الفصل الخامس عشر

القوة الكامنة في وسائل الإعلام الجديدة

عادةً ما ينسى منتقدو الإعلانات أنه إذا تمَّ وقْفُها أو إلغاؤها، فسوف تَظهَر بالضرورة طرق أخرى بديلة لها.

دانيال ستارك
«مبادئ الإعلان» (١٩٢٣)

مثَّلت السرعة التي انتشر بها إعلان «ما الجديد؟» في جميع أنحاء العالم مؤشرًا مبكرًا على قوة وسائل الاتصالات الإلكترونية. والتأثير الذي تُحدِثه مثلُ وسائل الإعلام الحديثة هذه على الطريقة التي نتعرض بها للإعلانات ونتعامل بها معها هو الشيء التالي الذي يجب أن نتناوله بالبحث والدراسة.

هناك ضجة كبيرة مُثارة حول قوة شبكة الويب وتأثيرها، ولا سيما بالنظر إلى الشركات التي تنفق القليل نسبيًّا على الإعلانات المدفوعة التي يتم عرضها على شبكة الإنترنت. وبحسب استطلاع الرأي الذي أجرتْه مجلة «ماركتينج» في عام ٢٠١١، فإن بروكتر آند جامبل، أكبر وكالة إعلان في المملكة المتحدة، قد أنفقت ١٫٣٪ فقط من إجمالي ميزانيتها المخصصة للإعلانات على شبكة الإنترنت، في حين أنفقت شركة يونيليفر ١٫٩٪ من ميزانيتها فقط. وكانت الإحصائية الأكثر إثارة للاهتمام هي أن أكبر الشركات إنفاقًا في هذا المجال هي «أو تو» واحدة من أكثر الشركات نجاحًا في مجال الإعلانات التليفزيونية. ترى هل تعرف الشركة شيئًا لا نعرفه نحن؟

بالتأكيد، للإعلان على شبكة الإنترنت تأثير كبير للغاية، فقد أظهر استطلاعٌ للرأي أُجرِي عام ٢٠١٠، أن المواطنين العاديين في المملكة المتحدة يقضون ٣٫٧ ساعات يوميًّا في مشاهدة التليفزيون، و٢٫١ ساعة للاستماع إلى الراديو، و١٫٨ ساعة في استخدام شبكة الإنترنت.1 ولقد شهد استخدام شبكة الإنترنت زيادةً بمعدل ٣٨٪ خلال العامَيْن الماضيين؛ لذا، ومع مرور الوقت، قد تقفز هذه النسبة لتتخطَّى معدَّل الاستماع إلى المذياع.

لا تزال الإعلانات واسعة الانتشار نادرة نسبيًّا، ولكنها عندما تنجح تُصبح طريقةً رخيصةً للغاية للتواصل؛ وعلى كل حال، فإن الإعلان على شبكة الإنترنت هو أقلُّ تكلفة بكثير بالمقارنة بتكلفة بثِّ الإعلانات في وسائل الإعلام التقليدية. في الحقيقة، كلُّ ما يُنفَق هو تكلفة إنتاج المادة الفيلمية للإعلان، ولكنَّ العوائد تكون مذهلةً. وعلى سبيل المثال، فإن علامة جون ويست لأسماك السلمون المُعلَّبة، أصبحتْ واحدة من أشهر العلامات التجارية في المملكة المتحدة، ببساطة عن طريق إطلاق فيلم واسع الانتشار يتسم بروح الدعابة.

دراسة حالة: سلمون جون ويست

لا يُعَدُّ سمك السلمون المُعلَّب، بالنسبة للأشخاص الذين لم يتذوَّقوه، طبقًا للذوَّاقة. يُشاع أن إعلان سمك سلمون جون ويست تم إنتاجه على سبيل الدعابة، وتم إطلاقه دون قصد وبمحض المصادفة، وكانت الشركة على وشك سحْبِه، ولكن النجاح الضخم الذي حقَّقه الإعلان على نطاق واسع جعلها تتجاهل هذه الفكرة ولا تُكلِّف نفسها عناء سحبه.

