الفصل الرابع

العائد من الموت

نُشِرت لأول مرة في صحيفة ذا ستاندرد، أغسطس ١٩٢١

طال فاصلُ الاستراحة بين الفصلَين الثاني والثالث على غير المعتاد، وكان الرجال الثلاثة الجالسون في مقصورة المسرح في حالة انسجامٍ ذهني، حتى إنه لم يشعر أحدٌ منهم بضرورة الحديث مع الآخر. دارت أحداثُ العرض حول جريمةٍ تقليدية، وقبل إسدال الستار على الفصل الأول، حل كلُّ واحدٍ من الثلاثة «لغز» القتل. وتوصَّلوا إلى الحلِّ نفسِه (الحل الصحيح) دون أي مجهودٍ ذهني كبير.

تناول فير — مُفوَّض الشرطة — العشاء مع جورج مانفريد وليون جونزاليس (وكان يُخاطبهما على التوالي ﺑ «سيد فوينتيس» و«سيد ماندريلينو»، ولم يشكَّ في أنهما إسبانيَّان في الأصل، على الرغم من لُغتهما الإنجليزية التي لا تَشوبها شائبة) وقد ذهب الجمع إلى المسرح.

عبَس السيد فير على إثر ذكرى غيرِ سارة، وسمع ضحكةً ناعمة. وبالنظر إلى أعلى، التقت عيناه بعينَي ليون الوامِضتَين.

فسأله بنصف ابتسامةٍ وتعاطُف: «علامَ تضحك؟»

أجاب الهادئ جونزاليس: «على أفكارك.»

كرَّر الآخر مذهولًا: «على أفكاري!»

أومأ ليون، وقال: «نعم، شردتَ بفِكْرك في رجال العدالة الأربعة.»

صاح فير قائلًا: «عجيب! هذا صحيح تمامًا. ما هذا، أهو تَخاطُر؟»

هزَّ جونزاليس رأسه. أما مانفريد، فقد كان يُحدِّق شاردًا في المقصورات.

قال ليون: «كلَّا، ليس تخاطرًا، بل تعبير وجهك.»

«لكني لم أذكر هؤلاء الأوغاد، كيف …»

قال ليون، مُستمتعًا بموضوعه المُحبَّب: «يندرج تعبير الوجه — وخاصة التعبير عن المشاعر — ضمن فئة الغرائز الفطرية؛ فهو ليس «إراديًّا». على سبيل المثال، عندما يضرب لاعب بلياردو كرة، فإنه يرمي جسمَه ويلويه بعد ضربها؛ لا بدَّ أنك رأيتَ التواءات لاعبٍ أضاع تسديدتَه بفارقٍ ضئيل، أو رجلًا يُحرك فكَّه وهو يستخدِم مِقصًّا، أو مُجدِّفًا يُحرك شفتَيه مع كل ضربة بالمجداف. هذا ما نُسميه «التلقائية». الحيوانات أيضًا تفعل ذلك؛ فالكلب الجائع الذي يقترب من اللحم تنتصِب أذناه في اتجاه وجبته.»

سأل المفوض مُبتسمًا: «وهل ثمة فعلٌ تلقائي مُعيَّن ناتجٌ عن التفكير في رجال العدالة الأربعة؟»

أومأ ليون.

وقال: «قد يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لوصف ذلك، لكنني لن أخدعك. الأفكار التي تدور في ذهنك وقرأتُها أقلُّ ممَّا خمَّنتها. العبارة الأخيرة في الفصل الأخير الذي شاهدناه قالها مُمثلٌ تافه، وكانت: «العدالة! ثَمَّة عدالةٌ بعيدًا عن القانون!» ورأيتُك عابسًا. ثم نظرتَ عبر المقصورات وأومأتَ برأسك إلى مُحرِّر صحيفة ميجافون؛ وتذكرتُ أنك كتبتَ مقالًا عن رجال العدالة الأربعة في تلك الصحيفة …»

صحَّح فير المعلومة، قائلًا: «إنها سيرة قصيرة عن فالماوث المسكين الذي مات في ذلك اليوم. أجل، أجل، فهمت. كنتَ على حقٍّ بالطبع؛ فقد كنتُ أُفكر فيهم وفي ادِّعاءاتهم بالعمل قُضاةً وجلَّادين عندما يُخفِق القانون في معاقبة المُذنِب، أو بالأحرى ينجح المُذنب في التملُّص من الإدانة.»

استدار مانفريد فجأة.

وقال بالإسبانية، التي كان الثلاثة يتحدَّثون بها بين الحين والآخر خلال السهرة: «ليون، انظر إلى الفارس الذي يرتدي قميصًا به ماسة.» ثم سأله بالإنجليزية: «ما رأيك فيه؟»

رفع ليون نظارة الأوبرا القوية، واستطلع الرجل الذي أشار إليه صديقه.

