الفصل الثاني

صاحب الأنياب

نُشِرت لأول مرة في صحيفة ذا ستاندرد، يونيو ١٩٢١

قال ليون جونزاليس وهو يخلع نظارته الكبيرة ذاتَ الإطار الصَّدَفي وينظر إلى طاولة الإفطار بذلك الإمعانِ الغريب؛ إذ كانت مصدرَ البهجة الدائمة للعبقري الوسيم الذي يُدير عمليات رجال العدالة الأربعة: «القتل يا عزيزي مانفريد أكثرُ الجرائم التي تحدُث من دون تخطيطٍ مُسبق.»

قال مبتسمًا: «اعتاد بويكارت القولَ بأن القتل تعبيرٌ مادي عن الهستيريا، ولكن لماذا هذا الموضوع المُروِّع على مائدة الإفطار؟»

ارتدى جونزاليس نظارته مرةً أخرى ورجع — في ظاهره — إلى قراءة الصحيفة الصباحية. لم يتجاهل السؤالَ عمدًا، ولكن ذهنه مشغولٌ بالتفكير لدرجة أنه لم يسمع السؤال ولم يكن يقرأ الصحيفة؛ وهذا ما أدركه جورج مانفريد. وها هو يتكلم بعد بُرهة.

قال: «ثمانون في المائة من المُتَّهَمين بالقتل يَمثُلون أمام المحكمة الجنائية للمرة الأولى، ومن ثَم فالقاتل من حيث التصنيفُ ليس مجرمًا. أتحدَّث بالتأكيد عن القاتل من وجهة نظر القانون الأنجلو سكسوني؛ أما التصنيف الجنائي في القانون اللاتيني والتيوتوني، فيشمل ستِّين في المائة من القتَلة في فرنسا وإيطاليا والولايات الألمانية. إنهم شعوبٌ ساحرة يا جورج، ساحرة!»

أشرق وجهه بالحماسة، وأخذ جورج مانفريد ينظر إليه نظرةَ إعجاب؛ إذ قال له: «لم أتمكَّن من قبلُ من تكوين رأيٍ منفصل عن أولئك الرجال. إنهم مروِّعون للغاية بالنسبة لي؛ لأنه … أليس القتل أعلى درجات الظلم؟»

قال جونزاليس من دون اهتمام: «أظنُّ ذلك.»

سأل مانفريد وهو يلفُّ منديل المائدة: «ما الذي بدأ هذا الحبلَ من الأفكار؟»

أجاب الآخر بهدوء: «قابلتُ نموذجًا حقيقيًّا من القتَلة ليلة أمس؛ وطلب مني عودَ ثقابٍ وابتسم عندما أعطيتُه إيَّاه. له أسنان لا يمتلكها إلا قاتلٌ يا عزيزي جورج، باستثناء …»

«باستثناء؟»

«له أنيابٌ كبيرة وطويلة على غير المعتاد، وعينان غائرتان توحِيان بدرجةٍ كبيرة من الرزانة، وكان وجهه مُشوَّهًا، ولكن هذه السِّمة الأخيرة ليست بالضرورة أن تكون مِن سمات المجرمين.»

قال مانفريد: «في الواقع، يبدو لي كالغول.»

أسرع جونزاليس لتصحيح انطباعه، قائلًا: «على العكس، إنه حسَنُ المظهر إلى حدٍّ بعيد؛ ولا يُلاحظ أحدٌ شذوذ وجهه إلا لو أمعن النظر فيه. إنه حسَن الطَّلعة للغاية!»

شرَح ظروف اللقاء؛ حيث كان في إحدى الحفلات الموسيقية ليلةَ أمس؛ ليس لأنه يُحب الموسيقى، ولكنه رغب في دراسة أثر الموسيقى في أنواعٍ بعينها من الناس. رجع بأفكارٍ مُبهَمة عن بَرنامجه من جميع جوانبه، وجلس حتى منتصف الليل وهو يشرح ملاحظاته.

أضاف جونزاليس ببساطة: «إنه ابن الأستاذ تيبلمان، وهو ليس على وِفاق مع والده؛ إذ من الواضح أنه لا يُوافق على اختياره لخطيبته، كما أنه يكره ابن عمه.»

ضحك مانفريد عاليًا.

وقال: «إنك لشخصٌ مذهل! وهل أخبرَك بكل هذا بإرادته الحرَّة، أم نوَّمتَه مغناطيسيًّا وانتزعتَ منه هذه المعلومات؟ لم تسألني عمَّا فعلتُ ليلة أمس.»

كان جونزاليس يُشعِل سيجارة ببطء وحذَر.

وقال: «إن طوله قرابة المترَين — ولأكونَ دقيقًا، ستُّ أقدام وبوصتان — كما أنه قويُّ البِنْية وبكتفَين كتِلْك!» أمسك بالسيجارة في يدٍ وعود الثقاب المُشتعل في اليد الأخرى إشارة إلى عَرض الشاب. «إن لديه يدَين كبيرتَين وقويتَين، ويلعب كرة القدَم في فريق يونايتيد هوسبيتالز. عذرًا يا مانفريد، أين كنتَ ليلة أمس؟»

قال مانفريد: «في سكوتلاند يارد.» ولكن لو توقَّع أن يُصبح هو محورَ الحديث، فلا بدَّ أنه أُصيب بخيبة الأمل. وبما أنه يعرف صديقه ليون، فربما لم يتوقَّع أن يحدُث ما رجاه.

قال جونزاليس: «يا له من مبنًى مُثيرٍ للاهتمام. لا بدَّ أن المعماري قد أدار واجهة المبنى الغربيةَ نحو الجنوب، على الرغم من أن مداخله الخفية تتماشى مع طابَعِه. إنك لا تُواجه صعوبةً في تكوين الأصدقاء، أليس كذلك؟»

«على الإطلاق؛ فعملي مرتبطٌ بالقانون الجنائي الإسباني، ودراستي لعِلم البصمات ضمنَت لي الدخول إلى المأمور.»

