المبحث الرابع

الخلق وتعريفه، تكوُّنه، المؤثرات فيه، أساليب تكوين الأخلاق

(١) الخلق وتعريفه

(١-١) تعريفه

عرَّف بعض فلاسفة الأخلاق الخلق بأنه «عادة الإرادة»، وعرَّفه آخرون بأنه «تغلب ميل من الميول على غيره باستمرار»، فما الميل الذي إذا تغلب على المرء دائمًا صار خلقًا؟ وما الإرادة التي إذا اعتادت شيئًا سُميت عادتها خلقًا؟ لبيان ذلك يجب أن نتكلم أولًا على العمليات والحالات النفسية التي تسبق العمل، وعلى درجات التوجه والتنبه في النبات والحيوان والإنسان.
  • (١)

    الحاجة: تسبح جذور النبات في الأرض طلبًا للغذاء، وتتجه فروعه وأغصانه للشمس والهواء طلبًا لحاجتها منهما، فإن فقد شيئًا من ذلك يبس وذَوَى. إلا أن هذا التوجه من النبات عمل سخرته له الطبيعة تسخيرًا، فهو لا يتصور نفس اتجاهه ولا يشعر بهذا الشيء الذي يتوجه إليه ولا بالغاية المترتبة على حصوله، وهذا التوجه اصطُلح على تسميته بالحاجة، «فهي مجرد اتجاه أعمى من النبات نحو غرض معين لا بد منه لحياته، دون تصور ما للشيء المتَّجَه إليه ولا للغاية المتحققة به.»

  • (٢)

    الشهوة: أما الحيوان فهو، وإن كان مثل النبات في توجهه نحو ما به قوام حياته دون إدراك الغاية المترتبة على حصوله، يمتاز عنه بأنه يتصور هذا الشيء الذي يطلبه وإن كان تصورًا غامضًا، بل ويحس باللذة عند فوزه بما يطلب وبالألم عند حرمانه منه، فالحيوان الظمآن مثلًا يتجه نحو الماء ويتصوره ويشعر بلذة الري، غير أنه لا يشعر بالغاية المترتبة عليه. وهذا التوجه والإحساس الحيواني هو ما يسمى بالشهوة، ومن الممكن تعريفها بأنها «توجه الحيوان إلى ما به تقوم حياته، مع التنبه القليل للمتَّجَه له، دون شعور بالغاية التي تترتب على تحقيقه.»

  • (٣)

    الميل: نرتقي بعد ذلك للإنسان، فنجده يسعى لما يحتاج إليه، وهو شاعر تمامًا به متصور اللذة التي تعقب وجوده والألم الذي ينتابه لفقده، كما يتصور أيضًا الغاية التي يسعى لدركها، وبهذا التصور للغاية ووضوح الشعور بالمطلوب امتاز الميل في الإنسان عن الشهوة في الحيوان. ويصح لنا بعد ذلك أن نعرف الميل بأنه «توجه من الإنسان لشيء متصوَّر بوضوح مع إدراك الغاية المترتبة على الحصول عليه.»

    وباختلاف غايات الناس اختلفت ميولهم؛ هذا غايته الشهرة وبُعد الصيت، وذاك السيادة ونفوذ الكلمة، وغيرهما الغنى، وهكذا. وكل طائفة متشابهة من الميول تدور حول غاية واحدة تسمى «عالمًا» ومنها تنشأ الرغبة.

  • (٤)

    الرغبة: إذا تغلب ميل من هذه الميول على سائر الميول المتشابهة التي تدور معه على محور واحد، وسيطر ذلك الميل عليها، كان من ذلك ما يسمى بالرغبة، فهي «تغلب ميل على سائر الميول التي تعيش معه في عالم واحد»، مثلًا شخص تغلب عليه عالم حب الثروة والغنى، فتراه يميل مرة إلى التجارة في القطن، وأخرى إلى شراء أراضٍ وتثميرها، أو إلى السعي وراء عمل يأتيه بدخل كبير، أو إلى الاشتراك في مصرف مصر أو شركة من الشركات الناجحة … إلى غير ذلك من الميول التي تدور كلها حول عالم حب الثراء السريع، فإذا فكر وروَّى في نفسه وغلَّب ميله للمنافسة في سوق القطن مثلًا لظروف ودواعٍ تناسبه على الميول الأخرى، يقال: إن هذه الحالة النفسية التي كنا نسميها ميلًا صارت له رغبة يسعى لتحقيقها.

  • (٥)

    الإرادة: فإذا فكر فيما يرغب فيه ورآه ممكنًا، وذلَّل ما قد يكون بينه وبين نيله من عقبات، ثم أجمع أمره عليه، كان من ذلك ما يسمى بالإرادة.

    والفرق بينها وبين الرغبة واضح؛ من أن هذه قد لا يتلوها العمل المثمر، فقد يرغب المرء في أمر يستحيل الحصول عليه، أو في شيء دون الظفر به عقبات ليس من السهل تذليلها، أما الإرادة فلا تكون — كما رأينا — إلا حيث يتروَّى الإنسان في الأمر ويزن جميع الظروف والملابسات، ثم بعد ذلك كله يراه ممكنًا فيعزم عليه، وبهذا يعقبها العمل الذي إذا اعتِيد صار خلقًا.

    ومن أجل ذلك لا يختلف التعريف الذي ذكرناه للإرادة، وهو تغلب عالم من عوالم الميول على غيره، بما عرفها به بعض الكتاب، وهو أنها «قوة للنفس تتمكن بها من تخصيص أمر معلوم مقدور عليه للإنسان بالوقوع فعلًا، سلبًا كان ذلك الأمر أو إيجابًا.»

  • (٦)

    الخلق: من هذا يتضح التعريف الأول للخلق الذي ذكرناه أول البحث، وهو أنه «عادة الإرادة»؛ لأن الإرادة، كما أوضحناه، هي تغلب عالم من العوالم على غيره، والعالم ليس إلا حالة نفسية للإنسان، وإن شئت فقل هو قوة أو هيئة نفسية، ومتى تغلبت هذه القوة باستمرار كانت عادة، وهي مرد معنى الخلق في اللغة العربية وسواها. كما يتضح أيضًا التعريف الثاني الذي ذكرناه سابقًا، وهو «تغلب ميل من الميول على الإنسان باستمرار»، فإن هذا الميل الذي صار رغبة فإرادة هو الهيئة النفسية، وتغلبه باستمرار معناه أنه صار عادة وخلقًا.

ولنضرب لذلك مثلًا: رجل يصدق مرة ويكذب أخرى، أو يجود بالكثير من المال آنًا ويبخل بالقليل مع وجود الدواعي للبذل آنًا، فهل يوصف بأن من خلقه الصدق أو الكذب أو الكرم أو البخل؟ لا؛ لأنه لم يتغلب ميل أو عالم أو هيئة نفسية باستمرار حتى يصير ذلك له عادة وخلقًا، ويقال عن مثل هذا الرجل: إنه متقلب لا أخلاق له.

ولا يصح أن نقيم وزنًا للرأي القائل بأن الخلق أمر نسبي، بمعنى أنه يحكم على المرء بالميل الذي يغلب عليه، فمن غلب عليه حب الإعطاء وأعطى كثيرًا ولم يبخل إلا قليلًا كان كريمًا، وكذلك الصدق والكذب وسائر الفضائل والرذائل، لا يصح أن نقيم وزنًا لهذا الرأي، وذلك أنه مما لا بد من ملاحظته في الخلق الرسوخ والثبات لميل أو حالة نفسية معينة، حتى تعطي ثمرتها من الأعمال باستمرار، يؤيد هذا ما ذكره العلَّامة «ماكنزي» في كتابه «الأخلاق»؛ إذ يقول إنه:

لا بد لتكوين خلق من ثبات عالم من العوالم، أما مجرد باعث خيري أو غرض خيري في حياة الإنسان فلا يكفي لجعله خيرًا.

(١-٢) تعاريف الفلاسفة الإسلاميين للخلق

  • (١)
    عرَّف مسكويه (المتوفى سنة ٤٢١ﻫ) الخلق بأنه «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية.»١
  • (٢)
    وعرَّفه الإمام الغزالي (٤٥٠–٥٠٥ﻫ) بأنه «هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى فكر وروية.»٢
  • (٣)
    وعرَّفه يحيى بن عدي بأنه «حال للنفس به يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار.»٣

وهذا التعاريف، وإن اختلفت ألفاظها وعباراتها، متفقة في معانيها ومدلولاتها، ولا تختلف جميعها عن التعريفين السابقين أول البحث؛ لأن هذه الهيئة أو الحال النفسية هى «العالم» الذي تقدم شرحه، واشتراط صدور الأعمال عنها بلا فكر مؤْذِن بأنها صارت للمرء عادة تصدر عن إرادته من غير تفكير، شأنها في ذلك شأن سائر الأفعال التي مبعثها المران والعادة التي تأصلت في النفس وأصبحت حالة لازمة لها راسخة فيها.

ولا يُشكِل علينا نفي التفكير والروية في الأعمال التي تصدر عن الخلق بما يجده المرء في نفسه؛ إذ من شأنه الكرم حين يدعو داعيه واعتزم أن يجود بمائة من الجنيهات مثلًا، نراه يفكر في أي الجهات يدفع إليها هذا المقدار، وأي النواحي تمس الحاجة للبذل فيها؛ هل يمد بها ملجأ لليتامى، أو مستشفى للمرضى، أو جمعية الإسعاف، أو يساعد بها في بناء مسجد أو تعليم بعض الفقراء النابغين؟ هذه نواحٍ يفكر فيها هذا الكريم، حتى إذا تبين له حاجة جمعية الإسعاف مثلًا للعون سارع فأرسل إليها هذا المقدار الذي رأى الجود به. نقول: لا يشتبه علينا ما اشترطناه في الخلق من نفي التفكير والروية بما نشاهده في مثل هذه الحالة من الإمعان في التفكير؛ لأن هذا التفكير كان في الجهة التي يبذل فيها، لا في نفس وجوب الإعطاء الذي أصبح منساقًا إليه انسياقًا تدفعه إليه تلك الحال النفسية التي رسخت فيه فصارت له عادة وخلقًا.

