مقدمة

أظن أني لن أرى أبدًا
إعلانًا أشد جاذبية من شجرة،
لكن إن أردتَ بيع شجرة،
فلن يكون لك غنًى عن إعلان!
جيف آي ريتشاردز
ردًّا على أوجدن ناش (١٩٩٥)1

الإعلان صناعة لا يُستهان بها، وقصة نجاح هائلة. كل ما عليك هو أن تُلقِي نظرة على عائدات الشركات التي تستعين بالإعلانات بصورة مكثَّفة (بروكتر آند جامبل، وول مارت، يونيليفر، كرافت، نستله، جونسون آند جونسون، ريكيت بنكيزر … إلخ) لتُدرك أن الاستثمار في الإعلانات يؤتي ثماره إلى حدٍّ كبير.

غير أنك تجد صعوبة بالغة إن حاولتَ البحث في «سبب» هذه الفعالية التي تتميز بها الإعلانات، أحد أسباب تلك الصعوبة أن الشركات التي تستعين بالإعلانات لبيع منتجاتها لن يكون لديها أي دافع لإطْلاع الآخَرين على مدى فعالية تلك الإعلانات. وبطبيعة الحال، يكون لوكالات الإعلانات دافع لنشر نجاحها والتعريف به؛ لأن الإعلان هو إعلان لها، إذا جاز التعبير، لكنها ملزَمة ببنود السرية في عقودها المُبرَمة مع الشركات صاحبة الإعلانات، ومع جهات التسويق التي تدفع أتعابها، وجهات التسويق هذه تفضِّل إبقاء النجاح أو الفشل طيَّ الكتمان. أحد أسباب ذلك أنه في حال تحصَّل منافسوها على معلومات حول الأساليب الإعلانية الفعَّالة وغير الفعالة، فعندئذٍ لن يكون على هؤلاء المنافسين سوى محاكاة الإعلانات التي أثبتت نجاحًا.

هذه الحالة من البارانويا التنافسية منتشرة على وجه الخصوص في الولايات المتحدة؛ حيث تفوق الميزانيات المخصَّصة للدعاية مثيلاتها في أي مكان آخر في العالم. وإذا سألتَ إحدى وكالات الإعلان الأمريكية عن حجم إنفاق أحد عملائها على حملة إعلانية، أو عن حجم العائد الذي عاد عليه من هذه الحملة، فلن تحصل على إجابة شافية، وإن حصل ونجحتَ في التوصُّل إلى شخص يمكنه تزويدك بتلك المعلومات، فالأغلب أنك ستحصل على تحذير من نشْر أيٍّ من تلك المعلومات.

على أن الأمر لا يخلو من بضعة استثناءات، فبرنامج جوائز ديفيد أوجيلفي التابع لمؤسسة أبحاث الدعاية والإعلان ينشر سنويًّا سلسلة من دراسات الحالة تعطي المتابع في بعض الأحيان لمحةً عن مدى نجاح إحدى الحملات الإعلانية، لكن البيانات تكون عامة في مضمونها. ستخبرك تلك الدراسات بحجم ما صنعَتْه الحملة من تعريفٍ وتوعيةٍ أو بعدد الأشخاص الذين سجَّلوا إعجابهم بها، بل قد تجد فيها معلومات عن مقدار زيادة المبيعات خلال فترة زمنية معينة، أو إلى أي حدٍّ نَمَتْ حصة الشركة صاحبة الإعلان في السوق. لكن من النادر أن تجد إحصاءً محدَّدًا حول ما حققَتْه الحملة الإعلانية بالفعل.

فكِّر — على سبيل المثال — في حملة «الجمال الحقيقي» التي أطلقَتْها دوف عام ٢٠٠٩.2 تقول دراسة الحالة المنشورة في تقرير جوائز أوجيلفي: إن «التفاعل» قد زاد بنسبة ١٢٪، لكن هذا لا يخبرنا بالكثير لأنه لا أحد يعرف ما المقصود بكلمة «تفاعل» هنا. وتقول الدراسة أيضًا إن الاستراتيجية العامة قد زادت من حصة الشركة في السوق بنسبة ٣٣٪ في كلٍّ من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا، لكن ذلك كان على مدى ٤ سنوات ما بين عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٧، وكان لجميع الأنشطة التي استمرت خلال هذه الفترة (أي حملات الترويج، محفِّزات التوزيع، حوافز المبيعات، نشاط العلاقات العامة … إلخ). والشيء الذي لن تخبرك هذه الدراسة به أبدًا هو حجم ما جلبه الإعلان التليفزيوني من عائدات.
أما في المملكة المتحدة فإن الجهات التسويقية أكثر مرونةً فيما يتعلَّق بالكشف عن بيانات أعمالها، كما أن جائزة فعالية الدعاية والإعلان البريطانية (آي بي إيه) تقدِّم ما هو بمثابة كنز من الأدلة الموثَّقة حول مدى فعالية الحملات الإعلانية.3 لهذا السبب ستجدني أنقل عن دراسات الحالة البريطانية بقدْرٍ أكبر بكثير من نقلي عن مثيلاتها الأمريكية في هذا الكتاب؛ فهناك الكثير من المعلومات التي يمكن لي العمل عليها، وهي تمثل نماذجَ أوضحَ كثيرًا عند الحديث عن الفعالية الإعلانية.

