أولًا: أحكام الصفات

(١) مقدمة

بعد الوعي الخالص وهو الذات التي تتسم بأوصاف ست: الوجود، والعدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقياس بالنفس، والوحدانية، ينتشر هذا الوعي خارجه ويتحقق درجة أكثر ويصبح الوعي المتعين أو الشخصية الإنسانية. ويتصف بصفات سبع: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة.

وأحكام الصفات واحدة بالرغم من تعدد الصفات. والحديث عن الصفات هو حديث عنها كلها في مسائلها العامة قبل أن يكون حديثًا عن كل صفة على حدة، الواحدة تلو الأخرى. فإثبات العلم يدخل في إثبات الصفات أو نفيها أكثر من دخوله في صفة العلم. وقِدَم الكلام يدخل في قِدَم الصفات أو حدوثها أكثر من دخوله في صفة الكلام.١ فبعد ذكر الصفات الواحدة تلو الأخرى ومعنى أحكام الصفات يذكر إثبات العلم بها وإثبات قِدَمها كمسائل مشتركة بينها جميعًا. وقد تظهر أحكام الصفات بعد الصفات عندما تتصدر الصفات على الذات.٢ تظهر أحكام الصفات إذن مرة قبل تعدادها واحدة واحدة، ومرة أخرى بعد الصفات كعامل مشترك بينها.٣ والحقيقة أن أحكام الصفات تتجاوز الصفات ومسائلها، كلًّا على حدة، فهي أحكام عامة تشملها كلها، يتفق عليها الجميع أو يقع فيها الخلاف ثم تكون كل صفة مسألة تطبيقية للحكم العام. يمكن إذن إثبات الصفات بوجه عام أو نفيها بصرف النظر عن صفة بعينها، ولو أن الصفة المفضلة عند القدماء هي صفة العلم للتمرين عليها وضرب المثل بها على إثبات العلم، تتلوها القدرة، ثم الحياة، ثم باقي الصفات الأربع. وبالرغم من اعتراض بعض القدماء من أن إثبات أحكام الصفات أوَّلًا ثم التوصل منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيًا مسلك ضعيف سلكه عامة الأشاعرة، إلا أنه أقرب إلى العقل. إذ يرد الحكم العام قبل الخاص، وتثبت الصفات أوَّلًا كمبدأ وأساس قبل أن تثبت صفة العلم أو كل صفة على حدة.٤ وإذا أتت أحكام الصفات قبل الصفات فإن ذلك يقتضي أن تكون أعرف منها، فلا يصح تعريف المعرف بأقل منه وضوحًا. العام قبل الخاص، والأساس قبل المؤسس، وعلم الأوليات سابق على كل العلوم.
ماذا تعني أحكام الصفات؟ الصفة عند الأشاعرة هي ما قامت بالشيء، والوصف قول الواصف الدال على الصفة.٥ وأحكامها ليست أحوالًا أو صفات، بل أقرب إلى الأسس العقلية التي تحدد علاقات الصفات بعضها ببعض وعلاقاتها بالذات. هي وجوه واعتبارات أي منطق وأحكام قضايا.٦ وهناك طريقان لإثبات أحكام الصفات: الأوَّل النظر والاستدلال والثاني الضرورة والبديهة، وكلاهما قسمان للعلم. ويُلاحَظ هنا عدم وجود فهم خبري سمعي لأنه ليس برهانًا قطعيًّا ولا يولِّد إلا الظن، والبرهان لا يكون إلا يقينيًّا.٧
ولم تظهر أحكام الصفات العامة إلا ابتداءً من القرن الخامس عندما قل التعامل مع كل صفة على حدة وزاد الإحكام العقلي لإدراك المسألة ككل. وهناك أحكام ثلاثة طبقًا لصياغة مسألة الصلة بين الذات والصفات، وبعد حصر الصفات في سبع وتميزها عن الأوصاف الستة: حكم الإثبات والنفي، وحكم المساواة والزيادة (الهوية والغيرة)، وحكم القِدَم والحدوث. وقد يضرب المثل بصفة مختارة لبيان كل حكم، العلم والقدرة بالنسبة لحكمي الإثبات والنفي، والمساواة والزيادة، والكلام لحكم القِدَم والحدوث. وأحيانًا تظهر الأسماء مع الصفات وتتكرر المسائل من جديد مما يدل على نقص الإحكام النظري والتمييز بين الأحكام العامة ثم الأحكام الخاصة في موضوعات تطبيقية.٨ وقد تتداخل الأحكام الثلاثة، ويُستَنبط أحدها من الآخر نظرًا لوجود نسق عام يحكمها كلها. وهو السبب في إثارة سؤال: هل إثبات الصفات أو نفيها نتيجة لإثبات قدمها أو حدوثها أم أن إثبات قِدَم الصفات وحدوثها نتيجة لإثبات الصفات؟٩ لذلك يُكتفى أحيانًا بذكر حكمين دون الثالث.١٠ وقد بدأ القدماء بالأحكام المرفوضة، وهي النفس والهوية والحدوث، ونحن نبدأ بالمذاهب المرفوضة أيضًا: الإثبات والغيرية والقِدَم.١١

(٢) الإثبات والنفي

وقد يبدأ القدماء في العادة بحكم المساواة والزيادة قبل حكم الإثبات والنفي، في حين أن حكم الإثبات والنفي هو الحكم الأولى، بعده يأتي حكم المساواة والزيادة أو حكم الحدوث والقِدَم. فاعتبار الصفات زائدة على الذات إثبات لها، واعتبارها عين الذات نفي لها. إثبات الصفات وقوع في التشبيه، ونفيها إثبات للتنزيه. تعني الصفات هنا الصفات الحسية التي يشارك فيها الإنسان ويقوم إثباتها على التضحية بالتنزيه من أجل إثبات الصفات وتفادي إثبات ذات خالصة مجردة لا طعم ولا لون ولا صفات ولا أفعال لها. ونظرًا لأهمية الحكم، فإن إثبات الصفات يظهر أحيانًا كعنوان للموضوع وليس مجرد مسألة حكم في الصفات.١٢ ونظرًا لأهمية إثبات الصفات سُمِّي أهل السنة والأشاعرة الصفاتية، وهو لقب أعطوه هم لأنفسهم في مقابل إعطائهم لنفاة الصفات لقب المعطلة، واستُعملت الألقاب كسلاح ضد الخصوم وللدفاع عن الذات.١٣ فنفي الصفات وصف للخصم واتهام له بالتعطيل في مقابل مدح الذات وتعظيمها وإعطائها لقب الصفاتية. ونظرًا لأهمية إثبات الصفات أصبح التوحيد مرادفًا له.١٤ وعند بعض الحركات الإصلاحية الحديثة التي اقتربت من المعتزلة وظلت أشعرية في التوحيد اعتزالية في العدل لا تثبت الصفات بما فيه الكفاية وتكون أقرب إلى النفي، ولكن مع الإصرار على التنزيه وعدم الوقوع في التشبيه الذي هو في العادة نتيجة طبيعية لإثبات الصفات. فتثبت الصفات وتنفي الكيفية فيكون لله سمع لا كسمعنا وبصر لا كبصرنا، أي تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إثبات الشيء ونفيه في آن واحد. ويظل الفكر الديني المعاصر في مواجهة الأشعرية، يتعامل بأسلوبها كي يتحرر منها، فيظل أسيرًا لها دون خرق الحصار والخروج عن الطوق استنادًا إلى الاعتزال القديم واعتمادًا على تجارب العصر. وفي حركة إصلاحية أخرى قد يتم إثبات الصفات في مواجهة الأشعرية، وكأن الأشعرية نفي للصفات نظرًا لأنها لا تقول بالتشبيه صراحةً وتنفي الكيفية.١٥ والحقيقة أنه لا يمكن إثبات السمع والبصر ثم نفي التشبيه ونقول سمع لا كسمع الآدميين وبصر لا كبصرهم، فتلك خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام، نفي وإثبات، تنزيه وتشبيه، وسير في المكان، «محلك سر».١٦ والواقع أن إثبات الصفات لا يعني بالضرورة الوقوع في التشبيه، بل يعني أن حالات الشعور ليست صفات تابعة لحركته، بل هي وحدات مستقلة موجودة بوجوده. فهي في نفس الوقت معنًى ووجود. الصفات إذن ليست مجرد حالات ذاتية، بل هي صفات موضوعية. لا يوجد عالم بلا علم ولا قادر بلا قدرة.١٧ هذا الإشكال كله ناتج عن طبيعة الصلة بين الذات والموضوع. فإذا كان نفي الصفات رجوع الذات إلى ذاتها، فإن إثبات الصفات رغبة مستمرة في التخارج وإيجاد موضوع فتشتق الذات موضوعًا من ذاتها لا تثبته كموضوع في ذاتها وليس بالضرورة خارجًا عنها. فالعالم يوجب العلم، والقادر يوجب القدرة، والحي يوجب الحياة، وهو ما يحدث في بناء الخطاب عندما تولد العبارة الإنشائية وجودًا خبريًّا، وعندما يوجب التمني الواقع، وعندما تخلق الذات من نفسها موضوعًا تخاطبه فتتوحد مع نفسها، وتصبح ذاتًا وموضوعًا، موجودًا كاملًا.
والحجج النقلية على إثبات الصفات كثيرة،١٨ ولكنها في نفس الوقت معارضة بحجج نقلية أخرى لنفي الصفات. كما أنها توحي بالتشبيه مما يوجب تأويلها حرصًا على التنزيه، وبالتالي يمكن قلبها فتصبح حججًا مضادةً لنفي الصفات. ويصبح إثبات الصفات مناقضًا لظاهر النص وحكم الشرع، ويتحول إلى إثبات آلهة متعددة قديمة متغايرة ومتميزة عن الله. وما الداعي في التحديد إذن بسبع أو بسبع عشرة صفة؟ ما المانع من الزيادة إلى ما لا نهاية وإثبات الجلال والإكرام والجبروت والكبرياء، والحمد والقوة والحلم والكرم والعظمة والهبة واللطف والسع والشكر والود كصفات؟ صحيح أن الأشاعرة قد احتاطت وجعلتها أسماء ولكنها حددتها أيضًا بتسع وتسعين، «له الأسماء الحسنى»، وكلمات الله لا تنتهي، وصفاته وأسماؤه لا حد لها.١٩
أمَّا الحجج العقلية فعديدة، منها ما يعتمد على البداهة ذاتها، فإذا ثبت العالم ثبت العلم، فلا عالم بلا علم. إثبات العالم إثبات للعلم بالضرورة، أمَّا إثبات العالم ونفي العلم فتناقض، إذ لا معنى للعلم إلا كون العالم عالمًا بمعلومات على ما هو عليه.٢٠ وأحيانًا يُسَمَّى الدليل التجريبي نظرًا لاعتماده على قياس الغائب على الشاهد. ففي الشاهد العالم ذو العلم، والقادر ذو القدرة، والمريد ذو الإرادة. يتم إثبات الصفة إذن بمجرد إثبات الموصوف، وإثبات الفعل بمجرد إثبات الفاعل. والحقيقة أن الحجة ليست بديهية لأنها تعريف الشيء بما هو دونه في الخفاء والجلاء عندما يحيل الموصوف إلى الصفة. كما أن الله عالم لا تعني أن له علمًا بل تعني أنه محيط، أي تبقى الصفة على مستوى المعنى والدلالة دون تشخيصها، وتثبتها كجوهر. وإذا كانت الحجة تقوم على قياس الغائب على الشاهد، فما المانع من عزو الجوارح وآلات الحس في السمع والبصر وفي غيرها من الصفات، أي الأذن والعين واللسان واليد وجميع الأعضاء الحسية؟
وقد تأخذ الحجة طابعًا جدليًّا، إمَّا بوجود الإثبات أو استحالة النفي. فإثبات ونفي الصفات إمَّا أن يرجعا إلى الذات أو إلى الصفات أو إلى الأحوال. ويستحيل الرجوع إلى الذات لأنها معقولة دون الاتصاف بالأحوال، فلزم أنها ترجع إلى الصفات.٢١ والحقيقة أن ذلك إثبات حقائق مختلفة وخواص متباينة لذات واحدة دون ما مبرر. كما أنه تحصيل حاصل لأنه إثبات الصفات بالصفات. وإثبات الصفات بالذات أقرب إلى العقل. والذات واحدة لا ينتج عنها كثرة الصفات. وقد يُقال أيضًا إن إنكار إثبات صفات أزلية مثل إثبات موصوف بلا صفات. والحقيقة أن الموصوف فاعل وصفاته أفعال دون أن تتجوهر أو أن تستقل وإلا وقعنا في التعدد، تعدد الجواهر والمعاني المستقلة.

وهناك حجة أخرى صورية تقوم على دليل حدوث العالم واحتياجه من حيث إمكانه إلى مرجح لأحد أطراف الإمكان. والمرجح إمَّا أن يكون بذاته ولذاته أو بذاته على صفة وراء الذات، ويستحيل الترجيح بالذات لأن ذلك لا يخصص فيجب أن يكون الترجيح بالصفة وهي التي سماها الشرع الإرادة أو القدرة. فإذا اشتمل الفعل على حكمة وجب كون الصانع عالمًا، والقدرة والعلم يستوجبان الحياة. فالصفة إذن هي مرجح الوجود على العدم وصلة الله بالعالم، أي أنها مرادفة للفعل. والحقيقة أن الصفة بهذا المعنى افتراض زائد لأن الآية تدل، والظاهرة تشير، دون ما حاجة إلى صفة متوسطة بين الله والعالم، وإلا كان الفكر الديني في الخلق معتمدًا على التوسط كما هو الحال في المسيحية أو في غيرها من الديانات القديمة وترك الخلق المباشر وهو أهم ما يميز الدين الجديد.

وقد يستعمل دليل تجريبي صرف ويكون هو نفس الدليل السابق مقلوبًا. فالتأمل في الكون ببدائع الصنائع وعجائب الخلق يؤدي إلى إثبات الصانع حكيمًا قادرًا مريدًا دون اللجوء إلى قياس الغائب على الشاهد. «فالغائب شاهد، والعقل، والبصر نافذ». ولا حاجة إلى الاستدلال في الضروريات. ويزيد الأشعري تأمل الإنسان في خلقه وأطواره، طورًا بعد طور، وفي كمال الخلقة، أي تأصيل التأمل في النفس وفي الكون. والحقيقة أن هذا الدليل البصري الكوني يثبت الموصوف لا الصفة، والفاعل لا كيفية الفعل. وليست القضية إثبات الصفات، ولكن صلة الذات بالصفات، صلة زيادة أو تساوي، غيرية أم هوية. وليست القضية في الإثبات، ولكن في منع الاشتراك بين الصفات الإلهية والصفات الإنسانية. وقد تأخذ هذه الحجة صيغة أخرى وهو القول بأنه لو لم يكن متصفًا بهذه الصفات لكان متصفًا بما يقابلها، والله يتعالى ويتقدَّس عن أن يتصف بما يوجب في ذاته نقصًا. فلو لم يكن الله عالمًا لكان جاهلًا، ولو لم يكن قادرًا لكان عاجزًا، ولو لم يكن حيًّا لكان ميِّتًا … إلخ. والحقيقة أن العلم والجهل، القدرة والعجز، الحياة والموت ليسا من المتقابلين، أي ما لا يجتمعان على شيء واحد من جهة واحدة في اللفظ أو في المعنى تقابل السلب والإيجاب أو تقابل الصدق والكذب بل من المتضايفين مثل الأبوة والبنوة. ومنه تقابل الطرفين الضدين، أي الذين لا يُفهَم أحدهما بدون الآخر في علاقة نسبة أو إضافة، كما وضح في نظرية الوجود.٢٢ والأصل في التضايف هو أن يكون الطرفان حسيين، مثل الأب والابن أو الكبير والصغير. أمَّا لو كان أحدهما حسيًّا والآخر عقليًّا، فإنه يقوم على قياس الغائب على الشاهد أوَّلًا ثم يُقلَب ثانيًا. فلأن الإنسان جاهل يكون الله عالمًا، ولأن الإنسان عاجز يكون الله قادرًا، ولأن الإنسان ميت يكون الله حيًّا … إلخ.٢٣ فالعقيدة في حقيقة الأمر تنبع من المنطق وتنشأ منه، والمنطق ليس هو الجدل أو البرهان أي المنطق الصوري، بل هو المنطق الحسي والمنطق الشعوري.
والحجة الأكثر شيوعًا هي حجة التغاير، تغاير الصفات. لو كان العلم والقدرة شيئًا واحدًا، والله يعلم نفسه ويقدر على نفسه، لما كان عالمًا ولا قادرًا. وذلك لأن كل صفة لها تعلُّق معيَّن، تتغاير الصفات فيما بينها لأن كلًّا منها لها تعلُّق متميِّز عن الآخر. ولا يرجع التمايز إلى اللفظ وحده، بل إلى المعنى. لثبات الصفات إذن معاني قائمة وليست أحوالًا. وإذا كانت الصفات تُثبَت من أجل تغايرها، فإنها تُنفَى من أجل تماثلها. والعقل الصريح يعرف كون الشيء معلومًا وكونه مقدورًا، على الأقل عموم الأوَّل وخصوص الثاني. صحيح أن العلم من حيث هو علم حقيقة واحدة وليس خاصية واحدة، وإنما تختلف العلوم باعتبار متعلقاتها وتتماثل باتحاد المتعلق. العلم يتبع المعلوم وجودًا وعدمًا، وكذلك الكلام. ويستحيل إثبات ذات واحدة. لها خاصية العلم والقدرة والإرادة والكلام، أي اجتماع صفات وخواص لذات واحدة. يعلم الباري ذاته ويعلم ما يلزم بعلمين متمايزين. ولا خوف من التشبيه. فتعلق العلوم بالمعلوم ليس تعلق زمان ومكان. والحقيقة أن هذا كله افتراض تركيب وتعدد في الله. لا يقع التغاير إلا في المعلومات والمقدورات، ولكنه لا يقع في العلم أو القدرة. كما أن اختلاف وجوه الاعتبارات في شيء واحد لا يوجب تعدد الصفة، وأن تعددها لا يوجب تمايزها وثبوتها، ويمكن لوحدة الذات أن تضم تحققات فعلية لها دون أن تتكثر وتتعدد في معانٍ أو جواهر أو حتى في أحوال. فإثبات الأحوال مثل إثبات الصفات، إلا أن الصفات موجودة والأحوال غير موجودة لأنها لا توصف بالوجود ولا بالعدم، ولكنها متمايزة فيما بينها، فالعالمية غير القادرية وإلا لزم من نفي أحدهما نفي الآخر. ومع ذلك فإن بعض الأشاعرة والفقهاء يرتضون حجة التغاير، وذلك لأن الصفات يمكن رد بعضها إلى البعض استنباطًا، ثم ردها كلها إلى الذات. فالإرادة ترد إلى القدرة، والقدرة إلى العلم. الله مريد، وذلك يستتبع القدرة، والقدرة تستتبع الإرادة، والإرادة تقتضي العلم، والكل يقتضي الحياة. يلزم من كونه حيًّا أن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا، فتلك مظاهر الحياة وإلا وُصف بأضدادها كالعمى والطرش والخرس على ما عُرف في الشاهد.٢٤ ويجوز في اللغة عن طريق المجاز أن يسمع الإنسان المبصرات ويبصر المسموعات، وكما هو معروف في الفن «العين تسمع والأذن ترى». وتتكلم اليد والعين. كما يستعمل الأعمى يديه للإبصار وللذوق وليس فقط للمس وكما يسمع الأصم بحركات اليد. السمع والبصر يعنيان العلم، كما يعني العلم السمع والبصر على ما هو مذكور في عديد من الآيات.٢٥
أمَّا حكم الثاني فقد كان رد فعل على التجسيم والتشبيه حرصًا على الذات، الوعي الخالص، وتنزيهها.٢٦ ولا فرق في النفي بين الأوصاف والصفات والأسماء. ولا يمنع نفي الصفات من استعمال بعض الصور الفنية للتعبير لإيصال المعاني في المواقف الإيمانية والوجدانية. وقد يصل النفي إلى حد إنكار كل صفات التشبيه بالإنسان، كلًّا أو بعضًا، لا فرق في ذلك بين الثلاثي (العلم والقدرة والحياة) أو الرباعي (السمع والبصر والكلام والإرادة). كما وصل إلى حد نفي اسم الفاعل مع اسم الفعل، فالله ليس سميعًا ولا قديرًا ولا متكلمًا، وبالتالي تنفي المعاني وإن ثبتت الأسماء دون أن يكون له في حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر.٢٧ وإلى هذا الحد يُتَّهم نافي الصفات بالزندقة والكفر كتهمة سياسية، كما يُتَّهم بالتعطيل كتهمة فكرية مع أن النفي ليس تعطيلًا، بل إبعاد للتشبيه دفاعًا عن التنزيه، سواء كان التعطيل في الصفات أم التعطيل في النصوص بالتأويل.٢٨
ولا يرجع نفي الصفات إلى أية مؤثرات لفظية دخيلة، بل يخضع لضرورة عقلية داخلية دفاعًا عن التوحيد العقلي في صورة التنزيه. ولا ضير أن تتبع حضارات أخرى لدوافع مماثلة ومختلفة لنفس الضرورة. فإذا كان التوحيد العقلي اليوناني أحد متطلبات العقل، فإن التوحيد العقلي الأصولي أحد متطلبات التنزيه. وهو عمل العقل في الوحي. والألفاظ مشاعة بين الجميع، خاصةً بعد التقاء الحضارتين. ولم تعد مرتبطة بحضارتها الأصلية، ولو قبلت في الحضارات الأخرى لرفضت ونفدت مثل زيوس وبوزيدون وسائر آلهة اليونان. لقد عرضت الألفاظ على العقل أوَّلًا وقَبِلها العقل ثانيًا، لأنها تساعد على التعبير عن التوحيد العقلي. وهذا لا يعني تقليدًا أو تبعيةً، ولا يعني أثرًا وتأثُّرًا، بل تمثُّلًا وامتدادًا وتحضيرًا.٢٩ إن اتهام كل موقف معارض بأنه من أثر خارجي هو تفريغ للإبداع الذاتي للمعارضة وأصالتها الفكرية. ولكل بيئة ثقافية استقلالها الفكري ومصادرها الخاصة. والتشابه الخارجي لا يعني بالضرورة التبعية الداخلية. وقد يُرجع البعض الآخر نفي الصفات إلى مؤثرات داخلية من علوم الحكمة. وهذا أيضًا غير صحيح، إذ يخضع نفي الصفات إلى مقتضيات عقلية خالصة، هي تلك التي تخضع لها علوم الحكمة وهي التي اقتضت من كلا العلمين وأصحابهما، المعتزلة والحكماء، إلى الانتهاء إلى نفس التوحيد العقلي. قد يوحي بذلك رد علم أصول الدِّين على علوم الحكمة في علم الكلام المتأخر واستعماله لغتها، ولكن الحقيقة أن الحكماء لا تنفي صفات التنزيه، ولكنها تنكر صفات التشبيه. فالحكماء يثبتون صفات العلم والقدرة والإرادة … إلخ، ولكنها تكون عين الذات، وكلاهما في مقولة واجب الوجود.٣٠ ويبدو من تطابق التوحيد الفلسفي مع التوحيد الاعتزالي أن كليهما قائم على العقل ولا يعني بالضرورة تأثير الفلاسفة على المتكلمين.

وهناك عدة صياغات لحكم النفي طبقًا لدوافعه. عندما يُقال مثلًا: حي عالم قادر لنفسه. والنفي هنا يأتي من الذات ورفضها للتعدد بالصفات. وقد يأتي النفي لكونه على حالة هي أخص صفاته، الحالة التي توجب له صفاته، والنفي هنا يأتي من إثبات الأحوال. فإن قيل: الباري عالم قادر حي لا لعلل ولا لنفسه، فالنفي هنا بلا دافع من الذات أو الحال أو العلة، وهو النفي الأولى أو النفي الأصلي. وفي هذه الحالة يظهر بصراحة، فيُقال عالم لا بعلم، قادر لا بقدرة، حي لا بحياة، تأكيدًا على النفي بحرف النفي، كما يؤكد الإثبات على الإثبات بحرف الجر في عالم بعلم، وقادر بقدرة، وحي بحياة. والعجيب أنه يمكن نفي الصفات عن طريق إثبات قِدَمها، فيُقال مثلًا: إن الله لم يزل عالمًا، وما دامت فقد شاركت الذات في الوصف وامَّحى التغاير. ولكن في هذه الحالة يخرج الأمر كله من مجرد إثبات الصفات أو نفيها إلى الوقوع في الشرك الصريح المتضمَّن في موقف الأشاعرة.

