؟ قال: الأمر بسيط جدًّا: كنت أخرج في سَحَر كل ليلة متنكرًا تحت جنح الظلام، فأكمن تارةً وأظهر أخرى …

فقاطعه كرستيان وقال له: وهل هذا بسيط جدًّا، الحقَّ أقول لك يا صديقي: إنني أصبحت أعجب لأمرك كثيرًا، ولئن استطعت أن أفهم كل شيء فإنني لا أستطيع أن أفهم اهتمامك بهذا الأمر هذا الاهتمام كله إلى درجة المخاطرة بحياتك في سبيله.

قال: ما في الأمر مخاطرة ولا مجازفة، فقد كان يلذُّ لي كثيرًا أن أقوم لك بهذه الخدمة، وأن ألاقي ما ألاقي من الأخطار في سبيلها. قال: وما الذي كان يعجبك من ذلك؟ قال: التمثيل. قال: أي تمثيل؟ قال: تمثيل عواطفك وشعورك، فإنني مذ أخذت نفسي بتمثيل دورك في هذه المأساة المحزنة لم يزل يستهويني التمثيل ويُهيمن على نفسي، حتى أصبحت أتخيل أنني صاحب الدور الذي أمثله، وأنني أنا المعنيُّ دونك بكتابة هذه الرسائل، والعناية بها والتذرع بكل وسيلة إلى توصيلها إليها. قال: وهل تبلغ لذة التمثيل بامرئٍ، هذه المبالغ كلها؟ قال: نعم، وكثيرًا ما ذرف الممثلون دموعًا لم يذرفها العاشقون أنفسهم. ثم التفت فرأى روكسان مقبلةً فقال له: قد فهمت الآن كل شيءٍ، فكن حكيمًا حازمًا.

ثم تسلل إلى خيمته، وتركه واقفًا مكانه.

حقيقة الجمال

قال كرستيان لروكسان وقد جلسا معًا على بعض المقاعد: هل لك أن تحدثيني يا روكسان: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فإنني لا أزال أعجب لأمرك كل العجب، ولا أكاد أصدق أن الحب يُجَشِّم صاحبه هذه الأخطار التي جشمتها نفسك في سبيله. قالت: لقد سحرتني وملكت عليَّ لبي رسائلك العذبة الجميلة التي كنت ترسلها إليَّ صبيحة كل يومٍ وتُودِعها شعور قلبك، وهواجس نفسك، وتكتبها بتلك اللغة الغريبة المؤثرة التي لو لامست الصخر الأصم لانفجر وتناثرت شظاياه في أجواز الفضاء، وقد حاولت كثيرًا أن أَثْبُت لها وأقاوم تأثيرها على نفسي بكل سبيل، فغلبتني على أمري وقادتني إليك كما تراني.

قال: أمن أجل بضع رسائل بسيطة …؟

فقاطعته وقالت: لا تقل بسيطة، بل هي الوحي الإلهي الذي ينزل على نفوس الملهمين من البشر، بل هي القوة الغيبية التي تهيمن على العالم، وتُحيط به من جميع أقطاره دون أن يدرك أحدٌ مكانها أو يعرف مَأْتَاها، ولقد كان يُخيل إليَّ وأنا أقرؤها أنني أرى صورتك فيها، كما يرى الناظر صورة البدر من وراء السحب الرقيقة، فأُهْوِي إليها بفمي لأقبلها، فإذا أنا أقبل السطور والكلمات!

فأطرق كرستيان برأسه، وقد ألم بنفسه من الهم والكمد ما الله عالم به، واستمرت روكسان في حديثها تقول: إنني ما أحببتك يا كرستيان حبًّا صادقًا متغلغلًا في أعماق نفسي إلا منذ تلك الليلة التي رأيتك فيها واقفًا تحت شرفتي تناجيني نجاء عذبًا رقيقًا بتلك النغمة الرقيقة المؤثِّرة، وتفضي إليَّ بذات نفسك، كأنك قد ألمستني فؤادك، ووضعت يدي على قلبك، ثم توالت عليَّ رسائلك بعد ذلك، فكنت أسمع فيها دائمًا تلك النغمة الموسيقية الخلابة، وكأنك لا تزال واقفًا أمام شرفتي تناجيني فلا أستطيع أن أملك نفسي دون البكاء والحنين، وأقسم لك لو أن «بينيلوب» وردت عليها من زوجها «عولس» تلك الرسائل التي وردت عليَّ منك لما أطاقت صبرًا على فراقه، ولألقت بنسيجها الذي عرفت به في التاريخ، وذهبت تفتش عنه بين سمع الأرض وبصرها حتى تلقاه.