قال بعد بُرهة: «أودُّ أن أسمعه يتكلَّم. وأرى مدى رقة وجهه ومدى قوة فكَّيه — إنه بارز الفكَّين تقريبًا — لأن الانحسار واضحٌ في عظام الفك العلوية. لاحِظْه أيها السيد، وأخبرني ما إذا كنت لا تُوافق على أنَّ في عينَيه لمعانًا غير عادي؟»

أخذ مانفريد النظَّارة ونظر إلى الرجل الذي لا يشعر بهم؛ ثم قال: «إنهما مُتورِّمتان … أجل، أرى أنهما وامضتان.»

«ما الذي تراه أيضًا؟»

قال مانفريد: «أعتقد أن الشفتَين كبيرتان ومُتورِّمتان قليلًا كذلك.»

أخذ ليون النظارة والتفتَ إلى المُفوَّض، قائلًا: «لا أُراهن؛ ولكن إذا فعلت، فسأُراهن بألف بيزيتا على أنَّ هذا الرجل يتحدَّث بصوتٍ أجش.»

حوَّل فير نظره من رفيقه إلى الهدف الذي يُشاهدونه ثُم عاد مرةً أخرى للنظر إلى ليون، قال بهدوء: «أنت مُحق تمامًا. إنَّ اسمه هو بالام، وصوته خشنٌ وقاسٍ للغاية. تُرى مَن يكون؟»

أجاب جونزاليس: «شرير. يا صديقي العزيز، إن هذا الرجل شرير؛ إنه رجل سيئ. احذَر من العيون اللامعة والصوت الأجش أيها السيد! إنها تدلُّ على الشر!»

فرَك فير أنفه منفعلًا، في حركةٍ لا إرادية تُلازمه.

ثم قال: «لو كنتَ أيَّ شخصٍ آخر، لأصبحتُ بالتأكيد شديدَ الوقاحة ولقلتُ لك إنك تعرفه أو التقيتَ به. ولكن بعدما أظهرتَه في ذلك اليوم من قدراتٍ استثنائية، أدركتُ يقينًا أن علم الفِراسة به شيء من الصحة.»

أشار إلى زيارةٍ قام بها ليون جونزاليس ومانفريد إلى قسم السجلَّات في سكوتلاند يارد. فُرِشت أربعون صورةً فوتوغرافية لمجرمين على الطاولة أمام جونزاليس، ثم أحصى الجرائم التي ارتبطَت بأسمائهم بالترتيب. لم يَرتكب سوى أربعة أخطاء، وحتى هذه الأخطاء لها مُبرِّرات تُسوِّغ ارتكابها.

قال المفوض مُفكرًا: «أجل، إن جريجوري بالام رجل سيئٌ للغاية. لم يقع في أيدينا من قبل، لكن الأمر مجرد حظ. إنه حادُّ الذكاء كالشيطان، ويُؤلمني أن أراه مع فتاةٍ لطيفة مثل جيني مدجوري.»

سأل مانفريد باهتمام: «أهي الفتاة التي تجلس معه؟»

غمغم جونزاليس قائلًا: «إنها مُمثلة. رأيت يا عزيزي جورج كيف تُدير رأسها أولًا إلى اليسار ثم إلى اليمين على فترات، على الرغم من عدم وجود ما يجذب الانتباهَ في أيٍّ من الاتجاهَين، ولكنها اعتادت أن يراها الناس — هذا ليس غرورًا — إنه مجرد عرَضٍ خاصٍّ من أعراض مهنتها.»

سأل مانفريد عندما ابتسم المفوَّض: «ما الغرور المُفضَّل لديه؟» فسأله لأنه أعتقدَ أن مانفريد إسباني: «هل تعرف كاتبَنا الشهير ديكنز؟ حسنًا، سيكون من الصعب إخبارُك بما يفعله جريجوري بالام ليتكسَّب دخله المحترم.» ثم قال بمزيد من الجدية: «أعتقد أنه على صلةٍ بأحد المُقرضين ويُدير بعض الأعمال الإضافية المربحة.»

قال مانفريد: «مثل …»

يبدو أن السيد فير لم يكن حريصًا على إلزام نفسه بالأمر، وقال: «سأُخبرك بسرِّية تامة. إننا نعتقد — ولدينا سببٌ وجيه لهذا الاعتقاد — أنَّ لديه مكانًا لتناوُل المُخدرات يتردَّد عليه الأثرياء. هل قرأتَ الأسبوع الماضيَ عن جون بيدورث الذي أطلق النارَ على مُربية أطفالٍ في حدائق كينسينجتون ثم أطلق النار على نفسِه؟»

أومأ مانفريد.

