الفصل الخامس
إن أهمَّ أوجه البحث في هذه المسألة يُستخلص من أقوال ماركس في نقده برنامج جوتا «في الرسالة التي بعث بها إلى ويلهلم براك في ٥ مايو سنة ١٨٧٥ التي نشرت في سنة ١٩٨١ فقط في جريدة النيوزيت»، وقد أبقى القسم الجدلي من هذه الرسالة الجليلة، وهو الذي يتضمن نقد المذهب اللاسالي في جانب الإبهام، ذلك القسم الإيجابي المختص بتحليل العلائق الموجودة ما بين انتشار المشاعية ورقيها وفناء الحكومة.
(١) المسألة المعروضة من ماركس
إذا ما قورنت رسالة ماركس إلى براك المؤرخة ٢٥ مايو سنة ١٨٧٥ مقارنة سطحية برسالة إنجيل إلى بيبيل المؤرخة ٢٨ مارس سنة ١٨٧٥ التي صار البحث فيها فيما تقدم، يمكن الظن بأن ماركس أشد جنوحًا إلى الفكرة الحكومية من إنجيل، وأن آراءهما تختلف فيما يختص بالحكومة اختلافًا عظيمًا.
فأما إنجيل فيدعو بيبيل إلى الكف عن اللفظ بذكر الحكومة، واستبعاد لفظ «الحكومة» بتاتًا من البرنامج بقصد استبداله بلفظ «المشاعية»، بل لقد ذهب إنجيل إلى حد قوله أن المشاعية لم تكن مطلقًا حكومة بالمعنى الخاص بهذا اللفظ، وأما ماركس فعلى العكس من ذلك، فيتكلم عن الحكومة حتى في المجتمع المشاعي الآتي، ويلوح عليه أنه يرى ضرورة وجود الحكومة بالمثل أثناء الحكم المشاعي.
إلا أن الذهاب إلى مثل هذا الظن شطط عظيم؛ لأن أقوال ماركس وآراءه إذا امتُحنت بدقة متناهية لا تلبث أن تتجلى في حقيقتها الناصعة، فيبدو حينئذ للعيان تطابق آراء إنجيل وماركس في صدد الحكومة وفنائها مطابقة محكمة، وأن تعبيرات ماركس تئول في نهايتها إلى الغاية التي يرمي إليها صديقه إنجيل بطريق التدرج.
ومن الواضح أن الوقت لا يسمح بخوض مسألة تحديد الزمن الذي يحدث فيه هذا التدرج الانتقالي في المستقبل؛ لأنه يستغرق مدة طويلة، وكل ما يُرى من أوجه الخلف ما بين ماركس وإنجيل إنما ينحصر في اختلاف المواضيع المطروقة والأغراض المتواصل السعي إليها.
إن إنجيل يحاول أن يظهر إلى بيبيل بطريقة جذابة وفاصلة في آنٍ واحد بإيضاح ضافٍ ما في الأوهام الذائعة التي يأخذ «لاسال» بقسم وافر منها فيما يختص بالحكومة؛ من الضلال واستحالة التحقق، أما ماركس فيعطف لمامًا على هذه المسألة في خلال الموضوع الذي كان مهتمًّا به، خاصة والذي يختلف عن موضوع إنجيل اختلافًا جوهريًّا وهو: اتساع المجتمع المشاعي ورقيه.
إن كل وجهة نظر ماركس أن يظهر النظرية التي تتبعها رأس المالية المعاصرة في أوضح شكل لها، وبأتم ما يشتمل عليه من البيان والمنطق والروية والميزة، وبالطبع فإن ماركس أراد أن يستخدم هذه النظرية في إسقاط وملاشاة رأس المالية حالًّا في انتشار وتقدم المشاعية الآتية مستقبلًا.
فعلى أي الدعائم يمكننا أن نرتكز في عرض مسألة انتشار وتقدم المشاعية الآتية في المستقبل؟
على الدعائم المستمدة من رأس المالية نفسها، والمستخلصة أساسها التاريخي من رأس المالية، والتي هي نتيجة القوة الاجتماعية المتولدة رأس المالية، وما ماركس بذلك الذي يستسلم إلى الوهم والشطط، فهو لا يلتمس خيالات في الفضاء، ولا ممن يحرز مالًا يمكن تحققه والوصول إليه، بل هو يعرض مسألة مشاعية كمؤرخ طبيعي يعرض مبحثًا مختصًّا بنوع جديد من تفصيل حياة أحد الأشياء حالما يقف على مصدر وكنه تطورها في درجات الرقي.
إن المجتمع الحديث هو المجتمع رأس المالي المنتشر في سائر البلاد المتمدينة على حالتَيْ تخلصها تمامًا أو نوعًا ما من بقايا تقاليد العصر الإقطاعي، وفي حالتَيْ تطورها كثيرًا أو قليلًا بخصائص الرقي التاريخي لكل بلد سواء أكان عظيمًا أو ضئيلًا.
إن الحكومة الحديثة تختلف أشكالها باختلاف حدود البلاد، ففي كل بلد نوع مخصوص من هذه الأشكال، ففي الإمبراطورية البروسية الألمانية تختلف تمام الاختلاف عن شكل الحكومة القائمة في سويسرا، وفي إنجلترا تخالف شكل حكومة الولايات المتحدة، فالحكومة الحديثة هي إذن شكل مختار يقع عليه اتفاق كل حكومة على حدة، ومع ذلك فعلى الرغم من تنوع وتعدد أشكالها، فإنها في سائر البلاد المتحضرة على تمام الاتفاق في ارتكازها دائمًا بالإجماع على مجتمع الأعيان والماليين العصري حسب تفاوت كل بلد في شدة تقدمه أو تأخره من الوجهة رأس المالية، ولكنها تشترك بأجمعها في بعض الصفات والميزات، ومن نقطة هذا الاشتراك يمكن التكلم عن الحكومة الحديثة من قبيل المعارضة للأزمان الآتية التي سيختفي فيها الأساس الحاضر الذي ينهض فوقه مجتمع الأعيان والماليين.
وهناك تُعرض المسألة على الوجه الآتي: أي نوع من التطور سيطرأ على شكل الحكومة في المجتمع المشاعي؟ وبعبارة أخرى: مَنْ هم الذين سيتولون الوظائف الاشتراكية المماثلة للوظائف الحالية في الحكومة في المجتمع المشاعي؟ وبعبارة أخرى: مَنْ هم الذين سيتولون الوظائف الاشتراكية المماثلة للوظائف الحالية في الحكومة إذ ذاك؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا إذا حدث الخوض في مباحث علمية، أما إذا فُرض وتيسر إرداف لفظ الشعب بلفظ الحكومة آلافًا من المرات فإن هذا العمل لا يقدم المسألة خطوة واحدة في سبيل الحل.
وبعد أن سخر واستخف على هذا النمط بكل الخطب التي أُلقيت في صدد الحكومة العلمية «أي حكومة الشعب برمته أو العامة» أخذ ماركس يبحث هذه المسألة متمشيًا إلى النقطة التي رأى فيها من الواجب عليه أن يصرح بأنه إذا أريد حل هذه المسألة حلًّا علميًّا، فلا يمكن التوصل إلى ذلك بمجرد نظرة بسيطة، بل لا بد من بسط تفاصيل علمية صافية جدًّا تجعل الحل واضحًا ومعقولًا لكل مطلع عليه.
إن أول نقطة مرتكزة أعظم ارتكاز على نظرية النهوض، وعلى قوة العلم في مجموعها — وهي النقطة التي تناساها الضالون الواهمون والانتهازيون الحاليون تخوفًا من نشوب الثورة الاشتراكية — هي النقطة التي يؤيدها التاريخ، والتي لا بد من وجودها وهي مرحلة الانتقال من رأس المالية إلى المشاعية.
(٢) عصر انتقال من رأس المالية إلى المشاعية
إنه لا بد للانتقال من المجتمع رأس المالي إلى المجتمع المشاعي من الثورة التي هي مرحلة الانتقال بينهما، ويتصل بهذه المرحلة عصر التطور السياسي الذي لا تكون فيه الحكومة شيئًا آخر سوى حكم العمال المطلق الثوري.
