الفصل الثالث
(١) أين توجد بطولة نهضة المشاعيين؟
من المعلوم أن ماركس حذر عمال باريس في خريف عام ١٨٧٠ أي قبل الحركة المشاعية ببضعة أشهر، مظهرًا لهم أن كل حركة ترمي إلى إسقاط الحكومة تكون حماقة أملاها اليأس، ولكنه حينما رأى المعركة الفاصلة التي نشبت ضد العمال في مارس سنة ١٨٧١ والتي أجاب عليها هؤلاء بحمل السلاح، وحينما رأى الهياج قد أصبح أمرًا واقعًا لم يسعه الإمساك عن تحية ثورة الهيئة العامة، ومقابلتها بالإعجاب والتهليل، وعلى الرغم من تنبؤاته التي لشؤم الطالع قد تحققت لم يشأ ماركس أن يجبه العمال الباريسيين، ويُنحي عليهم باللائمة لإقدامهم على أمر لم يكونوا على تمام الاستعداد له، ولم تكن الفرص مساعدة عليه كما فعل ذلك جاحد المذهب الماركسي ذلك الروسي بليخانوف ذو الذكرى المحزنة التي شجعت كتاباته المهيجة العمال والفلاحين على المكافحة في نوفمبر ١٩٠٥، ثم عاد بعد ديسمبر من تلك السنة نفسها يصيح، وهو مرتدٍ ثوب الأحرار: «ما كان ينبغي حمل السلاح.»
ولم يقتصر ماركس على الإعجاب والافتخار ببطولة المشاعيين، بل أراد ما هو فوق ذلك كتعبيره الآتي في قوله: «واثبون لمهاجمة السماء.» ومع أن الحركة الثورية التي نهضت بها الجماهير لم تؤدِ إلى الغرض المقصود منها، فإن ماركس استفاد منها خبرة تاريخية ذات شأن عظيم باعتبارها خطوة إلى الأمام قبل شبوب ثورة العمال العامة في كافة أنحاء المسكونة، وشروعًا في العمل أهم بكثير من مئات البرامج والاستنتاجات والاستدلالات التاريخية، وقد اهتم ماركس بهذه الثورة أعظم الاهتمام، فحللها واستخرج العبرة منها، وتلقى وألقى منها دروسًا خططية، وبنى على هذه الأمور نظريته الكبرى المشهورة.
إن التصحيح الوحيد الذي ارتأى ماركس ضرورة إدخاله على المنشور المشاعي، إنما أقدم عليه بعد الخبرة التي اكتسبها من الثورة المشاعية الباريسية، ويرجع تاريخ آخر مقدمة للمنشور المشاعي وضعها ووقع عليها محررًا ذلك المنشور إلى ٢٤ يونيه عام ١٨٧٢.
فقد قال كارل ماركس وفر إنجيل في هذه المقدمة: «إن برنامج المنشور المشاعي أصبح اليوم عتيقًا بالنسبة للمكان الذي كُتب فيه.»
ثم قالا: «إن المشاعية بصفة خاصة، قد أقامت الدليل على أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تستولي فقط على آلة حكومية مكملة الصنع، ثم تديرها كما هي في سبيل مقاصدها.»
وقد استعار واضعا المقدمة الجملة الأخيرة المحصورة بين الأقواس الصغيرة من كتاب ماركس الذي عنوانه: «الحرب الأهلية في فرنسا».
وعلى هذا الاعتبار يكون ماركس وإنجيل قد حسبا لتلك الثورة من الشأن فوق كل حسبان حتى إنهما اعتمدا على حوادثها في إدخال تعديل في أساس المنشور المشاعي، الذي كان ولا يزال عمدة الاشتراكية في جميع أرجاء العالم.
ومن الأمور المتناهية في الأهمية أن هذا التعديل الجوهري المهم، هو الذي شطَّ به الانتهازيون عن مغزاه الحقيقي حتى أصبح من المؤكد أن تسعة من عشرة، لا بل تسعة وتسعين من مائة قارئ صاروا لا يفقهون المقصد الحقيقي من ذلك المنشور، ولا يحدث في نفوسهم التأثير الذي أراده كاتباه من وضعه.
وسنخوض في صدد هذا التشويه في أحد الفصول الآتية الذي سنفرد الكلام فيه بالتشويهات خاصة، ونحن نكتفي الآن بأن نلاحظ قبل الانتقال من هذا الموضع أن ماركس في تكلمه على استيلاء هيئة العمال على الآلة الحكومية، وهي مستكملة العدة حسنة النظام لم يقتصر على استهجان استخدامها في مصلحة العمال، بل حتم تحطيمها وإخفاء آثارها.
لو أنك تلقي نظرة على الفصل الأخير من كتاب «١٨ بريمير» لترينَّ فيه كيف توقعت قرب حدوث الثورة الفرنسوية، ولكن لا لأجل تبادل الأيدي الآلة الديوانية العسكرية، كما تكرر حدوث ذلك حتى الآن، بل لأجل تحطيمها — والكلمة التي استعملها ماركس باللغة الألمانية للتعبير عن التحطيم بالقاعدة التي تقابل الخط الرقعة عندنا هي زير بريخين — وهذا هو الشرط الأساسي لنجاح كل ثورة يمكن أن يقوم بها الجمهور في هذه القارة، وهذا بالتحقيق ما كان يرمي إليه زملاؤنا الأبطال بما حاولوه من إسقاط الحكومة في باريس.
وإن هذه الألفاظ الصادرة من ماركس، وهي: «تحطيم آلة الحكومة الديوانية العسكرية» لتحتوي ملخص الدرس العظيم الذي يلقيه المذهب الماركسي فيما يختص بمهمة الهيئة العاملة أثناء الثورة تجاه الحكومة، ولا شك في أن هذا الدرس النفيس هو الذي يراد نسيانه برمته على الدوام، والذي يجرده كاوتسكي من صفته الأصلية بلا خجل في التأويلات التي تناول بها المذهب الماركسي.
وأما الإحالة التي يوجه بها ماركس إلى كتابه «١٨ بريمير» فقد ذكرنا في غير هذا المكان الجملة المقصودة من هذه الإحالة برمتها.
وفي الجملة المنقولة عن ماركس توجد نقطتان ينبغي الإلماع إليهما؛ فأولاهما: أنه لم يذهب بالنتيجة التي يريد العمل بها إلى أبعد من القارة الأوروبية، وهذا ما كان يفهم من مجرى الأمور في سنة ١٨٧١؛ إذ كانت إنجلترا حينئذ لا تزال مثال البلاد المستغرقة برأس المالية المجردة من الصبغة العسكرية الإجبارية، وتكاد تصير إلى حد ما غير رازحة تحت عبء النظام الديواني، وهذا هو السبب في أن ماركس استثنى إنجلترا التي كانت الثورة بل الثورة العامة فيها على ما يظهر ممكنة الحدوث، بل لقد حدثت حينئذ من غير تحطيم «الآلة الحكومية المحكمة الصنع كما كان ينتظر».
وفي سنة ١٩١٤ في إبان عظمى الحروب الاستعمارية، تلاشت ميزة ذلك الاستثناء الذي أراده ماركس في ذلك الخطاب، فقد ساخت إنجلترا وأمريكا إلى عقيصتيهما في ذلك المستنقع العفن الدموي الحافل بالأدران الديوانية والعسكرية الأوروبية، وبعد أن كانتا الدولتين الكُبريين الممثلتين الحرية الإنجليزية الساكسونية المجردة من الشوائب الديوانية والعسكرية، أصبحتا متناهيتين في الضغط والإرهاق والاضطهاد والإخماد، وعلى ذلك أصبح الآن الغرض من كل ثورة عامة تنشب في إنجلترا أو في أمريكا تحطيم الآلة الحكومية المحكم صنعها، والذي تم إتقانها وتحسينها من عام ١٩١٤ إلى سنة ١٩١٧ جريًا على مبادئ الاستعمار الأوروبي.
