فصل في سرقاته

هذا باب لم أقف عليه مجموعًا، فيسهل عليَّ تناوله، واستيفاء الكلام فيه. وإنما أذكر منه ما اتفق لي العثور عليه في كتب الأدب عند كتابة هذه النبذة، أو استخرجه الخاطر الكليل أثناء مطالعة ديوانه. وأبدأ بمآخذه من أبي تمام والبحتري وأبي الطيب المتنبي، ثم أذكر مآخذه من غيرهم من غير ترتيب.

فمن ذلك قول أبي تمام:

والحظُّ يُعطاه غيرُ طالبه
ويُحْرِزُ الدرَّ غيرُ مجتلبه
تلك بنات المخاض راتعة
والعَوْدُ في كوره وفي قتبِه

أخذه أبو العلاء وأخرجه في بيت واحد فقال:

هو الحظُّ غيرُ الوحش يستاف أنفُه
خُزَامي وأنف العَوْد بالعُود يُخزم

•••

وقال أبو تمام:

ثم انقضت تلك السنون وأهلها
فكأنها وكأنهم أحلام

أخذه أبو العلاء وزاد عليه، فقال:

فأضْحَوْا حديثًا كالمنام وما انقضى
فسيَّان منه يقظة ومنام

•••

وقال أبو عبادة البحتري:

أخجلتني بندى يديك فسوَّدت
ما بيننا تلك اليد البيضاء
وقطعتني بالوصل حتى إنني
متخوِّف ألا يكون لقاء

أخذهما أبو العلاء وضمن معناهما في صدر بيته، فقال وأجاد:

لو اختصرتم من الإحسان زرتكم
والعذاب يهجر للإفراط في الخَصَر

وهذا البيت من معجزاته، إلا أنه أورده في غزل القصيدة، وكان مديحها أولى به.

•••

وقال البحتري:

نشوان يطرب للسؤال كأنما
غنَّاه مالك طَيِّئٍ أو مَعْبَد

أخذه أبو العلاء وزاد فيه زيادة لا تخفى على الأديب، فقال:

فما ناح قمريّ ولا هبَّ عاصف
من الريح إلا خاله صوت سائل

فالبحتري جعل ممدوحه يطرب لصوت السائل، طرب المنتشي من المغني المجيد، وأبو العلاء جعله كلما سمع صوتًا من تطريب حمام، أو إزعاج أرواح؛ خاله صوت سائل، لمزيد اعتنائه بالسؤال، وولعه بالنوال.

•••

وقال أبو الطيب المتنبي في وصف فرس:

وأصرع أيَّ الوحش قفَّيتُه به
وأنزل عنه مثلَه حين أركب

أخذه أبو العلاء فقال:

أصيل الجَدِّ سابقُهُ تراه
على الأيْنِ المكرَّر مستريحا

•••

وقال أبو الطيب:

يقولون تأثير الكواكب في الورى
فما باله تأثيره في الكواكب

أخذه أبو العلاء، فقال:

من قال إنَّ النَيِّران عوامل
فبِضِدِّ ذلك في علاك يقول
يعملن فيما دونهن بزعمه
ولهن دونك مطلع وأفول

قال شارحه أبو يعقوب النحوي: وقول أبي العلاء أرفع؛ لأنه جعل الممدوح فوق النجوم. انتهى.

وأقول أنا: إن أبا العلاء إنما شرح المعنى ووضَّحه، فبين أن علة عدم تأثير الكواكب في ممدوحه علوُّه عنها، وهذا مستفاد من قول المتنبي:

فما باله تأثيره في الكواكب

لأن المؤثِّر في العادة أعلى وأقوى من المؤثَّر فيه، ففيه معنى بيتي المعري وزيادة.

•••

وقال أبو الطيب:

نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بُدَّ من شربه

أخذه أبو العلاء فقال:

ما رغبة الحيِّ بأبنائه
عمَّا جنى الموت على جَدِّهِ

•••

وقال أبو الطيب:

وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه
فمَنِ المطالِبُ والقتيلُ القاتِلُ

أخذه أبو العلاء فقال:

وآفة العاشق في طرفه
وآفة الصارم من حده

وكلا البيتين فيه زيادة عن الآخر لا تخفى.