كذلك التروِّي في الخلق المكتسب يكون أول الأمر عند إرادة اكتساب خلق من الأخلاق، أما بعد أن يتم اكتسابه فلا روية ولا تفكير، ولهذا نجد مسكويه يقول: «ومنها — أي من الحالات النفسية التي هي الخلق — ما يكون مستفادًا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولًا فأولًا حتى يصير ملكة وخلقًا.»٤

وأخيرًا بعد ما تقدم كله لنا أن نعرِّف الخلق كما يقول بعض المحدثين بأنه «عادة الإرادة»، أو «إرادة كاملة التكوين»، أو كما يقول مسكويه بأنه «حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويَّة»، وقد تبينا أن تعاريف الغزالي وغيره من الفلاسفة الإسلاميين لا تبعد عن هذا في كثير أو قليل.

(٢) تكوين الخلق والمؤثرات فيه

عرفنا مما تقدم حقيقة الخلق، وكيف يتكون من الناحية النفسية، وأنه يبدأ ميلًا ضعيفًا يشتد فيصير رغبة أو نية أو مرجوًّا، ثم يصير إرادة راسخة في النفس فخلقًا تصدر عنه أعماله بيسر من غير حاجة إلى تفكير.

على أنه لا بد لنا إلى جانب هذا من بيان العوامل التي تكوِّن الخلق عمليًّا، والمؤثرات فيه أثرًا محمودًا أو غير محمود، من الوراثة والبيئة بمعناها العام، وهذا ما يدعونا للكلام ولو بإيجاز عن فطرة الإنسان ومبلغ استعدادها للخير والشر.

(٢-١) الفطرة الإنسانية

اختلف الناس في فطرة الإنسان: هل هي خيِّرة أو شريرة بالطبع، أو فيها استعداد للناحيتين؟

رأى بعضهم أن الإنسان خُلق خيِّرًا بطبعه، وفي ذلك يرى سقراط أن نفس الطفل خباء للكمال لا تظهره إلا المناقشة والتحاور، كما يرى زينون مؤسس المدرسة الرواقية٥ أن الطبيعة العامة خير لصدورها عن الله وهو خير ولا يصدر عنه إلا خير، فالإنسان وهو أثر من آثار الطبيعة كذلك خير، كما كان يقول جان جاك روسو في كتابه «إميل»:

إن الطفل خيِّر بطبيعته، والشر يأتي له على يد الإنسان.

ويرى آخرون أن الإنسان خُلق شريرًا بالطبع، فيجب الوقوف في وجه ميوله ونزعاته، وهذا هو رأي جمهرة البراهمة والبوذيين الهنود ومن تبعهم من مفكري العرب كأبي العلاء المعري، المتوفى سنة ٤٤٩ﻫ، الذي يقول:

فظن بسائر الإخوان شرًّا
ولا تأمنن على سرٍّ فؤادا

كما يقول من قصيدة أخرى:

وفضيلة النوم الخروج بأهله
عن عالم هو بالأذى مجبول

ويكفي لبيان فساد رأي هؤلاء وأولئك أن نتساءل: إن كان المرء خيِّرًا بطبعه والشر يأتيه على يد الإنسان، فمن أين أتى الشر لهذا الإنسان حتى أعدى به غيره؟ وإن كان المرء مفطورًا على الشر، فكيف نرى كثيرًا من الناس خيارًا فضلاء؟ هل قلدوا في ذلك غيرهم؟ وإذن فقد كان هؤلاء الأغيار خيارًا بالطبع حتى صاروا قدوة صالحة.

على أن هذين الرأيين يؤديان كما قال مسكويه: «إلى إبطال قوة التمييز والعقل، وإلى رفض السياسات كلها، وترك الناس جميعًا همجًا مهمَلين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم، وهذا ظاهر الشناعة جدًّا.»٦

بقي أن نقول: إن الرأي الصحيح الذي يقبله العقل وهو مطمئن، وتعضده الملاحظة، وتدل عليه التجارب الصادقة، هو أن الطفل يُخلق وفيه استعداد للخير والشر، وتوجيهه إلى ناحية الفضيلة عمل المربي الحكيم.

والأدلة على هذا الرأي كثيرة من كتاب الله وحديث رسوله وأقوال العلماء الأعلام؛ يقول الله في كتابه الكريم ممتنًّا علينا: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، والنجدان هما طريقا الخير والشر، ويقول أيضًا: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا، ويقول الرسول الحكيم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه.» الحديث.٧ ومن الحسن أن نلاحظ أن الرسول لم يذكر الإسلام مع هذه الديانات إشارة إلى أنه دين الفطرة، يألفه المرء نفسه بلا حاجة إلى علاج من الوالدين أو المربين.
ويقرر الغزالي أيضًا في بيان الطريق في رياضة الصبيان أن «الصبي خُلق قابلًا للخير والشر جميعًا، وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين.»٨ كما يقرر ابن خلدون في مقدمته، في الفصل الذي عقده لبيان أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر، أن «النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرِد عليها وينطبع فيها من خير أو شر، قال : «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه.»
غير أن استعداد الطفل في رأي ابن خلدون للخير أقوى من استعداده للشر؛ إذ يقول في موضع آخر من مقدمته: «لما كان المُلك طبيعيًّا للإنسان لما فيه من طبيعة الاجتماع كما قلنا، وكان الإنسان أقرب إلى خِلال الخير من خِلال الشر بأصل فطرته وقوته الناطقة العاقلة؛ لأن الشر إنما جاء من قبل الحيوانية التي هي فيه، وأما من حيث هو إنسان فهو إلى الخير وخِلاله أقرب …»٩
وأخيرًا، ذهب إلى هذا الرأي سانتهلير؛ إذ يقول في مقدمته لترجمة أخلاق أرسطو:

إن الله لم يسوِّ بين الناس جميعًا فيما وهب من ميول الخير، كما لم يسوِّ بينهم فيما قدَّر من ميول الشر.

والآن وقد وضح الصبح لذي عينين، وتبين أن في المرء حين يُولَد استعدادًا للخير والشر، وأن أخلاقه لهذا تتغير على حسب ما يؤثِّر فيها؛ نتكلم عن الوراثة والبيئة، وهما العاملان اللذان لهما كل الأثر في تكوينه.

(٣) الوراثة والبيئة١٠

(٣-١) الوراثة

(أ) تمهيد

ليست الوراثة وما لها من أثر بالأمر الذي يرجع علمه إلى هذه العصور الحديثة، بل علم ذلك عريق في القدم، أخذ منه الأولون بحظ غير قليل، وعملوا على الإفادة مما علموا؛ ليكون لأممهم شباب نقي الدم وقوي الجسم والعقل.

أدرك هذا المصريون القدماء، الذين يُعتبرون في رأي بعض الباحثين الأوائلَ الذين استعانوا بالقانون لينزلوا الآراء والنظريات الخاصة بتحسين النسل منزلها من الجدارة والتقدير، فعملوا على نقاء دمهم بتحريم الزواج ممن كانوا يعتقدونهم دونهم في المنزلة من الأقوام الذين اتخذوا أعالي النيل مقامًا وموطنًا.١١

وأدرك ذلك اليونان القدامى، فأخذوا أنفسهم بوأد الطفل الذي يُولَد ضعيف الجسم غير متناسب الخلق، ونادى أفلاطون وأرسطو بأن من الخير سَنَّ قوانين خاصة بالزواج تبين من يُسمح له بالزواج دون الآخرين؛ لأنه يجب أن تبدأ التربية قبل الولادة.

هؤلاء وأولئك، وتلك آراؤهم وما دعوا إليه من نُظُم، كانوا ولا شك على علم بالخطر الذي ينال أممهم إن أجازوا للشاذ الخلق أن يعيش وأن يكون منه نسل، وهذا الخطر الذي أحسوا به هو أن يرث نسل هؤلاء الضعاف أو المشوهين بعض صفاتهم.

وجاء العرب فرأينا منهم من مَهَر في القِيَافة، حتى لَيكون قوله الفصل في بنوة متنازع فيها، فما هو إلا أن يوازن بين أعضاء من الولد وأخرى ممن يزعم أنه أبوه حتى يتبين له الحق من الباطل، وواضح أن البراعة في هذا شيء من معرفة آثار الوراثة الجسمية، وفي ذلك يقول الشاعر العربي:

وَرِثنا المجدَ عن آباء صدق
ونُورِثه إذا مِتْنا بنينا

كل ذلك، وما إليه كثير، فيه دلالة واضحة على أن الأقدمين لم تفتْهُم معرفة أن في الكون قوة لها آثارها، وإن لم يفقهوا كنهها، حتى جاء العلم الحديث — الذي عرف عن تلك القوة الشيء الكثير — مؤيدًا للسنة الصادقة، إذ يقول : «تخيَّروا لنُطَفِكم؛ فإن العِرق دسَّاس.»

(ب) تعريفها

إن نظرة إلى أفراد سلالة نباتية أو لسرب من الظِّباء مثلًا أو لأسرة تضم الأجداد والأبناء والأحفاد، ترينا أن بين كل من هذه الأصول وفروعها شبهًا من نواحٍ عدة وإن اختلف قوة وضعفًا بحسب شدة أثر الوراثة أو ضعفه، ولاختلاف ذلك التشابه قال بعض علماء الوراثة: «إن المِثْل ينتج غير المثل»، يعنون أن هذه المشابهة وإن اشتد خطرها فإن إلى جوانبها فوارق عديدة تفرق بين المرء وأصله. ويقول آخرون: «إن المِثْل ينتج المثل»، ويريدون بذلك أن في الفرع استعدادًا لمشابهة أصله فيما له من خصائص ومميزات.

