خاتمة

نعتقد أن تأثير الإعلان أشبه بنمو العشب، فأنت لا يمكن أن ترى العشب وهو ينمو، ولكن يتعين عليك تهذيبه في كل أسبوع.

آندي تارشيز، شركة إيه سي نيلسن
مُقتبس في ماير (١٩٩١)

ختامًا سأحاول أن أوجز ما تناوله هذا الكتاب وماهية خداع العقل الباطن.

بالعودة إلى بداية حديثنا، أوضحْتُ أن التصور السائد في عالم الإعلانات والتسويق يَمِيل إلى القول بأن الهدف الذي تسعى إليه الإعلانات ببساطة هو توصيل رسالة مقنِعة للجمهور بوجهٍ عام. وأثبتت مجموعة كبيرة من الباحثين البارزين أن وجهة النظر هذه مفرطة في تبسيطها للأمور، ومن بين هؤلاء الباحثين سكوت وكروجمان إرينبرج، ولكن نظرياتهم، التي تفترض أن الإعلانات لا تستحوذ على اهتمامٍ كبيرٍ ولا تُغيِّر التوجهات والمواقف، نُظِر إليها على أنها غير مُقنِعة. إن ما عجز هؤلاء الرُّوَّاد عن القيام به هو تقديم تفسير معقول عن كيفية تحقيق هذه الإعلانات لمقاصدها وأهدافها بفعالية «دون» أن تكون مقنعةً.

ومع ذلك، من الواضح أن الإعلانات يُمكن أن تحقق مقاصدها دون أن تكون مقنعةً بشكلٍ واضح. هناك ثلاثة إعلانات، اثنان منها لم يكنْ ممكنًا تذكُّر الرسالة التي حاولا إيصالها («أو تو» رينو كليو) والثالث (تلما) لم يتضمن أي رسالة على الإطلاق، تمكَّنتْ من بناء علامات تجارية ناجحة للغاية. وهناك إعلان رابع (أورانج) تمكن من تغيير التوجهات والمواقف، على الرغم من عدم تذكره وعدم معرفة واستيعاب أي أحدٍ للرسالة من ورائه.

يتمثل أحد الأسباب التي جعلت من الصعب تفسير كيفية تحقيق مثل هذه الإعلانات لمقاصدها وأهدافها، في أننا لم نبلغ المستوى المطلوب في فهم علم النفس إلَّا خلال العَقْدَيْن الماضيين. فخلال هذا الوقت، أحدثنا تغييرًا تدريجيًّا وشاملًا في معرفتنا لكيفية التعلم، ولا سيما في مستويات الانتباه المنخفضة، وكمِّ المعلومات الذي يمكننا تخزينه في الذاكرة الضمنية. لقد حققنا قفزةً على صعيد معرفتنا بالعمليات العقلية التي نستخدمها ونحن نتعلم، واكتشفنا الحِيَل الدفاعية المُثِيرة مثل الحجة المضادة، وتصفية الإدراك الحسي التي يمكن أن تتداخل مع معالجة التواصل، كما أحدثنا تغييرًا شاملًا في معلوماتنا الخاصة بكيفية التأثُّر عاطفيًّا دون انتباهٍ منَّا، حتى إننا غيَّرْنا الطريقة التي ننظر بها إلى الوعي نفسه. وبطبيعة الحال، أصبحنا ندرك الآن أن التواصل العاطفي يضطلع بدورٍ رئيسي في صنع القرار وعلاقاتنا.

ونتيجةً لذلك، تمكنَّا من تغيير ما كان يُروَّج له، ويعتقده التيار المعتنق لفكرة الإقناع، رأسًا على عقب. على سبيل المثال، ثبت عدم صحة الفكرة التي تقول بأن الإبداع يجعلنا نحب ونهتم أكثر بالإعلانات؛ حيث إننا نميل بدرجةٍ كبيرةٍ لعدم الانتباه كثيرًا للإعلانات الإبداعية نظرًا لعدم شعورنا بأنها تمثل تهديدًا لنا. ولكنْ كلَّما قلَّ اهتمامنا، قلَّ لجوءُنا إلى الحجج المضادة؛ ومن ثَم «زادت» فعالية التواصل اللاواعي للتأثير العاطفي.