عُرِف مانفريد في لندن باسم «السيد فوينتيس»، كاتب بارز في عِلم الجريمة. ولمَّا كانا عالِمَين إسبانيَّين، فكلاهما حاصلٌ على أعلى أوراق الاعتماد من وزير العدل الإسباني. أقام مانفريد لسنواتٍ عديدة في إسبانيا. أما جونزاليس، فقد كان من السكَّان الأصليين لذلك البلد. ثالث الرجال الأربعة المشهورين — الذين لم يكن عددُهم أربعةً مدةَ عشرين عامًا — هو بويكارت، الشجاع والنبيل، ولم يكن يترك حديقتَه الكبيرة في قرطبة إلا نادرًا.

أشار إليه ليون جونزاليس عندما تحدَّث.

حيث قال: «ينبغي أن تكتب لصديقنا العزيز بويكارت وتُخبره؛ فسيكون مُهتمًّا. لقد تلقَّيت خطابًا منه هذا الصباحَ. جاء بطنان جديدان من الخنازير الصغيرة لمباركة مؤسَّسته؛ وأصبحت أشجارُ البرتقال مُزهِرة في حديقته.»

ضحك في نفسه، ثم أصبح جادًّا فجأة.

«هل احتضنَك رجال الشرطة هؤلاء؟»

أومأ مانفريد.

«تعامَلوا معي بمنتهى الطيبة والرُّقي. سنتناول الغداء غدًا مع أحد المُفوَّضين المساعِدين وهو السيد ريجنالد فير. لقد تحسَّنَت أساليبُ الشرطة البريطانية تحسُّنًا كبيرًا منذ أن كُنَّا في لندن آخِرَ مرة يا ليون. قسم البصمات نموذجٌ للكفاءة، ورجالهم الجدُد يتحلَّون بذكاء كبير.»

قال ليون المبتهج: «ولكنهم سيشنقوننا على كل حال.»

أجاب صاحبه: «لا أعتقد ذلك!»

كان الغداء في فندق ريتز كارلتون، هذه المناسبات مُمتِعة لهم، خاصة لجونزاليس. أما السيد فير — المُفوَّض في منتصف العمر — فكان عالِمًا ذا كفاءة عالية، بالإضافة إلى كونه رجلًا جذابًا. تبادل كلٌّ من مارو ولومبروسو وفير ومانتيجازا وإيليس الآراءَ والملاحظاتِ وهم جالسون على المائدة.

قال فير: «إن المجرم الذي اعتاد الإجرام يرى العَالَم مرةً كأنه سجن هائل، ومرةً مزحة كبيرة. هذا ليس وصفي، بل ما هو عليه الأمر منذ مائة عام. المجرم الذي اعتاد الإجرامَ يسهل التعاملُ معه؛ ولكن عندما يتعلق الأمر بالتصنيفات غيرِ الإجرامية والقتَلة والمُختلِسين العارِضين …»

قال جونزاليس: «بالضبط! ولكني أختلفُ معك في …»

لم يكَد يُعبِّر عن رأيه حتى أتى عاملٌ وأحضر مظروفًا إلى المفوض الذي قاطع جونزاليس باعتذاره له؛ ليفتحَه ويقرأَ محتواه.

قال: «همم! تلك صُدفة غريبة …»

نظر إلى مانفريد بتمعُّن.

«قلتَ في الليلة الماضية إنك تُريد أن ترى عملَ سكوتلاند يارد عن كَثب، وقد وعَدتُك بأنني سأُتيح لك أول فرصة تسنح لذلك، وها قد أتت الفرصة!»

أشار إلى النادل ودفع فاتورته قبل أن يتكلم مرةً أخرى.

وقال: «لن أستنكفَ من الاستعانة بخبرتك الكبيرة؛ لأنه من الممكن أن نحتاج إلى كل المساعدة التي يُمكننا الحصولُ عليها في هذه القضية.»

سأل مانفريد: «ما هذا؟» ثم شقَّت سيارة المفوض طريقها في شوارع هايد بارك كورنر.

المفوض: «عُثر على رجلٍ ميتٍ في ظروف غامضة. وهو يَشغل منصبًا مرموقًا بين العلماء، واسمه الأستاذ تيبلمان، ربما تعلمون هذا الاسم.»

قال جونزاليس وعيناه تتَّسعان: «تيبلمان؟ عجبًا، ذلك غريب! كنتَ تتحدَّث عن الصُّدف يا سيد فير. الآن سأُخبرك بصُدفةٍ أخرى.»

تحدَّثَ عن لقائه مع ابن الأستاذ في الليلة السابقة.

وتابع جونزاليس قائلًا: «أنا شخصيًّا أنظرُ إلى جميع الصُّدف باعتبارها جزءًا من المسار الطبيعي للأمور. فمِن المُصادفة أنك إذا تلقَّيتَ فاتورة تتطلَّب الدفع، فإنك تتلقَّى فاتورتَين أو أكثرَ خلال اليوم، وأنك إذا تلقيتَ شيكًا عبر البريد الأول، فتأكَّد من أنك ستتلقَّى شيكًا عبر البريد الثاني أو الثالث. يومًا ما، سأُكرِّس تفكيري للبحث في هذه الظاهرة.»

على الرغم من أنَّ فير لم يكن بحاجةٍ إلى التوضيح، ولكن لمَّا تذكَّر مانفريد الاسم، قال: «يعيش الأستاذُ تيبلمان في تشيلسي؛ فقد اشترى منزلَه قبل بِضع سنواتٍ من أحد الفنانين، وحوَّل الأستوديو الواسع إلى مُختبَر. وكان محاضِرًا في الفيزياء والكيمياء في جامعة بلومزبري. كذلك حظي الرجل بثروةٍ ضخمة.»

قال فير: «عرَفتُ الأستاذ وتناولتُ معه العشاء منذ ما يقرب من شهر، ودبَّت بعض الخلافات بينه وبين ابنه؛ فقد كان تيبلمان عجوزًا مُستبدًّا وعنيدًا كهؤلاء المسيحيين الذين يُقدِّسون الشخصيات التاريخية في العهد القديم، ولكن لا يبدو أنهم قد وصلوا إلى الكتاب الثاني.»