فقال ونفسه تذُوب حسرةً وكمدًا: ما كنت أقدِّر يا روكسان أن تلك الرسائل الصغيرة تبلغ من نفسك هذه المبالغ كلها. قالت: لقد كان سلطانها على نفسي عظيمًا جدًّا، وكنت أعيد قراءتها مراتٍ كثيرةٍ، حتى تتشربها نفسي وتتمثلها روحي، وحتى كان يخيل إليَّ أن كل كلمةٍ من كلماتها ورقة تطير إليَّ من أوراق روحك، فما لبثت أن شعرت أنني قد أصبحت ملكًا لك، وأسيرةً في يديك، وأن أمر نفسي قد خرج من يدي، فلا حول لي فيه ولا حيلة.

فاكتأب كرستيان وتقبض وجهه، وقال لها: أهذا كل ما جاء بك إلى هنا؟ قالت: نعم، جئت لأستغفرك من ذلك الذنب الذي أذنبته إليك، فقد أحببتك لأول عهدي بك لجمالك ورونقك وقسامة وجهك، كأن الجمال هو كل فضائلك ومزاياك، فأهنتك بذلك إهانةً عظمى، أما الآن فإني أجثو بين يديك، لا بجسمي — فإنك لا تلبث أن ترفعني بيدك — بل بروحي التي لا يمكنك أن تغير مكانها منك أبدًا، طالبةً صفحك وعفوك عن تلك الجريمة التي اقترفتها، وما أحسبك تضن عليَّ بذلك في هذه الساعة التي نقف فيها جميعًا على أبواب الأبدية، ونودع فيها الحياة الوداع الأخير.

فانتفض كرستيان وشخص في وجهها ساعة، ثم قال لها: هذا شأنك في الماضي، ثم ماذا كان بعد ذلك؟ قالت: كنت بعد ذلك أكثر تعقلًا وَرَوِيَّةً، وأبعد فكرًا ونظرًا، فامتزج في نظري جمال صورتك بجمال نفسك، فاستحالتا إلى صورةٍ واحدة فأحببتها. قال: والآن؟ قالت: أما الآن فقد انتصرتْ نفسُك عليك انتصارًا عظيمًا، فأصبحت لا أحب منك سواها، ولا أشعر بسلطانٍ لغيرها على قلبي.

فاصفر وجهه اصفرارًا شديدًا، وأطرق برأسه، وظل يقول بينه وبين نفسه: إنها ما أحبتني في حياتها لحظة واحدة!

واستمرت هي في حديثها تقول: فَلْيُهْنِكَ ذلك الحب الثمين يا زوجي العزيز، فإن أسعد الناس حالًا في هذه الحياة، وأحظاهم بنعمة العيش فيها أولئك الذين منحهم الله نفسًا جميلة شعرية تتعشقها القلوب، وتتشربها النفوس، وتهفو لها الأحلام، وتقوم لهم في كل موقفٍ ومقامٍ مقام الجمال الجثماني إن فاتهم، أو نزلت به كارثةٌ من كوارث الدهر، وما الجمال الجثماني إلا سحابة رقيقة تطير بها برودة الهواء، أو هضبة ثلجية تذيبها حرارة الشمس، وما أحبَّ المحبون قط في الصور الجميلة جمالها ورونقها، بل جمال النفوس الكامنة في طياتها؛ ولا أبغض المبغضون في الصور الدميمة قبحها ودمامتها، بل قبح النفوس المستكِنَّة فيها، فإذا اختلف العنوان عن الكتاب في إحدى الحالتين كان الفوز العظيم للجمال النفسي على صاحبه، وإني أعترف لك يا كرستيان بأني ما أحببتك عند النظرة الأولى إلا لجمالك؛ لأني ما كنت أرى في سماء حياتك كوكبًا مشرقًا سواه، وما هي إلا أيام قلائل حتى أخذ ذلك الكوكب يتضاءل أمام عيني شيئًا فشيئًا بجانب تلك الأشعة الباهرة، التي كانت تتدفق من ينبوع نفسك الجياشة الفياضة، حتى أصبحت لا أراه ولا أشعر به.