غير أن هناك سببًا آخَر وراء خشية شركات الدعاية والتسويق من الكشف عن أسباب نجاح إعلاناتها، وهو أنها هي نفسها لا تعرف تلك الأسباب في أغلب الأحيان. وتحضرني هنا مقولة لرجل الصناعة الشهير جون واناميكر: «نصف إعلاناتي ضاعت سُدًى، ولكنني لا أعرف أي نصف منها هو الذي ضاع.» وقد لا يعرف كثيرون أن نيل فيتزجيرالد، الذي كان حينذاك رئيسًا لشركة يونيليفر، قد قال في حوار: «لو جاء أحدهم وسألني أنا، وليس أحدًا ممَّن سبقوني في هذا المنصب، عن أي نصفٍ من إعلاناتي هو الذي راح هدرًا لقُلتُ له بل ٩٠٪ منها راحت هدرًا، ولكنني لا أعرف أي ٩٠٪.» (لانون، ١٩٩٨) ألَا تجد في هذا غرابة؟ أن يكون وصول الإنسان إلى القمر وتجوله على سطحه أسهل بكثير من التيقُّن من نجاح حملة إعلانية من عدمه، والدليل هو كلام رئيس ثاني أكبر شركة مُعلِنة في العالم.

قد يكون من بين تفسيرات هذا الارتباك أنَّ من صفات أداء الإعلان أنه يستعصي على المنطق في كثير من الأحيان. فمثلًا، من المعتقدات السائدة في صناعة الإعلان أن الإعلان الذي يعجبنا يكون أكثر فعالية من الإعلان الذي لا يُعجبنا؛ لأن المشاهدين يكونون أكثر استعدادًا لمشاهدته (بيل، ١٩٩٠). إذن، كيف يمكنك تفسير ما سأعرض له فيما يلي؟

نحب أم نكره؟

على مدار الأعوام القليلة الماضية، نَمَتْ في المملكة المتحدة مجموعة كبيرة مما يُعرَف بمواقع مقارنة الأسعار، وتمكِّنك هذه المواقع من التحقُّق من الحصول على أفضل الخدمات في مجالاتٍ كالطاقة والاتصالات والتأمين بأرخص الأسعار. ويأتي حجم المرور في هذه المواقع مدفوعًا بالكامل بالإعلانات التليفزيونية؛ ومن ثَمَّ فهي تمثل مكانًا جيدًا لاختبار نجاح أو فشل أنواع الإعلانات والدعاية المختلفة.

في يوم السبت الموافق ١٦ يناير ٢٠١٠، وفي ظل الوضع الاقتصادي المتردِّي الذي أهلك القسم الأعظم من أرباح أكبر قنوات التليفزيون التجارية في بريطانيا، نشرت صحيفة «الجارديان» البريطانية مقالًا بعنوان: «كيف ننقذ صناعة الدعاية والإعلان التليفزيوني؟ شيء بسيط! أرسلوا الميركات أليكساندر.»4 وقد أشارتِ المقالة إلى موقع Compare-the-Market.com، الذي ابتكر موقعًا خياليًّا اسمه «قارن الميركات» Compare the Meerkat. وقد ميَّز الحملة الإعلانية ذات الشعبية الضخمة حيوان «ميركات» (حيوان من فصيلة السموريات) مجسم في صورة بشرية أُطلِق عليه اسم «أليكساندر» ويتحسر على أن الناس يخلطون بين موقعه ميركات الخاص بالمواعدة بين الجنسين وبين موقع Compare-the-Market الذي يمكنك من خلاله شراء تأمين رخيص للسيارات.

وقد أعلنتِ الجارديان أن «كثيرًا من الناس قد فاجأهم حجم النجاح الذي حققه أليكساندر.» وقد أشارت المقالة إلى أن «أليكساندر أورلوف»، وهو الاسم المنسوب للميركات، قد نال سيلًا من المتابعين على كلٍّ من تويتر وفيسبوك، وبات هو اللعبة التي يتوق الأطفال لاقتنائها في احتفالاتهم بأعياد الكريسماس ٢٠٠٩. وقد نُقل عن جيري بويل، الرئيس التنفيذي لعملاق شراء الوسائط الإعلامية زينيث أوبتيميديا، قوله: «إن النجاح الكبير الذي حققَتْه هذه الحملات في لفت انتباه الجمهور قد أثبت أن ما يقوله مَن يزعمون أن الدعاية التليفزيونية في سبيلها للاحتضار أمر عارٍ من الصحة.»