وهنا حجج نقلية كثيرة لنفي الصفات لا تظهر كثيرًا عند مؤرخي أهل السنة كتمانًا لها، وعلى رأسها: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وغيرها من الآيات، مثل: سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ، والتي ترد الذهن الإنساني إلى حدوده في استعمال اللغة ووصف الذات الخالص. ولكن الحجج العقلية ترد باستمرار للرد عليها بالرغم من قوتها وصلابتها، منها أن الصفات هي مجرد اختلاف وجوه الاعتبارات في شيء واحد لا يوجب تعدد الصفات، ومِنْ ثَمَّ فهي موجودات ذهنية لا وجود لها في الواقع، في عالم الأذهان لا في عالم الأعيان. وقد تكون هناك حجة جدلية. فإمَّا أن تكون الصفة الذات أو غير الذات. والأول نفي الصفات، والثاني إمَّا حادثة أو قديمة. فلو كانت قديمة لشاركت الذات، وبالتالي تصبح آلهة، والاشتراك في العدم يوجب الاشتراك في الألوهية، فلم يبقَ إلا أن تكون حادثة وهي صيغة أخرى لنفي الصفات.٣١ وقد تكون هناك حجة خطابية مؤداها أن إثبات الصفات يؤدي إلى الافتقار والحاجة في الذات، وهو ما يستحيل على الله. ولا يكفي القول بأن استغناء الله استغناء كمال وليس استغناء نقص أو حاجة؛ لأن ذلك مواجهة افتراض بافتراض، ويظل إثبات الصفات محاصرة للذات وإعجازًا لها وكأن الوعي الخالص لا يستطيع أن يتخارج إلا بمعانٍ مستقلة هي الصفات. ولكن أقوى الحجج هي دفع التشبيه دفاعًا عن التنزيه. فلو كان له علم لتعلق بالمعلومات كما هو الحال في العلم الإنساني، وهو ما يرفضه الشعور بالتنزيه. لا يجب إذن إثبات علم قديم سابق على المعلومات، بل يجب نفي العلم على الإطلاق. نفي الصفات أكثر جذرية من إثباتها على أنها عين الذات أو إثباتها على أنها حادثة وكأن الحكم بأنها عين الذات أو بأنها حادثة يتضمن إثباتًا لها في حين أن حكم النفي نفي أصلي من الأساس. إثبات العلم يؤدي لا محالة إلى إثبات العرض والحدوث والتكاثر وهو ما يرفضه أيضًا الشعور بالتنزيه؛ لأن التنزيه يتطلب تجاوز ذلك وكل ما يطرأ على الحس. إثبات الصفات إذن نوع من التشبيه ويوقع لا محالة فيه بالرغم من الاحتراز بأنه لا يوجب تشابهًا لأن التماثل لا يكون بين الشيئين إلا إذا أناب الشيء محل الشيء. والحقيقة أن هذه الإنابة ليس شرطًا في التماثل أو التشابه لأن البشر تجمعات مثل الحيوانات والحشرات: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ دون أن يكون البشر بديلًا عن الطيور أو الحيوانات. فالتشابه هنا هو الذي أوجب عند البعض القياس. وحقيقة التماثل في الأجسام أو في الأعراض والله ليس كذلك.٣٢ وفي حقيقة الأمر أن أحكام الصفات الثلاث، الإثبات والنفي، والزيادة والمساواة (الغيرية والهوية)، والقِدَم والحدوث، إنما تتعلق بطريقي التشبيه والتنزيه. فإثبات الصفات زائدة على الذات وإثبات قدمها يؤدي لا محالة إلى التشبيه. هناك صفات زائدة خاصة بالرباعي: «السمع، والبصر، والكلام، والإرادة» وإثبات وقِدَمها يوقع في تناقض لأن الصفات الإنسانية لا تكون إلا حادثة. في حين أن نفي الصفات واعتبارها عين الذات ثم القول بحدوثها يؤدي لا محالة إلى التنزيه. إذ تبقى الذات وحدها قديمة خالصة، وتُؤوَّل الصفات كمعانٍ للذات فالسمع والبصر والكلام للعلم إدراكًا وتعبيرًا، والإرادة للقدرة تحقيقًا. ولا تُثار مسألة الصلة بين قِدَم الذات وحدوث الصفات، والتوحيد بين الذات القديم والصفات الحادثة إذا كانت الصفات عين الذات. وكان من الطبيعي أنه بعد إثبات التنزيه في أوصاف الذات في الوعي الخالص، بل ونفي الماهية أو الذات أو النفس خوفًا من التشخيص واعتبار الصفات مجرد أوصاف لعمليات الشعور بالتنزيه تؤكد التنزيه مرة أخرى في نفي أي استقلال فعلي لهذه الصفات عن الشعور خوفًا من الوقوع في التشبيه أو التشخيص مرة أخرى.
وقد قدَّم الحكماء حججًا أخرى. فواجب الوجود مستغنٍ، وإثبات الصفات يجعله مفتقرًا إلى غيره في حاجة إليه، وهي تشابه حجة الكمال عند المعتزلة. كما أن الوجود ينقسم إلى واجب بذاته وإلى ممكن بذاته واجب بغيره. الواجب بذاته واحد لا تركيب فيه، والممكن بذاته مستحيل؛ لأن الله واجب الوجود، والواجب بغيره مستحيل؛ لأنه ضد الواجب بذاته، وهي تشابه الحجة الجدلية عند المعتزلة. والتدبير في الذهن بالاعتبار العقلي وليس في الوجود، وبالتالي كانت الصفات في الأذهان لا في الأعيان، وهي مثل حجة المعتزلة الأولى. والمبدأ الأوَّل يعقل ذاته ويعقل ما يلزم ذاته من حيث إنه مجرد عن المادة وهو علة المبدأ الثاني، ومِنْ ثَمَّ لا يحتاج إلى صفات زائدة. ويعلم الكليات دون الجزئيات، عالم بذاته، ومن علمه تلزم كل الموجودات، لا يعقل شيئًا من الأشياء، وبالتالي هو عالم بلا علم له متعلق، أي له معلوم.٣٣
ولما كانت الباطنية تعتمد في أصولها النظرية على الاعتزال وعلى علوم الحكمة، فقد شاركت في نفي الصفات. يدخل الله في صراع بين المتخاصمين، وبين الضدين بذاته دون ما حاجة إلى صفات أو أفعال تعبيرًا عن الموقف السياسي والاجتماعي الذي نشأ فيه التشيع. فإذا كانت السلطة تستعمل الصفات ضد المعارضة، فالمعارضة تستعمل الذات ضد السلطة.٣٤ ليس المهم إيقاع الموقف الفكري في تناقض بل معرفة سببه ودوافعه وقصده من حيث التنزيه أو التشبيه، الوحدانية أو التعدد، الخالص أو الشائب، المثال أو الواقع وكيفية توظيف ذلك في الموقف الاجتماعي والسياسي الذي منه يصدر الموقف الفكري.
وقد تنفى الصفات ليس بناءً على حجج كلامية أو فلسفية، بل لأن التسمية لم تأتِ عن الشرع. وصف الله نفسه بأنه سميع بصير، ولكنه لم يصف نفسه بأن له سمعًا وبصرًا. ولا تجوز تسمية الباري إلا شرعًا بأسمائه وليس بصفاته. لفظ الصفة لفظ ليس شرعيًّا. والأسماء ليست اشتقاقية بل أخبر الله بها عن نفسه وسمَّى بها نفسه دون تشبيه أو تجسيم كما تفعل الأشاعرة والمجسمة أو تأويل كما تفعل المعتزلة.٣٥ وقد بدأ نفي الصفات مقالة شرعية، ثم تحولت تحت أثر علوم الحكمة إلى موقف فلسفي خالص يرد الصفات كلها إلى صفتي العلم والقدرة ثم اعتبارهما صفين ذاتيتين أو اعتبارين أو حالتين أو ردهما إلى صفة واحدة هي العلم.٣٦
وللنفي عدة أساليب ترجع إلى قسمة الاسم إلى فعل وفاعل ومفعول، وهي أطراف القسمة الثلاثية المعروفة عند أهل اللغة: اسم الفعل واسم الفاعل واسم المفعول. الصفة اسم الفعل كالعلم، والموصوف اسم الفاعل كالعالم، وموضوع الصفة اسم المفعول كالمعلوم. وهي القسمة التي استعملها الحكماء من قبل للتعبير عن التنزيه بالتوحيد بين الأطراف الثلاثة: فالله علم وعالم ومعلوم، عشق وعاشق ومعشوق، عقل وعاقل ومعقول … إلخ. وباستعمال هذه القسمة يمكن القول بأن نفي الصفات أخذ طريقين: الأوَّل التوحيد بين اسم الفعل واسم الفاعل. وفي هذه الحالة تُنفَى الصفات عن طريق إلحاقها بذات الباري وعدم التفرقة أساسًا بين الذات والصفات. حينئذٍ تكون القدرة هي القادر، والعلم هو العالم، والحياة هي الحي، والإرادة هي المريد. ولنفي أي موضوع للفاعل قد يتحول اسم الفاعل إلى «فعيل» أو «فعَّال»، وبالتالي لا يكون سامعًا فقط، بل سميعًا ولا فاعلًا فقط، بل فعَّالًا.٣٧ والثاني التوحيد بين اسم الفاعل واسم المفعول، وفي هذه الحالة أيضًا تُنفى الصفات بتحويل الصفة إلى متعلق الصفة فيكون العلم هو المعلوم، والقدرة هي المقدور، والإرادة هي المراد.٣٨ أمَّا إثبات الصفات ثم نفيها فتحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، مثل الله عالم وعلمه ذاته، علم الله لم يزل وهو الله، علم الله هو الله، وبالتالي يثبت قِدَم الصفات ومساواتها للذات، وهو تناقض في النسق العام لأحكام الصفات.٣٩

(٣) الزيادة والمساواة (الغيرية والهوية)

وهو الحكم الثاني في موضوع الصفات بعد حكم الإثبات والنفي، وأحيانًا يكون الحكم الأوَّل. هل الصفات زائدة على الذات أم أنها عين الذات؟ هل علاقة الصفات تتحدد بالزيادة أم بالمساواة؟ هل العلاقة علاقة غيرية. الصفات غير الذات، أم هوية، الصفات هو الذات؟ الهدف من ذلك الحرص على وحدة الذات، وبساطتها في مقابل تعددها وتركيبها. والحقيقة أن كل المسلمين يتبنون الصفات، ولكن الخلاف هل الصفات زائدة على الذات أم أنها عين الذات؟ فالزيادة والمساواة، الحكم الثاني، فرع لإثبات الصفات ونفيها، الحكم الأوَّل. وقد ظهرت هذه الصياغة لأول مرة في القرن الخامس بعد أن كانت متضمنة كموضوع أو مسألة قبل ذلك، وقبل أن تتحول إلى حكم نظري عام.٤٠
وإثبات الصفات زائدة على الذات يضحِّي بالتنزيه من أجل التشبيه في حين أن إثبات الصفات مساوية للذات يضحي بالتشبيه في سبيل التنزيه. الأوَّل يحرص على الفاعلية في العالم في حين أن الثاني يحرص على التوحيد العقلي ذاته ورفض كل تركيب في الشعور بالتنزيه؛ لأن الفصل بين الذات والصفات مع أنه قائم على تنزيه الذات عن جميع صفات التشبيه إلا أنه يخاطر بشبهة التركيب.٤١
وقد يهتز النسق العقائدي في أحكام الصفات من النفي والمساواة والحدوث في مقابل الإثبات والزيادة والقِدَم إلى إثبات صفات زائدة على الذات ومع ذلك تكون حادثة.٤٢ ويمكن إثبات قِدَم الصفات والتوقف في مغايرتها للذات أو في توحدها مع الذات، فالحلان غير مرضيين. فيتم رفضهما معًا وإلغاء المشكلة وهو أقرب إلى التوقف مما يدل على القصد إلى العودة إلى العالم، واكتشاف الاغتراب دون التحول عنه، واكتشاف الزيف دون التوجه الفعلي إلى الشرعي.٤٣ ويغيب النسق العقلي للأحكام الثلاثة نظرًا لأنها كلها تمرينات عقلية وليست استدلالات أو أحكامًا منطقيةً، تعبر عن توتر قطبي الشعور بين التشبيه والتنزيه. فإثبات الزيادة ينتج عنه إثبات الحدوث خشية الوقوع في الشرك مع أن النسق هو إثبات الزيادة مع القِدَم. وأحيانًا يكون إثبات قِدَم الصفات أولى من إثبات علاقة الزيادة أو المساواة فيُلغى الحكم الثاني من الأساس. وأحيانًا يثبت قِدَم الصفات دون الزيادة إيثارًا للوحدة على التعدد، ودفعًا لشبهة كثرة القدماء وتعدد الآلهة. وبالرغم من إثبات الصفات وإثبات قِدَمها فإنه يمكن إثبات وحدتها مع الذات ووحدتها مع نفسها محافظة على الوحدة في الألوهية، وبالتالي يثبت قِدَم الصفات دون مغايرتها للذات.٤٤ وأحيانًا يتم وضع كل ذلك في إطار المجاز باستعمال التأويل أي العودة إلى نشأة المسألة في الشعور واكتشاف دلالاتها الإنسانية ووجوهها الاعتبارية، وأن ذلك كله ليس على الحقيقة بل على محض التصوير.٤٥
ويختار العلم كصفة مفضلة لإثباته زائدًا على الذات حتى لا يتكرر الإثبات لجميع الصفات، فهو أولى الصفات، وما ينسحب عليها ينسحب عليها كلها. كما أن العلم هو الأصل والشروط وباقي الصفات مؤسسة عليه ومشروطة به.٤٦ ولكن بالرغم من إثبات أن العالم يعلم بعلم واحد، قائم بذاته، قديم أزلي، متعلق بجميع التعلقات وإثبات القدرة كصفة زائدة تبدو بعض الصعوبات في تعميم ما يُقال على العلم عن باقي الصفات. فإذا كان الله عالمًا فكيف يكون مريدًا لنفسه؟٤٧
والحجج النقلية لإثبات الصفات زائدة على الذات ممثلة في العلم كثيرة. ولكن الحجج النقلية لإثبات الصفات مساوية للذات أيضًا كثيرة، ويمكن قلب حجج الزيادة إلى حجج مساواة عن طريق التأويل.٤٨ كما أن الموضوع لم يأتِ من استنباط معانٍ من النصوص بل يعبر عن مقتضى التوحيد، أي أنه مطلب ذهني خالص لا يثبت إلا بالحجج العقلية، خاصةً وأن النقل ظن والعقل يقين كما بان ذلك من نظرية العلم.
الحجج العقلية إذن ضرورية لإثبات الصفات، العلم أو القدرة لأن براهين إثبات الصانع تثبت فقط أنه موجود قديم في مقابل العالم الحادث، وذلك في حد ذاته يدل على أن العلم والقدرة صفات زائدة على الذات. فكما أنه لا يوجد آمر بلا أمر أو مريد بلا إرادة، فكذلك لا يوجد علم بلا عالم. دلالة الفاعل على الفعل إذن أمران: الأوَّل لو انتفت الصفة لانتفى الموصوف، والثاني لو انتفت الصفة لكان نفس العلم هو العالم. العالم في حاجة إلى تعليل بالعلم، فكل ذات له موضوع، وكل شعور هو شعور بشيء، والعلم المتعلق بالمعلوم غير العالم. ما دام العلم هو نسبة، والعلوم وهي المسماة بالشعور والعلم والإدراك، فهو أمر زائد أو صفة حقيقية تقتضي هذه النسبة أو توجب حالة أخرى هي العالمية التي توجب تلك النسبة والتي يسميها المتكلمون التعلُّق. وبصرف النظر عن درجات وجود العلم، حال، نسبة، تعلُّق، فإنها زائدة على الذات، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الدليل لإثبات الصفات. ولما كان العلم نسبة مخصوصة وكذلك القدرة وسائر الصفات، في حين أن الذات موجود قائم بالنفس وليس نسبة، وجب التمايز والتغاير بين الذات والصفات. لو كانت الصفات عين الذات لما أمكن حملها على ذاته في علاقة موضوع بمحمول، وكان قول الله واجب بمثابة حمل الشيء على نفسه. وقياسًا للغائب على الشاهد، فإن العلة والحد والشرط لا تختلف غائبًا أم شاهدًا. والفرق بين الذات والذات عالمة، هو الفرق بين التصور والتصديق وذلك يوجب التغاير بين الذات والصفات. ما يُفهَم من عالم أن له علمًا. والعاقل يعقل ذاته ويعقل حالته ووصفه بعد ذلك. هناك موصوف وصفه. ولكن نظرًا لتركيز اللغة استغنينا عن الصفة واكتفينا بالموصوف اختصارًا. وقد تأخذ الحجة صيغة جدلية، فإمَّا أن يكون عالمًا بنفسه أو يعلم ويستحيل أن يكون هو نفسه. فإن كان عالمًا بنفسه كانت نفسه علمًا، ويستحيل أن يكون العلم عالمًا والعالم علمًا. فالصفات إذن زائدة على الذات. وتُستَعمل نفس الحجة بالنسبة للقدرة والحياة والسمع والبصر وباقي الصفات.٤٩ والحقيقة أن إثبات الصفات بناءً على أنه لا موصوف بلا صفة تشبيه إنساني خالص وفرض مقولة إنسانية على الشعور بالتنزيه، إن لم يكن وقوعًا مباشرًا في التشبيه الحسي. علاقة الصفة بالموصوف علاقة الدليل بالمدلول على مستوى العقل الخالص.
لا يكفي فقط إثبات الصفات، ولكن لا بد أيضًا من إثبات تغايرها فيما بينها وتمايزها عن الذات. فما يفهم من كل صفة غير ما يفهم من الصفة الأخرى. وتغاير الصفات دليل على وجودها، وكون كل اسم يفيد معنًى غير الاسم الآخر دليل على وجود مسميات متغايرة. ولو كان العلم نفس القدرة لكان كل معلوم مقدورًا، وهذا مستحيل لأن الواجب والممتنع معلومات وغير مقدورة. ولو كان العلم والقدرة نفس الذات لكان العلم نفس القدرة في حين أن المفهومين مختلفان.٥٠ كما تثبت الصفات لأن مظاهرها موجودة في الأفعال، والأفعال تحدث في العالم، فكيف يوجد فعل علم في العالم بلا علم؟ وكيف يوجد فعل قدرة في العالم بلا قدرة؟ العلم علة العالم، والقدرة علة القادر، والحياة علة الحي، فصلة اسم الفاعل باسم الفعل هي صلة المعلول بالعلة.٥١ والحقيقة أن خطورة إثبات الصفات تختلف باختلاف كل صفة وأخطرها القدرة والإرادة؛ لأنها تتعلق بالمقدورات والمرادات وبالتالي تمثل خطورة على حرية الأفعال. فإثبات القدرة والإرادة الشاملتين يوجبان أساسًا قدرة الإنسان وإرادته على خلق الأفعال وحرية الاختيار. وإذا ثبتت صفة تثبت بالضرورة باقي الصفات. فما دام الكلام ثابتًا، وهو الوحي المقروء المسموع، فلم لا يثبت العلم أو القدرة أو الحياة؟ وهنا يبدو الدليل صاعدًا من الحسي إلى العقلي كما يفترض أن الكلام حسي وليس صفة عقلية كباقي الصفات، وبالتالي فهو محدث مخلوق وهو ليس موقف الأشاعرة مثبتي الصفات.٥٢ كما أن إثبات الصفات ضرورة لإثبات الأسماء، إذ إن نفي الصفات يؤدي إلى نفي الأسماء. فالأسماء أحد تعينات الذات كالصفات على نحو أبرح وأشمل وأكثر اتساعًا وانتشارًا.٥٣ وإثبات الصفات ضرورة من ضرورات الشرائع، فالشريعة تدل على علم كما يدل الكلام عليه. والحقيقة أن الشريعة نظام واقعي وضعي ولا تعني بالضرورة الإشارة إلى صفة للذات المشخصة. أساسها في الواقع، وهدفها إقامة مصالح الناس بصرف النظر عن مصدرها ودلالتها على وجوب ذات مشخصة أو على إثبات صفاتها.٥٤ وتدخل حجة القِدَم في إثبات الصفات عن طريق إثبات العلم بالأشياء قبل كونها. والحقيقة أن ذلك إحالة للصفات السبع إلى الأوصاف الستة وقياس العلم على القِدَم وتظل مسألة باقية. فإذا كان القِدَم عين الذات كان العلم كذلك.٥٥ وأخيرًا يقتضي الكمال إثبات الصفات، فالذات بلا صفات نقص.٥٦ والحقيقة أن هذا تشبيه إنساني خالص، فالوعي الخالص وعي كامل لأنه وعي نظري مستقل، وحدانيته لا تعدُّد فيها، بل إن إثبات الصفات هو الذي يجعل الذات ناقصة في حاجة إلى إكمال بالصفات.
أمَّا حكم المساواة أو الهوية، مساواة الصفات للذات أو هوية الذات مع نفسها، فهو في الحقيقة إحدى طرق نفي الصفات. فالتوحيد بين الذات والصفات أعلى درجة من درجات التوحيد بإثبات الوعي الخالص دون أي شائبة أخرى توحي بالاشتراك وبإثبات العلم المستقل دون أية شبهة أخرى للتشخيص. وبالتالي يصبح الباري مجموعة من المبادئ العامة والقيم المطلقة كرد فعل على تشخيص الذات وتشبيهها دون أن يكون هناك كائن مشخص وراءها. وقد شارك الحكماء والمعتزلة في نفي الصفات. فالكلام عندهم مجرد أصوات يسمعها النبي لا وجود لها في الخارج في اليقظة أو في النوم أو رؤى يراها ما إذا أضيفت في نفسه. ولا شأن للكلام بذات الله أي الكلام القديم الذي يتحدث عنه الأشاعرة. الكلام ظاهرة نبوية وليس إلهية.٥٧
وقد ينفي بعض الصفات ويثبت البعض الآخر. فينفي العلم مثلًا كصفة زائدة على الذات وتثبت الإرادة دون محل ويثبت الكلام في محل.٥٨ قد يكون عالمًا بنفسه ولكنه لا يكون قادرًا بنفسه. العلم غير القدرة. فإثبات القدرة إثبات للفاعلية في العالم بالرغم من خطورة اصطدامها بحرية الإنسان وخلق الأفعال. وقد يثبت الكلام زائدًا على الذات نظرًا لأنه جسم حسي، كلام مكتوب ومقروء وليس صفة معنوية تتعلق بالذات. فإذا كان الله مريدًا لذاته قادرًا لذاته، فإن أفعاله ستكون منعكسة على ذاته، وبالتالي تفسح المجال إلى أفعال الإنسان في العالم وحرية الاختيار. وهذا لا يعني وقوع تناقض في الأفعال أو تعلق الإرادة بمرادين مختلفين، وذلك لأن الإرادة صفة ذات وليست صفة فعل. إن إثبات الإرادة وليس نفيها هو الذي يضحِّي بحرية الأفعال. فالإرادة شاملة بشمول الذات، شمولها نظري وليس عمليًّا حتى يمكن للإنسان أن يحقق إرادته في العالم.٥٩
وهناك حجج نقلية أيضًا لإثبات أن الصفات عين الذات. والحقيقة أن الدافع على اختيارها وقراءتها هو دافع عقلي خالص. فالعقل هنا هو الذي اختار النقل وقرأه. هذا بالإضافة إلى إمكانية اختيار نقل آخر معارض أو تأويل النقل الأوَّل تأويلًا مضادًّا بدافع آخر إن لم يكن عقليًّا فإنه يكون سياسيًّا. والآيات كلها تتحدث عن «السميع» و«البصير» وليس عن السمع والبصر، أي أن الصفات للذات دون أن تكون زائدة عليها.٦٠
أمَّا الحجج العقلية فإنها تعتمد على نفي الشرك والتعدد والتغاير في الذات. لو كان له علم قديم لكان مشاركًا للذات في القِدَم وذلك يقتضي تماثلهما، وألا يكون أحدهما أولى بالذات أو الصفات من الآخر، فيلزم القول بقدماء متعددة وإثبات القدماء كفر مثل النصارى. القديم ذات واحدة، ولا يجوز إثبات ذوات قديمة متعددة، والدليل على ذلك كونه عالمًا قادرًا حيًّا وليس على علم وقدرة وحياة. الله بجميع صفاته واحد، وجميع صفاته قديم غير محدث. وإثباتًا لعدم التغاير امتنع مثبتو الصفات أيضًا عن تسميتها مغايرة للذات. فالمتغايران موجودان يفارق أحدهما الآخر، أي جسمان. سؤال التغاير في الله لا محل له، فالله واحد بجميع صفاته. الصفات غير قائمة بذاتها بل بالذات. ويشارك الفقهاء المعتزلة والحكماء في الدفاع عن التوحيد وإثبات الوحدانية ورفض التعددية والشرك دون ما خوف من الأشعرية، فهي ليست مذهبًا قدسيًّا يستعصى على النقد.٦١ كما أن إثبات الصفات زائدة على الذات يوجب أن يكون علم الله مماثلًا لعلمنا. فإمَّا أن يكون علمه محدثًا كعلمنا أو يكون علمنا قديمًا كعلمه. لو كان عالمًا بعلم لوجبت المماثلة، والمماثلة إمَّا قدوم أو حدوث. لو كان عالمًا بعلم لتعلق علمه وعلمنا بشيء واحد، فيلزم التماثل حدوثًا وقدمًا، وبالتالي لزم تحيز العلم وتحيز العالم في جسم متحيز.٦٢ ويؤدي ذلك إلى نفي القدرة. فالقدرة مشتركة في الشاهد فيعدم صلاحيتها لخلق الأجسام. والحكم المشترك يجب تعليله بالعلة المشتركة، ولا مشترك سوى كونها قدرة، فلو كان لله قدرة لم تصلح لخلق الأجسام، قياسًا للغائب على الشاهد. ولما كانت الصفات واجبة فإنها تستغني في وجوبها عن العلة. العالمية واجبة والوجوب يستغني عن العلة. العالمية والقادرية واجبة لا تحتاج إلى الغير. وأخيرًا تُصاغ بعض الحجج الجدلية اعتمادًا على القسمة، فلو كان عالمًا بعلم فإمَّا أن يكون عالمًا بعلم واحد أو بعلوم منحصرة أو بعلوم لا نهاية لها. ولما كان ما لا يتناهى محال، وكان الانحصار نقصًا يكون العلم واحدًا لا يتعلق بغيره. العالم بما لا نهاية يلزم علومًا غير متناهية، والعلم بعلم يلزم التسلسل، ولو كان ذات علم لكان فوقه عليم: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. أو يُقال مثلًا لو كان عالمًا بعلم لكان لا يخلو إمَّا أن يكون معلومًا أو لا يكون، فإن لم يكن معلومًا لم يجز إثباته وإن كان معلومًا إمَّا أن يكون موجودًا أو معدومًا. ولا يجوز أن يكون معدومًا. وإن كان موجودًا فإمَّا أن يكون قديمًا أو محدثًا، وكلاهما باطل. فلم يبقَ إذن إلا أنه عالم لذاته. وبعبارة أخرى إمَّا أن يكون العلم غيره أو لا، فإن كان غيره فهو محدث أو قديم، وكلاهما فاسد. أمَّا الفلاسفة فقد استعملوا حجة الكمال. فلو كانت له صفة لافتقرت إلى الذات وتكون ممكنة في حاجة إلى مؤثر هو الذات والقابل فتكون الذات قابلًا وفاعلًا، علةً ومعلولًا، وهو محال. وفي هذه الحالة ينقسم الله إلى واجب الذات وممكن الصفات.٦٣
والجمع بين الزيادة والمساواة، أي بين الغيرية والهوية، مثل أن يُقال عالم بعلم وعلمه ذاته، قادر بقدرة وقدرته ذاته، حي بحياة وحياته ذات، مثل إثبات الصفات ثم نفيها، تحصيل حاصل، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، إقدام وإحجام مثل جسم لا كالأجسام أو شيء لا كالأشياء تعبر عن توتر الشعور بين قطبي التشبيه والتنزيه.٦٤

