فصل في ثروته وزهده

قد علمتَ مما تقدم أن أبا العلاء كان من بيت ثراء وغنًى، والمتبادر في مثله أن يكون مثريًا كأهله، ولكنك لو تتبعتَ بقية أخباره، وأنعمتَ النظر في أقواله عن نفسه، سواء كانت نثرًا أو شعرًا، ظهر لك أنه كان على العكس من ذلك. وحسبكَ تصريحه في إحدى رسائله إلى داعي الدعاة، بأن الذي له في السَّنة نيف وعشرون دينارًا يشاركه خادمه في معظمها. وسيمر بك في هذا الفصل شيء من أشعاره المنبِئة عن إملاقه وحاجته. والحقيقة المزيلة لِلَّبس أنه كان على شيء من الثروة نكب فيه قبل قفوله من بغداد، فعاش بعد ذلك في كفاف، بدليل قوله:

أثراني عنكم أمران: والدةٌ
لم ألقها وثراءٌ عاد مسفوتَا١
أحياهما الله عصر البين ثم قضى
قبل الإياب إلى الذُّخْرين أنْ مُوتَا

يعني: أحيا الله والدتي ومالي وأنا بعيد عنهما، فلما أزمعتُ الإياب قضى على الوالدة بالموت، وعلى المال بالضياع.

على أنه كان على فقره قَنوعًا عيوفًا كبير النفس، يضرب في علو الهمة بسهم وافر، لم يسمع أنه استماح أحدًا، أو مدح طمعًا في نوال، ومن قوله في خطبة سقط الزند: «ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحتُ طلبًا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة، وامتحان السُّوس،٢ فالحمد لله الذي ستر بغُفَّةٍ٣ من قَوَام العيش، ورزق شعبة من القناعة أوفت على جزيل الوفر. ومن غرر أقواله في ذلك:
وإني تيممت العراق لغير ما
تيممه غَيْلان عند بلال
فأصبحت محسودًا بفضلي وحده
على بعد أنصاري وقلة مالي

غَيْلَان هو ذو الرُّمَّة، كان قصد بلال بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعري مستميحًا، وفيه يقول:

سمعتُ: الناسُ ينتجعون غيثا
فقلت لصَيْدَحَ: انتجعي بلالا

وصَيْدَح اسم ناقته، والرواية في الناس بالرفع على الحكاية؛ لأنه سمع من يقول: الناسُ ينتجعون غيثًا، فحكى ما سمع. جزم بذلك المبرد، وعدَّ الحريري النصبَ من الأوهام، وذهب غيرهما إلى أنه يجوز.

وقال أبو العلاء يصف حاله ببغداد:

تمنيت أن الخمر حلَّت لنشوة
تُجهِّلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق على شَفَى
رزيّ الأماني لا أنيس ولا مال
مُقلّ من الأهلَيْنِ يُسْرٍ وأُسْرةٍ
كفى حَزَنًا بَيْنٌ مُشِتٌّ وإقلال
وكم ماجد في سِيفِ دجلة لم أشِمْ
له بارقا والمرء كالمزن هطَّال٤
من الغرِّ تَرَّاكُ الهواجر مُعرِضٌ
عن الجهل قذَّاف الجواهر مفْضَال
سيطلبني رزقي الذي لو طلبته
لما زاد، والدنيا حظوظ وإقبال

وقال أيضًا:

رحلتُ لم آتِ قِرْوَاشًا أُزَاوِله
ولا المهذّبَ أبغي النَّيْلَ تقويتا
والموت أحسن بالنفس التي ألفتْ
عِزَّ القناعة عن أنْ تسأل القوتَا

قِرواش كان واليًا ببغداد، والمهذب وزيره. وروي أن المستنصر الفاطمي خليفة مصر بذل له ما في بيت مال المعرة من الحلال، فلم يقبل منه شيئًا، وقال:

لا أطلب الأرزاق والمَوْ
لـى يفيض عليَّ رزقي
إن أُعْطَ بعض القوت أعـ
ـلم أن ذلك فوق حَقِّي

ويعجبني قوله في لزوم ما لا يلزم:

وكأنما الدنيا كعاب أيُّنَا
رَجَّى لها صِلَة فذاك يَسارُ
وإذا الفتى لحظ الزمان بعينه
هان الشقاء عليه والإعسار

وقوله:

نوائب ألقت في النفوس جرائحا
عصى كل آسٍ في البرية سَبْرُها
لِيَ القوت فلْيَغْمر سَرَنْدِيبَ حَظُّها
من الدُّرِّ أو يَكْثرْ بغانَةَ تِبْرُها
سَرَنْدِيب: جزيرة قرب الهند، فيها مغواص لِلُّؤلؤ، وتسمى اليوم سيلان. وغانة: مدينة كبيرة في جنوبي بلاد المغرب، هي مدخل بلاد التِّبْر كما في ياقوت، وتطلق اليوم على أرض واسعة في غربي قارة إفريقية، تقاسمها الإفرنج بينهم، واسمها في لغتهم (Guinée) جينا بالإمالة، أو: غينا، والأصل فيه غَانة؛ كما قدمنا، والرجوع إليه أولى. ويطلق الإفرنج هذا الاسم أيضًا على أول دينار إنجليزي ضُرب من الذَّهب المستخرَج من هذه الجهة، وأبطل الإنجليز التعاملَ به من سنة ١٨١٧ ميلادية، واستعاضوا عنه بدينارهم المسمَّى (Souverain) سوڨران، ومن هذا تعرف سبب تسمية المصريين كل دينار بالجنيه، وكان الصواب أن يسموه بالغاني، إن أرادوا النسبة إلى تلك الجهة، وإلا فالرجوع إلى الدينار أولى.

وكان شأن أبي العلاء في الزهد والتقشف والإعراض عن الدنيا شأنًا عجبًا، ولا يذهبن بك الظن فتتوهم أن للفقر مدخلًا في زهده، فإن من تُبذَلُ له الخزائن، وتُعرَض عليه الصلات، لا تستعصي عليه غاية من الغايات، ولكنه نظر إلى هذا المتاع الزائل نَظَرَ مَنْ لم يُلهه زخرفه عن استطلاع حقيقته، فصدَّ عنه وزهد فيه جملةً، وأخذ نفسه بالرياضة والخشونة، والإعراض عن العرض الفاني؛ فكان لباسه القطن، وفراشه اللِّبْد، وحصيره بُرْدَيْهِ، وطعامه الفول والعَدَس، وحلاوته التين، وفيه يقول:

يقعنعني بُلْسُنٌ يُمارَس لي
فإن أتتني حلاوة فبَلَسْ٥
فَلُسَّ ما اخترتَ إنَّ أروح من
يسار قارون عفَّة وفَلَسْ٦

وسنورد مختار شعره في الزهد، متى وصلنا إلى الكلام على منظومه، كما أننا سنشبع القول في سبب تجافيه عن أكل الحيوان، عند الكلام على معتقده.

وكان رحمه الله، على عوزه ورِقة حاله، بذولًا لما عنده، غير مانع معروفًا عن مستحقٍّ، يتكلف في ذلك ما استطاع. بلغه مرة أن شاعرًا يلقب بصريع البَيْن ساءت به الحال، فأنفذ إليه قدرًا من الدراهم، وأتبعها لقصيدة يقول فيها:

قد استحييت منك فلا تكلنِي
إلى شيء سوى عذر جميل
وقد أنفذت ما حقي عليه
قبيح الهجو أو شتم الرسول
وذاك، على انفرادك، قوت يوم
إذا أنفقت إنفاق البخيل
فكيف وأنت عُلويُّ السجايا
فليس إلى اقتصادك من سبيل

إلى أن يقول:

فإن يك ما بعثتُ به قليلًا
فلي حال أقل من القليل

وحَدَثَ للقاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر الفقيه المالكي المشهور ضيقٌ وشدةٌ، وهو ببغداد، فلم يَرَ بُدًّا من الرحيل عنها، وخرج لتشييعه يوم فَصَل جمع من أكابرها، وطوائف كثيرة، من أهلها، وما فيهم إلا متوجِّع لفراقه، أو آسف على فوات الاستفادة من علمه، فقال لهم عند الوداع: لو وجدت بين ظَهْرانَيْكُم رغيفين كل غداة وعشيَّة ما عدلت عن بلدكم. فلم تُحرك مقالته واحدًا منهم، يتكفل له بما طلب؛ فسار عنهم قاصدًا مصر، واجتاز بمعرة النعمان، وبها يومئذ أبو العلاء، فأضافه واحتفى به، وفيه يقول:

والمالكي ابن نصر زار في سفر
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تفقه أحيا مالكًا جدَلًا
وينشرُ الملكَ الضِّلِّيل إن شعَرَا٧

ثم حباه عند رحيله بثلاثين درهمًا، وخاطبه معتذرًا بقوله:

أيبْسُطُ عذري منعم أم يخصني
بما هو حظي من أليم عتاب
قبول الهدايا سُنَّة مستحبَّة
إذا هي لم تسلك طريق تحاب
فيا ليتني أهديت خمسين حِجَّة
مضت لي فيها صحتي وشبابي
وقَلَّتْ له فاترك ثلاثين أسودًا
متى ما تُكَشَّفْ تُلْفَ غير لُبَابِ
إذا أسكت المحتجّ كلَّ مناظر
فعند ابن نصر نجدة بجواب
وما أنا إلا قطرة من سحابة
ولو أنني صَنَّفت ألفَ كتاب
وبين يديه كفر طاب وإنسُها
يعيش لفَقْدِ الماء عيش ضِباب
لعل الذي أنفذتُ يكفيه ليلة
لإسباغ طهر حان أو لشراب

يقول: لعل هذه الدراهم القليلة، وإن كانت سوداء غير خالصة الفضة، تكفي الشيخ لأن يشتري بها قليلًا من الماء لطهره أو لشرابه؛ فإنه معرج على كفر طاب، وهي قليلة الماء، وأهلها يعيشون بها عيش الضِّباب. وإنما خص الضباب بالذكر؛ لأنها تصبر على العطش. وبعض المحققين من أهل عصرنا يرى أن كفر طاب هي البلدة المسماة الآن بإدْلِب، وهي قَصبة قضاء باسمها، من لواء حلب. ولم تزل قليلة الماء. وفيها يقول أبو العلاء في لزومياته:

أرى كفر طاب أعجز الماء حفرها
وبَالِسَ أغناها الفُرَات عن الحفر٨
كذلك مجرى الرزق، وادٍ بلا ندًى
ووادٍ به فيض وآخر ذو جَفْر

ولما وصل القاضي عبد الوهاب المذكور إلى مصر، أقبلتْ عليه الدنيا، وانهالت عليه صلات الأمراء، ولكنه لم يتمتع بشيء منها، بل مات عقب وصوله من أكلة اشتهاها، وسمعوه يقول وهو يتقلب ويتململ: لا إله إلا الله، إذا عشنا متنا. وهو القائل في بغداد:

بغداد دار لأهل المال طيبة
وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها
كأنني مصحف في بيت زنديق

هوامش

(١) المسفوت: القليل البركة.
(٢) السُّوس: بالضم الطبيعة.
(٣) الغُفة، بالضم: البلغة من العيش.
(٤) السِّيف، بالكسر: الساحل.
(٥) البلسن بالضم: العدس، والبلس بالتحريك: التين.
(٦) اللس: الأكل.
(٧) الملك الضليل: امرؤ القيس.
(٨) بالس كصاحب: بلدة بشط الفرات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