والنقطة الثانية التي يجب ملاحظتها في جملة ماركس الأخيرة، وتستدعي اهتمامًا خاصًّا بها هي ذلك الاحتياط الدقيق الذي احتاط به ماركس في قوله إن تحطيم الآلة الحكومية الديوانية العسكرية «هو الشرط الأساسي لكل ثورة عامية حقيقية»، فإن هذا الاحتياط أو هذا التعبير الذي خصص به الثورة بأن جعلها عامية لا عامة يتراءى مدهشًا من قبل ماركس، والروسيون البليخانوفيون والمنشفيون تلاميذ ستروف الذين يريدون أن يندمجوا في أعداد أنصار المذهب الماركسي يمكنهم أن يقابلوا هذا التعبير بالاحتقار؛ لأنهم يعتبرونه مذهبًا ضيق النطاق في الحرية، وأنه عدا المقارنة ما بين ثورة الأعيان وثورة العمال لا يتضمن في نظرهم شيئًا آخر، وفضلًا عن ذلك فإنهم يعتبرون هذه المقارنة كشيءٍ قد انتهى أجله.
على أننا لو ضربنا مثلًا بثورات القرن العشرين، لوجب علينا الاعتراف بأن الثورتين البرتغالية والتركية كانتا من جملة ثورات الأعيان، وعلى هذا فلم تكن أية ثورة منهما عامية؛ لأن جمهور الشعب في كلتا الثورتين لم يحدث بمطالبه الاقتصادية السياسية أي تأثير محسوس فيها، أما ثورة الأعيان الروسية التي هبت فيما بين ١٩٠٥ و١٩٠٧ فكانت على نقيض تينك الثورتين؛ فإنها على الرغم من عدم إحرازها النجاح الباهر الذي أحرزته الثورتان البرتغالية والتركية، فقد كانت بلا ريب عامية تمامًا؛ إذ اشترك فيها جمهور الشعب أو بمعنى أوضح أغلبيته؛ أي الأوساط المنحطة من الهيئة الاجتماعية الرازحة تحت نير الاستغلال، ووسمت صحيفة الثورة بميسم وجودها الخاص المعروف بنزعته إلى الاستعاضة عن المجتمع القديم المراد استئصال نظامه بمجتمع جديد يطابق هوى هذه الأوساط.
إن هيئة العمال لم تكن تكوِّن في أي بلد من البلاد الأوروبية في عام ١٨٧١ غالبية الشعب، فالثورة العامة القادرة على استدراج السواد الأعظم من الشعب إلى حركتها لم يكن في وسعها الوصول إلى هذه الغاية إلا إذا اندمجت فيها هيئة العمال وطبقة الفلاحين، فإن هذين الوسطين كانا يؤلفان ذاك الشعب، وهما متضامتان بحكم تساويهما فيما تفعله آلة الحكومة الديوانية العسكرية معهما من الإرهاق ومن استثمار مجهوداتهما.
فكسر هذه الآلة وتحطيمها هو مقصد الشعب العملي أو مقصد أغلبيته؛ وهي العمال والفلاحون، وهو الشرط الجوهري لهذا التحالف الحر المتوثق ما بين الفلاحين الفقراء وهيئة العمال، وبدون هذا التحالف لا تتقوى الديمقراطية ولا يحدث أي تطور اجتماعي.
فإلى صوب هذا التحالف كانت مشاعية باريس متجهة كما هو معلوم، ولكنها إنما أخفقت لسلسلة اعتبارات داخلية وخارجية.
وبالجملة فإن الكلام عن الثورة الفعلية الحقيقية بدون تناسي شخصيات الطبقة المتوسطة التي كثر الكلام عنها بإسهاب في مواضع كثيرة، إنما أراد به ماركس التكلم بوجه أدق وأحكم عن قوى أعم الطبقات في الشعوب التي كانت تتألف منها القارة الأوروبية في سنة ١٨٧١، ومن جهة أخرى فإنه أكد أن العمال والفلاحين باشتراكهم وتضامنهم في القيام بالثورة العامية الكبرى إنما يريدون أن يحطموا الآلة الحكومية بجهازها الديواني العسكري ليحلوا مكانها شيئًا جديدًا.
فما هو هذا الشيء الجديد؟
(٢) بماذا يُستعاض عن الآلة الحكومية إذا تحطمت؟
إن ماركس لم يُجِب على هذا السؤال في المنشور المشاعي الذي أصدره في عام ١٨٤٧ إجابة شافية، وبمعنى أتم أنه لم يفعل شيئًا في هذا الصدد سوى عرض هذه المسألة بدون تعيين الوسائل التي يمكن حلها بموجبها، فكان جوابه على السؤال المتقدم مقصورًا على قوله بالاستعاضة عن الآلة الحكومية «تنظيم الهيئة العاملة في شكل طبقة متولية» و«بالفتوح الديمقراطي»، وهذان جوابان حائران مبهمان.
على أن ماركس لم يفته أن الإجابة على ذلك السؤال بهذين التعبيرين غير مجدٍ ولا عملي، ولكنه لم يشأ أن يتعرض للإجابة العلمية بغير الاعتماد على التجربة العملية، ليتفادى الخطأ الذي قد يقع فيه إذا اعتمد على رأيه بدون الارتكان في وضع الحل المطلوب على الاختبار الذي لا بد للحصول عليه من انتظار تصاريف الأيام، ليستخلص منها ما يصح أن يكون قاعدة محكمة للحل المنشود، ولهذا ذكر ذلك الرأي مطلقًا في المنشور المشاعي، لا ليتخذ قاعدة عملية نهائية بل ليكون فكرة مبدئية لدى هيئة العمال يستأنسون بها في الثورة العامية المنتظرة، وترك لهم بعد ذلك حرية تطبيق العمل تفصيليًّا بحسب مقتضيات الأحوال.
ثم إن ماركس اهتم بهذه المسألة اهتمامًا عظيمًا في كتابه الحرب الأهلية — ترجم إلى الفرنسوية بعنوان المشاعية في باريس — وحللها تحليلًا دقيقًا مستندًا على التجربة المستخلصة من الحركة المشاعية، ولو أنها كانت تجربة ضعيفة الجوانب بالنظر لإخفاق تلك الحركة قبل أن تخطو خطوات يمكن الاعتداد بها والاعتماد عليها في تقرير ما يُراد من الحل، على أننا لا يسعنا إلا أن نورد هنا أهم النقط الواردة في ذلك المؤلف.
لقد انتقلت من الأعصر الوسطى إلى القرن التاسع عشر، وأخذت تعظم فيه «سلطة الحكومة المركزية بأعضائها التي لا غنى لها عنها وهي: الجيش الدائم، والبوليس، والهيئة الديوانية، والكنيسة، والقضاء»، وبفضل اتساع دائرة التنازع والتخاصم ما بين الطبقات؛ أي ما بين رأس المال والعمل، أخذت «سلطة الحكومة تزداد تشكلًا على التوالي في هيئة السلطة العامة المختصة باستخدام العمل وصبغه بصبغة آلة تعمل لتحقيق سيادة طبقة مخصوصة على سائر الطبقات الأخرى، وبعد كل خطوة تتقدمها الثورة إلى الأمام في كل مرة يشب لهيبها، كانت السلطة الحكومية تزداد تقويًا وضغطًا وتحكمًا».