يبدأ الإعلان بمجموعة من الدببة الضخمة وهي تصطاد سمك السلمون من النهر، في مكانٍ ما في كندا، ثم نسمع صوت المعلِّق وهو يقول: «عند مصبِّ النهر، لا تصطاد الدببة سوى سمك السلمون الألذ والأكثر طراوة، وهذا ما تتميز به أسماك سلمون جون ويست.» وبينما يقول المعلق هذا، يَظهَر رجل مرتديًا حذاءً برتقاليًّا في المشهد وهو يصيح، ويبدأ في مهاجمة الدب الذي اصطاد سمكة سلمون ضخمة بقبضتيه. يسدد الدب في المقابل مجموعة من اللكمات والركلات ليتصدَّى بسهولة لهجوم الرجل الذي أيقن استحالة هزيمة الدب بالوسائل العادلة، فأشار إلى السماء وقال: «انظر، النسر»، وبينما ينظر الدب ليَرَى النسر، ركله الرجل بين رجليه ليسقط الدب المسكين على الأرض وهو يَئِنُّ. الْتَقَط الرجل سمكة السلمون الضخمة ورحل، لنسمع صوت المعلِّق يقول: «جون ويست تتحمَّل الأسوأ، لتجلب لك الأفضل.»

أَستَخدِم هذا الإعلان في محاضراتي لأحاول مساعدة طلابي على فهْم مَدَى التعقيد الذي وصلتْ إليه الإعلانات الجديدة، ويستطيع الطلاب بسهولة تحديد الرسالة التي يهدف إعلان سلمون جون ويست المُعلَّب إلى توصيلها، وهي أنه السلمون الألذ والأكثر طراوة، ولكن المشكلة تتمثل في أنهم جميعًا لم يصدقوا لِلحظةٍ هذه الرسالة (بمعنى أن النقاش تحوَّل بسرعة إلى الحجة المضادة) تمامًا كما لم يصدقوا أن العاملين في شركة جون ويست يذهبون إلى الدببة ليُبرحوها ضربًا للحصول على سمك السلمون.

هل هذا يعني أن الإعلان ليس فعَّالًا؟ على الإطلاق. أتخيل أن اسم جون ويست قد ترسخ في الذاكرة الصريحة للعديد من الأشخاص الذين يشاهدون هذا الإعلان جنبًا إلى جنب مع إدراك وفهم المشهد العام (النهر، والدببة التي تصطاد، والمناظر الطبيعية، وغيرها). وأتخيل أيضًا أن إدراك معظمنا لجميع هذه المناظر الطبيعية يولِّد لدَيْنا مفهوم الخير الطبيعي وربما الاستدامة والذي سوف يستقر بطريقةٍ لا شعورية في ذاكرتنا الضمنية المرتبطة باسم علامة جون ويست التجارية؛ لذا، في حال تمَّتْ مشاهدة هذا الإعلان بالقدْر الكافي، قد يغرس في أذهان الأشخاص الذين يشاهدونه الشعور بأن شركة جون ويست تحترم الطبيعة وتُقدِّم المنتجات الطبيعية الطازجة — ناهيك عن الشعور بروح الدعابة — ومِن ثَمَّ، لا بأس مطلقًا من إنفاق بضعة آلاف من الجنيهات على صناعة هذه المادة الإعلانية.

بطبيعة الحال، لا تَسِير الأمور دائمًا على هذا النحو السَّلِس، فإذا حدث ولم يستحوذ الإعلان أو الشركة المُعلَن عنها على إعجاب الجمهور، فقد يتم الاستيلاء على الإعلان والتعديل فيه بطريقة تجعل أصحاب العلامة التجارية يبدون بُلَهاء. وتُعرَف هذه الممارسة أيضًا ﺑ «إفساد الدعاية». هناك العديد من الأمثلة على الإعلانات التي وقعت فريسة لهذا النوع من الهجمات الإلكترونية، وبالطبع إذا ما حدث هذا، فالجميع سيتهافتون على رؤية النسخة المعدَّلة، ولا أحد سيرى النسخة الأصلية الكاملة من الإعلان، ومثال على هذا، إعلان مياه إيفيان المعدنية الذي يَظهَر فيه مجموعة من الأطفال الرُّضَّع وهم يتزلجون على زلَّاجات ذات عجلات، والذي يوجد منه العديد من النُّسَخ المختلِفة الآن.

