فصل في اختلافهم فيه

لم يختلف الناس في رجل اختلافهم في أبي العلاء، ولا تراوحوا بشخص بين الكفر والإيمان تراوحهم به. فلا غروَ إذا قضى مثل هذا التناقض على الباحث في أمره ألا يتلقى كل ما قيل عنه بالقبول، وأن يجنح إلى مقارنة ما نطق به بما نقل عنه؛ توصلًا إلى حكم بات فيه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر.

وقد تأملت المختلفين فيه، فوجدتهم على ثلاثة أقسام:

فريق متزندقون، يُكفِّرونَه ويحبونه لكفره، ومنهم متفرنجة هذا العصر؛ أو مؤمنون يبغضونه لذلك.

وفريق يذهبون إلى صحة إيمانه، وربما تغالوا فألحقوه بالأولياء الواصلين، ورَوَوْا له الكرامات.

وآخرون متحيرون أمسكوا عنه، ووكلوا أمره لخالقه.

وأنا بادئ بذكر أقوالهم فيه، ثم معقبها بما ثبت من أقواله، مقسمة إلى فصول، كما فعلت بأخباره، فأقول:

ذكر غير واحد أنه كان متهمًا في دينه، وأنه اجتاز باللاذقية ونزل ديرًا كان به راهب له علم بأقاويل الفلاسفة، فسمع كلامه، فحصل له بذلك شكوك. واستدلوا أيضًا على إلحاده بتجافيه عن أكل الحيوان خمسًا وأربعين سنة، قالوا: وهذا من اعتقاد الحكماء المتقدمين؛ لأنهم يرون في ذبح الحيوان تعذيبًا له. وسيأتي الكلام على ذلك في فصل مستقل. ونقلوا عن تلميذه أبي زكريا التبريزي أنه قال: قال لي المعري مرة: ما الذي تعتقد؟ فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده. فقلت له: ما أنا إلا شاكٌّ. فقال: وهكذا شيخك. وقال في حقه الباخرزي في دُمْيَة القصر: «ضرير ما له في أنواع الأدب ضريب، ومكفوف في قميص الفضل ملفوف، ومحجوب خصمه الألد محجوج. وقد طال في ظلال الإسلام أناؤه، ولكن ربما يترشح بالإلحاد إناؤه؛ وعندنا خبر بصره، والله أعلم ببصيرته، والمطلع على سريرته؛ وإنما تحدثت الألسن بإساءته، ككتابه الذي زعموا أنه عارض به القرآن، وعنونه بالفصول والغايات، ومحاذاة السور والآيات، وأظهر من نفسه تلك الخيانة، وجذَّ تلك الهوسات كما يُجَذ العَيْرُ الصليانة، حتى قال فيه القاضي أبو جعفر قصيدة أولها:

كلب عوى بمعرة النعمان
لما خلا عن ربقة الإيمان
أمعرة النعمان ما أنجبت إذ
أخرجت منك معرة العميان

انتهى.

وممن حكم بزندقته شمس الدين الذهبي، وأطال في ترجمته، وذكر له فيها قبائح. قال الصفدي: وأظن الحافظ السِّلَفِيَّ قال إنه تاب وأناب. وتحامل عليه أبو الفداء في تاريخه، وغض منه كثيرًا؛ حتى اضطر ابن الوردي للرد عليه. وفي الكوكب الثاقب أن القاضي المنازي دخل عليه فذكر ما يسمعه من الطعن فيه، ثم قال: ما لي وللناس، وقد تركت لهم دنياهم، فقال المنازي: وأخراهم أيضًا، فقال: يا قاضي! وأخراهم أيضًا. وجعل يكررها. وفي هذه الرواية تحامل من المؤلف؛ فقد رواها ابن خلكان في ترجمة المنازي على أنه قال له: والآخرة أيضًا، وجعل يكررها، ويتألم لذلك، وأطرق، فلم يكلمه إلى أن قام.

ونقل ياقوت عن رسالة الغفران أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أجلى أهل الذمة عن جزيرة العرب شق ذلك على الجالين، فيقال: إن رجلًا من يهود خيبر، يعرف بسمير بن أدكن، قال في ذلك:

يصول أبو حفص علينا بدِرَّةٍ
رُوَيْدَكَ؛ إن المرء يطفو ويرسب
كأنك لم تتبع حَمُولة مأقط
لتشبع؛ إن الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقًا ما ظهرتُمُ
علينا؛ ولكن دولةٌ ثم تذهب
ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا
لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا
وبغيتكم في أن تسودوا وتُرْهَبُوا

ثم قال ياقوت: وهذا يشبه أن يكون شعره، قد نحله هذا اليهودي، أو أن إيراده لمثل هذا، واستلذاذه به؛ من أمارات سوء عقيدته، وقبح مذهبه. انتهى.