من هذا نرى أن كلًّا من هذين القولين يكمل الآخر، وأن المراد من الوراثة أن الجسم الحي يلد آخر يشبهه، وأننا نستطيع أن نعرِّف الوراثة بأنها «انتقال بعض صفات الأصل لفرعه، قل ذلك أو كثر.»

(ﺟ) النظريات الوراثية

لاحظ علماء الحياة أن الفرع يَمُتُّ لأصله بكثير من صفاته ومميزاته، لكنهم وقفوا أول الأمر حيارى في تعليل ذلك. ومن أشهر من بحث هذا الموضوع الأستاذان الطبيعيان «دارون»١٢ و«فيزمان».١٣
  • (١)

    يرى دارون أن هناك أجزاء صغيرة جدًّا تُقتطع من كل خلية من خلايا الجسم حين التلقيح وتسبح في جسمَي الذكر والأنثى حتى تصل إلى أعضاء التناسل. وهذه الأجزاء، وهي بمثابة سفراء عن خلايا الجسم المختلفة، تحمل في طياتها كل ما يمكن أن يورثه الأصل لفرعه، وهي قابلة للتكاثر والانتقال من جيل لآخر، وبذلك نستطيع أن نفسر التشابه بين الأجداد والأحفاد.

    على أننا لا ندري كيف يفسر دارون أن يلد أقطع الذراع مثلًا ابنًا صحيح الذراعين! كذلك لم يثبت لنا العلم وجود هذه الأجزاء التي زعم أن خلايا الكائن الحي تفرزها حين اللقاح؛ لذلك لا نعجب إذا رفض كثير من العلماء، ومنهم من كان معاصرًا لدارون نفسه، هذه النظرية، ورأوا أن هناك منبعًا دائمًا لجراثيم الحياة، وأنها في قرار مكين في الذكر والأنثى.

  • (٢)

    وأما فيزمان، صاحب نظرية «اتصال المادة الأولية للحياة»، وأحد الذين رفضوا ما ارتآه دارون، فيرى أن ما في الإنسان من خصائص ومميزات يتمثل في صورة ذرات غاية في الدقة في خلاياه التناسلية يُطلق عليها اسم «المحدِّدات أو المعيِّنات»، كما يُطلق على مجموعها اسم «المادة الأولى للحياة»، وهذه الجراثيم أو المحدِّدات لها منبع لا يغيض، وحين التلقيح تتحد بعض معيِّنات الأب بأخرى من معيِّنات الأم فيكون من ذلك نواة الجنين.

إلى هنا يتبين مدى الفرق بين هاتين النظريتين؛ ففي الأولى تتولد مادة التلقيح من خلايا الجسم العامة، وفي الثانية نرى أن تلك المادة متصلة مدى الحياة متوارَثة بين طبقات النسل، لا دخل لخلايا الجسم العامة في تكوينها.

والآن وقد عرفنا رأي «دارون» و«فيزمان» في الوراثة وحقيقتها، يجب أن نعرف رأي العلم الحديث فيها.

(د) حقيقة الوراثة

أثبت لنا علم تكوين الأجنة أن في نواة كل من خلايا التناسل في الذكر والأنثى عددًا كبيرًا من الألياف، وأن هذه الألياف هي حاملة العوامل الوراثية، وفيها تتمثل خصائص الشخص، وأنه عند عملية التلقيح تتحد خلية من خلايا الذكر التناسلية بأخرى من الأنثى، بعد أن تكون كل منهما قد انقسمت، ويصحب ذلك طبعًا تخلصها من نصف ما كان فيها من الألياف. ويكون وليد ذلك الاتحاد النواة التي يتكون منها الجنين والتي تحتوي على خصائص الجنس والأبوين، وكثير من صفات الأسرة وعاداتها وميولها، ثم تنمو على نظام محكم حتى تصل إلى ما قدَّره الله لها من كمال.

هذا ما يقوله العلم الحديث، ومنه نرى أن «فيزمان» قد أصاب الحق فيما ذهب إليه، فهذه الألياف ليست شيئًا آخر غير ما أُطلق عليه اسم «المعيِّنات أو المحدِّدات»، والمادة الجرثومية أو مادة التناسل لا تفرزها خلايا الجسم — كما يقول «دارون» — بل هي مادة مستقلة تتكاثر من نفسها، وتستمر مدى الحياة، كما يحدثنا «فيزمان» في نظريته.

على أنه يجب قبل الانتقال لبحث جديد أن نذكر أن الطفل، وقد تكون من معينات من الأم والأب، ليس من المحتم أن يظهر فيه حتى بعد أن يكمل نموه كلُّ صفات والديه في صورة فعلية، بل قد يظهر بعضها ويكمن البعض الآخر حتى تحين لها الفرصة فتظهر في إحدى طبقات نسله القريبة أو البعيدة؛ جاء في ذيل «تاريخ بغداد» لابن النجار في ترجمة علي بن نصر الفقيه أنه قال ما معناه: زوجت أحد غلمان عضد الدولة بن بويه صبية في جوارنا فولدت له ولدًا استحيت أن تريه له، فشكا إليَّ ذلك، فذهبت إليها فأسرت لي والدتها أن ولده أبلق، أي أنه من رأسه إلى سُرَّته أبيض، وبقية بدنه أسود، فلما سمع التركي قولها «أبلق» صاح: «ابني ابني! وهكذا كان جدي في بلاد الترك.»

(ﻫ) ماذا تنقله الوراثة؟

ليس الواحد منا إلا أداة اتصال بين الماضين والآتين، فهو سجل تاريخي نعرف منه كيف كان الأسلاف والأجداد، وينقل ما هو مطبوع فيه من الصفات الوراثية إلى خلفه، بذلك تُحفظ خصائص النوع البشري، والمميزات القومية التي لكل أمة، حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
  • (١)
    ينتقل بالوراثة كثير من الصفات الجسمية كالطول والقصر والنحافة والغلظ ولون الجسم والشعر والأعين مثلًا. وكما تنتقل بها هذه الصفات الجسدية العادية، تنتقل الأوصاف الشاذة الراجعة لعيوب التكوين. هذا «دارون» العلَّامة في العلوم الطبيعية يقول في ذلك ما نصه:
    إذا كان من المقرر أن الاختلافات حتى أكثرها شذوذًا والتي لا تنطبق على جنس معلوم، كنقص بعض الأصابع والأظفار أو زيادتها وكالجَهَر وتشقق الجلد وغيرها، تنتقل في النسل بحرص؛ فكم بالحري ينبغي أن يكون كذلك في الاختلافات العادية التي يصح عليها جليًّا ناموس الوراثة؟!١٤

    ولا يعنينا بسط الكلام على هذه الصفات ونحن نبحث عوامل تكوين الخلق، إنما الذي يجب أن نُعْنَى ببحثه هنا هو أثر الوراثة في الصفات الأدبية والعقلية.

  • (٢)
    وللوراثة كذلك دخل كبير في تكوين المرء أدبيًّا وعقليًّا، فشهوات الإنسان وميوله، وغرائزه وأمزجته، وما تركز فيه من عادات وأخلاق، وما وُهِبه من استعداد للذكاء، وقوة في مظاهر الفكر ونواحيه قد تسمو حتى تصل للعبقرية أحيانًا، وما يُرزأ به من ضعف في العقل والتفكير قد يشتد حتى يكون صورة من صور البَلَه أو الجنون؛ كل هذه الصفات والاستعدادات نرى للوراثة قسطًا كبيرًا في تكوينها، فهي لا تَنِي لحظة عن نقل صفات الأجيال الماضية للحاضرة والقادة متى وجدت إلى ذلك سبيلًا.١٥
وفي هذا المعنى ننقل كلمة للدكتور «شبلي شميِّل» في شرح مذهب «دارون» في النشوء والارتقاء، وما للوراثة من قيمة فيه، وها هي: «وكما أنها تنقل الصفات الجسدية تنقل أيضًا الصفات الأدبية كالشهوات والأميال والعوائد والأخلاق والعقل … إلى غير ذلك».١٦

ويحسن أن ننبه من أول الأمر إلى أن المراد من وراثة هذه الصفات وغيرها في أغلب الحالات هو وراثة الاستعدادات لها، أما ظهورها بالفعل فيتوقف على البيئة. ومع هذا فليس من الضروري أن تظهر في النسل تلك الصفات الموروثة على النحو التي كانت عليه في الآباء، بل قد تبدو في صور شتى ترجع كلها في نوعها لتلك الصفة الموروثة؛ ولهذا «قد نرى الأبوين العصبيين ينسلان أولادًا مختلفين؛ أحدهم فنان، والآخر معتوه، والثالث شاعر حاد العواطف، والرابع سكِّير مفرط، والخامس واعظ عظيم، فنراهم كلهم من وادٍ واحد من حيث حدة الانفعال، ولكنهم اختلفوا بين نافع وضار تبعًا لقدر الإرث والبيئة»، كذلك الأبوان الشاعران قد يكون لهما ابن موسيقار وآخر رسام وثالث مثَّال، ومعنى هذا أنهم ورثوا عن أبويهم الفن الجميل، ولكن تلك الصفة الموروثة ظهرت فيهم على صور مختلفة.