لذا، وبإيجاز، فإن هذه الاكتشافات الجديدة في علم النفس تُظهِر أننا معرَّضون بشكلٍ غير عادي للتواصل العاطفي. ولقد حددْتُ ثلاث طرق رئيسية يؤثر بها التواصل العاطفي علينا، ولكن يُحتمل وجود طرق أخرى كثيرة.

كيفية تأثير التواصل العاطفي علينا لا شعوريًّا

تتم الطريقة الأولى من خلال المثيرات المؤثرة عاطفيًّا. يُمكن لهذه المثيرات أن تشمل عددًا من العناصر المختلفة، بدءًا من الموسيقى إلى الشعارات إلى الشخصيات إلى التُّحَف الجامدة. وتتمثل القواسم المشتركة بينها في أنها، عندما يتم إدراكها، تُثير تصورًا قادرًا على التأثير في مشاعرنا، ولكنها في حدِّ ذاتها لا يكون لها أي تأثير على سلوكياتنا؛ فهي تُصبِح مؤثِّرة فقط عندما نراها أو نسمعها مرارًا وتكرارًا في الإعلانات مصحوبة بعلامة تجارية معيَّنة. وعندما يحدث هذا، تصبح المُثِيرات المؤثرة عاطفيًّا مرتبطةً بالعلامة التجارية في عقلنا، وتجعلنا لا شعوريًّا نُحِسُّ بأن العلامة التجارية لها القِيَم العاطفية نفسها كتلك التي تولِّدها هذه المثيرات، لتتحول بعد ذلك إلى نوع من الارتباط العاطفي بالعلامة التجارية.

أما الطريقة الثانية فتتم من خلال التأثير على العلاقة التي تربطنا بأي علامة تجارية. وعلى الرغم من أن الأمر يبدو مستبعَدًا نوعًا ما؛ فنحن نشعر بمستوًى معين من التعلُّق بكل شيء نستخدمه تقريبًا، من المقص إلى السيارة. وعادةً ما يكون حجم القِيَم العاطفية لهذه التعلُّقات لا شعوريًّا؛ لهذا يسهل التأثير عليها لا شعوريًّا، فكل عملية تواصل تحدث لنا، بدءًا من إيماءة بسيطة إلى إعلان تليفزيوني يستغرق ٩٠ ثانية، تضم الكثير من العناصر التي «تحدد معالم» الرسالة التي يُرجَى إيصالها. وتُعرَف هذه العناصر باسم «التواصل الورائي» (غير المباشر)، وفي مجال الإعلانات، يمكن أن تُعرف بوجهٍ عام بالإبداع. وغالبًا ما نكون غير واعين على مستوى الشعور بالتواصل غير المباشر، ولكن عقلنا الباطن حسَّاسٌ بشكلٍ غير عادي تجاهه. ويمكننا الشعور به على الفور إذا كانت الإيماءة تعبيرًا عن السعادة أو الحَذَر أو التذمُّر أو الغضب، وما إلى ذلك. وبالطريقة نفسها، نحن قادرون بدرجةٍ كبيرة على فك شفرة الإبداع لا شعوريًّا؛ لذا فإن هذا الإبداع قادرٌ على التأثير في الخفاء على علاقاتنا بالعلامات التجارية، والتي بدورها تؤثر على تعلُّقنا بهذه العلامة التجارية وتجعلنا أكثر (أو في كثير من الأحيان أقلَّ) ميلًا لشرائها.

ثمة طريقة ثالثة تُمارِس بها العواطف تأثيرها علينا، بأن تعمل بمثابة مراقب واعٍ لجميع قراراتنا العقلانية. نحن غير قادرين جسديًّا على اتخاذ قرار إذا كانت عواطفنا لا تسمح لنا بذلك، وفي بعض الأحيان، عندما نكون في عجلة من أمرنا، فإن عواطفنا يُمكن أن تتخذ على نحو فعَّال قرارات بالنيابة عنَّا عن طريق الغريزة؛ لذا فإن المضمون العاطفي في الإعلانات يُمكن أن يؤثر لا شعوريًّا حتى في أكثر قراراتنا العقلانية والمدروسة.

