خامسًا: البقاء

(١) البقاء ثالث وصف للذات

البقاء هو ثالث وصف للذات بعد الوجود والقِدَم. فالوجود لا أول له ولا آخر، لا نهائي من البداية والنهاية، فإذا كان القِدَم يعني ما لا أول له، فإن البقاء يعني ما لا نهاية له. وقد لا يُذكَر البقاء ويكتفي بالوجود والقِدَم.١ مما يدل على ظهور هذه الصفات تباعًا بعد بناء نسق العقائد وتصورات الذات. وقد يظهر من الصفات المختلف عليها مع القِدَم والاستواء والوجه واليد والعينين والجنب والقِدَم والأصبع واليد والتكوين في نهاية الأوصاف الست مما يدل على بداية ظهوره وفرض نفسه في النسق.٢ وقد يذكر الآخر مع الأوَّل في «الأوَّل والآخر، الظاهر والباطن، القريب والبعيد» في عبارات إنشائية دون صياغات عقلية، مما يكشف عن بداية ظهور الصفة كنوع من المواجيد والعواطف والانفعالات حتى تستقر في النسق العقلي المتأخر.٣ وقد ارتبط في البداية بدليل الحدوث مثل صفتي الوجود والقِدَم. فيُذكَر البقاء بعد ذكر دليل الحدوث لأوصاف المحدث على أنها اسم فعل باقٍ، أي كائن مشخص قبل أن تتحول إلى وصف مجرد، بعد موجود، قديم، واحد، أحد.٤ ويذكر في صيغة إنشائية بعد القِدَم والأول على أنه لا آخر لدوامه دون صفة البقاء، مما يدل على أن التجربة سابقة على المصطلح.٥ وقد يذكر في التمهيدات بعد واجب الوجود مع استحالة الفناء.٦ وقد يُذكر في صيغة سلبية ضمن العشرين صفة على أنه استحالة طرد العدم أو إحالة العدم مما يدل على أنه وإن لم يكن وصفًا سلبيًّا إلا أنه من الأضداد، وأن السلب أصل الإيجاب، والتنزيه سابق على التشبيه.٧ ثم يظهر البقاء كمسألة مستقلة تدل على أن الوصف بدأ يتموضع ويُصاغ ويتفرد، ويتحول إلى وصف مستقل من مجرد تعبير إنشائي عن عواطف الإجلال والتعظيم.٨ وتتداخل صفة البقاء مع صفات المعاني السبع، وتظهر كصفة معنًى وليس كصفة ذات بعد صفات المعاني السبع وقبل صفات التشبيه.٩ وقد يأتي بعد الصفات السبع ولا يذكر منها إلا الوجود، وكأنه نتيجة للقديم فيما وجب قدمه وجب بقاؤه.١٠ ويثبت على أنه إثبات للمعاني وهو أن الذات باقٍ ببقاء، وعلى أنه قول الأشعري، وليس مما اتفق عليه الجميع وأنها صفة ثبوتية مختلف عليها.١١ ويظهر البقاء بعد أوصاف الذات وبعد صفات المعاني السبع وقبل الرؤية،١٢ وبعد صفات التنزيه والوحدانية. كما يظهر البقاء في مجموعة يدخل فيها قسم من الصفات السبع، وهي السمع والبصر والكلام والبقاء.١٣ ويظهر وصف باقٍ في مجموعة أخرى من الأوصاف في الإقرار بالتوحيد بعد أوصاف: موجود، واحد، ليس كمثله شيء.١٤ وفي أول إحصاء لأوصاف الذات في عشر يظهر البقاء على أنه ثالث وصف بعد الوجود والقِدَم.١٥ وقد يذكر البقاء بعد القِدَم بعد دخول الوجود في دليل الحدوث.١٦ وعندما يستقر البقاء النظري للصفات في ست وفي أحكام العقل الثلاثة وجعل ما يجب لله عشرون صفة يظهر البقاء كثالث وصف فيما يجب لله كما يظهر في نفي طرد العدم كثالث وصف فيما يستحيل على الله من الصفات العشرين المضادة. كما يذكر البرهان على وجوب البقاء. كما يظهر كأحد الأضداد الخمسة والعشرين، الفناء ضد البقاء.١٧ ويظهر أيضًا كثالث وصف في تفسير لا إله إلا الله على أنه المستغني عن كل ما سواه.١٨ وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة يظهر القِدَم والبقاء ونفي التركيب كأحكام الواجب.١٩