والحقيقة أن هذا الحكم بالزيادة والمساواة، بالغيرية والهوية، يقوم على طبيعة الذهن وتعريفه للأشياء عن طريق إثبات هويتها أو اختلافها مع بعضها البعض، وهي قسمة تعادل الإثبات والنفي. فالمساواة نفي أن يكون الشيء هو غيره، والزيادة إثبات أن الشيء هو غيره. ومع ذلك، فإن وضع التأليه في هذه القسمة الذهنية ينال منه بصرف النظر عن الحل المختار، فالزيادة أو المساواة نظرة كمية للذات الإلهية أي للوعي الخالص في حين أن التنزيه يقتضي تصورها على أنها كيفية محضة. التنزيه كيف والتشبيه كم. وهما يفترضان التركيب والقسمة في الذات، في حين أن التنزيه يقتضي بساطتها. ويكون إثبات المساواة أقرب إلى التنزيه لأنها إثبات للبساطة. كما يفترضان الكثرة والتعدد في الذات في حين أن التنزيه يقتضي الوحدة. كيف يكون للذات صفات، ثلاثًا أم أربعًا أم سبعًا أم تسعًا وتسعين أم عددًا لا نهائيًّا من الصفات وهي ذات واحدة؟ ولكن بغية التقريب، يكون إثبات المساواة أقرب إلى التنزيه نفيًا للكثرة وإثباتًا للوحدة، وتكون الزيادة أقرب إلى التشبيه إثباتًا للكثرة ونفيًا للوحدة.

ومع ذلك فقد تنبه القدماء والمحدثون معًا إلى خروج هذه الأحكام عن أصل الوحي وأنها تفريعات إضافية، أو تمرينات عقلية إنسانية صرفة.٦٥ فإذا كان العقل عند القدماء قاصرًا عن الغوص في هذه الأسرار فإن تحليل التجارب الإنسانية يستطيع الكشف عن أساسها في الشعور وبنيتها في الذهن. إذ ترجع مشكلة الذات والصفات إلى قسمة الذهن الأشياء إلى جوهر وعرض. فكما أن الجوهر حامل للأعراض تكون الذات حاملة للصفات. وقسمة الأشياء إلى جوهر وعرض قسمة ذهنية يسقطها التصور مرة في الإلهيات، ومرة في الطبيعيات، ومرة في الإنسانيات، في الأفعال.٦٦
الصفات إذن مجرد أسماء عبر الشعور الناطق عن عملية التنزيه وعن حالاته دون أن يشير بها إلى أي مضمون شعوري أو إلى أي وجود واقعي. فكل الصفات هي في الحقيقة أسماء أو ألفاظ صاغها الشعور للتعبير بها عن عملياته. هي أقوال أو عبارات تدل على موقف ذاتي خالص تعبر عن أماني وعواطف إنسانية دون أن تشير إلى شيء في الواقع.٦٧ لكن نظرًا لشدة العواطف وصفاء التنزيه تخلق الكلمة الشيء، وتتحول الذاتية إلى موضوعية تحوُّلًا ذاتيًّا افتراضيًّا خالصًا وليس تحوُّلًا حقيقيًّا بالفعل. والحقيقة أن مشكلة الذات والصفات (والأفعال) لا يمكن حلها إلا بالرجوع إلى مصدر المشكلة في الحياة الإنسانية على مستوى التجربة الشعورية لا على مستوى الافتراض بالخيال. فالقسمة إلى ذات وصفات لا تصف شيئًا في الواقع، بل تعبر عن قسمة إنسانية خالصة موجودة في الحياة الإنسانية، ثم استعملها المتكلم كوسيلة للتعبير عن عواطف التأليه. ولما كان الذهن الإنساني في الحكم يقوم على الهوية والاختلاف، أصبح السؤال: هل الصفات عين الذات أم زائدة على الذات؟ وبصرف النظر عما يتضمن اختيار أحد الحلين بالنسبة إلى التنزيه والتشبيه أو بالنسبة إلى الحرية والجبر أو بالنسبة إلى استقلال الطبيعة أو تبعيتها، فإن بناء المشكلة ذاته بناء إنساني أسقطه الإنسان إلى أعلى كي يسمح له بالتعبير عن عواطف التأليه. ففي علم الشخصية هناك ما يُسَمَّى بالشخصية وسماتها. الشخصية هي الحامل المعنوي لسماتها، أو هي افتراض إنساني خالص يسمح بتجميع عديد من السمات والأفعال عليه كالنواة في الذرة التي تدور حولها الكهربات أو كَلُبِّ الزهرة الذي تدور حوله الأوراق، علاقة المركز بالمحيط. وفي علم الأخلاق في تراث معاصر لنا خرجت مذاهب أخلاقية تقوم على الذات أو الشخص كقيمة مستقلة بذاتها بصرف النظر عن صفاتها وأفعالها. فالإنسان من حيث هو إنسان قيمة في ذاته والصفات زائدة عليها. وكيف يمكن تقييم الكل بالجزء؟ وفي تجربة الحب الإنساني تظهر مسألة الذات والصفات. هل يقوم الحب بناءً على اعتبار الذات وحدها بصرف النظر عما للحبيب من صفات وأفعال، أم أن الحبيب هو مجموعة من الصفات والأفعال لأجلها صار حبيبًا، فإذا ما تغيرت تغير الحب؟ الحب القائم على الذات بصرف النظر عن الصفات والأفعال حب مجرد منزه، يعتبر الصفات والأفعال زائدة على الذات، في حين أن حب الصفات والأفعال قائم على التوحيد بين الذات والصفات وعدم افتراض ذات وراء الصفات أو اعتبار صفات زائدة على الذات. وفي موقف الخصام يسهل الفصل بين الحبيبين في حالة حب الصفات والأفعال. ما دامت الصفات والأفعال قد تغيرت فإن الحب يتغير أو ينتهي. في حين أنه في حالة حب الذات المستقلة عن صفاتها وأفعالها لا يمكن الفصل بين الحبيبين لأن حب الذات مستقل عن الصفات والأفعال. ومهما تغيرت الصفات والأفعال يبقى الحب، حب مجرد منزه، حب للذات الخالدة. وفي القانون الجنائي يقوم الحكم بالإعدام على افتراض أن الذات مساوية للصفات والأفعال. فإذا كانت الصفات والأفعال خارجة على القانون، فإنه يقضي على الذات بإعدامها لأنه لا توجد ذات وراء الصفات والأفعال. ويقوم نفي الإعدام على افتراض أن الصفات والأفعال زائدة على الذات، وأنه مهما بلغت الصفات والأفعال من خروج على القانون إلا أنه لا يمكن القضاء على الذات لأن الذات قيمة مطلقة لا يمكن مساواتها أو معادلتها بما هو أقل منها، أي صفاتها وأفعالها. والتوحيد بين الذات والصفات وإنكار وجود صفات وأفعال زائدة على الذات يقوم على العدل دون الرحمة. ففي مواقف الحب أو العقاب معاملة الحبيب أو المذنب على أن ذاته مساوية لصفاته وأفعاله معاملةً تقوم على العدل دون الرحمة. لذلك يحب الحبيب أو يخاصم ويعاقب المذنب. في حين أن الفصل بين الذات والصفات وإثبات ذات وراء الصفات والأفعال يقوم على الرحمة دون العدل. ففي مواقف الحب أو العقاب مهما تغيرت صفات الحبيب لدرجة الصفات المضادة، فإنه لا يمكن أن يهجر؛ لأن له ذاتًا مستقلة. ومهما بلغت صفات المذنب وأفعاله من استهجان، فإنه لا يمكن أن يعدم لأن له ذاتًا مستقلة. ويقوم تصور العدل والرحمة في الآخرة أيضًا على هذا الأساس. فالعدل يقوم على اعتبار أن الذات هي عين الصفات، ومِنْ ثَمَّ يتم تقييم الذات حسب صفاتها وأفعالها، في حين أن الرحمة تقوم على أن الذات مستقلة عن الصفات والأفعال، وأنه بالرغم مما قد يكون للذات من صفات وما تأتي به من أفعال فإنه لا يمكن تقييمها بها، وإصدار الحكم عليها.٦٨

(٤) هل الصفة حال أو علة؟

وإثبات الأحوال هو أحد الحلول المتوسطة بين إثبات الصفات ونفيها. فالعلمية حال وليست صفة.٦٩ ويظهر الحال لأول مرة لحل مسألة إثبات الصفات أو نفيها على أنها أول قاعدة في إثبات الصفات وفي نفس الوقت أحد أسس نفي الصفات! والأحوال ليست أقرب إلى حكم الإثبات منها إلى حكم النفي لأن الحال وسط بين الوجود والعدم. فأصحاب الإثبات يجرون الحال نحو الإثبات، أصحاب النفي يجرونه نحو النفي.٧٠ والقول به ليس أثرًا من النصارى بل يخضع لضرورة داخلية صرفة للاختيار بين أحكام الصفات وإيثار اعتبارها أحوالًا، فلا هي ذاتية خالصة ولا هي موضوعية خالصة، بل إحالة متبادلة بين الذات والموضوع.٧١ الصفات مجرد حالات شعورية يعبر عنها باسم الفاعل أكثر من كونها وجودًا موضوعيًّا يعبر عنه باسم الفعل. الحال وسط بين الذات والصفة، بين العالم والعلم هناك العالمية، وبين القادر والقدرة هناك القادرية، وبين الحي والحياة هناك الحيية. ومع ذلك يكون الحال أقرب إلى اسم الفاعل منه إلى اسم الفعل، وأقرب إلى الذات منه إلى الموضوع. لا يتجاوز اسم الفاعل إلى إثبات موصوف مشخص أو ذات تكون حاملًا له. فإذا لم تكن الصفات مساوية للذات كما هو الحال في نفي الصفات أو في خلقها، وإذا لم تكن زائدة على الذات كما هو الحال في إثبات الصفات أو قِدَمها، فإنها تكون أحوالًا. الحال وسط بين نفي الصفة وإثباتها. الحال ليس هو الذات لأنه حال الذات، ولا هو الصلة لأنه غير مستقل عن الذات وحال لها. الحال مقولة إنسانية خالصة تعبر عن حال الشعور وتكشف عن أصل المسألة فيه. الحال إجابة عن سؤال إنساني صرف: هل العالم قد فارق الجاهل بما علم لنفسه أو لعلة؟ ولما كانت المفارقة ليست لنفسه مع كونها من جنس واحد كما بطل أن تكون المفارقة لا لنفسه ولا لعلة، فإنها تكون لكونه عالمًا لمعنى ما، والمعنى صفة أو حال. ومِنْ ثَمَّ يكون الحال هو أساس المعنى والصفة. يظهر الحال إذن في ثلاثة مواضع: الأوَّل الموصوف الذي يكون موصوفًا لنفسه، فاستحق ذلك الوصف لحال كان عليها، والثاني الموصوف بالشيء لمعنى صار مختصًّا بذلك المعنى لحال، والثالث ما يستحقه لا لنفسه ولا لمعنى فيختص بذلك الوصف دون غيره عنده لحال. فعند اختصاص الشيء للموصوف لا لنفسه لأنه يوجب اختصاصه لجميع العلوم ولا لمعنًى والمعنى لمعنًى إلى ما لا نهاية ولا لنفسه ولا لمعنًى لأنه ليس أولى من غيره يكون اختصاصه لحال.٧٢ ويُستعمل لفظ «الأحوال» دون «الحالات» لأن الأحوال وسط بين الذات والصفات، لا هي نفي لصفات زائدة على الذات، ولا هي إثبات لصفات زائدة على الذات، في حين أن الحالات مجرد أحوال للنفس، أي حالات شعورية لا تفترض ذاتًا كمشجب تعلق عليها نفسها. وقد ظهر الحال من قبل كوسط بين الوجود والعدم في نظرية الوجود في المقدمات النظرية. فالحال صفة غير موجودة ولا معدومة كالأجناس والفصول. وإذا كانت هذه القسمة ترجع إلى عاطفة دينية متطهرة، فإن الحال يكون هو المرجع لها. الوجود والعدم كل منهما حال، أي صفة أو حالة شعورية، ليس الوجود فقط هو الوجود الشيئي، بل هو حالة وجود. فالوجود إيجاد، وعملية وجود، والعدم إعدام أو عملية إعدام، وهنا تنتقل نظرية الوجود إلى تحليلات الشعور.٧٣
ويصعب تعريف الحال تعريفًا منطقيًّا صرفًا. ولكن يمكن وصفه بأنه ليس شيئًا، ولا يوصف بصفةٍ ما، لا موجودًا ولا معدومًا، لا يعلم على حاله، ولكن يعلم مع الذات، يوجد حيث توجد صفات الحياة لا صفات الأكوان، فالحال شرط الحياة. ويمكن ضبطه عن طريق القيمة، فمنه ما يعلل ومنه ما لا يعلل، الأوَّل أحكام لمعاني قائمة بالذوات والثاني صفات ليست أحكامًا لمعاني لا تُعلم بانفرادها ولا تُعلم إلا مع الذات. الحال إذن نوع من إثبات حالة خاصة لا هي علم ولا معلوم، لا مجهول ولا معلوم، لا مقدور ولا مراد، حالة شعورية خالصة قبل أن تتحول إلى موضوع وبعد أن تعين الوعي الخالص في إحدى درجاته الأولى.٧٤ وهو أقرب إلى البداهة إذا فُهم على أنه حالة شعورية يتحد فيها الذات والموضوع. فالعلم حالة شعورية للعالم لا هو شخص العالم ولا هو صفة زائدة عليه، وبالتالي يكون الخلاف حول إثبات الأحوال أو نفيها مجرد وهم عقلي.٧٥
ومع ذلك فقد استعمل كفريق من مثبتي الأحوال ونفاتها حججًا عقليةً منطقيةً أو جدليةً إمَّا للإثبات أو للنفي. يقوم النفي على عدة حجج منها: أن الأحوال غير معلومة؛ لأن المعلوم شيء والأحوال ليست أشياء. وكيف يمكن معرفة الحال وهو غير معلوم؟ والحقيقة أن الحال إن لم يكن معلومًا عقلًا ومنطقيًّا، فإن صاحب الحال يشعر به، فالشعور أحد درجات المعرفة قبل أن يتم تنظيرها عقلًا. بل إن الشعور يمتاز بأنه يبقى على الموضوع مع رؤية ماهيته، في حين أن العلم قد يقضي على الموضوع في سبيل التصور. ويُقال أيضًا إن الأحوال ليست متغايرة لأن التغاير بين الأشياء. فهي ليست معاني ولا مسميات مضبوطة ولا محدودة متميزة عن بعضها البعض، وبالتالي فهي عدم. ولا تكون التسمية إلا شرعية أو لغوية أو اصطلاحية وهي ليست كذلك. الأشياء تختلف وتتماثل لذواتها، أمَّا أسماء الأجناس والأنواع فيرجع عمومها إلى الألفاظ المدلة عليها وكذلك خصوصها والأحوال ليست كذلك. خطأ نفاة الأحوال إذن هو رد العموم والخصوص إلى الألفاظ المجردة، أو الحكم بأن الموجودات تختلف بذواتها ووجودها، وكذلك رد التمييز بين الأنواع إلى الذوات. الاختلاف والاتفاق بين الذوات لا يشترك في شيء مثل الصفة، بل الشيء هو اللفظ الدال على الجنسية والنوعية والعموم، فإذا كانت الأحوال إمَّا مختلفة أو متماثلة فإنها تتسلسل إلى ما لا نهاية لأنها ليست أشياء. وعند الحكم بجواز تماثل المختلفين يلزم كون الرب مماثلًا للخلق وهو محال. والحقيقة أن ذلك خلط بين الكم والكيف. فالأحوال كيفيات وليست كميات، والألفاظ مجرد تعبير عنها ولا تشير بالضرورة إلى مسميات. وهي فردية وليست شيئية، وبالتالي لا يمكن معرفة اتفاقها واختلافها إلا بالتعاطف مع الآخرين أو في تجارب جماعية مشتركة. ويُقال أيضًا إن الأحوال موجودة أو معدومة، قديمة أو محدثة، والوجود ليس بحال. فالحال إمَّا أن يكون موجودًا أم لا. فإذا كان موجودًا إمَّا أن يكون جوهرًا أو عرضًا فيتسلسل فوجب أن يكون غير موجود أو عدم ولا واسطة بين الوجود والعدم. والحقيقة أن الحجة تقوم على موقف فلسفي مسبق، وهو رفض الواسطة بين الوجود والعدم، بين النفي والإثبات، في حين أن الحال هو هذه الواسطة، وقد تم حل القضية من قبل في نظرية الوجود. وقد يُقال إن الأحوال لا هي ولا غيره، والصفات لا هي ولا غيره، وبالتالي لا يتميز وجودها بشيء. والحقيقة أن الأحوال هي الصلة بين الذات والصفة، بين الأنا والغير، بين الذات والموضوع. الحال هي علاقة الهوية في حالة الحركة الذاتية والتخلق الذاتي. وقد تفند الأحوال برفض العلم النفسي، إذ إن الأحوال عمومات وخصوصات ووجوه عقلية واعتبارات. والحقيقة أن العلم النفسي هو أصل العلم العقلي والعلم الحسي. ففي الشعور يلتقي الذات بالموضوع، والمعرفة بالوجود. وإن نفي الحال لضرورة التمايز بين الأشياء بذواتها يستحيل بعده قياس الغائب على الشاهد، وهو أساس الاستدلال في الفكر الديني، ولا يكفي في ذلك مجرد الاعتماد على الوجوه والاعتبارات العقلية مثل العلة والمعلول والدليل والمدلول؛ لأنها كلها استدلالات صورية لا تعتمد على الحس. وإذا لم يكن هناك فاعل في الحقيقة بل مجرد مكتسب فكيف يمكن قياس الغائب على الشاهد؟ والاعتماد على الإحساس الداخلي هو في النهاية إثبات للحال. ولا يمكن في النهاية فهم الحجج العقلية التي تقوم على القسمة وحصر الاحتمالات وإبطالها جميعًا باستثناء المطلوب إثباته إلا بالرجوع إلى التجربة الحسية التي منها نشأت، وهو أيضًا طريق لإثبات الحال.٧٦
أمَّا إثبات الحال فيقوم على حجج مقابلة كلها عقلية لما كانت الحجج النقلية متشابهة ظنية متضادة، يسهل قلبها إلى حجج مضادة.٧٧ فالحال حالة نفسية للذات وليس صفة مستقلة عنها، العلم حالة علم، والقدرة حالة قدرة، والحياة حالة حياة. هناك إذن أحوال ثلاثة: العالمية، والقادرية، والحيية. ثم حالة رابعة أوجبت هذه الأحوال الثلاثة وهي الألوهية.٧٨ والأدلة على ثبوته عديدة منها أن من علم بوجود الجوهر ولم يحط علمًا بتحيزه ثم استبان تحيزه فقد استجد علمًا متعلِّقًا بمعلوم ويسوغ تقدير العلم بالوجود دون العلم بالتحيز، فإذا تغاير العلمان بطل أن يكون العلم الثاني هو العلم الأوَّل، فالثاني إحاطة بما لم يحط به الأوَّل. ونظرًا لاختلاف العلمين يكون الثاني حالًا. وقد يعلم العالم كونه عالمًا قبل أن ينظر في الأعراض، وهذا العلم حال. الحال إذن حال العلم أو العلم بالعلم أو الوعي بالعلم. نعقل الذات ثم نعقل حركتها، وهذا العقل الثاني هو الحال. فلا يمكن إثبات الصفات دون إثبات الحال؛ لأن الحال هو طريق العلم بالصفات. يفضي إنكار الأحوال إلى إنكار القول بالحدود والبراهين وألا يتوصل أحد من معلوم إلى مجهول، ولا سيَّما الصفات، إذ منشأ القول بها ليس إلا قياس الغائب على الشاهد. كما أن اختلاف مفاهيم عالم وقادر تُوِّج بالتغاير، وبالتالي توجب ثبوت الحال، فحال العالمية غير حال القادرية، وهو نفس دليل إثبات الصفة، ولكن إثبات الحال به أولى. لما كانت الذوات مختلفة تتفق في شيء وتختلف في شيء، فإن حال كل منهما غير حال الآخر، وبالتالي فإن غيرية الذوات تثبت غيرية الأحوال. من يعلم الجوهر قد يجهل التحيز مع العلم بالوجود، وهما علمان متغايران. وإذا علم الإنسان شيئين مختلفين، فالاختلاف ليس راجعًا إلى الوجود بل إلى الحال. وقد يأتي إثبات الحال من جانب الموضوع باعتباره حالة شعور. فإذا استحالت قدرة لا مقدر لها وعلم لا معلوم له يثبت الحال لأنه موطن ظهور الموضوع وانكشافه فيه. ولا يمكن نفي الحال وإثبات العلة. ولما لم يصر أحد من المحققين على إبطال المعلل ثبت الحال.٧٩ لا يعني إثبات الحال أن يصبح الوجود قديمًا حادثًا جوهرًا وعرضًا، في آن واحد لا تمايز فيه ولا اختلاف، بل يعني أن الوجود حال انتقال من طرف إلى آخر، أي أن الوجود حركة وصيرورة. لا يعني إثبات الحال إيهام شيء واحد في شيئين مختلفين أو شيئين مختلفين في شيء واحد، ولا يعني اتحاد المتكثرات المختلفات في شيء واحد ومتبدل الأجناس من غير تبدل في الوجود كتبدل الصورة في الهيولى عند الحكماء، بل يعني التعبير عن وحدة الصفة والموصوف أو الذات والموضوع في الحال بدلًا من هذه الثنائية المصطنعة المفترضة التي تقسم الشيء الواحد إلى طرفين متعارضين، لا التقاء بينهما ولا مصالحة، يستبعد كل منهما الآخر ويزيد عليه. ليس الخطأ في إثبات الحال إلى اعتبار الوجود حال ونفي الوجود وجودًا لأن الوجود علية تحقق حال وجود وليس واقعة وجود. فإذا ما تحقق حال الوجود في عملية الإيجاد فإنه يصبح وجودًا متحققًا في النهاية قد يرتد إلى حال وجود إن لم تتم المحافظة عليه كوجود دائم ومستمر من خلال نشاط الإنسان وفعله. ليس الخطأ في إثبات الحال هو إثبات صفات متحيزة وصفات مشتركة في آن واحد؛ لأن الحال بطبيعته يفرد ويشارك، يميز ويوحد، يفارق ويشابه. ولا يعني إثبات الحال إنكار أثر الفاعل إرادةً وقدرةً؛ لأن الحال هو وجود الموضوع في الذات كحالة أولى للنظر قبل أن تتحقق الحالة الثانية في العمل. فالتحقيق تجربة وليس مجرد تنفيذ آلي لأمر خارجي أو إرادة قاهرة.٨٠
الحال إذن تجربة إنسانية، توتر بين الوجود والعدم، يعبر عن عملية الإيجاد والتحقق. هو اعتبار إنساني يتحول من التجربة إلى التصور، ومن الوجود إلى الذهن، ولا شأن له بالإلهيات إلا عن طريق قياس الغائب على الشاهد كاستدلال واعٍ أو عن طريق الإسقاط، إسقاط الشاهد على الغائب في فعل لا شعوري رغبةً في الإمساك بشيء.٨١
ويرتبط موضوع الحال بموضوع العلة من عدة أوجه. فكما أن الحال وسط بين إثبات الصفات ونفيها، فكذلك العلة يعتمد عليها مثبتو الصفات لإثباتها كما يعتمد عليها نافو الصفات لنفيها. وبهذا المعنى يكون مبحث العلة فرعًا لمبحث الحال، فالأحوال تنقسم إلى معللة بصفة وإلى غير معللة، فالعلل أحد قسمي الأحوال. العلة حال معلل، والحال المعلل صفة موجودة كالعالمية المعللة بالعلم وغير المعلل كلونية السواد. وليس كل من قال بالعلة يقول بالحال، في حين أن كل من قال بالحال يقول بالعلة؛ لأن نفي الحال يؤدي إلى إبطال العلل والحقائق جميعًا، ولكن قد يُنفَى التعليل كأساس لإثبات الصفات، فواجب الوجود لا يعلل ولا يفتقر إلى تعليل.٨٢
وقد ظهر مبحث العلل من قبل في المقدمات النظرية في نظرية الوجود ابتداءً من القرن الخامس بالاعتماد على مادة الأصوليين والحكماء. والحقيقة أن العلة أحد وسائل أربعة لإصدار حكم على الصفات بالإثبات، وهي العلة والشرط والدليل والحد أو الحقيقة، وكلها تقوم على قياس الغائب على الشاهد. فإذا ثبت كون حكم معلولًا بعلة شاهدًا وقامت الدلالة عليه لزم القضاء بارتباط العلة والمعلول شاهدًا وغائبًا. فإذا ما طُبِّق ذلك في علاقة الذات بالصفات فقد يدل ذلك على الاحتياج والافتقار أو على الحتمية والجبر في تصور علاقة العلة بالمعلول، وهو مُحال على الله. وإذا تبين الحكم مشروطًا بشرط شاهدًا ثم يثبت مثل هذا الحكم غائبًا فيجب القضاء بكونه مشروطًا بذلك الشرط اعتبارًا بالشاهد مثل لو كان العالم عالمًا مشروطًا بكونه حيًّا. فلما تقرر ذلك شاهدًا اطَّرد غائبًا. وهذا أيضًا تحكيم لعلاقة الشرط بالمشروط في علاقة الذات بالصفات. وإذا دل على مدلول عقلًا لم يوجد الدليل غير دال شاهدًا وغائبًا، وهذا كدلالة الأحداث على المحدث. فالدليل هو الجامع للعلة والمعلول والشرط والمشروط، أي أنه عمل العقل في وصوله إلى المعاني. وهو ليس مجرد قضية لفظية، بل يتجاوز اللفظ إلى المعنى. كما أنه لا يرجع إلى التقرير الوهمي، بل إلى عمل العقل. أمَّا الحد أو الحقيقة فمهما تقررت حقيقة شاهدًا في محقق اطردت في مثله غائبًا، وذلك نحو الحكم بأن حقيقة العالم من قام بالعلم. ويرجع الخلاف من جديد إلى اعتبار قول الحاد مبينًا عن الصفة المشتركة على ما هو الحال في إثبات الأحوال إمَّا بالحد اللفظي أو بالحد الرسمي أو بالحد الحقيقي أو إلى اعتبار حد الشيء وحقيقته وذاته وعينه عبارات تعبر عن شيء واحد كما هو الحال في نفي الأحوال. وعلى هذا النحو يكون منطق الصفات منطقًا إنسانيًّا خالصًا، وبالتالي يمكن رد الإلهيات إلى الإنسانيات ورد الإنسانيات إلى المنطق. وقد كان المنطق في علوم الحكمة مقدمة للطبيعيات والإلهيات.٨٣