حتى أعطيك فكرةً أفضل عن كيفية «خداع» الإعلانات لعقلنا الباطن، سأسترجع بعضًا من دراسات الحالة للإعلانات التي تعرضنا لها سابقًا في الكتاب، ولكن سأقوم بذلك عن طريق استخدام نموذج إغواء العقل الباطن الذي أعددتُه في الجزء الرابع.

النظر مجددًا في دراسات الحالة

لنبدأ بحملة «أو تو». الطريقة التي نُفذت بها موضحة في ورقة بحثية حاصلة على جائزة عن الحملة اللاحقة التي أُدرجت ضمن المتنافسين على جائزة فعالية الدعاية والإعلان البريطانية (آي بي إيه). أدلى مُعِدُّو الورقة البحثية بالتعليق التالي على الحملة الأولى:

شكلت «أو تو» عالمًا منمقًا بُني حول بحر أزرق وتيار من الفقاعات. استحضر هذا الحرية، والصفاء، والهواء النقي. «أو تو» تمنح شعورًا بالهدوء والسكينة، وتمثل نقيضًا للاضطراب والفوضى، على عكس عالم الهواتف المحمولة المحموم غالبًا. (ماوندر وكوك، ٢٠٠٧)

باستخدام كتابي «القوة الخفية للإعلان» كمصدر، قالوا: إن «التعلق العاطفي بإحدى العلامات التجارية يتعزز بشكل قوي بهذا التواصل غير العقلاني وغير اللفظي.» وهذا باختصار جانب واحد من نموذج إغواء العقل الباطن. لا يبدو أن من المرجح كثيرًا بالنسبة لأيٍّ منَّا أنه يُمكن للإعلان الهادئ والواضح الذي لا يشتمل على أي رسالة ذات أهمية خاصة أن يحقق الكثير، لأننا نتوقَّع من الإعلان أن يحاول اجتذاب انتباهنا وإخبارنا بشيء ما، وهو ما من شأنه أن يُقنعنا بالقيام بأمر ما. لكننا لا نعبأ كثيرًا عندما يبدو أن الإعلان يعزز تعلُّقنا العاطفي؛ لأن هذا لا يبدو مهمًّا بقدْر كبير. إننا إلى حدٍّ كبير لدينا رهبة من دماغنا «المفكِّر» لدرجة أنه لا يحدث أبدًا لنا أن يؤثِّر الإعلان بهدوء على قراراتنا المتعلِّقة بما نشتريه، وذلك عن طريق خداع دماغنا «العاطفي» لا شعوريًّا.

ماذا عن حملة رينو كليو؟ تذكَّر أن هذه الحملة كانت الأكثر نجاحًا لسيارة صغيرة طُرحت في المملكة المتحدة، بسبب إعلان نيكول ووالدها. أعتقد أنه من السهل الآن أن نرى السبب في ذلك. أولًا: كان إعلان نيكول ووالدها مثالًا على الإغراء الجنسي الرومانسي؛ لقد كانا يحترمان محبِّيهما (يُقبِّلانهم ويَمنَحانهم الزهور) وفوق كل ذلك كانا فرنسيين (كلنا نشعر أن فرنسا هي الأمة الأكثر رومانسية في العالم). ثانيًا: كان إعلان نيكول ووالدها عملًا «راقيًا»: لقد كانا حَسَنَيِ المظهر، وكان لديهما قصر رائع، وكانا يرتديان ملابس جميلة. وهو ما كان من شأنه تعزيز الانطباع بأن كل شخص في المملكة المتحدة يرى أن الفرنسيين يفهمون كل ما تعنيه الأناقة. فبمشاهدة نيكول ووالدها مرارًا وتكرارًا، ارتبط المشاهدون ارتباطًا وثيقًا (وواعيًا) برينو كليو، وهو الأمر الذي كيَّفنا لا شعوريًّا على الشعور بأنها كانت أنيقة بشكل استثنائي وسيارة صغيرة مثيرة وجذابة.

يشرح لنا إعلان كليو أيضًا السبب في فشل إعلان سيتروين زارا. ربما يكون تجرد كلوديا شيفر من ملابسها بينما تهبط السلم مُثِيرًا، ولكنه ليس رومانسيًّا كثيرًا. لقد كان الشعور الذي خلقه هذا الإعلان هو أنه كان إحدى طرق الاستغلال، ولا يحترم النساء. وهذا يناقض تمامًا المعاني التي يرغب الناس في أن يربطوها بسياراتهم.