والأدلة على إثبات البقاء ليست منفصلة عن الأدلة لإثبات الوجود والقِدَم، فهو ثلاثي واحد.٢٠ كما لا تنفصل أدلة إثبات البقاء كصفة عن أدلته لإثباته زائدًا على الذات أو عين الذات، وهو السؤال الرئيسي في موضوع الصفات.٢١ أثبته الأشاعرة لأن الواجب باقٍ بالضرورة، فلا بد أن يقوم به معنى؛ لأن البقاء ليس من السلوب أو الإضافات، وليس الوجود بل زائد عليه، فالشيء قد يوجد ولا يبقى كالأعراض.٢٢ والحقيقة أن البقاء وإن لم يكن من السلوب وأن الصورة اللفظية له ليست منفية بلا أو ليس إلا أن البقاء من الأضداد عكس الفناء ويظل السلب أصل الإيجاب. وعند المعتزلة صفة ليست زائدة على الوجود لأنه استمرار للوجود، ولأنه لو كان باقيًا بالبقاء لما كان واجب الوجود لذاته.٢٣ وهناك حجتان لنفي صفة البقاء زائدة على الذات، الأولى أنه لو احتاج إلى الذات لزم الدور وإلا لكان الذات محتاجًا إليه وكان مستغنيًا عن الذات فكان هو الواجب دون الذات.٢٤ وقد حاول البعض التوسط فأثبتوا البقاء في الممكنات ونفوه عن «الله».٢٥ والدليل على البقاء أنه لو لم يكن موجودًا فيما لا يزال فهو أنه يستحق هذه الصفة لذات، والموصوف بصفة من صفات الذات لا يجوز الخروج عليها، وهذا هو تفسير الذات بالذات، وهو أقرب إلى التفسير بالطباع الذي ترفضه الأشاعرة.٢٦
وبصرف النظر عن إثبات البقاء كصفة زائدة على الذات أو هي عين الذات، فإن الذي يدل على البقاء عند جمهور المتكلمين هو أن كل واجب الوجود لذاته يستحيل عليه العدم؛ أي أن البقاء متضمن في مفهوم واجب الوجود، وبالتالي يكون تحصيل حاصل. ولو كان قابلًا للعدم لاحتاج إلى معدم والمحتاج المفتقر يكون محدثًا، وهذا في حقيقة الأمر هو إثبات الشيء عن طريق نفي الضد وهو برهان الخلف، ويظل دليلًا سلبيًّا كما أنه قد ينعدم لذاته بطبيعته دون ما حاجة إلى تشخيص علة فاعلة. ولو انعدم لذاته أو لإعدام معدم أو لطريان ضد أو لزوال شروط وكلها باطلة.٢٧ والحقيقة أن إبطال الانعدام هو تكرار للحجة السابقة. وهو يكشف عن تشخيص الأفكار بألفاظ الحاجة والعوز والفقر. وقد تكون الأدلة لإثبات استحالة العدم على القديم، أي استحالة الضد وارتباط القِدَم بالبقاء. فلو عدم فإمَّا أن يعدم لاستحالة بقائه، وهذا مُحال وإلا بطل القِدَم، أو أن يعدم لقطع أحداث البقاء فيه، وهو محال لأن «الله» ليس محلًّا للحوادث أو أن يعدم لطريان ضد عليه، وهو محال لأنه ليس أولى من عدمه في محله.٢٨ القديم إذن باقٍ، والباقي ليس إلا الموجود، والبقاء لا ينتفي بالضد، فإذا انتفى كان عدم بقائه أولى، والقديم لا ضد له، وأنه لا يوجد معدوم لذاته.٢٩ واضح من هذه الحجج أن الوجود والقِدَم والبقاء صفات متلازمة يصدر كل منها من الآخر استنباطًا كنسق عقلي محكم، يكشف عن أمور اعتبارية في الذهن أكثر مما يثبت موجودًا في الواقع بالفعل.