ويقيم ماركس هذه الخلاصة على أساس متين من تحليل المهمة التي تقوم بها هيئة العمال في مجتمع رأس المالية الحديث، وعلى التفاصيل المختصة بطريقة تكَوُّن وارتقاء هذا المجتمع، وعلى عدم إمكان التوفيق ما بين مصالح هيئة العمال ومصالح الماليين المتعارضة.
لقد كانت المسألة فيما مضى تُعرض على هذا الوجه: إن هيئة العمال يجب عليها في سبيل الحصول على تحررها أن تسقط هيئة الأعيان والماليين، وتستولي على السلطة السياسية وتثبت الحكم الثوري المطلق.
أما الآن فالمسألة تُعرض على وجه يختلف بعض الاختلاف عن الوجه السالف؛ فإن تحول المجتمع رأس المالي إلى مجتمع مشاعي لا يتم إلا إذا توسط العهدين زمن تطور سياسي لا يمكن أن تكون الحكومة في أثنائه شيئًا آخر سوى حكم العمال الثوري المطلق.
فما هي العلاقة التي تصل هذا الحكم المطلق بالديمقراطية؟
لقد رأينا أن المنشور المشاعي يقرب فقط ما بين هذين الأمرين، وهما تحول هيئة العمال إلى طبقة حاكمة والفتح الديمقراطي، وبالارتكان على كل درجات الرقي التي تسبق زمن الانقلاب يمكن الوصول بطريقة مؤكدة إلى التطورات التي ستطرأ على الديمقراطية أثناء تحول رأس المالية إلى مشاعية.
إن المجتمع رأس المالي في منتهى ما يصل إليه من الرقي، إنما يعرض علينا صورة كاملة الشكل أو غير تامة من الديمقراطية في شكل الجمهورية الديمقراطية، على أن الديمقراطية تظل دائمًا في هذه الجمهورية محصورة في دائرة ضيقة لا تتعدى الاستثمار رأس المالي، وعلى ذلك فهي لم تَعْدُ كونها في حقيقتها ديمقراطية الفئة الصغرى؛ أي ديمقراطية الطبقات المالكة، أو بمعنى أوضح فئة الأغنياء، فحرية المجتمع رأس المالي تبقى على الدوام قريبة من حرية جمهوريات البلاد اليونانية القديمة، وهي حرية سادة الأرقاء.
فأرقاء اليوم المأجورون بفضل الاستقلال رأس المالي المتبع الآن، يلبثون في حالة من انتهاك القوى والاحتجاج والشقاء، لا تبقي لهم من الوقت ما يسمح لهم بمعرفة ما هي الديمقراطية؟ ولا بالاهتمام بها ولا بالسياسة، حتى إن معظم الأهالي في غضون الحوادث العادية التي تتتابع في زمن السلم والسكينة يبقى في معزل عن الحياة السياسة والاجتماعية.
وإن ما يحدث في ألمانيا من هذا القبيل لَخيرُ مثل ينطبق على ما ذُكر آنفًا تمام الانطباق، وبوضوح نادر المثال، فهنالك في ألمانيا ظلت الطريقة النظامية الدستورية الشرعية ثابتة قوية الدعائم بدرجة مدهشة مدة نصف قرن تقريبًا — من عام ١٨٧١ إلى سنة ١٩١٤ — فتمكنت الاشتراكية الديمقراطية في خلال هذه المدة من أن تقوم بأعمال ومجهودات عظيمة لا مثيل لها في أية جهة أخرى، مستفيدة بواسطتها من ذلك النظام الشرعي لوضع نظام سياسي لحزب العمل الذي يُعتبر أكبر وأعظم أحزاب العمال في العالم أجمع.
كم من الأرقاء الأجراء الذين تستعبدهم السياسة رأس المالية، الذين مع شدة حنقهم عليها يرضخون لأحكامها، ويقبلون ما تُقِرُّه لهم من الأجور التي لا تتفق مع مجهوداتهم ومع قيمة إنتاجهم؟ وكم منهم ينتظمون في سلك الهيئات العاملة لتحريرهم من رِبْقة الاستعباد المأجور؟ يوجد من ١٥ مليون عامل أجير مليون عامل أعضاء في الحزب الاشتراكي الديمقراطي! ومن هؤلاء الخمسة عشر مليونًا ثلاثة ملايين عضو في جمعيات صناعية فنية.
فالديمقراطية هي من ميزات الأقلية الضئيلة؛ أي من خصائص فئة الأغنياء، ومن نسب الأرقام التي تقدمت يتبين كنه ديمقراطية المجتمع رأس المالي، ولو نظرنا عن قرب إلى الآلة الديمقراطية رأس المالية لوجدناها في كل مكان وزمان وفي الأوضاع التفصيلية للحقوق الانتخابية «وهذا اصطلاح بيتي تُستثنى منه النساء»، وفي القاعدة الفنية للأنظمة التمثيلية، وفي العقبات التي توضع في طريق حق الاجتماع «أن أماكن الاجتماع العمومية ليست من نصيب البائسين»، وفي الصحافة اليومية ذات الصبغة رأس المالية المتناهية في مصالح المجتمع رأس المالي إلى غير ذلك، ولما وجدنا في كل ما تقدم سوى تحديدات دقيقة تضيِّق دائرة الديمقراطية وتجعلها خاصة بفريق دون فريق.
وهذه التحديدات والاستثناءات وطرق المنع والعراقيل الموضوعة أمام الفقراء إنما يقصد ببسطها على أنظار أولئك الذين لم يعرفوا أبد الدهر مرارة الاحتياج، ولم يطرقوا يومًا ما أوساط الطبقات المضطهدة، ولا اختبروا دقائق الحياة عن قرب «وهؤلاء هم تسعة أعشار إن لم يكونوا تسعة وتسعين في المائة من الموظفين والصحفيين والسياسيين المنتمين إلى طبقة الثراة»، وبالتأمل في مجموع هذه الوسائل المقيدة ترى أنها وُضعت خاصة لمنع، بل لطرد الفقراء من دائرة السياسة، ومن الاشتراك العملي في الديمقراطية.
وبالطبع فإن ماركس قد أراد هذا الأمر نفسه في بحثه؛ لأنه هو روح الديمقراطية رأس المالية، عندما قال في تحليله التجربة المستخلصة من المشاعية: إن المضطهدين مسموح لهم مرة في كل ثلاث أو ست سنوات، أن يبدوا رأيهم قطعيًّا فيمن سيكون من أعضاء الطبقة التي تضطهدهم نائبًا عنهم في البرلمان ليبدي آراءه باسمهم في طرق الضغط عليهم وسحقهم!
ولكن انتقال هذه الديمقراطية رأس المالية التي لا سبيل إلى امتناعها عن اضطهاد وإحراج الفقراء بسوء نية، والتي لا تتخلى عن الرياء والبهتان إلى ديمقراطية تتدرج شيئًا فشيئًا في طريق الكمال، لا يتم بمثل تلك السهولة ولا بمثل ذلك الارتياح اللذين يتصورهما الأساتذة الأحرار والانتهازيون المعدودون من وسطاء الحال، كلا، إن الرقي أي التقدم في سبيل المشاعية لا يتدرج إلا في حكم الهيئة العاملة المطلق، ولا يمكن أن يكون خلاف ذلك؛ لأنه لا توجد وسيلة أخرى ولا عامل آخر لإضعاف شكيمة رأس الماليين المستغلين.
فحكم العمال المطلق؛ أي انتظام طليعة المضطهدين في هيئة طبقة حاكمة لسحق الفئة الضاغطة، لا يمكن أن يؤدي بسهولة وبغير شائبة إلى اتساع الديمقراطية، وفي الوقت نفسه، فإن اتساع الديمقراطية إلى درجة عظيمة يجعلها لأول مرة تصير ديمقراطية الأشخاص الرافلين في بحابح النعيم، وحكم الهيئة العاملة المطلق يُوجِد سلسلة من التضييقات حول حرية الضاغطين والمستغلين ورأس الماليين، فهؤلاء هم الذين نريد سحقهم لإنقاذ الإنسانية من الاستعباد المأجور، وهؤلاء هم الذين يجب كسر شوكتهم بالعنف، ومن المعلوم أنه حينما يوجد سحق ويوجد عنف لا توجد الحرية، ولا تستقر الديمقراطية.
