تمهيد

يمكن وَصْف الإعلان بأنَّه علم اختطاف عقل الإنسان لفترةٍ كافيةٍ لاستنزاف المال منه.

ستيفن بتلر ليكوك
«كتاب الاقتباسات السياسية»،
مجموعة كراون للنشر (١٩٨٢)

لو أنَّك سألتَ مَن حولك عن الإعلانات، لوجدتَ في أغلب الأحيان أنهم يَجِدون صعوبةً كبيرةً في تذكُّر إعلان واحد منها، وإن ألححْتَ عليهم، فإنهم عادةً ما يذكرون حملاتٍ إعلانيةً قديمةً ومشهورةً من قبيل حملة إعلانات كوكاكولا التي كان شعارها «أودُّ أن أشتري للعالم كوكاكولا …» أو حملة بطاقة أمريكان إكسبريس «لا تغادر منزلك من دونها»، أو راعي البقر الشهير الذي استعانت به مارلبورو، أو العملاق الأخضر الذي استخدمتْه شركة «جرين جاينت» للمواد الغذائية في حملاتها. أما في بريطانيا، فإنهم يذكرون إعلانَ كادبوري الشهير بشخصياته من أهل المريخ، وراكبَ الأمواج في إعلان جِعَة جينيس، والعبارةَ الشهيرةَ في إعلان جِعَة هينكين «أنعش الأجزاء التي لا ينعشها مشروبٌ آخَرُ في جسدك»، والزوجين في إعلانات قهوة «جولد بليند» سريعة التحضير.

والطبيعي بعد تلك الأسئلة أن تتحوَّل دفَّة النقاش إلى مدى تأثير الإعلانات علينا. يرى أغلبنا أنها لا تؤثِّر فينا إلا إذا كنَّا على درجة السذاجة التي تُتيح لها ذلك؛ وهذا لأننا نفترض أن الإعلان يلعب على وتر الإقناع، والإقناع مرتبط لدينا بمحاولة الغَيْر (الآباء غالبًا) إجبارَنَا على القيام بشيء لا نرغب في القيام به. والإقناع عملية شفهية عقلانية، وهكذا لن يكون من الممكن إقناعنا من دون أن نتذكَّر أو نسمع إحدى الرسائل الإعلانية.

ويتَّفق العديد من الخبراء على أن الإعلان ليس مقنعًا بالدرجة التي يعتقدها صُنَّاعه. يقول مايكل شدسون في أُولَى فقرات كتابه «الإعلان: الإقناع الصعب»:

الإعلانات أقل تأثيرًا بكثيرٍ مما يدَّعي المعلنون وناقدو الإعلانات، والرسائل التي تقدِّمها وكالات الدعاية والإعلان تقوم على التخمين والمخاطرة أكثر مما تقوم على التحليل الدقيق للوعي الجمعي. (شدسون، ١٩٨٤، تمهيد)

أَتَّفق في الرأي مع شدسون؛ فبعد أن عَمِلتُ في تسع وكالاتٍ إعلانية مختلفة على مدار ٢٣ عامًا، يمكنني أن أعترف بأن صناعة الحملات الدعائية الكبرى تعتمد كثيرًا على الحظ والمصادفة والمغامرة. ربما يرغب المعلنون في أن يَظهَروا بمظهر الخبراء في فن الإقناع، لكنهم في الحقيقة ليسوا سوى مجموعة من الهُواة الموهوبين، بل لا أتردَّد في أن أقول إن أي شاب عادي في موعد غرامي سيكون أكثَرَ لباقة ومهارة في فن الإقناع من فريق إبداعي متوسط القدرات في وكالة إعلانية.

لكن ما دامتِ الإعلانات غير مؤثِّرةٍ هكذا في إقناعنا، فما الذي يجعل الشركات التي تستعين بالإعلانات هي الأكثر نجاحًا على مستوى العالم؟ التفسير في رأيي هو أن للإعلان طُرُقًا للتأثير لسنا على وَعْيٍ بها، وهذه الطُّرق لا تتضمن الإقناع. ولا يوجد خلاف بيني وبين شدسون في هذا الصدد أيضًا؛ فرغم تأكيده على أن الإعلانات ليست على قدْر كبير من الإقناع، فإنه يقول:

لا يعني هذا أن الإعلانات تفتقر إلى الفعالية. في الحقيقة … قد تكون الإعلانات التليفزيونية أقوى بكثير؛ لأن المشاهدين قلَّما يلتفتون إليها؛ ومن ثَمَّ لا تنتبه لها مَلَكات الدفاع النقدي لديهم. (شدسون، ١٩٨٤)

يعتمد شدسون في فكرته على وجهة نظر عالِم النفس هيرب كروجمان. أثارتْ نظريات كروجمان جدلًا خلال سبعينيات القرن الماضي؛ لأنها أشارت إلى أن الإعلانات التليفزيونية لا تلقَى سوى القليل من اهتمام المشاهدين. وبطبيعة الحال لم تكن صناعة الدعاية والإعلان لتتقبَّل هذا الرأي بسهولة، وتعرَّضت أفكار كروجمان للتجاهل حتى بدايات القرن الحادي والعشرين، حينما كتبتُ دراسة بعنوان «القوة الكامنة للإعلان» (هيث، ٢٠٠١).