وقد ذكر الأستاذ الأبياري، وهو بسبيل الحديث عن وراثة العقليات الممتازة والعقليات المنحطة؛ أن من الحالات الأولى المعروفة عائلة «دارون» التي وصل خمسة عشر شخصًا منها إلى عضوية الجمعية الملكية بإنجلترا. كما أشار في الناحية الثانية إلى أسرة تعيسة هي أسرة «جون لوك» المشهورة بمدينة «نيويورك»، فقد تبين من دراسة تاريخها بدقة أن بين ٢١٠٠ نفس منها، وهذا العدد ثلاثة أخماسها، كان ٣٧٨ من العاهرات، و١٨١ من السكِّيرين، و١٧٠ متسولًا، و١٢٩ متشردًا، و١١٨ مجرمًا، وأن حوالي نصف العائلة كان مصابًا بالضعف العقلي الذي كان آفة الأبوين الأولين؟١٧

هذا، ومن الخير أن نفرد الغرائز ووراثتها بكلمة خاصة لما لها من أثر بالغ في تكوين الخلق.

(و) الغرائز والوراثة

ينكر «هربرت سبنسر» الوراثة العقلية؛ إذ يرى أن لا عقل للطفل حين يُولد، وأن عقله هو مجموعة ما يجيء له بعد من الأفكار والمعلومات، كما ينكر الغرائز والميول الطبيعية والاستعدادات الفطرية.١٨ ويذكرنا هذا الرأي بما يراه الغزالي الذي يذهب مذهب المنكرين للوراثة العقلية، حين يقول: «والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة تعيسة ساذَجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نُقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه.»١٩

هذا ما يقوله هذان العلَّامتان، فهل أصابا محجة الصواب؟ إن نظرة إلى بعض الغرائز ترينا كيف ننتقل بالوراثة من جيل إلى جيل. ها هي ذي غريزة المنافسة من الواضح أنها لم تُخلق مع الإنسان الأول؛ إذ لم يكن ثمة من ينافسه، وبعد حين من الدهر تكاثر الناس وتسابقوا في نيل وسائل الحياة، فوُجدت هذه الغريزة التي توارثها الأجيال، وغدت دعامة متينة في التربية والأخلاق، كذلك قد يشعر الكثير منَّا بالخوف إذا أَجَنَّه الظلام، مع أن له في سهر رجال الأمن وإحكام داره ما كان جديرًا بدافع غائلة الخوف عنه لو أن الأمر يرجع لمؤثرات خارجة فحسب، ولكن الأمر فوق هذا، فذلك الخوف مرده الوراثة، فهي التي أورثته هذه الغريزة عن أجداده الأولين الذين لم يكن لهم من وسائل الأمن ما لنا الآن.

ونعود إلى رأي الغزالي فنقول: إنه في رأي بعض الباحثين يمثل الفلسفة القديمة التي تقول: إن الطفل يُولد صحيفة بيضاء، للمربي أن ينقش فيها ما يشاء. على أننا لو اعتمدنا المذهب القائل بأن الصفات والأخلاق نفسها لا تُوَرَّث وإنما الذي يُوَرَّث هو الاستعدادات لها، وهو رأي محترم في أوروبا؛ لكان الرأي الذي ذهب إليه الغزالي لا غبار عليه، وخاصة وحديث: «كل مولود يُولد على الفطرة» يعضِّده ويشهد له.

أما «سبنسر» فالأمر معه سهل، فهو وإن أنكر الوراثة العقلية فقد جعل للوراثة الجسمية التي لا ينكرها شأنًا في العقل؛ إذ يرى أن الأطفال مختلفون في استعداداتهم المادية، وأن لذلك أثرًا في الروح قل ذلك أو كثر، ولذلك يعترف بأنه كثيرًا ما يعجز المربي — مهما بلغ من حذق وأنفق من جهد — عن الوصول إلى ما يريد من الغايات.٢٠ من هذا نرى أنه لا فرق في النتيجة بين «سبنسر» والمثبتين للوراثة العقلية ما دام الكل يعترف بأن الطفل يخرج للحياة وفيه بعض الاستعدادات أيًّا كان مصدرها التي تمد للمربي يد العون في تربيته وتهذيبه.

(ز) سبيل توزيع الصفات الوراثية

ليس من شك الآن في أن الوراثة حق، فكأين من آية تدل عليها، وما أكثر الظواهر الطبيعية التي لا تُفسر إلا بها! لكن الباحثين فيها راعهم ألا يجدوا اطِّرادًا في وراثة الفرع لكل الصفات التي تُورَث عن أصله، فشرعوا يتعرفون السنن التي تتبعها الطبيعة في هذا السبيل، وأشهر من بحث في ذلك هو العلَّامة مندل Mendel النمسوي،٢١ الذي بحث كثيرًا وقام بتجارب مختلفة حتى اهتدى إلى النظرية التي عُرفت باسمه.

أجرى هذا الباحث تجاربه على نبات البسلة الذي كان موجودًا منه أنواع مختلفة الطول واللون في حديقة الدير الذي كان قسيسًا له، بأن لقَّح بعضًا من النوع الطويل بآخر من القصير فكان الناتج كله طويل الساق، ومعنى هذا أن صفة الطول قد تغلبت وكمنت الصفة الأخرى. ثم استنبت الفصيلة الناتجة ولقَّحها بعضها ببعض فرأى ما أدهشه، وهو أن ربع الناتج كان قصيرًا والباقي كان طويلًا! استنبت مرة أخرى هذه الفصيلة الأخيرة ولقَّحها تلقيحًا ذاتيًّا كذلك فكان الأمر عجيبًا؛ إذ كان نسل الربع القصير قصيرًا مثله، وقد كرر زرعه فلم ينتج إلا قصيرًا، وكان ثلث الباقي طويلًا ولا ينتج إلا مثله دائمًا، وكان الباقي بعد ذلك من النوع الطويل لكن فيه صفة القصر مكسوفة كامنة، لهذا كان باستنباته يعيد السيرة الأولى، فينتج قصيرًا وطويلًا بالنسبة السابقة، أي أن الربع ظل قصيرًا خالصًا، والربع كذلك كان طويلًا خالصًا، والنصف كان طويلًا فيه صفة القصر كامنة.

وكذلك أجرى مثل هذه التجربة على اللون، ثم على بعض الحيوانات كالأرانب والدجاج والحمام، فكان صدى هذه التجارب كلها قانونه الذي عُرف باسمه. وبهذه النظرية أو هذا القانون — وإن لم يطَّرد نجاحه دائمًا — أمكن الحصول على أجود الأنواع في النبات والحيوان.٢٢

(ﺣ‎‎) وراثة الصفات المكتسبة

الصفات المكتسبة هي الصفات التي تصيب المرء في حياته الخاصة لعوامل خاصة به، دون أن يكون لأحد من أسلافه نصيب في شيء منها، مثل آثار الجروح التي تعتري المرء واسمرار بشرة الأبيض الذي يقيم في بلاد حارة، غير مقتفٍ في ذلك أثر أحد من آبائه الأقربين أو الأبعدين.
  • (أ)

    وقد اختلف العلماء في وراثتها، فقال بذلك بعضهم وأولهم «دارون» وسائر أشياع مذهب النشوء والارتقاء. وهذا الرأي من دارون يتفق مع نظريته في حقيقة الوراثة التي تتلخص كما قدمنا في أن الجسم يفرز حين اللقاح أجزاء صغيرة من كل عضو يتكون منها الجنين، فمن الطبيعي إذن على رأيه أن تتمثل في هذه الأجزاء صفة كل عضو على حالته التي يكون عليها حين اللقاح.

    ويسوق «دارون» لدعم رأيه حالات كثيرة ظهرت فيها وراثة هذه الصفات، ثم يقول: «على أن ما نلحظه في أنواع البقر والماعز الحلوب المستولَدة في أقاليم يكثر حلبها فيها، لَمثال يبين لنا أثر الاستعمال والإغفال، فإن كِبر حلماتها صفة وراثية فيها، ويتضح ذلك من مقارنة هذه الأعضاء فيها بما لأنواعها غير الحلوب في أقاليم أخرى.»٢٣
    على أنه لا يقول مع هذا باطراد وراثة الصفات المكتسبة، بل ولا غير المكتسبة؛ ولهذا نراه يقول أيضًا: «إن السنن التي تخضع الوراثة لمؤثراتها مبهمة لدينا غالبًا، ولا يتسنى لأحد أن يستجلي غامض ذلك السر الذي تُورَث به الصفات الخاصة في أفراد النوع الواحد في حين ولا تظهر موروثة في حين آخر.»٢٤
    هذا، ولا يقتصر أنصار هذا الرأي على البحوث النظرية أو المشاهدات الخاصة، بل كثير منهم قام بتجارب متعددة لإثبات رأيهم على كثير من الحيوانات،٢٥ وقد يعزز نظريتهم ما تراه من أن الحيوانات التي تُضطر إلى سكنى الكهوف ونحوها من الأماكن المظلمة، تتعدل أعضاؤها حسب بيئتها الجديدة، فيتغير كثير منها لعدم الاستعمال، وينشأ أولادها على غرارها الجديد.
  • (ب)

    هذا بعض ما يؤيد به أنصار وراثة الصفات المكتسبة رأيهم، أما المعارضون لهم فيقولون: نجد الصينيات يحاولن منذ قرون تصغير أقدامهن، ومع ذلك لم يظهر أثر لذلك في الأعقاب (الأبناء والأحفاد)، كما أن عادة الختان لا يظهر لها أثر في النسل رغم وجودها منذ أزمان طويلة بين اليهود والمسلمين، ومثلها عادة الوشم شائعة عند بعض القبائل بأفريقيا وغيرها منذ أزمان بعيدة، ولم نَرَ طفلًا وُلد وقد ورث تلك الآثار.

  • (جـ)

    والذي نراه حقًّا هو ما يراه العلَّامة «فيزمان»، وهو أن «الصفات المكتسبة لا تنتقل بالوراثة ما لم تؤثر في المادة الجُرْثُومية وتحدث بها تغيرًا»، وهذا إنما يكون إذا تسببت عن مؤثرات طبيعية تطاول بها الزمن، كسواد البشرة لطول الإقامة في المناطق الحارة. أما الصفات الناشئة عن عوارض فجائية كالعاهة التي سببها كسر عضو مثلًا، فأثرها لا يعدو أن يكون سطحيًّا لا يستطيع أن يتغلغل حتى يصل لخلايا جرثومة الحياة. ولعل هذا الرأي يفسر لنا وراثة الصفات المكتسبة تارة وعدم وراثتها تارة أخرى.