وقد أظهر إنجيل كل هذا بوضوح تام في كتابه الذي بعث به إلى بيبيل بقوله المتقدم ذكره: «إن هيئة العمال في حاجة إلى الحكومة لأجل نشر الحرية وتأييدها، بل لأجل سحق خصومها، وأما عندما يمكن التكلم في صدد الحرية فلا تبقى ثَمة حاجة إلى الحرية.»
إن انتشار الديمقراطية بين أغلبية الشعب العظمى، وسحق المشتغلين والضاغطين بالقوة؛ أي طردهم من حظيرة الديمقراطية، هذا هو الطور الذي ستقلب فيه الديمقراطية في دور انتقالها من رأس المالية إلى المشاعية.
ففي الهيئة الاجتماعية المشاعية فقط، وحينما لا يبقى أدنى أثر لصولة رأس المالية وشوكتها، وعندما لا تبقى طبقات متفاوتة متعددة؛ أي عندما لا يبقى أقل امتياز لفرد على فرد من أعضاء المجتمع العام في الصلات التي تربطهم بأدوات الإنتاج، هنالك فقط وعند توفر هذه الشروط برمتها تختفي الحكومة، ويمكن التكلم عن الحرية، وحينئذ يمكن وجود الديمقراطية الكاملة المجردة من كل القيود والاستثناءات، وإذ ذاك تبتدئ هذه الديمقراطية نفسها في أن تزول لمجرد هذا السبب البسيط، وهو أنه بمجرد التخلص من الاستعباد رأس المالي، ومن الأهوال والفظائع، ومن المهلكات، ومن المنكرات التي يمكن إحصاؤها الناجمة عن طرق الاستغلال رأس المالي، يعتاد الناس قليلًا قليلًا على مراعاة قواعد الحياة الاجتماعية العامة، وهي القواعد التي تتضمنها القوانين، واتباعها بدون عنف ولا اضطهاد ولا ترؤُّس ولا خضوع، وبدون احتياج إلى تلك الآلة الخاصة بالاضطهاد التي تسمى الحكومة.
إن التعبير الذي يتضمن موت الحكومة بديع جدًّا؛ لأنه يعرب عن تمشي الضعف في تلك الآلة المشئومة وتوابعها، والاعتياد هو الذي يستطيع أن يؤدي بل سيؤدي بدون أدنى ريب إلى هذه النتيجة؛ فإننا نرى كل يوم حولنا كيف يعتاد الناس بسهولة على مراعاة القواعد التي لا غنى عنها في الحياة الاجتماعية، فهم لا يتأخرون عن التشدد في مراعاتها إذا زالت كل عوامل الاستغلال التي تسبب انفعال النفس والغضب والاحتجاج والهياج، وتبعث الحاجة إلى سحق أولئك الذين يوجدون تلك العوامل والأسباب.
ومما تقدم يرى أن المجتمع رأس المالي لا يمنحنا إلا ديمقراطية عرجاء حقيرة ملفقة، ديمقراطية مقصورة على الفئة الضئيلة.
فإذا ما أقبل حكم العمال المطلق وهو عصر الانتقال إلى المشاعية، مُنحنا لأول مرة في الحياة العامة ديمقراطية تظلل بجناحيها الشعب بأسره، فهي إذن تلك التي يصح أن يُطلق عليها اسم ديمقراطية السواد الأعظم، وفي الوقت نفسه نستمر على محاولة سحق الأقلية، تلك الطائفة التي لا تتخطى أولئك المستغلين سحقًا لا تتمشى فيه الرحمة والشفقة.
إن المشاعية وحدها هي التي بمقتضى طبيعتها تسمح لنا بديمقراطية حقيقية تامة، وكلما صارت الديمقراطية كاملة كلما أسرعت إلى أن تصير عرضية؛ أي لا فائدة منها ولا حاجة إليها، ومن هنا تتمشى بطبيعة الحال في طريقة الموت والزوال من تلقاء نفسها.
ويمكن القول بعبارة أخرى استنتاجًا مما تقدم أننا ما دمنا خاضعين لتسلط رأس المالية، فلن يكون لنا سوى حكومة بالمعنى الخاص بهذا اللفظ؛ أي أداة خاصة بالسحق تديرها طبقة ضد طبقة أخرى؛ أي تستخدمها الأقلية لإرهاق الأكثرية.
ومن الواضح أنه لأجل نجاح مثل هذه المهمة، وهي سحق الأغلبية المستمرة مجهوداتها بواسطة الأقلية المستغلة بأسلوب منظم ينبغي الالتجاء إلى طريقة القسوة، إلى الوحشية المتناهية؛ أي إنه يجب أن تتلاطم أمواج الدماء، وأن تشق لججها الإنسانية مدفوعة بأيدي الاستعباد والاستخدام والاستئجار.
وتلك مسألة السحق لازمة في دور التخطي من رأس المالية إلى المشاعية، ولكنها تكون إذ ذاك مسألة إرهاق الأغلبية للأقلية المستغلة، وعلى هذا فستبقى الحاجة إلى وجود ذلك الجهاز الخاص، أو تلك الآلة الخاصة بالإرهاق أي الحكومة، غير أنها تكون حكومة متطورة أو حكومة انتقال من حالة إلى أخرى، وليست تلك الحكومة المقصودة بالمعنى الخاص بلفظها؛ لأن سحق الأقلية المستثمِرة بقوة الأغلبية المستعبَدة المستأجرة التي كانت تستغل مجهوداتها بالأمس، هو أمر من قبيل النسبة إلى ضده في درجة من السهولة والبساطة، وفي حالة اعتيادية تجعله يكلف الإنسانية من الدماء المراقة أقل بكثير مما يكلفها إخماد الاضطرابات والقلاقل التي يحدثها المستعبَدون، أو تلك الأنعام المسخرة وهي فئة العمال المأجورون.
على أن تلك الحكومة لا تلبث في الوقت نفسه أن تصير في أتم انطباق على تلك الديمقراطية التي تعتنقها الأغلبية العظمى من الأهالي، حتى إن الحاجة إلى استبقاء أداة الإرهاق لَتأخذ في التلاشي من تلقاء نفسها على الأثر، وذلك لأن المستغلين بالطبع لا يستطيعون أن يتغلبوا على الشعب بدون أن يكونوا حاصلين على آلة خاصة في منتهى التراكب والتعقيد، وأما الشعب فيستطيع أن يتغلب على هؤلاء المستغلين بدون احتياجه إلى أداة خاصة بمجرد اعتماده على ترتيب الجماهير المسلحة «على طريقة السوفيت ونواب العمال والجنود الاختياريين».
وأخيرًا، فإن المشاعية بروح قدسها وانفرادها بالأمر تجعل الحكومة شيئًا لا لزوم له، بل لا معنى لوجوده؛ لأنه لن توجد طبقة تستدعي التغلب عليها، ولن يوجد صراع منظم على أسلوب خاص ضد قسم من الشعب.
على أننا لسنا من الغفلة والبَلَه إلى حد أن نجهل أو نتجاهل ما يمكن أن يحدث من سوء التصرف من جانب بعض الأفراد الذين قد لا يفقهون حقيقة قدر الميزة التي حصلوا عليها، وما تستدعيه من التزام النظام، ومراعاة الحقوق الاجتماعية، فيستخدمونها فيما لا يتفق مع الأمنية المنشودة، وهي استئصال أسباب الشقاق، كما أننا لن نتغافل عما يقتضيه مثل هذا الأمر من التحوط والاستعداد لتلافيه، والقضاء في الحال على كل عمل سيئ وإخلال بالنظام العام.