إذن، ما حجم النجاح الذي حققَتْه دعاية الميركات؟ في هذا الصدد تقول الجارديان، نقلًا عن مينتل، إن دعاية الميركات قد «أعطت دفعة» لموقع Compare-the-Market.com انتقل بعدها من مجرد موقع لصغار المراهقين إلى رابع أشهر موقع لمقارنة الأسعار في بريطانيا، وذلك بعد MoneySupermarket.com وwww.Confused.com. هذا يبدو أمرًا طيِّبًا، بَيْدَ أن المشكلة أن هذا قد وضعها أيضًا في مرتبة متأخِّرة عن موقع ذي حملة إعلانية تتمتع بمستوى التوعية المرتفع نفسه، وهو GoCompare.com.
ولأغراض الدعاية، ابتكر موقع GoCompare.com شخصية تُدعَى «جيو كومباريو»، وهو مغنِّي أوبرا يقطع على الناس انغماسهم في أنشطتهم الترفيهية بحضِّهم على «الذهاب للمقارنة» بصوت أوبرالي صادح. وقد حطَّم «جيو كومباريو» بعض الأرقام القياسية في عام ٢٠٠٩ بعد أن تمَّتْ تسميته بالحملة الإعلانية الأكثر إثارة للسخط في المملكة المتحدة للعام الثاني على التوالي. ولم يوضِّح أحدٌ أيٌّ من هاتين الحملتين — الميركات أو جيو كومباريو — قد نال أكبر قدر من انتباه الجمهور، بَيْدَ أنه لم يكن هناك شكٌّ حول أيهما كان أكثر ما أحبَّه الناس وأيهما كان أقل.
إن ما يجعل الأمر أكثر إدهاشًا أنه حدث بعدها بعام أو أكثر قليلًا أنْ أعلنت صحيفة «صانداي تايمز» البريطانية أن «الإنفاق على الدعاية … قد دفع ﺑ GoComapare إلى موقع التميُّز فيما يعتبر الآن معركة رباعية بين مواقع Confused وMoneySupermarket وCompare the Market». ومن الواضح، وبرغم أنها أثارت ازدراء الأمة بأكملها، أن دعاية Gio Compario حققت نجاحًا كبيرًا. وبتعبير آخر، كانت هذه الدعاية أكثر الدعايات استجلابًا للكراهية في بريطانيا بَيْدَ أنها كانت في الوقت ذاته أكثر فعالية بكثير من أكثر الحملات الإعلانية شعبية في بريطانيا.

إن ما توضِّحه هذه القصة أن مؤشراتٍ بسيطة مثل حب أو كراهية الإعلانات لا يمكن الوثوق بها للتنبؤ بفعالية الإعلان. قد يبدو منطقيًّا أن الإعلان الذي تحبه أفضل من الإعلان الذي تكرهه، بَيْدَ أن الإعلانات خبيرة في تحدِّي المنطق. وإليك مثالًا آخَر مستمدًّا من المنطق الحدسي. من المؤكد أن أي إعلان لن يحقق نجاحه المنشود إذا لم يستطِعْ أحدٌ أن يتذكر الرسالة التي يحاول توصيلها، أليس كذلك؟

لغز «أو تو»

تُشتَهر السوق البريطانية لشبكات الهاتف المحمول بكونها من أكثر أسواق العالم تنافسية، ومع انتشار مواقع مقارنة الأسعار، كانت الدعاية هي المحرك الدائم للنجاح؛ فخلال تسعينيات القرن العشرين، هيمنت حملتان إعلانيتان على السوق: الأولى هي «أورانج» بعبارتها الشهيرة «المستقبل ساطع، المستقبل هو أورانج»، والثانية هي حملة «وان تو وان» برسالتها المميزة الواردة على لسان الشخصيات الشهيرة «مع مَن تحب أن تستخدم وان تو وان؟» وإلى جانب هاتين العلامتين الشهيرتين، كانت هناك علامتان أخريان تسترعيان انتباه الجمهور: الأولى كانت فودافون، والأخرى علامة «سيلنت» المملوكة لمشغل الخطوط الأرضية البريطانية بريتيش تيليكوم.

وفي نهاية تسعينيات القرن العشرين، أحدثت فودافون تحوُّلًا في مصيرها بشرائها لسلسلة من الشركات (من بينها أورانج) وأصبحت أكبر مشغِّل لشبكات المحمول، هذا في الوقت الذي لم تصادف سيلنت فيه حظًّا مماثلًا. وفي سنة ٢٠٠١، تمَّت إعادة تنظيم الشبكة التي تعاني سوء الأوضاع وأُعيد إطلاقها تحت اسم «أو تو». ولسنوات أطلقت الشركة الجديدة حملةً إعلانيةً خاليةً من التكلُّف وتُظهِر في إعلاناتها أحيانًا لقطاتٍ لطيور الحمام وهي تنطلق للأعلى فيما يرقص بعض الناس، إلَّا أن أغلب لقطاتها تضمَّنتْ مياهًا زرقاء وفقاعات تتشكل فيها وبعض الموسيقى المَرِحة في الخلفية. وكانت الرسالة الموجزة من وراء ذلك في النهاية هي «أو تو، انظر ما تستطيع فعله».

