الفصل الثامن

المسلوب من ماله

لم يُعثَر على سجلٍّ لنشر قصة بهذا العنوان في أي مجلة

في ليلة الأحد، يزدحم نادي مارتاوس دائمًا بأصحاب أعلى طبقةٍ اجتماعية، الذين يبقَون في المدينة خلالَ عطلة نهاية الأسبوع. يتميَّز نادي مارتاوس بإضاءته الخفيفة والمفارش البيضاء والزجاج والفِضَّة المُتلألئة والزهور العجيبة والطاولات الموضوعة بالقرب من الجدران على شكل متوازي الأضلاع على الأرضية اللامعة.

يَلقى الشبابُ والشابات، وكبار السن أيضًا، سعادةً غامرة في نادي مارتاوس، ولكن كلَّ شيء بثمنه. ولم يكن طول «الفاتورة» التي يُزيِّلها لويس النادل الرئيسي بالأحرف الأولى باسمه، أو التكلفة المُذهلة للنبيذ، أو الفراولة التي على شكل نصف التاج، هو ما يَضعُف أمامه الناس.

كان بإمكان جون إيدن أن يدفع فاتورة كلِّ ما يأكله أو يشربه أو يُدخنه في مارتاوس، وفي الحقيقة كان النادي نزيهًا بقدْر ما كان مرِحًا. لا يُمكن أن تجد حُزمة من بطاقات اللعب بين جنباته. يعرِف لويس كلَّ وجهٍ والتاريخَ وراء كلِّ وجه. ومقابل بضعة جنيهات، يمكن أن يُخبرك بالرصيد البنكي لكل مُرتادٍ من مرتادي النادي. لم يكن يعرف جون إيدن — آخر الأعضاء المُنضمِّين إلى النادي — لكنه خمَّن بذكاء.

رقص جون إيدن مع فتاةٍ غريبة، وهو أمر غير مُعتاد في مارتاوس؛ إذ عادةً ما تُحضِر معك شريكتك في الرقص، ولا تطلُب الرقص مع فتاةٍ غريبة تحت أي ظرفٍ من الظروف.

لكن ويلبي كان موجودًا في النادي. وجاك يعرف عنه القليل، رغم أنه لم يرَه منذ سنوات. يتبع ويلبي أحدثَ صيحات الموضة ويظهر بمظهر ذَوي الشأن. عندما التقى مصادفةً به، شعر جاك وكأنه من أبناء الريف. أمضى جاك ثمانيَ سنواتٍ في جنوب أفريقيا، ولكنه كان يشعر أنه غريب. لكن تصرَّف ويلبي بلُطف، وأصرَّ أن يُعرِّفه على ماجي فين. إنها فتاة جميلة ترتدي ملابس جميلة، وتتزيَّن بالجواهر الثمينة — بلغ ثمن عقدها من اللؤلؤ عشرين ألف جنيه إسترليني — ولذا انبهر بها جاك المسكين؛ وعندما اقترحت أن يذهبا إلى بينجلي، لم يكن ليحلُم بالرفض.

لمَّا مرَّ عبر الرواق، اعتذر لويس — النادل الرئيسي — وأزال القليل من الزغب عن معطفه، وقال بصوتٍ غير مسموع لأحدٍ غير جاك: «لا تذهب إلى بينجلي.» وهذا تصرُّف سخيف ووقح بالطبع؛ مما دفع جاك إلى التحديق في وجهه.

مكث في بينجلي حتى الساعة السادسة صباحًا مُخلِّفًا شيكاتٍ من شأنها أن تمتصَّ كل قرشٍ جلَبه من أفريقيا، بل وأكثر بقليل. عاد إلى الوطن وهو يحلُم بمنزلٍ صغير وممارسة القليل من الرماية والقليل من صيد الأسماك وكتابة كتابه الخاص عن صيد الحيوانات الكبيرة، ولكنَّ أحلامه ذهبت أدراج الرياح عندما قلَب عامل القمار، بحركةٍ آلية وبابتسامة على شفتَيه المُحاطتين بلحيته، إحدى البطاقات وقال بالفرنسية:

«الفائز هو الورق الأحمر.»

ما تصوَّر جاك قطُّ أن بينجلي بيتٌ للقمار، وبالتأكيد لم يرَ مظاهر تدلُّ على أنه بيت للقمار عندما دخله. لم يعرف حتى أدخلَته تلك الجميلةُ إلى الغرفة الداخلية، حيث يلعبون لعبة المكسب من الخطين ثلاثين وأربعين (الأسود والأحمر) ورأى أنهم يُراهنون بمبالغ كبيرة، فبدأ يشعر بالتوتر. جلس إلى جانبها على الطاولة وراهن بمبلغٍ بسيط وفاز. واستمرَّ في الفوز حتى زادت رهاناته.

يتعامل أصحابُ بيت بينجلي بلُطفٍ بالِغ؛ إذ يقبلون التعامل بالشيكات. وفي الواقع، كانت لديهم نماذجُ شيكات جاهزة على ملء البيانات.

عاد جاك إيدن إلى الشقة التي أخذها في شارع جيرمين، التي تقع فوق شقة مانفريد وليون جونزاليس مباشرة، وكتب رسالة إلى شقيقه في الهند.

استيقظ مانفريد لمَّا سمع صوت الرصاص. خرج إلى غرفة الجلوس مُرتديًا منامته ووجد ليون سبقه إلى هناك وينظر إلى السقف الذي تغيَّر لون بياضه بسبب رُقعةٍ حمراء صغيرة كانت تزداد اتساعًا.

خرج مانفريد وذهب إلى سُلَّم المبنى، ووجد مالك الشُّقَق مُرتديًا قميصه وبنطاله إذ سمع صوتَ الرصاص من شقته في الطابق السفلي، وقال: «اعتقدتُ أن الصوت صادرٌ من شقتك يا سيدي، لا بدَّ أنه في شقة السيد إيدن.»

لمَّا صعد الدرَج، أوضح أن السيد إيدن وافدٌ جديد إلى البلاد. وجد باب شقته مُغلقًا، لكن المالك أخرج مِفتاحًا وفتحه. رأَوا الأضواء مُشتعلة في غرفة الجلوس، وأدرك مانفريد القصة بنظرةٍ واحدة. رأَوا شخصًا جاثمًا ومُمدَّدًا على الطاولة والدم يقطُر من فوقها مُكوِّنًا بِركةً على الأرض.

تعامل جونزاليس مع الرجل تعاملًا عِلميًّا.

قال: «إنه ليس ميتًا. أظنُّ أن الرصاصة لم تَمس أي عضو حيوي.»