وهذا الرأي لا يخالف رأي العلَّامة «ريبو»، وهو من أشهر علماء النفس الفرنسيين،٢٦ الذي يقول: «يمكننا أن نفهم بصفة عامة أن التشوه المسبَّب عن حوادث، وكذلك البتر وتحطيم الأعضاء فجاءة، كل ذلك لا ينتقل بالوراثة …» إلى أن يقول: «يوجد نوع من التغييرات المتسبَّبة عن فعل بطيء ذي أثر في الكائن كالغذاء والتربية، وإن تجارب المعلمين لتؤيد أن بعض الصفات المكتسبة تورث.»

وواضح أنه يريد من قوله: «وإن تجارب المعلمين … إلخ» أن تلك الصفات التي تُورث هي الناشئة عن مؤثرات طبيعية؛ لأنها التي يكون أثرها بطيئًا.

وبعد، فإن القائلين بعدم وراثة الصفات المكتسبة لينكرون طلوع الشمس وهي تصليهم نارًا حامية! وإلا فليفسروا لنا كيف يَنْسُل العربي، الذي توطَّن السودان مثلًا زمنًا طويلًا حتى نالت البيئة الجديدة من بشرته، أولادًا يمُتُّون إليه بسواد أجسامهم. على أن القوة التي تحفز الناس إلى التقدم لَيَنالها الضعف إلى حد كبير إذا اعتقدوا أن هذه الصفات — وكثير منها ثمرة جهادهم في الحياة — لا ينتقل شيء منها إلى أبنائهم الآتين على ممر الدهور.

(ط) الوراثة والتربية

ما أثر الوراثة في التربية؟ وهل هي نوع من القدر الذي لا مفر منه، أو للتربية مجال كبير في فل حِدَّتها وتهذيب آثارها والانتفاع منها؟ ذلك ما نتكلم فيه الآن:
  • (أ)

    للوراثة أثر سيئ في كثير من الأحوال، يظهر ذلك في أولاد المدمنين على الخمر والمرضى المشوهين، إلا أننا نجد من الحق أن نذكر مع هذا فضلها وما لها من أيادٍ كبير أثرها، فنظام المجموع العصبي الكبير الخطر، والجهاز الصوتي، والحواس وما تسديه إلينا من نفع، والغرائز التي لا غنى عنها في حفظ المرء ورفاهيته؛ كل ذلك وما إليه للوراثة فيه أثر غير منكور، فهي قوة قد تأتي بالضار كما قد تمدنا بالنافع، ومن هنا تظهر الحاجة الماسة للمربي الحكيم، فهو القادر على أن ينتفع بما يأتي به من حسنات، كما في يده أن يفل من حدتها ويخفف من شدتها إن جنحت للطريق الأخرى.

  • (ب)

    وكثيرًا ما يتساءل الباحث في المجتمع الإنساني وتطوره عما إذا كان للوراثة — على كثرة ما خصص لها العلماء من بحوث وأنفقوا فيها من جهود — من أثر في رقي الإنسانية المشاهد الملموس، هنا نقول إن الوراثة لا تقف بآثارها على ما تقدم ذكره، بل إن منها نوعًا آخر هو وراثة التقاليد والأخلاق، والعلم والمدنية والحضارة، وسائر أساليب الآباء والأجداد في معيشتهم ووسائلهم التي كانت لهم عونًا في أزمانهم، بذلك يتيسر أن نبدأ حياتنا من حيث انتهى أسلافنا، وأن نبني على ما شادوه لنا، وبهذا تتقدم العلوم والمعارف وترقى المدنية، والنتيجة تقدم المجتمع عامة نحو الكمال.

نظن الفرق في القوة الجسدية ليس كبيرًا بيننا وبين أهل القرون الخالية، لكن الفرق جدُّ كبير بين مدنيتنا ومدنيتهم، وبين علومنا المؤسسة على البحث الصحيح ومعارفهم الساذَجة التي أساس أكثرها الحدس والتخمين، وبذلك أمكن لنا ما نشاهده من مخترعات ذللت لنا سبل الحياة، والسبب في ذلك واضح ظاهر، فقد ورثنا مدنيات أصحاب الأيام الخوالي من الفراعنة واليونان والرومان والعرب والأمم الإسلامية جميعًا. وبعبارة أخرى: ورثنا حضارة الجنس الإنساني حتى هذه اللحظة دون من سبقونا، فبهذا فقناهم ووصلنا إلى ما لم يخطر لهم على بال؛ من نظم وقوانين، ومخترعات جعلت الحياة سهلة ذلولًا، ومكنتنا من تلبية نداء المعري حين يقول:

سِر إن استطعت في الهواء رويدًا
لا اختيالًا على رُفَات العباد

وبعد: فإن نظرة واحدة يوازن بها المرء بين حالتنا اليوم وبين حالة من سبقونا بعدة قرون، لَتبيِّن لنا أهمية ما حصلنا عليه من الإرث الاجتماعي الذي كان الاحتفاظ به وإنماؤه سببًا في توطيد أسس الحضارة وإعلاء صرح المدنية.

(ي) رجاء أنصار الوراثة

تبين للعلماء ما للوراثة من أثر كبير في نقل كثير من الأمراض الجسمية والعقلية والخلقية، فشرعوا يفكرون في طريق العمل حتى نكون بمنجاة من آثارها السيئة، وحتى نصل إلى مستوى يكون أقرب بقدر المستطاع إلى الكمال.

وقديمًا عُنِيَ بهذه المسألة أولو الأمر وفكر فيها الفلاسفة؛ كان الأسبارطيون — كما تقدم — يئدون من لم يُولد قوي الجسم حسن الخلق، وكذلك كان الأثينيون يفعلون، وفيهم كان أرسطو، المعلم الأول، الذي نادى بسنِّ قوانين تبين من يسوغ لهم التزاوج، كما نصح الحكومة أن تسير على ما كان متبعًا من إعدام من يُولد ضعيفًا أو مشوهًا.

على أن هذه التقاليد القاسية والآراء المتطرفة وجدت في الزمن الأخير أنصارًا وأعوانًا، أمثال شوبنهور٢٧ ونيتشه٢٨ وبرناردشو الكاتب الأيرلندي المعروف؛ فقد كان الأولان يريان أن شريعة الاجتماع يجب ألا تعرف شفقة ولا رحمة، وأن تحتذي شريعة الطبيعة فيما لها من طرق، فتقتل العاطل أو تمنع تناسله، ولا تبقي إلا على الأصلح،٢٩ كما يرى الأخير وجوب تقييد الزواج، وقتل الذين لا يرجو منهم المجتمع خيرًا!٣٠

بهذا كان ينادي هؤلاء الفلاسفة المتشائمون، ونسوا أن يقولوا لنا متى كان يجب أن تنفذ هذه الشريعة الهدامة، كما أنهم لم يضعوا حدًّا أو مقياسًا نعرف به الأصلح فنبقيه، وغيره فنأتي عليه.

الحق أن هذه الفلسفة كان من حظ المجتمع أن جعلها دَبْرَ أذنيه فلم يلقِ لها بالًا، وإلا فلو دان الناس بها فيما سلف من الزمان لحُرم العالم من كثيرين هم فخر العلم اليوم؛ فكم من نابغ جعل حول اسمه دويًّا في جنبات الأرض، نشأ من سلالة خاملة لم تُرزق شيئًا من العبقرية والنبوغ!

وإذن لندع هؤلاء القانطين يسبحون في عوالمهم ولنكن عمليين فنعرف أن بحوث الوراثة تنادي:
  • (١)

    بأن بعض الأمراض وراثية، فيجب أن يُمنع مَن رُزِئوا بها وأعجزَنا شفاؤهم من التناسل حتى تنقرض سلالاتهم، ويخلص المجتمع منهم.

  • (٢)

    وبأن البَلَه والجنون وسائر الأدواء العقلية والخلقية من الأمراض التي للوراثة حظ فيها، فيجب أن يُمنع المصابون بشيء منها من التناسل أيضًا.

  • (٣)

    وأخيرًا بأنه يجب أن تغيَّر القوانين إلى حد يمكن للحكومة من السيطرة على أولئك وهؤلاء، فتحول بينهم وبين التناسل في غير مشقة ولا إعنات، كأن تنشئ لهم مثلًا مستعمرات تضمهم وتكل إليهم بعض الأعمال نظير ما يكلفونها من نفقات.

(ك) واجبنا والوراثة

إذا كان للوراثة هذا الأثر الظاهر في الأجسام والعقول قوة وضعفًا، وفي الأخلاق حُسنًا وقبحًا لابتنائها على كثير من الغرائز والعادات الموروثة، وإذا كان الإنسان يعترف عمليًّا بهذا الأثر ويحرص على الإفادة منه دائمًا، فلا يستنبت إلا أجود البذور، ولا يقتني من الحيوان إلا أفضل الأنواع للحصول على أكبر الفوائد والمزايا، نقول: إذا كان الإنسان يُعْنَى بتحسين سلالات النبات والحيوان، فأولى له أن يعير ذاته — وهي أكرم عليه — ما تستحقه من عناية، وما تتطلبه من تقدير، فيستعرض جميع أحواله من جسمية وعقلية وخلقية، ويجعل من نفسه عليها رقيبًا، ثم يحاول أن يستفيد من صفات الخير وينميها، وأن يهذب من سواها بقدر ما يستطيع.