وقد أنفقت «أو تو» الكثير من المال على هذه الحملة، ورغم عِلم الناس بإعلاناتها، لم يستطع أيٌّ منهم أن يتذكَّر ماذا كانت ترغب «أو تو» في قوله لهم بهذه الإعلانات؛ ويرجع ذلك في جانب منه إلى أن رسالة «انظر ما تستطيع فعله» لم تكن تحمل معنًى لأحد، ولأنه لم يكن هناك شيء يُميِّز الحملة من أسعار أو عروض أو منتجات جديدة جذَّابة تستحق أن يتذكرها أحد. الحقيقة أن الماء الأزرق والفقاعات ليست السمات التي يمكن أن يبحث المرء عنها في أي هاتف محمول.

لذا، بحلول عام ٢٠٠٥، هل تستطيع أن تخمِّن ما آل إليه حال كل علامة من هذه العلامات التجارية في المملكة المتحدة؟ إليك الإجابة: لقد استحوذَتْ شركة «تي موبايل» على شركة «وان تو وان» وصار لديها ١١٫٢ مليون عميل بريطاني. أما شركة فودافون الاستحواذية فقد صار لديها ١٤٫٨ مليون عميل. وقد جلب الإعلان الشهير لشركة أورانج نحو ١٤٫٩ مليون عميل.

ولكن ماذا حقق إعلان الماء والفقاعات عديم المعنى ﻟ «أو تو»؟ حسنًا، لقد ترتَّب عليه أن هذه الشبكة التي كانت على وشك الزوال قد أصبحت أكبر شركة هواتف في بريطانيا، بقاعدة عملاء يبلغ حجمها نحو ١٧ مليون عميل. لا، هذا ليس خطأً مطبعيًّا! لقد أصبحت «أو تو» في غضون ٤ سنوات فقط رائدة السوق. الأكثر إثارة في هذه القصة أنها حقَّقت هذا النجاح بدون تقليل أسعارها عن الشركات الأخرى، وبدون أن تتمتَّع بأي مزية فنية معينة، وبدون اللجوء لأي نشاط استثنائي في الدعاية والإعلان. يبدو أن «أو تو» قد حققت ريادتها في السوق بفعل ما هو أكثر من مجرد إعلان الماء والفقاعات.

كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت الدعاية التي لم تَقُم بتوصيل رسالة ذات معنًى أن تدفع بعلامة تجارية إلى الريادة في سوق تنافسية كتلك؟ بمواصلتك القراءة ستعرف الإجابة، كما ستعرف أيضًا كيف استطاعت شركات أخرى كثيرة أن تفعل المثل. السبب هو نظريتي في أن أكثر الحملات الدعائية نجاحًا في العالم ليست تلك التي نحبها أو نكرهها، أو تلك التي تحمل رسائل جديدة أو مثيرة، إنها تلك الحملات على غرار حملة «أو تو» القادرة — وبدون كثير من الجهد — أن تجعل الأشياء تمر تحت أعيننا دون أن ننتبه، وأن تؤثِّر على سلوكنا دون أن نُدرِك أصلًا أنها فعلت ذلك. والطريقة التي تعمل بها هذه الحملات الإعلانية والتي تبدو مسالِمة ظاهريًّا هي «إغواء» عقلنا الباطن.

ولسوء الحظ، فإن الطريقة التي تنجح بها الدعاية في إغواء عقلنا الباطن ليست بالأمر الهَيِّن، حيث يتبيَّن لنا أنها تملك قدرتها تلك على التأثير علينا بهذه الطريقة لأننا كبشر نتأثر بطريقة خاصة ببعض أنواع التواصل. وهذه القابلية للتأثُّر نابعة من الطريقة التي تطورت بها عقولنا، وعليه فلكي نفهم ما يجري، من اللازم أن نتعرف على الكثير من الأفكار الجديدة في علم النفس.

لهذا السبب تناولتُ الموضوع بالعقلية التي يمكن أن يتناوله بها مهندس. وقد بدأتُ بتشريح نماذج الدعاية الراهنة إلى أجزاء ثم أعدتُ بناءها في مراحل وصولًا بها إلى نموذج «إغواء العقل الباطن» الجديد. وفي أثناء ذلك استخدمتُ علم النفس المعرفي وعلم النفس السلوكي والبيولوجيا العصبية والفلسفة كعناصر في هذا البناء. وفي سعيي لذلك حاولتُ توضيح كل مرحلة وشرحها بعدد من دراسات الحالة في مجال الدعاية، وفي نقاط متعددة أوردتُ رسومًا تخطيطية للطريقة التي يتطور بها هذا النموذج.

إنني أعتذر إن كنتم تجدون في هذه المقاربة الجديدة إفراطًا في التحليل، بَيْدَ أنني أرى أن الأمر يقتضيه بشدة؛ ذلك أن الكثيرين منَّا في النهاية لهم مصلحة أكيدة في إثبات خطأ نموذج «إغواء العقل الباطن»؛ فقد بنَى البعض أنشطتهم التجارية على النموذج القديم، فيما يعتقد البعض الآخر اعتقادًا جامحًا بأن الدعاية والإعلان ليسا إلا منظومة من الشرِّ والخِداع … بَيْدَ أن الدعاية ليستْ أيًّا من هذين؛ فهي أكثر تعقيدًا بكثير ممَّا يتخيَّله الكثيرون منَّا.