وقد اعتمدتُ في تلك الدراسة على فكرة كروجمان القائلة إن الإعلان التليفزيوني قد يؤثِّر علينا حتى وإن تلقَّيْناه دون انتباه. ومنذ نشر الدراسة عام ٢٠٠١، تنامَى نطاق قبول فكرة أن الإعلان الخاضع للقليل من الانتباه قد يكون فعَّالًا. ومع ذلك، لا يزال كثيرون في صناعة الإعلان يصرُّون على أن الإعلان يؤتي ثماره فحسب عن طريق الإقناع، وأنه يكون أكثر فعالية عندما يَحظَى بقدْر كبير من الانتباه.

ومع أن دراستي تستند في الأساس إلى علم النفس، فإن الوسط الأكاديمي لم يجدْهَا دقيقةً بالقدْر الكافي، ولكي أتغلَّب على هذه المشكلة، قرَّرتُ أن أنتميَ بدوري إلى الوسط الأكاديمي، فانخرطْتُ في الدراسة ونلتُ درجة الدكتوراه، وقرأتُ وكتبتُ مقالات في الدوريات الأكاديمية. لكن كلَّما بحثتُ في الموضوع، تبيَّن لي أن الطريقة «الأخرى» لتأثير الإعلان — أي الطريقة البديلة للإقناع — هي في الأغلب أشد تأثيرًا من الإقناع. أعرب الكثيرون عن قلقهم من كيفية تأثير الإعلان علينا دون معرفتنا، ومن أنه «يتلاعب» بسلوكنا لا شعوريًّا؛ والآن صرتُ أعلم أن هذه المخاوف لم تأتِ من فراغ.

هذه الآلية البديلة لتأثير الإعلان هي ما أُطلِقُ عليه «إغواء العقل الباطن»، وعليَّ أن أؤكد أنه لا علاقة لهذا بالتأثيرات دون الواعية التي ذكرها فانس باكارد في كتابه الشهير «المقْنِعون المستَتِرون». بنَى باكارد زعمَه بشأن الرسائل التي تتكشَّف دون حدود الإدراك الحسي على خدعة، ولا يوجد دليل على الإطلاق على أن الإعلان يؤثر فينا بهذه الطريقة، بل الأكثر إثارة للقلق أن قُدْرة الإعلان على إغواء العقل الباطن تقوم على استخدام عناصر تحت سمعنا وبصرنا ويسهل علينا تمييزها. والإشكالية هي أننا نختار تجاهل تلك العناصر رغم قدرتنا على تمييزها والانتباه إليها.

وهكذا فإن قدرة الإعلان على التأثير بهذه الطريقة إنما تختلف عن فكرة تعرُّض العقل الباطن (تهيُّؤه للتأثُّر) لشيء نستطيع مقاومته أو وضْع حدٍّ له، وأحد أسباب حدوث ذلك هو الآلية التي تعمل بها عقولنا، والسبب الآخر الطريقة التي نتخذ بها قراراتنا. وهذا يعني أن تفسير نموذج إغواء العقل الباطن ليس بالأمر اليسير؛ فهو يتضمن تجميعَ ودراسةَ أفكارٍ مُركَّبة تتعلق بآليات الإدراك الحسي والتفكير والشعور والتذكُّر والنسيان. لم تُطرَح تلك الأفكار إلَّا في العَقدَيْن الأخيرين من قِبَل أكاديميين أمثال: أنطونيو داماسيو، ودانيال دينيت، ودانيال شاكتر، وجوزيف لودو، وستيفين روز. ورغم ما تتَّسم به هذه الأفكار من تعقيد، فإنني قد بذلتُ قصارى جهدي في توصيفها بلُغة يسهل على الجميع فهمها. وسعيتُ إلى تجنُّب الوقوع في مواقف لا أجد في وصفها أفضل من تعليق صديقي العزيز الراحل أندرو إرينبرج: «لا يوجد شيء في العالم بالِغ التعقيد لدرجة أنه لا يمكن أن يصبح بعدها أكثر تعقيدًا عند دراسة مجموعة من العباقرة له.»

إنني مَدِينٌ بالشكر لكثير من الأشخاص الذين ساعدوني في تأليف هذا الكتاب، وأخصُّ بالشكر بول فلدويك وجون هاورد اللذَيْن أَلْهَمَتْ أفكارُهما بحثي، وأشكر أيضًا — دون ترتيب محدد — تيم أمبلر، وديفيد برانت، وجيريمي بولمور، وويندي جوردون، وآرثر كوفر، وأجنيس نيرن، ودوجلاس ويست، وغيرهم كثيرين ممَّن ساهموا مساهماتٍ غير مباشرة في هذا الكتاب. أوَدُّ قبل أي شيء أن أُعرِب عن امتناني وحبي لزوجتي وصديقتي ومحررتي فرانسيس ليارديه، التي من دون مساندتها ما كان لي أن أكون كاتبًا على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