(٥) القِدَم والحدوث

وهو الحكم الثالث من أحكام الصفات بعد حكمي النفي والإثبات والهوية والغيرية. واتِّباعًا للنسق العام يؤدي إثبات الصفات إلى القول بهويتها على الذات وإلى القول بحدوثها. وفي بعض الأحيان يظهر نفي الصفات في مقابل القِدَم وليس في مقابل الإثبات، أي أن أطراف النسق قد تتبادل فيما بينها لأنها تؤدي نفس الوظيفة. الطرف الأوَّل يهدف إلى التشبيه والثاني إلى التنزيه، وتوتر الشعور بين هذين القطبين. ونظرًا لأهمية الموضوع فإنه يظهر في المقدمات، في التسبيحات والبسملات، كما يدخل في دليل الحدوث وإثبات قِدَم الصانع ضد الحكماء الذين يثبتون قِدَم العالم، فالقِدَم صفة الله عند المتكلمين وصفة للعالم عند الحكماء. كما يدخل في أول وصف للذات وهو القِدَم، ويكون بذلك أول دليل على حكم القِدَم.٨٤
والحقيقة أن الحجج لإثبات قِدَم الصفات كلها عقلية؛ وذلك لأن النقل ظني متشابه مضاد بنقلي آخر ويسهل تحويله إلى نقل مضاد. والحجج العقلية ثلاث: الأولى مستمدة من قِدَم الذات طبقًا لدليل الحدوث. ما دامت الذات قديمة فصفاتها قديمة. هذه الصفات قائمة بذات الله في الأزل وإلا لكان محلًّا للحوادث، وهذا ممتنع، أو كان يتصف بصفة لا تقوم به وهو محال. يستحيل أن يكون الله محلًّا للحوادث لأن كل حادث جائز الوجود والقديم الأزلي واجب الوجود. ولو قدر حدوث حادث بذاته لكان إمَّا أن يرتقي الوهم إلى حادث يستحيل قبله حادث، وهو محال، وإمَّا استحالة ذلك لأنه واجب الوجود. ولو قدر حدوث حادث بذاته فإمَّا أن يتصف بضده وكان قديمًا استحال بطلانه زواله، وإن كان حادثًا كان قبله حادث وتسلسل إلى ما لا نهاية وهو محال، وإمَّا لا يتصف بضد وبالتالي يكون قديمًا. وبصيغة أخرى، المحدَث لا بد له من محدِث، ومِنْ ثَمَّ أن يكون قديمًا، ويمكن القول كذلك في جميع الصفات.٨٥ والحجة الثانية تعتمد على التضاد. فإن لم يكن قديمًا في الأزل كان عاجزًا، إذ لا بد من قِدَم القدرة حتى لا يوصف بالعجز، ثم تعميم صفة القدرة على سائر الصفات. وقد يبدأ الدليل بإثبات قِدَم العلم حتى تنتفي صفة الجهل ثم تعميم صفة العلم على باقي الصفات.٨٦ والحقيقة أنها حاجة إقناعية إحراجية تلجأ إلى الحساسية الدينية ودفع التناقض والنفور إلى أبعد مداه وافتراض اللامعقول أن يكون الله جاهلًا عاجزًا ميِّتًا حتى يقول الإنسان: سبحان الله، ما شاء الله، فهي حجة خطابية لا برهانية. وقد يكون إثبات القِدَم متضمنًا في إثبات الكمال، القِدَم كمال والحدوث نقص. خلو الذات من الصفات القديمة ثم حدوثها أحد مظاهر النقص. وتتفاوت أهمية الصفات كتمرين لإثبات قِدَمها. فليس هناك صفة نموذج كما كان الحال في العلم في حكم النفي والإثبات أو في حكم الهوية والغيرية. فمرة يكون التمرين على العلم، ومرة على القدرة، ومرة على الكلام، ومرة على الإرادة. ولا يحدث تمرين على الحياة أو السمع أو البصر. يطبق القِدَم إذن على الصفات الأكثر اقترابًا من التنزيه مثل العلم والقدرة دون الحياة والأبعد عن شبهة التشبيه مثل السمع والبصر. وقد تثبت هذه الصفات الأربع مرة واحدة أو ثلاث منها فقط أو اثنتان قبل أن يثبت كل منها على حدة، فيثبت مثلًا قِدَم الكلام والإرادة والعلم. فالعلم صفة في الأزل واحدة ويُحال إليها السمع والبصر. والإرادة بغير حدوث في محل وإلا تسلسلت إلى ما لا نهاية. وفعل «كن» ليس صوتًا حادثًا لاستحالة قيام الحادث بالذات. وكيف يحدث العالم من حادث كن؟ ولو كانت كن حادثة لكانت عاجزة من أن تخلق من عدم أو أن توجد كائنًا موجودًا من قبل. والكلام مرتبط بصفة الإرادة في حقيقة الأمر، وهو كلام النفس أو المعنى وليس الصوت أو الحرف. يأتي العلم في المرتبة الأولى لأن إثبات العلم أولى من إثبات القدرة، فقِدَم العالم يمنع من حدوثه بعد الخلق. العالم قبل الخلق كان معلومًا، ومِنْ ثَمَّ قِدَم العالم أولى. القول بقِدَم الصفات إذن قائم على تصور العلم على أنه ضروري، سابق في وجوده على الموضوع. العلم السابق على وجود الأشياء. العلم بالأشياء قبل وجودها ممكن. لذلك كانت المعرفة سابقة على الوجود. وقد يُقال بقِدَم الصفات دون التأثر كثيرًا بالربط الضروري بين العلم والمعلوم وبضرورة أسبقية المعلوم على العلم وتبعية العلم للمعلوم كما هو الحال في خلق الصفات، وذلك اعتمادًا على شيئين: الأوَّل أن المعلومات معلومات قبل وجودها، والثاني أن الأشياء أشياء قبل كونها، فالعلم مدفوعًا إلى حد الإطلاق لا يرتبط بالمعلوم. وهذه هي المعرفة الاستنباطية، أي الجدل النازل من المبدأ إلى الواقع، من الفكر إلى العالم، من الذهن إلى الطبيعة، من العقل إلى الحس، والأشياء أشياء قبل كونها لأنها موجودة في العلم وإن لم تكن موجودة في الواقع. الوجود في الذهن نوع من الوجود كالوجود في العين. الوجود الضمني نوع من الوجود كالوجود الفعلي. وجود الممكن مثل وجود الواقع.٨٧
ولا يتم التركيز على القدرة والكلام قدر التركيز على العلم. فالقدرة متضمنة في الإرادة، والكلام سيظهر في موضوع «خلق القرآن».٨٨ والدليل على قِدَم الكلام والإرادة ناتج عن أنه مالك الملك، والمَلِك من له الأمر والنهي. الأمر لا يحدث في ذاته، فلا بد أن يكون أمرًا قديمًا كما يستحيل أن يحدثه في محل. ويمكن تفصيل الحجة على نحو منطقي برهاني استدلالي. فلو كانت الإرادة حادثة لما أمكن إحداثها إلا بإرادة أخرى، فيلزم التسلسل إلى ما لا نهاية. لو كانت حادثة لوجب أن تتعلق بمراد واحد، فذلك صفة الإرادة الحادثة ومرادات الله لا نهايات لها. وإذا كانت الإرادة الحادثة لا في محل فإن إيجابها لله ليس بأولى من إيجابها لغيرها. كما أن حدوث صفة حادثة في ذات الله محال؛ لأنه يوجب التغير.٨٩
وكما يقع التمييز في إثبات الصفات بين العلم والقدرة والكلام والإرادة من ناحية، وبين الحياة والسمع والبصر من ناحية أخرى، فإن تمييزًا آخر يقع بين صفات المعاني وصفات الأفعال بالنسبة للقِدَم. فإذا كانت صفات المعاني مثل الصفات السبع قديمة، فإن صفات الأفعال نظرًا لتأثيرها في العالم واتصالها بالحوادث قد تكون حادثة أو مخلوقة، وذلك مثل العزة والرحمة والأمر، وقد تكون قديمة طبقًا لدرجة الصفة بين المعنى والفعل خاصةً إذا كانت الحجج النقلية بها هذا الاشتباه بين القِدَم والحدوث.٩٠ ويكون السؤال: وأي من صفات الفعل تكون قديمة، وأيها تكون مخلوقة؟ ما هو مقياس الحكم؟ لماذا تكون العزة قديمة ويكون الأمر مخلوقًا؟ وكيف يمكن ضبط درجة الصفة بين المعنى والعقل؟ وهل تكفي الحجة النقلية وحدها، وهي ظنية، في أن تكون دليلًا على موضوع قطعي؟ وهل يمكن إحصاء صفات الأفعال مثل التخليق والترزيق والإنعام والإحسان والرحمة والمغفرة والهداية؟ وما الفَرق بين صفات الأفعال والأسماء؟ الأسماء المشتقة من الصفات قديمة وهي أسماء الأفعال، مثل: الرازق والخالق والمعز والمذل، وهي على أربعة أنواع. ما يدل على ذاته وهو أزلي، ما يدل على الذات مع زيادة سلب كالقديم والباقي والواحد والغني، وهو أيضًا أزلي، ما يدل على الوجود صفة زائدة من صفات المعنى كالحي والقادر والمتكلم والمريد والسميع والبصير والعالم، وما يرجع إلى هذه الصفات السبع كالآمر والناهي والخبير ونظائره، فهو أيضًا أزلي، وما يدل على الوجود وإضافة إلى فعل كالجواد والرزاق والخالق والمعز والمذل وأمثاله، وهو مختلف عليها بين القِدَم والحدوث لأنها لا تكون قبل الخلق. والعجيب أنه لم يقل أحد مع قِدَم الصفات ببقاء الصفات. فقد يكون معنى قِدَم الصفات بقاءها في المستقبل وليس فقط قِدَمها في الماضي، وأن القِدَم يتضمن البقاء ضرورة.٩١
أمَّا حكم الحدوث أو الخلق فإنه يعتمد على عديد من الحجج النقلية والعقلية. والحجج النقلية في حقيقة الأمر بالإضافة إلى أنها ظنية متشابهة تنقلب إلى الضد ولها حجج نقلية مضادة، إلا أنها نظرًا لارتباطها بموضوع الحرية الإنسانية وهي يقين فإن صحة السمع تُقاس على صحة العقل، ويرد ظن النقل إلى يقين العقل.٩٢ ومع ذلك فهناك أدلة نقلية عديدة تثبت حدوث الصفات وخلقها، وتجعل الذات متفردة بالوعي الخالص الذي لا شبهة فيه ولا شائبة. وتفيد هذه الحجج على أن علم الله، وهي الصفة النموذجية في إثبات الحكم أو نفيه، علم تجريبي بعدي، يتحقق في العالم، ويتغير طبقًا لقدرات الإنسان، ويُقاس عليها، وهو ما اتضح في «الناسخ والمنسوخ» في أصول الفقه.٩٣ وقد تحول ذلك إلى حجة عقلية لإثبات حدوث العلم. فما دام يتعلق بالمعلومات، والمعلومات حادث، فالعلم حادث. وقد يكون الدافع على ذلك الحرص على التنزيه، تنزيه الذات من تشبيه الصفات. فإذا كان التنزيه حالة شعورية خالصة لا تعبر عن أي مضمون ثابت في الشعور أو موضوع في العالم الخارجي، فإن كل علم بهذا العالم الخارجي يكون علمًا بعديًّا لا قبليًّا، ومِنْ ثَمَّ يكون علم الشعور بها علمًا بعديًّا كذلك. وبالمثل يمكن القول بأنه كان هناك شعور عام وهو صورة مطلقة للشعور الفردي، كان ولا شيء معه، فلما حدث الخلق علم به وأظهر قدرته فيه، وبالتالي تكون الصفة أي اسم الفعل تابعة للأشياء لا سابقة عليها. ولما كانت الأشياء مخلوقة فالصفات تابعة للأشياء المخلوقة وتكون مخلوقة مثلها أي حادثة. العلم لا يكون إلا علمًا بشيء، والقدرة لا تكون إلا قدرة بشيء، ولا بد من وجود الأشياء قبل وجود العلم والقدرة، ومِنْ ثَمَّ كان العلم والقدرة حادثين بعد وجود الأشياء. إذ كيف يكون العلم قديمًا والمعلوم حادثًا؟ العلم لا يكون قبليًّا بل هو علم بعدي خالص. الله عالم بأن العالم قد وُجد قبل هذا وهو في الأزل أن عالمًا به كان جهلًا وإن لم يكن عالمًا كان جهلًا وإن لم يكن عالمًا وكان الآن عالمًا فعلمه حادث.٩٤ ولكن يصعب الجمع بين العلم السابق على كون الأشياء والعلم الحادث بعدها، أو إثبات العلم الحادث مع نفي المحل مما يدل على بحث الشعور عن علم استنباطي استقرائي، قبلي وبعدي، وهو علم الوحي أو مبغى الإنسان. إنما تكمن أهمية العلم الحادث في كشفه عن طبيعة العلم البعدي التجريبي، وتقدمه وتجدده باستمرار دونما وقوف أو ثبات مما يوقع في القطعية والتحجر. فتجدد العلم هو أحد معاني تقدم العلم. كان الدافع على القول بخلق الصفات هو تصور العلم على أنه مكتسب تالٍ في وجوده على الموضوع، وهو العلم الاستقرائي الذي يبدأ من الأشياء إلى العقل، ومن الخارج إلى الداخل، ومن العالم إلى الذهن من خلال الحس، وهو الجدل الصاعد في المعرفة. والعلم بالاتصال أكثر درايةً من العلم بالانفصال. التماس وسيلة العلم أكثر من التجريد، ويصبح النور حينئذٍ لغة العلم ووسيلته، فيعلم المعبود ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب إلى الأرض كما يحدث أحيانًا في أفلام الأبطال وفي التعبير عن معرفة الجن والشياطين. يعلم المعبود بالاتصال بالأشياء بالشعاع النافذ. والشعاع كالنور مماس وغير مماس، ابتعادًا عن التجسيم الفاقع.٩٥ وقد يتحول حدوث الصفات وخلقها في التجسيم إلى حدوث الذات وخلقها، أو قد يكون حدوث الصفات نتيجة طبيعية لحدوث الذات. أمَّا القول بأن الله هو الذي خلق الصفات لنفسها بعد خلق الكائنات فيمكن وضعه على حساب التشخيص.٩٦
ويثبت حدوث القدرة والحياة بالتبعية مع العلم كما يثبت حدوث السمع والبصر أيضًا بالتبعية مع العلم. ولكن يثبت حدوث الكلام والإرادة، كل على حدة، خاصة الإرادة، نظرًا لأن الكلام سيأتي موضوعه في خلق القرآن. ومع ذلك يثبت حدوث الكلام نظرًا لأن به إخبارًا عما مضى.٩٧ ويتحدث عن أشياء وأشخاص لم تُخلَق بعد. وبه أمر ونهي من غير مأمور ومنهي حتى صار آمرًا ناهيًا بعد أن لم يكن. فالكلام إذن حادث حتى يمكن الحفاظ على الذات من أن تكون محلًّا للحوادث ومشجبًا تعلق عليه جميع العواطف والانفعالات الإنسانية. الكلام إذن هو كلامنا المسموع المقروء المدون المحفوظ ولا شأن له بذات الله لا أنه من عنده، مرسل إلينا منه. وهنا يبدو أن الدافع على القول بخلق الصفات هو حماية الذات من كل تشبيه، حرصًا على التنزيه، أي رفض كل شبهة تشابه بين صفات التنزيه وصفات التشبيه. ولما كانت الصفات واحدة، وضعت على حساب التشبيه، وأصبحت حادثة، ثم نُفيت حرصًا على التنزيه.٩٨ وقد يتعدى حدوث الصفات إلى حدوث الذات، فيصبح الله محلًّا للحوادث ليس فقط في صفاته بل في ذاته.
أمَّا الدافع على إثبات خلق الإرادة، فهو الدفاع عن الحرية الإنسانية. فلو كانت إرادة الله قديمة لتعلقت بجميع المرادات قبل خلقها، وبالتالي ينتفي خلق الإنسان لأفعاله ولاختياره الحر. لو كانت الإرادة قديمة لكان المراد معها، فكيف يتأخر المراد عن الإرادة؟ لا بد من حدوث إرادة في غير محل أو حدوثها في ذاته، وكلاهما محال. أمَّا فعل «كن» فإنه مجرد، صوت حادث، لا يعبر عن أي إرادة قديمة. خطورة إثبات قِدَم الإرادة أو القدرة هو اصطدامها بخلق الأفعال وحرية الإرادة. حتى لو قيل بقِدَم العلم والكلام، فإنه لا يمكن القول إلا بحدوث القدرة والإرادة نظرًا لتعلقهما بأفعال الإنسان. لو كانت الإرادة قديمة لتعلقت بالمرادات على العموم دون الاختصاص، ولأدَّى ذلك إلى اجتماع الضدين وإلى هدم حرية الأفعال والاختيار الإنساني الحر؛ لأن الإرادة الإلهية تظل قديمة أقوى من إرادة الإنسان الحادثة الكسبية. كما أن الإرادة القديمة هي المسيطرة على الإرادة الحادثة، وبالتالي تسيطر الإلهية على فعل الإنسان وكسبه.٩٩ لو كانت الإرادة أزلية لكان الخير والشر مرادين، فيكون المريد موصوفًا بالخيرية والشرية والعدل والظلم، وذلك قبيح في حق القديم، وذلك لأن مريد الخير خير ومريد الشر شر. إن أقصى ما يمكن عمله هو تصور الإرادة لا في محل. وجعلها صفة فعل إذا كانت القدرة صفة ذات.١٠٠ وقد تجمع الصفات الثلاث، العلم والقدرة والإرادة، في حجة واحدة. فالعلم يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل، والقدرة لا تتعلق إلا بالممكن، والإرادة لا تتعلق إلا بالمتجدد من الممكنات. فالعلم هو الأعم، والقدرة أقل عمومًا، والإرادة خاصة. ولا تتعلق القدرة فقط بحدوث العالم، بل بالقدرة على الشرور والمعاصي والكفر، أي أنها مرتبطة بالحسن والقبح وبحرية أفعال الشعور الداخلية والخارجية. ويمكن تعميم حدوث الصفات حتى على صفات الأفعال. ويكفي نفي قِدَم الصفات حتى يثبت حدوثها ويكون الحدوث حينئذٍ أقرب إلى الصيرورة منه إلى الخلق وفي اللحظة.١٠١ ولكن الحجة الحاسمة في نفي قِدَم الصفات كلها بلا استثناء هو استحالة وجود قديمين أو أكثر، ذات قديمة وصفات قديمة. فالقول بقِدَم الصفات يستتبع القول بقِدَم الكائنات، وهذا مستحيل لأن الكائنات مخلوقة.١٠٢ يستحيل الاشتراك بين الذات والصفات في القِدَم، فالذات تنفرد بالقِدَم في حين تقع المماثلة بالصفة، والاشتراك في صفة يوجب الاشتراك في سائر الصفات. يستحيل القول بقِدَم الصفات لأن إثبات القِدَم ثم قِدَم العلم إثبات لإلهين، وهو وقوع صريح في الشرك.١٠٣ إن القول بحدوث الصفات ناتج عن الحرص على الوحدانية والخوف من القول بتعدد القدماء كما تقول الفلاسفة في النفس والعقل والزمان والمكان والروح.١٠٤ فلو قُدِّر قديمان لامتنعا نظرًا لدلالة التمانع. فإثبات حدوث الصفات يرجع إلى دليل التمانع القائم على استحالة مقدور واحد لقدرتين متساويتين أو مختلفتين، وهي دلالة مبنية على أن القديم قديم بنفسه، وأن الاشتراك في صفة يوجب التماثل، وأن من حق كل قادرين وقوع التمانع بينهما، وأن من حق القادر على شيء أن يحصل إذا توافرت الدواعي، وأن من لم يحصل مراده يكون ممنوعًا ويكون متناهي المقدور، وأن متناهي المقدور يكون قادرًا بقدرة، وأن القادر بقدرة لا بد أن يكون جسمًا، وأن خالق العالم لا يجوز أن يكون جسمًا!
والحقيقة أن القِدَم والحدوث نزوعان للذات وقصدان لها. قد يكون الدافع على القول بقِدَم الصفات أن القِدَم طبقًا للشعور الإنساني أكبر قيمة من الحدوث، فالقديم أكثر كمالًا وشرفًا من الحادث، والسابق أعظم رتبةً من اللاحق، والأول أسبق درجة من الثاني. وفي التجارب الإنسانية هناك الخمر العتيق، والجبن القديم، والحب السابق على رؤية الحبيب، والعهد القديم. فالقول بقِدَم الصفات ليس حكمًا عقليًّا على موضوع في الخارج، بل يعبر عن عاطفة إنسانية خالصة قائمة على التنزيه. والتنزيه أساسًا يعني وضع الشعور على مستوى الشرف وإصدار أحكام بالنسبة إلى سلم القيم. أمَّا الحدوث أو الخلق فإنه يعبر أيضًا عن مطلب إنساني. فالجديد أفضل من القديم، والحاضر أكثر حضورًا من الماضي، والخلق أفضل من التبعية، والإبداع أفضل من التقليد. إذا كان القديم قصدًا نحو الله فإن الجديد قصدًا نحو الإنسان. والشعور توتر بين القصدين. آثرت السلطة القديم وآثرت المعارضة الجديد، فالقديم خير دعامة لتثبيت السلطة القائمة لامتداده في الزمان وجذوره في التاريخ والجديد خير وسيلة لإثبات المعارضة بدلًا من الرتابة والخمول والتسليم للأمر الواقع.١٠٥