فازداد اضطرابه واصفراره، وظل ينظر إليها نظرًا غريبًا حائرًا. فقالت له: ما لي أراك حزينًا مكتئبًا، كأنك في شك من هذا الانتصار العظيم الذي تم لنفسك عليك؟ فنظر إليها نظرةً ساكنةً جامدةً، ثم قال: اسمعى يا روكسان، إنني لا أحفل بهذا الحب ولا أغتبط به، ولا أريد إلا أن تنظري إليَّ دائمًا بتلك العين التي نظرت بها إلي لأول عهدك بي. قالت: إني أعجب لأمرك كثيرًا يا كرستيان، فإن الحب الذي تؤثره وتغتبط به حبٌّ تافهٌ لا قيمة له ولا ثبات لظله، أما الآن فإني أحبك لصفاتك الكريمة النادرة التي قلما اجتمعت لمخلوقٍ سواك: أحبك لذكائك الخارق، وفطنتك النادرة، وشرف عواطفك، ورقة شعورك، ولطف حسك، وسعة خيالك، وذلك البيان الرائق الصافي الذي يشفُّ عن جوهر نفسك شفوف الغدير الساكن عن لآلئه وجواهره، أحبك من أجل ذلك كله حبًّا ثابتًا راسخًا لا تعبث به صروف الدهر، ولا تنال منه عاديات الأيام، حتى لو استحالت صورتك إلى صورةٍ أخرى غيرها لما نقص حبي إياك ذرةً واحدة!

فارتعد كرستيان وشعر أن نفسه قد بدأت تتسرب من بين جنبيه، فمدَّ يده إليها ضارعًا وقال: الرحمة يا روكسان! قالت: بل لو ذهب جمالك بحادثة من حوادث القضاء، فأصبحت بشع الصورة دميم الخلقة …

فقاطعها وصاح: دميم الخلقة؟ قالت: نعم، وأقسم لك على ذلك يا زوجي العزيز، ويا أحب الناس إلي.

فظل يرتعد ويضطرب اضطرابًا خُيِّل إليها أنه نشوة الحب وسكرة السرور. فقالت له: أسعيد أنت الآن يا كرستيان؟ فنظر إليها نظرةً غريبةً لا يعلم إلا الله ما يكمن وراءها، وقال: نعم سعيدٌ جدًّا، ومن هو أولى بالسعادة مني؟ ونهض قائمًا يريد الانصراف. فقالت له: إلى أين؟ قال: لم يبقَ بيننا وبين المعركة إلا لحظات قليلة، ولا بد أن يكون هذا آخر اجتماع لنا، فالوداع يا روكسان وداعًا لا لقاء بعده! فاضطربت وقالت: ولِمَ يغلب يأسُك على رجائك، ورحمة الله أوسع من أن تضيق بك؟ قال: إن السعادة أضن بنفسها من أن تثبت زمنًا طويلًا في مكانٍ واحد! فالوداع يا روكسان!

وأخذ يبتعد عنها شيئًا فشيئًا دون أن يضع يده في يدها أو يقبلها قبلة الوداع، فمشت وراءه وهي تعجب لأمره وتقول: ما بالك يا كرستيان؟ قف قليلًا لأقول لك كلمةً واحدة ثم اصنع ما شئت، إنك لم تفهم غرضي! وأقسم لك أنك لو فهمته لعلمت أنني أحببتُك حبًّا ما أحبَّه أحدٌ من قبلي أحدًا. قال: حسبك يا روكسان وعودي إلى هؤلاء الجنود المساكين البائسين، فإنهم يفكرون في مثل ما أفكِّر فيه، ويودِّعون الحياة كما أودِّعها، فاذهبي إليهم، واجلسي بينهم قليلًا، وعزيهم بابتساماتك العذبة الجميلة عن همومهم وآلامهم، أما أنا فذاهبٌ لقضاء بعض الشئون، وربما عدت إليك بعد قليل.

ثم اختفى عن نظرها.