لقد قسَّمنا هذا الكتاب إلى خمسة أجزاء، وفيما يلي وَصْفٌ موجَزٌ لكلٍّ منها:

الجزء الأول: تحليل الإعلان

يبدأ الفصل الأول بوصف نموذج الإقناع التقليدي، وسرعان ما يتضح أنه حتى العاملون في مجال الإعلان فضلًا عن غيرهم ليسوا بالضرورة على دراية بكيفية تأثير الإعلان علينا؛ فالفكرة المشهورة عن الإعلان أنه يوصِّل نوعًا من المعلومات المُقنِعة التي تقوم بدَوْرها بتوجيهنا وأخذ القرار فيما نريد شراءه.

يستعرض الفصل الثاني الأفكار البديلة التي يقدِّمها مَن يعملون في المجال، وأيضًا مَن يعملون في مجالات ذات صلة مثل المجال النفسي. قدَّم أول هذه الأفكار الاختصاصيُّ النفسيُّ والتر ديل سكوت منذ مائة عام، عندما كان الإعلان المطبوع والإعلان الخارجي هما وسيلة الإعلان الوحيدة حينذاك. وكما أرى فإن سكوت يرى أن الإعلان يستطيع تحفيز العقل الباطن للعميل. ولكن مع الأسف، بالرغم من أن الكثير من المُعلِنين أشادوا بأفكاره في ذلك الوقت، فإن تلك الأفكار لا تتفق مع القائمين على الإعلام. وللعلم فإن معظم أساطين الإعلام كانوا موظفي مبيعات سابقين ممَّن يَرَوْن العرض التقديمي للأسباب المُقنِعة شعار نجاحهم؛ لذا لم يكن تجنُّب أفكار سكوت الثورية ونسيانها أمرًا مفاجئًا.

لم يحدث ثاني أكبر هجوم على عملية الإقناع إلا بعد مرور أكثر من ٦٠ عامًا، وهذا دليل على أن الاتجاه المحافظ كان هو السائد في مجال الإعلان. هذه المرة كان الهجوم من جانب اختصاصيٍّ نفسي يُدعَى هيرب كروجمان، وكان هجومه على الإعلان التليفزيوني. لا يستطيع كروجمان تفسير كيف أن تلك المواد الإعلانية التافهة التي تمثِّل معظم إعلانات التليفزيون بإمكانها إقناع أي شخص بشراء منتج، فبَادَر إلى إثبات أن الإعلانات التليفزيونية تُشاهَد «بمستوًى منخفض من التركيز» إذا ما قورنت بالإعلانات المطبوعة. وممَّا زاد من أفكاره أهميةً جهودُ أحد خبراء الإحصاء، ويُدعَى أندرو إرينبرج، الذي أثبت أنه من المُستبعَد بشدة أن تُغيِّر الإعلانات سلوكيات أي شخص؛ ومِن ثَمَّ يكون من المستبعد جدًّا أن تكون تلك الإعلانات مقنِعة.

ثمة مُشكِلة ضخمة تتعلَّق بمجال الإعلان، وتتصل بمدى تقبُّله لفكرة أننا لا ننتبه إلى الإعلانات وأنها لا تُغيِّر سلوكياتنا. ولم يكن مستغرَبًا أن كانت الاستجابة لأفكار كروجمان إرينبرج — مثلما كان الحال مع سكوت — هي التعبير عن اهتمام بالِغ بتلك الأفكار ثم تجاهُلها بأسلوب مهذَّب.

لكن يبدو أنه لا يمكن إنكار حقيقة أننا لا ننتبه كثيرًا إلى الإعلانات، وبدأتُ في الفصل الثالث في تدعيم ذلك بالأدلة، وتوصَّلتُ إلى أننا قد نقضي وقتًا أكبر بعيدًا عن الإعلانات، وخاصة إعلانات التليفزيون، أكثر من قضاء الوقت في مشاهدتها، ولدينا الكثير من الأسباب التي تدعم تصرُّفنا هذا؛ فأولًا: نحن مُحاطون بإعلانات طيلة الوقت في حياتنا؛ ومِن ثَمَّ لم تَعُدْ شيئًا مبتكرًا. وثانيًا: لزيادة حجم المنافسة هذه الأيام، نرى أن ما سوف يقوم به معظم المعلنين هو تأكيد أن علاماتهم التجارية هي الأفضل من باقي العلامات التجارية. وثالثًا: لأن «جميع» العلامات التجارية ذات جودة عالية فلا حاجة إلى كثرة استعراض جودتها. بمعنًى آخر، نحن لا ننتبه إلى الإعلانات لأننا لا نتوقع منها أي شيء جديد أو ممتع، وفي الواقع لدينا من الأشياء ما هو أفضل للقيام به في حياتنا.

بالتأكيد عن طريق تجاهل الإعلانات لا نرى لها أي تأثير علينا. وفي الجزء الثاني من الكتاب سأبدأ في إثبات ما إذا كانت تلك حقيقة أم لا.