وصَلوا إلى المنزل، وهو مبنًى حديثٌ وجميل في أحد الشوارع المُتاخِمة لشارع كينجز روود؛ ويبدو أن أخبار المأساة لم تتسرَّب بعد؛ لأن الحشود المعتادةَ من المُتسكِّعين المهووسين لم تتجمَّع. كان أحد المُحققين ينتظرهم، وتوجَّه بالمفوض على طول ممرٍّ مُظلَّل بجانب المنزل، وصعد به مجموعةً من الدرجات التي تقود مباشرةً إلى الأستوديو. لم يُوجَد شيءٌ غيرُ معتاد في الغرفة، باستثناء سطوع إضاءتها الشديد؛ لأن أحدَ الجدران كان عبارة عن نافذة ضخمة، وكان السقفُ المائل من الزجاج أيضًا. تحتوي الغرفة على عددٍ من المقاعد العريضة بطول جدارَين، وطاولةٍ كبيرة في وسط الغرفة؛ كل هذا الأثاث تُغطِّيه الأجهزة العلمية. يُوجَد أيضًا رفَّان طويلان فوق المقاعد مملوءان بالزجاجات والجِرَار التي بدا أنها تحتوي على موادَّ كيميائية.

قام شابٌّ حسنُ الوجه حزين المظهر من فوق أحد الكراسي عندما دخلوا.

وقال: «أنا جون مونسي، ابن شقيق الأستاذ. هل تتذكَّرني يا فير؟ كنتُ أساعد عمِّي في تَجارِبه.»

أومأ فير، وكانت عيناه مُنشغلتَين بالشيء المُلقى على الأرض، بين الطاولة والمقعد.

قال الشابُّ بصوتٍ خفيض: «لم أُحرك الأستاذ. المُحققون الذين أتوا حرَّكوه قليلًا لمساعدة الطبيب في فحصه، ولكنه تُرك تقريبًا في مكان وقوعه.»

الجثة لرجلٍ عجوز طويل ونحيف، وارتسمت على وجهه الشاحب نظرةُ ألم ورُعب لا تُخطِئها العين.

قال فير: «يبدو أنها حالةُ خنق. هل وُجِد أي حبلٍ أو سلك؟»

الشاب: «لا يا سيدي، ولكن هذا هو الرأي الذي توصَّل إليه المُحققون، وأجرَينا بحثًا مُتمعِّنًا داخل المختبر.»

انحنى جونزاليس بجوار الجثة، وأخذ يُمعِن النظر إلى العُنق النحيل. رأى شريطًا أزرق حول العنق طوله أربعُ بوصاتٍ تقريبًا، واعتقد في البداية أنها ضمَّادةٌ مصنوعة من مادةٍ شفافة؛ ولكن عند الفحص الدقيق، رأى أنها مجرد تلوُّن في الجلد. ثم رفع عينه الثاقبةَ إلى الطاولة، بالقُرب من مكان سقوط الأستاذ، وسأل: «ما ذلك؟» مُشيرًا إلى زجاجةٍ خضراء صغيرة وبجوارها كأس فارغة.

قال الشباب: «إنها زجاجة شراب كريم دي مينتي؛ اعتاد عمِّي أن يشرب كأسًا منه قبل النوم.»

سأل ليون: «هل لي؟» وأومأ فير.

التقط جونزاليس الزجاجةَ واشتمَّها، ثم رفعها في الضوء.

قال المفوض: «هذه الكأس لم تُشرَب فيها الخمر ليلة أمس، فلقد قُتل قبل أن يشرب منها. أودُّ أن أستمع للقصة كاملةً منك يا سيد مونسي. أظن أنك تَبيت في هذا المبنى، أليس كذلك؟»

بعد أن أعطى بعض التعليمات للمُحققين، تبع المفوضُ الشابَّ إلى غرفةٍ يبدو أنها مكتبة الأستاذ الراحل.

قال: «عملت مساعدًا وسكرتيرًا لدى عمِّي لمدة ثلاث سنوات، وكنا دائمًا على وِفاق تام. كان عمي يقضي الصباحَ في مكتبته؛ أما طوال فترة ما بعد الظهيرة، فقد كان يقضيها إما في مختبره أو في مكتبه في الجامعة، وكان يقضي دائمًا الساعاتِ بين العشاء ووقت النوم في العمل على تجارِبه.»

قال فير: «هل كان يتناول العشاء في المنزل؟»

أجاب السيد مونسي: «دائمًا، ما لم يكن لديه محاضرةٌ مسائية أو اجتماعٌ في إحدى الجمعيات التي انضمَّ إليها، وفي هذه الحالة كان يتناول العشاء في نادي الجمعية الملَكية في شارع سانت جيمس.

إن عمي — وربما أنت تعلم ذلك يا سيد فير — على خلافٍ شديد مع ابنه، ستيفن تيبلمان ابن عمي وصديقي العزيز. وقد بذلت قصارى جهدي للصلح بينهما؛ وعندما أرسل لي عمي منذ اثنَي عشَر شهرًا في هذه الغرفة نفسِها وأخبرَني أنه غيَّر في وصيته وترك مُمتلكاته بالكامل لي وحرم ابنه تمامًا من ميراثه، انتابني قلقٌ شديد. وذهبت على الفور إلى ستيفن وترجَّيته ألا يُضيع أيَّ وقتٍ وأن يتصالَح مع أبيه العجوز، فضحك ستيفن وقال إنه لا يهتمُّ بأموال أبيه، وأنه قبل أن يتخلَّى عن الآنسة فابر — فقد كان الخلاف بينهما بسبب خِطبته لها — فإنه يَسرُّه أن يعيش على المبلغ الضئيل الذي تركَته والدتُه له. عُدت والتقيتُ بالأستاذ وترجَّيته أن يُعيد ستيفن إلى وصيته.» ثم ابتسم نصف ابتسامة، وأكمل قائلًا: «أعترف أنني توقَّعت إرثًا صغيرًا وسأُقدِّر ذلك. إنني أتبع المسار العلمي نفسَه الذي كان يتبعه الأستاذ في أيامه الأولى، ولديَّ طموحاتٌ لمواصلة عمله. لكن الأستاذ لم يأخذ بأيٍّ مما اقترحتُه عليه، وغضب منِّي غضبًا شديدًا، وجال بخاطري أنَّ الحكمة تقتضي أن أنسحب من التدخُّل في الأمر، وهو ما فعلته. ومع ذلك، لم أُضيِّع أيَّ فرصةٍ لتقديم النصح لستيفن؛ وفي الأسبوع الماضي، عندما كان الأستاذ في مِزاج لطيف، طرَحتُ المسألة كلها مرةً أخرى، ووافق أن يُقابل ستيفن. التقَيا في المُختبر، ولم أكن حاضرًا؛ لكني أعتقد أن شجارًا رهيبًا نشب بينهما. وعندما حضرت، علمتُ أن ستيفن رحل وكان السيد تيبلمان حانقًا من الغضب. يبدو أنه أصرَّ مرةً أخرى على أن يتخلَّى ستيفن عن خطيبته، وأن ستيفن رفض رفضًا صريحًا.»