المكاشفة

دخل كرستيان على سيرانو في خيمته شاحب اللون، مكفهر الجبين. فقال له سيرانو: ماذا بك يا صديقي؟ قال: إنها حدثتني الآن حديثًا طويلًا علمت منه أنها لا تحبني، بل ما أحبتني قط في يوم من أيام حياتها! قال: ماذا تريد أن تقول؟ قال: وأقول أيضًا إنها تحبك أنت، ولا تحب في الدنيا أحدًا سواك.

فانتفض سيرانو انتفاضةً شديدةً كادت تتطاير لها أجزاء نفسه، وقال: أنا؟ قال: نعم؛ لأنها اعترفت لي بأنها لا تحب مني إلا نفسي، وأنت نفسي التي تكمن بين أضالعي، فهي تحبك حب العابد معبوده، وما جاءت هنا إلا من أجلك، وما أشك في أنك تضمر لها في قلبك من الحب مثل ما تضمر لك.

فصرخ سيرانو وقال: لا، وأقسم …

فقاطعه كرستيان وقال: لا تفعل، فلقد نَمَّتْ عليك تلك الدمعة التي رأيتها بعيني في كتاب الوداع الذي كتبته إليها، وما هي بدمعة الشعر كما تقول، بل دمعة الحب، وما كنت تكتب إليها عن لساني كما تزعم، بل عن لسانك أنت، فاعترف بأنك تحبها.

فأطرق سيرانو هُنَيْهَةً ذهبت نفسه فيها كل مذهبٍ، ثم رفع رأسه وقال: نعم يا كرستيان، أعترف لك بأني أحبها، وأقسم لك أنني ما طمعت فيها قط. قال: نعم، أعلم ذلك، فوا رحمتاه لك ولتلك الآلام الطوال التي قاسيتها في ماضي حياتك، أما الآن ففي استطاعتك أن تطمع فيها كما تشاء، ولا يوجد في العالم شيء يحول بينك وبينها. قال: لا أستطيع، فإن من يحمل وجهًا مثل وجهي لا يطمع في حياة الحب والغرام. قال: إنها أقسمت لي أنني لو كنت بشع الخلقة، دميم الوجه لما نقص حبها إياي ذرةً واحدة، فانتعش سيرانو وقال: أوقالت لك ذلك؟ قال: نعم، ما زالت تقوله لي حتى أملَّتني وأضجرتني! قال: لا تحفل بقولها، فهي فتاة شعرية الأفكار والتصورات، تقول بلسانها غير الذي تضمره في أعماق نفسها، فابق محبوبها الجميل كما كنت، ولأبقَ أنا لسانك الناطق بين يديها حتى يقضي الله فينا جميعًا بقضائه! قال: ذلك مستحيل بعد الآن، فإني أشعر في أعماق نفسي بخجل ما أحسب إلا أنه سيقضي على حياتي قبل أن تقضي عليها القذيفة التي تنتظرني في ساحة القتال، فاذهب إليها واعترف لها بكل شيء، وقل لها: إن الرجل الذي أحببته من أجل ذكائه وفطنته وذلاقة لسانه وقوة بيانه كاذبٌ، عاش ينتحل مواهب الناس وفضائلهم لنفسه، وليس له فيها من الحظ شيء! قال: ذلك فوق الاحتمال يا كرستيان. قال: لا بد من ذلك، فليس من العدل أن أَقْتل هناءك من أجل أن الطبيعة جملتني بهذه الحلية البسيطة من الجمال. قال: وليس من العدل أن أفجعك في سعادتك؛ لأن الطبيعة منحتني شيئًا من القدرة على التعبير عن عواطفي. قال: لا بد أن تفاتحها في موضوع حبك، فأنت محبوبها الحقيقي، أما أنا فَخِلْعَتُكَ الجميلة التي تلبسها وتتجمل بها، فانزعها عنك، وتقدم إليها بأي ثوبٍ تريده، فهي لا تبالي بجمال الأثواب وزخرفها، إنني ضقت ذرعًا بهذه النفس الغريبة التي أحملها دائمًا بين جوانحي، حتى أُعييتُ بأمرها إعياءً شديدًا، ولا راحة لي إلا في الخلاص منها! قال: إنك تريد شقائي يا صديقي: قال: لا، بل سعادَتك، فاذهب إليها وقُصَّ عليها القصة من مبدئها إلى منتهاها، واترك لها الخيار في أمرها، فإن اختارتك فقد أنصفتك، ولقد كان عقد الزواج الذي جرى بيننا عقدًا سريًّا لا تحفل به الكنيسة، ولا يعبأ به الناس، فما أسهل التخلص منه، وإن اختارتني لا أكون غاشًّا لها ولا خادعًا. قال: ستختارك أنت بلا شك. قال: أرجو أن يكون كذلك، وها هي ذي مقبلة فاشرح لها كل شيء، أمَّا أنا فذاهبٌ إلى نهاية الخط لشأنٍ من الشئون لا بد لي من قضائه، وربما عدت إليك بعد قليلٍ.