وبعد ثورة ١٨٤٨-١٨٤٩ صارت «سلطة الحكومة الآلة الوطنية التي يستخدمها رأس المال ضد العمل»، وما كان للإمبراطورية الثانية من عمل سوى تقوية وتمكين هذه الآلة.
إن المشاعية هي نقيض الإمبراطورية، وقد تشكلت الإمبراطورية في بادئ الأمر بشكل جمهورية لا لتتوصل فقط إلى استئصال ملكية الطبقة المالكة، بل لتسود على هذه الطبقة المالكة نفسها.
ومن أي شيء يتكون هذا الشكل المعين لجمهورية العمال الاشتراكية؟ وأي نوع من أنواع الحكومات بدأت في إيجاده؟
«إن المشاعية بدأت أعمالها بإصدار أمر بإبطال الجيش الدائم، مستعيضة عنه بالشعب المسلح.»
وهذه الضرورة القصوى أو المقصد الجوهري قد أصبح اليوم جزءًا غير متجزئ من برنامج سائر الأحزاب المسماة باسم الاشتراكية.
ولكن الحقيقة أسفرت عن عدم تحقيق هذا المطلب الأساسي عندما أفلحت الثورة الروسية الأخيرة، فإن أحزابنا الاشتراكية الثورية والمنشفية أبت بعد حركة مارس ١٩١٧ تنفيذ هذا المبدأ القويم.
ولقد تألفت الهيئة المشاعية من مستشارين بلديين منتخبين بواسطة التصويت العام في سائر أقسام باريس، وكانوا مسئولين عن آرائهم وأعمالهم وقابلين للعزل في سائر الأوقات، وكانت الأغلبية بحكم الطبيعة مؤلفة من عمال ومن ممثلين معترف بهم من طبقة العمال.
«وكذلك رجال البوليس الذين كانوا إلى ذلك الحين آلة السلطة الحكومية، صار تجريدهم على الأثر من كل أعمالهم السياسية، وتحويلهم إلى عضو مسئول أمام المشاعية، وأصبح كل فرد منهم عرضة للعزل في سائر الأوقات.
وعلى هذا النمط أصبح مركز الموظفين الآخرين في جميع فروع الإدارة مرتبطًا بسلوكهم، وأصبح سائر الموظفين من أكبرهم إلى أصغرهم لا يتقاضون في الخدمة العامة أجورًا أكثر من أجور العمال الاعتياديين، واختفت كل امتيازات الموظفين، وكل العلاوات أو النفقات الخصوصية أو المكافآت التي كانت تُعطى لكبار الموظفين أو للنواب، ولم يبقَ لها ولا لمن كانوا يتقاضونها من أثر، وإذ لم تبقَ حاجة إلى حفظ النظام في الداخل ولا إلى المحافظة على المستعمرات في الخارج فلم يعد هنالك موجب لبقاء البوليس والجيش الدائم، وعلى أثر اختفاء هاتين الآلتين اللتين كانت تعتمد عليهما السلطة المادية في الحكومة المنقرضة عمدت المشاعية حالًا إلى القيام بواجب تحطيم آلة الاستعباد الأدبي وهي قوة الكهنوت.
وفقد القضاة استقلالهم الظاهري؛ إذ صار من الواجب انتخابهم بطريقة التصويت العام وأصبحوا مسئولين وعرضة للعزل من مراكزهم.»
وهكذا اكتفت المشاعية بالاستعاضة عن الآلة الحكومية المحطمة بديمقراطية على أتم ما يكون، فمن إلغاء الجيش الدائم إلى انتخاب كافة الموظفين وجعلهم تحت طائلة العزل، وفي الواقع أن هذا الأمر يؤدي إلى عمل هائل يرمي إلى استبدال بعض القواعد المتبعة بقواعد أخرى ذات نظام أساسي مبتكر مخالف للنظام السابق، وهذا هو الذي يعبَّر عنه بالتحقيق «بتحول المقدار إلى الصفة»، فالديمقراطية قد تحققت في أجلى مظهر وأحكم نظام كان من المستطاع الحلم به، وغدت بهذه الطريقة الطبقة العاملة السرية، والحكومة التي كانت القوة المختصة بالضغط والإرهاق الموجهين إلى إحدى الطبقات تحولت إلى شيء آخر ليس هو الحكومة بعينها.
وعلى ذلك فإن سحق الفئة السرية ومقاومتها العنيفة لم تبقَ لهما أدنى حاجة، في حين أن سحقهما كان من أعظم الأمور الجوهرية اللازمة للمشاعية؛ ولذا فقد كان أحد أسباب فشل المشاعية وهزيمتها عدم البت في هذا الصدد بطريقة حاسمة، فالتطور الذي حدث ظل مقصورًا في جوهره على انتقال الضغط من جانب إلى آخر، فبعد أن كان واقعًا من القسم الأصغر على القسم الأكبر من الشعب أضحى السواد الأعظم منه ذا السلطة المضطهدة على الجانب الأقل، وكذلك كان الأمر دائمًا في عهد الاسترقاق ثم في عهد الاستخدام وأخيرًا في عهد الاستئجار، ومن الواضح أنه عندما يكون السواد الأعظم من الشعب هو الذي يضغط على مضطهديه السابقين من الشعب نفسه فلا حاجة له البتة إلى إيجاد قوة خاصة للضغط، وبمقتضى هذا النسق بدأت الحكومة تتلاشى من تلقاء نفسها، فبدلًا من الأنظمة الخصوصية التي كانت توجدها أقلية ممتازة «وهي الموظفون الممتازون ورؤساء الجيش الدائم» أصبحت الأغلبية نفسها قادرة على أن تؤدي أعمال هذه الوظائف، وكلما ازداد الشعب تأدية لوظائف السلطة الحكومية بمحض إرادته كلما قل الشعور بالحاجة إلى هذه السلطة.
وقد اتخذت المشاعية إحدى الطرق العملية المؤدية إلى تحقيق ذلك الغرض النظري، واهتم بهذه الطريقة العملية ماركس، وهي في الحقيقة جديرة بالعناية والاهتمام، وهذه الطريقة هي: إبطال كل نفقات النيابة «أي نواب الجهات»، وإبطال الامتيازات النقدية التي يتمتع بها الموظفون، وخفض كل المرتبات الإدارية إلى مستوى «مرتب العامل البسيط»، فهنا حدث الشعور القوي بتحول الديمقراطية السرية إلى ديمقراطية عاملية، وانتقال ديمقراطية المضطهدين إلى ديمقراطية الواقع عليهم الاضطهاد، وتخطي الحكم من قوة خاصة بالضغط من جانب إحدى الطبقات إلى سحق الضاغطين بواسطة القوى المنظمة بمعرفة أغلبية الشعب المؤلفة من العمال والفلاحين، ومما لا شك فيه أن الدروس التي يلقيها ماركس بخصوص هذه المسألة العملية التي استمد حلها من عبر التاريخ وتجاربه على هيئة العمال العامة، وهي الدروس القيمة المختصة بأهم مسألة اجتماعية تدعو إلى راحة وسلام المجتمع العام هي التي أهملت أو صار تناسيها بنوع خاص بالنظر لفصلها بطريقة محسوسة معقولة، لا يمكن النزاع فيها في موضوع الحكومة التي كثرت واختلفت في أشكالها الأقوال، واحتدم حول وجودها وفنائها الجدال!
وفي الشروح والتأويلات المنتشرة بين سائر هيئات العمال، والتي لا يُحصى عددها لا توجد كلمة واحدة تحوم حول هذه النقطة الجوهرية الهامة! ولقد أصبح من المعتاد السكون على هذه المسألة كأنها فكرة ساذجة يجب إغفالها، وكان المثل المتبع في هذا الصدد مثل المسيحيين الذين أصبحت عقيدتهم دين الحكومة الرسمي، فإنهم غَدوا شديدي التمسك بذلك الدين غير أنهم تجاوزوا عن بعض أصوله التي اعتبروها في منتهى السذاجة، وما هي كذلك، بل هي من تعاليمه الأولية، فتركوا بإهمالها والاستخفاف بها أهم ما في ذلك الدين وهو روح الديمقراطية الثورية.