لهذا السبب، ونظرًا لأن نشْر الإعلانات على شبكة الإنترنت يمكن أن يكون عملًا يتسم بالتحايل والمكْر، لا تزال الإعلانات الفيروسية نادرة نسبيًّا، ويَبقَى الشكل الأكثر شيوعًا للإعلانات على شبكة الإنترنت هو الإعلانات الصورية.

إعلانات صفحات الويب

كلنا نعرف العلامات التجارية التي تَظهَر في الإعلانات الصغيرة الموجودة على جوانب صفحات الإنترنت، ولكن القليل منَّا ينظر إليها مباشرةً؛ لذا فإن كل ما يهم هو أن تكون هذه الإعلانات مرئية لنا أثناء قيامنا بالبحث عن معلوماتٍ أكثر أهمية؛ لهذا السبب لا تُزعِجنا كثيرًا بشكلٍ عام. ومثلَما نعتَقِد بأننا لا نتأثر بالإعلانات التليفزيونية أو المطبوعة ما لم ننظر إليها، فبالمِثْلِ، نفترض جميعًا أننا لن نتأثَّر بهذه الإعلانات التي يتم وضعُها على صفحات الويب، طالما لا ننظر إليها أو نقرؤها.

الشيء نفسه ينطبق على الصحف، فهي تتكون من صفحات يختلط فيها النص مع الصور، كتلك التي نراها على شبكة الإنترنت. وبالعودة إلى تجاربي التي أَجرَيْتُها في عام ٢٠٠٦، وجدنا أن الناس مالوا إلى تجنُّب الإعلانات من خلال قراءة ما حولها فقط، وأحيانًا ينظرون على الإعلان نظرةً خاطفة تستغرق ما بين عُشْر إلى نصف ثانية (خاصةً إذا كانت هناك عروض معينة على منتج ما)، وفي بعض الأحيان قد تطول هذه النظرة لتستغرق ثانية إضافية أو ثانيتين؛ نظر أحد الأشخاص المسنِّين إلى أحد الإعلانات بعناية، حتى إنه قرأ نسخة منه في الجزء السفلي من الصفحة. وإذا كانتْ تجاربي معبِّرة عن الحقيقة، فهذا يعني أن احتمالات قراءة أحد الإعلانات في الصحف قد تكون ١ في كل ٤٠٠٠.

هذا من شأنه أن يطرح سؤالًا حول كمِّ المعلومات التي يمكننا أن نستخلصها من الإعلان إذا ما اتَّبعنا هذا النوع من السلوك في قراءته. إذا درسنا الإعلان أو نظرنا إليه مباشرة مرة أو حتى عدة مرات فإن أنظارنا ستمرُّ قريبًا جدًّا منه، وسيكون واضحًا تمامًا في مجال الرؤية المحيطية لدينا. دَعْني أذكِّرك بالدراسة البحثية لشابيرو وآخرين (١٩٩٧)، والتي تعرَّضنا لها في الفصل السابع. كشف بحثهم أن تلك الإعلانات الموضوعة في الأعمدة الخارجية لجريدة ثلاثية الأعمدة كان لها تأثيرٌ على اختيار السلع التي يتم الإعلان عنها، حتى وإنْ لم ينظر القُرَّاء لها أبدًا ولم يتذكروا رؤيتهم لها. إذن، هذا يُشير إلى أن الإعلان الذي نتعرَّض له في مجال رؤيتنا المحيطية قد يكون قادرًا على التأثير علينا، حتى عندما لا ننظر مباشرة إليه.