قال جونزاليس: «كيف وصل ستيفن إلى المُختبر؟ هل لي أن أطرح هذا السؤال يا سيد فير؟»

أومأ المفوض.

«دخل من المَمرِّ الجانبي. لا يدخل أحدٌ إلى المنزل لأغراض عِلمية بحتة سوى قلةٍ من الناس.»

«إذن فالدخول إلى المختبر ممكنٌ في جميع الأوقات؟»

قال الشاب: «حتى آخِر ساعة من الليل، عندما تكون البوابة مُغلَقة. كما ترى، فإن عمي اعتاد على الذَّهاب للسير قليلًا قبل النوم، وكان يُفضل استخدامَ هذا المدخل.»

«هل كانت البوابة مُغلقةً الليلةَ الماضية؟»

هزَّ جون مونسي رأسه.

وقال بهدوء: «لا، كان ذلك أحدَ أول الأشياء التي حقَّقتُ فيها؛ إذ كانت البوابة غيرَ مُوصَدةٍ ومفتوحةً بعض الشيء. إنها ليست بوابةً بقدْر ما هي شبكةٌ حديدية، كما لاحظتم على الأرجح.»

أومأ السيد فير، وقال: «استمِر.»

«حسنًا، هدأ الأستاذ تدريجيًّا، وغرق في التفكير طيلةَ يومَين أو ثلاثة، وأعتقدُ أن حزنًا أصاب قلبه. وفي يوم الاثنين … في أيِّ يوم نحن؟ الخميس؟ أجل، في يوم الاثنين حين قال لي: «جون، لنتحدَّثْ قليلًا في شأن ستيفن. هل تعتقد أنني عاملتُه بسوءٍ شديد؟» فقلت: «أعتقد أنك كنتَ مُحتدًّا بعض الشيء يا عمي.» ردَّ قائلًا: «ربما كنتُ كذلك؛ ولا بدَّ أنها فتاة شديدة الجمال مما دفع ستيفن إلى العيش في فقرٍ من أجلها.» كانت تلك هي الفرصة التي ظللتُ أدعو من أجلها، وأعتقد أنني حثَثتُ عمِّي في مسألة ستيفن ببلاغةٍ يُثنى عليها. ومِن ثَم رضخ الرجل العجوز وأرسل برقيةً إلى ستيفن يطلب منه أن يراه ليلةَ أمس. لا بدَّ أنَّ الأستاذ مرَّ بصراعٍ صعب كي يتغلبَ على اعتراضه على الآنسة فابر؛ إذ كان مُتعصبًا في مسألة الوراثة …»

قاطعه مانفريد بسرعةٍ قائلًا: «الوراثة؟ ماذا كان خطبُ الآنسة فابر؟»

هزَّ الآخر كتفَيه وقال: «لا أعرف، ولكن الأستاذ سمع شائعاتٍ عن وفاة والدها في مصحة للسكارى؛ ولكني أعتقد أن تلك الشائعات عاريةٌ من الصحة.»

سأل فير: «ماذا حدث ليلة أمس؟»

قال مونسي: «أعلم أن ستيفن قد أتى، وحرَصتُ على أن أبقى بعيدًا. في الواقع، قضيتُ وقتي في غرفتي أُعدِّل بعض مُتأخِّرات المراسلات. نزلت إلى الطابق السفلي في حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف، لكن الأستاذ لم يَعُد. عندما تنظر من هذه النافذة، يُمكنك أن ترى جدار المُختبر؛ ولمَّا رأيت الأنوار لا تزال مضاءة، اعتقدت أن محادثةَ الأستاذ طال أمدُها، وكنت آمُل أن تُسفِر هذه المقابلة عن أفضلِ النتائج؛ ثم ذهبتُ إلى فراشي. كان ذلك في وقتٍ أبكرَ مما أذهبُ إليه عادةً، ولكني كنتُ معتادًا على الذَّهاب إلى النوم دون أن أقول للأستاذ: «ليلة سعيدة.»

أيقظتْني مدبرةُ المنزل في الثامنة صباحًا، وأخبرَتني أن الأستاذ ليس في غُرفته. إلى الآن، ليس هناك ما يُثير القلق؛ ففي بعض الأحيان يعمل الأستاذ إلى وقتٍ متأخِّر جدًّا في المُختبَر، ثم يُلقي بنفسِه على كرسيٍّ بذراعَين ويغطُّ في النوم. اعتاد الأستاذ على هذا وكنتُ أعترض على ذلك بقدرِ ما أستطيع، لكنه لم يكن رجلًا يتحمَّل النقدَ بصدرٍ رحب.

ارتديتُ روبي وخُفَّيَّ وذهبت إلى المختبر، ويُمكن الوصولُ إليه — كما تعلمون — بالطريقة التي جئنا بها إلى هنا. وفي ذلك الحين وجدتُه على الأرض، وكان ميتًا بالفعل.»

سأل جونزاليس: «هل كان باب المُختبَر مفتوحًا؟»

«كان مواربًا.»

«وهل كانت البوابة كذلك مواربة؟»

أومأ مونسي.

«ألم تسمع أي صوت يدل على وقوع شجار؟»

«على الإطلاق.»

كان ثَمة قرعٌ على الباب؛ فمشى مونسي إليه.

قال: «إنه ستيفن.» وبعد برهة، دخل ستيفن تيبلمان وبرفقته اثنان من المُحقِّقين إلى الغرفة. كان وجهه الكبير شاحبًا؛ وعندما حيَّا ابنَ عمه بابتسامةٍ بسيطة، رأى مانفريد أنيابه غيرَ العادية، التي كان لها مظهرٌ كبير وفظ. أما أسنانه الأخرى، فكانت بالحجم الطبيعي؛ ولكن هذه الأنياب المُدبَّبة كانت شاذةً شذوذًا لافتًا للنظر.

