المذكرة السادسة

يظن أسيادنا الأغنياء أن الأزمة لا تأثير لها إلا على طبقتهم، وليه؟ لأنهم — كما أظن ويفهم عقلي الصغير — يرون أننا بجانبهم حشرات صغيرة، تعيش بطبيعة الحال على وتيرة واحدة وحاجياتنا قليلة، وبالاختصار نحن عندهم أقل في التقدير من حيواناتهم.

ولكن وحق من خلقك! ما حد بيطرش الدم إلا محاسيبك يا سيدي القارئ، إذا اشتدت الأزمة وكشر الدهر عن نابه الأزرق، وابتدأ يستبدل أيام الصفا بليالي الغلب، نحن في هذه الحالة نستحق رحمة حقيقية؛ لأن فيما نقاسيه درس من دروس نكبات الإنسانية من الإنسانية.

ترك لي أبي — محسوبك الأسطى أحمد الإسكندراني — عدا الصنعة سبع عربات، وثمانية أزواج خيل، من وارد السلطة، وبواقي تركات وارد مزادات وحجوزات على أولاد العز والبحبحة، حينما تبتدئ الحالة تنتهي وتزنق المداينين عليهم «لحد هنا كويس» ولكن الحال أصبحت لا تحتمل، وابتدأت أكع من اللحم الحي بعد أن انتشرت في شوارع القاهرة هذه السيارات، من كبير كالبيوت المتحركة إلى صغير كعربات اليد، وسمحت لهم المحافظة «حفظها الله» أن تضع رأسنا بين المطرقة والسندال، واحتار الواحد منا بين أكل البهايم وأكل العيال.

حتى في شارع الموسكي — أجارك الله — بقت التوصيلة بقرش، وضعنا، وضاع معنا الصبان، وسوارس دربك، يرحم الجميع.

وجاءت وزارة المالية أخيرًا فأضاعت الأمل الباقي لنا في أسيادنا الموظفين بخصم علاوة الحرب، وحِلْيت الركنة في الموقف، وصار الموظف يفضل «لطشة الشمس» ظهرًا في إحدى محطات الترام عن لطشة الأجرة من جيبه، وبالاختصار بقى الواحد منا ينده ويقول: «آجي يا بيه؟» ولا فيش بهوات.

فلهذه الأسباب بعت جميع ما أملك إلا عربة واحدة محافظة على «سمعة العائلة» وشرف الاسم، وحبًّا في صنعة نشأتُ بين أحضانها، ووجدت نفسي على كرسيها «كرسي لا فيه استعفاء ولا مجلس تأديب».

بل قل: إن هذه الوظيفة بحوادثها لذت لي بين محاضر بوليس خفافي، وأوامر من شفخانات الحكومة، وتلاقيح زباين، وتزانيق طلعت على راس محسوبك «اللي ما يسمى».

الله يعلم بعدد من وضعوا أرجلهم على سلم عربتي، آلاف وآلاف، ولكن بالرغم من ذلك هناك شخصيات يستحيل أن ينساها مثلي؛ لأنها بارزة في شكلها، معرفة من وصفها، لا يصح ذكر الاسم؛ لأن في وصفي لها ما يكفي عن تعريفها.

سأبتدئ بزبون سقع، ظهر حديثًا في البلد وأثناء الحرب «جه منين؟ أصله إيه؟ مش لازم تعرف» إنه يسكن حلوان على ما أظن، فطالما أخذته من محطة باب اللوق وإليها في ساعات متأخرة من الليل وصباحًا، بيه؟ أفندي؟ ربك يعلم، كل ما فيه أن شخصيته بارزة، فإذا رأيته مرة انطبعت صورته في مخيلتك فلا تنساه.

ضحكاته يسمعها القريب بوضوح والبعيد أيضًا؛ لأن ضحكته التي يرسلها من حلقه لها قوة النحاس ورنينه، أما أحاديثه — حتى معي — فلا يمكن أن تتصور أتفه منها، وله أمثال يحفظها كثيرًا، ما كنت أستعرضها أمام رفاقي وآل بيتي فكانوا يعجبون لصدورها من سعادته.

يتكلم من الإفرنسية جمل الاعتذار والتحية، يقابلك صباحًا بنسوار، ومساء بنجور، وينسى أن لا يسمع في منزله إلا العوافي، ويا ميت مسا، ويكون العالم سعيرًا فيقابلك بكل برود قائلًا بالفرنسية: «إن البرد شديد» لا يقصد الغلط، وإنما ليدلك على علمه الفاضح.

له وجه أسمر فاتح، يزينه شاربان على الطريقة الألمانية، وبين شفتيه فم سيجار لا يفارق فمه بأي حال من الأحوال، في يقظته ومنامه، في حله وترحاله، أراد أن يحصل على جواز للسفر ذات يوم، فكتب كاتب التشبيه ما يأتي: أسمر بعيون نعسانة عسلية، وفي فمه سيجار، ودايمًا مكشر.

لم أره يومًا إلا مدرعًا بجرنال، يحجب ضوء الشمس عن سحنته الجميلة نهارًا — وليلًا — وتحت طربوشه شعر له لمعان الماس ومتانة الأسمنت المسلح، ويتبين أي مخلوق على عينيه الجميلتين آيات الغباوة المجسمة.

وزبوني هذا يعتقد أنه جميل جذاب إلى حد لا يتصوره إنسان، فإذا مر في طريق الأهرام مثلًا داس القلوب ووطأ الأكباد، بل يؤكد أن من في العربات والسيارات من سيدات وخادمات يتنهدن إذا مر بهن كما يتنهد الخائف إذا مر به الخطر؛ لأن حب السيد الأديب جعلهن في خبال.

ويتكلم العربية الفصحى بالعافية — جمل لا يفهمها إلا هو — وقفت به يومًا عند غناجة، ورجع بعدما ابتاع زجاجتين من الروائح الزكية، وقابله صديق له على الرصيف، ودار الحديث بينهما، قال الصديق: ديهده يا سيدنا البيه، إيه الروايح اللطيفة دي؟

– لا والله! ما هذه إلا من نفحات عطرياتك المتشوقة.

– لا، لا، أنا بسأل عن القزايز دي، يعني واخدها لمين؟

– هذا ما كنت على وشك أن أفسره، فهذه — وأشار إلى الزجاجة الأولى مبتسمًا — للبنية اللي بتلبس أسود دايمًا في الكازينو، وسأكتب لها عليها بيت الشعر الآتي:

يا حبيبتي لا أخشى القتال وإنما
أخشى على عينيك وقت عياط

والأخرى للقطقوطة كيتي، وسأكتب عليها بيتًا من الشعر مش فاكره دلوقت، وضحك تاركًا صاحبه قفزًا إلى عربتي قائلًا: سوق يا أسطى على الجزيرة.

ونظرت فإذا بصديقه لا يزال فاتحًا فاه كالمأخوذ، وانقضى الوقت في الجزيرة، وهو يكتب في أجندته نمر العربات والسيارات التي تمر بنا، والفاضي يعمل قاضي.

ثم نرجع فأقلبه — في سولت أو على رصيف سانت جمس، فيدفع الأجرة بكل سخاء، شأن الذي ربح كثيرًا، رحم الله أيام الحرب والضرب، أيام كان رطل النحاس بوقة ذهب.

بعد هذه التوصيلة كنت أقصد إسطبلي لتستريح خيلي، وأنا إلى القهوة لتهدأ ثائرة مخي بعد وقت ضاع مع سعادته.

حنفي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