ماذا عن القراءة؟ معظمنا يعتقد أننا غير قادرين على قراءة أي شيء موضوع في مجال رؤيتنا المحيطية. ومع ذلك، دعني أذكِّرك مرة أخرى بحالة المرأة التي ناقشناها أيضًا في الفصل السابع، والتي كانت تُعانِي من تَنكُّس بُقَعي. هذه المرأة كانتْ قادرة على أن تُعلِّم نفسَها القراءة بالنظر حوالي ٦ بوصات إلى يسار الحروف. إذن القدرة على القراءة في مجال الرؤية المحيطية موجودة، حتى إذا كان عقلنا الواعي لا يَقْبَلها. وحيث إننا مُسلَّحون بمعرفة أكبر حول طبيعة عمل أدمغتنا، يمكننا أن نفهم المزيد عن هذا الأمر.

كيف نقرأ؟

عندما نقرأ الأخبار في الجريدة نَمِيل إلى قراءة العناوين الرئيسية سريعًا وقراءة أجزاء بسيطة من تفاصيل المحتوى باستخدام المناطق النقيرية وشبه النقيرية (مناطق الرؤية عالية الوضوح في الشبكية). نفعل ذلك بسرعة كبيرة جدًّا، بينما نبحث عن أشياء ربما نرغب في قضاء وقت أطول في قراءتها. نحن لا نقرأ بالنظر إلى الحروف كما يفعل الأطفال؛ نحن نقرأ بالتعرف على كلمات وأحيانًا مجموعات من عدة كلمات دفعة واحدة. لكن ربما تندهش حينما تعلم أننا لا نقرأ دائمًا الكلمات في الجُمَل بالترتيب المكتوبة به؛ غالبًا ما نقرأ العناوين الرئيسية بشكل عكسي، وفي كثير من الأحيان نقرأ نص المقالات مثل حرف S، بقراءتنا سطرًا بالطريقة الصحيحة وما يَلِيه بطريقة عكسية. ربما حتى نقرأ فقرة واحدة ثم ننتقل إلى قراءة فقرة سابقة. يبدو الأمر عشوائيًّا وأحمق تمامًا.

لكنك إذا فكَّرتَ بشأن الطريقة التي يعمل بها عقلك، فستجد الأمر منطقيًّا. معظم قراءتنا تتم من دون تذكُّرنا لأيٍّ من الكلمات الفعلية التي قرأناها للتوِّ؛ ما نفعله هو القراءة وتكوين صور وتفسيرات بشكل متواصل. الأمر أشبه نوعًا ما بمثال دينيت الخاص بعدم استقرار وعينا أثناء القيادة؛ الكلمات تَدخُل عقْلَنا الواعي وتُغادِر مباشرة تاركةً معناها وراءها.

عندما نقرأ بسرعة فعلًا (كما هو الحال في تصفُّح الصحف في كثير من الأحيان)، من المُرجَّح ألَّا تدخل الكلمات ذاتها في عقولنا الواعية على الإطلاق، ولكن تتم مُعالجتها وتفسيرها بواسطة عقلنا الباطن، ويتم إرسال معنى الجملة فقط إلى وعينا المنتبه «الراصد». على سبيل المثال، تبيَّن أنه يُمكننا في الواقع قراءة جملة من كلمات حروفها غير مُرتَّبة، ما دام الحرف الأول والأخير من كل كلمة في موضعيهما الصحيحين.

ولذلك كل ما نحتاج إليه غالبًا لكي نتعرف على كلمة معينة هو أن نكون قادرين على التعرف على عدد قليل من الحروف، وهذا يعني أننا عندما نقوم بالتصفح على شبكة الإنترنت، قد لا نرى ونعالج الصور الموجودة فقط في محيط رؤيتنا، ولكن من المحتمل جدًّا أن نتصفَّح ونستخرج المعنى من الكلمات في نطاق رؤيتنا المحيطية أيضًا.