وقال: «كان شخصًا ذا صلةٍ بذوي الشأن، أليس كذلك؟»

أجاب فير مؤكدًا: «كانت له علاقاتٌ كثيرة، لدرجة أننا لم نرغب في إدخال معارِفه في القضية على الإطلاق. تُوفِّي في اليوم التالي في المستشفى؛ وأخبرَنا الجراحون أنه كان تحتَ تأثير بعض المخدِّرات الهندية ولا يشكُّون في ذلك، وأنه في لحظاتِ وعيه القليلة أخبر الجرَّاح المسئولَ عن الحالة أنه كان في حالة تهوُّرٍ في الليلة السابقة، وانتهى به الحال فيما أسماه وكْرَ الأفيون، ولم يتذكَّر أيَّ شيءٍ حتى استيقظ في المستشفى. وتُوفِّي دون أن يعرف أنه ارتكب هذه الجريمة المُروِّعة؛ ولا شك في أنه أطلق النار على أول شخصٍ رآه وهو تحت التأثيرِ الجنوني للمخدرات.»

سأل جونزاليس باهتمام: «هل كان وكر أفيون السيد بالام؟»

ارتفع الستار في تلك اللحظة واستمرَّت المحادثة همسًا.

«لا نعرف، لكنه ذكَر اسم بالام في هذَيانه. بذلنا قُصارى جهدنا لاكتشاف ما حدث، ومن ثَم راقبناه، وزُرنا الأماكن التي مكث فيها ولو لفترةٍ من الوقت؛ ولكننا لم نجد شيئًا يُدينه.»

أصبح ليون جونزاليس في ساعةٍ يُفضلها ويتناول وجبةً يُفضِّلها، كان في أفضل حالاته؛ إنها التاسعة صباحًا وهو يتناول وجبة الإفطار. وضع صحيفته في الصباح التالي وسأل: «ما تعريف الجريمة؟»

قال مانفريد بجِدِّية: «أيها الأستاذ، سأخبرك. إنه الخروج عن القواعد المنصوص عليها والتي تُنظِّم المجتمع البشري.»

قال جونزاليس: «إنك تقليديٌّ يا عزيزي جورج، ودائمًا ما تكون تقليديًّا في الساعة التاسعة صباحًا! ولكن لو سألتُك في منتصف الليل، لأخبرتَني أنه أي فعلٍ يُسيء إلى جارك ويُضايقه عمدًا. وإن أردتَ وضع مصطلحٍ مُحدد لهذا الفعل وما يُسمونه في هذا البلد تفسيرًا قانونيًّا، لأضفتَ عبارة «مُخالِف للقانون». مما لا شك فيه أنه في مقابل كلِّ عشَرة آلاف جريمة، لا تُكتشَف سوى جريمةٍ واحدة. لكن الناس لا يربطون الجريمةَ إلا بتلك الجرائم التي يرتكبها نوعٌ معين من الأميِّين أو أشباه الأميين المجانين أو أنصاف المجانين، الذين يُلقِّبونهم عفويًّا بالمجرمين. الآن، ها هي جريمة بشعة، جريمة مروعة. إنه رجلٌ يُدمِّر أرواح الشباب ويُحطم القلوب بلا رحمة! إنه رجلٌ يسحب الرجال والنساء من طريق صعودهم إلى عالَم الرذيلة ويحطُّ من قدرِهم في أعينهم، ويقتل الطموح وكلَّ جمالٍ للروح والذهن. وهو لا يسعى إلا إلى العيش في مستوًى مُعيَّن من الراحة، ويرتدي قميصًا نظيفًا كلَّ مساء، ويشرب النبيذ غير الضروري مع عشائه الثقيلِ الهضم بأغلى الأثمان.»

سأل مانفريد: «أين هو هذا الرجل؟»

قال ليون: «إنه يعيش في ٩٩٣ شارع جيرمين، وهو في الحقيقة أحدُ الجيران.»

«أتتحدَّث عن السيد بالام؟»

قال جونزاليس جادًّا: «إنني أتحدَّث عن السيد بالام. هذه الليلة سأُصبح فنانًا أجنبيًّا، ومعي مبلغ كبير من المال في جيبي، ولديَّ رغبة لا تُقاوَم في الاستمتاع. لا أشكُّ في أنني والسيد بالام سيتقرِب كل منَّا من الآخر عاجلًا أم آجلًا.» ثم سأل فجأة: «هل مظهري يُشبه المُحقِّقين يا جورج؟»

قال جورج: «إنك تُشبه إلى حدٍّ كبير عازفَ بيانو ماهرًا.» ثم تنَشَّق جونزاليس.

وقال: «يُمكنك أيضًا أن تكون بغيضًا في الساعة التاسعة صباحًا.»