وليس هذا من واجب الإنسان لنفسه فحسب، بل إنه واجب عليه للأجيال الآتية أيضًا. إنه إذا أخذ كل منا نفسه بإصلاح جسمه ومداركه وأخلاقه، ونسج أبناؤنا على هذا المنوال، كنا جديرين بأن نصل بفضل وراثة ما يرسخ من الصفات المكتسبة إلى مستوى قريب من الكمال.

والآن، وقد فرغنا من الكلام على الوراثة وآثارها، ومهمة الفرد والمربي حيالها، نرسل البحث إلى عامل آخر في تكوين الخُلق وهو «البيئة»؛ حتى نرى مبلغ أثرها أيضًا، وما هو واجبنا كأفراد ومربين نحوها.

(٣-٢) البيئة

(أ) تعريفها

تطلق هذه الكلمة بأوسع معانيها على كل ما يحيط بالمرء ويؤثر فيه كثيرًا أو قليلًا، بطريق مباشر أو غير مباشر، من يوم يكون جنينًا إلى أن يموت، فالمنزل والمدرسة والرفاق، والسياحات والأسفار، والتقاليد والنظم والقوانين التي يخضع المرء لها، والإقليم الذي يعيش فيه، كل ذلك ونحوه من البيئة التي لها كبير الأثر في تكوين الإنسان.

(ب) أنواعها

هذه العوامل التي تشملها كلمة «بيئة» إما طبيعية كالبلد الذي يحيا فيه الإنسان وما فيه من جبال ووديان وسهول وحُزُون وبحار وأنهار، كذلك ما قُدِّر لهذا البلد من حرارة وبرودة، كل هذا من البيئة الطبيعية.

وهناك سائر العوامل الأخرى؛ من البطن الذي احتواه، والمنزل الذي دَرَج فيه، والأسرة التي نشأ فيها، ومعاهد التعليم التي عُنيت بتثقيفه، والرفاق الذين اصطفاهم لنفسه، كل هذا ونحوه ما يسمى بالبيئة الاجتماعية.

البيئة الطبيعية

للبيئة الطبيعية دخل كبير في أخذ كل من النباتات والحيوان شكلًا خاصًّا يناسب الإقليم الذي نعيش فيه، نجد الجهات الباردة يتميز نباتها بالقصر والضُّئُولة، وحيوانها بسُمك الجلد ووفرة الفراء، وبجانب هذا نشاهد الأشجار والحيوانات الضخمة في الجهات الحارة، كما نعرف للحيوانات المائية جهازًا للتنفس يخالف ما للحيوانات البرية بحيث يساعدها على استخلاص «الأكسجين» من الماء واستنشاقه.

وهناك مَثَل يكاد يلمسه كل منا يدلنا على فعل البيئة الطبيعية وأثرها، ذلك هو الفرق الكبير بين أي نوع من النبات — كالذرة أو القمح أو القطن مثلًا — يُزرع في غير الفصل الخاص به، وبين هذا النبات نفسه متى زُرع في فصل زرعه المعتاد.

وكما يكون للبيئة الطبيعية أثر إيجابي يكون لها أثر سلبي، فهي قد تساعد شيئًا من الصفات الموروثة الكامنة على الظهور، كما قد يكون أثرها تعطيل صفة من الصفات الفعلية بتفويتها الفرصة التي كانت تظهرها وتنميها. ولنا في تجربة أجراها الأستاذ «نجيلي»، أحد علماء النبات، دليل واضح على تأثيرها الإيجابي، ذلك أنه أخذ فسائل صغيرة من نباتات الألب وغرسها في «ميونخ» فكبر حجمها عن أصلها، ثم أخذ بعض هذه النباتات واستنبتها بجبال الألب ثانية فتضاءلت شيئًا فشيئًا حتى عادت سيرتها الأولى. كما نجد في عمى الخيل التي ظلت الأعوام العديدة تعمل في الظلام بالمناجم دليلًا على تأثرها السلبي، فقد جاءها ذلك من البيئة التي اضطرتها لإهمال استخدام حاسة الإبصار فيها.

وأخيرًا، فالباحث المدقق في مملكتَي النبات والحيوان يرى أثر البيئة الطبيعية واضحًا تمامًا، سواء أكان ذلك الأثر صغيرًا أم كبيرًا؛ إذ قانون البيئة وهو «تعديل الكائن الحي نفسه حسب ما يحيط به»، لا يكاد يقبل هوادة ولا استثناء، أو بتعبير آخر: إن نصيب من يعصي هذا القانون هو السقوط صريعًا في معركة الحياة.

أثرها في الإنسان

وربما يُخيَّل إلينا، وقد نظرنا للوراثة وآثارها في الإنسان، أنها العامل الوحيد فيما يُرْزَقه المرء من صحة وسقم، وما يُقَدر له من قوة أو ضعف في الفكر، وما يشبُّ عليه من عادات وأخلاق؛ لا، ليس الأمر كذلك، فللبيئة أثر غير قليل في هذا كله.

هذا ابن خلدون يحدثنا عن تأثير الأقاليم في السكان آثارًا مختلفة، ويقول عن سكان الأقاليم المعتدلة: «إنهم أعدل أجسامًا وألوانًا وأخلاقًا»،٣١ ولهذا كانت هذه الأقاليم كما يقول: «مهد الرسالة ومبعث الأنبياء، ذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع الإنساني في خلقتهم وأخلاقهم»،٣٢ أما غير هؤلاء من سكان الأقاليم البعيدة عن الاعتدال فنراه يقول عنهم: «إنهم أبعد عن الاعتدال في جميع أحوالهم»،٣٣ كما نراه يتبع هذا الحكم العام بقوله: «وأخلاقهم مع ذلك قريبة من أخلاق الحيوانات العجم.»٣٤

ولنا في الفروق الملاحظة بين أهل مصر والحجاز والشام وفرنسا والعراق والمغرب ومن إليهم، وبين السودانيين والأحباش والأمم المغولية ومن والاهم؛ دليل واضح على ما يقول ابن خلدون من تأثير البيئة الطبيعية في الأجسام والعقول والعادات والأخلاق. ولننظر إلى أهل البلاد الحارة، نجد الكسل والتواكل والخفة والطيش وعدم الاكتراث، ونرى اليقظة والتفكير في المستقبل البعيد من الصفات الغالبة على سكان الأقاليم الباردة، والسبب في هذا أن الحرارة تبعث على الخمول وأن البرد يتطلب حركة مستمرة في كل آنٍ.

البيئة الاجتماعية وآثارها

  • (أ)
    أول بيئة اجتماعية للطفل بطن أمه، حيث تتدرج بذرته الأولى من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة حتى تصير خلقًا سويًّا، في هذه المرحلة لا يكون الجنين بنجوة من التأثيرات التي تتناول أمه. يقرر توماس هوب، أحد علماء الإنجليز في القرن السابع عشر، أن ما نشأ عليه من الجبن مأتاه ما تملَّك أمه وهي حامل به من الخوف حينما كان الأسطول الإسباني يهدد بلادهم.٣٥
  • (ب)

    يجيء بعد ذلك دور المنزل في تكوين الإنسان، وفيه يفهم الطفل العلاقات الاجتماعية الأولى، فيعرف معنى الطاعة للكبير، والعطف على الصغير، واحترام رأي الغير، ومعاونة الضعيف، كما يأخذ الطفل فيه عن الأسرة تقاليدها وعاداتها.

    لسنا غالين فيما نذكره عن أثر المنزل في الطفل، وما ينشأ عليه من عادات وخِلالٍ يكون لها الأثر في مستقبله، فالأم هي المنبع الأول الذي يشرب منه الوليد نَهَلًا وعَلَلًا، وهي كما قال «بستالوتزي»:٣٦ «مصدر كل تربية صحيحة يتشكل بها الطفل، فهي أول معلم له يحبه ويطيعه»،٣٧ وكما يقول «فروبل»٣٨ تلميذه: «إن أزمة الممالك معقودة بنواصي الأمهات، ومستقبل البلاد رهن بأيدي النساء»،٣٩ وكما يقول شاعر النيل:
    الأم مدرسة إذا أعددتها
    أعددت شعبًا طيب الأعراق
  • (جـ)
    وبعد هذا تكون المدرسة، وهي الحلقة التي تربط المنزل بالعالم، فهي مجتمع صغير يصح أن يكون أنموذجًا لما بعده من المجتمع العام. تقوم المدرسة بدور هام لا يقوم به المنزل في تربية الناشئ أدبيًّا، ذلك أن العلاقة بين الطفل ووالديه في المنزل تقوم على المحبة والرحمة، وهذا ما يجر كثيرًا إلى الإغضاء عما يقترفه الطفل من مخالفات خلقية، أما في المدرسة فالمعاملات فيها تكون حسب ما رسمه الله في قوله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، فيها تبصير الطفل بما يأتيه ومحاسبته على كل ما يصدر منه، وبذلك يفهم معنى المسئولية، ويخلص من كثير من الصفات السيئة التي قد تكون علقت به في حياته المنزلية التي للتسامح في مجال كبير.

    كذلك المدرسة محل اجتماع كثير من الأولاد، والاجتماع مُظهر السجايا، ومحك الأخلاق، وبذلك يقف المربي على أخلاق كل طفل، فيعمل على تهذيب الشاذ وإنماء الصالح منها. يضاف إلى هذا ما في الاجتماع من تنشئة الطفل على كثير من العادات والأخلاق الفاضلة، فالأناة والحلم، ومحبة الغير واحترام حقوقه، والتعاون وإنكار الذات وحسن العشرة … كل هذه الفضائل وما إليها لا سبيل إلى غرسها إلا بالمعاشرة والاندماج في المجتمعات الرشيدة، ومنها معاهد التعليم.