ولكن مع هذا التنبه، فإننا لا ينبغي لنا أن يذهب بنا الوهم إلى أبعد من حد الحقيقة بمراحل، فإن مثل هذه الأعمال الشاذة الفردية لا يبلغ من أمرها أنها تقتضي وسائل عظيمة تدعو إلى بقاء تلك الآلة الخاصة أو ذلك الجهاز الخاص بالضغط والإرهاق، فإن الشعب المسلح نفسه هو الذي يتكفل بالقضاء على كل حركة تخالف المصلحة العامة، ويسحق الأشخاص الذين يشذون عن المجموع، ولا تكون مهمته في هذه الحالة إلا في منتهى البساطة وفي غاية السهولة، حتى إنها تكاد لا تُقاس بما يحدث في المجتمع الحاضر من التوسط والفصل ما بين المتنازعين، أو منع محاولي السرقة من أن يسرقوا، ثم إننا لا يحوز لنا أن نتناسى شيئًا في منتهى الأهمية إزاء هذه الفكرة التي تعترضنا، وهو أن كل أسباب الاعتداء والتنازع والاختلاف التي تحدث بين أفراد الجمهور، وتقضي إلى الإخلال بالنظام العام والعبث بالقواعد والقوانين المرعية، إنما هي استثمار مجهودات الجماهير بدون التعويض عليها بما يسد حاجتها من الأجر الكافي والشقاء والبؤس السائدين على الطبقة المنحطة من الشعب، وحرمان هذه الطبقة من الوسائل الكافية لسد رمق الحياة.
وعلى ذلك فإذا ما تيسر القضاء على كل هذه الأسباب المؤلمة الداعية إلى اهتياج النفس، وإلى اجتراح كل منقصة، فإن تلك الفكرة العارضة والتي ينبغي اتقاؤها، لا يبقى لها في الحقيقة إذ ذاك أثر في البال؛ لأن أعمال الإخلال بالنظام العام تأخذ من تلقاء نفسها في الزوال على أثر فقد مسبباتها بدون احتياج إلى العمل على إزالتها.
وإذا كنا نرى للاعتبارات الوجيهة التي أبديناها أن أعمال الاختلال ستزول من تلقاء نفسها بزوال بواعثها، فإننا لا يمكننا أن نتكهَّن بتحديد المدة التي يتم فيها هذا الزوال، فقد تستغرق أمدًا طويلًا يتوزع على عدة مراحل، وقد لا تستدعي مثل هذا الزمن، بل تتلاشى في مدة وجيزة، وإنما الذي يمكننا أن نجزم به هو أنها زائلة لا محالة، وبزوالها تفنى الحكومة التي لا تبقى أقل حاجة إليها حينئذ.
ولم يسقط ماركس في تلك الغفلة التي قد تستدعي قيام المخالفين عليه، بل تبسط في إيضاح ما أردنا نحن أن نمر به لمامًا عن المرحلتين أو الدرجتين اللتين يجب أن تتخطاهما الهيئة الاجتماعية العامة للوصول إلى المشاعية الحقيقية، وهما الدرجة السفلى والدرجة العليا.
(٣) الشكل الأول للمجتمع المشاعي
إن ماركس قد عمد إلى أن يفنِّد أثناء انتقاده برنامج «جوتا» فكرة «لاسال» القاضية بأن يأخذ العامل في ظل الحكم الاشتراكي كل ما ينتجه من عمله، وقد أسهب في هذا التفنيد إلى حد الإقناع التام، فأظهر أنه ينبغي محو المبالغ الاحتياطية والمبالغ المخصصة لتوسيع نطاق الإنتاج أو لتجديد الآلات المستهلكة في المصانع، إلى غير ذلك، وكذلك إبطال كل المبالغ المخصصة للإنفاق على الإدارة وعلى المدارس وعلى المستشفيات وعلى دور العجزة، إلى غير ذلك.
فبدلًا من ذلك الشكل الحائر المبهم العام الذي يتخيره لاسال كمرحلة أولى للمجتمع الاشتراكي في قوله: «للعامل كل ما ينتجه من عمله»، ويعرض ماركس ميزانية محكمة للعمل المحكم الذي ينبغي أن تقوم به الهيئة الاجتماعية الاشتراكية.
إننا في حاجة هنا إلى أن نتكلم (أي في تحليل برنامج حزب العمال) لا على مجتمع مشاعي تام مرتقٍ طبق مبادئه الخاصة، بل على مجتمع لم يكد ينفصل من المجتمع رأس المالي إلا حديثًا، وهو لا يزال تحت التأثر بكل العوامل والروابط الاقتصادية والأدبية والفكرية التي استعارها من الهيئة الاجتماعية القديمة الذي تخرج منها، وهو لا يزال محتفظًا بها إلى الساعة الأخيرة.
فهذا المجتمع المتولد حديثًا من الهيئة الاجتماعية رأس المالية، الذي لا يزال محتفظًا بكل الصبغات التي استعارها منها، ولا يزال محتفظًا بها بحكم رسوخ العادات في نفوس الأقوام، هو الذي يتخذ منه ماركس الشكل الأول أو الدرجة السفلى من المجتمع المشاعي.
فوسائل الإنتاج لم تعد كما كانت من قبل ملكًا خاصًّا للأشخاص، بل لقد تحول إلى ملكية المجتمع العام بأسره، فكل عضو من المجتمع يقوم بقسم خاص من العمل اللازم للهيئة الاجتماعية جمعاء يعطيه المجتمع شهادة تثبت أنه قام بتأدية مقدار معين من العمل.
وبمقتضى هذه الشهادة يأخذ من المخازن العامة مقادير من مطالبه المتنوعة، تعادل مقدار ما أنتجه، وبهذه الطريقة يكون الحساب مرتبًا بطريقة تجعل كل عامل يأخذ من حوائجه بمقدار ما يودع من مصنوع يده في الصندوق العام؛ أي إنه يأخذ من الهيئة الاجتماعية بمقدار ما يعطيها.
وعلى هذا النمط تحدث مساواة عامة ظاهرية.
ولكن حينما يكون أمام النظر النظام الاجتماعي المسمى عادة بالاشتراكية، والذي يسميه ماركس بالشكل الأول من المشاعية أو درجتها الأولى، فإن «لاسال» يقول عنه في مقام القسمة العادلة في استعمال الحق العادل الذي لكل إنسان بمقتضاه أن يأخذ من صنعة يده بمقدار قيمة عمله، فإن «لاسال» يكون واهمًا في تصوره، وماركس يوضح له هذا الوهم المصحوب بالشطط.
يقول ماركس في هذا الصدد: إن الحق العادل موجود لدينا الآن بالفعل، ولكنه ليس إلا ذلك الحق المالي الممتاز الذي لا يمكن اعتباره إلا ككل حق آخر غير عادل، فكل حق يُراعى في تأديته وجود نظام وحيد يشمل أناسًا مختلفي الدرجات والمواهب والأعمال لا يكون قائمًا على المساواة ولا على الإنصاف فيما بينهم، وعلى ذلك يكون الحق العادل على طريقة «لاسال» هو اعتداء على المساواة وظلم بحت.
وفي الواقع إن كل إنسان يستلم في مقابل حصة معينة من العمل الاجتماعي حصة معادلة لها من الإنتاج الاجتماعي، ولكن الأشخاص غير متساوين، فإن أحدهم أقوى من الآخر، وآخر منهم أضعف من سواه، وأحدهم متزوج وسواه ليس كذلك، وهذا له عدة من الأطفال وذاك ليس لديه شيء منهم، إلى غير ذلك.
فباتباع قاعدة العمل المتعادل، وبالجملة بتوزيع المطالب العامة الموجودة في الصندوق العام بطريقة متساوية بين الجميع، فإن أحد الناس يأخذ في الحقيقة أكثر مما يتناوله الآخر، فيصير إذن أغنى من جاره، وهلم جرًّا، ولاجتناب كل هذا فعوضًا عن تعميم المساواة يجب أن يكون الحق غير متساوٍ.
وبالجملة فإن الشكل الأول للمشاعية لا يمكن أن ينتج العدل والمساواة؛ إذ يظل هنالك اختلاف في الثروات واختلاف في المظالم، ولكن الذي سيكون مستحيلًا وجوده هو استثمار مجهود إنسان بواسطة إنسان؛ لأنه لن يوجد شخص يستطيع أن يستولي على وسائل الإنتاج من مصانع إلى آلات إلى أرض زراعية إلى ملكية عقارية خاصة.