والآن أصبحت دلالات التذكر اللاواعي لشون في إعلان هوفمايستر، المذكور في الفصل الأخير، واضحة. وتمامًا، كما هي الحال في الإعلانات التليفزيونية، كل شيء نراه ونسمعه على شبكة الإنترنت ينتقل إلى الذاكرة الضمنية التي لا تَنفَد، ويَبقَى هناك، وكذلك كل شيء ندركه يستدعي المفاهيم التي قمنا بتخزينها قبلًا. والآن، أضِفْ إلى كل هذه الأشياء التي نراها أثناء مُضِيِّنا في حياتنا: اللافتات خارج المتاجر، والصور التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى التي نُشاهِدها أثناء مرورنا على نوافذ المحلات، ولوحات الإعلانات والمُلصَقات وبطاقات السيارات التي نمر عليها في طريقنا من وإلى العمل، وإعلانات الصفحة الخلفية من المجلات التي يقرؤها الآخَرون، وحتى الإعلانات الصغيرة على مقابض مضخَّات وقود السيارات وعلى الجوانب السفلية لمقاعد سيارات الأجرة. ويتم تجميع كل هذه الكمية الهائلة من المواد وتخزينها من قِبَلنا في كل الأوقات. وتظل هناك في انتظار اللحظة التي يُمكن أن تُساعِدنا فيها شعوريًّا عن طريق «توجيه» سلوكنا.

وهذه القائمة من المؤثرات في ازدياد دائم. وبينما أكتب هذه الكلمات، ربما سُمح للنموذج الأكثر مكرًا وخفاءً من الإعلانات هنا في المملكة المُتحدة، أقصد بالطبع توظيف المُنتجات في البرامج التليفزيونية.

توظيف المُنتجات

تحدث فكرة توظيف المُنتجات في الأفلام منذ سنوات، حيث تتحدث شركة ما مع صانعي الأفلام وتعرض مُنتجاتها مجانًا، شريطة أن تُعرض في الفيلم، وكانت سيارات أستون مارتن التي عُرضت في أفلام جيمس بوند واحدة من هذه الصفقات الأكثر شهرة. ولكن فكرة عرض الإعلانات مجانًا قد تغيرت وأصبحت محلَّ تساؤل وشكٍّ عندما استطاعت شركة بي إم دبليو أن تُزايِد على أستون مارتن، لتَظهَر بدلًا منها في أفلام جيمس بوند.

لقد حدث عرض المنتجات في الأفلام والبرامج أيضًا التي تُعرض على شاشة التليفزيون. لا يُمكنك أن تتصور مشهدًا واقعيًّا في حانة أو مقهًى من دون ظهور علبة كوكاكولا في المكان. مرة أخرى، كان هذا يتم لسنوات من دون أي تنظيم، والآن أصبح الأمر صريحًا ومفتوحًا، وهو ما يعني أن عدد العلامات التجارية التي نراها على شاشة التليفزيون ربما في طريقه إلى أن يزداد زيادة هائلة.

لماذا أَصِف هذا الفعل بالمَكْر؟ حسنًا، لقد رأينا في وقت سابق وتحديدًا عند التعرض لنظرية الاقتصاد السلوكي لكانيمان وتفيرسكي، أن أحد التأثيرات الأكثر فعالية على سلوكنا يحدث عندما نرى أشخاصًا آخرين نعرفهم يستخدمون شيئًا ما. إذا كان أحد أصدقائنا يستخدم علامة تجارية معينة، فذلك بشكل واضح هو أحد أفضل الأسباب التي قد تجعلنا نفكر في استخدامها نحن أيضًا.

إذن، الآن، وبالنظر إلى علاقتنا بالشخصيات التي تَظهَر في مسلسلات التليفزيون التي نحرص على مشاهدتها كل أسبوع، دون أن نفوِّت منها حلقة واحدة، أليستْ أقرب إلينا من الأصدقاء؟ بالتأكيد هي كذلك. أيضًا إذا كانوا يستخدمون في العرض التليفزيوني (ومِن ثَمَّ يُظهِرون التأييد) علامة تجارية معينة من الشامبو، أو القهوة، أو البيتزا، ألَنْ نَشعُر بأن هذه العلامات التجارية جيدة وموثوقة وتستحق أخذها بعين الاعتبار؟ بالطبع سنفعل.