يُواجه المجرمون نوعَين من المخاطر (مع كامل الاحترام لآراء ليون جونزاليس، فكلمة المجرم هذه يَستخدمها الراوي) في سعيهم وراء الثراءِ السهل. يتمثَّل الخطر الأول في انكشاف الجريمة ومن ثَم العقاب؛ الذي ينطبق على المجرِم الكبير والصغير على حدٍّ سواء. الخطر الثاني هو فقدان مبالغَ كبيرةٍ من المال المُستثمَر بغرضِ تأمين مبالغَ أكبر. يقلُّ خطر انكشاف أمر المجرم الذي يستثمر المالَ في عمله. وهذا هو السبب في أن الفقراءَ والأغبياء فقط هم الذين يتعثَّرون في طريق العدالة، ويدخلون إلى قفص الاتهام في محكمة أولد بيلي؛ وهذا هو السبب في أن كبار المجرمين — الذين يُغضبهم مجردُ الإيحاء بأنهم من فئة المُخالفين للقانون — نادرًا ما يظهرون في المحكمة أمام القاضي، أو ربما لا يظهرون أمامه على الإطلاق.

كان السيد جريجوري بالام يُؤيِّد ويُمثل بعض أصحاب النفوذ الأغنياء الذين اشترَوا في المزاد ثلاثة منازل في شارع مونتاج ببورتلاند بليس. تقع المنازلُ الثلاثة على جزيرة؛ المبنى الأول عبارةٌ عن عدة مكاتبَ مؤجَّرة، حيث يَشغل الطابقَ الأرضيَّ محامٍ، والطابق الأول تاجرُ نبيذٍ ومشروباتٍ روحية، والطابق الثاني عبارةٌ عن جَناح بسيط للغاية مُكرَّس لساعات عمل السيد جريجوري بالام. كما استأجرَ هذا الرجلُ أيضًا القبو. وعلى أي حال، لمَّا غسل الجدران بالحجر الجيري والطِّلاء المائي، حوَّلَه إلى مكانِ تخزينٍ أنيقٍ ونظيف، هذا إن لم نعتبر أنه حوَّله إلى مكانٍ لطيف. من خلال هذا القَبو يُمكنك الوصولُ (من بين أماكنَ أخرى) إلى مرآبٍ جديد تمامًا بُني لأحد شُركاء السيد بالام، ولكن لم يكن السيد بالام مُهتمًّا به على الإطلاق.

لم يعرف أحد سوى العمَّال الذين توظَّفوا في التجديد، بإمكانية السير من منزلٍ إلى آخر؛ وذلك إما من خلال الباب في القبو، الذي كان موجودًا عند شراء المنازل، أو من خلال بابٍ جديد في مكتب السيد بالام.

يقع المنزلُ الثالث في نهاية الجزيرة، وأصبح المنزل مَقرًّا لنادي الفنانين العالميِّين، ولم تتبع الشرطة قط السيد بالام هناك؛ لأن السيد بالام لم يذهب إلى هناك من قبل، على الأقل لم يدخل من الباب الأمامي. يحتوي نادي الفنانين على «غرفة استراحة»، ظهر السيد بالام في بعض الأوقات وكأنه يخرج من قُمْقُم ساحر في تلك الغرفة ويلتقي فيها بجمعٍ صغيرٍ مختار، ويقودهم من خلال باب مرور سري وخفي إلى الدور الأرضيِّ للمنزل الأوسط. المنزل الأوسط هو الأرقى بين المنازل الثلاثة. وكانت به ستائرُ من نسيج الموصلين الأنيق على جميع نوافذه، وكان يسكنه رجلٌ نبيل مُبجَّل وزوجته.

اعتاد السيدُ الموقر الخروجَ إلى العمل كلَّ صباح في الساعة العاشرة، وكان يضع قبعته الحريرية اللامعة الأنيقة على جانب رأسه، ومِظلته ملفوفة تحت ذراعه ووردةٌ في عُروة معطفه. يعرفه رجال الشرطة من مظهره ويلمسون خوذاتهم تحيةً له عندما يرَونه. في الأيام الماضية عندما كان السيد ريموند — كما أطلق على نفسه — ذا لحية بيضاء كثيفة، وكان يُحقِّق دخلًا رائعًا من خلال كتابة رسائل الاستجداء وإجراء المُقابلات مع الإناث الساذَجات ومُرهَفي الحِس، لم يكن له هذا الاسمُ أو هذه السمعة اللذان يتمتَّع بهما في شارع مونتاج. لكنه أصبح الآن حليقَ الذقن وبمظهرٍ كمظهر أميرال متقاعد، ويحصل على أربعة جنيهات إسترلينية في الأسبوع مقابلَ خروجه من المنزل كلَّ صباح في الساعة العاشرة صباحًا بقبعته الحريرية الموضوعة بزاويةٍ مائلة، ومظلته الملفوفة، وزهرة أنيقة صغيرة يضعها في عُروة مِعطفه. وكان يقضي معظم اليوم في غرفة مُطالعة مبنى البلدية، ويعود في الساعة الخامسة مساءً نشيطًا كالعادة.