كان ستيفن تيبلمان شابًّا ضخمَ الجثة؛ وبالنظر إلى يدَيه الضخمتَين، عضَّ مانفريد على شفَته مفكرًا.

«هل سمعتَ الخبر الحزين يا سيد تيبلمان؟»

قال ستيفن بصوتٍ مهزوز: «نعم يا سيدي. هل لي أن أرى أبي؟»

قال فير بنبرة حزم: «بعد قليل؛ ولكني أُريدك أن تُخبرني متى رأيتَ والدك آخر مرة؟»

قال ستيفن تيبلمان مسرعًا: «رأيتُه حيَّا ليلة أمس؛ فقد جئتُ وفقًا لموعدي معه إلى المختبر، ودار بيننا حديثٌ طويل.»

«كم أمضيتَ معه من الوقت؟»

«حوالي الساعتَين، حسب تخميني.»

«وهل كانت مُحادثتكما وُدية؟»

قال ستيفن مؤكدًا على كلامه: «للغاية، وللمرة الأولى منذ أكثرَ من عام.» ثم تردَّد، وقال: «ناقشنا موضوعًا مُعينًا مناقشةً عقلانية.»

«هل هذا الموضوع هو خطيبتك، الآنسة فابر؟»

نظر ستيفن إلى المُحقِّق ولم يُنزل عينَه من عليه.

ردَّ سريعًا: «كان ذلك هو الموضوعَ يا سيد فير.»

«هل ناقشتما أي أمورٍ أخرى؟»

تردَّد ستيفن.

ثم قال: «تحدَّثنا حول الأموال؛ إذ كان أبي قد قطع مصروفي، وكنتُ مُفلسًا نوعًا ما. في الواقع، لقد سحبتُ من البنك ما يَزيد عن رصيدي، ووعَدني بأنه سيُصلح الأمر؛ وتحدثنا كذلك عن المستقبل.»

«أتقصد وصيتَه؟»

«أجل يا سيدي، تحدَّثنا عن تغييره لوصيته.» ثم حوَّل نظرَه إلى مانفريد، وابتسم مرةً أخرى قائلًا: «كان ابنُ عمِّي مدافعًا مُثابرًا عني، ولا يسَعُني إلا أن أشكره بما يكفي عن إخلاصه لي في تلك الأوقات الصعبة.»

«عندما تركتَ المختبر، هل خرَجتَ من المدخل الجانبي؟»

أومأ ستيفن.

«وهل أغلقتَ الباب خلفك؟»

قال: «أغلق أبي الباب؛ فأنا أتذكَّر بوضوحٍ أنني سمعتُ طقطقة القُفل عندما كنتُ في طريقي في الممر.»

«هل يُمكن أن يُفتَح البابُ من الخارج؟»

ستيفن: «نعم، هناك قُفل له مِفتاح واحد فقط، وهو بحوزة أبي. أعتقد أنني مُحق، أليس كذلك يا جون؟»

أومأ جون مونسي.

«ومن ثَمَّ لو أُغلِق الباب وراءك، فلا يستطيع أحدٌ فتحه إلا إذا كان بداخل المختبر؛ الأستاذ، على سبيل المثال؟»

بدا ستيفن في حَيرة من أمره.

وقال: «لا أفهم تمامًا معنى هذا السؤال. لقد أخبرني المُحقِّق أن أبي قد وُجِد ميتًا؛ فماذا كان السبب؟»

قال فير بهدوء: «أعتقد أنه خُنِق.» فتراجع الشابُّ خطوةً للوراء.

وهمس قائلًا: «خُنِق! ولكنه لم يكن له أي أعداء.»

«ذلك ما سنكتشفه.» وكان صوتُ فير خاليًا من التعاطف ورسميًّا، ثم قال: «يُمكنك الذَّهاب الآن يا سيد تيبلمان.»

بعد لحظةٍ من التردُّد، اندفع الرجل الضخم تاركًا الغرفةَ عبر بابٍ في اتجاه المختبر. ورجع بعد ربع الساعة، وكان وجهه أبيضَ بياضًا مُميتًا وتمتم قائلًا: «يا له من أمرٍ مروِّع، مروِّع! يا لأبي المسكين!»

قال فير: «إنك على وشك أن تُصبح طبيبًا يا سيد تيبلمان، أليس كذلك؟ أعتقد أنك تعمل في مستشفى ميدلسكس. هل تُوافقني الرأي بأن والدك مات مخنوقًا؟»

أومأ الآخر.

وقال مُتحدثًا بصعوبة: «يبدو ذلك؛ ولكن لا يُمكنني أن أُجري فحصًا كما أُجريه لأي شخصٍ آخر، ولكن الأمر يبدو كذلك.»

رجع الرجلان إلى مكان إقامتهما. تتجلَّى قدرات مانفريد في التفكير عندما يكون في حالةِ نشاط. سارا في صمت؛ إذ غرق كلٌّ منهما في أفكاره.

بعد قليل، سأل ليون بهدوء وبنبرةٍ تنمُّ عن إحساسه بالانتصار: «هل لاحظتَ الأنياب؟»

قال مانفريد: «لاحظتُ كذلك حزنه الواضح.» فضحك ليون ضحكةً خافتة.

قال بغرور — فليون يسعد بكونه مغرورًا في بعض الأحيان: «مِن الواضح أنك لم تقرأ دراسة الصديق مانتيجازا الرائعة حول «فسيولوجيا الألم»، ولم تدرُس جداوله الأروع في «مرادفات التعبير»، وإلا لأدركتَ أنه لا يُمكن التمييز بين التعبير عن الحزن والتعبير عن الندم.»

نظر مانفريد نظرةً دونية إلى صديقه بابتسامته الهادئة.

«أي أحدٍ لا يعرفك يا ليون سيقول إنك مُقتنع بأن الأستاذ تيبلمان خنَقه ابنُه.»

قال جونزاليس بلا مبالاة: «بعد شجارٍ مُحتدِم.»