ولكن بمنظور خداع العقل الباطن، فإن الجزء الأكثر إلهامًا في إعلان كليو هو الرسالة حول رفاهية السيارة الكبيرة إضافة إلى القوة النسبية للسيارة الصغيرة. ولكنْ أُسارع إلى القول بأن ذلك كان بسبب أنها غيَّرت معتقداتنا أو مواقفنا إزاء السيارة. أنا على يقين بأن هذه الرسالة كانت ذات تأثير ضئيل، أو لم تؤثر على موقفنا إزاء السيارة؛ لأن الشك الفطري لدينا كان سيعارض فكرة أن كل السيارات الصغيرة «قوية نسبيًّا» في المطلق، وأن معظمها مريح جدًّا. ولكن الأمر ليس كذلك؛ فالجانب الذكي في الرسالة يتمثَّل في حقيقة أنها كانت موجودة. فلأنه كانت هناك رسالة «بررت» كل التصرفات الغريبة لنيكول ووالدها، لم يؤثر الإعلان فعليًّا على أي شخص بأي طريقة أخرى. فلم ينظر أحد إلى سلوكهما المثير وأناقتهما باعتبارها أمورًا جانبية ممَّا كان يُرجى إيصاله للمشاهدين حول السيارة. وهكذا لم يقم أي شخص بأي محاولة للمعارضة العقلية للإشراط القائم على فكرة الإثارة والأناقة؛ لأننا لم يكن لدينا فكرة فعلًا أن هذا ما كان يحدث بالضبط.

ربما يكون أصعب قليلًا أن أشرح كيف حالف إعلان تلما نودلز مثل هذا النجاح، لأنني لا أستطيع أن أعرض لك الصور أو أعزف لك الموسيقى. فقط عليك أن تعرف أن الصور رسمت شبابًا مبتهجين، ونابضين بالحياة، ومتمردين نوعًا ما، بالمقارنة بآبائهم الغاضبين وسريعي الانفعال. هذه الصور التي عُرضَت مرارًا وتكرارًا، ربما تكون قد أثَّرت تأثيرًا قويًّا في العلاقة بين الشباب والعلامة التجارية. فهم لا شعوريًّا، أحسوا بأن الإعلان يقف في صفِّهم (وليس في صف آبائهم)؛ ومِن ثَمَّ شعروا من داخلهم أن هذه هي نوعية الطعام التي تخصهم؛ ومِن ثَم فضَّلوه على غيره. بالإضافة إلى هذا، فإن الموسيقى التي تم التعامل معها مرارًا بصورة شبه واعية، ربما تكون قد عززت الشعور بالاستمتاع والحيوية، وعملت أيضًا على تعزيز صورة العلامة التجارية تلما. قد نتكهن أنه لو أن الموسيقى لم تكن مشهورة، لربما كان الإعلان قد ذهب طيَّ النسيان. وأخيرًا، فإن الحوار الغامض يُقصَد منه أن تقضي معظم وقت مشاهدتك للإعلان وأنت تحاول فهم الرسالة التي يتضمنها، وهذا من شأنه — كما هو الحال في رسالة إعلان رينو كليو — أن يجعلك أسير الصور والموسيقى ويمنعك من الاعتراض عليهما.

ماذا عن إعلان أورانج جيه ديباور؟ كان هذا الإعلان، كما تذكُر، حول كيفية فوز أورانج بجائزة جيه دي باور في خدمة العملاء للعام الثاني على التوالي. تمكن هذا الإعلان من التأثير على المواقف إزاء العلامة التجارية بين أولئك الذين تعرفوا على الإعلان، على الرغم من أنه لم يكن أحد يعلم على ما يبدو أي قطاع من المشاهدين يستهدفه الإعلان.