ويظهر أن خفض مرتبات كبار الموظفين هو الأمنية الوحيدة البسيطة للديمقراطية الساذجة الابتدائية، ولقد اعتاد أحد مؤسسي مذهب انتهاز الفرص، وهو الاشتراكي الديمقراطي القديم أذبرنستاين على أن يكرر المرة بعد المرة تلك السخائف المضحكة التي تلوكها ألسنة السراة ضد الديمقراطية الأولية، وهو في هذا الصدد مثل سائر الانتهازيين والكاوتسكيين المنتشرين بكثرة في أيامنا هذه؛ لم يشأ أن يفهم مطلقًا أن الانتقال من رأس المالية إلى الاشتراكية البحتة مستحيل الحدوث إلا بعد عودة قصيرة إلى المبدأ الاشتراكي الأولي، وإلا فكيف يتيسر إدارة وظائف الحكومة بالسواد الأعظم من الشعب أولًا ثم بعامة الشعب فيما بعد؟
وفضلًا عن ذلك فإنه لم يرَ أن الديمقراطية الأولية القائمة على قاعدة رأس المالية، والمدنية رأس المالية هي شيء آخر خلاف الديمقراطية الأولية المستمدة أصولها من العصور القديمة المتقدمة على عهد ابتداع رأس المالية، إن المدنية رأس المالية قد أوجدت الإنتاج العظيم، فمن مصانع إلى سكك حديدية إلى بريد فتليفون إلى أمثال هذه الأشياء من وسائل الحضارة رأس المالية، وقد غاب عن الأفكار أن هذه الوسائل التي يسرت أسباب الراحة في الحياة إذا اتخذت قاعدة للنظر في شئون الوظائف التي لا تزال سائرة على نظام الحكومة العتيقة لوجدانها جعلت مباشرة أعمال الحكومة سهلة جدًّا لا تتخطى الأعمال الكتابية والحسابية والمراقبة، وهذه كلها أعمال من الميسور على كل فرد من الأهالي ملم بالقراءة والكتابة أن يؤديها مقابل أجر بسيط يعادل أجر أي عامل عادي، وعلى ذلك يمكن بل يجب اختفاء آثار المميزات والدرجات والرتب والألقاب.
إن طريقة التعيين في الوظائف بواسطة الانتخاب العام، وتعرض الموظفين لخطر العزل في كل آونة — بمعنى أنهم كلما انتهت مدة انتخابهم للوظائف يصير انتخاب غيرهم حتى لا تكون الوظائف محتكرة — بغير استثناء، وخفض المرتبات إلى درجة أجر العامل العادي ليست سوى وسيلة ديمقراطية سهلة تسير من تلقاء نفسها متضامنة مع مصالح العمال ومصالح الغالبية وهي طبقة الفلاحين، كما أنها تؤدي في الوقت نفسه بواسطة اتصال ما بين رأس المال والاشتراكية، وهذه الطريقة التي تتراءى بمظهرها الجميل إنما هي مختصة بالإصلاح الحكومي، وهي طريقة سياسية بحتة مؤدية حدوث تطور ظاهري في المجتمع، ولكنه لا يمكن أن يكون مفيدًا ونافذًا المفعول إلا إذا كان مصحوبًا بانتزاع الملكية من منتزعي الأملاك بواسطة التمهيد أو التنفيذ؛ أي بانتقال الملكية الخاصة برأس المالية بواسطة الإنتاج الداخل الآيل إلى حوزة الجمهور.
إن المشاعية حققت الأمنية التي كانت تحوم حولها، وتعمل لأجلها سائر ثورات الأعيان، وهي الحكومة ذات الأجر البخس بإبطالها أعظم مصدرين للإنفاق وهما: الجيش الدائم واستخدام الموظفين.
ويوجد ما بين الفلاحين وما بين الأوساط الأخرى من الطبقة الوسطى أقلية صغرى فقط ليست لها جامعة مخصوصة، ولا هي تمثل أية فئة من الفئات توصلت إلى معنى الإثراء والوجاهة؛ أي إنها صارت رغدة العيش، مرتاحة البال، حائزة لكثير من متارف التنعم على نسق الأعيان، إما بواسطة أعمالها الحرة، وإما بواسطة الوظائف التي استأثرت بها، واطمأنت على البقاء فيها وأحرزت كل امتيازاتها، أما السواد الأعظم من طبقة الفلاحين في أية بلد من البلاد الحافلة برأس الماليين، والتي توجد فيها طبقة من الفلاحين، وهي في أغلب هذه البلاد تكون أغلبية الأهالي، فإنهم مضطهدون من قبل الحكومة ويتمنون من صميم أفئدتهم أن يتمكنوا من قلبها، كما أنهم يتمنون أن يحصلوا على حكومة رخيصة.
وهذا المشروع لا يستطيع أن يخرجه من دائرة الرغبة إلى حيز العمل سوى هيئة العمال، وهي بتحقيقها هذه الأمنية تتقدم خطوة نحو تحويل الحكومة الحاضرة إلى الاشتراكية.
(٣) أبطال الطريقة البرلمانية
ولا ينبغي أن تغدو المشاعية هيئة برلمانية، بل يجب أن تصير هيئة عاملة نشطة تشريعية وتنفيذية في آنٍ واحد.
وعوضًا عن البت كل ثلاثة أعوام، أو ست سنوات فيمن يكون العضو الذي يمثل الطبقة السائدة ويضطهد عامة الشعب في البرلمان، ينبغي أن يستخدم حق الانتخاب العام في مصلحة الشعب المنظم على النسق المشاعي، فيتمتع بفوائد الاقتراع، والتصويت العام كل العمال ورؤساء العمال وكتاب الحسابات، وكذلك أن يعم حق إعطاء الصوت الفردي حتى كل رئيس آخر من ذوي الشأن في إدارة الأعمال، وتكون عمليات الانتخاب العام صادرة من الجميع والمقصود منها فائدة المجموع.
وهذا النقد البرلماني الوجيه كتب في سنة ١٨٧١ على أثر استئثار الاشتراكيين الوطنيين والانتهازيين بالسيادة والحكم، ولا سيما بالتغلب على البرلمان، وهو بالطبع يندمج في سلك الصفحات المطوية المهملة من المذهب الماركسي، وقد ترك الوزراء والمحترفون بمهنة البرلمانية، والآبقون من هيئة العمال، والاشتراكيون الذين لا يتأخرون عن الاستفادة الشخصية كل انتقاد برلماني إلى الفوضويين، ووسموا كل مَنْ يتصدى لمثل هذا الانتقاد بميسم الفوضى، فلا غرابة إذا ما اشمأزت هيئة العمال في البلاد البرلمانية المسماة بالبلاد الراقية من الاشتراكيين المرائين أمثال شيدمان ودافيد ولجيين وسيمبات ورينودل وهاندرسن وفاندرفيلد وستوننج وبرانتنج وبيسولاتي وشركائهم، وأخذت تميل وتعطف إلى النقابة الفوضوية على الرغم من أن هذه النقابة صارت شقيقة الانتهازية.