الجزء الثاني: سيكولوجية التواصل

فيما يتعلق بالطريقة التي نتواصل بها، يبدو لعقلنا أن كل شيء أكثر تعقيدًا بكثير مما نتوقع. يستعرض الفصل الرابع كيف يتفاعل التعلُّم والانتباه عند مشاهدة إعلان. فقد أصبح من الضروري أخذ الوجهة التي نركِّز عليها انتباهنا في الاعتبار، وليس هذا فحسب، بل ينبغي أن نضع في الحسبان أيضًا كمَّ الانتباه الذي نمنَحه في كل مرة. أناقش كذلك نظام الذاكرة التي تمكِّننا من التعلُّم حتى مع «عدم الانتباه تمامًا» لأيٍّ من الدعاية، وهي آلية تُعرَف باسم التعلُّم الضمني.

يستعرض الفصل الخامس كيف يحدث التفاعل بين تعلُّمنا من التواصل وأنظمة ذاكرتنا، فمِن الواضح أن ذاكرتنا الصريحة — تلك التي نستخدمها لتذكُّر الأشياء — سِعتُها محدودة؛ لذلك نجد صعوبةً في تذكُّر الإعلانات وسهولةً في نسيانها، ولكن أيضًا لدينا ذاكرة ضمنية تتَّسم بالقوة والاستمرارية. يتم إدخال المعلومات الضمنية إلى الذاكرة الضمنية وهي تخزِّن أغلب الأشياء التي نراها، وهي أيضًا قادرة على ربط هذه الأشياء التي نراها بالذاكرة الدلالية حيث نخزِّن المعاني. هذه الخطوة مهمة للغاية في توضيح كيف أن التعامل مع الإعلان بمستوًى منخفض أو منعدِم من الانتباه قد يؤثِّر علينا.

يستعرض الفصل السادس طريقةً جديدةً لتصنيف تعلُّمنا من التواصل، قسَّمتُها إلى ثلاثة أنواع من النشاط الدماغي: الإدراك، والتصوُّر، والتحليل. تنشط هذه العناصر الثلاثة خلال ثلاثة أنواع من التعلُّم: التعلُّم النَّشِط، والتعلُّم السَّلْبي، والتعلُّم الضِّمْني. تساعدنا هذه التصنيفات في زيادة فهم الكيفية التي نتعامل بها مع الإعلان وكيف نخزِّن ما نتعامل معه. أهم اكتشاف تم التوصل إليه أن التعلم الضمني هو أكثر الطرق شيوعًا في التعامل مع الإعلان، ويَلِيه في المرتبة التعلم السلبي، بينما قلَّما يحدث التعلم النَّشِط. في هذا الفصل، أناقش أيضًا تعرُّض العقل الباطن (تهيُّؤه للتأثُّر) الذي لا علاقة له مطلقًا بالطريقة التي يؤثِّر بها الإعلان علينا، كما أناقش موضوعًا أكبر أهمية بكثير يتعلَّق بالتعرُّض العابر الذي له علاقة «كبيرة» بالطريقة التي يؤثر بها الإعلان علينا.

يبحث الفصل السابع المشكلات التي تحدث عند محاولة المعلنين إقناعَنا بأن ننتبه. إحدى العراقيل هي أنه كلما زاد انتباهنا إلى الإعلانات زادت قدرتنا على «معارضة» رسائلها وقلَّ اقتناعنا بادِّعاءاتها، بل إن هناك سِمة مُربِكة أخرى تتمثل في أننا مزوَّدون بآليةٍ تُدعَى «التصفية العقلية» لتمنَع عقولَنا من التشتُّت، بحيث تمكِّننا تلك الخاصية من تجاهل العناصر التي لا نريد الانتباه إليها. هذا يعني بالتأكيد أننا إنْ لم نكن نتوقَّع أننا سنتعلم شيئًا من إعلان معين، فمن الممكن أن نوجِّه عقولنا للتركيز على ما يُمتِّعنا منه ونستبعد ما لا يمتِّعنا (مثل الرسالة واسم العلامة التجارية المعلن عنها).

لكن هناك عناصر في الإعلان هي التي تضلِّل آليات الدفاع تلك، أبرزها تلك العناصر التي تتصل بالعواطف. يسلِّط الجزء الثالث الضوء على الكيفية التي نتعامل بها مع العواطف وكيف يعمل العقل الواعي واللاوعي.

الجزء الثالث: العاطفة والوعي

حتى وقتٍ قريبٍ إلى حدٍّ ما كان علماء النفس يعتقدون أن العواطف هي نتاج تفكيرنا. في الفصل الثامن أوضِّح أن المعالجة العاطفية هي أول — وليست آخِر — ما نفعله. في الواقع، يتبيَّن أن المعالجة العاطفية هي وظيفة جزء غريزي في أدمغتنا يسبق التفكير الإدراكي بكثير؛ ولذلك يجب أن يعمل تلقائيًّا ولا شعوريًّا.