«عندما رحل ابن الأستاذ تيبلمان، فحَصتَ المُختبر؛ فهل وجدتَ شيئًا؟»

قال جونزاليس: «لا شيء سوى ما توقَّعتُ أن أجده. كان هناك جهازُ الهواء المعتاد، ومقطرة الهواء السائل التي لا غِنى عنها، والبوتقات الكهربائية المتوقَّع وجودها دائمًا. أعترف أنه لم يكن ثَمة داعٍ للتفتيش؛ لأنني كنتُ أعلم بالضبط كيف ارتُكِبَت جريمة القتل — حيث كانت جريمةَ قتلٍ بالفعل — منذ اللحظة التي دخلتُ فيها المختبر ورأيتُ فيها الترمس وضمَّادة القطن الطبي.»

عبَس فجأةً وتوقَّف تمامًا.

ثم صاح فجأة: «أيتها القديسة ميراندا!» إذ دائمًا ما يُقسِم جونزاليس بقِدِّيسته غير الموجودة، واستطرد: «لقد نسيت!»

نظر إلى الشارع يمينًا ويسارًا.

وقال: «ثَمة مكان يُمكننا أن نُجري مكالمةً هاتفية منه. هل ستأتي معي، أم أتركك هنا؟»

قال مانفريد: «إن الفضول يتملَّكني.»

دخلا المتجر وأعطى جونزاليس رقمًا؛ ولم يسأله مانفريد كيف عرَفه؛ لأنه أيضًا قد قرأ الرقم المكتوب على قُرص الهاتف على طاولة الأستاذ الراحل.

سأل جونزاليس: «هل هذا أنت يا مونسي؟ إنه أنا. أتتذكَّرني؟ لقد مشيتُ للتوِّ من عندك. أجل، أعتقد أنك ستتعرَّف على صوتي. أُريد أن أسألك أين نظَّارة الأستاذ؟»

سادت لحظةٌ من الصمت.

قال مونسي: «نظارة الأستاذ؟ عجبًا، إنها معه، أليس كذلك؟»

قال جونزاليس: «إنها ليست على الجثَّة أو بالقُرب منها. هلا نظرتَ ما إذا كانت في غرفته؟ سأنتظرك على الهاتف.»

انتظر وهو يُدندن بمقطوعةٍ قصيرة من البيرو شيكو، وهي أوبرا مُسلِّية انتشرَت في مدريد قبل خمس عشرة سنة؛ ثم وجَّه انتباهه مرة أخرى للأداة.

«هل كانت في غرفة نومه؟ شكرًا جزيلًا.»

وضع السماعة ولم يشرح المحادثة لمانفريد، ولم يتوقَّع مانفريد منه ذلك؛ لأن ليون جونزاليس يُحب الغموض كثيرًا. ولم يتلفَّظ بكلماتٍ سوى أن قال: «الأنياب!»

بدا أن هذا يُعجبه كثيرًا.

عندما جاء جونزاليس للإفطار في الصباح التالي، أخبره النادلُ أن مانفريد خرج باكرًا. أتى جورج بعد ما يقرُب من عشرِ دقائق بعدما بدأ جونزاليس تناوُلَ إفطاره؛ ثم نظر لأعلى.

قال: «إنك تُحيرني عندما يكون وجهك جامدًا يا جورج؛ فلا أعلم تحديدًا ما إذا كنتَ مُستمتعًا أم مكتئبًا.»

قال مانفريد، وهو يجلس لتناول الإفطار: «قليلٌ من الاستمتاع وقليل من الاكتئاب. ذهبت إلى شارع فلييت للاطِّلاع على الصحف الرياضية.»

كرَّر جونزاليس قائلًا وهو يُحدِّق فيه: «الصحف الرياضية؟» وأومأ مانفريد.

«بالمناسبة، قابلتُ فير؛ ولم يُعثَر على أي سُمٍّ في الجثة أو أي أثرٍ آخَر لعُنف قد حلَّ بها. وسوف يقبضون على ستيفن تيبلمان اليوم.»

قال جونزاليس بجدِّية: «كنتُ أخشى ذلك؛ ولكن لماذا الصحف الرياضية يا جورج؟»

لم يُجِب مانفريد عن السؤال؛ ولكنه واصل حديثه قائلًا: «إن فير على يقينٍ أن جريمة القتل ارتكبها ستيفن تيبلمان؛ ونظريته هي أن ثمة شجارًا وقع بينهما، وأن الشاب فقد أعصابه وخنق أباه. ولكن من الواضح من فحص الجثة أن ثمة عنفًا غيرَ عادي قد استُخدم معها؛ فجميع الأوعية الدموية في الرقبة مسدودة. وأخبرني فير أيضًا أن الطبيب شكَّ في احتمالية وجود سُمٍّ في البداية، ولكن لم يُكتشَف أيُّ أثر لعقار، وقال الأطباء إنه من غير المعلوم وجودُ عقارٍ يُسبب الوفاة بهذه الأعراض. زاد هذا وضع ستيفن سوءًا؛ لأنه في الأشهُر القليلة الماضية كان يُركز دراساته على سُمٍّ غامض.»

تمدَّد جونزاليس للوراء على كُرسيِّه واضعًا يدَيه في جيبَيه.

وقال بعد حين: «حسنًا، سواءٌ ارتكب جريمةَ القتل تلك أم لا، فإنه سيرتكب جريمةَ قتل عاجلًا أم آجلًا بلا شك. أذكر مرةً أنه كان هناك طبيب في برشلونة لديه أسنان كهذه، كان مسيحيًّا مُتدينًا، ورجلًا محبوبًا وأعزبَ ولديه الكثيرُ من المال، ولم يكن لديه سببٌ على الإطلاق يجعله يُقدِم على قتل أي أحد؛ ولكنه قتل؛ قتل طبيبًا آخَر هدَّده بفضح خطأٍ ارتكبه في إحدى العمليات الجراحية. أقول لك يا جورج إنه بأسنانٍ مثل هذه …» توقف قليلًا وعبَس مُفكِّرًا، ثم قال: «عزيزي جورج، سأطلب من فير أن يمنحَني امتيازَ قضاء بِضع ساعات بمفردي في مختبر الأستاذ تيبلمان.»