أطلق الرجل الرصاص على صدره؛ وبناءً على اتجاه الجرح، تيقَّن جونزاليس تمامًا أن الإصابات طفيفة. وضع ضمَّادة الإسعافات الأولية ورفعوه معًا على أريكة. ولمَّا غُطِّي الجُرح، نظر جونزاليس حوله ورأى رسالةً كشفت السر.

قال وهو يُمسك بها: «بينر، أتفهَّمُ أنك لا تُريد الإعلان عن أنَّ شخصًا حاول الانتحار في إحدى شققك.»

قال المالك بتعصُّب: «هذا آخِر شيء قد أريده في العالَم.»

«إذن، سأضع هذه الرسالة في جيبي. هلَّا اتصلتَ بالمستشفى وقلتَ إن لدينا حادثًا. لا تتحدَّث عن الانتحار. قل إن الرجل عاد مؤخرًا من جنوب أفريقيا، وكان يُعبئ مُسدَّسه وانطلقَت الرَّصاصة دون قصد.»

أومأ الرجل وغادر الغرفة على عجَل.

ذهب جونزاليس إلى مكان استلقاء إيدن، وفي تلك اللحظة انفتحت عينا الشاب. ظلَّ ينتقلُ بنظره من مانفريد إلى جونزاليس عابسًا وحائرًا.

قال ليون بصوتٍ رقيق وهو يميل على الرجل الجريح: «صديقي، لقد تعرضتَ لحادث، هل تفهمني؟ إنك لستَ مُصابًا إصاباتٍ مُميتة. في الواقع، أعتقد أن إصابتك طفيفة للغاية. ستأتي سيارة إسعاف من أجلك وستذهب إلى المستشفى وسأزورك يوميًّا.»

همس الرجل: «من أنت؟»

ابتسم ليون وقال: «أنا جارك.»

لهث إيدن بالكلمات قائلًا: «الرسالة!»

أومأ ليون قائلًا: «إنها معي في جيبي، وسأُعيدها لك عندما تتعافى. لقد تعرضتَ لحادث، هل تفهمني؟»

أومأ إيدن.

بعد ربع الساعة، وصلَت سيارة إسعافٍ من المُستشفى إلى الباب، وأخذت الشخص الذي حاول الانتحار.

قال ليون عندما عادا إلى شقتهما: «الآن سنكتشِف أصل ما حدث.» وبهدوء شديد فتحَ الظرف وقرأ.

سأل مانفريد: «ما الأمر؟»

«عاد صديقنا الشابُّ من جنوب أفريقيا بمبلغ سبعة آلاف جنيه إسترليني، جمعها في ثماني سنواتٍ من العمل الشاق. وخسِرها في أقلَّ من ثماني ساعاتٍ في بيتٍ للقمار لم يذكُر اسمَه. لم يخسر فقط كل الأموال التي يملكها ولكنه خسِر أكثرَ من ذلك، ويبدو أنه أعطى شيكاتٍ لسداد ديونه.»

حكَّ ليون ذقنه، وقال: «هذا يستلزم مزيدًا من التفتيش لغرفته. أتساءل هل يا تُرى سيعترض السيد بينر المدهش؟»

تمنَّى السيد بينر المدهش أن يُجري ليون البحث لأنه يتوقَّع زيارةً حتمية من الشرطة. أجرَيا البحث، وعثر ليون على دفتر شيكاتٍ كان يبحث عنه، مَطويًّا بعيدًا في الجيب الداخلي لبذلة جاك إيدن، وأحضره إلى غرفته.

قال بخيبةِ أمل: «لا تُوجَد أسماء، بل لا تحتوي أرومة كل شيكٍ سوى على «المبلغ». وكلها — على ما أعتقد — للشخص نفسِه. إنه يتعامل مع البنك الوطنيِّ الثالث لجنوب أفريقيا، والبنك له فرع في شارع ثروجمورتون.»

نسَخ أرقام الشيكات بعناية، وكانت عشرة في مجموعها.

قال: «أولًا وقبل أي شيء، بمجرد أن يفتح مكتب البريد سنُرسل برقية إلى البنك لإيقاف سداد هذه المبالغ. بالطبع قد يُقاضى الرجل، لكن دَين القمار لا يُمكن استرداده بموجَب القانون؛ وقبل أن يحدُث ذلك سنشهد العديد من التطوُّرات.»

حدث التطور الأول بعد ظهر اليوم التالي. سبق أن أعطى ليون تعليمات بأن أيَّ شخصٍ يسأل عن السيد إيدن يجب أن يُعرَض عليه. في الساعة الثالثة، ظهر شابٌّ يرتدي ملابسَ أنيقة للغاية يلفظ حرف الهاء بملء أنفاسه بتركيزٍ مُريب، وقال: «هل هذه شقة السيد إيدن؟»

قال جونزاليس: «لا، إنها ليست كذلك. إنها شقَّتي أنا وصديقي ونحن نتصرَّف باسم السيد إيدن.»

عبس الزائر مُرتابًا في وجه ليون، وقال: «تتصرَّفان باسمه؟ حسنًا، ربما يُمكنكما إعطائي بعض المعلومات حول بعض الشيكات التي تمَّ تعليقها. ذهب مديري لصرفها هذا الصباح، ورفض البنك الدفع. هل يعرف السيد إيدن كلَّ شيءٍ عن هذا؟»

سأل ليون بلُطف: «مَن مُديرك؟»

«السيد مورتيمر بيرن.»

«وما عنوانه؟»

أعطاهما الشابُّ إيَّاه. وكان السيد مورتيمر بيرن على ما يبدو مُتعهد كمبيالات، وغطَّى شيكاتٍ لعددٍ من الأشخاص الذين لم يرغبوا في تمريرها عبر بنوكهم. شدَّد الشاب على أن الشيكات ملك لعددٍ كبير من الناس.

ليون موافقًا له: «وقد أتَوا جميعًا إلى السيد بيرن. يا لها من مُصادفة فريدة.»

قال مبعوث السيد مورتيمر بيرن، وكانت نبرة صوته غير لطيفة: «أُفضل أن أرى السيد إيدن، إذا كنتما لا تُمانعان.»

ليون: «لا يُمكنك رؤيته لأنه تعرَّض لحادث. لكنني سأرى سيدك بيرن.»

وجد السيد بيرن في مكتبٍ صغير جدًّا في شارع جلاسهاوس. لم يكن عمل السيد المحترم محدَّدًا سواء على لوحة الباب أو على النافذة المَطلية، لكن ليون اشتمَّ رائحة «مُقرِض أموال» لحظة دخوله إلى مكتبه.