•••

وقال أبو الطيب:

تمر بك الأبطال كلْمَى هزيمةً
ووجهُك وضَّاح وثغرك باسمُ

أخذه أبو العلاء، فقال:

يتهللون طلاقةً وكلومهم
ينهلُّ منهنَّ النجيعُ الأحمرُ

وبيته أبلغ في المدح؛ لأن غاية المتنبي أن وصف ممدوحه بتهلله عند هزيمة جيشه، احتقارًا للأخطار. والمعري جعل ممدوحيه يتهللون وهم مصابون يقطر منهم الدم.

•••

وقال أبو الطيب:

يموت راعي الضأن في جهله
مِيتة جالينوسَ في طبه
وربما زاد على عمره
وزاد في الأمن على سربه

أخذه أبو العلاء، فقال:

رددت إلى مليك الخلق أمري
فلم أسأل متى يقع الكسوف
فكم سلم الجهول من المنايا
وعُوجل بالحِمام الفيلسوف

•••

وقال أبو الطيب:

في رتبة حَجَب الورى عن نيلها
وعلا فسمَّوْهُ عليَّ الحاجبا

أخذه أبو العلاء فقال:

وقد سمَّاه سيِّده عليًّا
وذلك من عُلُوِّ القدر فالُ

وفي بيت المتنبي زيادة ساعد عليها لقب ممدوحه.

•••

وقال أبو الطيب أيضًا:

أتى الزمانَ بنوه في شبيبته
فسرَّهم وأتيناه على الهَرَم

أخذه أبو العلاء فقال:

تمتع أبكار الزمان بأيْدِهِ١
وجئنا بوهن بعدما خَرِفَ الدهر

•••

وقال أبو الطيب:

وقد يتقارب الوصفان جدا
وموصوفاهما متباعدان

أخذه أبو العلاء فقال:

قد يبعد الشيء من شيء يشابهه
إن السماء نظير الماء في الزَّرَق

•••

وقال أبو الطيب:

وإذا خفيت عن الغبي فعاذر
أن لا تراني مقلة عمياء

أخذه أبو العلاء فقال:

وكم عَيْنٍ تؤمل أن تراني
وتفقد عند رؤيتيَ السوادا

يريد: إذا رأتني خفيتُ عليها، فكأنها عميت، وفقدت سوادها.

•••

وقال عُمارة بن عقيل:

وما النفس إلا نُطْفَةٌ٢ في قَرارةٍ
إذا لم تُكَدَّر كان صفوًا غديرها

أخذه أبو العلاء فقال:

والخلُّ كالماء يبدي لي ضمائره
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر

•••

وقال النابغة الذبياني في النعمان:

فإنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهم كوكب

أخذه أبو العلاء، فقال في قصرٍ نزلته عروس ممدوحه، فخرج من كان فيه من حاشيته:

كان كالأفق حين همت به الشمـ
ـس تنادت نجومه بالمَسير

•••

وقال عَدِي بن الرعلاء:

ليس مَنْ مات فاستراح بمَيْتٍ
إنما المَيْتُ ميِّت الأحياء

ألمَّ به أبو العلاء فقال:

سالمُ أعدائك مُسْتَسْلِمُ
والعيش موت لهم مُرْغِمُ

•••

وقالت ليلى أخت الوليد بن طريف ترثيه:

أيا شجر الخابور مالك مورقًا
كأنك لم تجزع على ابن طريف

أخذه أبو العلاء وتصرَّف فيه، فقال:

وما كنت أدري أن مثلك يَشْتَكي
ولم يتغيَّر للرياح نسيم

•••

وقال عبيد بن الأبرص يصف السحاب:

كأنَّ أقرابه لما علا شطِبًا٣
أقراب أبلقَ يبغي الخيل رمَّاح

أخذه أبو العلاء فقال:

سَرَتْ لها ترمح أفلاءها
في الجوِّ بُلْقٌ عربيات

ذكروا أنهم يصفون السحاب بالبَلَق، لما فيها من لَمْع البروق؛ وهو قول حسن. والأقرب عندي أنهم يصفونها بذلك؛ لأن فيها ما هو رقيق، وما هو كثيف، وما هو متقطع؛ فيخيل لناظرها أنها بلقاء.