بالطبع لن يحدث ذلك على الفور. لفترة من الوقت فإن هذه الفكرة المبتكرة بإظهار المنتجات في البرامج والأفلام ستعني أننا سنكون منتبِهين لها، وأننا سنرصد ونعلِّق على العلامات التجارية التي نراها منتشِرة في كل برنامج. الخطر سيأتي بعد بضعة أسابيع أو أشهُر أو سنوات، عندما نتوقَّف عن ملاحظة هذه المنتجات، لأننا عندما نتوقَّف عن ملاحظتها، نتوقَّف أيضًا عن القدْرة على التفكير في وجودها، والنظر فيه، وابتكار حجة مضادة له. يحدث هذا فور أن تبدأ تلك العلامات التجارية بالتواصل بشكل مباشر وبدون موانع مع عقلنا الباطن.

لتوضيح مدى فعالية هذا النوع من التسويق، لننظر إلى استراتيجية تسويق العلامة التجارية الأكثر نجاحًا في العالم (كوكاكولا).

دراسة حالة: كوكاكولا

هل سبق وسألتَ نفسك: لماذا كوكاكولا هي أكبر وأكثر المشروبات الغازية نجاحًا في العالم؟ ربما لم تفعل، ما لم تكن سيئ الحظ بما يكفي لتعمل في إحدى الشركات المنافِسة لها. حسنًا، اسأل نفسك الآن.

أتوقَّع أنك ستكون قادرًا على الوصول إلى العديد من التفسيرات لنجاحها غير العادي، ولكن أولها سيكون بلا شك التركيبة الفريدة والمذاق الرائع. كوكاكولا مذاقها رائع! الجميع يعرفون ذلك، بالضبط مثلما يعلم الجميع أن التركيبة السرية يُفترَض أن تكون مخبوءة في مكان ما لا يُمكن لأحد الوصول إليه. المذاق الفريد لكوكاكولا هو إحدى المُتَع الأكثر روعة التي نسترجعها من ذكريات طفولتنا، وهي كثيرًا ما تمثِّل إحدى أجمل المكافآت التي يُمكِننا أن نَمنَحها لأنفسنا حتى اليوم.

لكن ينبغي هنا أن نذكر شيئًا: إذا وضعتَ العلامتَيْن التجاريتين الشهيرتين كوكاكولا وبيبسي جنبًا إلى جنب في كوبين زجاجيين متماثلين، وطلبتَ من أشخاص تذوُّقهما، ماذا تعتقد أنهم سيختارون؟ الإجابة، كما قد يُجيب أي شخص شاهَدَ إعلانات تحدي بيبسي في الثمانينيات سيعرف، هي بيبسي. مذاق بيبسي كولا هو المفضَّل من قِبَل معظم الناس في اختبارات التذوق، وهذه حقيقة.

كان هذا هو ما أثار واحدة من أعظم كوارث التسويق في كل العصور: كوكاكولا الجديدة. قرر مدير تسويق كوكاكولا سيرج زيمان أنه بما أن مذاق بيبسي كان المفضَّل من قِبَل معظم الناس، فإنه سيُعِيد إطلاق كوكاكولا بطَعْم مشابِه لبيبسي، ويُسمِّيه كوكاكولا الجديدة.

إلا أن مذاقَها لم يُعجِب أحدًا ممَّن يَشرَبون كوكاكولا. لقد نَادَوْا بإعادة كوكاكولا الأصلية، وفي النهاية هذا ما حدث. نَعَمْ، الناس أرادوا فعلًا استعادة المنتج الذي كان يُعجِبهم بصورة أقلَّ!