وبعد انتهاء يوم عمله، يذهب هو وزوجته ذات الوجه القاسي إلى غرفة العلية الصغيرة، ويلعبان لعبة الكريبج؛ وكانت لغتُهما بالتأكيد مُنمقةً ولكنها لم تكن وَقورة.

في الطابق الأول، خلف الستائر المخمليَّة السوداء الثلاثية، اعتاد الرجالُ والنساء على التدخين ليلًا ونهارًا. مساحة الغرفة كبيرة؛ إذ كانت غرفتَين فيما مضى ثم حُوِّلتا إلى غرفةٍ وزُيِّنت تحت إشراف السيد بالام. في هذه الغرفة، لم يكن شيء يُدخَّن سوى الأفيون؛ فإن رغب شخصٌ في الحشيش، فعليه أن يُشبِع رغبته في شقةٍ في الطابق السُّفلي. اعتاد السيد بالام أن يأتيَ بنفسه في بعض الأحيان ليُدخِّن عُشبة الأحلام، ولكنه عادةً ما يحتفظ بهذه الزيارات لمناسباتٍ مثل استقبال عميلٍ جديد ومُربح. لم يُؤثر الغليون تأثيرًا سيئًا في السيد بالام، وكان هذا مصدرَ فخره. ولكنه يتفاخر الآن بعميلٍ جديد، وهو فنانٌ إسباني ثري التقطَه أحدُ ثعالبه، واقتاده إلى نادي الفنانين العالميين.

قال الوافد الجديد مُلوِّحًا بالانصراف لخادمٍ صيني أصفر الوجه، يُلبي احتياجات المُدخنين: «ولا لي؛ فأنا دائمًا أحمِل معي دُخاني.»

تطلَّع بالام بعنقه عندما أخرج الرجل صندوقًا فِضيًّا من جيبه وأخرج منه حبةً خضراء لَزِجة المظهر.

سأل بالام بفُضول: «ما هذا؟»

«إنه خليطٌ يُعَد خِصِّيصى لي، ويتكوَّن من القنب الهندي والأفيون وقليلٍ من التبغ التركي. إنه أخفُّ من الأفيون ونتيجته أروعُ بكثير.»

قال بالام وهو يهزُّ رأسه: «لا يُمكنك أن تُدخنها هنا. جرِّب الغليون أيها العجوز.»

لكن «العجوز» — الذي كان صغيرًا في الواقع على الرغم من شَيبِ شعره — كان عازمًا على فعله.

وقال: «لا يُهِم، يُمكنني أن أُدخن في المنزل. لقد جئتُ فقط من باب الفضول.» ثم قام لينصرف.

قال بالام بسرعة: «لا تتعجَّل. انظر هنا، لدينا قبوٌ في الطابق السفلي مُخصَّص لمدخِّني غليون القنب — المدخنون هنا بالأعلى لا يُحبُّون الرائحة — سأنزل وأُجرِّب غليونًا معك. أحضِر قهوتك.»

كان القبو فارغًا وجلس السيد بالام وضيفُه على أريكةٍ مريحة.

قال الغريب: «يُمكنك إشعالُ هذه بعود ثقاب، فلست بحاجةٍ إلى ولَّاعة كحول.»

لمَّا كان بالام يحتسي قهوتَه، نظر بارتيابٍ إلى الغليون الذي قدَّمه جونزاليس.

قال ليون: «لديَّ سؤال أودُّ أن أطرحَه عليك. هل إدارةُ عملٍ كهذا تجعلك لا تنامُ الليالي؟»

قال السيد بالام وهو يُشعِل غليونه ببطء وينفُث الدخان، والبهجة باديةٌ عليه: «لا تكن سخيفًا. تَعاطي هذه الأدخنةِ ليس سيئًا على الإطلاق. أيجعلني مستيقظًا في الليل؟ لم؟»

أجاب ليون: «حسنًا، كثيرٌ من الناس يتصرَّفون بغرابة هنا، أليس كذلك؟ أعني أن تعاطيَ هذه الأدخنة يُدمر الناس.»

قال السيد بالام بارتياح: «يدلُّ مظهرهم الخارجي على أنهم يمرُّون بلحظاتٍ غامرة من المرح. لا نعيش الحياةَ سِوى مرةٍ واحدة، ولا أن نموت مرة واحدة.»

قال ليون بجدِّية: «بعض الناس يموتون مرَّتَين. بعض الذين يقعون تحت تأثير مخدِّرٍ ضارٍّ لا يعُون ما يفعلون، ويستيقظون ليجدوا أنفسهم قتَلة. ثَمَّة مخدِّرات في الشرق يُسميها السكانُ الأصليون «البال»، إنه يُحوِّل المرء إلى مجنون هائج.»