ولم يُنْزِل ماركس طريقة الانقلاب الثوري مطلقًا منزلة التلاعب بالألفاظ على النمط المستحدث؛ نمط التضليل والتغرير الذي اتبعه بليخانوف وكاوتسكي وسواهما، وقد قاطع ماركس الفوضوية بلا شفقة لعجزها عن الاستفادة من حالة الإسطبل البرلماني المنتمي إلى طبقة الأعيان، ولا سيما في الوقت الذي يسود فيه روح الثورة، إلا أنه لم يكتفِ بتلك المقاطعة، بل عمد في الوقت نفسه إلى انتقاد الطريقة البرلمانية بفكر ثوري أصيل مرتكز على مبادئ الهيئة العاملة ومتجه إلى مصلحة العمال الحقيقية.
وقد أخذ ماركس ينتقل من بعيد خطوة فأخرى نحو إصدار حكمه القاطع بأن الوظيفة الحقيقية للهيئة البرلمانية هي إخماد صوت الشعب، وأن أعظم أعضاء كل برلمان شأنًا هو الذي يتفوق على زملائه في هذا الميدان، وليست هذه الوظيفة مقصورة على البلاد البرلمانية الملكية، بل هي عامة حتى في أعرق الجمهوريات ديمقراطية.
على أن مسألة الحكومة إذا طُرحت في مجال البحث، وإذا ما اعتبر البرلمان كإحدى دوائر الحكومة، فكيف يمكن الخروج من هذه الدائرة والتخطي إلى سواها قبل أن نلقي عليها نظرة فيما يجب أن تقوم به الهيئة العاملة نحوها؟
من الواجب علينا أن نعيد وأن نكرر مرارًا قولنا: إن دروس ماركس المستمدة من التمعن في استقراء حوادث وأعمال المشاعية قد نُسيت تمام النسيان، حتى إن الاشتراكي الديمقراطي المعاصر «ليزيز المارق المعاصر من الاشتراكية» لا يسعه أن يرى في نقد البرلمان معنى آخر سوى أنه انتقاد فوضوي أو رجعي.
فطريقة التخلص من الهيئة البرلمانية ليست بالتأكيد محو الدوائر التمثيلية ووسائل الانتخاب، بل تحويل هذه الطواحين اللفظية التي هي الآن دوائر تمثيلية إلى دوائر عملية، فمن الواجب إذن أن تكون المشاعية دائرة، ولكنها ليست برلمانية بل عملية؛ أي إنها تكون في وقت واحد مشرعة ومنفذة.
- أحدهما: أن يوضع فوقها الآنية الدسمة المفعمة بالوظائف ذات المراتب الفخمة والمرتبات الضخمة، ويلتف حولها أعظم عدد ممكن احتشاده من الاشتراكيين الثوريين والمنشفيين.
- والغرض الثاني: إلهاء الشعب ومشاغلته، وفي هذه الأثناء تُقضى حاجة الحكومة في الاستشارات — يريد محال المستشارين وما المقصود من ذلك سوى ألمانيا — وأركان الحروب! — كتب لينين هذا المبحث قبل أن يحدث الانقلاب الثاني الذي أسقط به كيرنسكي الذي فر إلى باريس بثلاثة أشهر.
وقد ظهرت أخيرًا في جريدة «الدييلونارودا» لسان حال الحزب الاشتراكي الثوري مقالة افتتاحية تقرر بصراحة لا مثيل لها أن أناسًا من المجتمع المحمود قد سقطوا في بؤرة الفساد السياسية، بل إن الجهاز الإداري في الوزارات المنسوبة إلى الاشتراكيين — معذرة عن هذا التعبير — يشتغل كعهده في الزمن الماضي، وأنه لم يطرا عليه أي تغيير، وأنه يعمل على تجريد كل إصلاح ثوري من خصائصه الحرة، ولكن حتى لو فرضنا عدم وجود هذا الاعتراف الصريح، أليس تاريخ اشتراك الاشتراكيين الثوريين والمنشفيين في الحكومة خير دليل مقنع على صحة قولنا؟ والعجيب المدهش في هذا الأمر هو أن يصل التغرير بالعقول إلى حد أن يجرؤ كل من المسيو تشيرنوف وروسانوف وزانزينوف وآخرون سواهم من محرري جريدة الدييلونارودا مع اشتراكهم في وزارة أبناء الأعيان على التصريح علنًا بغير حياء، ومن غير أدنى حساب للعواقب، بأنه لا يوجد في وزارتهم أقل تغيير من نظام العهد المنقرض! ولكن الذي لا تخدعه الظواهر يدرك في الحال أن هؤلاء القوم يستخدمون الجمل والتعبيرات الثورية ليسحروا بها ألباب البسطاء من الشعب، بينما تكون أعمالهم الحقيقية مطابقة لأهواء أرباب رءوس الأموال، وهذه هي حقيقة ودخيلة التآزر الودي الوزاري.
إن هذه البرلمانية السامة المتعفنة التي تديرها أيدي الفئة المالية، تستعيض عنها المشاعية بأنظمة أخرى لا تنقلب فيها حرية المناقشة والبحث إلى غش وتضليل، وحاملو التفويضات أنفسهم يجب عليهم أن يشتغلوا وأن ينفذوا بأنفسهم القوانين التي سَنُّوها، وأن يتحققوا بأنفسهم نتائج أعمالهم، وأن يجيبوا بأنفسهم أمام منتخبيهم مباشرة على كل ما يسألونهم عنه.
فالهيئات والدوائر التمثيلية تلبث وطيدة الدعائم، إلا أنه لن توجد هيئة برلمانية باعتبارها نظامًا خاصًّا، ولا باعتبارها قسمًا خاصًّا بالعمل التشريعي والإداري، ولا باعتبارها مركزًا ممتازًا للنواب، نحن لا يمكننا أن نتصور إمكان وجود هيئة ديمقراطية بل ولا ديمقراطية من هيئة العمال بدون أنظمة تمثيلية، ولكننا نستطيع بل يجب علينا أن نعمل لإيجادها بدون هيئة برلمانية إذا كان على الأقل الانتقاد الموجه إلى مجتمع الأعيان وأرباب رءوس الأموال لا يمكن اعتباره لدينا مجرد قول يذهب أدراج الرياح، وإذا كان مجهودنا الذي نبذله لأجل قلب سيادة الأعيان وتحكمهم ينبغي أن يظل مجهودًا جديًّا صادقًا لا أن يكون مجرد جملة مكهربة لا يراد بها إلا اصطياد أصوات العمال كما يفعل المنشفيون والاشتراكيون الثوريون، وكما يفعل أشياع شييدمان وأنصار ليجيين، والملتفون حول سيمبات، والآخذون بآراء فاندرفيلد.
لقد ألقى علينا ماركس درسًا مفيدًا عند كلامه على نوع الإدارة اللازمة للمشاعية ولديمقراطية الهيئة العاملة بتخصيصه الذي ذكره في قوله «وكل مدير آخر للأعمال»، فقد أراد أن يشترك أرباب رءوس الأموال «العمال ورؤساء العمال وكتاب الحسابات» في إعطاء الأصوات وترشيح الممثلين.
ومن هذا يتضح أن ليس لدى ماركس مثقال ذرة من الغفلة والبله، فهو يختلق ولا يسبح في لجة الوهم لأجل خلق مجتمع جديد مؤلف من كل المستحيلات، كلا ولكنه يدرس حالة تولد المجتمع الجديد من المجتمع القديم، كفرع من التاريخ الطبيعي، والشكل الذي سيحدث بواسطة الانتقال من المجتمع السابق إلى المجتمع الناشئ، وقد جعل قاعدة درسه مرتكزة على التجربة المستخلصة من حركة هيئة العمال في مجموعها، وبذل جهده في أن يكون هذا الدرس النتيجة العملية لذلك الاستقراء الدقيق، وجعل نفسه تلميذ المشاعية كما فعل كل كبار المفكرين الثوريين الذين لم يحجموا عن الاندماج في مدرسة التجربة المستمدة من الحركات الكبيرة التي تقوم بها الطبقة المضطهدة بدلًا من أن ينشروا بينها مواعظهم المتغطرسة الفاسدة كما يفعل بليخانوف بمثل قوله: «لا يجب الالتجاء إلى استعمال الأسلحة.» أو كما يفعل تسيريتيللي بمثل قوله: «يجب على كل طبقة أن تقف عند حدها.»