(٦) هل الصفة تحول وصيرورة؟

لا ريب أن التعارض في أحكام الصفات كلها أفعال وردود أفعال، ثم حلول متوسطة تجمع بين الطرفين المتناقضين. فهي مواقف تاريخية أكثر منها تعبيرًا عن موضوعات مستقلة على الأقل من حيث التحقق في التاريخ وليس من حيث البنية التي تظهر أيضًا من خلال التاريخ كما يظهر التاريخ من خلالها. يمثل المعتزلة الفلاسفة طرفًا في مقابل أهل السنة والأشاعرة، الصفات عين الذات في مقابل الصفات زائدة على الذات، نفي الصفات في مقابل إثباتها، وخلق الصفات في مقابل منعها. أمَّا الحل الوسط فإنه في الغالب يكون أقرب إلى الطرف الأوَّل أو الثاني، كل طرف يشد الحل الأوسط تجاهه تأييدًا له دون اقتراب من الطرف الآخر.١٠٦

وهناك عدة حلول متوسطة تحاول الجمع بين نفي الصفات وإثباتها، بين خلقها وقِدَمها، لأن الاختيار الحاسم لأحد الحلين ليس بأفضل من اختيار الحل الآخر. وتتراوح الحلول الوسط بين الجمع بين الحلين وتقديم نوعين من الصفات وبين إلغاء المشكلة بتاتًا والتوقف عن الحكم. وهي ليست كلها على مستوى واحد من الأهمية، ولكنها تكشف عن أن الصفة قد تكون أقرب إلى التحول والصيرورة منها إلى الثبات. وقد تتشابه الحلول المتوسطة وتتداخل حتى توجد الفِرَق في أكثر من حل واحد. ولكن يجمعها جميعًا الرغبة في تجاوز المفارقة التقليدية إلى نوع من الصيرورة والخلق والجدل المتبادل يظهر فيه البعد الإنساني والبعد الإلهي متداخلين متفاعلين بدلًا من القسمة العقلية والجدل المنطقي.

(٦-١) صفة الذات وصفة الفعل

ترمي هذه التفرقة إلى الجمع بين قِدَم الصفات وحدوثها. صفة الذات تصف الذات وصفة الفعل تصف الفعل. الأولى تصف الباري في ذاته، والثانية تصفه في أفعاله.١٠٧ ولما كان للذات الأولوية على الفعل، فإن لصفة الذات الأولوية على صفة الفعل؛ لأن صلة الذات بذاتها سابقة على صلة الذات بأفعالها. الأولى تدل على تداخل الذات والثانية تدل على تخارجها. الأولى تشير إلى الشيء لذاته، والثانية تشير إلى الشيء لغيره. الأولى صفات ذاتية موجودة قبل وجود موضوعاتها، والثانية فعلية توجد بوجود موضوعاتها. فالباري سميع بصير في ذاته، حتى ولو لم يوجد ما يسمع وما يبصر. مقياس التقسيم هنا هو التفرقة بين الذات والموضوع. وتمتد هذه التفرقة إلى الأسماء فتصبح أيضًا أسماء ذات وأسماء فعل لما كانت معظم صفات الأفعال أسماء.١٠٨ وبالرغم من إثبات التفرقة بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية قد يكون كلاهما أقرب إلى القِدَم إمعانًا في إثبات الصفات. فالصفات الذاتية هي الصفات السبع، والفعلية هي الأفعال. وعديد من صفات الأفعال هو تحويل الأسماء إلى أسماء فعل. فإذا كانت صفات الأفعال ضمن العلم، فهي قديمة، وإذا كانت ضمن الأفعال فهي محدثة.١٠٩ وقد تكون التفرقة بين الثلاثي والرباعي أحد الحلول المتوسطة، فإذا كان لا خلاف على الثلاثي العلم والقدرة والحياة في قِدَمها حيث يسهل فيها التنزيه، فإن الخلاف ينشأ حول الرباعي، السمع والبصر والكلام والإرادة، حيث يعظم فيها التشبيه.١١٠ قد يكون مقياس التقسيم إذن هو تفاوت درجات التنزيه. فصفات الذات منزهة خالصة بعيدة عن كل تشبيه، في حين أن صفات الفعل توحي بالتشبيه؛ لأنها أقرب إلى العالم وتتعامل مع الموجودات. وقد يعبر هذا المقياس عن صفتي الإطلاق والتقييد، فصفات الذات مطلقة في حين أن صفات الفعل مقيدة. ولا يعني التقييد هنا التعيين والتحدد والنسبية، بل يعني أنها صفات لها محل وتبدو في فعل.١١١ وقد يكون المقياس هو القسمة إلى جوهر وعرض، وهي قسمة عقلية تعبر عن تكوين الذهن البشري. فصفات الإنسان صفات جوهرية في حين أن صفات الفعل صفات عرضية. وقد يكون المقياس هو التفرقة الإنسانية بين الفعل والانفعال وذلك لأن جميع صفات الذات صفات عقلية خالصة كالعلم، في حين أن صفات الفعل يغلب عليها الانفعال مثل الولاية والكرم.١١٢ وقد يكون المقياس هو سلم الأهمية في تصنيف الصفات، فالصفات الأكثر أهمية تكون صفات ذات، والأقل أهمية تكون صفات فعل، ولا يوجد حكم موضوعي على الأهمية، بل يتوقف الحكم على الإحساسات الذاتية الخالصة. فعند البعض الكرم والجود والإحسان من صفات الفعل، وعند البعض الآخر نظرًا لأهميتها من صفات الذات والفعل معًا. والولاية والعداوة عند البعض نظرًا لأهميتها من صفات الذات وليست من صفات الفعل فحسب. والحياة والسمع والبصر نظرًا لأنها صفات أولية هي عند البعض صفات ذات في حين أن الرحمة والإحسان والصدق والخلق والرزق من صفات الفعل. وقد يتحول الأمر كله إلى اعتبار الله مخلوقًا من البشر ومعبودًا منهم بعباداتهم له. فالصفة مخلوقة، والإنسان يخلعها على الله. فصفات الفعل هي صفات تفعيل أي تخليق. فصفات الفعل نظرًا لفاعليتها في العالم تكون مخلوقة لاتصالها بالخلق وفي نفس الوقت تكون خالقة لأفعال العبادة وأفعال العبادة تكون خالقة للذات.١١٣

(٦-٢) الصفة غير المشتركة والصفة المشتركة

وتقوم هذه القسمة على الحرص على التنزيه وتخليصه من كل شوائب التشبيه. فالصفة غير المشتركة هي الصفة الخالصة التي لا تحتمل أي اشتراك مع آخر، في حين أن الصفة المشتركة هي التي يمكن إطلاقها على الباري وغيره. الأولى صفة عقلية خالصة لا أثر فيها للحس، والثانية تشبيه حسي له مضمون مادي.١١٤

(٦-٣) إثبات الصفة لحظة وجود المفعول

هذا الحل الوسط يوجد الصفة لحظة وجود الموصوف. فقد أعطى حكم القِدَم والحدوث الاختيار بين القبل والبعد. والقبل هو القِدَم والبعد هو الحدوث. ويعطي هذا الحل الوسط «المع». توجد الصفة لحظة وجود الموصوف لا سابقة عليه كما هو الحال في قِدَم الصفات ولا تالية له كما هو الحال في حدوث الصفات.١١٥

(٦-٤) إثبات الصفة لحظة وجود الفعل

قد يوصف خلق الصفات على أنه فعل للإرادة. فالله لا يعلم الشيء حتى يؤثر أثره، والتأثير بالإرادة، إذا أراد الشيء علمه والإرادة حركة. إذا تحرك علم، ولا يعلم ما لا يكون حينئذٍ يكون العلم تابعًا للإرادة. الله يعلم تعني أن الله يفعل. الله يعلم في اللحظة التي يريد فيها. وهنا تعطى الأولوية للفعل على الكلمة، وللعقل العملي على العقل النظري، وللإرادة على الذهن.١١٦

(٦-٥) نفي وإثبات، حدوث وقِدَم

يحاول هذا الحل الوسط الجمع بين الطرفين المتقابلين دون بيان لوجه الجمع. فتنتفي الصفات وتثبت في آن واحد، وتكون حادثة وقديمة في نفس الوقت، إحساسًا بعدم القبول العقلي والرياضي النفسي عن الحلين المتعارضين.١١٧

(٦-٦) لا نفي ولا إثبات، لا قِدَم ولا حدوث

إذا كانت الحلول السابقة تحاول أن تعطي حلًّا ثالثًا يجمع بين الحلين المتعارضين تجنُّبًا للوقوع في اختيار حاسم بين شيئين متقابلين: «إمَّا وإمَّا» أو الجمع غير المعقول بينهما كما هو الحال في الحل السابق، فإن الحل هذه المرة هو إلغاء الطرفين معًا والرجوع إلى الشيء نفسه الذي لا يمكن رده إلى ما هو أقل منه، وتفضيل الرجوع إلى الكل دون الجزء وإلى الموضوع دون القسمة العقلية. فرفض نفي الصفات وإثباتها ورفض حدوث الصفات وقِدَمها ليس مجرد حكم سلبي، بل هو حكم إيجابي بأن كلًّا من الحلين المعروضين أقل من أن يفي بالغرض، وهو توضيح الشيء والاستقرار الذهني بالنسبة له.١١٨