أظن أن هذا أثَّر بالطريقة نفسها التي أثَّرت بها حملة «أو تو». العديد من الأشخاص الذين يشترون الهواتف المحمولة هم من الشباب، والشباب حساسون جدًّا في مسألة اقتناء العلامة التجارية الأكثر روعة في السوق. إعلان أورانج جيه دي باور الذي كان بالأبيض والأسود كان بالتأكيد رائعًا وأنيقًا. لقد صُوِّر بطريقة جميلة، وكانت موسيقاه مؤثرة وهادئة للغاية، وأعتقد أن هذه السمات ربما كانت كافية لتجعل الشباب يشعرون بأن أورانج كانت أكثر «رُقيًّا» من العلامات التجارية الأخرى؛ ومِن ثَمَّ كانوا يشعرون بأنهم أكثر انجذابًا إليها أكثر من غيرها. الفكرة في ذلك هي أن تحول الموقف الإيجابي بين أولئك الذين شاهدوا الإعلان تحقق في معظم أبعاد الصورة، وليس فقط بين أولئك المهتمين بالخدمة الجيدة.

بالنسبة لإعلان الخطوط الجوية البريطانية بموسيقاه الجميلة، والذي كنَّا قد تناولناه بشيء من التفصيل، فإنه يُعَدُّ مثالًا على الارتباط بالعلامة التجارية الذي يكيِّفنا لا شعوريًّا كي نشعر بأن السفر على متن خطوط الطيران هذه سيمنحنا الراحة والاسترخاء على نحو رائع. مرة أخرى، الجانب الذكي في ذلك هو أن الإعلان به رسالة، وذلك يعني أننا لا نُعِير الموسيقى اهتمامًا، أو نعترض على تأثيرها؛ لأننا لا نراها باعتبارها جزءًا مهمًّا من عملية التواصل.

مارس إعلان الجرو أندريكس تأثيره بكيفية مماثلة. تُلهينا رسالة «ناعمة وقوية وتدوم لفترة طويلة»، في حين يكيِّفنا الجرو لا شعوريًّا على أن نشعر بأن أندريكس هي شركة تستهدف الأُسَر الحانية، وورق التواليت الذي تُنتجه، مثل الجرو، ناعم في ملمسه. لكن هنا مرة أخرى، مثلما كان الحال مع ستيلا آرتوا، فإن طموح وكالة الإعلان في تعديل وتغيير أسلوب ثبت نجاحه نَتَج عنه ما أعتبره بمثابة سوء تقدير جسيم. أولًا: كان الجرو اللطيف قد أُعطي صوتًا وجعلوه يتحدث، ثم استُبدِل به جرو يتم تحريكه بواسطة الكمبيوتر. في رأيي لم يكن أيٌّ من العرضَيْن قادرًا على تحفيز القِيَم التصورية للنعومة وحنان الأسرة مثلما كان الحال مع الإعلان الأصلي؛ لذلك سيكون من المثير للاهتمام رؤية ما إذا كانت مبيعات أندريكس قد بدأت في الانخفاض على مدى السنوات القليلة القادمة أم لا.

أما بالنسبة لإعلان هاملت فهو أكثر تعقيدًا قليلًا. هنا لا توجد رسالة حقيقية حول المنتج نفسه، والإعلانات في ظاهرها عبارة عن نكات يتم عرضها «تحت رعاية» سيجار هاملت. رُبما يُنظَر إلى هذا باعتباره محاولة من قِبَل العلامة التجارية للتلاعب بالعلاقة التي تربطنا بها، باستخدام آلية «إذا أعجبك إعلاني، فستعجبك علامتي التجارية.» لكن هذا واضح جدًّا، وأنا أعتقد أنه شيء يسهل الاعتراض عليه بالمنطق. بل والأكثر من ذلك أنني أعتقد أن روح الدعابة تُلهِينا عن إدراك أن الإعلان يكيفنا على أن نشعر بأن تدخين السيجار سيجعلنا نسترخي ويُذهِب عنَّا ما يُقلِقنا.

ماذا عن الميركات وجيو كومباريو؟ هل خدعوا عقلنا الباطن؟ لستُ متأكدًا. على الرغم من أن الميركات ربما تبدو لطيفة وجميلة، فإنها ليست ميركات حقيقية، بل تخيلية، ولديها القدرة على التحدث. ربما كان ما تراه — هو قصة سخيفة ملفَّقة تهدف إلى إيصال اسم الموقع الإلكتروني إلى مسامعك — هو كل ما ستحصل عليه. ربما يكون هناك عنصر حسن النية صادر عن الميركات، وربما يحفز هذا بعض الأشخاص على الشعور بانجذاب إلى هذا الموقع الإلكتروني أكثر من المواقع الأخرى، ولكن حتى الآن لم يحقق لهم ذلك الريادة في السوق من حيث عدد زوار الموقع وحركة البيانات عليه.

