المذكرة العاشرة

وحلت النكبة ونزلت المصيبة، قطع الجيب بمشرطه الحاد «ولطش» المحفظة واختفى، هكذا كان، وتعدى علي أنا أحد الإخوان الذين منحهم الله خفة اليد وسرعة الخاطر في أصابعهم «فطير من جيب محسوبكم الصولد».

كان ذلك في الترام، فعملها الشاطر محمد وبكل مهارة، حتى إني لم أشعر بشيء مطلقًا، فنزلت في العتبة الخضراء، ووقفت أمام بائع الليمونادة، وأمرت بكأس من الليمون، وبعد أن شربت أردت أن أعطيه الثمن وإذا بيدي تخرج بيضاء من غير فلوس.

أخذ المبلغ وقطع الجاكتة، قطع الله «يديه» وترك بها أثرًا لا يمحى من الجيب الممزوع، مع أني كنت ألبسها أيام الراحة والبطالة، مفتخرًا أنها من صنع «ريبو» خياط الوجهاء وأبناء الطبقة العليا.

وتاريخ هذه الجاكتة عجيب، وصلت إلي بطريق الاستبدال لا بجاكتة أخرى، ولكن بمبلغ كان لي عنده، والهاء هنا للغائب، رمز البيك، صاحب العزة، صاحبها.

كان زبوني في أيام مجده وطنطنته، زبون العز والليالي «المقندلة».

هيصة كانت للرقبة، فأصبحت لا تصل إلى كعب الحذاء، توصيلات آخر الليل إلى الدقي «لرشف الأنفاس» وهو في عيبوبة السعة التي أفاق منها الآن على لا شيء، وسبحان الحي الباقي.

كثيرًا ما كان هواء الليل البارد ينعشه فيستفيق، وبلسانه الملووق يناديني قائلًا: يا حنفي، محبوبتي في السما كيف الوصول إليها؟

فأرد عليه قائلًا: وماله يا بيه شخشخ لها بالدهب تنزل برجليها.

فيقهقه ضاحكًا، وأسير به إلى منزله، فيدفع الأجرة بسعة ورخاء، إلى أن تدهورت الأحوال، وبانت لبتها، فوصلنا إلى «يبقى لك» «ولك كام» وهات ريال يبقى لك ثلاثة جنيه، و«فوت علي بكرة». ولا أطول عليك فقد أخذت الجاكتة المجني عليها بدلًا من مائة وعشرون قرشًا، سعيت لها كسعي الحجاج بين الصفا والمروة، وأخيرًا قبلت أخذها بعد المعاينة، ولم يكن يصعب علي إلا ذكر مجدها وعزها الماضي، فبعد أن كانت تجلس في صدر العربة آمرة ناهية، أصبحت علي مأمورة مهانة ذليلة.

وكانت من ضمن الأوراق التي ضاعت سطور كتبتها بمناسبة انتشار «الكوكو» بين شبابنا وشيوخنا وسيداتنا، حقائق رأيتها بعيني رأسي، كنت شاهدها الوحيد، كل هذا والمحافظة نايمة لا تشمر عن ذراعها المنمق بالشرائط الحمراء والنجوم الصفراء، تنتقم لنا من هؤلاء الذين يهددون الجيوب في كل وقت، يبيع لك المحفظة نهارًا ويلطشها بما فيها ليلًا.

تضع المحافظة صورهم بجانب قسم الموسكي، فتشرط الجيوب وسط الزحام، ويظن الناظر أنه يستفيد بحفظ ملامح الصورة مع أنهم أبرع من أي ممثل في تغيير الخلقة.

تراه بجانبك في قطار الترام صباحًا «ابن بلد» مقلفط باللاسة الحرير، والجلابية السكروتة، والبلغة الفاسي، حتى إذا أتم مهمته، وسلت المحفظة بخفة البرق، تراه بعد الظهر أفندي لطيف ظريف، يناقشك في أي موضوع ليتحكك بك، ويقضي عليك بطريقته الأمريكية، ويمضي خير في سلامة، وسلامة في خير.

بالاختصار يهاجم هذا الجيش العرموم كل جيوب قطر الترام والسكك الحديدية، والمحلات التجارية وميادين القاهرة، ثم ينتزع من الجيب أعز ما فيه أمام أعين البوليس المفتوحة، وبإذن البوليس السري، ولا حنا هنا!

لا مؤاخذة، إذا أطلت الكلام في هذا الموضوع فالمخوزق يشتم …

نعود إلى ما كتبته عن الكوكايين، عن البارود الأبيض الذي يهاجم أدمغة الشباب في هذا البلد المحتاج إلى أبنائه، فيودي بهم ويقذفهم إلى دار المجانين حيث الفناء الأبدي.

سأحدثكم يا قراء حديث حنفي أبو محمود منذ كان الجرام بتلاتة تعريفة إلى أن أصبح اليوم بخمسين قرشًا، لقد اغتنم أولئك الذئاب غفلة الحكومة؛ فاعتدوا على أبناء هذا القطر، وتوصلوا إلى سلبه أعز ما يمتلك، وهي قوته المفكرة بهذا المكيف الغريب.

لم يعتدوا فحسب، وإنما فرشوا طريقهم فضة ونصارًا، وأصبح الواحد منهم بعد أن كان يقيس شوارع القاهرة مترًا فمترًا برجليه «ينجعص» في سيارته متناسيًا ماضيه القريب الأسود، غير ذاكر أنه لص سارق.

إن القلم يرتعش في يدي يا قرائي المحترمين على ذكر كلمتي لص وسارق، فذكرى المبلغ قريبة، وقطع الجاكتة جديد لم يندمل، والجيب مش فاضي بس، ومقطوع كمان! وقاكم الله شر اليد الخفيفة، فمصائبها ثقيلة لا تحتمل، وخصوصًا على مالية عربجي مسكين كمحسوبكم.

حنفي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