وجد المكتب الخارجي شاغرًا عندما دخل، ورأى خِزانة صغيرة مُغبَرَّة في مكانٍ لا يتَّسع إلا لطاولة شديدة الصغر، وتقلصت المساحة أكثرَ بحاجزٍ خشبي مُرتفع أعلى الرأس، بحيث يحجب الشخصَ التعيس الذي شغَل الغرفة عن الهواء وعن المشاهدة المباشرة. ثَمة بابٌ مكتوب عليه «خاص» يُؤدي إلى قدسِ أقداسِ السيد بيرن، ومن هذه الغرفة سُمِعَت الأصوات العالية.

استمع جونزاليس.

زأر أحدُ الأصوات قائلًا: «… تعالَ دون اتصالٍ هاتفي، هل فهمت؟ إنها تأتي في الصباح دائمًا، ألم أُخبرك مائة مرة؟»

قال الآخر مُتذمرًا: «إنها لا تعرفني.»

«إنها لم ترَ سوى شعرك …»

في تلك اللحظة، خرج الشابُّ الذي توقَّف في شارع جيرمين من الغرفة. وألقى جونزاليس نظرةً سريعة على رَجُلَين؛ أحدهما قصير وبدين، والآخر طويل، لكن شعره الأحمر اللامع هو الذي لفت انتباهَ ليون. ثم عاد موظف السيد بيرن إلى الغرفة وتوقَّفت الأصوات. عندما أوصل جونزاليس إلى المكتب، لم يرَ سوى مالكِ المؤسَّسة.

بيرن رجلٌ أصلع وبدين ولطيف للغاية. أخبر ليون القصة نفسَها التي رواها موظَّفه.

سأل بيرن في النهاية: «الآن، ما الذي سيفعله إيدن بشأن هذه الشيكات؟»

قال ليون بلُطف: «لا أعتقد أنه سيُوفي بها، فهي — كما ترى — ديون مقامرة.»

قاطعه بيرن قائلًا: «إنها شيكات، والشيك هو الشيك سواءٌ أكان لِدَين مقامرةٍ أو شُوال من البطاطس.»

سأل ليون: «أليس هذا مُخالِفًا للقانون؟ وإن لم يكن مُخالفًا، فهلا كتبتَ لي رسالةً بهذا الغرض، وفي هذه الحالة سيُدفَع لك.»

قال السيد بيرن: «بالتأكيد سأفعل. إذا كان هذا كل ما تُريده، سأكتبها الآن.»

قال ليون: «هيا اكتب.» لكن السيد بيرن لم يكتب الرسالة، بل تحدَّث عن مُحاميه؛ إذ يستشيط سخطُه على الشخصية التي لا تتمتَّع بالروح الرياضية لدى مَن يتنصَّل مِن ديون الشرَف (لم يشرح كيف أصبح مُقتنعًا بأن الشيكات تُمثِّل خسائرَ المقامرة) وأنهى المُقابلة ببعض الغضب. ظل ليون يتكهَّن بهُوية الرجل الثالث الذي رآه، الذي من الواضح أنه غادر الغرفة عبر أحد الأبواب الثلاثة للمكتب.

نزل ليون على الدرَج الضيِّق إلى الشارع، وبينما يمشي على الرصيف، اقتربَت سيارة صغيرة ونزلت منها فتاة. لم تنظُر إليه، ولكنها مرَّت بجواره صاعدةً الدرَج. كانت وحدَها، وهي التي قادت سيارتها الكوبيه الفاخرة. انتظر جونزاليس — المُهتم — حتى خرجت. لم يستغرق الأمر أكثرَ من عشرين دقيقة، ومن الواضح أنها كانت حزينة.

انتاب ليون الفضولُ والاهتمام. وذهب مباشرة إلى المستشفى الذي نُقل إليه إيدن، ووجد الشابَّ تعافى بالقدْر الذي يُمكِّنه من الحديث.

وكانت كلماته الأولى تنمُّ عن قلقه وندمِه.

«عجبًا، ماذا فعلتَ بهذه الرسالة؟ لقد كنتُ أحمقَ …»

قال ليون: «لقد تخلَّصتُ منها.» وهذا ما فعله في الحقيقة. ثم أضاف: «الآن يا صديقي الشاب، يجب أن تُخبرني بشيء. أين كان بيت القمار الذي ذهبتَ إليه؟»

استغرق الأمر وقتًا طويلًا لإقناع السيد جون إيدن بأنه لم يَخُن الثقة، ثم أخبره القصة كاملةً من أولها إلى آخرها.

قال ليون مُفكرًا: «إذن كانت سيدة هي مَن أخذتك إلى هناك، أليس كذلك؟»

قال جون إيدن بسرعة: «لم تكن مُشترِكة في الأمر، فهي مجرد زائرة مثلي. وأخبرتْني أنها خسرَت خَمسمائة جنيه.»

قال ليون: «بالتأكيد، بالتأكيد. هل هي سيدة جميلة بعيونٍ شديدة الزُّرقة، وهل تمتلك سيارة صغيرة؟»

بدا الرجل مندهشًا.

وقال: «نعم، اصطحبَتْني في سيارتها، وهي بالفعل جميلة وعيناها زرقاوان. في الواقع، إنها من أجمل الفتيات اللاتي رأيتُهن على الإطلاق.» ثم قال وهو يهزُّ رأسه: «لا داعي للقلق بشأن السيدة يا سيدي. الفتاة مسكينة كما أنها ضحية خُدعة، إذا كان في الأمر ثَمَّة خداع.»

«أعتقد أنك قلتَ ١٩٦ شارع بول، مايفير.»

قال إيدن: «أنا مُتأكد أنه كان شارع بول، وعلى يقينٍ تقريبًا من أنه كان رقم ١٩٦. لكن آمُل ألَّا تتخذ أيَّ إجراءٍ ضدهم، لأنه كان خطَئي أنا.» ثم سأل فجأة: «ألستَ أحدَ السيِّدَين اللذين يعيشان في الشقة التي تحت شقتي؟»

أومأ ليون.

«أظن أن الشيكات قُدِّمت، وأن بعضها رجع.»

قال ليون: «لم تُقدَّم بعد، أو لم تُقبَل بأي حالٍ من الأحوال. ولو أطلقتَ النار على نفسك يا صديقي الشاب، ما قَبِلَها على الإطلاق؛ لأن البنك الذي تتعامل معه سيُوقف الدفع تلقائيًّا.»

تناول مانفريد العشاء وحدَه في تلك الليلة. ولم يعُد ليون، ولم تكن هناك أخبار عنه حتى الساعة الثامنة. عندما جاء مرسالُ المقاطعة بملاحظةٍ يطلُب فيها من مانفريد أن يُعطيَ لحاملها ملابسه وشيئًا أو شيئين من الأشياء التي ذكرَها.