قال بالام بعد نفادِ صبره: «حسنًا، هذا لا يعنيني. يجب أن نُسرع في التدخين، ستأتي سيدة لرؤيتي.» ثم قال ضاحكًا: «يجب أن أفِيَ بموعدي أيها الرجل العجوز.»

قال ليون: «على العكس، فإن إدخال هذا المُخدِّر في الغليون يُثير اهتمامك كثيرًا؛ وعلى الرغم من موعد الآنسة ماجوري …»

أجفل الآخَر.

وقال غاضبًا: «عمَّ تتحدَّث؟»

«على الرغم من هذا الموعد، يجب أن أنقل إليك الأخبارَ بأن المُخدِّر الذي يُحوِّل الرجال إلى وحوش فاقِدي الوعي هو أقوى من أي مخدرٍ آخرَ تُقدِّمه في هذا الوكر.»

غمغمَ بالام قائلًا: «ما علاقتي بما تقول؟»

قال ليون بهدوء: «إنه يَعنيك كثيرًا؛ لأنك في هذه اللحظة تُدخن جرعةً مُضاعَفة!»

استشاط بالام غضبًا وقفز على قدمَيه؛ ولكنه لا يتذكَّر ما حدث بعد ذلك. لم يشعر إلا بشيء قد انقسم في رأسه، وسطع وميض ضوء أمام عينَيه، ثم مرَّت أحداثُ قرنٍ كامل من الزمان في رأسه، مرت مائة عام من الزمان ولم تنفكَّ الأضواء من الوميض، والضوضاء من الدَّوي، والأصواتُ من الهمس، والحركة من الاضطراب المتواصل داخل عقله. بات يعرف أحيانًا أنه يتحدَّث ويُنصت لسماع ما سيقوله هو نفسُه؛ وفي أحيان أخرى، يرى الناسَ يتحدَّثون إليه ويسخرون منه، ويُصبح واعيًا بأن شخصًا ما يُطارده.

لم يستطع حسابَ الوقت الذي استمرَّ فيه على هذه الحال. ولمَّا كان عقلُه شبهَ مُغيَّب، حاول أن يَحسب الوقت، لكنه وجد أنه ليس لديه معيارٌ للحساب. شعر أنه فتح عينَيه بعد سنواتٍ وهو يئن، ووضع يدَه على رأسه الذي يُؤلمه. بات مُستلقيًا على السرير، وجد نفسه على سريرٍ صُلب ووسادة أكثرَ صلابة. حدَّق في السقف المَطليِّ بالكلس الأبيض، ونظر حوله إلى الجدران المنبسِطة المطليَّة بالطِّلاء المائي. ثم نظر من على جانب السرير ورأى أنَّ الأرضية من الخرسانة. وجد مِصباحَين مُضيئَين، أحدهما فوق طاولةٍ والآخر في أحد أركان الغرفة، ورأى رجلًا جالسًا ويقرأ إحدى الصحف. كان رجلًا ذا مظهر غريب؛ نظر بالام إليه بطَرْف عينه.

قال بصوتٍ عالٍ: «أنا أحلم.» نظر الرجل لأعلى.

وقال: «مرحبًا! هل تريد النهوض؟»

لم يردَّ بالام، وظلَّ يُحدق فاتحًا فمَه. كان الرجل يرتدي زيًّا نظاميًّا أسودَ مجسمًا عليه. وكان يرتدي قبعة على رأسه وشارة وحزامًا أسودَ لامعًا حول خصره؛ ثم قرأ بالام الأحرفَ المكتوبة على حزام كتف السترة.

قال وهو في حالة غيابٍ عن الوعي: «إيه دبليو إيه دبليو.»

إلامَ يرمز الحرفان «إيه دبليو» ثم ومضَت حقيقةُ هذَين الحرفَين في عقله.

إنها في الإنجليزية حارسٌ مُساعد! جال ببصره في الغرفة، تُوجَد نافذة واحدة محجوبة بعددٍ كبير من أسياخ الحديد ومُغطَّاة بزجاجٍ سميك. وعلى الحائط. لُصِقَت ورقة مطبوعة، فنهض من فِراشه وقرأها وهو لا يزال فاغرًا فاه:

«لوائح السجون الملكية.»

نظر إلى جزئه السُّفلي. مِن الواضح أنه ذهب إلى الفِراش مُرتديًا بنطالَه وجوربه، وكان بنطاله من خامةٍ صفراءَ خشنة وموسومًا بأسهُمٍ سوداءَ باهتة. لقد كان في السجن! منذ متى وهو مسجون؟

الحارسُ بفظاظة: «هل ستُحسِن التصرُّف اليوم؟ لا نُريد المزيد من تلك التصرُّفات التي أريتَنا إيَّاها بالأمس!»