أما بالنسبة للآخرين — ليفايز، وغوريلا كادبوري، وأطفال ميشلان — فأتمنَّى أن أكون قد شرحت كيف تمارس هذه الإعلانات تأثيرها بالفعل. لكن هذه الأمثلة ليست سوى قمة جبل الجليد، فهناك عدد لا يُحصى من الحملات الإعلانية الأخرى التي تستخدم نموذج إغواء العقل الباطن. هناك بضعة إعلانات، مثل إعلانَيْ هاملت ومارلبورو كاوبوي، أعلنت عن منتجات نعرف الآن أنها ضارة، وينبغي أن يتم حظرها. لكن الصعوبة الكبرى التي نواجهها هي كيف نقرر ما إذا كان هناك ضرر في المنتجات الأخرى.

على سبيل المثال، بافتراض أن نايك شركة محترمة، لماذا ينبغي لها ألَّا تستخدم شعارها القوي للغاية «سووش» الذي يُشبِه علامة صواب كشعار لها؟ ولماذا ينبغي لها أيضًا ألَّا تستخدم عبارةً بمثل تلك القوة: «فقط افعلها» كشعار لها؟ ربما يُمكن للمرء أن يقول إن مَن يُعاني فقط هم المنافسون.

تلك هي المشكلة الشائكة في الإعلانات، وهي أنها تخدع عقلنا الباطن. في الكثير من الحالات، الأمر لا يعدو كونَ شركة ما حالَفَها الحظ أو لديها من الذكاء أو الحس الإدراكي ما جعلها تختار رمزًا أو شعارًا أو فكرة إعلان تَجَاهَلها الآخرون. وإذا لم تكن كلٌّ من رينو وكادبوري وتلما وأورانج وستيلا آرتوا وميشلان وفولكس فاجن وتيسكو ونايك قد استخدمت هذه الطريقة في الإعلان، فربما كانت حققت نجاحًا أقل بكثير، وربما كان قد فاتنا بعض الإعلانات الذكية والمسلِّية على نحو استثنائي.

قوة من أجْل الخير أم الشر؟

من المؤكد أن معظم قُرَّاء هذا الكتاب من الكبار، ولكن الأمر أكثر تعقيدًا وأهمية بالنسبة للأطفال؛ فهل يصح أن نسمح لمصنِّعي الحبوب أن يستخدموا الدعاية بأسلوب يؤثر على الأطفال، حيث يبتكرون شخصيات كرتونية تَلقَى قبولًا وإعجابًا من قِبَل الأطفال بشكلٍ منقطع النظير في حين أن منتجاتهم تحتوي على كميات كبيرة من السكر المضاف؟ وهل يصح أن نسمح لمصنِّعي ألعاب الفيديو باستخدام مَشاهِد الحرب والعنف عند إعلانهم عن لعب الأطفال؛ مما قد يزيد من نمو السلوك المعادي للمجتمع لدى هؤلاء الأطفال؟ وبوضع مخاطر الإدمان في الاعتبار، هل ينبغي أن يُسمح بالإعلان عن الجعة باستخدام إعلانات مضحكة؟ هل ما طرحناه من نموذج لإغواء العقل الباطن يعني أننا لا بد أن نتعامل بشكلٍ يقظٍ مع أنواع الحملات الإعلانية التي يراها أطفالنا؟ نَعَم، أعتقد أن هذا ما يعنيه بالفعل.

إليك هذه القصة الرائعة التي تدور في فلك الموضوع الذي طرحناه للتو: بعد أن تركتُ مجال الإعلانات اتَّجهتُ للعمل كاستشاري لشركة من شركات أبحاث السوق، وكان من بين مهامِّ وظيفتي حضور المؤتمرات، وقُدِّر لي أن أحضر مؤتمرًا بحثيًّا في لندن، والتقيتُ هناك بالمسئول عن التسويق في شركة بي إم دبليو.