كان مانفريد معتادًا جدًّا على طرُق ليون جونزاليس فلم يتفاجأ كثيرًا. حَزَم حقيبةً صغيرة، وأرسل الصبي بها. أما هو نفسُه، فقد أمضى المساء في كتابة الرسائل.

في الساعة الثانية والنصف، سمع شجارًا خفيفًا في الشارع بالخارج. دخل ليون دون تسرُّع، ولم يكن منزعجًا بأي حالٍ من الأحوال، على الرغم من أنه خرج لتوِّه من مواجهةٍ عنيفة مع شابٍّ مكث يُراقب المنزل طوال المساء انتظارًا لعودته.

لاحظ مانفريد أنه لا يرتدي ملابس المساء، بل يرتدي الملابس التي ارتداها عندما خرَج في الصباح.

«هل وصلَتك حقيبتُك كما أردت؟»

أجاب ليون: «أوه نعم، تمامًا.»

أخذ عودًا قصيرًا من جيب بنطاله، العود مصنوع من جِلد وحيد القرن، ويُسمَّى في جنوب أفريقيا «الشامبوك». يبلغ طول العود نحوَ قدمٍ ونصف القدم، لكنه سلاح مُرعب، وهو أحد الأشياء التي طلبها ليون. ثم فحصه في الضوء.

قال: «لا، لم أقطع رأسه. كنتُ خائفًا من فعل ذلك.»

«مَن كان هذا؟»

قبل أن يُجيب، أطفأ ليون الضوءَ وفتح ستائر النافذة المفتوحة ونظر للخارج. ثم عاد وأسدل الستائرَ وأشعل المصباح مرة أخرى.

قال: «لقد رحل، لكنني لا أعتقد أن الأمر سيتوقَّف عند هذا الحد.»

شرِب كوبًا من الماء وجلس بجانب الطاولة وضحك.

قال: «هل تُدرك يا عزيزي مانفريد أنَّ لنا صديقًا هو السيد فير — مفوض الشرطة — وأنه يزورنا أحيانًا؟»

ابتسم مانفريد وقال: «أُدرك ذلك جيدًا. عجبًا، هل رأيته؟»

هز ليون رأسه.

«لا، رآه آخرون وظنُّوا أنني من شرطة العاصمة. كذلك أُتيحَت لي الفرصة لمُقابلة صديقنا السيد بينجلي، وظلَّ هو ومن يعملون معه مُقتنعين تمامًا أنني الشخصُ المشهور في لندن باسم «المُنشق» — بعبارة أخرى مُحقِّق — وثمة اعتقاد مُنتشر أنني منخرِط في أعمال قمع بيوت القمار. ومن هذا المنطلق، حَظِيتُ باهتمامٍ طفيف. ولذلك فالحقيقة هي أنني تحت المُراقبة. أدركتُ تلك الحقيقة وأنا في طريق عودتي إلى شارع جيرمين اليوم؛ لحسن الحظ أنني نسيتُ أن أُخبر سائق سيارة الأجرة بمكان التوقُّف، فتجاوز المُراقبين قبل أن أتمكن من إيقافه.»

وصف زيارته إلى المستشفى ومُقابلته مع السيد بيرن.

«يمتلك بيرن — الذي هو في الواقع بينجلي — ثلاثة بيوت قمار كبيرة وربما أكثر في لندن، أو على أقل تقدير هو القوة المالية التي تقف وراءها. لا أظن أنه يتردَّد على أيٍّ منها بنفسه. يقع بيت القمار في مايفير، وبالطبع وجدتُه مغلقًا الليلة ولم أحاول تحديد مكانه. خَشُوا أن يُبلِّغ صديقنا المسكين الشرطة. لكن يا عزيزي مانفريد، كيف يُمكنني أن أصف لك جمال ذلك المنزل البهيج في طريق بايزووتر، إذ يجتمع فيه الأثرياء وعلية القوم في لندن كل ليلة ليُجربوا حظهم في لعبة الباكاراه.»

سأل مانفريد: «كيف وصلتَ إلى هناك؟»

أجاب جونزاليس ببساطة: «أُخِذت إلى هناك. ذهبتُ لتناول العشاء في نادي مارتاوس. وتعرفت على السيد ويلبي ورحبتُ به كصديقٍ قديم. أعتقد أنه جال في خَلدِه حقًّا أنه قابلني قبل أن أذهب إلى الأرجنتين وأصنع ثروتي. وبالطبع جلس معي وشربنا المشروبات الكحولية وقدَّمني إلى فتاةٍ رائعة الجمال لديها سيارة صغيرة مُنجَّدة بالكامل.»

«ألم يتعرَّف عليك أحد.»

هزَّ ليون رأسه.

وقال دون أن يتخلَّى عن كبريائه: «لم يستطع أن يُفرِّق بين الشارب الذي وضعتُه على وجهي والشارب الحقيقي. لقد وضعتُه شعرةً بشعرة، واستغرق وضعُه ساعتَين. ولو رأيتني حين أتممتُ وضعه، لما تعرَّفتَ عليَّ. رقصتُ مع مارجريت الجميلة.» ثم تردَّد في حديثه: «ثم …»

قال مانفريد بإعجاب: «مارستَ الحبَّ معها.»

هز ليون كتفَيه.

قال بجِدية: «عزيزي مانفريد، كان ذلك ضروريًّا. ومن حُسن حظي أنني كنتُ أحمل في جيبي خاتمًا من الألماس أحضرتُه من أمريكا الجنوبية. كلَّفني الخاتمُ مائة وعشرة جنيهات في شارع ريجنت بعد ظهر اليوم. وكم كان رائعًا أنه ناسبها. لم تكن في أفضل حالاتها كذلك حتى قدمتُ الخاتم لها. دفعته ثمنَ دخولي إلى مؤسَّسة بايزووتر.» ثم قال بتواضع: «اصطحبتني إلى هناك بسيارتها، ولم أرجع من هناك خاليَ الوفاض.» ووضع يدَه في جيبه وأخرج حُزمةً كبيرة من الأوراق النقدية.

كان مانفريد يضحك بهدوء.

ليون أذكى مُتلاعبٍ بالأوراق في أوروبا؛ فقد كانت أصابعه الرقيقة الطويلة، والسرعة المُذهلة التي يمكن أن يُحركها بها، وموهبته الطبيعية في إخفاء الأوراق في راحةِ يده، كل هذا كفيل بجعله يَجني ثروةً كثروةِ مُحضِّري الأرواح أو الغشاشين المُحترفين.