•••

وقال الحطيئة:

يرى البُخْلَ لا يُبقي على المرء مالَه
ويعلم أن المرءَ غيرُ مخلَّد

أخذه أبو العلاء فقال:

إذا أُوتيت مالًا فابذلْنَه
فما يُبقيه توفير وخَزْنُ

•••

وقال الأفوه الأَوْدي:

وقدور كالرُّبا راكدةٌ
وجِفَانٌ كالجوابي مُتْرَعَهْ

أغار عليه أبو العلاء فقال:

وقدورهم مثل الهِضَاب رواكدًا
وجفانهم كرحيبة الأفْيَافِ٤

•••

وقال كثير عزة:

وكنت كذات الظَّلْع لما تحاملت
على ظلعها بعد العثار استقلَّت

أخذه أبو العلاء فقال:

أودعكم يا أهل بغداد والحشا
على زفرات ما يَنِينَ من اللذع
ودَاع ضَن٥ لم يستقلَّ وإنما
تحامل من بعد العثار على ظَلْع

•••

وقال امرؤ القيس:

وقد أغتدي والطير في وُكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل

أخذه أبو العلاء، وغلا بأن جعله قيدًا للريح، فقال:

وخيلًا لو جرت والريح شَأْوًا
ظننا الريحَ أوثقها إسَارُ

•••

وقال أبو فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسُّط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر

أخذه أبو العلاء، فقال:

وأصْبِحْ واحد الرجلين إما
مليكا في المعاشر أو أبِيلَا

•••

وقال بديع الزمان الهمذاني:

وكاد يَحكيك صوب الغيث منسكبا
لو كان طلق المحيَّا يمطر الذهبا
والدهر لو لم يَخُنْ والشمس لو نطقت
والليث لو لم يُصَد والبحر لو عذبا

أخذ أبو العلاء نصف شطر منه، وقصر أيَّ تقصير، فقال:

إذا قيل بحر فهو ملح مكدَّر
وأنت نمير الجود عذب الشمائل

•••

وقال أبو حيَّة النميري:

ولمَّا أبَتْ إلا التواءً بودِّها
وتكديرها الشرب الذي كان صافيا
شربنا برنق٦ من هواها مكدَّر
وكيف يعاف الرنق من كان صاديا

والبيتان في غاية الحسن، إلا أن أبا العلاء ضمن معناهما في بيت، فقال:

ولما أن تجهمني مرادي
جريت مع الزمان كما أرادا

•••

وقال أبو الشيص:

أجد الملامة في هواكِ لذيذة
طمعًا لذكرك، فليلمني اللوَّم

أخذه أبو العلاء فقال:

لم يبق غير العذل من أسبابهم
فأحبُّ من يدنو إليَّ عذول

•••

وقال أبو الشمقمق في حَرَّاقة٧ طاهر بن الحسين:
عجبت لحراقة ابن الحسيـ
ـن كيف تعوم ولا تغرق
وبحران من تحتها واحد
وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها
وقد مَسَّها كيف لا تورق

أخذ أبو العلاء البيت الثالث، وزاد فيه بأن بيَّن علة عدم إيراق العود. وأحسن التعليل، فقال:

مِن كلِّ مَنْ لولا تسعَّر بأسه
لا خضر في يمنى يديه الأسْمَرُ

•••

وقال آخر في الحمام، وينسب للمنازي:

شجى قلب الخليّ فقيل غَنَّى
وبرَّح بالشجى فقيل ناحا

قصَّر أبو العلاء في أخذه فقال:

فقلت تَغَنَّيْ كيف شئتِ فإنما
غِناؤُكِ عندي يا حمامة إعْوَالُ

•••

وقالت وَلَّادةُ بنت المستكفي:

ترقَّبْ إذا جَنَّ الظلام زيارتي
فإني رأيت الليل أكْتَمَ للسِرِّ
وبي منك ما لو كان بالشمس لم تَلُحْ
وبالبدر لم يَطْلُعْ وبالنجم لم يَسْرِ

وقال أبو العلاء:

منك الصدور ومنِّي بالصدور رضا
مَنْ ذا عليَّ بهذا في هواك قضى
بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت
من الكآبة أو البرق ما وَمَضا

ولم أدر أيهما أخذ من الآخر، لاجتماعهما في عصر واحد. ولا يبعد أن يكون من التوارد، إلا أن قول وَلَّادة أبلغ!