إن المسألة لا تدول حول محور إلغاء التوظف دفعة واحدة وفي كل مكان وإلى النهاية القصوى؛ لأن مثل هذا المشروع يُعتبر تحليقًا في جو الخيال، وإنما تدور حول محور استئصال الآلة الإدارية العتيقة في الحال والابتداء على الأثر في صنع آلة جديدة يسمح تركيبها بإبطال التوظف بحذافيره تدريجيًّا، وليس هذا الحل تحليقًا في جو الخيال بل هو الاختيار المقتبس من حركات المشاعية وأعمالها، وهو أول ما يجب على هيئة العمال الثورية تنفيذه في الحال.
إن الاشتراكية تجعل وظائف الإدارة الحكومية سهلة وبسيطة، وتعمل على اطراح التفاوت في المراتب والمرتبات، وتنظيم الهيئة العاملة في شكل طبقة متولية الأحكام تتكلم وتعمل باسم كل مجتمع العمال وكل رؤساء العمال وكتاب الحسابات.
لسنا ممن يبتنون قصور أمانيهم على قواعد الأوهام؛ لأننا لم نحلم يومًا ما باجتيازنا طفرة كل إدارة وكل طاعة، فإن أمثال هذه الأماني من أحلام الفوضويين المنبعثة من المغالاة في اختصاص حكم العمال المطلق، وليس لهؤلاء أي اتصال بالمذهب الماركسي، وهم في الحقيقة يعملون على إرجاء الثورة الاشتراكية إلى أن يتطور الناس بغير ما هم عليه من التطور الحالي! كلا، إننا لا نبتغي الانتظار إلى هذا الحين، بل نحن نريد الثورة الاشتراكية، والناس على جبلتهم الحاضرة والعمال لا يتعدون اتباع رؤسائهم والأعمال تحت رقابة كتاب الحسابات.
ولكن هذه الطاعة يجب أن تكون للطليعة المسلحة الناهضة في مقدمة سائر المستغلة مجهوداتهم وسائر الصناع وذوي المهن وهي هيئة العمال.
وعلى هذه الطريقة يمكن بل يجب ما بين كل يوم وآخر البدء في الاستعاضة عن طريقة مراتب الموظفين العموميين المعقدة المعهودة بالأثرة والميزة بطريقة الوظائف البسيطة التي يقوم بها رؤساء العمال والمحاسبون، وهي الطريقة التي تعتبر قابلة التنفيذ منذ الآن بين المتمدينين القادرين على الاضطلاع بمهام هذه الأعمال نظير أجور بسيطة تعادل أجرة العامل العادي.
ولنتولَّ تنظيم الصناعة العظيمة مبتدئين بما أوجده منها من قبل أرباب رءوس الأموال، لنتولَّ تنظيمها نحن أنفسنا، نحن العمال بما لنا من الخبرة التامة بصفتنا القائمين بما دقَّ وجلَّ من تلك الصناعات، ولنوجد إطاعة وانتظامًا تامَّيْن لهما قوة الحديد تؤيدهما سلطة حكومة العمال المسلحة، ولنجعل مهمة الموظفين العموميين مقصورة على مجرد تنفيذ إرادتنا، وليصيروا مسئولين وقابلين للعزل، ولا يكونوا سوى قسمين؛ رؤساء عمال ومحاسبين، لا يتناولون إلا الأجور الزهيدة كسائر العمال، وهذا مع احتفاظنا بالطبع بالفنيين والاختصاصيين في كل نوع من الأعمال والصنائع والمهن، فهذه هي مهمتنا العاملة، وعلى هذا الأساس ولأجل تحقيق هذا الغرض يمكن بل يجب أن تضرم الهيئة العاملة نيران الثورة.
وهذا المبدأ المختص بقاعدة الاهتمام بالإنتاج العظيم مؤدٍّ بطبيعته إلى تلاشي نظام التوظف بحذافيره على التوالي، وإلى الاستعاضة بشيء آخر في مكانه بالتدريج مخالف لكل وسائل الاسترقاق والاستئجار بنظام آخر من أمور تجعل الوظائف تصبح على ممر الأيام مجرد رقابة ومحاسبة في منتهى البساطة يقوم بها الجميع بالتناوب، ثم تغدوان فيما بعد تأملًا وإنعام نظر، وأخيرًا تتلاشى آخر ظلال لهما باعتبارهما عملين مخصوصين تتكلف بتأديتهما فئة متفرغة لهما من الناس.
وفي عام ١٨٧٠ أنشأ مفكر ألماني اشتراكي ديمقراطي نظامًا اشتراكيًّا مخصوصًا أطلق عليهم اسم «البوستة»، ولم يكُ ما هو أحكم من هذا النظام إلا أنه لم يلبث أن تحول إلى مصلحة منظمة على شكل احتكار الحكومة رأس المالية، فسلطة التوسع والاستعمار أصبحت تحول إلى نظام البوستة كل دوائر احتكارها، فالعمال العاديون المنهكة قواهم من نصب الأعمال، والذين لا تسد أجورهم ثغرات عوزهم، ولا تطفئ حرارة جوعهم، ظلوا خاضعين بحكم الاحتياج إلى النفوذ الديواني رأس المالي، ولكن آلة الحركة الاشتراكية على تمام الاستعداد للعمل، فبعد أن تعمل على إسقاط رأس الماليين، وكسر صلابة هؤلاء المستغلين بأيدي العمال المسلحين الحديدية، وتحكم الآلة الديوانية الحكومية الحالية نصبح وليس أمامنا سوى ترتيب عملي في منتهى الإتقان والإحكام، خالٍ من عناصر التطفل والفضول، يستطيع العمال المتحدون أن يديروه بأنفسهم بمهارة تامة بالاستعانة بالفنيين ورؤساء العمال والمحاسبين، مع جعل أجور الجميع متساوية معادلة لأجر أي عامل اعتيادي، فهذه هي المهمة المحدودة العملية القابلة للتنفيذ في الحال لإبطال كل وسائل الاحتكار، ولأجل تحرير العمال من نير الاستغلال، وهي مستفادة من التجربة العملية التي قامت بها المشاعية في باريس أثناء حركتها الكبرى.
وما مقصدنا الأسمى وغرضنا المعجل سوى أن تصير كل مرافق الحياة الاقتصادية منظمة على نسق «البوستة» التي يتساوى فيها الفنيون وملاحظو الأعمال والحاسبون وسائر بقية المستخدمين في تقاضي أجور لا تتخطى قيمة ما يتناوله من الأجر العامل البسيط، وأن يكون هذا النظام تحت إشراف وإدارة هيئة العمال المسلحة، هذا هو مرامنا المعجل، وهذان هما الشكل الحكومي والقاعدة الاقتصادية اللازمان لنا، وهذا الرجاء إذا تحقق قضى على الترتيب البرلماني وأحل في مكانه الأنظمة التمثيلية، وهي الأنظمة الوحيدة الكافلة إنقاذ الطبقة النشيطة من فساد دوائر النفوذ المالي الاحتكاري.