فارتاب سيرانو في أمره، وأمسك بيده وقال له: إنني أقرأ على جبينك آية اليأس يا كرستيان، فهل تُقسم لي أنك لا تقتل نفسك؟ قال: أقسم لك ألا أقتل نفسي، ثم التفت فرأى روكسان على مقربة منه. فقال لها: سيُحدثك سيرانو حديثًا خطيرًا فاذهبي إليه.

ثم وضع يده على مقبض سيفه فجرده من غمده، وهرع إلى ساحة القتال وهو يقول: الوداع يا نور السماء!

الفاجعة

فدنت روكسان من سيرانو وقالت: ما باله؟ إني أعجب لأمره كثيرًا، ولا أدري ما الذي دهاه، فما هو ذلك الحديث الخطير الذي تريد أن تحدِّثنيه؟ قال: لا شيء، إنه يهتم بأصغر الأمور وأبسطها، فلقد كان يروي لي تلك المحادثة التي دارت بينك وبينه منذ هُنَيْهَةٍ. قالت: نعم، ويخيل إليَّ أنه لم يفهم غرضي، أو أنه في شكٍّ مما أفضيت به إليه؛ وأؤكد لك يا صديقي أنني ما قلت له إلا الحقيقة التي أعتقدها، فإنني أصبحت — بعد اطلاعي على تلك الرسائل البليغة التي كان يرسلها إليَّ كل يومٍ من ميدان الحرب — مفتتنةً بعقله وذكائه أكثر من افتتاني بحسنه وجماله، حتى لو استحالت صورته إلى صورة أخرى غيرها، أو ذهب بجماله حادثٌ من حوادث الدهر فأصبح … ثم سكتت حياءً وخجلًا. فقال: دميمًا؟ قالت: نعم، ولو أصبح كذلك. قال: وبشع الصورة؟ قالت: نعم. قال: ومشوَّه الوجه؟ قالت: نعم. قال: وضُحْكَةَ الناس وسخريتهم؟ قالت: إن من كان له مثل عقله ولسانه لا يكون ضُحْكَةَ الناس وسخريتهم.

وهنا سمعا أوَّل طلقةٍ من طلقات المعركة، فلم يحفلا بها، واستمر سيرانو في حديثه يقول: أتحبينه برغم كل شيء؟ قالت: نعم برغم كل شيء، فقد غمر جمال نفسَه جمال صورته حتى أصبحت لا أراها ولا أشعر بها، فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطًا عظيمًا، وعلم أنه قد أشرف على السعادة التي ظل ينتظرها أعوامًا طوالًا، ولم يبقَ بينه وبينها إلا كلمة أخرى ينطق بها، فإذا هي بين يديه.