والعجب من ياقوت، كيف يزعم هذا الزعم، ومن أين أتى له أن هذه الأبيات من شعره، أو أنه أوردها استلذاذًا بها، وهو إنما جاء بها في أثناء كلامه على الزنادقة وتقبيح أعمالهم. وأحْرِ أن يكون إيراده لها في عرض إنكاره عليهم، من أبين الأدلة على حسن عقيدته. وليست رسالة الغفران ببعيدة على من يريد تحقيق ذلك.

وسئل فتح الدين بن سيد الناس: ما كان رأي الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فيه؟ فقال: كان يقول: هو في حيرة، فقال الصفدي: وهذا أحسن ما يقال في أمره؛ لأن في كلامه تناقضًا كثيرًا. وإلى الله ترجع الأمور.

هذا ما وقفت عليه من كلامهم في سوء عقيدته، إلا قليلًا منه سيرد عليك فيما يأتي من الفصول.

ونقلوا عن رسالة ابن العديم أنه قال: إني اعتبرت من ذم أبي العلاء ومن مدحه، فوجدت كل من ذمه لم يره ولا صحبه، ووجدت كل من لقيه هو المادح له.

وقال ابن الوردي بعد ما أورد مراسلاته مع القاضي أبي الطيب الطبري التي مر ذكرها في أخباره: «وشهادة أبي الطيب في الشيخ مقدمة على شهادة الغير، وحسن الظن خصوصًا بالعلماء قد دل عليه القرآن والحديث، وهو لا يأتي إلا بخير. وكان شيخنا عبس حسن العقيدة؛ واعتراف الطبري له ومدحه يكفيه.

شهادة الطبريِّ الحَبْرِ كافيةٌ
أبا العلاء فقل ما شئت أو فذَرِ
من أغمد السيف عنه كان في دعة
ومَنْ نَضى السيفَ قابلناه بالطَّبرِ»

انتهى كلامه. وقوله: قابلناه بالطبر فيه تورية، والطَّبَرُ هو الطبرزين، معرب، ومعناه: فأس السرح؛ لأن فرسان العجم كانت تحمله معها تقاتل به، ويقال له عندهم التَّبَر. كذا ذكر المُحِبِّي في «قصد السبيل؛ فيما في اللغة العربية من الدخيل».

ونقلوا أيضًا عن رسالة ابن العديم المذكورة أنه قال: قرأت بخط أبي اليسر شاكر المعري في ذكره، وكان رضي الله عنه يرمى من أهل الحسد له بالتعطيل، ويعمل تلاميذه وغيرهم على لسانه الأشعار، يضمنونها أقاويل الملحدة؛ قصدًا لإهلاكه، وإيثارًا لإتلاف نفسه، فقال رضي الله عنه:

حاول إهوانيَ قوم فما
واجهتهم إلا بإهوان
وحرشوني بسعاياتهم
فغيَّروا نية إخواني
لو استطاعوا لوشوا بي إلى المـ
ـريخ في الشهب وكيوان

وقال أيضًا:

غريت بدمي أُمةٌ
وبحمد خالقها غريت
وعبدت ربي ما استطعـ
ـت ومن بريته بريت
وفرتني الجهَّال حا
سـدة عليَّ وما فريت
سعروا عليَّ فلم أحـ
ـسَّ وعندهم أني هريت

قال الصفدي: «أما الموضوع على لسانه، فلعله لا يخفى على من له لب. وأما الأشياء التي دوَّنها، وقال بها في لزوم ما لا يلزم، وفي استغفر واستغفري، فما فيه حيلة. وهو كثير، فيه ما فيه من القول بالتعطيل والاستخفاف بالنبوات. ويحتمل أنه ارعوى وتاب بعد ذلك كله. وحُكِيَ لي عن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني أنه قال في حقِّه: هو جوهرة جاءت إلى الوجود وذهبت». انتهى كلام الصفدي. قلت: أما استغفر واستغفري فلم أقف عليه؛ فإن كان ما فيه يشبه ما في لزوم ما لا يلزم، فسيرد عليه ما يزيل الشك فيه.