(٢) معنى البقاء

يعني البقاء ما لا نهاية له ولا آخر، ويرتبط ارتباطًا طبيعيًّا بالصفة الثانية. فالقديم ما لا أول له والباقي ما لا نهاية له.٣٠ والعجيب أن يخلط المتكلمون بين النهاية والغاية، فما لا نهاية عندهم يعني أنه ليس بذي غاية، فيتناهى ولا يجوز عليه الفناء، وكأن الغائية تعني التناهي في حين أن الغائية كقصد قد تكون لا متناهية. وعندما تتحقق الغاية قد يحدث التناهي وتقع النهاية، ولكن طالما أن الغاية لم تتحقق بعد فهي متصلة والبقاء مستمر، البقاء يسبق المكونات، ويبقى بعد جميع الفانيات، فهو الوجود المستمر الذي لا ينتهي ولا يتوقف، المستمر إلى ما لا نهاية، لا إلى غاية أو تحقق، الاستمرار المطلق.٣١ كما يُعرَف البقاء بأنه دوام الوجود واستحالة العدم.٣٢ ولكن المعنى الشائع هو عدم الآخرية للوجود. فكما أن القِدَم عدم البداية، فإن البقاء عدم النهاية، وكما أن القِدَم يعني ما لا أول له فالبقاء يعني ما لا آخر له، فهو الأوَّل والآخر، وما لا أول له لا آخر له بالضرورة.٣٣ ويعني الآخر أن يكون بعد فناء العالم، وأن يكون بعد فناء الدنيا وجميع العوالم الأخرى المستقبلة أو على الأقل بعد سكون الشيء، وأنه الباقي بعد أن يفنى كل شيء بلا تفضيل للعوالم. وهنا تظهر مشكلة فناء النعيم والعذاب وتشخيصهما في الجنة والنار. إن بقيا كما ينص على ذلك أصل الوحي فإنهما يشاركان «الله» في صفة البقاء، وإن فنيا عارض ذلك أصل الشرع. القول ببقائهما ضد تفرد الله بصفاته ومنها البقاء،٣٤ والقول بفنائهما ضد المنعم الذي يود النعيم الأبدي وفي صالح المعذَّب الذي سيُنقَذ من العذاب.٣٥ ويصعب الجمع بين المحلين عن طريق المشاركة في الصفة وعدم المشاركة. أمَّا كيفية الفناء بالقدرة أم بالطبيعة فذاك نقل لموضوع الطبيعيات من العلل المباشرة والعلة الأولى إلى مستوى الإلهيات.٣٦ وحرصًا على التفرد بالبقاء رأى البعض أن الفناء يجوز على الله ذاته كله أو بعضه، فلا يبقى إلا الوجه،٣٧ وقد دفع ذلك الأشاعرة إلى إثبات البقاء. لما كان «الله» محلًّا للحوادث، فإن الحوادث التي يحدثها في ذاته تكون واجبة البقاء، يستحيل عدمها. فلو جاز عليه العدم لتعاقبت على ذاته الحوادث ولشارك في الجوهر. ولو قدر عدمها فإمَّا أن يتم ذلك بالقدرة أو بإعدام يخلقه في ذاته. ولا يجوز بالقدرة لأنه يؤدي إلى إثبات المعدوم في ذاته وشرط الموجود المعدوم أن يكون متباينين لذاته، ولا يجوز بالقدرة من غير واسطة إعدام وإلا جاز حصول سائر المعدومات وجواز طرد ذلك في الموجد حتى يوجد موجد محدث في ذاته وهو محال. وكما كانت الكرامية أفضل رد فعل على وصف «الله» بالقِدَم فإنها أيضًا أفضل رد فعل على وصفه بالبقاء، مما يدل على ارتباط الوصفين معًا الثاني والثالث في نسق عقلي واحد. ولا يجوز بإعدام وإلا لجاز تقدير عدم ذلك الإعدام فيتسلسل.٣٨