  • (د)
    وللرفاق الذين يصطفيهم المرء لعشرته أثر بالغ فيما يشب عليه من ميول وعادات، وما يتخلق به من شيم وخِلَال، ومن هنا قال عبد الله بن مسعود — رضي الله عنه: «ما من شيء أدل على شيء، ولا الدخان على النار، من الصاحب على الصاحب»،٤٠ كما قال بعض الحكماء: «اعرف أخاك بأخيه قبلك».٤١
    المرء في حاجة ماسة للصديق في حاليه من اليسر أو العسر، فيجب أن يُعْنَى باختيار الصديق الفاضل والرفيق الصالح، فإن من طرق المُرُون على الفضيلة أن يعيش المرء مع أناس أخيار،٤٢ كما يقول أرسطو المعلم الأول، ويعترف به من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. أما الرفاق الذين لم يُرزقوا حظًّا من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة فهم «مع عدم ثباتهم في مَحَبَّاتهم لا يتبادلون إلا سيئ الإحساسات»،٤٣ ولذلك «يفسد بعضهم بعضًا بمقدار ما يقلد بعضهم بعضًا»، وهذا رأي أرسطو أيضًا في صداقة الأشرار، وهو رأي حق تؤيده المشاهدات، فإننا لن نجني العنب من الشوك، ولا الشهد من الصَّاب.
    هذا، ويكفي لبيان أثر الرفاق الذين يصاحبهم المرء ويتخذهم خِلَّانًا ما قصه الله علينا في كتابه الكريم؛ إذ يقول: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا. ونتبع هذا ببيان أثر صديق الخير وصديق السوء في صديقه كما ذكره الرسول الحكيم ، إذ يقول: «مَثَل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحدَّاد؛ لا يعدمك من صاحب المسك إما أن تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثًا.»
  • (هـ)

    وللصحف والمجلات، ودور الخَيَالَة والتمثيل، والتقاليد التي يحيا المرء في ظلها، والحكومة التي تسوس أموره، والقوانين التي يُحكم بها، والنظم التي يخضع لها، وما يقوم به من سياحات وأسفار، وسائر النواحي الأخرى للبيئة الاجتماعية؛ لكلٍّ من ذلك أثره وخطره في تكوين عادات الإنسان وأخلاقه، وذلك ما لا يحتاج لبيان.

على أننا نود أن نبين أن الناس بالنسبة للتقاليد والعادات والنظم العامة التي تواضعت عليها الأمة، وتعدها جزءًا من كيانها الاجتماعي، وتفديها لهذا بكل مرتخَص وغالٍ؛ الناس بالنسبة لتلك العادات والتقاليد ثلاث طوائف:
  • (١)
    طائفة ترى الفساد في بعض هذه التقاليد، فتخرج عليها وتثور ضدها، موطِّنة النفس على تحمل الأذى في هذا السبيل حتى تصل لما تريد من إصلاح. هؤلاء هم العباقرة الذين تفخر بهم الأمم، وأصدق مثال لهم الرسل والأنبياء، فقد كان من الصعاب التي اعترضت الرسول الأعظم تقاليد قومه الضالَّة، وترديدهم دائمًا قولهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
  • (٢)

    طائفة تنحط عن مستوى تلك التقاليد والنظم والعادات، فلا ترعى لها حرمة، ولا تعترف لها بوجود، فهم في نضال معها يصيبون منها وتصيب منهم، حتى يهوُوا إلى الحضيض. وهؤلاء هم في الحالات المتطرفة المجرمون.

  • (٣)

    هاتان الطائفتان هما الأقل عددًا، وبجانبهم الطائفة الأخرى، وهم الذين يخضعون للأمة وتقاليدها، فلا يعدلون منها إلا بمقدار. وهؤلاء هم العاديون الذين يتكوَّن منهم معظم الأمم والشعوب.

(ﺟ) الموازنة بين البيئة والوراثة

غلا بعض العلماء وزعموا أن الوراثة هي يد القدر، وأن ليس للبيئة أمامها من أثر يُذكر. كما غلا آخرون وقالوا: إن ما يُشاهَد من تكمُّل في الأخلاق ليس له أسباب وراثية مطلقًا، وإن كل ذلك أثر البيئة.

من الأولين «شوبنهور» الفيلسوف الألماني الذي يقول: «كل امرئ يسير بطبيعته الذاتية الثابتة التي لا تتحوَّر، وإن ما به من طباع وغرائز كامن في نفسه كمونًا راسخًا لا يتحوَّل»، وغيره الذي يرى أنه «بالوراثة يقدَّر على الإنسان نوع نفسه من يوم ولادته، وبها تُصاغ أخلاقه، وبها تُحدَّد بنيته، وبها يُعيَّن مقدار عقله، وأهم ما يساعد على رقي النوع الإنساني هو إصلاح الوراثة بإصلاح الانتخاب بين الزوجين، ومنع التوالد بين من لا يصلحون للإنتاج طبيعيًّا أو خلقيًّا.»

هكذا ذهب هؤلاء، وربما وجدوا في الأبحاث الخاصة بالإجرام والمجرمين ما يعضد ما ذهبوا إليه، فقد عُنِيَ الدكتور «هكسون»، مدير معهد الأبحاث النفسية بشيكاغو، بفحص أحوال وظروف نحو أربعين ألفًا من المجرمين، وكانت النتيجة أنه وصل إلى أن عوامل الوراثة أشد أثرًا من عوامل البيئة، فالإجرام في رأيه شيء محتم لمن وُلد من أبوين مجرمين، لا لمن يعيش في بيئة مجرمة، فكثيرًا ما ينجو هذا من ذلك الداء الوبيل. ومن الحالات التي بحثها حالة طفل تبناه أحد أغنياء شيكاغو وعلَّمه التعليم العالي وحاطه بكل صنوف الرعاية، ولكنه نشأ لصًّا كبيرًا رغم البيئة الفاضلة التي نشأ فيها، وظهر أن الوراثة هي صاحبة اليد في هذا المصير، فقد كان أبوه سكيرًا وأمه عاهرًا.

أما الآخرون أنصار البيئة فيرون أن ما يشاهد من تكمُّل في الأخلاق ليست له أسباب وراثية مطلقًا، وأن كل ذلك من أثر البيئة، وفي ذلك يقول أحدهم: «إن الطبيعة لا تكوِّن من عندها أخلاقًا وغرائز، بل ما قد يُكوَّن منها فهو طارئ عليها من الولادة»، إلى أن يقول: «وعليه يتعذر اعتبارها فطرية متوارثة.» وقد يشهد لهذا الفريق نجاح كثير من المربين في اجتناب الأخلاق القبيحة وغرس الأخلاق الفاضلة في حالات كثيرة نشاهدها في كل حين.

والرأي الحق أن نقول بإجمال: إن لهذين العاملين الأثر كله في تكوين عادات الإنسان وأخلاقه، فالوراثة تمده بالغرائز والميول والاستعدادات المختلفة، والبيئة تميل به لناحية الخير أو الشر بما تتيحه له من فرص ومناسبات، أما أن نوازن بينهما، فنعرف بالدقة أثر كل منهما في تكوين الإنسان أدبيًّا وعقليًّا، فهذا مستحيل أو على الأقل لم يصل إليه العلم للآن.

والآن، وقد فرغنا من الكلام على عوامل تكوين الخلق في الإنسان، وبيَّنَّا موقف المربي حيالها، ننتقل إلى ما يُعتبر نتيجة طبيعية لما سبقه، وهو طرق وأساليب تكوين الأخلاق.

(٤) أساليب تكوين الأخلاق

يقول ابن خلدون في مقدمته:
إن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من الحضر، وأصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه في الأحوال حتى صار خُلقًا ومَلَكة وعادة، تنزل منزلة الطبيعة والجبلة.٤٤
ويقول الفيلسوف الإسلامي المعروف أبو علي ابن سينا البخاري (٣٧٠–٤٢٨ﻫ):

ويمكن للإنسان متى لم يكن له خُلق حاصل أن يحصِّله لنفسه، ومتى صدفت نفسه عن خُلق حاصل جاز أن ينتقل بإرادته عن ذلك إلى ضد ذلك الخلق. والذي يحصِّل به الإنسان لنفسه الخلق ويكتسبه متى لم يكن له خلق، أو ينقل نفسه عن خلق صدفت نفسه عنه؛ هو العادة، وأعني بالعادة تكرير فعل الشيء الواحد مرارًا كثيرة زمانًا طويلًا في أوقات متقاربة، فإن الخلق الجميل إنما يحصل عن العادة، وكذلك الخلق القبيح.

ويقول مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق» كما قدمنا، عند كلامه على الحال النفسية التي تنقلب خُلقًا:

ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالروية والفكر، ثم يستمر عليه أولًا فأولًا حتى يصير ملَكة وخلقًا، ويقول علماء التربية: «العادة طبع ثانٍ.»

من ذلك كله نعلم ما للعادة من أثر في تكوين الأخلاق، الحسن منها والقبيح، فإن تعود العمل الطيب وأخذ النفس به يجعله في النهاية خلقًا حسنًا، كذلك تعود العمل القبيح، ومزاولته كثيرًا يصيِّره خلقًا سيئًا.

وليس الآن موضع الكلام عن العادات وتكونها وخطرها، فموضع ذلك عند الكلام على السلوك، وإنما الكلام هنا عن الأساليب التي يسلكها المربون في تكوين الأخلاق، ومبلغ صلاحية كل منها، بعد أن عرفنا قيمة العادة في هذا التكوين.

(٤-١) الوعظ والإرشاد

يرى بعض المربين أن تربية الأخلاق الفاضلة تكون بالوعظ والإرشاد، وتفهيم المربي حقيقة الفضيلة حتى يُغْرى بها، وحقيقة الرذيلة وسوء مغبتها حتى ينأى بنفسه عنها.