•••

أما قول أبي العلاء:

مني إليك مع الرياح تحية
مشفوعة ومع الوميض رسول

فلا يُعَدُّ من السرقة في شيء، وإن سبقه غيره إليه؛ لأن إرسال التحية مع النسيم أو البرق من المعاني الشائعة التي تداولتها الشعراء، ولم تزل تتداولها. وإنما يظهر التفاضل بينهم فيها بحسن سبكها وإبرازها في اللفظ المقبول، والتلطف في تصويرها. ولهذا تركت التنبيه عما وقع في شعره منها، كما أني لم أتعرض لما خفي ودقَّ من سرقاته؛ لئلا يمر ناظر عليه من غير تثبُّت فينكره، ويرميني بالخطأ أو التحامل.

•••

واعلم أن ما ذكرناه عن المعري في هذا الباب قلما يخلو منه شاعر قديم أو حديث، ولسنا بواصلين فيه إلى حد الجزم بأنه تعمَّد سرقته؛ إذ قد يَعْرِض المعنى للشاعر فينظمه، ولا يمر بخاطره وقت نظمه أنه مسبوق به، وربما كان مما لم يقف عليه في شعر غيره. وباب التوارد واسع، كما وقع لطَرَفة بن العبد وامرئ القيس في قوله:

وُقُوفًا بها صَحْبِي علي مَطِيَّهُمْ
يقولون لا تَهلِكْ أسى وتَجَمَّلِ
فأتى به طرفة في معلقته مغيِّرًا لقافيته فقط، فقال: «وتَجَلَّدِ» بدل «وتَجَمَّلِ»، وثبت عند الرواة أنه لم يطلع عليه قبل ذلك. وقال عليُّ بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح:٨ «كان محمد بن وكيع متأدبًا ظريفًا، ويقول الشعر، وعمل كتابًا في سرقات المتنبي، وحاف عليه كثيرًا. وسألني يومًا أن أخرج معه، واستَصْحَبَ مُغَنِّيًا وأمره ألا يغنِّيَ إلا بشعره، فغَنَّى:
لو كان كلُّ عليل
يزداد مثلك حُسْنَا
لكان كل صحيح
يودُّ لو كان مُضْنَى
يا أكمل الناس حسنا
صِلْ أكمل الناس حُزْنا
غَنِيت عني ومالي
وجه به عنك أغْنَى

فقلت: أتثقل عليك المؤاخذة؟ فقال: لا. فقلت: أبياتك مسروقة؛ الأول من قول بعضهم:

ولو كان المريض يزيد حسنا
كما تزداد أنت على السَّقام
لَمَا عِيدَ المريض إذًا وعُدَّتْ
شكايته من النِّعَمِ الجِسَام

والثاني من قول رؤبة:

مَسْلَمَ٩ لا أنساك ما حَيِيتُ
لو أشرَبُ السُّلْوَانَ ما سَليتُ
ما لي غنًى عنك ولو غَنِيتُ١٠

فقال: والله ما سمعت بهذا. فقلت: إذا كان الأمر على هذا، فاعذر المتنبي على مثله، ولا تبادر إلى الحَطِّ عليه، ولا المؤاخذة له؛ والمعاني يستدعي بعضها بعضا». انتهى.

ولا بد لنا قبل ختم هذا الباب من ذكر نوع يعده كثيرون من السرقة وليس منها، كقول الطغرائي:

وذي شَطَاط كصدر الرمح معتقل
بمثله غير هَيَّابٍ ولا وَكِل

وقول الحريري في مقامته الرابعة والأربعين من قصيدة بائية:

وذا شَطاط كصدر الرمح معتقل
صادفته بمنًى يشكو من الحَدَب
قال الصفدي: «ومثل هذا لا يعد سرقة؛ لأن المعنى ليس ببديع، ولا لفظه بفظيع،١١ ولا الطغرائي بعاجز عن الإتيان بمثله، بل جرى على لسانه، ونسي أن هذا لِغَيْرِه، لعدم الاحتفال بأمره إذ هو ليس بأمر كبير. وهذا كثير الوقوع للناس، لا يكاد يسلم الفحول منه». انتهى كلامه.