الآن بالنسبة لأي شخص مثلي قد درس التسويق لمدة ٤٠ عامًا، لا يُعَدُّ هذا السلوك مستغرَبًا كثيرًا. في خروج وجيز عن الموضوع دعوني أُخبِركم عن دراسة بحثية أُجرِيت من قِبَل كاثرين براون عام ١٩٩٩. أَعَدَّت براون عينات من عصير البرتقال بدرجات جودة مختلفة، حيث كانت تأخذ العصير ذا الجودة العالية وتُضِيف له موادَّ تُغَيِّر الطعم. ثم أعطت مجموعة العصائر إلى أشخاص ليتذوَّقوها، مُدَّعِيةً أنها تجربة لمُنتَج يحمل علامة تجارية جديدة. بعد مهمة إلْهاء أُعطيت لهم، شاهد نصف المشاركين دعاية لتلك العلامة التجارية. وُجِد أن الإعلان أربك قدرة المشاركين على الحكم الدقيق على جودة العصير، ممَّا أدَّى إلى منْح المنتَج الذي هو دون المستوى تقييمًا عاليًا. لقد خلصتْ إلى أن «الإعلان الذي تمَّ عرضُه بعد تجربة مباشرة للمنتج قد غيَّر قدرة المستهلِكين على استحضار كلٍّ من الحِسِّ الموضوعي والعناصر العاطفية لتلك التجربة» (براون، ١٩٩٩).

إذا كنتَ تعتقد أن هذا حَدَثَ مصادفة وليس أمرًا معتادًا، فانظر قصة ستيلا آرتوا، العلامة التجارية للجعة الأكثر نجاحًا في المملكة المتحدة. في عام ١٩٩٠، خطط أصحاب العلامة التجارية، إنتربرو، لإطلاق حملة تليفزيونية كبيرة بدلًا من الإعلانات المطبوعة التي كانت مطروحة في ذلك الوقت وحقَّقت نجاحًا كبيرًا. قبل قيامهم بهذا كان عليهم التغلب على مشكلة خطيرة مشابهة لتلك التي اعتقدت كوكاكولا أنها تُواجِهها، وهي أن ستيلا آرتوا كانت لاذعة جدًّا، وعندما يُختَبَر مذاق هذه الجعة باستخدام أسلوب التعمية (أي تكون الجعة دون عبوة أو غلاف) فإن الكثير من الأشخاص لا يُعجِبهم مذاقها مقارنة بعلامات الجعة التجارية الأخرى؛ لذا فقد تم إعداد عدد من الوصفات المفضَّلة واختبارها. ولكن ما توصلوا إليه أنه على الرغم من أن الوصفات الجديدة كانت مفضلة لدى أربعة من كل خمسة أشخاص، فإنها لمجرد وضعها في زجاجة ستيلا فإن الوصفة «القديمة» باتت مفضَّلة من قِبَل أربعة من كل خمسة أشخاص. بعبارة أخرى، فإن مَن يشربون ستيلا فضلوا شرب منتج لم يكن يُعجِبهم فعليًّا (هيث، ١٩٩٣).

إذن دعونا نعُدْ إلى كوكاكولا ونطرح على أنفسنا السؤال الذي يستدعيه كل هذا: إذا لم يكن مذاق كوكاكولا هو الأفضل، فكيف لها أن تَبِيع أكثر من بيبسي وجميع العلامات التجارية الأخرى للكولا مجتمعة؟ ما الذي يجعلها ناجحة للغاية؟

سيجيب الكثير من الناس بأن الإعلانات هي مفتاح نجاح كوكاكولا. ولكنْ بعيدًا عن الإعلان الذي من الواضح أنه منحنا تصورنا العصري لسانتا كلوز، والحملة الشهيرة «أود أن أعلِّم العالم أن يغني بتناغم مثالي» لعام ١٩٧١، كم عدد إعلانات كوكاكولا الشهيرة التي يُمكنك تذكُّرها؟ أُراهِن أن إجابتك ستكون: ليس الكثير. لأنه باستثناء حملة كوكاكولا دايت الشهيرة، كنتُ سأقول: لا يوجد فعلًا.