تصادف أن تناولتُ أنا وهذا المسئول مشروبًا ودارت أثناء ذلك مناقشة بيننا حول الإعلانات، فشعار بي إم دبليو «السيارة الأفضل» أدَّى إلى وجود دعاية متميزة للشركة على مدار ما يزيد عن ٣٠ عامًا في الولايات المتحدة الأمريكية وما يقرب من ٢٥ عامًا في المملكة المتحدة، ومن المُلاحظ أن مبيعات بي إم دبليو قد زادت ١٧ ضعفًا1 على مدار هذه الفترة في الولايات المتحدة وحدها، وهنا تساءلتُ بكل براءة ما هي الفئة العمرية التي كانت تستهدفها إعلانات بي إم دبليو، وكنتُ متوقِّعًا أن تكون الإجابة النموذجية «الشباب»، ولكن ما صدمني حقًّا أن أعلم أن الفئة العمرية المستهدفة تبدأ من سِنِّ «السادسة».

اعتَبِرْ ذلك نوعًا من البَوْح! فقد اعترفتْ وكالة إعلانية كبرى بأنها تستهدف الأشخاص الذين لن يكون باستطاعتهم شراء سيارة بي إم دبليو لمدة ٢٠ عامًا، ولن يُسمح لهم حتى بقيادة سيارة بي إم دبليو لمدة ١٠ سنوات أو أكثر؛ إذن السؤال الذي يَطرَح نفسه: لماذا فعلتْ ذلك يا تُرى؟

وهنا خطرتْ لي الإجابة؛ إذا بدأ عرض إعلانات على أشخاص في سنِّ السادسة من عمرهم فهم عندما يبلغون سن السادسة والعشرين يكونون قد تعرضوا للإعلان مدة عشرين عامًا. إنهم بذلك يكونون قد تأثَّروا بكل ما فيه من جمال الصورة والتقدُّم التقني على مدى عشرين عامًا بمشاهدتهم إعلان «السيارة الأفضل». ولا عجب إذن أن هناك الكثير من الناس حول العالم يرغبون في امتلاك سيارة بي إم دبليو!

هل ينبغي السماح لمثل هذه الأمور أن تحدث؟ بل ربما السؤال الأهم الذي يطرح نفسه في هذا الإطار: كيف لنا أن نُوقِف مثل هذه الأمور؟ يمكن استبعاد إعلانات السيارات من برامج الأطفال التي تُعرض على شاشة التليفزيون، ولكن أطفالنا يشاهدون برامج الكبار أيضًا، وحتى إنْ لم يشاهدوها، فمِن المحتمل أن يشاهدوها على لوحات الإعلانات على جوانب الطرقات وعلى صفحات الإعلانات في الصحف والمجلات الموجودة هنا وهناك. هل ينبغي علينا حظر إعلانات السيارات تمامًا؟ بالطبع لا؛ السيارات قد تضر بالبيئة، ولكنها أقل خطرًا علينا نحن البشر من الحلويات والوجبات السريعة والمشروبات الغازية، فإذا ما قمنا بحظر إعلانات السيارات فإن ذلك يُعَدُّ بمثابة خطوة صغيرة تجاه حظر الإعلانات تمامًا. وإذا حدث ذلك، فستنهار معظم وسائل الإعلام من الناحية المالية، ولكن سرعان ما سيجد المُعلِنون طرقًا أخرى مبتكرة للتواصل معنا. هل تتذكر مجموعة ملابس مارلبورو وشعارها: «هيَّا إلى عالم مارلبورو»؟

لكن ثمة طريقة أخرى ننظر بها إلى خداع العقل الباطن في مجال الإعلان، وهي أن ننظر إليه بمنظور إيجابي، ففي كل عام تستخدم الحكومات الإعلانات في محاولة منها لتحسين ظروفنا المعيشية؛ فهي تحذِّرنا من خطر الأمراض كمرض الإيدز، كما تحذرنا من التدخين، وتنصحنا بعدم الإفراط في تناول السكر أو الملح أو الأغذية المشبَّعة بالدهون، ناهيك بتحذيرها لنا من مخاطر القيادة وتوعيتها لنا بالقيادة الآمِنة المتعقِّلة، ولكن العديد من هذه الحملات يستخدم النموذج التقليدي القديم في الإعلان، فهي تحاول إقناع المشاهد بالتصرف على النحو الصحيح، وبالطبع نمتلك القدرة بكل سهولة على دحض وتفنيد ما يقولون ومعارضته.