إن ماركس بإنحائه على جملة «لاسال» المتأثرة بالصبغة المالية، التي يتكلم فيها عن عدم المساواة والإنصاف بوجه عام، يظهر طريقة نمو وترقي للمجتمع الاشتراكي المجبر على الشروع في الاقتصار على الاستئصال، هذا الإجحاف الذي كان سببًا في استيلاء أفراد من الناس على وسائل الإنتاج، والعاجز عن أن يستأصل دفعة واحدة، هذا الإجحاف العامل على توزيع الحاجيات بحسب مقدار العمل، وليس بحسب احتياج الناس إلى هذه الحاجيات.
جملتهم أن الاقتصاديين العاديين ومن بينهم الأساتذة الماليون، وفي صاحبنا توجان يوالون مؤاخذة الاشتراكية على تناسيهم ما يوجد بين الناس من عدم المساواة، وعلى ما يحملون به من عدم المساواة، وعلى ما يحملون به من إبطال هذا التفاوت، وأن هذه المؤاخذة لتدل على تعمق حضرات الفلاسفة الماليين في الجهل المطبق؛ إذ لم يقتصر ماكس على الاهتمام العظيم بهذا التفاوت الذي لا يمكن اتقاؤه، بل لقد اهتم بالمثل بمسألة أخرى مرتبطة بالمسألة المتقدمة، وهي أن انتقال وسائل الإنتاج إلى الملكية العامة لكل الهيئة الاجتماعية؛ أي إلى ملكية الاشتراكية بالمعنى العادي لهذه الكلمة لا يزيل بمفرده عيب التوزيع وعدم المساواة المتمكن من «الحق المالي»، ذلك العيب الذي سيظل سائدًا على حقوق الناس ما دامت طريقة توزيع المحصولات جارية «بحسب مقدار العمل».
غير أن هذه العيوب يستحيل التخلص منها في أول شكلي الهيئة الاجتماعية المشاعية الذي تتشكل به بعد الآلام الطويلة التي تعانيها من جراء تولدها من الهيئة الاجتماعية رأس المالية، ولن يستطيع الحق أن يكون أقوى من الحكم الاقتصادي، ولا من نمو المدنية المرتبطة بهذا الحكم.
وبمقتضى ما تقدم يمكن القول بأن «الحق المالي» يزول في أول شكلي الهيئة الاجتماعية المشاعية المطلق عليها عادة لقب الاشتراكية، إلا أن زواله لا يكون كاملًا بل جزئيًّا فقط بحسب ما تسمح به حالة الثورة الاقتصادية؛ أي لا يتعدى دائرة وسائل الإنتاج، وهذه الوسائل الإنتاجية يعتبرها «الحق المالي» ملكية خاصة للأفراد، وأما الاشتراكية فتحولها بالفعل إلى ملكية عامة، وفي دائرة هذا الاختلاف فقط يزول الحق المالي.
ولكنه لا يزال باقيًا في مهمة الأخرى، فهو يبقى بصفته منظمًا موزعًا للمحصولات، ومقسمًا للأعمال ما بين أعضاء المجتمع العام «أن من لا يعمل لا ينبغي له أن يأكل»، وهذا المبدأ الاشتراكي قد صاره تنفيذه بالفعل؛ «لكل قسم معين من العمل نصيب يعادله من المحصولات»، وهذا المبدأ الاشتراكي الثاني قد تنفذ بالمثل، ومع ذلك فإن هذا لا يؤدي إلى نهوض المشاعية، ولا يقضي على البقية الباقية من «الحق المالي» الذي يعطي قيمًا متساوية من المحصولات لأشخاص غير متكافئين نظير قيامهم بأعمال غير متعادلة بالمرة.
ففي هذا الصدد يقول ماركس إن هذا عيب، ولكن غير ممكن تجنبه في شكل المشاعية الأول؛ لأنه لا يجب أن يبرح عن بالنا بأن تغير أطوار الناس لا يحدث بمثل السهولة التي يمكن تصورها، فليس من الميسور أن يعتاد الناس على أثر انقلاب رأس المالية على أن يعملوا لأجل المجتمع العام بغير الالتجاء إلى قاعدة الحقوق الشخصية، إن تعطيل رأس المالية لا ينتج فجأة المقدمات والأدلة الاقتصادية التي تساعد على مثل هذا التحول السريع.
فإذا تقرر هذا يمكن التدرج منه إلى القول بعدم وجود قواعد أخرى سوى ذلك «الحق المالي»، وهذا هو الباعث المهم على ضرورة وجود حكومة بمحافظتها على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، تحافظ على المساواة في العمل، والمساواة في توزع المحصولات.
فالحكومة إنما تفنى حينما لا يبقى أثر لرأس الماليين، ولا توجد طبقات متعددة، وبالاختصار حينما لا تبقى أدنى حاجة إلى إخماد أو إخضاع طبقة ما.
ولكن الحكومة لا تكون قد زالت من عالم الوجود تمامًا بعد كل ما تقدم؛ إذ يبقى أمر المحافظة على «الحق المالي».
ولكي لا يبقى للحكومة ظل في الوجود يجب تعميم المشاعية الكاملة.
(٤) الشكل الأتم للمجتمع المشاعي
حينما يتكامل شكل المجتمع المشاعي، وحينما يزول خنوع الإنسان لمبدأ تقسيم العمل الاستعبادي، وحينما يتلاشى التعارض الحادث بين العمل الجسدي والعمل العقلي، وحينما ينتقل العمل من كونه مجرد وسيلة لاكتساب القوت إلى أن يصير المطلب الأول في الحياة، وحينما يؤدي نمو العمل وسمو الفكر الإنساني إلى تعاظم القوى المنتجة حتى تصبح بسائر منابع الثروة العامة فائضة بسيول الخيرات المنهمرة، هنالك فقط يمكن تخطي دائرة الحق المالي الضيقة، ويستطيع المجتمع العام أن يطرز علمه الخفاق بهذا الشعار: «من كل إنسان بمقدار كفاءته إلى كل إنسان بمقدار احتياجه.»
فالآن يمكننا أن نقدر ملاحظات إنجيل الصائبة حق قدرها بما تخللها من عبارات التهكم والسخرية والاستخفاف على ذلك الاتحاد الذي يربط ما بين كلمتي حرية وحكومة، فما دامت الحكومة موجودة لا سبيل إلى وجود الحرية، حتى إذا ما سادت الحرية فلا سبيل إلى وجود الحكومة.
إن آخر ظل من ظلال الاقتصاد الحكومي، يؤذن ظهور المشاعية في درجة من الرقي والنمو تساعد على اختفاء كل معارضة ما بين العمل العقلي والعمل الجسدي؛ أي على نضوب أحد المنابع الأصلية لعدم المساواة في الهيئة الاجتماعية المعاصرة، وهو المنبع الوحيد الذي مجرد انتقال وسائل الإنتاج إلى الملكية العامة، ومجرد انتزاع سائر أملاك وأدوات رأس المال من الماليين عاجزان عن إبطاله نهائيًّا.
إن هذه الملكية العامة تيسر أسباب تعاظم القوى المنتجة إلى درجة هائلة، ولو صار إنعام النظر فيما وصلت إليه الحضارة في عصرنا هذا من الرقي والانتشار، بما أنتجته وسائل الإنتاج من محصولاتها العظيمة، التي لا ننكر أن لرأس الماليين دخلًا عظيمًا فيها، لأمكن الحكم بأن هذه الوسائل التي هي الآن بين أيدينا وتحت تصرفنا بالفعل، لو تم انتزاعها من المحتكرين المستغلين وآلت ملكيتها إلينا نحن العمال؛ أي إلى الهيئة الاجتماعية عامة لما استطاع العقل البشري أن يتصور مقدار التحسين والرقي اللذيْنِ يمكننا أن ندخلهما على هذه الأدوات المنتجة لتصبح قواها متضاعفة بدرجة فوق التصور بما لنا من ميزة الخبرة وقدرة العمل.