وقال التنوخي في زهر الربيع: «ومما يعد سرقة وليس بها، اشتراك اللفظ المتعارف، كقول عنترة:

وخيل قد دلفتُ لها بخيل
عليها الأسد تهتصر اهتصارا

وقالت الخنساء:

وخيلٍ قد دلفت لها بخيل
فدارت بين كبشيها رحاها»

انتهى.

قلت: وتحقيق المقام أن الكلام المأخوذ يشترط فيه ألا يكون ذا معنى كبير أو لفظ بالغ حدًّا ما من الرشاقة، فإذا أدمجه الشاعر في بيته جاء به غير مقصود لذاته، بل يجعله كالتوطئة لمعنى آخر مقصود له، يبني البيت عليه. ويظهر لك ذلك فيما استشهد به الصفدي والتنوخي، وهو كثير في شعر العرب والمُحْدَثينَ، وقد وقفت منه على جملة صالحة، لو جمعت لجاءت رسالة لطيفة، كقول الراعي النُّمَيْرِي:

فتى يشتري حسن الثناء بماله
إذا ما اشترى المخزاة بالمجد بيهس

وهو مثل قول الأُبَيْرد:

فتى يشتري حسن الثناء بماله
إذا السنة الشهباء١٢ أعوزها القَطْر

وتبعها أبو نواس، فقال:

فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور

وقول دريد بن الصِّمَّة:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

وهو مثل قول المتلمس:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
ولا أمر للمعْصِيِّ إلَّا مُضَيّعُ

وفي هذا القدر كفاية. والكلام في السرقات الشعرية وأنواعها، واستيعاب ما قيل فيها، لا يتسع له مثل هذا المختصر؛ فإذا مَنَّ الله بتوفيقه، وكان في العمر مُهلة، وضعنا فيها رسالة تستقل بجمع شتاتها، وتفصيل ما أجمل منها.

ومن غريب ما وقفت عليه من ملاحظاتهم، ما رواه عليُّ بن العباس النوبختي، قال: قال لي البحتري: أتدري من أين أخذ الحسن١٣ قوله:
ولم أدري مَنْ هم غير ما شهدت به
بشرقيَّ ساباط الديار البسابس

فقلت: لا، فقال: من قول أبي خراش:

ولم أدر مَنْ ألقى عليه رداءهُ
ولكنه قد سُلَّ عن ماجدٍ مَحْضِ

فقلت: المعنى يختلف. فقال: إنا نرى حذو الكلام واحدًا وإن اختلف المعنى. انتهى.

قلت: إذا كان مراد البحتري مجرد البيان، فقد لاحظ ملاحظة دقيقة، وإذا كان قصده الحط من أبي نواس والنعي عليه، فقد — لعمري — ركب متن عشواء، وتخبط في ظلماء؛ فإن احتذاء كلام العرب مطلوب في البلاغة، وما حث العلماء على إكثار النظر في أشعارها واستظهارها إلا توصلًا إلى ذلك. ولولا محاولته ما صبرنا على الغدائر المستشزرات، والقنو المتعثكل؛ بل لو لم يصقل البحتري شعره بتلك المَسْحة العربية، ما كانت له الديباجة الغريبة التي انفرد بها بين معاصريه، وبَذَّ بها أهل طبقته. والله أعلم.

هوامش

(١) الأيد: القوة.
(٢) النُّطفة، بالضم: الماء الصافي قل أو كثر.
(٣) الأقراب: جمع قرب بالضم أو بضمتين، وهو الخاصرة. وشطب: جبل معروف.
(٤) الأفياف: جمع فيف، وهي البرية الواسعة.
(٥) ضني كرضي، فهو ضني وضن: مرض.
(٦) الرنق والرنِق: الكدر.
(٧) الحراقة: سفينة فيها مرامي نيران، يرمى بها العدو.
(٨) ابن القارح هذا هو الذي أرسل برسالته المشهورة لأبي العلاء المعري، فأجابه عليها برسالة الغفران.
(٩) يخاطب مسلمة بن عبد الملك.
(١٠) رواية ديوان رؤبة: «ما بي غنى عنك وإن غنيت».
(١١) أي: عظيم.
(١٢) السنة الشهباء: الكثيرة الثلج الجدبة، والشهباء أمثل من البيضاء، والحمراء أشد من البيضاء. وسنة غبراء: لا مطر فيها.
(١٣) الحسن هو أبو نواس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