(٦-٧) التوقف عن الحكم وإلغاء المشكلة

والتوقف عن الحكم هو أساسًا رفض الدخول في التيه العقلي؛ لأن العقل لن يصل إلى حل مرضٍ، لا إقلالًا من شأن العقل ولكن وحيًا بطبيعة الذهن البشري.١١٩ وأن أقصى ما لدى العقل من قسمات للتعبير بها عن عواطف التنزيه تكون أيضًا مُشابهة بتشبيه؛ لأنها على الأقل قسمة إنسانية من الذهن البشري. وقد يكون التوقف عن الحكم رغبةً في المصالحة بين الأطراف المتعارضة ورفضًا لاختيار الحلول الحاسمة إمَّا تقيةً أو نقصًا في الشجاعة.١٢٠ وقد يكون التوقف عن الحكم مصاحبًا بالتقليد، وفي هذه الحالة يكون التقليد أكثر منه توقفًا عن الحكم.١٢١ والحقيقة أن التوقف عن الحكم بداية إعلان موقف جديد، وذلك بتجاوز المتاهات العقلية السابقة وردها إلى أصول ثم إرجاع المسألة إلى نشأتها في التجربة الإنسانية حتى تعود الإلهيات إلى نشأتها الأولى في الإنسانيات، وبدلًا من الإيهام بإله خارج العالم يجد فيه الإنسان وجوده المغترب، يقضي الإنسان على اغترابه ويعود إلى ذاته كوجود في العالم.
١  لإثبات أحكام الصفات (الإرشاد، ص٦١–٧٧). إثبات الصفات وإثبات قِدَمها، ص٧٩–٩٩. القطب الثاني، في الصفات السبع وما يختص آحاد الصفات وما تشترك فيه (الاقتصاد، ص٤٤–٨٣). أحكام الصفات، وهي أربعة، ص٦٩–٨٣. ويتشعب عنه أمران: (١) ما به تختص آحاد الصفات. (٢) ما تشترك فيه جميع الصفات (الاقتصاد، ص٨٣).
٢  في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات (الشرح، ص١٨٢–٢١٣).
٣  المسائل تبدأ بالصفات أوَّلًا ثم بعدها تأتي المسائل المشتركة دون فصل بينهما (النهاية، ص٣٦٠–٣٧١).
٤  الغاية، ص٤٤.
٥  الإنصاف، ص٢٧.
٦  اختلفت المعتزلة في أحكام الذات، هل هي أحوال الذات أم وجوه واعتبارات؟ قال أكثرهم هي أسماء وأحكام للذات وليست أحوالًا وصفاتٍ كما في الشاهد من الصفات الذاتية للجوهر والصفات التابعة للحدوث (النهاية، ص١٨٠).
٧  النهاية، ص١٧٠.
٨  الفقه، ص١٨٤-١٨٥.
٩  في «اللمع» إثبات الصفات ونفيها نتيجة لإثبات قِدَمها أو حدوثها (اللمع، ص٢٥–٣٣).
١٠  في إثبات العلم بأحكام الصفات العلى (النهاية، ص١٧٠–١٧٩). في إثبات العلم بالصفات الأزلية، ص١٨٠–٢١٤. في إثبات العلم بأحكام الصفات العلى، قد شرع المتكلمون في إثبات العلم بأحكام الصفات قبل الشروع في إثبات العلم بالصفات لأن الأحكام إلى الأذهان أسبق. والمخالفون من المعتزلة في إثبات الصفات يوافقون في أحكام الصفات، ص١٧٠.
١١  «ونحن الآن نبتدئ بمعتمد أهل التعطيل وننبه على وجه إبطاله، ثم نذكر بعض ذلك مستند أهل الحق» (الغاية، ص٣٨).
١٢  نظرًا لأهمية الموضوع يعقد له باب خاص. باب الرد على الجهمية في نفيهم علم الله وقدرته وجميع صفاته (الإبانة، ص٣٩–٤٤). إثبات أسماء الله وصفاته (الإنصاف، ص١٩). باب القول في إثبات العلم بالصفات قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ إشارة إلى الوجود ونقض على المعطلة والباطنية (البحر، ص٣). في إثبات الصفات وإبطال تعطيل من ذهب إلى نفيها (الغاية، ص٢٥). في إثبات الصفات النفسية (الغاية، ص٣٨–٥١). إثبات الصفات خلافًا للأشعرية (الكتاب، ص٥). إثبات الصفات خلافًا للأشعرية المعطلة (الكتاب، ص٣٧). باب من جحد شيئًا من الأسماك والصفات، عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات (الكتاب، ص١٣٠–١٣٢). ومما أجمعوا عليه (المشبِّهة) إثبات الصفات فالباري عالم بعلم قادر بقدرة … إلخ (الملل، ج٢، ص١٩).
١٣  «الصفاتية: اعلم أن جماعة كبيرة من السلف كانوا يثبتون لله صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام … ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقًا واحدًا.» ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتونها سُمِّي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة (الملل، ج١، ص١٣٥). من ضمن أحكام الصفات أنها كلها قائمة بذاته (الاقتصاد، ص٤٤).
١٤  والإيمان بالله يتضمن التوحيد له والوصف بصفاته (الإنصاف، ص٢٣). في أنه سبحانه عالم بالعلم، قادر بالقدرة، حي بالحياة (المسائل، ص٣٩٦-٣٩٧).
١٥  الحركة الأولى لدى محمد عبده في «رسالة التوحيد»، والثانية محمد بن عبد الوهاب في «كتاب التوحيد».
١٦  أثبت الباقلاني السمع والبصر على أنها صفة من صفات الله أخبرنا أنها في خلقه، غير أنا نقول إن سمعه لا كسمع الآدميين ولا بصره كأبصارهم (التنبيه، ص١٢١).
١٧  هذا هو موقف أهل السنة عامة، فالأشعري مثبت للصفات، الله عالم بعلم لارتباط الصفة بالموصوف، فكما أنه لا صفة بلا موصوف، فكذلك لا موصوف بلا صفة (اللمع، ص٢٦–٣١؛ الإبانة، ص٨). وعند ابن كلاب: الله عالم بعلم، وقادر بقدرة، وقديم بقِدَم (مقالات، ج١، ص٢٢٩-٢٣٠، ج٢، ص٢٠٢، ص١٧٩-١٨٠). وعند عبد الله بن سعيد القطَّان لم يزل حيًّا عالمًا قادرًا بعلم وقدرة وحياة (مقالات، ج١، ص٣٢٥). ويثبت الباقلاني أسماء الله وصفاته وينفي النقائص عنه الدالة على حدوث من جازت عليه (الإنصاف، ص١٩). وأصحابنا مجمعون على أن الله حيٌّ بحياة، وقادر بقدرة، وعالم بعلم، ومريد بإرادة، وسامع بسمع لا بأذن وباصر ببصر هو رؤية لا عين، ومتكلم بكلام لا من جنس الأصوات والحروف (الأصول، ص٩٠).
١٨  أرجأنا ذكر الحجج النقلية هنا ووضعناها في عرض الصفات، كل على حدة.
١٩  يقول ابن حزم: إنهم — أي الأشاعرة — أثبتوا إقامة سبعة عشر شيئًا متغايرًا كلها قديم لم تزل وكلها غير الله. وقال آخرون خمسة عشر: السمع، والبصر، والعين، واليد، والوجه، والكلام، والعلم، والقدرة، والإرادة، والعزة، والرحمة، والأمر، والعدل، والحياة، والصدق (الفصل، ج٢، ص١٣٤-١٣٥). ويقول أيضًا إنه رأي للأشعري في كتابه المعروف بالموجز أن الله إذا قال «إنك بأعيننا» إنما أراد عينين. ويرى ابن حزم أن لفظ صفة لم يأتِ به نص ولكن الله أخبرنا بأن له علمًا وقوةً وكلامًا وقدرةً، وكلها ترجع إلى غير الله أصلًا. الله له الأسماء الحسنى فقط وكلها توقيفية. فابن حزم يرفض تجريد الصفات وجمعها تحت مقولة صفة إبقاءً لها على فرديتها.
٢٠  النظامية، ص١٧. وانظر رفض ابن حزم لحجة البداهة في الفصل، ج٢، ص١٢٨–١٣٦.
٢١  انظر فيما بعد الأحوال عند أبي هاشم.
٢٢  انظر الفصل الرابع: نظرية الوجود، ثالثًا: فينومينولوجيا الوجود (الأعراض)، (٤) النسبة، (٥) الإضافة.
٢٣  يرفض الآمدي هذه الحجة (الغاية، ص٤٩–٥١).
٢٤  هذا هو اعتراض الجويني، ص١٧٤–١٧٦؛ الغاية، ص٤٤–٤٧؛ الملل، ج١، ص١٣١–١٤١.
٢٥  هذا هو اعتراض ابن حزم (الفصل، ج٢، ص١٢٨–١٣٦). ويذكر ابن حزم آيات كثيرة لإثبات أن الرؤية تعني العلم، مثل: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، إِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى تعني سميع بصير، وإلا لزمهم وصف الله بالكيد من: وَأَكِيدُ كَيْدًا، والمكر من: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ، وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، والنسيان من: نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ، والسخرية من: سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ، والاستهزاء من: اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ. وقد ورد النص بأنه قوي وكريم ومتكبر وجبار وعاقل وشجاع وسخي ومتجبر ومستكبر، فلماذا الاقتصار إذن على بعض الصفات دون البعض الآخر؟
٢٦  ينفي المعتزلة الصفات، ويتفقون مع النفاة بمذهبهم الخاص (الغاية، ص٣٨). قالت إنه حي بذاته، قادر بذاته، عالم بذاته (المسائل، ص٣٦٦). نفوا الصفات القديمة أصلا وقالوا: عالم بذاته قادر بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة (الملل، ج١، ص٦٦). قالوا إن الله قادر بلا قدرة بل لنفسه (الأصول، ص٩). اتفقت سائر فرق المعتزلة على نفي الصفات (اعتقادات، ص٣٥). فنفت الصفات الأزلية بما فيها الرؤية والإدراك (الفِرَق، ص٣٣٤؛ الأصول، ص٩٠). وعند النظام أنه لم يزل عالمًا حيًّا قادرًا لا بعلم وقدرة (مقالات، ج١، ص٢٢٤-٢٢٥، ج٢، ص١٥٩). ونفي النظَّام مع الكعبي الإرادة، فالإرادة هي نفس الأمر (الأصول، ص٩٠). وكذلك نفى البغداديون الإرادة وباقي الصفات (الفِرَق، ص٣٣٤). وقالوا لم يزل عالمًا (مقالات، ج٢، ص١٧١). كما أنكر الجاحظ صفات الباري، ومذهبه مثل مذهب الفلاسفة، وهو أميل إلى الطبيعيين منهم إلى الإلهيين (الملل، ج١، ص١١٣). وعند الجبائي الباري عالم لذاته … إلخ. لا يقتضي كونه عالمًا صفة هي حال علم أو حال يوجب كونه عالمًا (الملل، ج١، ص١١٨-١١٩). ووافقت النجارية المعتزلة في نفي الصفات، فقال النجار الباري مريد لنفسه (الملل، ج١، ص١٣١). وكذلك نفى معمر بن عبَّاد السلمي الصفات (الملل، ج١، ص٩٨-٩٩). وعند عبَّاد بن سليمان ليس للباري علم ولا قدرة (مقالات، ج١، ص٢٤٣، ج٢، ص١٦٥). أمَّا أبو الهذيل فقال إن علمه هو هو، وقدرته هي هو، وقِدَم الله هو الله (مقالات، ج٢، ص١٥٧، ص١٦٤-١٦٥؛ الفِرَق، ص١٢٧؛ الانتصار، ص٧٥-٧٦). ويُشارك المعتزلة الصالحي (مقالات، ج٢، ص١٦٨)، والخياط (الملل، ج١، ص١١٤). وبالإضافة إلى أكثر المعتزلة هو أيضًا رأي الخوارج وكثير من المرجئة وبعض الزيدية (مقالات، ج١، ص١٣٨، ص٢٢٤–٢٣٠). وذهبت الشيعة والفلاسفة أيضًا إلى نفيها (المواقف، ص٢٧٩؛ الإرشاد، ص٧٩). ثم اختلفت آراء الشيعة فمنهم من لم يطلق عليه شيئًا من الأسماء الحسنى ومنهم من لم يجوِّز خلوه عنها، وقد نفتها الشيعة نظرًا لاعتمادها فلسفيًّا على عقائد المعتزلة طبقًا لمؤرخي أهل السنة (الغاية، ص٣٨). وعند القرامطة الديلم (غلاة الشيعة) أنه حي لا بحياة، وقادر لا بقدرة … إلخ. يصفون الإله كما يصفه الموحدون مع قولهم نور لا يشبه الأنوار (التنبيه، ص٢٠).
٢٧  هذا هو موقف الجهمية. فقد أبطل جهم أن يكون لله علم أو قدرة أو حياة أو سمع أو بصر أو عين، وعند أهل السنة أنه لولا خوف الجهمية من السيف لأفصحوا عن ذلك. كما أنكر أن يكون موسى كليمًا (الإبانة، ص٣٥، ص٣٩-٤٠؛ التنبيه، ص١٢١، ص١٣١). وقد وافق جهم المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أنه لا يوصف بصفة يوصف بها خلقه لأن ذلك يقتضي تشبيهًا، فنفى كونه حيًّا عالمًا، وأثبت كونه قادرًا فاعلًا لأنه لا يوصف شيء من خلقه بالقدرة على الفعل والخلق (الملل، ص١٢٧-١٢٨). ويعتبر جهم عند أهل السنة أصل الاعتزال.
٢٨  يقول الباقلاني أن التعطيل ينصرف إلى وجوه شتى يعددها في خمسة: (أ) تعطيل الصنع عن الصانع (الدهرية). (ب) تعطيل الصانع عن الصنع (الفيض). (ﺟ) تعطيل الباري عن الصفات الأزلية القائمة بذاته (المعتزلة). (د) تعطيل الباري عن الصفات والأسماء أزلًا (المعتزلة والكرامية). (ﻫ) تعطيل ظواهر الكتاب والسنة عن المعاني التي ولدت عليها (التأويل) (التمهيد، ص١٢٣).
٢٩  يتهم أهل السنة المعتزلة في قولهم بنفي الصفات بتبعيتهم لأرسططاليس، أو على الأقل بوقوعهم تحت تأثيره. يقول الأشعري: «وهذا أخذه أبو الهذيل عن أرسططاليس، وذلك أن أرسططاليس قال في بعض كتبه إن الباري علم كله، قدرة كله، حياة كله، سمع كله، بصر كله، فحسن اللفظ عنده وقال هو هو، وقدرته هي هي» (مقالات، ج٢، ص١٥٨). انظر ما عرضناه في رسالتنا باسم La Transposition Les Méthodes d’Exégèse, P. LXXIX-CLXXX وأيضًا ما قلناه عن منهج الأثر والتأثر والشكل الكاذب في: «التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم» (ص١٠٢–١٠٨؛ النهاية، ص١٩٠–٢٣٧).
٣٠  اتهم الأشاعرة المعتزلة بأنهم نفوا الصفات آخذين ذلك من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعًا لم يزل وليس بعالم ولا بقادر ولا حي … إلخ. وقالوا نقول: عين لم يزل، ولم يزيدوا على ذلك. ولكن المعتزلة أظهرت ذلك، ولولا الخوف من الشيعة لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره (مقالات، ج٢، ص١٥٦-١٥٧).
٣١  النهاية، ص١٩٠–٢٣٧. ويعرض الآمدي هذه الحجة على النحو الآتي: لو ثبتت الصفات فهي إمَّا ذاتية وإمَّا خارجية، فإن كانت ذاتية فواجب الوجود تقدم عليها. وهي إمَّا أن تكون واجبة أو ممكنة أو بعضها واجب وبعضها ممكن، فإن كانت واجبة أدى إلى الاشتراك وهو مستحيل بدلالة التمانع، وإن كانت ممكنة فهي في حاجة إلى مرجح وهي واجب الوجود. أمَّا إن كانت الصفات خارجية، فهي إمَّا قائمة بذاتها أو غير قائمة. فإن لم تكن قائمة بذاتها فهي ليست صفات، وإن كانت قائمة بذاتها فهي إمَّا واجبة أو ممكنة، وهو يعود إلى القسمة الأولى، وكلاهما محال نظرًا لدلالة التمانع أو الحاجة إلى مرجح. وقد يُقال: لو كانت صفات وجودية زائدة فإمَّا أن تكون هي هو أو غيره. فإن كانت الأولى فلا صفة له، وإن كانت غيره فهي إمَّا قديمة أو حادثة، والحدوث ممتنع. وإن كانت قديمة يؤدي إلى تعدد القدماء. ويُقال: لو قامت بذاته صفات وجودية لكانت مفتقرة إليه في وجودها، وذلك يؤدي إلى إثبات خصائص الأعراض للصفات، وهو محال (الغاية، ص٣٨–٤٢؛ التمهيد، ص١٥٥–١٦٠).
٣٢  الفصل، ج٢، ص١٣٧-١٣٨.
٣٣  هذه هي حجج ابن سينا كما ترد في مصنفات العلم دون إشارة إلى مكانها في الإلهيات.
٣٤  الباطنية قالوا في الباري: إنَّا لا نقول هو موجود ولا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات، فإن الإثبات الحقيقي يقتضي الشركة بينه وبين سائر الموجودات، وذلك تشبيه. فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين، وخالق الخصمين والحاكم بين المتضادين. ويُقال عن محمد الباقر إنه لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر، فهو عالم وقادر بمعنى العلم والقدرة لا بمعنى أنه عالم وقادر. وقالوا كذلك في القِدَم بأنه ليس بقديم ولا محدث، بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته (الملل، ج٢، ص١٤٦-١٤٧).
٣٥  هذا هو موقف ابن حزم وسائر الفقهاء. لا يجوز إطلاق سمع ولا بصر، حيث لم يأتِ نص لما ذكرنا من أنه لا يجوز أن يُخبَر عنه تعالى ما لم يُخبِر عن نفسه. وكذلك ذهبت طوائف من أهل السنة منهم الشافعي داود بن علي وعبد العزيز بن مسلم الكناني وغيرهم أن الله سميع بصير، ولا نقول بسمع ولا ببصر، لأن الله لم يقله، ولكن سميع بذاته بصير بذاته. وكان السلف يخالفون المعتزلة والفلاسفة في نفي الصفات لما وجدوا الصفات مذكورة في الكتاب والسنة (الفصل، ج٢، ص١٢٨؛ الملل، ج٢، ص٦٩). لفظ الصفة ليس من القرآن أو الشرع (الفصل، ج٢، ص١٣٤-١٣٥). لا تعقل الصفة والصفات في اللغة التي بها نزل القرآن وفي سائر اللغات وفي وجود العقل وفي طراوة الحس إلا أعراضًا محمولة في الموصفين، ولله المثل الأعلى، ولا يجوز وصفه بصفة غير شرعية (الفصل، ج٢، ص١٥٣). وعند الجويني في القضاء باتحاد الصفات ليس من مدارك العقول بل يُحال إلى قضية الشرع وموجب السمع (الإرشاد، ص١٣٦-١٣٧).
٣٦  يرى ابن حزم أن الواصلية قالت بنفي صفات الباري من علم وقدرة وإرادة وحياة، وكانت المقالة في بدايتها غير قبيحة. وكان واصل يشرع فيها بناء على قول ظاهر وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين. ومن أثبت معنى أو صفة قديمة فقد أثبت إلهين. وإنما شرع أصحابه بعد مطالعة كتب الفلاسفة إلى رد جميع الصفات إلى كونه عالمًا قادرًا، ثم الحكم بأنهما صفتان ذاتيتان، أو اعتباران للذات القديمة كما قال الجبائي، أو حالتنا كما قال أبو هاشم. ومال أبو الحسين البصري إلى ردهما إلى صفة واحدة، وهي العالمين. وذلك غير مذهب الفلاسفة (الملل، ج٢، ص٦٩).
٣٧  قد يستعمل هذه التوحيد بين اسم الفعل واسم الفاعل، لا من أجل التنزيه، بل من أجل التجسيم والتشبيه. إذ تقول المجسمة أيضًا بأن الباري قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد (مقالات، ج١، ص٢٦٢-٢٦٣). كما يرى هشام بن الحكم أن وجه الله هو الله (مقالات، ج١، ص١٣٨). وكذلك بعض أنصار ابن كلاب بأن الله قديم لا يقدم (مقالات، ج١، ص٢٠٣).
٣٨  هذا هو رأي عبَّاد بن سليمان في أنه لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا، أي لم يزل عالمًا بمعلومات، قادرًا بمقدورات (مقالات، ج٢، ص١٦٤–١٦٥).
٣٩  هذا هو موقف أبي الهذيل وأصحابه (الفصل، ج٢، ص١١٨). انتهج منهج الفلاسفة فقال الباري عالم بعلم هو نفسه، ولكن لا يُقال نفسه علم كما قالت الفلاسفة عقل وعاقل ومعقول (النهاية، ص١٨٠؛ الملل، ج١، ص٤١). وألزمه أهل السنة أن يكون نفسه علمًا وقدرةً وأن يستحيل كونه عالمًا وقادرًا لأن العلم لا يكون عالمًا ولا القدرة قادرًا، وألزموه أيضًا أن تكون معلوماته كلها مقدورة له، وهذا يوجب أن تكون ذاته مقدورًا له كما هو معلوم له (الأصول، ص٩١-٩٢). قال: عالم بعلم وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته، وحي بحياة وحياته ذاته، وهو رأي مقتبس من الفلاسفة الذين اعتقدوا أن ذاته واحد لا كثرة فيها. الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة بذاته بل ذاته ترجع إلى السلوب أو اللوازم. وإذا كانت هذه الصفات وجوهًا للذات فهي بعينها أقانيم النصارى وأحوال أبي هاشم (الملل، ج١، ص٧٥؛ الشرح، ص١٨٣-١٨٤).
٤٠  أجمع المسلمون على القول بما جاء به نص القرآن من أن الله سميع بصير، ثم اختلفوا: سميع بصير بسمع وبصر أم سميع بصير بذاته (الفصل، ج٢، ص١٢٨). «اتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الأهواء على نفي الصفات، ثم اختلفت آراؤهم في التعبير عن وصفه بأحكام الصفات» (الإرشاد، ص٧٩).
٤١  باب في إثبات الصفات بوجه عام. ذهبت الأشاعرة إلى أن له صفات زائدة، فهو عالم بعلم، قادر بقدرة، مريد بإرادة … إلخ (المواقف، ص٢٧٩). مذهب أهل الحق أن الله سميع بسمع بصير ببصر (الغاية، ص١٢١؛ المحصل، ص١٣١). أن الواجب بذاته مريد بإرادة، عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، وهذه كلها معانٍ وجودية أزلية زائدة على الذات (الغاية، ص٣٨). من ضمن أحكام الصفات أنها ليست الذات، بل زائدة (الاقتصاد، ص٤٤). الصفات ليست الذات، بل زائدة (الاقتصاد، ص٦٩–٧٤). الصفات السبعة ليست هي الذات، بل هي زائدة على الذات، فصانع العالم عالم بعلم وحي بحياة وقادر بقدرة، وهكذا في جميع الصفات (الاقتصاد، ص٦٩). وهذه الصفات زائدة على ذاته (النهاية، ص١٨١). في إثبات الصفات بوجه عام، ذهبت الأشاعرة إلى أن له صفات زائدة، فهو عالم بعلم، قادر بقدرة، مريد بإرادة (المواقف، ص٢٧٩-٢٨٠). قال الأشعري ووافقه الباقلاني وجمهور أصحابه أن علم الله غير الله وخلاف الله، وأنه مع ذلك غير مخلوق ولم يزل (الفصل، ج٢، ص١١٨). قالت طائفة من أهل السنة والأشعرية وجعفر بن حرب من المعتزلة وهشام بن الحكم وجميع المجسمة تقطع أن الله سميع بسمع وبصير ببصر (الفصل، ج٢، ص١٢٨). قالت طائفة هو حي بحياة. واحتجت بأنه لا يعقل أحد حيًّا إلا بحياة، ولم يكن الحي حيًّا إلا لأن له حياة ولولا ذلك لم يكن حيًّا. قالوا: ولو جاز أن يكون حيًّا لا بحياة لجاز أن يكون حيًّا لا بحي (الفصل، ج٢، ص١٣٨).
٤٢  عند جهم بن صفوان وهشام بن الحكم ومحمد بن عبد الله بن سيرة وأصحابهم علم الله هو غير الله، وهو محدث مخلوق (الفصل، ج٢، ص١١٨).
٤٣  عند الأشعري في أحد قوليه: لا يُقال هو الله ولا هو غير الله (الفصل، ج٢، ص١٠٨؛ الشامل، ص٦٢٩). هي صفات أزلية قائمة بذاته لا يُقال هو هو ولا غيره ولا هو ولا غيره (الملل، ج١، ص١٤١-١٤٢). وأحيانًا يُقبِّح الأشعري كل ذلك ويعود إلى موقف الفقهاء بإلغاء كل الإشكالات العقلية. وقالت طوائف أهل السنة علم الله لم يزل وهو غير مخلوق، وليس هو غير الله، ولا نقول هو الله، صفات الله وأسماؤه لا هو ولا هو ولا غيره كالواحد من العشرة (البحر، ص١٥-١٦). قائم بذاته وهو لا هو ولا غيره (النسفية، ص٧٠). والذي عليه معظم أهل الكلام من أهل الحق وأسلاف المعتزلة أن العلم إذا قام بالمحل اتصف بكونه عالمًا وكونه عالمًا غير العلم القائم به وليس بحال زائد عليه، أي إثبات الصفة مغايرة للذات دون الزيادة احترازًا من التركيب والتعدد والقسمة.
٤٤  يقول الباقلاني: «وأن يُعلَم أنه سبحانه ليس مغايرًا لصفات ذاته، وأنها في أنفسها غير متغايرات إذا كان حقيقة الغيرين ما يجوز مفارقة أحدهما الآخر بالزمان والمكان والوجود والعدم، وأنه سبحانه يتعالى عن المفارقة لصفات ذاته، وأن توجد الواحدة منها مع عدم الأخرى» (الإنصاف، ص٢٥-٢٦).
٤٥  يعدِّد ابن حزم هذا الاضطراب في النسق في ثمانية مواقف: (أ) جمهور المعتزلة، إطلاق الله للعلم مجاز بمعنى لا يجهل على عكس سائر الناس الذي يأخذونه على الحقيقة. (ب) جهم وهشام بن الحكم ومحمد بن عبد الله بن سيرة، علم الله هو غير الله، محدث مخلوق. (ﺟ) طوائف من أهل السنة، غير مخلوق لم يزل، ليس الله ولا غير الله. (د) الأشعري، في أحد قوليه، لا يُقال هو الله ولا هو غير الله. (ﻫ) الباقلاني والأشعري في قول آخر، علم الله هو غير الله ومع ذلك غير مخلوق. (و) أبو الهذيل، علم الله لم يزل وهو الله أي أنه قديم بمعنى ما. (ز) طوائف من أهل السنة، لم يزل، غير مخلوق، ليس غير الله أو هو الله. (ﺣ) هشام بن عمر الفوطي، لا يطلق القول بأن الله لم يزل عالمًا بالأشياء قبل كونها، ليس لأنه لا يعلم ما يكون قبل أن يكون بل يقول إن الله لم يزل عالمًا بأن ستكون الأشياء إذا كانت (الفصل، ج٢، ص١١٨).