وحتى نستوعب ذلك، يصبح من الضروري أن نَسبُر أغوار ما نَعنِيه باللاوعي ودَوْره، ونتناول ذلك في الفصل التاسع حيث إنه قد يكون أكثر الأفكار التي نقابلها تعقيدًا. الكثيرون ممَّن يدرسون الوعي يتقبَّلون حاليًّا فكرة أن كل ما نفعله بعقولنا يتم في مستوى اللاوعي، وأن «الوعي» ليس إلا مجرد مراقِب؛ إذن فعقلنا الواعي لا يعمل كالحاسوب، ولكنه أشبه بشاشة الحاسوب. يحدث تفكيرنا في اللاوعي وجزء صغير منه — ما يمكن لعقلنا التأقلم عليه بفعالية — يتم توصيله إلى هذه الشاشة حتى نستطيع النظر إليه؛ لذا حين يبدو الأمر وكأننا نتناقش مع أنفسنا فإن ما «ندركه» نحن هو أن عقولنا تُبلِّغ عن مناقشةٍ أو جدلٍ حدَثَ في اللاوعي أو العقل الباطن في وقتٍ ما قبلَ هذا.

هل تجد هذا غريبًا؟ إنه ليس غريبًا حقًّا. أجد أن هذه الطريقة التي ننظر بها لأنفسنا تحرِّرنا على نحو مُذهِل، فهي توضِّح لماذا يمكننا فعل أشياء على نحو جيد دون التفكير فيها — كأن نسارع تلقائيًّا مثلًا ونُمسك بكوب سقط قبل وصوله إلى الأرض — وهذا يُفسِّر لماذا الأشياء التي نلاحظها أو ندركها أكثر بكثير مما نتخيل. كما يفسر أيضًا أن بداخلنا قابلية كبيرة للتأثر بأنواع معينة من التواصل، وأوضحها الإعلان.

يتناول الفصل العاشر التفاعل بين الانتباه والعاطفة، ويفسِّر سبب عدم نجاح النماذج الإعلانية المعتمِدة على الإقناع. يعتقد العاملون بمجال الإعلان أن إبداعهم يجعلنا نحب الإعلانات أكثر ونُبدِي مزيدًا من الاهتمام بها، ولكنْ يبدو أن ما يحدث فعليًّا هو العكس؛ كلما حاول المُعلِنون إغواءَنا لا شعوريًّا بالإبداع، زاد إعجابنا بالإعلانات وقلَّ شعورنا بخطرها «وقلَّ» شعورنا بأهمية الانتباه لها؛ لذا كلما كانت الإعلانات أكثر إبداعًا، قلَّ انتباهنا لها، وقلَّ تذكُّرنا للرسالة التي تحاول توصيلها لنا.

ولكن النقطة المُهِمَّة هي أنه كلما قلَّ انتباهنا، أصبح إغواء العقل الباطن أو اللاوعي أكثر فعالية. بمعنًى آخر، بتقليل انتباهنا نَمنَح المُعلِنين الإذْنَ بالتأثير على عقلنا الباطن وبفعالية كبيرة.

الجزء الرابع: القرارات والعلاقات

حتى نتفهَّم تمامًا كيف تتأثر سلوكياتنا بالعاطفة في الإعلانات، نحتاج أولًا فهم كيفية اتخاذنا للقرارات. يتناول الفصل الحادي عشر بالتفصيل الأمورَ التي يتقبَّلها علماء النفس في الوقت الحالي، وهي أن عواطفنا تعمل كمراقِب على كافة قراراتنا. في الواقع، تأثير عواطفنا قوي للغاية بحيث إننا لا نستطيع اتِّخاذ قرار إلَّا إذا تدخَّلتْ فيه عواطفنا. وإذا لم يكن لدينا الوقت الكافي للتفكير في قرار ما فستؤدِّي عواطفنا هذا الأمر بالنيابة عنَّا عبْرَ الحَدْس أو البديهة. هذا بالطبع يعني أن العواطف في مجال الإعلان قادرة على التأثير على سلوكنا أكثر مما يمكن لأي شخص أن يتخيل.

هناك المزيد؛ ففي الفصل الثاني عشر نعرف أن العواطف أيضًا هي التي تشكِّل علاقاتنا من خلال ما يُعرَف بالتواصل الفوقي. قد يندهش بعضكم إذا أدركتم أن هناك علاقات بيننا وبين الكيانات الجامدة كالعلامات التجارية، إنَّ هذه العلاقات موجودة بالفعل؛ هؤلاء الذين شهدوا الحب والاهتمام اللَّذَين يُولِيهما بعض الناس بسخاء لسياراتهم سيعرفون بالضبط ما أتحدث عنه.