أجفل مانفريد: «لماذا؟» ثم راجع نفسَه، وقال: «عجبًا! بالطبع عندك سبب يا ليون. عادةً لا أجد صعوبة على الإطلاق في حلِّ ألغازٍ كهذه، ولكنني محتار في أمر هذه القضية، وأنا واثق من أنك حلَلتَ لُغزها. ثمة سِمات مُعيَّنة للعمل المُحيِّر على وجه الخصوص. ما السبب في أن يرتديَ الرجل العجوز قُفازًا سميكًا؟»

قفز جونزاليس واقفًا على قدَمَيه وعيناه تُومضان.

وكاد يصيح وهو يقول: «يا لغبائي! لم أرَ هذا.» ثم سأل مُتلهفًا: «هل أنت متأكد يا جورج؟ هل كان يرتدي قفازاتٍ سميكة؟ هل أنت متأكد؟»

أومأ مانفريد وابتسم لمفاجأتِه من اضطراب الآخر.

أخذ جونزاليس ينقر بأصابعه وقال: «وجدتها! كنتُ أعلم أنَّ ثمة خطأ ما في الحسابات! كانت قفازاتٍ صوفيةً سميكة، أليس كذلك؟» ثم غرق في التفكير فجأةً وقال كما لو كان يُخاطب نفسه: «حسنًا، تُرى كيف جعل الرجلَ العجوز يرتديها؟»

وافق السيد فير على الطلب، وتوجَّه الرجلان معًا إلى المُختبَر، ووجدا جون مونسي في انتظارهما.

قال بمجرَّد أن رآهما: «وجدتُ هذه النظارة بجانب سرير عمي.»

قال ليون بذهنٍ شارد: «أوه، النظارة؟ هل لي أن أراها؟» أخذَها في يده، وقال: «كان عمُّك مُصابًا بقِصَر نظر شديد. عجبًا، كيف له أن يتركها؟»

أوضح السيد مونسي الأمر قائلًا: «أعتقد أنه صعد إلى غرفة نومه لتغيير ملابسه كما يفعل عادةً بعد العَشاء، ولا بدَّ أنه قد نسِيَها هنا، ولكنه دائمًا ما يحتفظ بأُخرى للطوارئ في مُختبَرِه، ولكن لسببٍ أو لآخر لا يبدو أنه قد ارتداها.» ثم سأله: «هل تُريد أن تبقى وحدَك في المختبر؟»

قال ليون: «أُفضِّل ذلك. ربما يُمكنك تسليةُ صديقي بينما أتفحَّص المكان.»

عندما تُرِك وحدَه، أغلق الباب الذي يربط المُختبرَ بالمنزل؛ وكان أول ما بحث عنه هو النظارة التي كان الرجلُ العجوز يرتديها عادةً أثناء عمله.

عمد إلى الذَّهاب مباشرةً إلى المكان الذي يُوجَد فيه وعاء الرماد المُجلفن بجوار السُّلَّم المؤدي إلى المختبر. ووجد النظارة مكسورةً إلى قطعٍ صغيرة، وكان الإطارُ المصنوع من العاج مكسورًا في مكانَين؛ فجمع ما تمكَّن من جمعه من الأجزاء ورجع إلى المختبر؛ ثم بعد أن وضعها على المقعد، رفع سماعة الهاتف.

كان للمختبر اتصالٌ مباشر بسنترال الهاتف؛ وبعد انتظار خمس دقائق، وجد جونزاليس نفسَه على اتصالٍ بستيفن تيبلمان.

جاء الرد المُتفاجئ قائلًا: «أجل يا سيدي، كان أبي يرتدي نظارته طوال المُقابَلة.»

قال جونزاليس: «شكرًا لك، ذلك كل شيء.» ووضع سماعة الهاتف.

ذهب بعد ذلك إلى أحد الأجهزة في ركنٍ بالمختبر، وظلَّ يعمل لمدة ساعة ونصف الساعة. وفي نهاية ذلك الوقت، ذهب إلى الهاتف مرةً أخرى. ثم مرَّت نصف ساعة أخرى، سحب بعدها من جيبه قفازًا من الصوف السميك، وفتح البابَ المُؤديَ على المنزل، ثم نادى مانفريد.

وقال: «اطلب من السيد مونسي أن يأتي.»

قال السيد مونسي وهو يُرافق مانفريد عبر المَمر: «إن صديقك مُهتم بالعلوم.»

قال مانفريد: «أعتقد أنه أحد أذكى الأشخاص في مجاله بشكلٍ خاص.»

دخل المختبرَ أمام مونسي وتفاجأ لمَّا وجد جونزاليس واقفًا بالقُرب من الطاولة يحمل في يده كأسَ خمرٍ صغيرةً مملؤةً بشرابٍ عديم اللون تقريبًا. كان الشراب عديمَ اللون تقريبًا، ولكن كانت به مسحةٌ من زُرقة؛ ومما أدهش مانفريد أنْ رأى طبقةَ رذاذ خفيفةً تعلو سطح السائل.

حدَّق مانفريد فيه، ثم رأى أن يدَي ليون جونزاليس بداخل قفازٍ صوفي سميك.

ابتسم السيد مونسي لمَّا ظهَر مِن خلف مانفريد، وقال: «هل انتهيت؟» ولما رأى ليون انقطعَت ابتسامتُه. ظهر القلق والخوف على وجهه وبدأ يُغلق عينَيه وسمع مانفريد صوتَ أنفاسه الثقيلة.

قال ليون بلُطف: «أتُريد شرابًا يا صديقي؟ إنه شراب جميل. قد تُخطئ وتظن أنه كريم دي مينتي أو أيُّ مشروب مُسكِر مُعتَّق آخر، خاصةً إذا كنتَ رجلًا عجوزًا قصير النظر وشارد الذهن وقد سرَق أحدٌ نظارتك.»

سأل مونسي بصوتٍ مبحوح: «ماذا تعني؟ أنا … أنا لا أفهمك.»

واصل جونزاليس قائلًا: «أعدُك أن هذا الشراب غير ضار، وأنه لا يحتوي على أي سُمٍّ من أي نوع، وأنه نقي نقاء الهواء الذي تتنفَّسه.»

صاح مونسي: «اللعنة عليك!» ولكن قبل أن يتمكن من القفز على مُضايِقه، أمسك به مانفريد وطرحَه أرضًا.