فذات «الله» لا تخلو في المستقبل من حلول الحوادث فيه، وإن كان قد خلا منها في الأزل مثل قول أصحاب الهيولى كانت في الأزل جوهرًا خاليًا من الأعراض ثم حدثت فيها، فهي لا تخلو منها في المستقبل، وهذا يعني أن التاريخ مستمر، وأن الحوادث دائمة الوقوع، وأن «الله» هو الماضي والمستقبل في آن واحد، وأن تاريخ البشرية وحدة متصلة. وكما يحدث الماضي في «الله» كذلك يحدث في المستقبل ويصبح «الله» تاريخ البشرية وسجل تطورها، تقرأ فيه نفسها وتتعرف فيه على ذاتها. تاريخ تصورات الله هو تاريخ تدوين البشرية لذاتها.

وفي حقيقة الأمر أن البقاء من الأضداد، مرتبط بالفناء، ويعرف الضد بالضد كما يعرف الشبيه بالشبيه.٣٩ وأنها تجربة إنسانية معكوسة، فناء مقلوب. والبقاء أيضًا تجربة في الشاهد، وما البقاء كوصف للذات إلا قياسًا للغائب على الشاهد.٤٠ وكما يدل الأوَّل على مرتبة الشرف والكمال فإن الآخر يدل أيضًا على العظمة والجلال. فالشيخ الذي يعيش لآخر العمر مهاب، والذي يداوم ويصابر حتى النهاية عظيم. تعبيرات الأزلية والأبدية في الحديث عن صفات الله تعبيرات لا تدل على شيء موجود، ولا تشير إلى واقع فعلي، ولا تصدر حكمًا على موضوع، بل تعبر عن حالة الشعور وأماني الذات، أي أنها تعبيرات إنشائية أكثر منها خبرية، فلا يكفي الشعور أن يعزو إلى «الله» الصفات الأخلاقية، بل يعززها بصفات الأزلية والأبدية. لذلك رفض الفقهاء استعمال اللفظ كمصطلح في علم أصول الدِّين أو كاسم من أسماء الله لأنها مجرد تعبيرات لغوية للدلالة بها على انفعالات نفسية وشهادات وجدانية.٤١ البقاء تجربة إنسانية، البقاء للفكر بعد الموت، والبقاء للذكريات بعد مغادرة العالم، بقاء الإنسان في شعور الآخرين. والبقاء للمعاني والأفكار، فالحقائق لا تموت، والحقائق الثابتة باقية لا تتغير. البقاء للأفراد والأبطال الذين يخلدون، يعبر عن رغبة في الخلود، وباعث على قهر الموت والفناء. البقاء للأعمال الصالحة التي تتولد في العالم، للأثر الطيب الفعال، للسنة الحسنة التي تبقى في التاريخ بقاء الآثار. وهي المعاني الموجودة في تحليل لفظ البقاء في أصل الوحي. فلا يبقى الباطل ولا الزيف، ولا يبقى إلا الحق والشرع. البقاء للخير والرزق والصلاح والذرية والشعوب التي تقاوم الفساد في الأرض، أكثر مما هو وصف لذات «الله».٤٢
١  شرح الأصول الخمسة، المحيط.
٢  المواقف، ص٢٩٦-٢٩٧؛ غاية المرام، ص١٣٥-١٣٦.