وقال ابن الوردي في تاريخه: «وأنا كنت أتعصب له لكونه من المعرة، ثم وقفت له على كتاب استغفر واستغفري فأبغضته، وازددت عنه نفرة، ونظرت له في كتاب لزوم ما لا يلزم، فرأيت التَّبَري منه أحزم؛ فإن هذين الكتابين يدلان على أنه كان لما نظمهما عالمًا حائرًا، ومذبذبًا نافرًا، يقرُّ فيهما أن الحق قد خفي عليه، ويود لو ظفر باليقين فأخذه بكلتا يديه؛ كما قال في مرثية أبيه:

طلبت يقينًا من جهينة عنهم
ولم تخبريني يا جهين سوى الظن
فإن تعهديني لا أزال مسائلا
فإني لم أعط الصحيح فأستغني

ثم وقفت له على كتاب «ضوء السقط» الذي أملاه على الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله الأصبهاني، الذي لازم الشيخ إلى أن مات، ثم أقام بحلب، يروي عنه كتبه، فكان هذا الكتاب عندي مصلحًا لفساده، موضحًا لرجوعه إلى الحق وصحة اعتقاده؛ فإنه كتاب يحكم بصحة إسلامه مؤلا، ويتلو لمن وقف عليه بعد كتبه المتقدمة «وللآخرة خير لك من الأولى»؛ فلقد ضمن هذا الكتاب ما يثلج الصدر، ويلذ السمع، ويقر العين، ويسر القلب، ويطلق اليد، ويثبت القدم؛ من تعظيم رسول الله خير بريته، والتقرب إلى الله بمدائح الأشراف من ذريته، وتبجيل الصحابة، والرضا عنهم، والأدب عند ذكر ما يتلقى منهم، وإيراد محاسن من التفسير، والإقرار بالبعث والإشفاق من اليوم العسير، وتضليل من أنكر المعاد، والترغيب في أذكار الله والأوراد، والخضوع للشريعة المحمدية وتعظيمها. وهو خاتمة كتبه، والأعمال بخواتيمها. وقد يعذر مَن ذمه، واستحل شتمه، فإنه عوَّل على مبادئ أمره، وأوسط شعره؛ ويعذر مَنْ أحبه، وحرَّم سبَّه، فإنه اطلع على صلاح سره، وما صار إليه في آخر عمره؛ من الإنابة التي كان أهلها، والتوبة التي تَجُبُّ ما قبلها. وكان يقول رحمه الله: أنا شيخ مكذوب عليه». انتهى كلامه بنصه.

قلت: وليس في لزوم ما لا يلزم ما يصل بالإنسان إلى حد التبري منه، كما ذكر الشيخ، والبيتان اللذان رواهما من مرثية أبيه لا يدلان على ما ذهب إليه، وإنما مراده أن علم الغيب محجوب عنه، فلا يدري عن أبيه: أهو في شقاء أم نعيم، وهما مثل قوله من هذه القصيدة:

جَهِلْنَا فلم نَعلم على الحرص ما الذي
يُراد بنا والعلم لله ذي المَنِّ

قال شارحه أبو يعقوب النحوي: «وهذا على معنى أن أمر السعادة والشقاوة مطوي عن العباد، وأن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى، وهي مستورة. ولهذا كره السلف أن يقول القائل: أنا مؤمن حقًّا، بل أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ لا على معنى الشك في الإيمان والاعتقاد، بل على معنى الخوف من سوء العاقبة، وخفاء علم الله تعالى في ذلك، وانطواء أمر الخاتمة». انتهى.