«اتصلتُ هاتفيًّا بالسيد فير البارع، وسيكون هنا قريبًا؛ وكذلك السيد ستيفن تيبلمان. آه، ها هما.»

سُمِع طرقٌ على الباب.

«هلا فتحتَ إذا سمحتَ يا عزيزي جورج؟ لا أعتقد أن صديقنا الشابَّ سيتحرك؛ وإن فعل، فسأُلقي بما في هذه الكأس على وجهه.»

دخل فير وتبعه ستيفن، وكان معهما ضابطٌ من سكوتلاند يارد.

جونزاليس: «ها هو سجينك يا سيد فير. وها هي الوسائل التي استخدمها السيد جون مونسي في قتل عمِّه. وأعتقد أنه قرَّر قتل عمه بسب تصالُحِه مع ستيفن تيبلمان؛ ومن ثَمَّ فالوصية التي غيَّرَها بعنايةٍ كانت ستتحوَّل لصالح ستيفن تيبلمان.»

لهث جون مونسي قائلًا: «تلك كذبة! لقد حاولتُ من أجلك يا ستيفن، وتعلَم أنني … لقد بذلت قصارى جهدي كي تتصالح مع أبيك.»

قال جونزاليس: «أظنُّ مرةً أخرى أن كل ذلك ما هو إلا جزءٌ من خطة الخِداع الشاملة. وإن كنت مخطئًا، فلتشرَب هذا. إنه الشراب الذي شربه عمُّك ليلةَ موته.»

أسرع فير في السؤال قائلًا: «ما هذا؟»

ابتسم جونزاليس وأومأ للرجل قائلًا: «اسأله.»

استدار جون مونسي ومشى إلى الباب، وتبعه ضابطُ الشرطة الذي رافَق فير.

قال جونزاليس: «والآن سأُخبرك ما هو. إنه هواء سائل!»

قال المُفوَّض: «هواءٌ سائل! عجبًا! ماذا تقصد؟ كيف يُمكن أن يتسمَّم أحدٌ بالهواء السائل؟»

«لم يتسمَّم الأستاذ تيبلمان. الهواء السائل عبارة عن سائل يتمُّ الحصول عليه عن طريق خفضِ درجة حرارة الهواء إلى مائتَين وسبعين درجةً تحت الصفر. يستخدم العلماءُ السائل لإجراء التجارِب؛ وعادةً ما يُحفَظ في وعاءٍ حافظٍ لدرجة الحرارة، تُغلَق فوَّهته بقطنٍ طبي؛ لأنه — كما تعلمون — ثمَّة خطرُ انفجارٍ في حالة حبس الهواء.»

لهث تيبلمان في رعب: «يا إلهي! إذن هذه العلامة الزرقاء حول عنق أبي …»

«تجمَّد حتى الموت. على أقلِّ تقدير، تجمَّد حلقُه حتى تصلَّب في اللحظة التي تناول فيها ذلك السائل. اعتاد أبوك على احتساء شرابٍ مُسكر قبل ذَهابه للنوم، ولا يُوجَد ما يُثير الشك في ذلك. بعد مغادرتك، أعطى مونسي الأستاذ كأسًا مملؤةً بالهواء السائل، وحمله بطريقةٍ ما على ارتداء القُفَّاز.»

قال مانفريد: «لماذا فعل ذلك؟ أوه، بالطبع، إنه البرد.»

أومأ جونزاليس.

«لو لم يرتدِ القفاز، لاكتشف الشراب الذي يتناوله على الفور. ولكننا قد لا نعرف أبدًا الحيلة التي استخدمها مونسي. لا بدَّ أنه نفسه كان يرتدي قفازًا في ذلك الوقت. وبعد وفاة أبيك، شرَع في تجهيز دليلٍ لتوريط شخصٍ آخر. ربما خلع الأستاذُ نظارته تمهيدًا لذَهابه إلى الفِراش، وربما نسي القاتل — كما حدث معي — أن القفاز لا يزال في يدَي الجثة.»

قال جونزاليس لاحقًا: «نظريتي هي أن مونسي ظلَّ يُحاول لسنواتٍ ليُبعِد ابن عمه عن تعاطف أبيه. وربما اخترع قصة والد الآنسة فابر السكِّير.»

ذهب الشاب تيبلمان إلى غرفتهما وانصدم جونزاليس لما رآه؛ وقد قال شيئًا أدهشَ ستيفن ضاحكًا، وحدَّق جونزاليس فيه.

قال متلعثمًا: «إنها … أسنانُك!»

تورَّد وجه ستيفن.

وكرَّر في حيرة: «أسناني؟»

قال جونزاليس وهو مضطرِب للغاية: «كان لك نابان ضخمان عندما رأيتُك آخرَ مرة. أتتذكَّر يا مانفريد؟ لقد أخبرتك …»

انفجر الطالب الشابُّ في الضحك وقاطعه قائلًا: «أوه، لقد كانا زائفَين؛ كُسِرا أثناء إحدى مباريات الرجبي، ولكن بيرسون — زميلي في قسم طب الأسنان، إنه رجل طيب جدًّا على الرغم من أنه طبيب أسنان ضعيفٌ إلى حدٍّ ما — تعهَّد بأن يصنع لي نابَين بدلًا من اللذَين فقدتُهما. كان مظهرهما بشعًا، أليس كذلك؟ لا أتعجَّب من أنكما قد لاحظتُماهما. ولكني وضعتُ نابَين جديدَين آخرَين أعدَّهما لي طبيبُ أسنانٍ آخر.»

قال مانفريد: «حدث ذلك في الثالثَ عشر من سبتمبر من العام الماضي. وقد قرأتُ عنه في الصحف الرياضية.» رمَقه جونزاليس بنظرة تأنيب.

قال مانفريد واضعًا يدَه على كتف الآخر: «كما ترى يا عزيزي ليون، لقد علمتُ أنهما زائفان تمامًا كما كنتَ تعلم أنت أنهما نابان.»

وعندما أصبحا وحدَهما، قال مانفريد: «بمناسبة الحديث عن الأنياب …»

قال ليون مسرعًا: «دعنا نتحدَّث عن شيءٍ آخر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