٣  الإنصاف، ص٤٢.
٤  الإنصاف، ص١٨.
٥  الإنصاف، ص٣٣.
٦  أساس التقديس، ص٢.
٧  أصول الدِّين، ص٨١.
٨  الإنصاف، ص٣٧.
٩  أصول الدِّين، ص١٠٨-١٠٩؛ معالم، ص٥٨.
١٠  طوالع الأنوار، ص١٨٣؛ النظامية، ص٢٣. الرب مستمر الوجود (الإرشاد، ص٧٨، ص١٣٨–١٤٠، الكلام صفة البقاء).
١١  المحصل، ص١٢٦.
١٢  معالم أصول الدِّين، ص٥٨.
١٣  طوالع الأنوار، ص١٨٣.
١٤  الإنصاف، ص٢٣.
١٥  الاقتصاد، ص٢٢-٢٣.
١٦  في أنه سبحانه باقٍ سرمدي (المسائل، ص٣٤٣-٣٤٤).
١٧  كفاية العوام، ص٥٩-٦٠.
١٨  السنوسية، ص٢–٦؛ كفاية العوام، ص٣٥؛ العقيدة التوحيدية، ص٧؛ الباجوري، ص٣؛ الحصون، ص١٣؛ وكذلك باقي كتب العقائد المتأخرة، مثل: الجوهرة، الخريدة، جامع زبد العقائد، وسيلة العبيد، التحقيق التام، القطر المغيث.
١٩  رسالة التوحيد، ص٣١-٣٢.
٢٠  الإرشاد، ص٨٧.
٢١  أصول الدِّين، ص١٠٨-١٠٩.
٢٢  التحقيق التام، ص٩٤. وهو رأي جمهور الأشاعرة (أصول الدِّين، ص٩٠، ص١٢٣، ص١٠٩). وأحالوا بقاء الأعراض. ولذلك قال عبد الله بن سعيد والقلانسي إن الصفات أزلية دائمة الوجود دون أن يقولا إنها باقية لاستحالة قيام البقاء بها (وإن كانت لا تزال موجودة) (أصول الدِّين، ص١٠٩؛ الإرشاد، ص١٣٨–١٤٠).
٢٣  التحقيق التام، ص٩٤. وهذا أيضًا رأي الباقلاني وإمام الحرمين والآمدي (أصول الدِّين، ص٩٠؛ المحصل، ص١٢٦؛ معالم أصول الدِّين، ص٥٨؛ طوالع الأنوار، ص١٨٣).
٢٤  المواقف، ص٢٩٦-٢٩٧.
٢٥  التلخيص، ص١٢٦.
٢٦  شرح الأصول الخمسة، ص١٨٠-١٨١.
٢٧  المسائل، ص٣٤٣-٣٤٤؛ معالم أصول الدِّين، ص٥٨.
٢٨  أصول الدِّين، ص٨١؛ النظامية، ص٢٣؛ الاقتصاد، ص٢٢-٢٣؛ التمهيد، ص٤٩؛ رسالة التوحيد، ص٣١؛ المقاصد، ص٢٧٧؛ الشامل، ص١٩٤–١٩٧؛ كفاية العوام، ص٣٥؛ الباجوري، ص٣؛ السنوسية، ص٢، ص٤.
٢٩  شرح الأصول الخمسة، من ص١٠٧–١٠٩.
٣٠  بحر الكلام، ص١٧؛ مقالات، ج١، ص٢١٦؛ العضدية، ج١، ص٢٢٦؛ غاية المرام، ص١٣٥-١٣٦.
٣١  الإنصاف، ص٤٣؛ غاية المرام، ص١٣٥-١٣٦. عند بعض المعتزلة معنى الآخر هو الباقي.