في هذه اللحظة أقبل «لبريه» من ناحية الميدان مسرعًا، وأسرَّ في أذن سيرانو هذه الكلمة: «قد قُتل كرستيان!» فانتفض وقال: وكيف قُتل؟ قال: بأول قذيفة من قذائف المعركة، فاصفر وجهه وارتعدت فرائصه، وغشت على عينيه غمامة سوداء، فعجبت روكسان لأمره وقالت له: ما بك يا سيرانو؟ قال: لا شيء! قالت: أتمم حديثك، ماذا كنت تريد أن تقول لي؟ فصمت وأطرق هُنَيْهَة، وظل يقول بينه وبين نفسه: قد انقضى كل شيءٍ، فلا أستطيع أن أقول شيئًا، ولقد كان كرستيان صديقي وعشيري، فليس في استطاعتي أن أبني سعادتي على أنقاض شقائه! فظلت روكسان تنظر إليه ذاهلةً حائرةً، وتقول: ليت شعري ماذا جرى؟ وسيرانو مطرقٌ لا يرفع رأسه، حتى أقبل جماعة من الجنود يحملون على أيديهم شيئًا مسجًّى يشبه الجثة، فوضعوه ناحيةً، فارتعدتْ روكسان، وكأن نفسها حدثتها بما كان، فظلت تنظر إلى ذلك الشيء باهتةً مدهوشة، وتقول: انظر يا سيرانو! ما هذا الذي أرى؟ أتدري ماذا يحمل هؤلاء الرجال؟ فانتبه إليها وقال: دعيهم وشأنهم يا سيدتي، واستمعي بقية حديثي، وحاول أن يجمع شتات ذهنه المبعثر فلم يستطع، فأخذ يتكلم كلامًا مضطربًا متقطعًا، ويقول: كنت أريد أن أقول لك … آه، ماذا كنت أريد أن أقول؟ لا أستطيع أن أقول شيئًا، فقد انقضى كل شيء، كنت أريد أن أقول … آه، قد تذكرت: أقسم لك يا روكسان أنكِ صادقةٌ فيما قلت، نعم كان كرستيان كما قلت: فتًى … فقاطعته وصرخت صرخةً عظيمة وقالت: كان؟! يُخيَّل لي أنك ترثيه! ودفعته بيدها دفعةً شديدة، وهرعت إلى الجثة، وكشفت الغطاء عنها، فإذا كرستيان في سكرة الموت.

فألقت بنفسها عليه، وقد أصابها مثل الجنون، وظلت تبكي وتنتحب انتحابًا محزنًا، وتصرخ صرخاتٍ مؤلمة، ثم لمحت في صدره الجرح الذي ينبعث منه الدم، فمزقت قميصها واقتطعت منه قطعةً، وهرعت إلى موضع الماء لتبللها، ففتح كرستيان عينيه في تلك اللحظة وتأوه آهةً طويلة، فدنا منه سيرانو وأكبَّ عليه وهمس في أذنه: أبشر يا كرستيان، فقد بُحت لها بكل شيء وخيرتها بيني وبينك، فاختارتك من دوني، وهي لا تحبُّ أحدًا سِوَاك!

وعادت روكسان وفي يدها القطعة المبللة، فظلت تمسح بها الجرح، وتقول: إنه لا يزال حيًّا، وسيلتئم جرحه بعد قليلٍ، وسيعيش بجانبي دهرًا طويلًا، أليس كذلك يا سيرانو؟ ثم وضعت خدها على خده، فشعرت ببرودة الموت تسري في جسمه، فاصفرت وتخاذلت أعضاؤها، وظلت تناجيه نجاءًا محزنًا مؤثرًا، وتضرع إليه أن يعيش من أجلها؛ لأنها في حاجةٍ إليه، ولا تستطيع أن تهنأ بالحياة من بعده، ثم وضعت يدها على صدره، فعثرت بذلك الكتاب الذي كان قد أخذه من سيرانو، فأمرَّتْ نظرها عليه فوجدته معنونًا باسمها، ورأت عليه نقطة من الدم، وتلك القطرة من الدمع. فقالت: وا رحمتاه له! إنه كان يحدث نفسه بهذا المصير الذي صار إليه!

واحتضنته إلى صدرها وظلت تقبِّله وتلثمه، ففتح عينيه للمرة الأخيرة فرآها، فحاول أن يتحرك فلم يستطع، فشهق شهقةً كانت فيها نفسه!