٤٦  ولنعين العلم من الصفات حتى لا نحتاج إلى تكرار جميع الصفات (الاقتصاد، ص٦٩). منهم من يبدأ بإثبات القدرة أو العلم ثم تثبت القدرة والإرادة، أو يبدأ بإثبات الإرادة ثم تثبت القدرة والعلم (النهاية، ص١٧٠؛ الغاية، ص٥١). والقول في القدرة والقوة كالقول في العلم، القوة والقدرة لله معًا، وليست غير الله، ولا يُقال هما الله (الفصل، ج٢، ص١٥٢).
٤٧  الغاية، ص٧٦؛ المواقف، ص٢٨٢-٢٨٣؛ الإرشاد، ص٨٧-٨٨.
٤٨  مثلًا: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، أي إثبات القوة، وكذلك قول الرسول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ» (الفصل، ج٢، ص٥٢، ص١١٨؛ اللمع، ص٢٩–٣١؛ الإبانة، ص٩، ص٣٩؛ الإنصاف، ص٣٨-٣٩؛ الأصول، ص٩٢-٩٣).
٤٩  اللمع، ص٢٦–٣١؛ الاقتصاد، ص٦٩-٧٠؛ الإرشاد، ص٨٩-٩٠؛ الشرح، ص٢٠٣–٢١٣؛ المسائل، ص٣٦٦-٣٦٧؛ المحصل، ص٤٧–٤٩، ص١٣١-١٣٢؛ المواقف، ص٢٧٩–٢٨٣.
٥٠  الفصل، ج٢، ص١١٩-١٢٠؛ التمهيد، ص١٥٣؛ الاقتصاد، ص٧٠-٧١.
٥١  التمهيد، ص١٥٢؛ الإبانة، ص٣٩–٤٣.
٥٢  الإبانة، ص٣٩–٤١.
٥٣  الإبانة، ص١٢.
٥٤  الإبانة، ص٤١-٤٢.
٥٥  الإبانة، ص٤٢.
٥٦  الإبانة، ص٤٣.
٥٧  تثبت أكثر المعتزلة لله علمًا بمعنى أنه عالم، وقدرة بمعنى أنه قادر، ولكنهم لا يثبتون له حياة أو سمعًا أو بصرًا (مقالات، ج١، ص٢٢٤-٢٢٥). أثبتوا الرب عالمًا بلا علم وجعلوا كونه عالمًا من صفات النفس (الشامل، ص١٧٧-١٧٨). الله قادر بلا قدرة، بل لنفسه (الأصول، ص٩٤). يثبت المعتزلة العالمية دون العلمية (الغاية، ص٧٦). وعند أبي الهذيل العلَّاف علم الله هو الله (الإبانة، ص٣٩–٤١). وعند النجارية أنه مريد بذاته (الشرح، ص٤٤٠). وتشارك الجهمية المعتزلة في نفي الصفات زائدة على الذات. وقال شيخ منهم إن الله هو الله وإن الله علم، فنفى العلم من حيث أنه أوهم أنه أثبت حتى ألزم أن يقول يا علم اغفر لي، إذ كان علم الله عنده هو الله، وكان الله على قياسه علمًا وقدرةً (الإبانة، ص٣٥). وعند جهم هو عالم بعلم قائم لا في محل، متجدد بتجدد الحادثات متعدد بتعدد الكائنات (الغاية، ص٧٦). ويشارك الخوارج والفلاسفة المعتزلة في إثبات علاقة الهوية بين الذات والصفات. فعند الفلاسفة العلم حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم. فإذا كانت المعلومات مختلفة في الماهيات يكون علم الله بالمعلومات أمورًا زائدةً على ذاته وهي من لوازم ذاته. صرَّح ابن سينا بذلك في النمط السابع من الإشارات. وعلى هذا سلموا بأن علم الله قائم بذاته. ويعبرون عن ذلك بأن الله صفة خارجة عن ذات الله متقومة بالذات. ويكون الخلاف مع مثبتي الحال. فالفلاسفة لا يقولون إلا بالذات والصور، ومثبتو الحال قالوا بأمور ثلاثة: الذات، والعالمية، والعلم (المحصل، ص١٣١-١٣٢). والحقيقة أن الفلاسفة مختلفون. فمنهم من نفى العلم مطلقًا، ولا يجوز علم متعلق بذاته ولا بغيره. والبعض أثبت العلم دون أن يكون متعلقًا بالغير بل بالذات. وفريق ثالث أثبت العلم مع جواز التعليق بشرط أن يكون كليًّا (المواقف، ص٢٩١-٢٩٢).
٥٨  بالرغم من إثبات محمد بن عيسى الملقب بالبرغوث أن الله متكلم لذاته، إلا أن الصعوبة في ذلك هو إخراج الله عن كونه متكلمًا أصلًا، أو يكون متكلمًا بسائر ضروب الكلام، أو يكون متعلمًا لذاته، أو تجويز الكذب عليه لأنه أخبر بشيء وقد لا يقع. هذه اعتراضات القاضي عبد الجبار (الشرح، ص٥٥١–٥٥٥).
٥٩  ناقض المعتزلة في صفتين: الإرادة والكلام. فالإرادة زائدة على الذات، وهو متكلم بكلام زائد على الذات، إلا أن الإرادة يخلقها الله في غير محل، والكلام يخلقه في جسم جماد ويكون هو المتكلم به (الاقتصاد، ص٦٩). ويرفض الغزالي هذه التفرقة ويبرهن على أن الصفات كلها زائدة على الذات (الاقتصاد، ص٧٢-٧٣). وقال الفلاسفة إن متكلمًا تعني أنه يخلق في ذات النبي سماع أصوات منظومة، إمَّا في النوم أو في اليقظة. ولا يكون لها وجود في الخارج بل في سمع النبي. وإذا كان النبي عالي الرتبة في النبوة ينتهي صفاء نفسه إلى أن يرى في اليقظة صورًا عجيبةً ويسمع أصواتًا منظومة فيحفظها ومن حواليه لا يرون ولا يسمعون شيئًا. ومن ليس في هذه الدرجة لا يرى ذلك إلا في المنام (الاقتصاد، ص٦٩). كما أن هناك تفرقة بين العلم والكلام، فالله علَّم موسى وفرعون، وكلَّم موسى (الإبانة، ص٣٩–٤١).
٦٠  مثل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
٦١  الفصل، ج١، ص١١٩-١٢٠؛ المواقف، ص٢٧٩–٢٨٢؛ البحر، ص٢٥-٢٦، ص٢٩؛ الإرشاد، ص١٣٧-١٣٨؛ الاقتصاد، ص٧٣-٧٤؛ المعالم، ص١٤٩-١٥٠؛ الإبانة، ص٩؛ التمهيد، ص١٥٥–١٦٠؛ الفصل، ج٢، ص١٢٤–١٣٠، ص١٤٠-١٤١؛ الشرح، ص١٩٩–٢٠٣.
٦٢  عند ابن حزم القول بأنه حي بحياة يتضمن القول بالجسم فلا حياة بلا جسم قياسًا للغائب على الشاهد. وبالتالي يرفض علاقة الزيادة أو الغيرية، وهو فقيه سني (الفصل، ج٢، ص١٢٤-١٢٥، ص١٢٨–١٣٠). وأمَّا الأشعرية فيلزمهم في قولهم أن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء (الفصل، ج٣، ص٩، ص١٤٠-١٤١). وقالت طائفة أخرى هو حي لا بحياة … لم يكن الحي حيًّا لأن له حياة لكن لأنه فاعل فقط، عالم قادر ولا يكون العالم القادر الفاعل إلا حيًّا. لو كان حيًّا بحياة، والحياة لا يصح الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها في الإدراك ضربًا من الاستعمال، لوجب أن يكون القديم جسمًا وذلك محال. وكذا الكلام في القدرة، لا يصح الفعل بها إلا بعد استعمال محلها في الفعل أو في سببه ضربًا من الاستعمال فيجب أن يكون الله جسمًا محلًّا للأعراض وذلك لا يجوز (الشرح، ص٢٠٠-٢٠١).
٦٣  الشرح، ص١٨٣–١٨٦، ص١٩٩–٢٠٣؛ الغاية، ص٧٦–٨٠؛ المواقف، ص٢٧٩–٢٨١؛ المحصل، ص٤٧–٤٩، ص١٣١–١٣٣. إبداع واجب الوجود ليس في حاجة إلى صفات، يبدع من ذاته وهو مذهب الشيعة الباطنية أيضًا وحجتهم أن كل اشتراك في الاسم يوجب اشتراكًا في المعنى، وأن كل اسم يطلق عليه يقابله اسم آخر تقابل التضاد مثل الموجود والمعدوم، والعالم والجاهل، والقادر والعاجز، فيتحقق له ضد من ذلك الوجه. فاحترزوا عن إطلاق لفظ وجودي أو عدمي كيلا يقعوا في التمثيل والتعطيل.
٦٤  هذا هو موقف أبي الهذيل العلَّاف (الملل، ج٢، ص١٣٦). ويرى معمر أن الله عالم يعلم وعلمه كان لمعنى وكان المعنى لمعنى لا إلى غاية وكذلك سائر الصفات. المعاني لا نهاية لها (مقالات، ج٢، ص٢٦٠).
٦٥  «إن مسألة وجود الصفات وزيادتها ليست مما يجب اعتقاده. والذي يجب على المكلف اعتقاده أن لله صفاتٍ، وأمَّا أنها موجودة زائدة على الذات فليس من الدين في شيء» (ص٥٩-٦٠). «لا ريب أن هذا الحديث وما أتيناه عليه كما يأتي في الذات من حيث هي يأتي فيها مع صفاتها، فالنهي واستحالة الوصول إلى الاكتناه شاملان لها فيكفيان العلم بها أن نعلم أنه متصف بها. وأمَّا ما وراء ذلك فهو مما يستأثر بعلمه ولا يمكن لعقولنا أن تصل إليه. ولهذا لما يأتِ الكتاب العزيز وما سبقه من الكتب إلا بتوجيه النظر إلى المصنوع لينفذ إلى معرفة الصانع وصفاته الكمالية. وأمَّا كيفية الاتصاف فليس من شأننا أن نبحث فيها … أمَّا كون الصفات زائدة، وكون الكلام صفة غير ما اشتمل عليها العلم من معاني الكتب السماوية، وكون السمع والبصر غير العلم بالمسموعات والمبصَرات ونحو ذلك من الشئون التي اختلف فيها النُّظَّار وتفرقت فيها المذاهب، فمما لا يجوز الخوض فيه. إذ لا يمكن لعقول البشر أن تصل إليه. والاستدلال على شيء منه بالألفاظ الواردة ضعف في العقل، وتغرير في الشرع لأن استعمال اللغة لا ينحصر في الحقيقة ولكن انحصر فيها. فوضع اللغة لا تراعى فيه الموجودات بكنهها الحقيقي. وإنما تلك مذاهب فلسفة إن لم يضل فيها أمثلهم فلم يهتدِ فيها فريق إلى مقنع. فما علينا إلا التوقف عندما تبلغه عقولنا، وأن نسأل الله أن يغفر لمن آمن به وبما جاء به رسله ممن تقدمنا من الخائضين» (الرسالة، ص٥١-٥٢).
٦٦  عند إبراهيم بن مهاجر شيخ الكرامية أن أسماءه كلها أعراض فيه، واسم كل مسمًّى عرض فيه، فهو عرض حال في جسم قديم، والرحمن عرض آخر، والرحيم عرض ثالث، والخالق عرض رابع … إلخ. كل اسم عرض غير الآخر، الزاني عرض في الجسم الذي يُضاف إليه الزنا والسارق عرض في الذي تُضاف إليه السرقة وليس الجسم زانيًا ولا سارقًا (الفِرَق، ص٢٢٤-٢٢٥).
٦٧  هذا هو موقف المعتزلة والخوارج في نفي السمع والبصر وإثبات الفَرق بين الأسماء والله (مقالات، ج١، ص٣٢٠). ويرى الجبائي أن الوصف هي الصفة لأن التسمية هو الاسم (مقالات، ج٢، ص١٨٩).
٦٨  لذلك سُمِّي المعتزلة أهل العدل والأشاعرة أهل الرحمة. انظر الفصل الثامن: «المعاد».
٦٩  الاقتصاد، ص٦٩.
٧٠  عند الأشاعرة إثبات الحال أقرب إلى إثبات الصفات: «فلا فرق في الحقيقة بين أصحاب الأحوال وبين أصحاب الصفات إلا أن الحال مناقض للصفات. إذ الحال لا يوصف بالوجود ولا بالعدم، والصفات موجودة ثابتة قائمة بالذات» (النهاية، ص١٩٦–١٩٩). وعند المعتزلة هي أقرب إلى نفي الصفات قال به المعتزلة ولم يؤيده من الأشاعرة إلا القاضي وإمام الحرمين.
٧١  «ويلزمهم مذهب النصارى في قولهم واحد بالجوهر ثلاثة بالأقنومية» (النهاية، ص١٩٦–١٩٩). انظر «التراث والتجديد: موقفنا من التراث القديم» (منهج الأثر والتأثر، ص١٠٢–١٠٨).
٧٢  هذا هو رأي أبي هاشم الجبائي (الفِرَق، ص١٩٥-١٩٦؛ التمهيد، ص١٥٣–١٥٥). وافقه على ذلك جماعة من المعتزلة والكرامية وجماعة من الأصحاب كالقاضي أبي بكر والإمام أبي المعالي، ونفاها عدا هؤلاء من المتكلمين (الغاية، ص٢٧).
٧٣  انظر الفصل الرابع: نظرية الوجود، ثانيًا: ميتافيزيقا الوجود (الأمور العامة)، الواجب، (أ) الوجود هو العدم، (د) هل هناك واسطة بين الوجود والعدم (الحال)؟
٧٤  ليس للحال حد حقيقي. ولكن هناك ضوابط وقسمة. مثلًا منه ما يعلل وما لا يعلل. وما يعلل أحكام لمعانٍ قائمة بذوات وما لا يعلل صفات ليست أحكامًا لمعانٍ. الأوَّل كل حكم قامت به ذات يشترط في ثبوتها الحياة عند أبي هاشم، ويُسَمَّى مجموع الأحكام أحوالًا، وهي صفات زائدة على المعاني التي أوجبتها. وهو أول من أحدثها. ولم يصف الأحوال هو ومن اتبعه من متأخري المعتزلة بكونها معلومة، ولم يحكموا بأنها مجهولة، وأنكروا كونها مقدورة ومرادة. ويقول: إن لم أقل إن الحال معلومة فإن الذات معلومة في الحال. لم يقل إنها معلومة لأن المعلوم شيء وإلا كانت الأحوال أشياء (الشامل، ص٦٢٩، ص٦٤٢–٦٤٤؛ النهاية، ص١٣١-١٣٢). لا تكون معلومة إلا مع الذوات وعند الأشاعرة قد تُعلم على انفرادها (الغاية، ص٣٠). وقد أثبت الأحوال بعض الأشاعرة، منهم القاضي وإمام الحرمين. فالحال عند الأشاعرة كل ما وقع به الاشتراك والافتراق من الذوات والمعاني، فهو حال زائد عليها (الغاية، ص٢٧–٢٩). وعند القاضي الحال كل صفة لموجود لا تتصف بالوجود، سواء كان المعنى الموجب مما يشترط في ثبوته الحياة أم لا، في حين أنه عند أبي هاشم يطَّرد في الأكوان والألوان والطعوم والأراييح (الشامل، ص٦٣٠). وعند القاضي لا يوصف بالحال إلا الجزء الذي قام به المعنى فقط، أمَّا القسم الثاني فهو كل صفة إثبات لذات من غير علة زائدة على الذات (النهاية، ص١٣١–١٣٣). وإذا وصفنا شيئًا بالوجود ثم أثبتنا له صفات فهي زائدة على الوجود أي أحوال عند مثبتيها وعند نفاتها نفس الذوات وأعيانها (الشامل، ص٦٣٠). كل ذلك هو الذي دعا ابن حزم لأن يقول بأنه يصعب فهم الحال أو تعريفه، فالأحوال ليست حقًّا ولا باطلًا، ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة، ولا موجودة ولا معدومة، لا معلومة ولا مجهولة، ولا أشياء ولا غير أشياء (الفصل، ج٥، ص١٢١).
٧٥  وهو معنى الحديث المشهور: إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا، ولكنه يقبض العلم بقبض العلماء.
٧٦  النهاية، ص١٣٣–١٤٩، ص١٧١–١٧٣؛ الشامل، ص١٢٩-١٣٠، ص٦٣٩–٦٤٢؛ الفصل، ج٢، ص١٢١–١٢٥. وخالف أبو الحسن البصري أستاذه القاضي عبد الجبار في نفي الحال والمعدوم والمعاني (اعتقادات، ص٤٥). كما خالف أبو علي ابنه ورد الاشتراك والألفاظ إلى الألفاظ وأسماء الأجناس وإلا أدى إثبات الحال إلى حال آخر، ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية (الملل، ج١، ص١١٩–١٢١). والباقلاني هو صاحب الحجة القائلة بأن الحال إمَّا معلوم أو غير معلوم، وغير المعلوم لا يُقاس عليه، والمعلوم ليس كذلك اضطرارًا أم استدلالًا، والعلم بحال النفس ليس هو العلم بالحال، ويفند الأحوال برفضه للعلم النفسي (التمهيد، ص١٥٣–١٥٥). ونفى الأحوال أبو علي الأشعري وأصحابهما (النهاية، ص١٣١). وأنكر معظم المتكلمين الأحوال؛ لأن تجيز الجوهر هو عين وجوده (الإرشاد، ص٨١-٨٢). ويرى ابن حزم أنه لا دليل عليها من قرآن أو سنة أو إجماع أو قول متقدم أو لغة أو ضرورة عقل أو دليل إقناع أو قياس. ولا يشك كل ذي حس سليم أن الاختيار واضح فهي مجهولة. والحقيقة أن الأدلة عليها كثيرة من النقل والعقل ليس لفظًا بل معنًى من ألفاظ أخرى مثل الفؤاد والنفس والقلب والشعور.
٧٧  باب في الكلام في الأحوال عند أبي هاشم (التمهيد، ص١٥٣–١٥٥). فصل في إثبات الأحوال والرد على منكريها (الإرشاد، ص٨٠–٨٤). العلية حال للذات وليست بصفة (الاقتصاد، ص٦٩). وقال أبو هاشم: هي أحوال ثابتة للذات، وأثبت حالة أخرى توجب هذه الأحوال (النهاية، ص١٨٠). القاعدة الأولى في مسألة الأحوال (الغاية، ص٢٧–٣٧). فإن النظر في الصفات النفسية قد تعلق نوعًا من التعلق بالنظر في الصفات الحالية. ولربما توصل بعض المتكلمين من الأصحاب والمعتزلة منها إلى إثبات الصفات النفسية. فلا جرم وجب أن يقوم في بيان الأحوال أوَّلًا (الغاية، ص٢٧.) عند أبي هاشم الصفة حال بمعنى أنه ذو حالة، وهي صفة معلومة وراء كونه ذاتيًّا موجودًا دائمًا، يعلم الصفة على الذات لا بانفرادها، فأثبت أحوالًا لا معلومةً ولا مجهولةً (الملل، ج١، ص١١٩–١٢١). أول من أحدثها أبو هاشم والقاضي أبو بكر وإمام الحرمين أوَّلًا (النهاية، ص١٣١). وفي قول آخر تردد القاضي بين الإثبات والنفي (الشامل، ص٦٢٩). ويرى ابن حزم أن الأشعرية من مثبتي الأحوال مع أنهم من نفاتها ولم يثبتها إلا القاضي وإمام الحرمين (الفصل، ج٥، ص١٢١-١٢٢).
٧٨  تمت الإشارة من قبل إلى أنه لا يوجد أثر لأقانيم النصارى في إثبات الأحوال الثلاثة أو إلى فضائل أفلاطون الثلاث الحكمة والشجاعة والعفة، ومجموعها في العدالة (الهامش٧١). وأحيانًا تكون الأحوال خمسة: الوجودية والحيية والعالمية والقادرية والألوهية (ص٥٩-٦٠).
٧٩  الشامل، ص٦٢٩–٦٣٩؛ النهاية، ص٦٤٢–٦٤٩.
٨٠  النهاية، ص١٧١–١٧٣؛ التحقيق، ص٣٢.
٨١  ويقول في ذلك الآمدي: «والحق في هذه المسألة أن الإنسان يجد من نفسه تصور أشياء كلية عامة ومطلقة دون ملاحظة جانب الألفاظ ولا ملاحظة جانب الأعيان، ويجد من نفسه اعتبارات عقلية لشيء واحد، وهي إمَّا أن ترجع إلى الألفاظ المحددة وقد أبطلناه وإمَّا أن ترجع إلى الأعيان الموجودة المُشار إليها وقد زيفناه. فلم يبقَ إلا أن يُقال هي معانٍ موجودة محققة في ذهن الإنسان والعقل الإنساني هو المدرك لها ومن حيث هي كلية عامة لا وجود لها في الأعيان، فلا موجود مطلقًا في الأعيان ولا عرض مطلقًا ولا لون مطلقًا، بل هي الأعيان بحيث يتصور العقل منها معنًى كليًّا عامًّا، فتُصاغ له عبارة تطابقه وتنص عليه، ويعتبر العقل منها معنًى ووجهًا فتُصاغ له عبارة حتى ولو بطلت العبارات أو تبدلت لم تبطل المعنى المقدر في الذهن المتصور في العقل. فنفاة الأحوال أخطئوا من حيث ردها إلى العبارات المجردة، وأصابوا حيث قالوا بإثبات وجوها معينًا لا عموم فيه ولا أغيار. ومثبتو الأحوال أخطئوا من حيث ردها إلى صفات في الأعيان، وأصابوا من حيث قالوا هي معانٍ معقولة وراء العبارات، وكان من حقهم أن يقولوا هي موجودة متصورة في الأذهان بدل قولهم لا موجودة ولا معدومة. وهذه المعاني مما لا ينكرها عاقل من نفسه غير أن بعضهم يعبر عنها بالتصور في الأذهان، وبعضهم يعبر عنها بالتقدير في الفعل، وبعضهم يعبر عنها بالحقائق والمعاني التي هي مدلولات العبارات والألفاظ، وبعضهم يعبر عنها بصفات الأجناس والأنواع. والمعاني إذ لاحت للعقول واتضحت فليعبر المعبر عنها بما تيسر له. فالحقائق والمعاني إذن ذات اعتبارات ثلاثة: اعتبارها في ذواتها وأنفسها أو اعتبارها بالنسبة إلى الأعيان واعتبارها بالنسبة إلى الأذهان. وهي من حيث هي موجودة في الأعيان يعرض لها أن تتعيَّن وتتخصص. وهي من حيث هي متصورة في الأذهان يعرض لها أن تعم وتشمل. فهي باعتبار ذواتها في أنفسها حقائق محضة لا عموم فيها ولا خصوص. ومن عرف الاعتبارات الثلاثة زال إشكاله في مسألة الحال ويبين له الحق في مسألة المعدوم. هل هو شيء أم لا» (النهاية، ص١٤٧–١٤٩).
٨٢  الشامل، ص٦٢٥. وضع الجويني القول في الأحوال كمقدمة في كتاب العلل. فأحكام العلل تترتب على ثبوت الأحوال، البداية بالأحوال ثم العلل. إثبات الأحوال مسألة عظيمة الشأن تستند إليها أحكام العلل، وهي أصول الأدلة ومآخذ الحقائق (الشامل، ص٦٢٩–٦٤٥). وقد رفض الآمدي العلية، فالعلة والمبدأ يقالان على كل ما استمر له وجود في ذاته ثم حصل من وجود شيء آخر. وقد يكون الشيء علة للشيء بالذات أو بالعرض، وقد تكون العلة قريبة أو بعيدة، وواجب الوجود لذاته تام الوجود ولا حاجة به إلى تعليل (الغاية، ص١٧٦–١٧٩). ينفي الآمدي التعليل كأساس لإثبات الصفات لأن واجب الوجود لا يعلل ولا يفتقر إلى تعليل (الغاية، ص٤٧–٤٩). وقد قال الأشاعرة بالتعليل في معرض الرد على المعتزلة وقولهم بنفي الصفات، فوقعوا في شبهة الاحتياج والافتقار في واجب الوجود، في تعليل الواجب والرد على منكريه (الإرشاد، ص٨١–٨٧). أمَّا أبو علي فقد قال بالعلة ولم يقل بالحال (الأصول، ص٣٢).
٨٣  الشامل، ص٦٢٥؛ الإرشاد، ص٨٢–٨٤؛ النهاية، ص١٨٢–١٩٠.
٨٤  الإنصاف، ص٢٣–٣٦، ص٣٨–٤٣؛ التمهيد، ص٣٣-٣٤، ص٤٨-٤٩، ص١٥٥–١٦٠؛ النسفية، ص٧؛ الوسيلة، ص٤٦؛ الأصول، ص٩٠؛ النهاية، ص١٨١؛ الفِرَق، ص٣٣٤؛ الإرشاد، ص١٧٩. لم يزل بصفاته قديرًا ولا يزال عالمًا خبيرًا (الإبانة، ص٤). كان خالقًا قبل أن يخلق ورازقًا قبل أن يرزق (الفقه، ص١٨٤–١٨٦؛ الانتصار، ص٧٥-٧٦). وعند الكلابية أنه يستحق هذه الصفات لمعانٍ أزلية، والأزل القديم. وقال الأشعري إنه يستحقها لمعانٍ قديمة (الشرح، ص١٨٣). فمن أحكام الصفات أنها كلها قديمة (الاقتصاد، ص٤٤). وجميع هذه الصفات قديمة أزلية بذاتها، وربما زادوا السمع والبصر كما أثبته الأشعري، إضافةً إلى العلم والقدرة والحياة والمشيئة (الملل، ج٢، ص١٩). مذهب أهل الحق أن الباري حي عالم قادر، له الحياة القديمة والعلم القديم، والقدرة القديمة والإرادة القديمة (الإرشاد، ص٧٩). الحكم الثالث أن هذه الصفات كلها قديمة (الاقتصاد، ص٧٥–٨٢). الله بجميع صفاته وأسمائه قديم أزلي من غير تفصيل (البحر، ص١٥). القدرة قديمة (المواقف، ص٢٨١). ويشارك بعض المعتزلة والرافضة الأشاعرة في القول بقِدَم الصفات. فعند عبَّاد بن سليمان تعني الله قديم أنه لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا (مقالات، ج١، ص٢١٦، ص٢١٨، ص٢٦٢–٢٦٨). وعند الزيدية أن الله لم يزل مريدًا، لم يزل كارهًا للمعاصي ولأن يعصى، لم يزل راضيًا، لم يزل ساخطًا (مقالات، ج١، ص١٣٨). عالم بعلم قديم (الانتصار، ص١٠٨–١١١). وعند الإباضية أن الله لم يزل مريدًا لما علم أن يكون أن يكون، ولما علم ألا يكون ألا يكون. وعند بعض الروافض أن الله لم يزل يعلم بنفسه (مقالات، ج٢، ص١٦١). ويقول فريق من الرافضة إن الله لم يزل عالمًا حيًّا قادرًا بلا تشبيه، والعلم غير حادث (مقالات، ج١، ص١٠٦–١٠٨). ويصحح الخيَّاط مقالة هشام الفوطي ويروي أنه قال لم يزل عالمًا لنفسه لا بعلم محدث (الانتصار، ص١٢٥).
٨٥  البحر، ص١٦؛ المسائل، ص٣٥٩؛ الاقتصاد، ص٧٥–٨٣؛ الشرح، ص١٨٦–١٨٨. ويعرض الرازي هذا الدليل كالآتي: لو كان علمه حادثًا لكان المؤثر في حدوث العلم هو أو غيره، وكلاهما باطل. الأوَّل باطل لأنه يحتاج في حدوث ذلك العلم إلى علم آخر، ويتسلسل إلى ما لا نهاية، والثاني باطل لأن الكلام في حدوث الغير كالكلام في حدوث علمه، يفتقر الغير إلى آخر ويلزم التسلسل (المسائل، ص٣٦٦).
٨٦  ويشرح القاضي عبد الجبار هذا الدليل كالآتي: العلم يجري مجرى الفعل المحكم لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص، وذلك لا يأتي إلا من علم. وهذه الدلالة مبنية على عدة أصول: أن العلم من قبيل الاعتقاد، إنه اعتقاد على وجه مخصوص، ألا يقع على ذلك الوجه إلا ما هو عالم به (الشرح ص١٨٨–١٩٢). أنه لم يزل عالمًا قادرًا حيًّا سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا، لكان فيما لم يزل غير حي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ولا مريد (التمهيد، ص٣٨–٤٩). إذا لم يكن حيًّا وُصف بضده (اللمع، ص٢٥-٢٦).