أوضح ليون: «لعبنا الباكاراه والأوراق وُضِعت في صندوقٍ ووزَّعها مُوزِّع أوراق بارع. بدأ يُلقي الأوراق المُستخدَمة في وعاء. أما التي وُضعت في الحقيبة، كانت بالطبع مُرتَّبة بعناية لدرجة أن موزع الورق يعرف تسلسُلَها كلها. الحصول على دستة من البطاقات من الوعاء أمر بسيطٌ إلى حدٍّ ما، وكذلك لم يصعُب التمشِّي في الغرفة وإعادة ترتيب الأوراق بحيث تَئول اللعبة لصالح اللاعب أو ضدَّه، لكن الصعب كان وضْعها أعلى الأوراق التي يُوزعها. إنني فنانٌ يا عزيزي مانفريد!»

لم يشرح ليون الشكل الذي اتَّخذته مهارتُه في اللعب، ولا كيف صرف انتباه مُوزع الورق والجمع بعيدًا عن «الأوراق» لهذا الجزء الضروري من الثانية. نادرًا ما كان مُوزِّع الورق يرفع يدَيه عن البطاقات، ولكن نتائج مغامرته ظهرت في الكومة السميكة من الأوراق النقدية الموضوعة على الطاولة.

خلع معطفه ولبس سترته المخملية القديمة، ومشى جيئة وذهابًا في أرجاء الغرفة ويداه في جيوبه.

قال بهدوء: «مارجريت فين. واحدةٌ من أجمل خلق الله يا جورج، جمال فتَّان، وموهوبة، ولكن إذا كانت كما ظهرتْ لي، فيا لكراهة أن …»

هزَّ رأسه حُزنًا.

سأل مانفريد: «هل تلعب دورًا كبيرًا، أم إنها مجرد مُغفلة؟»

لم يردَّ ليون على الفور، ثم قال ببطء: «أنا محتار بعض الشيء.» وروى تجربته في مكتب السيد بيرن، ونظرته الخاطفة للرجل ذي الشعر الأحمر وغضب السيد بيرن منه.

«لا أشك في أن الضمير «هي» الذي تلفَّظ به يُشير إلى مارجريت فين. لكن هذا وحده لا يهز إيماني بأنها مُذنِبة. بعد أن غادرت منزل بايزووتر، قررتُ أن أكتشف المكان الذي تعيش فيه. لكنها تهرَّبَت بمهارة من أي سؤال طرحتُه عن مسكنها لدرجةٍ أشعَرَتني بالرِّيبة. استأجرتُ سيارة أجرة وانتظرت، وجلست في الداخل، ومن ثَم تبعتُها فورَ خروجها بسيارتها. يمتلك السيد بيرن منزلًا في ميدان فيتزروي. وصلَتْ إلى هناك بسيارتها وكان ثَمَّة رجلٌ ينتظر في الخارج ليأخذ سيارتها، ثم ذهبت مباشرةً إلى المنزل ودخلت. في هذه اللحظة، بدأتُ أعتقد أنها وبيرن صديقان وبينهما علاقة أوطدُ مما اعتقدت.

قررتُ الانتظار، وأوقفت السيارة على الجانب الآخر من الميدان. وفي غضون ما يقرُب من ربع الساعة خرجَت الفتاة، ولدهشتي خرجَت بملابس أُخرى. تركتُ سيارة الأجرة وتابعتُ سيري على الأقدام ووجدت أنها تعيش في ٨٠٣ شارع جاور.»

قال مانفريد موافقًا إيَّاه: «إن ذلك مُحير بالتأكيد. لا تبدو الأمور مُترابطة يا ليون.»

أومأ ليون، وقال: «هذا ما أعتقده. أنا ذاهب إلى ٨٠٣ شارع جاور صباح الغد.»

لم يكن جونزاليس بحاجةٍ إلا إلى القليل من النوم، وفي الساعة العاشرة كان يمشي على قدمَيه.

أحضر تقريرًا مثيرًا للاهتمام لمانفريد.

«اسمها إلسي تشوسر، وتعيش مع والدها المصاب بالشلل في كِلتا ساقَيه. لديهما شقةٌ وخادمة ومُمرِّضة مُهمَّتها رعايةُ والدها. ولا يُعرَف عنهما شيء سوى أنهما يعيشان في حالٍ أفضل. يقضي الأبُ يومَه مع حُزمة من أوراق اللعب، ويعمل على نظامٍ للقمار، وربما يُفسِّر ذلك فقرَهُما. لا يراه الزائرون أبدًا، ويعتقد الناس أن الفتاة مُمثلة؛ أي هذا ما تظنه صاحبة المكان.» قال جونزاليس مُفكرًا: «إن الحل، بالطبع، في بيت بيرن وفي ذهن بيرن.»

«أعتقد أننا سنصِل إلى ذلك يا ليون.»

أومأ ليون.

وقال: «لذلك أعتقد أن مؤسسة السيد بيرن لا تُمثِّل أي صعوبات مُستعصية.»

تَواجَد السيد بيرن في المنزل في تلك الليلة. إنه يمكث في المنزل مُعظمَ الليالي. جلس بارتياحٍ على كرسيٍّ عميق بذراعَين، ودخَّن سيجارًا طويلًا وباهظ الثمن، وقرأ جريدة لندن جازيت؛ إذ كانت أمتعَ مقطوعة أدبية وفَّرها له عبقري كاكستون.

في منتصف الليل، دخلت عليه مُدبرة منزله. إنها امرأةٌ فرنسية في منتصف العمر ومتحفِّظة.

تساءل السيد بيرن مُتكاسلًا: «أكلُّ شيء على ما يُرام؟»

«كلَّا يا سيدي، أريدك أن تتحدَّث إلى تشارلز.»

تشارلز سائق السيد بيرن، ولا ينفكُّ عن الشجار مع مُدبِّرة شئون المنزل.

سأل السيد بيرن بعبوس: «ما الذي فعله تشارلز؟»

أوضحت السيدة قائلةً: «يدخل إلى المطبخ لتناول العشاء كلَّ مساء، وأخبرته بضرورة إغلاق الباب بعد خروجه. ولكن يا سيدي، عندما ذهبتُ هذا المساء في الساعة الحادية عشرة كي أُوصِد الباب، لم يكن مُغلقًا. ولو لم أُشعِل الأضواء ورأيتُ ذلك بأم عينَيَّ، لتُرِك الباب مفتوحًا ولربما قُتِلنا في أسِرَّتنا.»

دمدم السيد بيرن قائلًا: «سأتحدَّث معه في الصباح. هل تركتِ باب غرفة الآنسة مفتوحًا؟»

«نعم يا سيدي، المفتاح في القفل.»