دعونا نفترض أن هذا القطاع استخدم نموذج إغواء العقل الباطن في تصميم حملاته الإعلانية، وأنه قام بتنفيذه بدرجة الإتقان والفعالية نفسها التي يقوم بها مسوِّقو العلامات التجارية، ألن تتحول لأنْ يكون لها دَوْر إيجابي في المجتمع بدلًا من دورها السلبي؟ ألن تكون قوة محرِّكة للخير لا للشر؟

الإجابة هي أنه لا فكرة لديَّ بهذا الشأن، ولكن الشيء الذي أنا على يقين منه هو أن تأليفي لهذا الكتاب سيمنح العديد من الناس فَهْم مبادئ وأُسس الإعلان في خداع العقل الباطن، ويحدوني الأمل في أنْ سيأتي الوقت الذي تبدأ فيه وكالات الإعلان التي تعمل للجهات الحكومية في تطبيق مثل هذه المبادئ في حملاتها الإعلانية، وربما مع مرور الأعوام أقوم بكتابة تكملة لهذا الكتاب مستعرضًا فيها مدى ذكاء الحكومات في خداع عقلنا الباطن في حملاتها الإعلانية!

وأخيرًا …

أعتقد أنَّ من الأهمية بمكان أن ندرك مدى قوة تأثير الإعلانات على خياراتنا في شراء العلامات التجارية شعوريًّا ولا شعوريًّا على حدٍّ سواء، ولا أجد في واقع الأمر أن هناك وسيلة لمقاومة ذلك، فمجتمعنا الآن هو مجتمع يعتمد على التجارة، وتعتمد العديد من الشركات على ترويج منتجاتها والدعاية لها من أجْل البقاء في السوق، وإذا نظرنا نظرة موضوعية للأمر واضعين جميع الجوانب في الاعتبار، فمِن الأفضل أن نُبقِي على الحملات الإعلانية، ولكن مع شيء من التنظيم والرقابة بدلًا من محاولة التخلص منها.

ولكن هل يعني ذلك أنه يتعيَّن علينا التعايُش مع إخضاع عقلنا الباطن للإغواء والخداع؟ أظن أنه يعني هذا بالفعل؛ وذلك نظرًا لأنني أرى طريقتين فقط لمقاومة خداع العقل الباطن؛ الأولى: استبعاد كافة أنواع الإعلانات من عالَمك الخاص. قُم بغلق القنوات الإعلانية في الإذاعة والتليفزيون. لا تشاهد البرامج التليفزيونية التي يصاحبها إعلانات عن المنتجات. اذهب لدُور السينما بعد انتهاء فترات الإعلانات. تجنب شراء الصحف والمجلات. لا تَجُبِ الشوارع التي تحتوي على لوحات إعلان سيرًا، ولا تنظر إلى واجهات المحلات. وأخيرًا لا تتصفَّح الإنترنت. الأمر جد صعب ما لم تكن على استعداد لأن تعيش حياة كحياة النُّسَّاك.

والطريقة الأخرى هي العكس تمامًا، وتتمثل في الانخراط بالكلية في إعلانات التليفزيون والإذاعة والتحديق في لوحات الإعلانات في الشوارع وإعلانات الإنترنت وواجهات المحلات وقراءة الإعلانات في الصحف والمجلات، والأهم من ذلك هو مشاهدة المنتجات المعروضة في البرامج وأفلام التليفزيون، وكلما ازداد انتباهك واهتمامك بهذه الإعلانات زادت قدرتك على مقاومة ودحض ما تراه وتسمعه؛ ومِن ثَمَّ سيكون تأثيرها عليك أقلَّ. قد يكون الأمر مُمِلًّا ومُزعِجًا وغير مأمون المخاطر، ولكنك على الأقل ستشعر بالرضا لعلمك أنك قلَّلتَ كثيرًا من احتمال تعرُّض عقلك الباطن للإغواء.

هوامش

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