وذكر ابن الوردي في تاريخه أيضًا: أن حساده أغروا به وزير حلب، فجهز لإحضاره خمسين فارسًا ليقتله، فأنزلهم أبو العلاء في مجلس له بالمعرة، فاجتمع بنو عمه إليه، وتألَّموا لذلك، فقال: إن لي ربًّا يمنعني، ثم قال كلامًا منه ما لا يفهم، وقال: الضيوف، الضيوف! الوزير، الوزير! فوقع المجلس على الخمسين فارسًا فماتوا، ووقع الحمام على الوزير بحلب فمات؛ فمن الناس من زعم أنه قتلهم بدعائه وتهجده. ومنهم من زعم أنه قتلهم بسحره ورصده. وهذه القصة رواها صاحب الكوكب الثاقب بزيادة تفصيل، فذكر عن الغزالي أنه قال: حدثني يوسف بن علي بأرض الهركار، قال: دخلت معرة النعمان، وقد وشى وزير محمود بن صالح صاحب حلب إليه بأن المعري زنديق لا يرى إفساد الصور، ويزعم أن الرسالة تحصل بصفاء العقل، فأمر محمود بحمله إليه من المعرة، وبعث خمسين فارسًا ليحملوه، فأنزلهم أبو العلاء دار الضيافة، فدخل عليه عمه مسلم بن سليمان، وقال: يا ابن أخي قد نزلت بنا هذه الحادثة، والملك محمود يطلبك، فإن منعناك عجزنا، وإن أسلمناك كان عارًا علينا عند ذوي الذمام، ويَرْكَبُ تَنُوخَ الذلُّ والعار. فقال: هوِّن عليك يا عم، ولا بأس عليك؛ فلي سلطان يذب عني. ثم قام فاغتسل وصلى إلى نصف الليل، ثم قال لغلامه: انظر إلى المريخ أين هو؟ فقال: في منزلة كذا وكذا. فقال: زنه واضرب تحته وتدًا، وشد في رجلي خيطًا، واربطه إلى الوتد. ففعل غلامه ذلك، فسمعناه وهو يقول: يا قديم الأزل، يا علة العلل، يا صانع المخلوقات، وموجِد الموجودات؛ أنا في عزك الذي لا يرام، وكنفك الذي لا يضام، الضيوف الضيوف، الوزير الوزير! ثم ذكر كلمات لا تفهم، وإذا بهدة عظيمة. فسأل عنها، فقيل: وقعت الدار على الضيوف الذين كانوا بها، فقتلت الخمسين. وعند طلوع الشمس وقعت بطاقة من حلب على جناح طائر: لا تزعجوا الشيخ، فقد وقع الحمام على الوزير. قال يوسف بن عليٍّ: فلما شاهدت ذلك، دخلت على المعرِّي، فقال: من أين أتيت؟ فقلت: من أرض الهركار، فقال: زعموا أنني زنديق، ثم قال: اكتب. وأملى عليَّ أبياتًا من قصيدة أولها:

أستغفر الله في أمني وأوجالي
من غفلتي وتوالي سوء أعمالي

ثم ساق صاحب الكوكب الثاقب سبعة أبيات من هذه القصيدة. وسأوردها بتمامها عند الكلام على منظومه؛ فإنها من شعره المفقود. وهذه القصة رواها غير واحد، فلم يذكروا رصده للمريخ كما هنا، وهو الأشبه بمذهب أبي العلاء؛ فإن من يقف على كلامه في المنجمين وتقبيح أعمالهم، يحكم بأن هذا من الموضوع عليه. والله أعلم.

والخلاصة أن الذي ظهر لي من مطالعة مؤلفاته، أنه لم يكن ملحدًا كما يزعمون، بل كان مؤمنًا بالله وكتبه ورسله، وإنما كانت تقع له بعض الأحيان أحوال يضيق بها صدره، فينفث نفثات يوهم ظاهرها، وكان الأولى به تركها. وهي مهما بلغت من الشناعة والبشاعة لا تصل إلى الكفر والإلحاد، بل فيها ما إذا قارنته بما قاله في ضده لظهر لك جليًّا أنه لم يرد ما سبق إلى ذهنك فيه من أول وَهْلة: كإنحائه تارة على الديانات، ومدحه لها تارة أخرى؛ فإنك لو قابلت بين القولين بإمعان، لأقنعت بأنه لم يرد بالذم الديانات نفسها، بل أراد منتحليها المتاجرين بها، وكثير ما هم في كل زمن.

وإنما أُتِيَ الرجل من جهة حسدته وشانئيه، وولوع جماعة منهم بتقويله ما لم يقل، وإشهاره بما كانوا ينظمونه على لسانه من أقوال المعطلة والزنادقة؛ حتى صارت الأذهان لكثرة ما وقر فيها من ذلك، إذا ألقي إليها شيء من شعره فيه إيهام، انصرفت إلى إساءة الظن به. وسيرد عليك من أقوال ما وافق أقوال مشهوري المتصوفة، وكبار الزهاد، حذْوَ القُذَّة بالقُذَّة. إلا أنها كتبت لهم، وكتبت عليه، ولله في خلقه شؤون. ولهذا اقتصرت في فصول معتقده على ما أثبته في مؤلفاته دون ما رُوي عنه غير معزوٍّ لشيء منها، وغالبه سخافات يتنزه شعر أبي العلاء عنها، ولا يخفى وضعها على ذي لُبٍّ، كما قال الصفدي. كنسبتهم إليه قول القائل:

إذا ما ذكرنا آدمًا وفعاله
وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر
وأن جميع الناس من عنصر الزنا

وهذا كلام لا يصدر إلا من معتوه فَقَدَ رشده، وحاشا لأبي العلاء أن يكونه. ولا يخلو قائله من أحد أمرين: إما أن يكون مقرًّا بالشرائع، عالمًا بأن زواج الأخ بأخته لم يكن محرمًا في شريعة سيدنا آدم ، فيكون قوله هذا ضربًا من الهذيان والهوس. وإما أن يكون منكرًا لها، فيكون ذكره الزنا لا معنى له، فإن معرفة الحلال والحرام لا تتأتى إلا من الشرائع. فضلًا عما في البيتين من بذاءة وقلة أدب تنبو عنهما نفس أبي العلاء. ولست منكرًا أنه ذكر سيدنا آدم عليه السلام في لزوم ما لا يلزم بما كنت أحب له عدم ذكره، إلا أنه لا يبلغ في شناعته إلى هذا الحد؛ وغاية ما فيه لومه عليه السلام على أكله من الشجرة، وتسببه في أذى ذريته في الدنيا بخروجه من الجنة. وسيأتي الكلام على ذلك في فصل مستقل. وقد رد على هذين البيتين القاضي أبو محمد الحسن بن أبي عقامة اليمني بقوله:

لعمرك أمَّا فيك فالقول صادق
وتكذب في الباقين مَنْ شَطَّ أو دنا
كذلك إقرار الفتى لازم له
وفي غيره لغو كذا جاء شرعنا
وليت القاضي تَثبَّت من نسبة البيتين قبل تكلفه الرد بهذا الشعر الركيك. ونسبوا إليه أشياء أخرى من هذا القبيل أضربْتُ عن ذكرها تفاديًا عن الاشتغال بالعبث، إلا أن ألمَّ ببعضها إلمامًا فيما يأتي من الفصول لمناسبة. كما أني لم أتعرض لما أخذ عليه في سقط الزند؛ لأنه لا يخرج عن كونه من الغلو الواقع لكثير من الشعراء، وقد كفانا مؤونة البحث فيه بقوله في خطبته:

وما وجد لي من غلو علق في الظاهر بآدمي، وكان مما يحتمله صفات الله عز سلطانه، فهو مصروف إليه، وما صلح لمخلوق سلف من قبل أو غبر أو لم يخلق بعد، فإنه ملحق به، وما كان محضًا في الميْن لا جهة له، فأستقيل الله العثرة فيه.

وقد أورد شارحه في التنوير بعض أبيات من ذلك في شرح الخطبة. ومما لم يذكره قوله، وهو عندي أشنع ما في سقط الزند:

باهت بمهْرَةَ عدنانًا فقلت لها
لولا الفُصَيْصِيُّ كان المجد في مضر

فهذا ولا ريب من محض المَيْن الذي لا جهة له، وقد استقال الله العثرة فيه، والله يغفر لمن يشاء. وما عداه ليس فيه شيء سوى الغلو المفرط. على أنه لم يأت به إلا في أبيات معدودة لا تتجاوز العشرة، ولكن القليل من هذا كثير. وعندي أن لا وجه لاغتفاره لقائله، وفي غيره من الكلام مندوحة عنه. ولعله سرى لأبي العلاء من أبي الطيب المتنبي؛ فقد كان ولوعًا بهذا النوع. ومنه قوله:

لو كان ذو القرنين أعمل رأيه
لما أتى الظلمات صرن شموسًا
أو كان صادف رأس عازر سيفُه
في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه
ما انشق حتى جاز فيه موسى

سامح الله أبا الطيب، ما كان أغناه عن هذا الغلو الممقوت، مع قدرته على نظم ما هو أوقع في النفوس، وأخف على الأسماع؛ وأقبح منه قبول ممدوحه له، وإجازته عليه. ولا أدري ما كان عذر المعز في قبوله قول ابن هانئ:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار

اللهم إلا أن يكون ما نقل عن القوم من دعوى الألوهية في الباطن صحيحًا.

وما في سقط الزند دون هذين القولين بمراحل.

وقد رأيت أبا العلاء شدد النكير على ابن هانئ وأضرابه في رسالة الغفران، واستقبح منهم مثل هذا الغلو، فلعله رجع عنه.