وحينئذ تتمتع الجمعية الإنسانية بأوفر قسط من الراحة والسعادة في هذا الوجود.
ولكن الذي لا يمكننا أن نعرف أو لا نصدر رأيًا محكمًا، بل تقريبيًّا فيه، هو مقدار السرعة التي سيحدث بها هذا النمو والرقي عندما يصير استئصال مبدأ تقسيم العمل، وعندما تزول أسباب التعارض ما بين العمل الذهني والعمل الجثماني، وعندما يصبح العمل المقصد الأسمى من الحياة.
وهذا هو السبب في أنه لا ينبغي لنا أن نتكلم في مسألة فناء الحكومة، الذي لا سبيل إلى تخلصها منه بدون أن نربط هذه المسألة بالسرعة التي يتمشى بها الرقي والنمو الاجتماعيَيْن إلى مرحلة الشكل الأتم للمشاعية.
فالمسألة إذن تظل مفتوحة الباب تحت طائلة البحث، ما دامت مدة الوصول إلى هذا الشكل غير ممكن تحديدها، وما دام تلاشي آخر ظلال الحكومة متوقف على سرعة مجيء ذلك الشكل أو تباطئه.
إن الحكومة يمكنها أن تختفي بتاتًا من عالم الحس عندما تنفذ الهيئة الاجتماعية ذلك المبدأ الجليل القائل: «من كل إنسان بمقدار كفاءته إلى كل إنسان بمقدار احتياجه»؛ أي عندما يصير الاعتياد على مراعاة القواعد الأساسية للحياة الاشتراكية، وعندما يصير العمل في درجة من الإنتاج يجعل كل إنسان يشتغل بمقدار كفاءته ومجهوده.
وحينئذ يمكن تخطي تلك الدائرة الضيقة المندمج فيها الحق المالي الذي يضطر كل عامل إلى أن يحسب حسابه على طريقة شيلوق: «ألم أشتغل نصف ساعة أكثر من جاري؟ ألم يتناول جاري أجرًا أكثر مما تناولته أنا؟» إذ تختفي كل هذه المساءلات من نفوس العمال، هنالك لا ينظر المجتمع العام في توزيع المحصولات إلى المقادير الناتجة منها، ولا إلى ما ينتجه كل عامل على حدة، فيصير كل إنسان غير مقيد فيما يُستعاضاه بمقدار من الزمن أو بكَمٍّ معين من العمل، بل يأخذ كل إنسان ما تقتضيه حاجته من مطالب الحياة.
أما الماليون فوجهة نظرهم في هذه المسألة تحملهم على أن يعتبروا حلها بهذه الطريقة الاجتماعية «محض خيال»، ويسخرون بما يعده الاشتراكيون من إعطاء كل إنسان ما يريده بغير مراقبة عليه في عمله، فيزودونه بالرياش والأتوموبيلات والبيانوات إلى غير ذلك.
ولا يزال إلى هذا الساعة علماء الطائفة المالية يستغرقون أوقاتهم في التشاغل بهذه السخرية التي جعلتهم هم موضع الهزؤ والاستخفاف، وكشفت النقاب عن جهلهم، وعن دفاعهم الأعمى المغرض عن رأس المالية لأجل مصلحتهم الخاصة.
ومن جهلهم؛ لأنه لا يوجد اشتراكي يندفع إلى حد أن يتنبأ بتولد الشكل الأتم للاشتراكية، عندما يرون علماء الاشتراكية الكبار يتكلمون في هذا الشكل المشاعي ومجيئه يومًا ما، يفرض أولئك الجهلاء وجود عالم آخر مشتمل على قوة منتجة أخرى من العمل غير القوة العاملة اليوم، وعلى رجل آخر غير الرجل الذي يعمل اليوم، يكون أكثر منه كفاءة وعلمًا كتلاميذ بوميا لوفسكي، فيجوس خلال مظاهر الثروة العامة بدون أن يتطلع إليها إلا بحسب ما تقتضيه حاجته، وهم — أي أولئك العلماء الماليون المعربون عن جهلهم — يفرضون وجود المستحيل بتصورهم هذا الذي لا تذهب إليه أحلام الاشتراكية.
وإلى أن يجيء دور الشكل الأتم للمشاعية، يظل الاشتراكيون مطالبين بإبقاء الرقابة الشديدة من جانب المجتمع، ومن جانب الحكومة على طريقة العمل المؤدى، وعلى طريق توزيع المطالب الحاجية، إلا أن هذه الرقابة المطلوبة يجب أن تبتدئ بانتزاع الملكية الخاصة من حوزة رأس الماليين، وأن تكون الرقابة نفسها من جانب العمال على الرأسماليين، وأن لا تكون بواسطة حكومة الموظفين؛ بل بواسطة حكومة العمال.
إن دفاع متكلمي الماليين المغرض؛ أي المبني على الاستفادة الشخصية «وذيولهم المصفقين والمهللين لهم من أمثال تشيرنوف وتسيريتيللي وشركائهما» منحصر في نقل قوة البحث والجدل من الفكرة الأساسية، وهي التكلم عما ستكون عليه المشاعية؛ أي الهيئة الاجتماعية العامة في المستقبل إلى المناقشة في إمكان نزع الملكية، وإبطال الحكومة ووضع الأعمال تحت مراقبة العمال، وتحويل أبناء كل بلد إلى عمال ومستخدمين تضمنهم نقابة كبرى، وبالجملة في التكلم عن أنظمة الهيئة الاشتراكية الحاضرة القائمة على مثال حكومة السوفيت ونوابها وعساكرها المنتدبين من العمال، فيخرجون المواضيع الأساسية عن طبيعتها واختصاصها الأولين.
وفي الواقع فإنه عندما يتكلم أستاذ من الجهابذة، ويتابعه الجمهور البسيط، وإلى جانبهما تشيرنوف وتسيريتيللي عن الحماقات والأوهام التي لا معنى لها، الواردة في وعود وأماني البولشفيين، وعن استحالة ترقية الطبقة العامية، أو بالأحرى ترقية الاشتراكية يرقيها إلى درجة الحكم، فإنهم إذ ذاك يكون نُصْبَ أعينهم وإزاء أفكارهم شكل المشاعية الأتم الذي لم يقل أحد من الاشتراكيين الصادقين، أو من الذين يعملون بإخلاص لمصلحة الهيئة الاجتماعية، ومن غير غرض أن هذا الشكل قابل للتحقق، وأن يسود العالم في الوقت الحاضر، بل لم يحلم بمثل هذا أحد من الناس.
وهنا نتعرض لمسألة التمييز من الوجهة العلمية ما بين الاشتراكية والمشاعية، وهي المسألة التي تعرض لها إنجيل في بيانه السابق عن عَدِّك اختصاص كلمة الديمقراطية بما أطلقت عليه، فمن الوجهة السياسية يمكن القول بأن الفرق ما بين شكلي المشاعية الأول والأخير سيكون بلا شك هائلًا مع مضي الزمن، أما في الوقت الحالي؛ أي تحت الحكم رأس المالي، فمن العبث القول به، ولا يجرؤ على أن يضعه في الصف الأول إلا أفراد من الفوضويين «إذا كان يوجد بين الاشتراكيين أناس لم يتلقنوا العلم النظري على طريقة بليخانوف وكروبوتكين وجراف وكرنيليسين وسواهم من كواكب الاشتراكية المشتملة على الاشتراكيين الوطنيين، أو على أولئك الفوضويين المتحصنين على رأي جاي الذي يُعتبر من آحاد الفوضويين نادري المثال الذين ظلوا محتفظين بالشرف وبالضمير».
على أن الفرق ما بين الاشتراكية والمشاعية واضح، فما يسمى عادة بالاشتراكية يلقبه ماركس بالشكل الأول أو الدرجة السفلى للمجتمع الاشتراكي، وعندما يتيسر جعل وسائل الإنتاج ملكًا مشاعًا للجميع فإن لفظ المشاعية يصير قابلًا لإطلاقه على الهيئة الاجتماعية على شرط عدم تناسي أن المشاعية إذ ذاك تبقى ناقصة.