٣٢  الإنصاف، ص٣٧-٣٨. وتستعمل آيات قرآنية مثل: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وهذا يتطلب تفسير الوجه بالبقاء. وزعم بيان بن سمعان أن أعضاء الله تعدم كلها ما خلا وجهه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (اعتقادات، ص٥٧؛ الفِرَق، ص٢٢٦، ص٢٣٧؛ الملل، ج٢، ص٧٩؛ مقالات، ج١، ص١٦٦؛ الفِرَق، ص٢٢٦، ٣٣٧؛ أصول الدِّين، ص٧٣–٧٥، ص٨١).
٣٣  الانتصار، ص٥.
٣٤  يرى أكثر الناس أن الآخر معناه أن يكون بعد فناء الدنيا، وأن الله بعد الخلو فيه يدخل أهل الجنة الجنة لا يزالون مثابين، وأهل النار النار لا يزالون معاقَبين إثباتًا لمشاركتهم في البقاء. وترى البطيخية أن ذلك بمنزلة دود الخل يتلذذ بالخل، ودود العسل بالعسل (مقالات، ج٢، ص١٩٩-٢٠٠).
٣٥  عند جهم تفنى الجنة والنار ومن فيهما حتى يكون الله آخر لا شيء معه كما كان أوَّلًا لا شيء معه، يخرج أهل الطاعة من الجنة بعد دخولهم ويخرج أهل النار بعد دخولهم. إذا دخلها أهل الجنة لبثوا فيها دهرًا طويلًا فتبيد الجنة وأهلها ويبيد نعيمها، وتهلك النار ويبيد عذابها (التنبيه، ص١٤٠). يصير أهل الجنة إلى الحزن بعد الفرح وإلى الغم بعد السرور وإلى الشقاء بعد الرخاء. جميع أهل الجنان من الملائكة والنبيين والمؤمنين. تخرب الجنة بعد عمارتها حتى تصير رميمًا لا أحد فيها. ويخرج أهل النار بعد دخولها فيصيرون إلى الفرح بعد الحزن وإلى السرور بعد الغم وإلى الرخاء بعد الشقاء. جميع أهل النار من الأبالسة والفراعنة والكافرين. تخرب النار بعد عمارتها حتى تخفق أبوابها، ليس فيها أحد، فيصرف ثواب الله عن أوليائه وعقاب الله عن أعدائه (التنبيه، ص٩٨؛ الانتصار، ص١٢؛ مقالات، ج٢، ص١٩٩-٢٠٠). وعند أبي الهذيل وبعض المعتزلة أن أهل الجنة تنقطع حركاتهم ويسكنون دائمًا لا يتحركون، وينقطع الأكل والشرب والنكاح (مقالات، ج٢، ص١٥٨). وعنده أن نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار متناهيات (الانتصار، ص١٦٨؛ الفِرَق، ص٣٣١؛ مقالات، ج٢، ص١٩٩-٢٠٠).
٣٦  جوَّز أهل السنة الفناء على العالم كله عن طريق القدرة والإمكان. ولما كانت الجنة والنار أبديين، فإن الأجسام تفنى دون البعض. لذلك أكفروا أبا الهذيل والجهمية والجبائي وابنه أبا هاشم (الفِرَق، ص٣٣١). وعند الجبائي وابنه أبي هاشم لا يقدر الله على إفناء بعض الأجسام مع إبقاء بعضها، وإنما يقدر على إفنائها جميعًا بفناء يخلقه لا في محل (الفِرَق، ص٣٣١). وعند معمر، فناء الشيء يقوم بغيره ويُفني الله العالم بأسره بأن يخلق شيئًا غيره يحل فيه فناؤه لاستحالة الفناء التام لكل شيء كي يبقى الله وحده لإخبار الله بدوام الجنة والنار (الانتصار، ص١٩-٢٠).