وقد عقد الثعالبي فصلًا في يتيمته لما أخذ على أبي الطيب، جاء فيه بأشياء ممجوجة. ومع هذا فلم يلهجوا بإكفاره كما فعلوا مع أبي العلاء؛ وذلك لما وقر في النفوس من شهرته بالزندقة، كما ذكرت آنفًا، حتى كادوا يلصقون به كل شعر من هذا القبيل. وقد رأيت بعضهم يروي له قول المتنبي:

أغايةُ الدِّين أن تُحْفُوا شواربكم
يا أُمَّةً ضحكت من جهلها الأممُ

هذا وديوان أبي الطيب مشهور متداوَل في الأيدي، فما ظنك بغير المشهور؟ وكذلك أبو نواس لما كان مشهورًا بالإجادة في وصف الخمر، نسبوا إليه فيها ما لم يقله، فكثر المنحول في شعره. ونقل عن بعض العلماء أنه كان يقول: أوشك هؤلاء الرواة أن ينسبوا للمجنون كل شعر فيه ليلى. وقوله هذا ينبغي للأديب أن يتنبه له، فلا يقدم على نسبة قول لقائل بسبب اسم اشتهر به، ولهج بذكره، في شعره؛ فقد كان للشعراء أسماء شائعة بينهم خفت على ألسنتهم، وحلَّت في أفواههم، فكانوا كثيرًا ما يأتون بها زورًا، نحو: ليلى، وهند، وسلمى، ودعد، ولبنى، وعفراء، وأروى، وريَّا، وفاطمة، ومية، وعلوة، وعائشة، والرباب، وجُمل، وزينب، وأشباههن. ذكر ذلك ابن رشيق، ثم قال: وأما عزة وبثينة فقد حماهما كثيِّر وجميل، حتى كأنما حرمتا على الشعراء. انتهى.

وكما اشتهر بعض الشعراء بأسماء، اشتهر غيرهم بفنون وأنواع غلبت عليهم، وسهلت على نفوسهم، فأجادوا القول فيها؛ كأبي نواس في الخمر، والبحتري في الطيف، وابن المعتز في التشبيهات، وديك الجن في المراثي، وأبي الطيب في الأمثال والحكم، وابن الرومي في الهجاء. بل رأيت بعض شعراء غلبت عليهم ألفاظ استعملوها كثيرًا، كأم دَفر عند المعري، وابن ودِّي عند الأمير محمود سامي باشا البارودي. ومن تتبع شعر كل شاعر، ربما لا يعدم أمثالها فيه.

فيكون اقتصارنا على ما أثبته أبو العلاء في مؤلفاته، أدعى إلى الإنصاف، وأبعد عن الاعتساف.

•••

واعلم — أرشدك الله — أني لم أنتصر له في بعض المواضع جنوحًا إلى عصبية، أو استرسالًا مع هوًى. ولكني وقفت في الكثير من أقواله على اعتقاد صحيح، وإيمان ثابت لا يخالطه شك. فكان تأويل ما عداها بما يحتمله اللفظ، أولى من التسرع إلى إكفار مؤمن، والحكم عليه بالزندقة، خصوصًا وأن ما يدل على إيمانه صريح في لفظه، والذي يوهم محتمل لوجهين، فحَمْلُه على ما يوافق الصريح من أحد وجهيه أحق وأصوب. فإذا رأيت شيئًا من ذلك فلا تتسرع في الإنكار عليَّ، بل عليك بتحسين الظن، ومراجعة النظر، تجد ما قلته غير بعيد. وحسبك ما أثاروه على الإمام أبي حامد الغزالي في قوله: ليس في الإمكان أبدع مما كان، حتى وضعوا فيه المؤلفات، وشغلوا الناس بالترهات. ولا شك أنه لم يُرد بقوله هذا ما ذهبوا إليه وتأولوه. وأي مسلم يخالجه ريب في عقيدة هذا الإمام، وهو حجة الإسلام؟

ولله درُّ أبي العلاء حيث يقول:

جِوَارُكَ هذا العالَمَ اليوم نكبةٌ
عليك وليس البينَ عنه مُيَسَّرا
سيَعْلَمُ ذاك المُدَّعِي صحة الهُدَى
متى كان حقٌّ أيُّنا كان أخسرَا

ويقول:

لحي اللهُ قومًا إذا جئتهم
بصدق الأحاديث قالوا كَفَرْ

ويقول:

أما في الأرض من رجلٍ لبيبٍ
فيفرق بين إيمان وكفر

وقال أيضًا:

لا تقيد لفظي عليَّ فإني
مثل غيري تكلُّمي بالمجاز

ومثله قوله:

وليس على الحقائق كلُّ قولي
ولكن فيه أصناف المجاز

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