قال بالام بصوتٍ كالنَّعيق: «منذ متى وأنا هنا؟»

«أنت تعرف كم من الوقت قضيتَ هنا. أتممتَ بالأمس ثلاثة أسابيع.»

قال بالام لاهثًا: «ثلاثة أسابيع! بأيِّ تُهمة؟»

قال الحارس بأسلوبٍ ليس فظًّا: «لا تلعب هذه اللعبة معي يا بالام. أنت تعلم أنه ليس مسموحًا لي بالحديث معك. عُد ونَم. أحيانًا، أعتقد أنك مجنونٌ كما تدَّعي.»

سأل بالام: «هل كنتُ … سيئًا؟»

رفع الحارس رأسه، وقال: «سيئًا؟ لم أكن معك في المحكمة، لكنهم يقولون إنك تصرَّفتَ في قفص الاتهام كالمجنون، وعندما أصدر القاضي حكمًا بالإعدام …»

صرخ بالام وارتدَّ إلى سريره بوجهٍ شاحبٍ ومُرتعد، وقال: «يا إلهي! حكمٌ بالإعدام!» ثم واصل بكلمات مُتثاقلة على لسانه: «ماذا فعلت؟»

قال الحارس: «لقد قتلتَ سيدة شابة، وتعرِف ذلك. أنا متفاجئ منك؛ تُحاول خداعي بعدما كنتُ صديقًا طيبًا لك يا بالام. لماذا لا تستجمع قوَّتك وتستقبل عقابَك كالرجال؟»

يُوجَد تقويمٌ موضوع فوق المكان الذي يجلس فيه السجَّان.

قرأ بالام وكاد أن يصرخ مرةً أخرى لأنه قابلَ ذلك الغريبَ الغامض في الأول مِن شهر مارس: «الثاني عشر من أبريل.» وتذكَّر كل شيء الآن. البال! المُخدِّر الذي يدفع المرء للجنون.

قفز على قدمَيه.

وقال: «أُريد أن أرى المأمور! أريد أن أُخبره بالحقيقة! لقد كنتُ مُخدَّرًا!»

قال الحارس باستعفاء: «حسنًا، لقد أخبرتَنا بكل هذه القصة من قبل. عندما قتلتَ الشابة …»

صرخ بالام: «أي شابة؟ ليست ماجوري! لا تقل لي إنني …»

قال الحارس: «أنت تعلم جيدًا أنك قتلتَها. ما فائدة كل هذه الجلَبة؟ الآن عُد إلى السرير يا بالام. لن تجني شيئًا من إثارة كل هذه الضجة في تلك الليلة بالذات.»

«أريد أن أرى المأمور! هل أستطيع أن أكتب له؟»

«يمكنك أن تكتب له إن أردت.» وأشار الحارس إلى الطاولة.

ترنَّح بالام إلى الطاولة وجلس مرتعشًا على كرسي. وجد نصف دستة من أوراق الملاحظات الزرقاء لها ترويسةٌ باللون الأسود: «السجن الملكي، واندسوورث، إس دبليو ١.»

كان في سجن واندسوورث! نظر حوله في الزنزانة. لم تكن تُشبه الزنزانة ولكنها كانت كذلك. الزنزانة فارغة فراغًا مروِّعًا ويبدو البابُ ثقيلًا. لم يدخل زنزانة من قبل، وبالطبع وجد الأمر مُختلفًا عمَّا كان يتوقعه.

انتابَته فكرة، فقال بصوتٍ مختنق: «متى … متى سأُعاقَب؟»

«غدًا!»

وقعت الكلمة عليه وقْع حُكم الإعدام؛ فسقط الرجل إلى الأمام ورأسُه فوق ذراعَيه، وبكى بكاءً هستيريًّا. وفجأة، بدأ يكتب بعجَلةٍ محمومة، وقد احمرَّ وجهه من البكاء.

اختطَّ رسالةً غير مترابطة العبارات؛ تحدَّث فيها عن رجل أتى إلى الملهى وأعطاه مخدرًا، ثم قضى وقتًا سرمديًّا في ظلامٍ دامس يرى فيه أضواءً وأناسًا يُلاحقونه وأصواتًا تهمس في أذنه. ولم يكن مُذنبًا. وقد أحبَّ جيني ماجوري. ولم يكن ليُؤذيَ شعرةً من رأسها.

توقف هنا ينوح مرةً أخرى. هل يرى حُلمًا؟ أم لا يزال تحتَ تأثير هذا المخدر؟ ضرب بقبضة يده على الحائط، وأصابته الصدمةُ بالفزع.

قال الحارس بصرامة: «لا فائدة مما تفعله. عُد إلى السرير.»