يقدم لنا الفصل الثالث عشر نموذج إغواء العقل الباطن بشأن الكيفية التي تؤثر بها الإعلانات علينا. يناقش هذا الفصل بعض التأثيرات السياقية التي توجِّه حيواتنا حاليًّا، وهو يَقرِن تلك التأثيرات بالتعلم النفسي في الأجزاء من ٢ إلى ٤. أجد أن هناك طريقتين مهمتين تستطيع الإعلانات عن طريقهما التأثير في سلوكياتنا على مستوى اللاوعي؛ أُولى هذه الطرق هي التكيُّف الترابطي اللاواعي، وتحدث هذه الطريقة حين يَستَثِير شيء ما في الإعلان استجابةً عاطفيةً، وبمُضِيِّ الوقت يقوم بنقْل هذه الاستجابة العاطفية لا شعوريًّا إلى العلامة التجارية. الطريقة الثانية هي التلاعب بالعلاقات لا شعوريًّا، ويحدث ذلك حين يؤثر الإبداع في الإعلانات لا شعوريًّا على طبيعة شعورك إزاء العلامة التجارية. النموذج الذي يَظهَر في هذا الفصل ما زال معقَّدًا إلى حدٍّ ما، ولكنْ، كما قلتُ من قبلُ، ليستْ تلك حالة بسيطة نتعامل معها.

الجزء الخامس: تناول الإعلانات من منظور جديد

في القسم الأخير من الكتاب أبدأ في الكشف عن الآثار المُترتِّبة على نموذج إغواء العقل الباطن. يمنحكم الفصل الرابع عشر فكرةً عن مدى سذاجتنا جميعًا، ومدى سهولة تأثير المثيرات الخارجية مهما كان نوعها علينا؛ على سبيل المثال، إشارتنا أو هزُّنا لرءوسنا أثناء الاستماع يمكن أن تُغيِّر رأينا كما أن أبسط تصرُّف نقوم به، كمَلْءِ استبيان ما بقلم ذي لون محدد، يمكن أن يؤثِّر فيما نشتريه. يفسر هذا الفصل أيضًا كيف أننا نخبِّئ في عقْلنا الباطن كثيرًا من المعرفة عن «تفاصيل» الإعلان أكثر مما نرغب في أن يكون لدينا غالبًا. والأكثر من ذلك هو بسبب أن هذه المعرفة تتواجد في عقلنا الباطن، فلا يوجد أي طريقة نستطيع إخراجها بها.

كثير من الأمثلة التي تَعامَلنا معها حتى الآن من التليفزيون. يناقش الفصل الخامس عشر كيف تؤثِّر الوسائط الإعلامية الجديدة، وخاصة الإنترنت، فينا. كما أتناول أيضًا ما قد يحتمل أن يكون أكثر أنواع الإغراءات للَّاوعي في كل الوسائط الإعلامية، وهو دفع مبالغ مالية مقابل عرض المنتجات في برنامج تليفزيوني.

كل ما سبق يدعونا لنتساءل عمَّا إذا كان السماح للإعلانات بأن تؤثِّر فينا أمرًا صحيحًا أم لا. هذا السؤال يُجاب عنه في الفصل السادس عشر. ويتضح لنا أن السؤال يجب أن يكون على النحو التالي: «هل هناك ما يمكننا فعله بشأن مدى تأثير الإعلانات علينا؟» والإجابة هي «القليل جدًّا». يمكننا أن نمنع الإعلانات المتعلِّقة بالمنتجات التي تضرنا ونقوم بذلك فعليًّا — برغم أن ذلك لم يحدث بالسرعة المطلوبة وفي العدد الكافي من البلدان — لكن المشكلة الكبرى هي أنه إذا منعنا الإعلانات من إحدى وسائل الإعلام فسنجدها تَظهَر في وسائل أخرى، وإذا منعناها تمامًا فستَظهَر في أماكن لا يمكن مراقبتها والتحكم فيها على الإطلاق؛ لذلك فمن أجل مصلحة المجتمع ربما يكون من الأفضل أن نتركها مُعلَنة بوضوح للعامة وفي ذات الوقت نضع أعيننا عليها ونراقبها، كما هي الحال مع المشروبات الكحولية.

في الفصل السابع عشر، أشرح كيف يمكنكم كشف الأمر عندما يتم إغواؤكم لا شعوريًّا بالإعلانات. في أربع دراسات حالة أُظهِر كيف أصبحتِ العلامات التجارية على جانبَيِ الأطلسي علاماتٍ تجاريةً فائقةً بسبب الإعلانات التي تحمل رسائل خفية، وأبادر لأقول إنه لا يوجد شيء سيِّئ بشأنها على وجه الخصوص، بل إنها مجرد مهارة فائقة.

وفي النهاية، أنتهي بالتساؤل عن الهدف من كل هذا. لن يدهشك الأمر إذا عرفتَ أنني أهتم اهتمامًا خاصًّا بمدى تأثير إغواء العقل الباطن على أطفالنا، ولكني أيضًا أتساءل عن سبب عدم استخدام هذه الآلية فائقة التأثير بصورة واسعة النطاق في النشرات الإعلانية العامة حيث ستكون أكثر نفعًا لنا.

لذا، أدعوكم للبدء في هذه الرحلة في مجال الإعلان، وأعتقد أنكم بمجرد إنهائها ستندهشون لمدى تأثير الإعلانات على سلوكياتكم اليومية، وقد تندهشون أكثر بقلة إدراككم لحقيقة أن هذا يحدث بالفعل.

هوامش

(2) Advertising Research Foundation David Ogilvy Awards on www.warc.com.
(3) Institute of Practitioners in Advertising, www.ipa.co.uk.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