وإن أهم ما في إيضاح ماركس الذي بسطه في هذا الصدد، هو محافظته على المدلول الحسي كاحتفاظه بالمدلول النظري للمشاعية، التي يعتبرها كشيء يبتدئ وضوحه من عند انتهاء رأس المالية.
فعوضًا عن التعبيرات المدرسية المصطنعة والمخترعة، وبدلًا من المحاورات اللفظية العقيمة في الأسئلة المتعددة على نمط «ما هي الاشتراكية؟ وما هي المشاعية؟» يحل ماركس ما يمكن أن يطلق عليه درجات النضوج الاقتصادي للمجتمع المشاعي.
فالمشاعية في شكلها الأول أو في مرحلتها الأولى، لا يمكنها أن تكون من الوجهة الاقتصادية ناضجة تمام النضوج، ومتمتعة بتمام الحرية من قيود التقاليد والأحكام رأس المالية.
ومن هنا ينشأ ذلك الأمر المهم الذي يدعو إلى البقاء في اعتقال دائرة الحق المالي الضيقة من جهة توزيع الحاجيات، فإن الحق المالي يتطلب بالطبع وجود حكومة مالية؛ لأن الحق لا أثر له بدون جهاز قادر على إلجاء الناس إلى مراعاة قواعده.
وينتج مما ذكرنا أن الحق المالي يظل ثابتًا في عهد المشاعية مدة من الزمن، ولا يكون منفردًا، بل تكون إلى جانبه الحكومة المالية، ولكن بدون أن توجد إلى جانبهما هيئة الأعيان والماليين.
وعلى ذلك فيمكن اعتبار ما يؤاخذ به المذهب الماركسي كإحدى الأعاجيب أو كضرب من التلاعب بالعقول؛ لأن الأشخاص الذين يتعرضون إلى هذا المذهب إنما يحاولون التصدي له، بل مهاجمته وهم لم يُنعِموا النظر في معانيه، ويجيلوا الفكر في حقائق مبادئه ليقفوا على ما فيها من المحتويات الخارقة للعادة.
غير أن الحياة ترينا في كل خطوة وفي تفاريق الطبيعة وفي خلال الهيئة الاجتماعية أطوار العهد القديم وتقاليده منبثة في العهد الجديد ومتشبثة بأهدابه.
وما كان ماركس ليدخل النذر القليل من الحقوق المالية في المشاعية بمجرد فكرته وإرادته، وإنما عمد إلى إثبات ما لا سبيل إلى التخلص منه من الوجهتين الاقتصادية والسياسية في مجتمع عام لم يكد ينفصل من أحضان رأس المالية.
إن للديمقراطية دخلًا عظيمًا، وأهمية هائلة في الصراع الذي ستناجز به الطبقة العاملة أرباب رءوس الأموال لتغلبهم على أمرهم، وتنفض عنهم نير استرقاقهم، غير أن الديمقراطية ليست حدًّا يمكن الوقوف عنده ولا يجوز تخطيه، وإنما هي فقط مرحلة تُقطع للوصول من العهد الإقطاعي إلى العهد رأس المالي، ثم تعود فتصير مرة أخرى مرحلة أيضًا تقطع من رأس المالية إلى المشاعية.
إن الديمقراطية يراد التعبير بها عن المساواة، ومن المعلوم أن هيئة العمال تجعل أهمية عظمى لصراعها المتوالي الحاد في سبيل الحصول على المساواة، فكان لا بد إذن من إدراك مبدأ المساواة على حقيقة معناه التي يراد بمقتضاها محو الفروق الموجودة بين بعض الطبقات وبعضها.
غير أن لفظة ديمقراطية لا يراد بها في المتعارف الآن سوى المساواة الصورية، أما بعد تحقيق المساواة ما بين جميع أعضاء المجتمع العام فيما يختص بالتمتع بوسائل الإنتاج؛ أي بمساواة العمل والأجر، تنهض لسوء الحظ في وجه الإنسانية مسألة ترقية المساواة الصورية المساواة إلى الحقيقية القائمة على أساس مبدأ «من كل إنسان بمقدار كفاءته إلى كل إنسان بمقدار احتياجه»، وهنا نقف موقف الحيرة متسائلين بأية الطرق وفي كم مرحلة تتمكن الإنسانية من الوصول إلى هذا الأمل الاسمى؟ فلا يجري على ألسنتنا جواب في هذا الصدد سوى قولنا إننا لا نعلم ولا نستطيع أن نبدي رأيًا ولو من قبيل الحدس والتخمين يمكن حل هذه المسألة بموجبه.
إلا أن هذه المسألة وأمثالها مما لا يتيسر الإجابة عليها في هذه الأوقات ليست النقطة الهامة؛ لأنها لا تزال حتى اليوم في عداد الأماني، وإنما المهم الذي يتطلب السعي الموصول هو استئصال الفكرة التي يرمي أرباب رءوس الأموال والعيان إلى غرسها في نفوس الجماهير البسيطة، التي لا تستطيع أن تحاكم في نفسها كل ما يُلقى عليها لتصدر حكمها إنْ صوابًا وإن خطأ، تلك الفكرة الخطرة التي تحاول محاربتها والتغلب عليها ما تشيعه الفئة المالية من أن الاشتراكية مجموعة آراء وأعمال لا تطابق مصالح الجمهور الأكبر وتقاليده وعوائده الراسخة من قديم الزمان، وأنها بصفتها شيئًا مبتدعًا تلبث مدة قصيرة من الزمن، ثم يتغلب عليها الضعف فيدركها الموت، نعم هذه الفكرة الخطرة هي التي يجب أن نبين للجمهور الأكبر فسادها، وعدم مطابقتها للحقيقة بإفهامه أوجه الغَبْن اللاحق به، وبإعلامه أن الطرق العادلة التي يراد إنصافه بها من الطبقة الصغيرة المتحكمة فيه بطيئة السير؛ لأنها تغالب بالطبع العوائد والتقاليد القديمة، وتعمل على محو الأفكار الراسخة من مدد طويلة في الأذهان، فهي إذن تبتدئ بالعقول المستنيرة من غير ذوي المطامع الشخصية، ثم لا تلبث أن تعم سائر الأهالي بلا استثناء.
إن الديمقراطية هي أحد أشكال الحكومة، أو بالأحرى هي أحد تنوعاتها، فهي إذن بحكم التصاقها بالحكومة تُعتبر كالحكومة نفسها؛ الوظيفة المنظمة المرتبة على أسلوب خاص للاضطهاد والضغط على الناس، هذه صفتها من جهة، ولكنها من جهة أخرى تعتبر الاعتراف الظاهري بحق المساواة بين جميع أبناء البلد الواحد، وبحقهم جميعًا في التساوي في تعيين حدود مهمة الحكومة وفي إدارتها.
ثم ينشأ عن الديمقراطية وهي في شكلها الصوري الموضح فيما تقدم أنها تستجر في خطاها التي تخطوها في سبيل التقدم والنمو طبقة العمال الثائرة للتجمهر ضد رأس المال، وتهيئ لها الوسيلة التي تكسر بها آلة الحكومة المالية وتدمرها وتعفي آثارها كائنًا ما كان شكل الحكومة ملكية أو جمهورية، وتعفي آثارها وبوليسها وموظفيها، والاستعاضة عنها بآلة حكومية أعظم ديمقراطية لا تظل كسابقتها آلة حكومية بالشكل المعروف تحت ظل طبقات العمال المسلحة التي تعد الشعب لأن ينتظم في شكل قوى محلية مسلحة.
وهنا بتحول المسألة من المقدار إلى الصفة تصل الديمقراطية إلى الدرجة التي تخرج فيها من نطاق المجتمع المالي لتندمج في الهيئة الاشتراكية، فإذا كان الجميع يشتركون حقيقة في إدارة الحكومة، فإن رأس المال لا يمكن أن يستقر له قرار، مع أن تقدم رأس المال ونموه يسمحان بأن يشترك الجميع اشتراكًا فعليًّا في إدارة الحكومة، وهذه الطريقة قد بدأت تتحقق في كثير من البلاد المنتشرة في أرجاء العالم بواسطة النقابات العاملة المتألفة في دوائر البريد والسكك الحديد والمصانع الكبرى والتجارة العظمى والمصارف المالية إلى غيرها من الدوائر المالية، التي انتظمت فيها النقابات العاملة التي تمثل الهيئة الاشتراكية في خطواتها الأولى.