نظر بالام إلى أصابعه النازفة. لقد كانت حقيقة! لم يكن حلمًا! لقد كانت حقيقة! حقيقة!

استلقى على السرير وفقد وعيه مرةً أخرى؛ وعندما أفاق وجد الحارس جالسًا في مكانه يقرأ. بدا وكأنه أخذ غَفوةً مرة أخرى لمدة ساعة، على الرغم من أنه لم يَغفُ أكثرَ من بضع دقائق في الحقيقة؛ وفي كل مرة يستيقظ يقول شيئًا ما بداخله: «هذا الصباح تموت!»

بمجرَّد أن قفز صارخًا من السرير، واستلزم الأمرُ إلقاءه على السرير مرةً أخرى.

قال الحارس بوحشية: «إذا سبَّبت لي مزيدًا من المتاعب، فسأُدخل ضابطًا آخر وسنُقيِّدك. لماذا لا تتقبل الأمر كالرجال؟ إنه ليس أسوأَ عليك ممَّا كان عليها.»

بعد ذلك، استلقى ساكنًا وغطَّ في نومٍ يبدو أنه أطولُ فترة نوم حتى لمسه الحارس. وعندما استيقظ وجد ثيابه موضوعةً مُرتَّبة بجانب السرير على كرسي، وارتدى ملابسَه على عجل.

نظر حوله بحثًا عن شيءٍ ما.

ثم قال وهو يرتجف: «أين الطوق؟»

قال الحارس بصوتٍ به نوعٌ مُعين من الفكاهة التهكمية: «لست بحاجةٍ إلى طوق.»

ثم قال بخشونة: «تماسَك. لقد مرَّ أشخاص آخرون بهذا. حسبما سمعت، فقد كنتَ تُدير وكرًا للأفيون. زارنا عددٌ كبير من عملائك. كان عليهم المُضيُّ قدُمًا في الأمر، ويجب عليك ذلك أيضًا.»

انتظرَ جالسًا على حافَةِ السرير ووجهُه في يدَيه ثم انفتح الباب ودخل رجلٌ نحيف ذو لحية حمراء وخَصلة من الشعر الأحمر.

أدار الحارسُ السجينَ للجهة الأخرى قائلًا: «ضع يدَيك خلفك.» ومن ثَم تعرَّق بالام عندما شعر بالرِّباط يُمسك بمعصمَيه.

انطفأ الضوءُ حينذاك. وضع غطاء على وجهه، واعتقد أنه سمع أصواتًا خلفَه. لم يكن مُستعدًّا للموت، وهو يعلم ذلك. دائمًا ما يحضر قَسٌّ في مثل هذه القضايا. أمسك أحدُهم بذراعه من كِلا الجانبَين وسار ببطءٍ إلى الأمام من الباب وعبَر ساحةً ثم عبر بابًا آخر. مشى طريقًا طويلًا؛ وقد انثنَت رُكبتاه للحظةٍ ولكنه وقف مُنتصِبًا. ثم توقَّفوا الآن، وقال صوتٌ: «قِف حيثما أنت.» ووجد حبلَ مشنقة ينزلق حول عنقه؛ وانتظر، وانتظر في عذاب، مرَّت الدقائق وكأنها ساعات. لم يهتمَّ بالوقت ولم يتمكَّن من حسابه. ثم سمع خطوةً ثقيلة وأمسكه شخصٌ من ذراعه.

قال الصوت: «ماذا تفعل هنا أيها المأمور؟»

سُحِب الغِطاء من فوق رأسه، ووجد نفسَه في الشارع. كان الوقت ليلًا وتبيَّن أنه يقف تحت ضوء مصباحٍ من مصابيح الشارع. وكان الرجل الذي ينظر إليه بفضولٍ شُرَطيًّا، وقال وهو يفكُّ الطوق: «وُضِع حبل حول عنقك أيضًا، وقَيَّد شخصٌ يدَيك. ما هذا؟ اختطاف؟ أم مزحة؟ أنا متفاجئ منك، رجل عجوز مثلُك بشعر أبيض!»

لم يشتعل الشيبُ في رأس جريجوري بالام إلا قبل أقلَّ من سبع ساعات عندما وضع ليون جونزاليس المُخدِّر في قهوته، ونقله عبر مخرج القبو إلى الفناء الكبير خلف النادي.

كان هناك مِرآب جديد ولطيفٌ اكتشفه ليون عندما تفقَّد المكان، وتُرِكوا في هذا المكان — لا يُقاطعهم أحد — كي يلعبوا مسرحيتَهم الكوميدية عن زنزانة المحكوم عليه بالإضافة إلى أوراق السجن الزرقاء التي وضَعوها هناك لِحَبكِ اللُّعبة ونسخة من لوائح السجن، التي تبرع بها مفوَّض الشرطة السيد فير عن غير قصد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