وهذه الوسيلة وإن صلحت وقومت من نفس من يأتي الرذيلة غير عالم، لا يمكن أن تكون الوسيلة الناجعة؛ لأن في كثرة الكلام عن الرذيلة أمام الأطفال تنبيهًا لهم إلى ما كانوا عنه غافلين في كثير من الأحوال، ودفعًا لهم لتجربة هذا الذي ينهون عنه دائًما، «وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا»، كما أن كثرة الحث على الفضيلة حرية بأن تجعل من كثير من الأطفال مرائين يتظاهرون بالتأثر بالنصح والعمل بمقتضاه، هذا إلى ما في تكرار الإرشاد من تضييع أثره لأن كل مكرر مملول.

(٤-٢) القدوة والتقليد

المربي هو المَثَل الأعلى للطفل، قصاراه أن يترسم عاداته ويتخلق بأخلاقه؛ ولذلك تنطبع أخلاق الطفل غالبًا على غرار أخلاق والده ومربيه، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر؛ لأن الأخلاق تسرق من الأخلاق كما يقولون.

من هذا يكون من طرق تكوين الأخلاق الطيبة العناية بأن يكون الوالد والمربي قدوة حسنة طيبة، في نفسه وعاداته وأخلاقه وسائر أعماله، للطفل الذي يقوم على تربيته، وخاصة أدواره الأولى؛ لأن المؤثرات المختلفة التي تساعد على تكوين أخلاق الطفل في فجر حياته تلازمه مدى الحياة، وذلك مصداق ما يقال: إنما يدل على الرجل الطفل، كما يدل على النهار الصبح.

وفي أثر القدوة الصالحة في تكوين الأخلاق الطيبة يقول أحد الكُتاب الأوروبيين: «من رمى إلى النبوغ في التصوير لجأ إلى أبدع الصور فأخذ عنها، كذلك من رام حياة سعيدة فليختر خير من يقتدي بهم، وليكدَّ حتى يكون قد ساواهم أو شآهم»،٤٥ كما يقول آخر من هؤلاء الكُتاب محدثًا عن أثر القدوة في تربيته أيضًا: «أرى كثرة ما يقال في التربية وكأني بالباحثين فيها وقد أغفلوا القدوة وهي كل شيء، ألا إن أجلَّ ما لقيت من التربية في الاقتداء بإخوتي، وقد كان الاعتماد على النفس والاستقلال الحق سائدَين في كل فرد من أفراد أهل بيتي، فما زلت أحذو حذوهم حتى اكتسبت هذه الخصال.»٤٦
وحقيقة، كما يقول صمويل سميلز في كتابه «الأخلاق»، إنه:
تقضي سنة الله في خلقه أن تكون العوامل في تكوين الخلق أشد تأثيرًا في دور النمو، حتى إذا طال عليها الأمد وتوالت السنون انقلب الاقتداء بالناس عادة ترسخ شيئًا فشيئًا حتى تصير طبيعة تتمكن من المرء وتستولي عليه بقوتها، فينزل على حكمها ويخضع لسلطانها غير شاعر.٤٧

لكن القدوة لا تكون من الوسائل الناجحة في تكوين فاضل الأخلاق إذا ظل الطفل يعمل في رجولته كما كان يعمل في طفولته — عن محاكاة محضة وتقليد صرف — مثل هذه الأعمال ليست لها قيمة من الوجهة الخلقية، بل إن المراد من إشادتنا بفضل القوة الصالحة وأثرها الكبير هو أن هذه الأعمال التي يأتيها المرء في أدوار حياته الأولى بباعث إيحاء القدوة والتأثر تصبح عادة له، فيأتيها متى كبر وهو مدرك لها مميزٌ خيرها وشرها.

وخلاصة القول: إنه بالقدوة والوعظ والإرشاد الحكيم، وقص سير كثير من أبطال التاريخ، كعمر بن الخطاب وما عُرف به من شجاعة نادرة أبت عليه أن يتسلل لواذًا مهاجرًا للمدينة، وعدل شامل لا يستثني فيه أحدًا، ومثل حاتم طيئ في بذله وكرمه الذي سار مع الريح، ونابليون بونابرت الذي لم يعرف العجز ولا المستحيل في حياته — بهذه الوسائل مجتمعة يستطيع المربي أن يغرس في الطفل ما يشاء من عادات طيبة، وأن يكوِّن أخلاقه تكوينًا فاضلًا كما يريد.

١  تهذيب الأخلاق، ص٢٥.
٢  الإحياء، ج٣ ص٣٩.
٣  تهذيب الأخلاق، نشر جرجس عوض، ص١٣.
٤  المرجع السابق، ص٢٥.
٥  هو الفيلسوف اليوناني المعروف (٣٣٦–٢٦٤ق.م)، الذي أسس مذهب الرواقيين.
٦  تهذيب الأخلاق، ص٢٥.
٧  البخاري، طبع بولاق، ج٢ ص٩٥.
٨  الإحياء، ج٣ ص٥٤.
٩  ص١٥٩.
١٠  هذا البحث مقتبس من «الوراثة والبيئة وأثرهما في التربية»، وهي الرسالة التي نلت بها شهادة التخصص في التاريخ والأخلاق والتربية وعلم النفس.
١١  «الوراثة وتحسين النسل»، للأستاذ الأبياري، ص٦.
١٢  هو العالم الطبيعي الإنجليزي المعروف (١٨٠٩–١٨٨٢)، ساح في بعث حول الأرض خمس سنين تقريبًا أنفقها في البحث الطبيعي، وظل يبحث مسألة التحول مدة أحد وعشرين عامًا، ثم نشر كتابه «أصل الأنواع» سنة ١٨٥٩.
١٣  هو أحد الباحثين الألمان (١٨٣٤–١٩١٤)، ومن العلماء الظاهرين في علمي التشريح والحياة، وله فيهما مؤلفات تعتبر مراجع قيمة.
١٤  فلسفة النشوء والارتقاء، ص٩١.
١٥  ويُرجع في هذا إلى «الوراثة وتحسين النسل» السابق ذكره، ص١١٢-١١٣.
١٦  المرجع السابق، ص٩٠.
١٧  ص١١٣، ١٤١
١٨  تاريخ التربية، للأستاذ مصطفى أمين، ج٢ ص٣٢٩.
١٩  الإحياء، ج٢ ص٥٣.
٢٠  تاريخ التربية، ج٢ ص٣٣٤.
٢١  هو القسيس جريجور مندل (١٨٢٢–١٨٨٤)، صاحب النظرية المعروفة باسمه التي أصبحت قانونًا، وقد اهتدى لها بعد تجارب أوصلها بعضهم إلى عشرة آلاف تجربة. وقد أخذت هذه النظرية حظًّا كبيرًا من عناية العلماء بها.
٢٢  أمكن للعالم الأمريكي المعاصر توماس مورجان Morgan أن يؤيد علميًّا بأبحاثه ما ذهب إليه «مندل» من الصفات التي تكمن ثم تظهر في بعض الأجيال بنظام خاص، وهذا العالم هو الذي وضع عام ١٩٢٥ نظرية الوراثة في وضعها الأخير الصحيح.
٢٣  كتاب «أصل الأنواع»، ترجمة الأستاذ مظهر، ص٩٢.
٢٤  المرجع نفسه، ص٩٤.
٢٥  «مقتطف» مارس ومايو سنة ٩٢١، ففي الأول مقال قيم عن مجلة «تقدم العلم» الإنجليزية، وفي الثاني مقال ممتع عن مجلة «نيتشر» الإنجليزية أيضًا.
٢٦  هو العلَّامة Ripot (١٨٣٩–١٩١٦م)، عُرف بأبحاثه القيِّمة في علم النفس، وخاصة ما يتعلق منها بالوراثة، حتى كان مرجعًا في هذا العلم، وشيخ النزعة التجريبية الحديثة.
٢٧  هو أحد فلاسفة الألمان (١٧٨٨–١٨٦٠)، ومؤسس فلسفة التشاؤم، كان يرى أن هذا العالم شر ما يمكن أن يكون، وأن آلامه تفوق لذائذه، وأن السعادة إنما تكون بالزهد وقمع الشهوات وبالحياة الفكرية.
٢٨  هو فردريك نيتشه، الفيلسوف الألماني المشهور (١٨٤٤–١٩٠٠)، كان من الأدباء الذين كتبوا كثيرًا في الأخلاق، ومن المؤمنين بمذهب النشوء والارتقاء، والمثل الأعلى عنده للإنسان، شخص له الحرية التامة في الكفاح ليبقى، ولا يعرف للشفقة معنى.
٢٩  فلسفة النشوء والارتقاء، ص٣٥٦.
٣٠  السابق نفسه.
٣١  المقدمة، ص٩٢، ٩٣، في بيان تأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم.
٣٢  السابق نفسه.
٣٣  السابق نفسه.
٣٤  السابق نفسه.
٣٥  الغرائز، للأستاذ الغمراوي بك، ص١٠٥.
٣٦  هو يوحنا هنري بستالوتزي (١٧٤٦–١٨٣٧م)، يعد من أعظم أئمة التربية المصلحين.
٣٧  أصول التربية وفن التدريس، للأستاذ أمين قنديل، ص٣٧.
٣٨  هو فردريك فروبل (١٧٨٢–١٨٥٢م)، أحد أئمة التربية الألمان، ومؤسس رياض الأطفال المعروفة.
٣٩  تاريخ التربية، للأستاذ مصطفى أمين، ص٣٥٤.
٤٠  أدب الدنيا والدين، للبصري، ص١٠٤.
٤١  السابق نفسه.
٤٢  علم الأخلاق، لأرسطو، ترجمة لطفي السيد باشا، ج٢ ص٣١٢.
٤٣  نفسه ص٣٢٤.
٤٤  ص١٤١.
٤٥  كتاب «الأخلاق»، لصمويل سميلز الإنجليزي (١٨١٢–١٩٠٤)، ترجمة الأستاذ محمد الصادق حسين، ص٧٩.
٤٦  المرجع نفسه، ص٨١.
٤٧  المرجع السابق، ٨١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