الأمر المهم فيما يتعلق بكوكاكولا هو أنهم لا يهتمون كثيرًا بالإعلانات في وسائل الإعلام. بالطبع هم ينفقون مبالغ طائلة عليها؛ هذا لأن لديهم أموالًا طائلة ليُنفقوها، ولكن بالاقتراب أكثر من قسم التسويق في المقر الرئيسي لكوكاكولا في أطلانطا، فهم يعلمون تمام العلم أن الإعلانات ليست هي ما تجعلهم ناجحين على هذا النحو. إنهم مهتمون أكثر بفكرة أخرى مختلفة جدًّا: الوجود المطلق (أي التواجد والانتشار في كل مكان).

الوجود المطلق معناه أن تكون في كل مكان. يُقال إن الهدف التسويقي لكوكاكولا هو ألَّا تَسِير مسافة تزيد عن ١٠٠ ياردة في أي مدينة من مدن العالم من دون رؤية علبة كوكاكولا أو زجاجة كوكاكولا أو اسم كوكاكولا أو شعارها، ولكن ما السبب وراء الأهمية الكبيرة لهذه الفكرة؟ لأنه كلما كثرت رؤيتك لشيء؛ زاد اعتقادك بأن الناس يشترونه، وكلما اعتقدتَ أنه لا بد أن يكون أكثر شعبية، زادت ثقتك به.

لكن الشيء الماكر الذي يتنامى تدريجيًّا مع استراتيجية «الوجود المطلق» هو أنه بعد فترة من الوقت لم يَعُدْ أحدٌ منَّا «يلاحظ» كوكاكولا، فهي موجودة وحسب. لقد أصبحت جزءًا من خلفية عالمنا الحديث. أصبحنا نعتبرها أمرًا مفروغًا منه. كل هذا يعني أنه تقريبًا في كل مرة نشاهد فيها كوكاكولا خلال حياتنا المزدحمة بالأحداث، نشاهدها بعقلنا الباطن. وعقلنا الباطن ليس له قدرة معنوية على الحكم؛ لأن تلك الوظيفة يضطلع بها عقلنا الواعي؛ لذا فإن عقلنا الباطن، إذا استطاع أن يتحدث، فلن يقول للعقل الواعي «مهلًا، استمع، هل تدرك أن جميع مرات التعرض لكوكاكولا تكيِّفك على الاعتقاد بأنها لا بد أن تكون كوكاكولا الأفضل في العالم؟» والشيء الأكثر ترجيحًا هو أن العقل الباطن كان سيقول شيئًا من قَبِيل: «دَعْنا نُواجِه الحقيقة، لو لم تكن كوكاكولا هي الأفضل لكان شخص من بين ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالَم الذين يَشرَبونها فَعَل شيئًا ما حِيَالَها من قبلُ.» بالطبع، لن يقول ذلك أيضًا؛ لأن عقلك الباطن لا يستطيع أن يُخضِع الأمور للمنطق؛ لذا فهو لن يَفهَم أن كوكاكولا الجديدة حاولت القيام بذلك بالضبط وفشلت.

وكما قلت في وقت سابق، سرعان ما سينطبق الأمر على المنتجات التي يتم عرضها على شاشة التليفزيون في برامجنا المفضَّلة، فبَعْدَ فترة من الوقت، لن نلاحظها ببساطة، لكن عقلنا الباطن سيستمر في تسجيلها، ويضع بجانبها شخصياتنا المفضَّلة، بل ويربطها أحيانًا بكونها تُشرَب، أو تؤكَل، أو تُستخدَم من قِبَل شخصياتنا المفضلة. وسيعتبر عقلنا الباطن أن الشخصيات المفضلة التي نعتبرها أصدقاء لنا قد صدَّقت عليها؛ لذلك فإن عرض المنتجات في البرامج والأفلام سيكون بمثابة تصديق شخصي، مما يجعل هذا الأسلوب دائمًا أقوى وسيلة للإعلان.

هل هذا صحيح؟ هل يُسمح للعلامات التجارية بأن تؤثر فينا على هذا النحو؟ ألَا ينبغي أن يصدر قانون ضدها؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نتناولها في الفصل القادم.

هوامش

(1) Institute of Practitioners in Advertising (IPA) 2010 Touchpoints survey.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