قال السيد بيرن مُستأنفًا قراءته: «ليلة سعيدة.» وفي الثانية والنصف سمع باب المنزل يُغلَق برفقٍ ومرَّت خطوات خفيفة عبر الصالة. نظر إلى الساعة، وألقى طرفَ سيجاره بعيدًا وأشعل سيجارًا آخر قبل أن ينهض ويذهب مُتثاقلًا إلى خزنة الحائط. فتحها وأخرج صندوقًا فولاذيًّا فارغًا، فتحَهُ ووضعه على الطاولة. ثم رجع إلى كُرسيِّه.

وعلى الفور سُمِع طرقٌ خفيف على الباب.

قال السيد بيرن: «ادخل.»

دخلت الفتاة التي يُناديها مرةً باسم فين ومرة باسم تشوسر. كانت ترتدي ملابسَ أنيقة ولكنها ليست مُترَفة. من نواحٍ كثيرة، عزَّزَت بساطةُ زي الشارع الذي ترتديه جمالَها الفريد، ونظر السيد بيرن باستحسانٍ إلى شكلها المُفعم بالحيوية.

قال: «اجلسي يا آنسة تشوسر.» ومدَّ يدَه طلبًا للحقيبة الكتان الصغيرة التي تحملها.

فتحها وأخرج حبلًا من اللؤلؤ، وفحص كلَّ جوهرةٍ على حِدَة.

قالت بازدراء: «لم أسرق أيًّا منها.»

قال السيد بيرن: «ربما لم تَفعلي، لكنني عرَفتُ بحدوث بعض الأشياء المضحكة.»

أخذ الدبُّوس الماسي، والخواتم، والسوارَين الماسيَّ والزمردي؛ وفحص كُلًّا منهما قبل إعادتهما إلى الحقيبة، ووضع الكيس في الصندوق الفولاذي.

لم يتكلَّم حتى وضعها في الخزنة، ثم سأل: «حسنًا، كيف تسير الأمور الليلة؟»

هزَّت كتفَيها وقالت باختصار: «أنا لا أهتمُّ بالمُقامرة.» وضحك السيد بيرن ضحكةً خافتة، قائلًا بصراحة: «إنكِ حمقاء.»

قالت إلسي تشوسر بمرارة: «أتمنَّى لو لم أكن أسوأَ من ذلك. أتريد منِّي شيئًا آخر يا سيد بيرن؟»

أمرها قائلًا: «اجلسي. مَن وجدتِ الليلة؟»

للحظةٍ لم ترُد، ثم قالت: «الرجل الذي قدَّمه ويلبي في الليلة الماضية.»

بدا السيد بيرن قلقًا، وقال: «ذلك الذي من أمريكا الجنوبية؟ لم يكن مُربحًا للغاية. أعتقد أنكِ تعرفين ذلك؟ لقد خسِرنا حوالي أربعة آلاف جنيه.»

قالت الفتاة: «دون حساب الخاتم.»

قال السيد بيرن وهو يهزُّ كتفَيه: «الخاتم الذي أعطاكِ إيَّاه؟ حسنًا، هذا يُساوي مائة جنيه تقريبًا، وسأكون محظوظًا إن حصلتُ مقابله على ستِّين جنيهًا. يُمكنك الاحتفاظ بهذا الخاتم إذا أردتِ.»

قالت الفتاة بهدوء: «لا، شكرًا لك يا سيد بيرن. لا أريد هذا النوع من الهدايا.»

قال بيرن فجأة: «تعالَي هنا.» ودارت حول الطاولة على مضَض ووقفت أمامه.

نهض وأمسك يدَها، قائلًا: «إلسي، أنا مولَع بكِ وكنتُ صديقًا جيدًا لكِ، كما تعلمين. إن لم يكن من أجلي، فما الذي ربما حدث لوالدكِ؟ ربما شُنِق! هل شنقُه لطيفٌ في نظركِ؟»

لم ترُدَّ لكنها أفلتَت يدَها بلُطف.

«لا تُريدين التخليَ عن تلك المجوهرات والملابس الجميلة كل ليلة، إذا كنتِ واعية.» وتابع: «أيضًا …»

قالت الفتاة: «لحُسن الحظ أنني واعية، إذا كنتَ تعني بواعيةٍ أن أكون عاقلة. والآن أعتقد أنني سأذهب إذا كنتَ لا تُمانع يا سيد بيرن. أنا مُتعبة بعض الشيء.»

قال: «انتظري.»

مشى إلى الخزنة، وفتحها مرةً أخرى وأخرج علبة مُستطيلة ملفوفة بورقٍ بُنِّي، ومُثبَّتٍ بأشرطة ومختوم.

قال: «تحتوي العلبة على قِلادة من الألماس. إنها تُساوي ثمانية آلاف جنيه وإنها تستحقُّ كلَّ فلسٍ من هذا المبلغ. سأضعها في الخزانة الحديدية الخاصة بي في البنك غدًا، إلا إذا …»

كرَّرَت الفتاة بثبات: «إلا إذا …»

قال السيد بيرن: «إلا إذا كنتِ تُريدينها. أنا أحمقُ مع السيدات.»

هزَّت رأسها.

وقالت بهدوء: «هل يخطر ببالك يا سيد بيرن أنه كان بإمكاني الحصولُ على العديد من القلائد لو أردتُ ذلك؟ لا، شكرًا. إنني أتطلَّع إلى إنهاء عبوديتي.»

قال السيد بيرن مُتذمرًا وهو يُعيد العلبة إلى الخزنة ويُغلق الباب: «وافترضي أنني لم أُطلِق سراحَكِ؟ افترضي أنني أُريدكِ لثلاث سنواتٍ أخرى؟ ما رأيكِ في ذلك؟ ما زال والدكِ عُرضةً للقبض عليه. لا يمكن لرجلٍ أن يبطش برجلٍ آخر، حتى لو كان مجردَ مُوزع أوراق في لعبة قمار، دون أن يُشنَق جرَّاء فعلته.»

قالت الفتاة بصوت مُنخفض: «لقد دفعتُ ثمن حماقة والدي، مرارًا وتَكرارًا. أنت لا تعرف كيف أكرهُ هذه الحياة يا سيد بيرن. أشعر بأنني أسوأُ مِن أسوأِ امرأةٍ في العالَم! أمضيتُ حياتي في إغواء الرجال حتى يُدَمَّروا، ليتني لم أعقد هذه الصفقة مُطلقًا. أحيانًا أعتقد أنني سأُخبر والدي بأي حالٍ بما أدفعه مقابل سلامته، وأدَعُه يُقرِّر ما إذا كانت تلك السلامة تستحق تضحيتي!»