(٤) لَمُّ شمل الأمة
إن المشاعية لم تتمكن من النظر بإمعان في مسألة تنظيم وحدة الأمة؛ لأن مدتها لم تطل، ولأنها كانت منهمكة في توطيد دعائمها بمكافحة أعدائها الداخليين والخارجيين، ومع ذلك فيستخلص من النظرة البسيطة التي صار لقاؤها على هذه المسألة لمحاولة البدء في حلها وجوب اعتبار النظام المشاعي المنهج السياسي الوحيد الذي لا مناص من انتهاجه حتى في صغرى القرى … والمجالس المشاعية المحلية هي التي تنتخب اللجنة الوطنية التي تمثل البلاد برمتها في باريس.
فالوظائف القليل عددها العظيم شأنها هي التي ستظل في قبضة الحكومة المركزية، ولا ينبغي إزالتها «وما المطالبة بمحو هذه الوظائف إلا ضلال»، ويجب إسنادها إلى موظفين مشاعيين واقعين تحت طائلة المسئولية الشديدة.
وبهذه الطريقة المشاعية المحكمة لا يُهدم كيان الاتحاد الوطني بل يزداد توثقًا واستحكامًا، ولا بد من تحقيق الوحدة الوطنية على أثر محو السلطة الحكومية التي تزعم أنها تعمل على تقوية هذه الوحدة، والمحافظة عليها، في حين أنها تريد أن تبقى مستقلة عن الأمة وسائدة عليها، وفي الواقع إن هذه السلطة الحكومية ليست سوى عرض من أعراض الشلل التي تبدو على جثمان الأمة.
«فالغرض الأساسي إذن هو استئصال أعضاء الضغط والإرهاق التي تستخدمها سلطة الحكومة العتيقة، وانتزاع الوظائف المشروعة من هذه السلطة التي تدعي حق السيادة على الهيئة الاجتماعية لإسنادها إلى خدام صادقين للأمة مسئولين أمام المجتمع العام.»
ولسنا ندري إلى أي حد لم يفهم انتهازيو الاشتراكية الديمقراطية المعاصرة، أو بمعنى أوضح لا يريدون أن يفهموا هذا البيان الجلي الذي بسطه ماركس، إن الدليل المقنع على عدم فهمهم أو على مكابرتهم يظهر بأوضح مظهر في الكتاب الذي وضعه الجاحد برنستاين الذي أحرز به شهرة تعادل شهرة أيروسترات، وهذا الكتاب عنوانه «قواعد الاشتراكية الديمقراطية»، فقد كتب برنستاين في كتابه المذكور متصديًا للجمل التي سردناها فيما تقدم من أقوال ماركس ما يلي: إن هذا البرنامج بفحواه السياسي يلتئم من كل أوجهه الجوهرية بطريقة مدهشة مع المذهب الاتحادي، فإنه على الرغم من كل نقط الخلاف الموجودة في أمكنة أخرى من وجهة النظر ما بين ماركس وذلك المحسوب من «الطبقة الوسطى»، وأعني به برودون — وقد وضع برنستاين لفظتي «الطبقة الوسطى» بين الأقواس الصغيرة حاسبًا ذلك أنه يجعله عرضة للاستخفاف به — وتيار فكرهما في هذا الصدد في منتهى ما يمكن من التوافق والنماذج، ثم قال برنستاين: لا شك في أن أهمية المجالس البلدية قد عظمت «ولكن يظهر لي أن من المشكوك فيه أن الغرض الأساسي للديمقراطية حل الحكومات الحديثة، وقلب كيان أنظمتها رأسًا على عقب كما يتصور ذلك ماركس وبرودون بما يرميان إليه من تكوين جمعية وطنية مؤلفة من لجنات موفدة من قبل المجالس الإقليمية أو المحلية التي تتألف هي بالمثل من منتخبين ترسل بهم مجالس النواحي بطريقة تجعل شكل الهيئات التمثيلية الوطنية القديمة تدخل في خبر كان.
إن هذا لفي منتهى السذاجة الفظيعة! أيمكن الخلط ما بين آراء ماركس المختصة بملاشاة السلطة الحكومية المتطفلة بمبدأ برودون الاتحادي! ولكن هذا الخلط لم يجئ اعتباطًا لأنه لا يدور بخَلَد أي اشتراكي حتى ولو كان انتهازيًّا أن ماركس يتكلم هنا عن المبدأ الاتحادي — أي اتحاد عدة ولايات أو مقاطعات إلى غير ذلك، وكل واحدة منها محتفظة باستقلالها الإداري كالولايات المتحدة الأمريكية، وكالاتحاد السوفيتي، والاتحاد الألماني، والاتحاد النمسوي المجري سابقًا، وكالاتحاد البريطاني الذي وضعت قاعدته أخيرًا — ولو من قبيل معارضة المبدأ المركزي، وإنما هو يتكلم عن تحطيم آلة الحكومة المالية العتيقة الموجودة في كل بلد حافل بالأعيان وأصحاب رءوس الأموال.
إن الانتهازي لا يستطيع أن يكون له فكرة إلا مما يحيط به في الوسط المالي ذي الجمود الإصلاحي الذي إذا أراد أن يتكلم عنه لم يعد فكره حد المجالس البلدية! أما من جهة ثورة الطبقة العاملة فهيهات أن ينصرف فكره إليها.
وإن هذا الرأي الصادر من برنستاين لسخيف، ولكن هنالك ما هو أدهى وأَمَرُّ، ذلك أنه لم يتعرض أحد لمناقضة برنستاين في رأيه هذا، لقد حمل عليه كثيرون، ومن جملتهم بليخانوف في الروسيا وكاوتسكي في غرب أوروبا، ولكن لم يتعرض أحدهم لهذا التشويه الذي حاول به برنستاين أن يفسد المذهب الماركسي.
لا يوجد في المباحث التي نقلناها من أقوال ماركس عن الخبرة التي اكتسبها أدنى ظل للمبدأ الاتحادي، وفي الحقيقة إن ماركس يتفق مع برودون في نقطة واحدة لم يفطن إليها بيرنستاين.
وفي الموضع الذي يرى بيرنستاين أن ماركس متفق مع برودون يبتدئ افتراقه مع الأخير.
ويختلف ماركس عن برودون وباكونين في مسألة المبدأ الاتحادي — بدون التكلم عن سلطة العمال المطلقة — إن المبدأ الاتحادي ينبعث من وجهة نظر الفوضوية المتيسرة بعض اليسار أي التي تعيش عيشة الطبقة الوسطى من الشعب، وأما ماركس فمن القائلين بالمركزية، وفي كل الجمل المسرودة من أقواله لا يرى أقل إخلال بتمسكه بالمركزية، فلا يوجد سوى المتشبعين بثقة عمياء في الحكومة من يستطيع حمل استئصال آلة المالية المتحكمة على محمل استئصال المركزية.
وهل إذا استولى العمال والفلاحون الفقراء على سلطة الحكومة، ونظموا أنفسهم في هيئات مشاعية، ورتبوا عمل كل الأنظمة المشاعية ليضربوا رأس المال وليقضوا على صلابة الملايين، وليقدموا للأمة أو للمجتمع العام بأسره ملكية السكك الحديدية والمصانع وسواها مما كان في دائرة الملكية الشخصية لا يعتبر عملهم هذا من قبيل المركزية؟ وألا يكون هذا العمل أعظم مركزية ديمقراطية قائمة على دعامتي المنطق والمصلحة العامة؟ وهلا يمكن أن يقال عنها حينئذ أكثر من كل قول آخر أنها مركزية عاملية؟
إن بيرنستاين لا يذهب إلى إمكان حدوث مركزية اختيارية، وامتزاج اختياري بين الهيئات المشاعية المتكونة في شكل أمة، والتي ينبغي لها أن يختلط بعضها ببعض وتتماسك لتتوصل إلى محق السيادة المالية وأداة الحكومة المالية.