٣٧  يروي ابن الراوندي عن الجاحظ أن في المعتزلة من كان يقول إن الله يُفني نفسه إلا وجهه لقوله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، وهو ما لا أصل له في المعتزلة؛ لأنه ضد مذهبهم في الفناء وفي التأويل. كما زعم أنه كان في المعتزلة رجلان يزعمان أن رب الخالق الثاني مدبر مصنوع وأن الفناء جائز عليه، وهما فضل الحذاء وابن حائط، وهما ليسا من المعتزلة في رأي الخياط (الانتصار، ص١٥٢).
٣٨  أجاز بعض الكرامية عدمها، ولكن أكثرهم منعها (الملل، ج٢، ص١٧-١٨؛ الفِرَق، ص٢١٨).
٣٩  عند الباقلاني فناء الجسم ليس من أجل قطع البقاء (فالبقاء ليس صفة زائدة على الذات)، ولكن من جهة قطع الأكوان عنه (أصول الدِّين، ص٩٠).
٤٠  يرى البصريون من المعتزلة أن البقاء ليس بقاءً لا في الشاهد ولا في الغائب، في حين يرى الكعبي أن الباقي في الشاهد يكون باقيًا ببقاء الله، باقٍ بلا بقاء (أصول الدِّين، ص١٢٣).
٤١  الفصل، ج٢، ص١٣٦-١٣٧، ص٢٤٦.
٤٢  استعمل لفظ «البقاء» ومشتقاته في القرآن ٢١ مرة. ولم يُذكَر على الإطلاق في صيغة بقاء أي اسم الفعل مما يدل على أنه لا وجود لمثل هذا المعنى التجريدي في صفة الاسم أو لجوهر أو لموجود. وأكثر الصيغ فعلية ١١ مرة، أمَّا الصيغ الاسمية فإن تسعًا منها أسماء وواحد فقط صفة «باقٍ» في: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ (١٦: ٩٦)، وهو لا يصف الله بل ما عند الله، أي الثواب على الأعمال الإنسانية. وثلث الاستعمالات (٧ مرات) يفيد اللفظ معنًى سلبيًّا إمَّا عن طريق النهي مثل: وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا (٢: ٢٧٨)، أو عن طريق الإفناء من الله: وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (٥٣: ٥١)، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (٢٦: ١٢٠)، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (٦٩: ٨)، أو عن طريق الإفناء من النار: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٢٠: ٧٣)، وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (٢٠: ١٢٧)، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (٧٤: ٢٧-٢٨). أمَّا المعاني الإيجابية (١٤ مرة) فمعظمها لوصف معاني أو أشياء وأفراد وأقوام (١٢ مرة)، وليس لوصف الله إلا مرتين، وهما: وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٢٠: ٧٣)، والله هنا أي الحق غير المشخص، أو وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (٥٥: ٢٧)، التي استعملها القدماء وحدها ولا تعني أيضًا الوجه المشخص بل وجود الحق. أمَّا الاستعمالات الاثنا عشر، أي أكثر من نصف الاستعمالات، فإنها غير مشخصة، مثل ما عند الله من خير: وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٢٨: ٦٠)، (٤٢: ٢٦)، ومَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ (١٦: ٩٦)، وبَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ (١١: ٨٦)، أو الآخرة أي النعيم والجزاء: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٨٧: ١٧)، أو الرزق: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٢٠: ١٣١)، أو الكلمة أي المعنى والدرس: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٣: ٢٨)، أو الأعمال: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا (١٨: ٤٦)، (١٩: ٧٦)، أو الذرية: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٣٧: ٧٧)، إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى (٢: ٢٤٨). والأهم من ذلك كله هم الأفراد الذين يقاومون الفساد في الأرض: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ (١١: ١١٦). وقد استعمل اليهود الفكرة «البقية الصالحة» كوسيلة لتبرئة الشعب اليهودي كله من خلالهم، وهو ما ينافي المسئولية الفردية. انظر دراستنا: «هل يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل؟» في «اليسار الإسلامي». العدد الأوَّل، ١٩٨٠، وأيضًا: Theology of Land in, Religious Dialogue & Revolution, pp. 137–144.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