في لحظة، كسَت نظرةٌ من القلق وجه الرجل، وقال بحِدة: «لن تفعلي شيئًا كهذا. فلتَسِر الأمور كما اعتدنا! كنت فقط أمزح بشأن مُطالبتك بالبقاء.» ثم قال مازحًا: «الآن يا عزيزتي من الأفضل أن تذهبي إلى المنزل وتجعلي جمالَك يحظى ببعض النوم.»

سار معها إلى الباب، ورآها وهي تنزل الدرَج وشاهدها تختفي في ظلام الشارع، ثم عاد ليُغلق الأبواب لليلة. وشرب نصف كوب الويسكي الذي كان قد تركه، فتجهَّم وجهه وقال: «هذا الويسكي مذاقه غريب.» ومشى خطوتين نحو الممرِّ وسقط بلا حَراك.

جاء الرجل الذي تسلَّل إلى الغرفة عندما اصطحب إلسي تشوسر إلى الباب مِن خلف الستارة وانحنى وفكَّ زرَّ ياقته. دخل بهدوء إلى المَمر ذي الإضاءة الخافتة وأشار إلى آخر، فجاء مانفريد من الظلِّ بلا ضوضاء؛ حيث كان يرتدي حذاءً مطاطيًّا واقيًا.

ألقى مانفريد نظرة خاطفة على الرجل الفاقد للوعي ثم على بقايا الشراب في كأسِ الويسكي.

«إنه كلوريد البيوتيل، أليس كذلك؟»

قال ليون العمَلي: «لا أكثر ولا أقل. إنها في الحقيقة «قطَراتُ الضربة القاضية» الشهيرةُ للغاية في الأوساط الإجرامية.»

فتش الرجل، وأخرج مفاتيحه، وفتح الخزنة وأخرج الطرد المختوم، وحمله إلى الطاولة. ثم نظر بتمعُّن إلى الرجل المنبطح.

«سيبقى تحت تأثير «القطرات» لمدة خمس دقائق يا مانفريد، لكني أعتقد أننا لا نحتاج إلى أكثرَ من هذه المدة.»

سأل مانفريد: «هل توقَّفت للتفكير في النتائج المَرضية لهذا «التخدير» باستخدام أعلى جرعة من البيوتيل؟ رأيتك تمزج الهيوسين بالمورفين قبل أن نُغادر شارع جيرمين وأفترض أن هذا هو ما تستخدمه؟»

أجاب جونزاليس غيرَ مُبالٍ: «لم أبحث في الأمر؛ وإذا مات، فهل أبكي؟ أعطِه جرعةً أخرى بعد نصف الساعة يا جورج. سأعود بحلول ذلك الوقت.»

أخذ من جيبه حقيبةً سوداء صغيرة وفتحها. كانت المحقنة تحت الجلد مُمتلئة بالفعل؛ فشمَّر كم الرجل، وأدخل الإبرة وضغط بشدَّة على المكبس.

استيقظ السيد بيرن في صباح اليوم التالي مُصابًا بصداعٍ قوي.

لم يتذكَّر كيف نام، لكن من الواضح أنه خلع ملابسه؛ لأنه يرتدي منامته البنفسجية. رن الجرس ونزل على الأرض. وعلى الرغم من أن الغرفة كانت تدور حوله، إلا أنه استطاع أن يقف مُتزنًا على الأرض.

أتَت مدبرةُ منزله لمَّا سمعت الجرس.

سأل: «ماذا حدث لي الليلة الماضية؟» نظرَت مندهشةً وقالت: «لا شيء يا سيدي. تركتُك في المكتبة.»

تذمَّر السيد بيرن قائلًا: «إنه ذلك الويسكي البغيض.»

ساعد الاستحمامُ البارد وكوبٌ من الشاي على التخلُّص من الصداع، لكنه ظلَّ يرتعش عندما ذهب إلى الغرفة التي كان يجلس فيها الليلة السابقة.

خطرَت له فكرة. فكرةٌ مُرعبة. لنفترض أن أحدًا وضع مُخدرًا في الويسكي (على الرغم من أنه لم يتخيَّل أنه كانت ثَمة فرصة لوضع مُخدر في شرابه) وأن شخصًا ما قد اقتحم منزله!

فتح الخزنة وتنفَّس الصعداء؛ وجد العلبة في مكانها. تذمَّر واعتقد أن الويسكي هو ما جعله في تلك الحالة؛ ومِن ثَم رفض الإفطار وطلب سيارته وأوصله السائقُ إلى البنك مباشرة.

عندما وصل إلى مكتبه، وجد الشابَّ ذا الوجه الطويل النحيف في حالة هياج.

«لا بدَّ أن لصوصًا سطَوا على المكان ليلة أمس يا سيد بيرن.»

قال السيد بيرن مُنزعجًا: «لصوص؟» ثم ضاحكًا: «حسنًا، لن يجدوا الكثير هنا. لكن ما الذي يجعلك تعتقد أنهم كانوا هنا.»

قال الشاب: «كان هناك شخصٌ في الغرفة، أُقسم على ذلك؛ فالخزنة وجدتها مفتوحةً عندما أتيت وأُخرِج أحد الكتب وتُرك على طاولتك.»

ظهرت ابتسامة بطيئة على وجه السيد بيرن.

وقال: «أتمنَّى لهم التوفيق.»

مع ذلك، انزعج وأجرى بحثًا دقيقًا في جميع أوراقه ليعرف هل سُرِقَت أي وثائقَ مُهمة أم لا. كانت سنداته الإذنية في البنك، في ذلك الصندوق الكبير نفسِه الذي أودَع فيه القلادة التي جاءته تسويةً لأحد الديون.»

قبل الظهر بقليلٍ جاء موظفُه بسرعة.

وقال هامسًا: «ذلك الرجل هنا.»

دمدم السيد بيرن: «أي رجل؟»

«الرجل من شارع جيرمين الذي أوقف دفع شيكات إيدن.»

قال السيد بيرن: «دَعْه يدخل.» ثم قال ببشاشة: «حسنًا يا سيدي، هل فكرتَ بشكلٍ أفضل في أمر تسوية تلك الديون؟»

قال جونزاليس: «أفضل وأفضل. هل يُمكنني التحدُّث معك وحدَنا؟»

أشار بيرن إلى مساعده أن يتركهما.

«جئتُ لتسوية جميع أنواع الديون. على سبيل المثال، جئتُ لتسوية ديون رجلٍ نبيل يُدعى تشوسر.»

أجفل صاحب بيت القمار.

«إن تشوسر رجل لطيف للغاية. قابلته هذا الصباح. أُصيب بصدمةٍ في الماضي تسبَّبَت في إصابته بالشلل، ولم يتمكَّن من مغادرة غرفته لبعض الوقت نتيجة لذلك.»