المعركة

وكانت المعركة قد اشتدت، ودوَّى الميدان بصرخات الجنود وصيحاتهم، وقعقعة السلاح وأزيز الرصاص، وهتاف القواد بالجند أن تقدموا، ولا تتقهقروا أيها الأبطال البواسل، وانتزعوا النصر من بين مخالب أعدائكم انتزاعًا، فهاج الموقف نفس سيرانو، فجذب يده من يد روكسان — وكانت آخذةً بها — ليهجم مع الهاجمين، فاستوقفته وقالت له: ابقَ معي قليلًا يا سيرانو، فلقد مات كرستيان، وليس في العالم من يُعينني على نكبتي فيه سواك، لقد كنت الرَّجل الوحيد الذي عرفه حق المعرفة، وأدرك ما اشتملت عليه نفسه من الفضائل والمزايا، فقل لي: ألم يكن في حياته عظيمًا؟ قال: بلى. قالت: وذا هِمَّة عالية لا تسمو إليها همم الرجال؟ قال: بلى. قالت: وذا نفس عذبة صافية كأنها قطرة الندى المترقرقة في الزهرة الناضرة؟ قال: بلى. قالت: وشاعرًا عبقريًّا لم تطلع الشمس على مثله في عهد من عهودها الخالية؟ قال: بلى. قالت: لقد هوى ذلك الكوكب المنير من سمائه، وانحدرت تلك الشمس المشرقة إلى مغربها من حيث لا رجعة لها، فوا أسفا عليه! ثم صَرَخت صرخةً تتقطع لها نياط القلوب، وألقت بنفسها عليه، وظلَّت ترثيه وتندبه، وتذرف فوق جُثته جميع ما أودع الله عيونها من دموع، فوقف سيرانو وجرَّد سيفه من غمده وقال: إنها الآن تبكيني في بكائها على كرستيان؛ فيجب أن أموت!

وكان رصاص الأعداء يحصد الجاسكونيين حصدًا، فيتساقطون تساقط أوراق الشجر الجافة أمام الزوبعة الهائلة، وهم لا ينثنون ولا يتحلحلون، والكونت دي جيش في مقدمتهم يصيح بصوتٍ عال: ها هو ذا جيش قائدنا قد اقترب، فاصبروا ساعةً أخرى يتم النصر لفرنسا، فصرخ سيرانو: الوداع يا روكسان! واندفع إلى قمة التل، فاستقبله الكونت، واعترض طريقه وقال له: قف مكانك، لا تُلقِ بيدك إلى التهلكة، فقد آن أوان الهزيمة أو هلك الجنود جميعًا. قال: إن الجاسكونيين لا يتراجعون ولو أمرتهم بذلك، فَكِلْ أمرهم إليَّ ودعني وشأني، فإنني ناقمٌ موتورٌ أريد أن أنتقم لصديقي الذي ثكلته! وهنائي الذي فقدته، فاذهب أنت إلى روكسان ودافع عنها كما وعدتها حتى تبلغ مأمنها!

ثم صاح في الجنود: تشجَّعوا أيها الأصدقاء ولا تتقهقروا، فالحياة أمامكم، وليست وراءكم، فَتَقَدَّموا أيها الأبطال وموتوا جميعًا، فما في الموت شيءٌ سوى أن تنقلوا مكان اجتماعكم من الأرض إلى السماء، موتوا فالموت أهونُ عليكم من أن تروا وطنكم ذليلًا في يد أعدائكم، وقد مات أصدقاؤكم ورفقاؤكم، فما بقاؤكم في الحياة من بعدهم؟ رفرف علينا أيها العلم الصغير المطرَّز باسمها، وابعث في قلوبنا جميعًا روح القوة والشجاعة لنموت عن آخرنا تحت ظلك الخافق!

فظل الجنود ثابتين في أماكنهم ومنجلُ القضاء يحصدهم حصدًا، حتى وصل جيش العدو إلى قمة التل، وصاح قائدهم: ألقوا بأسلحتكم أيها القوم، فستموتون جميعًا إن لم تُسَلِّموا ولا يجدي عليكم الموت شيئًا! فأجابه سيرانو: لا يُسَلِّم إلَّا الأذلاء الجبناء، وما فينا جبانٌ ولا ذليلٌ! الهجمة الأخيرة أيها الأبطال؛ فها هي ذي طبول القائد الأعظم تدنو منا وتقترب، وليس بينكم، وبين النصر إلا كرَّةٌ واحدة.

وكان الأمر كما يقول، فما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى أشرف جيش القائد العام، وهاجم الأعداء من خلفهم، فالتحم الجيشان، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى تم النَّصر للراية الفرنسية على الراية الإسبانية، ولكن بعد أن تلاشى الجنود الجاسكونيون في المعمعة جميعًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