وبواسطة هذه الترتيبات الاقتصادية يصبح من المستحيل إسقاط الماليين والموظفين فجأة من غير سابقة مقدمات، والتوصل إلى وضع الرقابة العامة على الإنتاج وعلى توزيع المحصولات، وعلى ترتيب العمل بواسطة العمال المسلحين، ومجموع الشعب المتقلد سلاحه «لا يجب الخلط بين مسألة المراقبة والحساب ومسألة العمل الفني المختص بالمهندسين والميكانيكيين وسواهم، إن هؤلاء الاختصاصيين الذين يشتغلون اليوم تحت أوامر الماليين، سيشتغلون غدًا أحسن من اليوم في ظل نظام العمال المسلحين».
إن عمليتي الحساب والمراقبة هما الشرطان الجوهريان اللازم إدخالهما في هيئة التوظيف المنتظمة في المجتمع المشاعي أثناء شكله الأول، فأبناء كل بلد يتحولون إلى مستخدمين ذوي أجور عادية في الحكومة المتمثلة في العمال المسلحين، وكل أبناء البلد يصيرون المستخدمين والعمال والمنتظمين في سلك حكومة احتكارية لمصلحة الجميع.
فالمسألة تتوقف فقط على التمكن من أن يشتغلوا بصبغة رسمية، وأن يحافظوا على نفس طريقة العمل ويأخذوا مرتبًا رسميًّا.
وهذه المسالة قد تم الشطر الأكبر منها بمعرفة أرباب رءوس الأموال، الذين لأجل تسهيل حصر ودقة حساباتهم وأعمالهم الجسيمة توصلوا إلى أن يجعلوا العمليات الكبيرة التي كانت تقتضي تركيبًا معقدًا يحتاج إلى أيدٍ كثيرة فيما مضى يصبح الآن مقصورًا على مجرد إشراف سطحي وتفتيش بسيط وعمليات حسابية ما بين إعطاء الإيصالات وتقييدها في دفاتر تحصر كل الأشياء الخارجة وقيمها الداخلة، وهذه العمليات البسيطة ليستطيع أن يقوم بها كل إنسان يعرف القراءة والكتابة فقط «حينما تصير الحكومة عبارة عن مجرد وظائف جوهرية، تنحصر في مسألتي قيد الحسابات ومراقبة الأعمال بواسطة العمال أنفسهم، لا تصبح حكومة سياسية ذات الوظائف السياسية كما كانت من قبل، بل تصير عبارة عن مجموعة وظائف إدارية بسيطة».
وأما من جهة السواد الأعظم من الشعب فإنه عندما يقوم من تلقاء نفسه وفي كل مكان بعمليتي الحسبة والمراقبة على أرباب رءوس الأموال «الذين سيتحولون حينئذ إلى مستخدمين»، وعلى حضرات السادة المفكرين أي الاختصاصيين الذين يكونون إلى ذلك الحين حافظين بعض بقايا التقليد المالية السالفة، فإن هذه المراقبة تصير حقيقة عامة ووطنية؛ أي إنها تشمل جميع أبناء الوطن وكل موارده، فهنالك لا تبقى حاجة لأن ينفرد أناس مخصوصون بأمر المراقبة، بل لا تبقى حاجة إليها مطلقًا؛ لأن كل إنسان لا يعرف في أي شيء يستخدمها ما دام كل وطني قائمًا من تلقاء نفسه بعمله بانتظام، وجاعلًا من نفسه على نفسه وعلى غيره رقيبًا عتيدًا.
وفي هذه الحالة تنقلب الهيئة الاجتماعية بأسرها إلى مصلحة أو مكتب عظيم، وإلى مصنع كبير تتساوى فيه وحدة العمل ووحدة الأجر ما بين جميع الذين يشتغلون أو يراقبون أو يحسبون.
على أن هذه المساواة وهذه الطاعة الاختيارية العامة اللتين تسودان جميع أجزاء ذلك المصنع العظيم عندما يصبح الماليون مغلوبين على أمورهم، والمستثمرون مسلوبة من أيديهم طرق الاستثمار، والهيئة العاملة شاملة جميع فروع الهيئة الاجتماعية، ليستا الغرض الأسمى والنقطة النهائية اللذين نسعى إليهما، وإنما هما خطوتان نخطوهما في حالة التطور الضروري الذي ننقِّي به المجتمع العام بطريقة مناقضة للطرق التي كانت موجودة قبلها من أدران النقائص والأقذار التي تلطخ كيان الاستقلال المالي، وليسهل بعد ذلك على الديمقراطية السير في الطريق الرحبة الهينة الممتدة إلى الأمام.
وعندما يغدو جميع أعضاء الهيئة الاجتماعية أو على الأقل الأغلبية العظمى منهم عالمين بإدارة الحكومة من تلقاء أنفسهم بكفاءة، وبأن يضعوا أيديهم على سائر الأشياء وينظموا رقابتهم على تلك الأقلية الحقيرة وهي فئة الماليين، وعلى أولئك السادة القلائل المغرمين بالمحافظة على التقاليد المالية البائدة وهم الاختصاصيون، وعلى العمال الذين أفسد أخلاقهم حبهم للمال، وجعلهم عبيدًا لرأس المال، فهنالك فقط تُتقى آثار الحاجة إلى كل نوع من أنواع الإدارة.
وكلما ازدادت الديمقراطية اقترابًا من درجة الكمال، كلما ازداد أجلها دنوا من الفناء؛ إذ لا تعود الهيئة الاجتماعية في حاجة إليها، وكلما ازدادت الحكومة المؤلفة من العمال المسلحين الذين يتألفها منهم تبتعد بحكم الواقع أنْ تكون حكومة بالمعنى الخاص بهذه الكلمة تشربًا بالديمقراطية، كلما ازداد اقترابها من عهد استئصال شأفتها؛ إذ لا يكون هنالك باعث على وجود النظام والترتيب ما دامت الهيئة الاجتماعية قائمة بطبيعتها بتأدية مصالحها بنفسها.
وعندما يصير جميع الناس بالفعل أكْفاء لأن يديروا إدارة حقيقية بدون وسطاء ولا رؤساء الإنتاج الاجتماعي، وعندما يقومون جميعهم بالفعل بأعمال الحسابات والرقابة التي كانت تقوم بها تلك الأعضاء المتطفلة على وجود الهيئة الاجتماعية تَطَفُّلَ الأبناء المدللين على أبيهم، وأولئك المنافقون المراءون وأمثالهم المتسمون باسم المحافظين على التقاليد المالية، هنالك يصير من المتعذر جدًّا بل من المستحيل الإفلات من طائلتَيْ عملية الحسبة والرقابة، وكل محاولة يقصد بها التخلص من مفعولهما تؤدي حتمًا إلى عقاب في منتهى القسوة والزجر؛ «لأن العمال المسلحين هم أناس عمليون، وليسوا مفكرين من ذوي العواطف، ولا يحبون أن يُستخف بهم وأن يمزح معهم»، حتى إن ضرورة التمسك بالقواعد البسيطة الجوهرية من معاملات الهيئة الاجتماعية الإنسانية تصير في أسرع وقت عادة متأصلة في نفس كل فرد لا يحاول التخلص منها.
هنالك ينفتح الباب على مصراعيه ليرحب بمقدم الشكل الأتم للمجتمع المشاعي، ذلك الشكل لا يكاد يظهر في الوجود حتى يتلاشى من عالم الوجود آخر مظاهر الحكومة بأطوارها ودرجاتها المتعددة التي ستتقلب بها في حجور الهيئات الاشتراكية المتنوعة أثناء انتقالها من حالة إلى حالة أخرى؛ إذ لا تعود حينئذ أقل حاجة لشبه ظل من ظلال الحكومة.