قال السيد بيرن كي يختصر الحديث: «إنك تُخبرني بالكثير ممَّا لا أريد أن أسمع عنه.»

«إن الرجل المسكين يعتقد أنه قتَل مُوزِّع أوراق ذا شعرٍ أحمر كان يعمل لديك. يبدو أنه كان يُقامر وفقد صوابه عندما رأى مُوزِّع الأوراق يأخذ ورقة لعب.»

قال الآخرُ باستياءٍ متعفِّف: «مُوزِّع أوراق لعب يعمل لدي، ماذا تقصد؟ أنا لا أعرف ما هو مُوزِّع أوراق لعب.»

«ضربه على رأسه بأداة لَمِّ النقود. لقد أتيتَ إلى تشوسر في اليوم التالي وأخبرتَه أن موزع أوراق اللعب الذي يعمل لديك قد مات؛ وذلك كي تأخُذ منه المال. ولكن سرعان ما وجدتَ أنه مُفلس، وجدتَ أيضًا أنَّ لديه ابنة، وخطر لك أنها قد تُفيدك في مخطَّطاتك الشائنة؛ لذلك تحدَّثتَ معها قليلًا، ووافقَتْ على العمل لديك من أجل إنقاذ والدها من الدمار وربما السجن.»

قال بيرن: «هذه قصة خُرافية تُخبرني بها، أليس كذلك؟» لكنَّ وجهه أصبح أبيضَ وشاحبًا، وارتجفت اليد التي أخذت السيجار من شفتَيه.

تابع جونزاليس: «ولدعم مُخطَّطك، وضعتَ إعلانًا في عمود الوفَيات بصحيفة التايمز، وأرسلتَ كذلك إلى الصحيفة المحلية بيانًا مُنمقًا للغاية عن جنازة السيد جينكينز، الأمر الذي أعددتَه أيضًا لحبْكِ اللعبة على تشوسر وابنته.»

غمغم السيد بيرن مع محاولة مُثيرة للشفة للابتسام: «هذه طلاسمُ بالنسبة لي.»

«أجريتُ مقابلة مع السيد تشوسر هذا الصباحَ وتمكَّنتُ من طمأنته أن جينكينز حي يُرزَق ويعيش في برايتون، ويُدير بيتًا صغيرًا للمقامرة، وهو فرع من أنشطتك العديدة. بالمناسبة يا سيد بيرن، لا أعتقد أنك سترى إلسي تشوسر مرةً أخرى.»

كان بيرن يتنفَّس بصعوبة، ثم استهلَّ حديثه قائلًا: «أنت تعرف الكثير جدًّا.» لكن شيئًا في عينَي ليون أوقفه.

قال جونزاليس بهدوء: «سأُدمرك يا بيرن؛ سأسلب منك كلَّ بنسٍ من المال الذي سرقته من الرجال الحمقى الذين يتردَّدون على مؤسَّستك.»

قال بيرن مرتجفًا: «فلتُجرِّب فعل ذلك.» وأضاف بابتسامةٍ عريضة: «يُوجَد قانون في هذا البلد! فلتذهب وتسرق البنك، ولن تجد الكثير لتسرقه.» ثم قال ساخرًا: «تُوجَد أوراق مالية بقيمة مائتَي ألف جنيه في بنكي؛ أوراق مضمونةُ القيمة أيها الذكي! اذهب واطلب من مدير البنك أن يُسلمها إليك. إنها في صندوق ٦٥. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يُمكنك أن تُدمِّرني بها يا بُنيَّ.»

نهض ليون وهزَّ كتفَيه.

قال: «ربما أكون مُخطئًا. ربما بعد كل شيء سوف تستمتع بمكاسبك غير المشروعة.»

أشعل السيد بيرن سيجاره مُجددًا، وقال: «سيحدث ذلك بالتأكيد.»

تذكَّر المحادثة التي دارت بعد ظهر ذلك اليوم عندما تلقَّى رسالة هاتفية عاجلةً من البنك. ما قاله المدير جعله يذهب إلى هناك بأقصى سرعةٍ يُمكن لسيارة أجرة أن تُوصله بها.

قال مدير البنك: «لا أعرف ما خطبُ خِزانتك الحديدية، لكن اضطُرَّ أحدُ موظفي البنك إلى الذهاب إلى القبو وقال إن هناك رائحةً غير عادية؛ وعندما نظرنا إلى الصندوق، وجدنا تيارًا من الدخان يتدفَّق عبر ثُقب المفتاح.»

صرخ بيرن مُتحسِّسًا جيوبه بحثًا عن مفتاحه: «لماذا لم تفتحه؟»

قال مدير البنك بتعقُّل: «من ناحيةٍ لأنه ليس لدي مفتاح يا سيد بيرن.»

بيدَين مُرتعشتَين، أدخل المُقرِضُ المفتاحَ ونزع الغطاء؛ فظهرت سحابة كثيفة من الدخان الأصفر الحارق وكادت تخنقه … وكان كل ما تبقى من أوراقه المالية المضمونةِ القيمة عبارةً عن رُكام أسود لزج وزجاجة وبعض الأحجار الكريمة الباهتة، ولا شيء آخر …

قال ضابطُ المباحث الذي حقَّق في الملابسات: «يبدو لي أنك وضعتَ عبوة حمضٍ قوي للغاية عن غير قصد، ويعمل مُحلِّلونا الآن على اكتشاف نوعه. لا بدَّ أنه إما تسرَّب أو انفجر.»

قال السيد بيرن مُنتحِبًا: «العبوة الوحيدة التي كانت هناك كانت علبة بها عِقد من الألماس.»

قال المحقق: «لا تزال بقاياها موجودة. هل أنت متأكد تمامًا من أنه لا يمكن لأحد الوصولُ إلى هذه العلبة ووضع شيءٍ مدمِّر بها؟ إنه أمر يُمكن صنعه بسهولة. زجاجة مثل التي وجدناها، وسدادة مصنوعة من بعض المواد السهلة التلَف، وتحصل على شيء كهذا! هل يمكن لأي أحدٍ أن يفتح العلبة ويدسَّ الزجاجة داخلها؟»

تأوَّه المُقرِض قائلًا: «مُستحيل، مُستحيل.»

جلَس ووجهُه بين يدَيه يبكي على ثروته المفقودة؛ لأنه على الرغم من إمكانية تعويض بعض محتويات هذا الصندوق، إلا أنه تُوجَد بعض السندات الأمريكية التي ضاعت إلى الأبد وسندات إذنية بالآلاف لن يُوقَّع عليها أبدًا مرةً أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