إن بيرنستاين يتصور ككل فلسطيني — يريد إسرائيليًّا — أن المركزية شيء يهبط من علٍ، ولا يمكن إظهاره وتثبيته إلا بواسطة هيئتي الموظفين والعسكريين.
وكأنما ماركس لذكائه وفرط خبرته أدرك ما يمكن أن يصاب به مذهبه من التأويل الباطل والتحريف، فقال من باب التحوط: إن من الخطأ المتعمد والوهم المقصود اتهام المشاعية بمحاولتها هدم بناء وحدة الأمة وإبطال السلطة المركزية.
ولقد استعمل ماركس لمقصد خاص الجملة التالية، وهي «تنظيم وحدة الأمة» ليعارض بها باعتبارها مركزية هيئة العمال الديمقراطية، تلك المركزية المالية العسكرية الديوانية.
غير أن الذي لا يريد أن يسمع يدعي الصَّمم، فالانتهازيون المنتمون إلى الاشتراكية الديمقراطية العصرية لا يريدون أن يسمعوا أي كلام يدور حول محور السلطة الحكومية واستئصال الهيئة المتطفلة.
(٥) محو الحكومة المتطفلة
سبق لنا إيراد بعض ألفاظ من أقوال ماركس في هذا الصدد، فما علينا الآن إلا أن نورد كلامه بتمامه فيه.
جرت العادة أنه كلما استجد شيء تاريخي حُمل على أنه أحد أشكال الأمور القديمة، بل الميتة؛ أي التي عفت آثارها من الوجود الاجتماعي كيفما كانت الأنظمة الجديدة قليلة الشبه والارتباط بالأنظمة القديمة المنسوبة إليها، وكذلك حدث في شأن المشاعية الجديدة التي همت بتحطيم الحكومة الحاضرة، فقد صار اعتبارها محاولة بعث المشاعية التي ظهرت في العصور الوسطى … من قبيل مزج الحكومات الصغيرة — منتسكيو، ثم الجيرونديون — ومن قبيل الكفاح الذي حدث قديمًا ضد المركزية المتناهية في الشدة، وكل ما في الأمر أن الشكل الحاضر فيه تطرف كثير.
إن طريقة الحكم المشاعي تعيد إلى كيان المجتمع كل القوى التي كانت تلتهمها حتى اليوم تلك الغدة الطفيلية المتنامية المسماة «الحكومة»، والتي تعيش على حساب الهيئة الاجتماعية، وهي عقبة كَأْدَاء في سبيل نموها ورقيها، ولا يوجد من هو خير من هذه الطريقة لتمكين فرنسا من التقدم خطوة واسعة في سبيل النهضة والتجدد.
إن النظام المشاعي يجعل المنتجين الزراعيين تحت الإدارة الأدبية التي تتمتع بها عواصم النواحي، وتضمن لهم في شخص العمال الموجودين في هذه العواصم الريفية ممثلين طبيعيين يمثلون مصالحهم وحقوقهم، ووجود المشاعية نفسه داعٍ بالطبع إلى امتناع الأنظمة المحلية بحريتها الإدارية، ولكن لا بصفة تعادل بها سلطة الحكومة التي تصير من ذلك الحين أمرًا عرضيًّا لا عمل ولا أهمية له …
«هدم سلطة الحكومة»، «غدة طفلية»، «استئصال»، «محو هذه السلطة»، «سلطة الحكومة التي تصير الآن عرضية لا عمل ولا أهمية لها»؛ هذا هو النسق الذي يتكلم به ماركس عن الحكومة، وهو يحلل تجربة المشاعية، ويصدر حكمه بموجب هذا التحليل.
لقد كتبت هذه الألفاظ منذ خمسين عامًا، ولكن يجب الآن البحث والتنقيب بين الآراء المنتشرة لاستخلاص المبادئ الماركسية الصحيحة وعرضها على ضمير الجماهير التي حُرمت من الاطلاع عليها، لقد نسيت النتائج التي استخلصها ماركس من الآراء التي اكتسبها من الثورة العظيمة الأخيرة التي حضرها بنفسه في الوقت الذي تتعاقب فيه ثورات العمال الحديثة الكبرى.
«إن تنوع الخطط التي اتبعتها المشاعية، وتنوع المصالح التي كانت مضطرة لأن تراعيها أثناء نهوضها لَتَدُلُّ أوضح دلالة على أنها كانت هيئة سياسية ذات مرونة وبراعة لا مثيل لها، في حين أن كل أشكال الحكومات السالفة لم تزد على أنها كانت في جوهرها آلات ضاغطة، فكل دخيلة أمرها ومستور سرها محصور في أنها كانت قبل كل شيء حكومة الطبقة العاملة، وأنها النتيجة المنطقية لنشوب الصراع ما بين الطبقة المنتجة والطبقة المستغلة، ثم إنها صارت أخيرًا هيئة سياسية علنية تتكفل بإتمام تحرير العمل تحريرًا تامًّا من الوجهة الاقتصادية …»
«ومن غير هذا الشرط الأخير تصبح طريقة النظام المشاعي مستحيلة التواجد أو خيالًا ضالًّا.»
إن أفرادًا من ذوي الأوهام أخذوا يكدون ويرهقون أذهانهم في البحث عن الأشكال السياسية التي يجب أن تصير فيها الهيئة الاجتماعية في طورها الاشتراكي، فالفوضويون اطرحوا مسألة الأشكال السياسية من أبحاثهم بالمرة، وأما انتهازيو الاشتراكية الديمقراطية المعاصرة فقد قبلوا الأشكال السياسية المالية المتمثلة في الحكومة الديمقراطية البرلمانية باعتبارها حدًّا لا يجوز تجاوزه، وطأطئوا لها الرءوس مصلين مبتهلين زاعمين أنها «نموذج النماذج»، ووصموا كل محاولة ترمي إلى محو هذه الأشكال بالفوضوية.
لقد استخلص ماركس من تفاصيل تاريخ الاشتراكية والصراع السياسي أن الحكومة مقضي عليها بالاختفاء، وأن شكل تطور اختفائها أي الانتقال من عهد الحكومة إلى عهد عدم وجود الحكومة هو انتظام هيئة العمال في شكل طبقة متولية، وأما من وجهة ما ستكون فيه من الأشكال السياسية في المستقبل فهذا ما لم يخض فيه ماركس جزافًا، بل وقف عند حد التأمل الدقيق في تحليل التاريخ الفرنسوي، واستنتاج النتيجة التي استخلصها من حوادث عام ١٨٠١ وهي أننا نقترب من تحطيم الآلة الحكومية المالية.
وحينما اضطرمت نيران ثورة العمال الكبيرة أخذ ماركس يدرس الأشكال التي تقلبت فيها على الرغم من انطفاء ضرامها وإخفاق حركتها، وعلى الرغم من سرعة تلاشيها وضعفها المدهش.
إن المشاعية هي الشكل الذي تطورت فيه أخيرًا ثورة الهيئة العاملة، والذي تحت ظلاله من المستطاع إتمام تحرير العمل من الوجهة الاقتصادية.
إن المشاعية هي أول شروع الثورة العاملية في حطم أداة الحكومة المالية، والشكل الذي اكتست به الثورة أخيرًا، والذي يمكن بل يجب أن يحل محل الإدارة المحطمة.
وسنرى فيما يلي من التفصيل والإيضاح أن الثورتين الروسيتين اللتين اندلعت ألسنة لهيبهما في عامي ١٩٠٥ و١٩١٧ في شكل آخر وظروف مغايرة لما تقدمها من الثورات، لم تكونا سوى تكملة عمل المشاعية، وتطبيق التحليل التاريخي الدقيق الذي قام به ماركس.