٨٧  يقول النسفي: «علم ما يكون قبل أن يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون. قد سبق علمه في الأشياء قبل كونها» (البحر، ص٣). ويقول القاضي عبد الجبار: العلم صفة قديمة قائمة بذاته، ينكشف بها المعلوم انكشافًا على وجه الإحاطة من غير سبق قضاء، تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات (الشرح، ص١٦٠). كان الله عالمًا في الأزل بالأشياء قبل كونها (الفقه، ص١٨٥). القضاء والقدر والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف، يعلم المعدوم في حال عدمه معدومًا، ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده ويعلم الموجود في حال وجوده موجودًا، ويعلم كيف يكون فناؤه، يعلم القائم في حال قيامه قائمًا، وإذا قعد علمه قاعدًا في حال قعوده من غير أن يتغير علمه أو يحدث له علم، ولكن التغير والاختلاف يحدث في المخلوقين (الانتصار ص١٢٢–١٢٦). ويرى ابن الباري الراوندي أن المعلومات معلومات قبل كونها (مقالات، ج١، ص٢٢٠؛ ج٢، ص١٦٩). ويرى أهل السنة أنه لم يزل مسميًّا لنفسه بأسمائه واصفًا لها بصفاته قبل إيجاد خلقه (الإنصاف، ص٢٣). ويرى البغداديون والجبائي أنه لم يزل عالمًا بالأشياء قبل كونها الجسم قبل كونه. المعلوم معلوم قبل كونه، والمقدور مقدور قبل كونه (مقالات، ج٢، ص١٦٨، ص١٧١، ص٢٢١-٢٢٢). لم يزل موجودًا يعلم الأشياء غير كائنة. وعند عبَّاد بن سليمان وابن الراوندي والشحام وأنيب بن سهل والخراز وطائفة من البغداديين أن الله لم يزل عالمًا بالأشياء ولم يزل عالمًا بالأشياء (مقالات، ج١، ص٢١٨–٢٢٣؛ ج٢، ص١٧١). ويرى الجبائي أن الله لم يزل عالمًا قادرًا على الأشياء قبل كونها بنفسه. والأشياء خطأ أن يُقال لها أشياء قبل كونها؛ لأن كونها هو هي، وينكر أنها أشياء قبل أنفسها، ولكنها تعلم أشياء قبل كونها، وتُسَمَّى أشياء قبل كونها إلا الأجسام والأفعال (مقالات، ج٢، ص١٨٣-١٨٤). ويرى عبَّاد بن سليمان أن الأشياء أشياء قبل كونها (مقالات، ج٢، ص١٦٥). ويرى ابن الراوندي أن ولا شيء إلا موجود، والمأمور به والمنهي عنه يوصف به الشيء قبل كونه (مقالات، ج٢، ص١٦٩). المخلوق مخلوق قبل كونه (مقالات، ج٢، ص١٧١). وعند الجبائي أن الشيء سمة لكل معلوم، فلما كانت الأشياء معلومات قبل كونها أشياء، وما سُمِّي به لوجود علة لا فيه يجوز أن يُسَمَّى به مع عدمه (مقالات، ج٢، ص١٨٣-١٨٤).
٨٨  يركِّز الباقلاني في «الإنصاف» على قِدَم الكلام وفي «التمهيد» على إثبات الصفات (الإنصاف، ص٢٨–٤٣؛ التمهيد، ص٣٣-٣٤، ص٤٨-٤٩، ص١٥٥–١٦٠). ومع ذلك يذكر بعض المعتزلة السمع والبصر. كان سميعًا بصيرًا في الأزل (البحر، ص٣١؛ الشرح، ص١٧٤). وعند قدرية البصرة أن الله لم يزل سميعًا بصيرًا بمعنى أنه كان حيًّا لا آفة به تمنعه من إدراك المسموع إذا وجد (الأصول، ص٩٦).
٨٩  عند أهل السنة الإرادة قديمة، ويرفض حدوثها بحجتين مشهورتين في القِدَم والحدوث العام للصفات. فكل محدَث في حاجة إلى محدِث ويلزم التسلسل إلى ما لا نهاية، وقيام الصفة بنفسها غير معقول، والذوات في حاجة إلى مخصص، والقول بأنها لا في محل مفهوم سلبي (الطوالع، ص١٧٩–١٨١). ورفض الأشعري القول بحدوث الإرادة لأن ذلك هو قول الجهمية في العلم بأنه عالم بعلم مخلوق (الإبانة، ص٤٤). الإرادة صفة لذاته غير مخلوقة على خلاف المعتزلة (الإنصاف، ص٢٦). ذهب الأشاعرة إلى أنه مريد بإرادة قديمة (الشرح، ص٤٢). وذهبت الكلابية إلى أنه مريد بإرادة أزلية. وعند إمام الحرمين، لم يزل مريدًا في أزله، ورفض حجة المخصص (النظامية، ص١٧-١٨؛ المسائل، ص٣٦٨؛ النسفية، ص٩٠؛ الشرح، ص١٥٥-١٥٦؛ النهاية، ص٢٤٣–٢٥٣؛ الاقتصاد، ص٥٥–٥٨؛ الإرشاد، ص٩٤–٩٦؛ المحصل، ص١٣٣). لو كانت حادثة لاحتاجت إلى إرادة أخرى ويلزم التسلسل إلى ما لا نهاية. ويصنف الرازي المذاهب كالآتي: الله مريد إمَّا لذاته (ضرار) أو لأمر سلبي (النجار) وإمَّا لأمر ثبوتي (النجار)، وإمَّا معللًا بمعنى قديم (الأشاعرة)، وإمَّا بمعنى حادث قائم بذاته (الكرامية) أو موجودًا لا في محل (الجبائية) أو قائمًا بذاته غير ذات الله (المواقف، ص٢٩٠–٢٩٢). وعند الزيدية أن الله لم يزل مريدًا، لم يزل كارهًا للمعاصي ولأن يُعصى، لم يزل راضيًا، لم يزل ساخطًا (مقالات، ج١، ص١٣٨). وعند الإباضية أن الله لم يزل مريدًا لما علم أن يكون ولما علم أنه لا يكون ألا يكون. ولا تخالف المعتزلة في التوحيد إلا في الإرادة، والمعتزلة إلا بشرًا ينكرون ذلك (مقالات، ج١، ص١٧٤–١٨٩). عند بشر بن المعتمر أن الله لم يزل مريدًا لذلك كفرته المعتزلة (الفِرَق، ص٢٥٦). وقد قال الفلاسفة بقِدَم الذات وصفاتها وأفعالها ومِنْ ثَمَّ بقِدَم الإرادة والمرادات، وبالتالي بقِدَم العالم، وبالتالي بقِدَم العالم، وبالتالي يكونون أقرب هذه المرة إلى الأشاعرة منهم إلى المعتزلة (الاقتصاد، ص٥٥–٥٩؛ النهاية، ص٢٤٨–٢٥٣).
٩٠  لا يرى ابن حزم أحيانًا غضاضة في اعتبارها مخلوقة مثل العزة: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ أو فَلِلهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا أو فَلِلهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا أو قُلْ لِلهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا. أمَّا الرحمة فقد تكون مخلوقة طبقًا لقول الرسول: «إن الله خلق مائة رحمة، فقسم عباده في رحمة واحدة فيها يتراحمون، ورفع التسعة وتسعين ليوم القيامة يرحم بها عباده.» وقد يكون الأمر مخلوقًا، مثل: وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا، والمفعول مخلوق، أو وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ والمغلوب مخلوق، أو لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، وذلك ضد الأشاعرة الذين يثبتون قِدَم كل شيء (الفصل، ج٢، ص١٥٠-١٥١). وأحيانًا أخرى يثبت ابن حزم قِدَم الصفات دون استعمال اللفظ ودون تفرقة بين صفات الذات وصفات الفعل. ففي مسائل السخط والرضا والعدل والصدق والملك والخلق والجود والإرادة والسخاء والكرم لم يزل عالمًا بأنه سيسخط على الكفار وسيرضى على المؤمنين. فقِدَم هذه الصفات راجع إلى قِدَم العلم بالأفعال (الفصل، ج٢، ص١٥٥).
٩١  حكى الكعبي عن أبي الهذيل أنه قال إن الله لم يزل سميعًا بصيرًا، بمعنى سيسمع وسيبصر، وكذلك لم يزل غفورًا رحيمًا محسنًا خالقًا رازقًا مثيبًا معاقبًا مواليًا معاديًا آمرًا ناهيًا، بمعنى أن ذلك سيكون (الملل، ج١، ص٧٩). وقال ابن الهيصم: الباري في الأزل بما سيكون على الوجه الذي سيكون وشاء لتنفيذ علمه في معلوماته، فلا ينقلب علمه جهلًا، ومريد لما يخلق في الوقت الذي يخلق بإرادة حادثة وقائل لكل ما يحدث بقوله: «كن»، حتى يحدث، وهو الفَرق بين الإحداث والمحدث، والخلق والمخلوق (الملل، ج٢، ص٢٠-٢١).
٩٢  وفي ذلك يقول القاضي عبد الجبار: «إن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة لا يمكن لأن صحة السمع تنبني على هذه المسألة، كل مسألة تنبني صحة السمع عليها، فالاستدلال عليها يجري مجرى الشيء مع نفسه وذلك مما لا يجوز … إن صحة السمع موقوفة على هذه المسألة لأننا ما لم نعلم القديم عدلًا حكيمًا لا يمكننا معرفة السمع، وما لم نعلم أنه عالم بقبح القبائح واستغنائه عنها لم نعلم عدله، وما لم نعلم كونه عالمًا لذاته لم نعلم علمه بقبح القبائح، فقد ترتب السمع على هذه المسألة فلا يصح الاستدلال بالسمع عليها» (الشرح، ص١٩٣–١٩٥).
٩٣  وذلك مثل: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا (الشرح، ص٢٨١–٢٨٤؛ الفصل، ج٢، ص١١٩–١٢٤؛ الانتصار، ص١١٥–١١٩). لذلك نفت المعتزلة الصفات الأزلية وقالت ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر، ولم يكن له في الأزل اسم ولا صفة (الفِرَق، ص١١٤). قالت بحدوث الصفات (الفِرَق، ص٣٣٤). ونفى الحسين بن محمد النجار العلم والقدرة والحياة وسائر الصفات الأزلية (ص٢٠٨).
٩٤  هذه حجة جهم بن صفوان. يجوز أن يكون الله عالمًا بالأشياء كلها قبل وجودها، ولكن بعلم محدث بها (مقالات، ج١، ص٢٦٩). ويظهر الاضطراب في مقالة جهم في إثبات علم الله بالأشياء قبل كونها بعلم محدث بها. علم الله محدث أحدثه به فعلم به وهو غيره الله. والقرآن مخلوق غير الله (مقالات، ج١، ص٢٦٩، ص٣١٢؛ ج٢، ص١٦٤؛ الانتصار، ص١٢٦). أثبت جهم علوم حادثة للباري لا في محل. لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه (الملل، ج١، ص١٢٨، ص١٣٠). علوم الرب حادثة. وإذ تتجدد المعلومات يحدث الباري علومًا متجددة بها يعلم المعلومات الحادثة ثم تتعاقب العلوم حسب تعاقب المعلومات في وقوعها متقدمة عليها. ومعظم ردود الأشاعرة صورية منطقية وليست مصلحية إنسانية اجتماعية (الإرشاد، ص٩٦–٩٩؛ النهاية، ص٢١٥–٢٢١). وتوصف مواقف جهم بأنها خيالات وتمويهات، أي أنها ردود خطابية انفعالية (الغاية، ص٨٠–٨٤). وكذلك ردود الأشعري عليه. ويشارك المعتزلة وجهم هشام بن عمر الفوطي أحد شيوخ المعتزلة في قوله: إن الله لا يعلم الأشياء قبل كونها، أي أن الله غير عالم ثم علم (رواية ابن الراوندي وتصحيح الخيَّاط لها) (الانتصار، ص٩٠؛ الملل، ج١، ص٤٣؛ الفصل، ج٢، ص١١٨). ويشاركهم أيضًا بعض الرافضة مثل هشام بن الحكم ومحمد بن عبد الله بن صبرة. فعند بعض الروافض لم يكن الله يعلم نفسه حتى خلق العلم (مقالات، ج٢، ص١٦١). وعند البعض الآخر أن الله يعلم بمعنى يفعل وأنه لم يكن يعلم نفسه حتى فعل العلم. الله لم يزل لا عالمًا ولا قادرًا ولا سميعًا ولا بصيرًا، لا يعلم ما يكون قبل أن يكون (مقالات، ج١، ص٢٦٦–٢٦٨؛ الفِرَق، ص٣٣٥).
٩٥  عند هشام بن الحكم يعلم الله ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب في عمق الأرض، ولولا ملامسته لما وراء ما هناك لما درى ما هنالك. وقال إن بعضه يشوب وهو شعاعه وأن الشوب محال على بعضه (مقالات، ج١، ص١٠٣؛ الفِرَق، ص٦٦-٦٧، ص٢٢٧). وقال آخرون إن الله يعلم الأشياء على المماسة، وقد يعلم ما لا يماسه (مقالات، ج١، ص١٦٨). وعند هشام بن الحكم أنه تعالى عالم بعلم محدث (الشرح، ص١٨٣؛ مقالات، ج١، ص١٠٤، ص٢٦٨؛ ج٢، ص١٦٢). الله يعلم بعد أن لم يكن عالمًا (مقالات، ج٢، ص٢٦٣-٢٦٤؛ الفِرَق، ص٦٧).
٩٦  يرى زرارة بن أعين الرافضي أن الله لم يزل غير سميع ولا عليم ولا بصير حتى خلق ذلك لنفسه (الفِرَق، ص٣٣٥). وقال إن لله في كل مقدور قدرة حادثة لم يكن حدوثها قادرًا على مقدورها (الأصول، ص٩٣). وأن حياته حادثة، وأنه لم يكن حيًّا حتى أحدث لنفسه حياة (الأصول، ص١٠٥). وإنه لا يسمع الشيء حتى يخلق لنفسه سمعًا له (الأصول، ص٩٦). وإن علمه حادث، وإنه لا يعلم الأشياء قبل حدوثها (الأصول، ص٩٩؛ الفِرَق، ص٢٣). وزاد على هشام بن الحكم في حدوث علم الله حدوث قدرته وحياته وسائر صفاته، وأنه لم يكن قبل خلق هذه الصفات عالمًا ولا قادرًا ولا حيًّا ولا سميعًا ولا بصيرًا ولا مريدًا ولا متكلمًا (الملل، ج٢، ص١٣٦). أنكرت المعتزلة والجهمية والرافضة والكرامية والمجسمة والقرامطة القول بأن الله لم يزل عالمًا بالأشياء قبل كونها. علم الله محدث وأنه كان غير عالم فعلم. علمه حادث لا يوصف بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد لا يوصف بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء موجود، حي، عالم، مريد (الانتصار، ص١٢٦). أنكرت الروافض أن يكون الباري لم يزل عالمًا قادرًا. الصفات محدثة والعالم محدث (مقالات، ج١، ص٢١٨؛ ج٢، ص١٦٠). الله لا يعلم ما يكون قبل أن يكون. كان غير عالم ثم علم (الانتصار، ص٨). قالت الروافض بحدوث العلم (رواية عن الجاحظ) (الانتصار، ص١٠٣).
٩٧  مثلًا: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ولم يكن قد خلق نوحًا بعد، أو اخْلَعْ نَعْلَيْكَ ولم يكن قد خلق موسى من بعد، وقد نفت المعتزلة جميع الصفات الأزلية وقالت بأن كلام الله حادث (الأصول، ص٩٠). وأنكر معمر بن عبَّاد صفات الله الأزلية كسائر المعتزلة. ليس الكلام صفة أزلية أو فعله لأنه لم يفعل شيئًا من الأعراض. القرآن فعل الجسم الذي حل الكلام فيه وليس فعلًا لله أو صفة (الفِرَق، ص١٥٢).
٩٨  هذا هو موقف المشبِّهة بوجه عام، والقول بقيام الحوادث بذات الباري، فالأولى حدوث الصفات خاصةً القدرة والإرادة (الملل، ج٢، ص١٤–١٧؛ مقالات، ج٢، ص١٦٢). عند الكرامية حدث بإرادة حادثة حدثت في ذاته، فهو محل للحوادث (الاقتصاد، ص٥٥–٥٧، ص٧٤-٧٥). ويضع أهل السنة المعتزلة مع المشبِّهة. فالقول بحدوث الصفات يجعل الله محلًّا للحوادث (الفِرَق، ص٢٢٩). لذلك يجعل الغزالي ذلك داخلًا في أوصاف الذات ردًّا على من قال بحدوث العلم والإرادة في بيان استحالة كونه سبحانه محلًّا للحوادث (الاقتصاد، ص٤٣-٤٤).
٩٩  قالت المعتزلة بالإرادة الحادثة ونفي الإرادة القديمة. وعند أهل السنة أن هذا تشبيه لإرادة الله بإرادة الخلق أنه يريد مراده بإرادة حادثة من جنس إرادتنا. تحدث إرادته لا في محل وإرادتنا في محل (الفِرَق، ص٢٢٨-٢٢٩). لذلك كفرت المعتزلة بشرًا الذي قال بقِدَمها. قالت المعتزلة بإرادة حادثة، والباري مريد لأفعاله قاصد إلى خلقها. ما كان منها خيرًا وما كان منها شرًّا لئلا يكون، وما لم يكن خيرًا ولا شرًّا ولا واجبًا ولا محظورًا وهي المباحات، فالرب لا يريدها ولا يكرهها. ويجوز تقديم إرادته وكراهته على أفعال العباد بأوقات وأزمان. قال القدماء منهم: الإرادة الحادثة توجب المراد، وخصصوا الإيجاب بالقصد إلى إنشاء الفعل لنفسه. أمَّا العزم في حقنا وإرادة فعل الغير فإنها لا توجب ولم يريدوا بالإيجاب إيجاب العلة والمعلول ولا إيجاب التولد. والإرادة لا تولد فإن القدرة توجب المقدور بواسطة السبب. فلو كانت الإرادة بالسبب استند المراد إلى سببين ولزم حصول قادرين (النهاية، ص٢٤٨–٢٥٠). وشاركت الكرامية المعتزلة في القول بحدوث الإرادة، ولكنها قالت إنها حدثت في ذاتها، فهي محل للحوادث مع أن الغاية من حدوث الصفات تنزيه الذات عن الحدوث (الاقتصاد، ص٥٥–٥٧، ص٧٤-٧٥). وشارك الفلاسفة المعتزلة والكرامية في القول بإرادة حادثة قائمة بذاتها استعدادًا للفيض، عند الكرامية إرادة الله حادثة في ذاته (الأصول، ص١٠٣). مريد بإرادة حادثة في ذاته (الغاية، ص٥٢). يقدر بقدرته الحوادث الحادثة وهي ملاقاته للعرش. وأقواله وإرادته للمسموعات والمرئيات حلول تلك الحوادث المقدرة لله في ذاته (الأصول، ص٩٣-٩٤). حدوث القول والإرادة والإدراك (الفِرَق، ص٧). وهي تشبه إرادة الله بإرادة عباده، وأنها من جنس إرادتنا، وأنها حادثة كما تحدث إرادتنا فينا، لذلك فهو محل للحوادث (الفِرَق، ص٢٢٩). وتشارك بعض المجسمة في نفي الصفات. فالباري قبل أن يخلق الخلق لم يكن عالمًا ولا قادرًا ولا سميعًا ولا بصيرًا ولا مريدًا، ثم أراد وإرادته حركته. إذا أراد كون الشيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك، وليست الحركة غيره (مقالات، ج١، ص٢٦٢-٢٦٣). والعجيب أن بعض المرجئة مثل أبي شمر ينفي الصفات الأزلية. فقد نفى العلم والقدرة والرؤية خوفًا من الوقوع في التشبيه. كما يرفض ابن حزم قِدَم الإرادة أو أنها من صفات الذات حرصًا على الحرية الإنسانية. ويرجع القول بقِدَم الإرادة إلى عدة أخطاء، منها أن الله لم ينص على أن له إرادة أو أنه مريد، ولا يجوز الاشتقاق في الأسماء والصفات. ولو كانت الإرادة لم تزل لكان المراد لم يزل بدليل: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ، فالإرادة لا تعني القِدَم، وكيف تكون الإرادة قديمة، وهي خالقة، والخلق مرادها وهو حادث؟ (الفصل، ج٢، ص١٥٥–١٥٧).
١٠٠  وعند معتزلة البصرة: الله مريد بإرادة حادثة لا في محل (النهاية، ص٢٤٤-٢٤٥؛ الأصول، ص٩٠، ص١٠٣؛ المعالم، ص٥٠-٥١). وعند عامة المعتزلة: العالم حادث في الوقت الذي حدث فيه لا قبله ولا بعده لإرادة حادثة لا في محل، فاقتضت حدوث العالم (الاقتصاد، ص٥٥–٥٧)، وعندهم أن المعاصي والشرور حادثة بغير إرادته، بل هو كاره لها (الاقتصاد، ص٥٨؛ الإرشاد، ص٧١؛ الغاية، ص٥٢؛ الشرح، ص٤٤٠). عند المعتزلة البصرة، الباري مريد بإرادة حادثة لا في محل، ولا تتعلق إرادة واحدة بمرادين (الإرشاد، ص٦٤، ص٦٨–٧١). وعند عموم المعتزلة الإرادة قائمة بذاتها لا في محل. الإرادة لا محل لها، القلب ليس محلًّا للإرادة، فالقلب جسم ولا إرادة تحل في جسم (الشرح، ص٤٣٤-٤٣٥). وأثبت أبو الهذيل إرادات لا محل لها يكون الباري مريدًا بها، وهو أول من أحدث ذلك وتابعه فيها المتأخرون وقال بها أيضًا بصرية المعتزلة (الأصول، ص١٠٣). وكذلك الجبائية والبهشيمة (الملل، ج٢، ص١١٤؛ الملل، ج١، ص٧٥، ص١١٥-١١٦). فالإرادة إمَّا أن تكون حالة في ذات القديم أو في غيره أو لا في محل، لا يجوز أن تكون في ذاته وإلا كان محلًّا للحوادث، ولا يجوز في غيره حيًّا أو جمادًا، فلم يبقَ إلا أن تكون لا في محل (الشرح، ص٤١٧–٤٥٢). وعند المعتزلة أيضًا مريد من صفات الفعل إلا بشر بن المعتمر. فزعم أن الله لم يزل مريدًا لطاعته دون معصية. وعند عبَّاد لا يجوز أن يُقال لم يزل مريدًا أو لم يزل غير مريد لأن مريدًا من صفات الفعل (مقالات، ج٢، ص١٧٦). وعند بشر المريسي: الإرادة ضربان: صفة ذات، وهي الإرادة على كل شيء، وصفة فعل وهي الأمر بالطاعة (مقالات، ج٢، ص٧٨). وحكى الكعبي عن بشر أن إرادة الله فعل من أفعاله، وهي على وجهين: صفة ذات وصفة فعل، الأولى قديمة والثانية حادثة (الملل، ج١، ص٩٧). وقد فرق بعض المعتزلة بين السميع والسامع: الأولى قديمة والثانية حادثة.
١٠١  عند الجبائي أن الله لم يزل غير خالق ولا رازق، وكذلك لم يزل غير صادق ولا كاذب. بعض الصفات يقع فيها الإيهام (مقالات، ج٢، ص١٧٣). كان سميعًا في الأزل ولم يكن سامعًا إلا عند وجود المسموع. لم يزل سميعًا بمعنى أنه كان حيًّا لا آفة به تمنعه من إدراك المسموع إذا وجد لم يكن في الأزل سامعًا ثم أصبح سامعًا، لم يكن بصيرًا أو مبصرًا، وإنما صار سامعًا ومبصرًا بعد وجود المسموع والمرئي (الأصول، ص٩٦-٩٧). وعند معتزلة بغداد والبصرة أن الله لم يزل غير خالق ولا رازق (مقالات، ج١، ص٢٤٢-٢٤٣). وقال صنف من الجهمية أنه لا يقع عليه صفة ولا معرفة ولا توهم ولا يد ولا سمع ولا بصر ولا كلام ومتكلم. تقول إن الله قوي ولا شديد ولا حي ولا ميت ولا يغضب ولا يرضى ولا يحب ولا يعجب ولا يرحم ولا يفرح ولا يسمع ولا يبصر، ولا يقبض ولا يبسط ولا يضع ولا يرفع (التنبيه، ص٩٦–٩٨).
١٠٢  عند أبي الهذيل وعبَّاد بن سليمان لا يمكن القول بأن الله لم يزل سميعًا بصيرًا أو سامعًا مبصرًا؛ لأن ذلك يقتضي وجود المسموع والمبصَر، وهذا وقوع في الشرك وقول بقِدَم العالم (مقالات، ج٢، ص١٥٨).
١٠٣  يحاول الباقلاني تفنيد هذا الاعتراض في «التمهيد»، ص١٥٢–١٦٠.
١٠٤  الغاية، ص٧٧–٨٠؛ الشرح، ص٢٧٨–٢٨٤. عند إسحاق بن عيَّاش من حق كل قادرين أن يكون مقدورهما متغايرين. وعند القاضي: نعلم صحة التمانع بين كل قادرين وإن لم نعلم تغاير مقدورهما. المقدور الواحد بين القادرين محال. تنفي المعتزلة الصفات القديمة لأنها لو شاركته في القِدَم لشاركته في الإلهية (الملل، ج١، ص٦٦). وواضح أن دليل التمانع قد انتقل هنا من إثبات الوحدانية كوصف سادس للذات إلى دليل لنفي قِدَم الصفات. انظر الفصل الخامس: الوعي الخالص، ثامنًا: الوحدة، (٣) دليل التمانع.
١٠٥  انظر الفصل الخامس: الوعي الخالص، رابعًا: القِدَم، (٢) معنى القديم.
١٠٦  يقول الغزالي في ذلك: «الاحتمالات فيه ثلاثة، طرفان وواسطة، والاقتصاد أقرب إلى السداد. أمَّا الطرفان فأحدهما التفريط وهو الاقتصار على ذات واحدة تؤدي جميع هذه المعاني وتنوب عنها كما قالت الفلاسفة. أمَّا الثاني طرف الإفراط وهو إثبات صفة لا نهاية لآحادها من العلوم والكلام والقدرة وذلك بحسب عدد متعلقات هذه الصفات. وهذا سر فلا يصل إليه إلا بعض المعتزلة وبعض الكرامية. والرأي الثلث هو القصد والوسط وهو أن يُقال المختلفات لاختلافها درجات في التقارب والتباعد قرب شيئين مختلفين بذاتيهما … ورب شيئين يدخلان تحت حد وحقيقة واحدة ولا يختلف لذاتيهما، وإنما يكون الاختلاف فيهما من جهة تغاير النطق … كل اختلاف راجع إلى تباين الذوات بأنفسهما» (الاقتصاد، ص٧١-٧٢).
١٠٧  عند أكثر المعتزلة والخوارج وكثير من المرجئة والزيدية وعند عبد الله بن كلاب وأصحابه أن الله لم يزل سميعًا بصيرًا أو سامعًا مبصرًا؛ لأن السمع والبصر صفات ذات وليست صفات فعل تقتضي وجود الموضوع. فهو سميع بصير بنفسه لا يسمع ولا يبصر (مقالات، ج٢، ص١٥٨). ويجمع البعض الآخر بين صفات الذات وصفات الفعل ويكون الله سميعًا ومعه علم بمسموع (مقالات، ج١، ص٢٣٢–٢٣٤). وهي في حقيقة الأمر تفرقة الجبائي (مقالات، ج٢، ص١٨٥). إذ يفرق بين السميع والسامع والبصير والمبصر فيقول: كان في الأزل سميعًا بصيرًا، ولم يكن في الأزل سامعًا ولا مبصرًا (الفِرَق، ص٣٣٥). وعند بعض الروافض (السكاكية) العلم صفة ذات، فالله عالم في نفسه ولكن لا يوصف بأنه عالم حتى يكون الشيء (مقالات، ج٢، ص١٦١؛ ج١، ص٢٦٦–٢٦٨). ويشارك أهل السنة أحيانًا في هذه القسمة فيجعلون صفات الذات لم تزل ولا يزال الله موصوفًا بها، وصفات أفعالها سبقها وكان موجودًا في الأزل قبلها (الإنصاف، ص٢٦). اعلم أن أسماء الصفات على وجهين: صفات الذات وصفات الفعل. أمَّا صفات الذات كالحياة والقدرة والسمع والبصر والعلم والكلام والمشيئة، وأمَّا صفات الفعل كالتخليق والترزيق والإفضال والإنعام والإحسان والرحمة والمغفرة (البحر، ص١٥). وعن طريق وعي هذه التفرقة يحمل ابن حزم قضية التنزيه والتشبيه، فالنزول إلى السماء الدنيا صفة فعل لا صفة ذات، وهي أفعال محدثة مثل المجيء والإتيان (الفصل، ج٢، ص١٥٣).
١٠٨  أسماء الله عند أهل السنة ثلاثة أقسام (الأوَّل والثاني في الحقيقة قسم واحد): (أ) قسم يدل على ذاته كالواحد، الغني، الأوَّل، الآخر، الجليل، الجميل، وسائر ما استحق من الصفات. (ب) صفاته الأزلية القائمة بذاته، وكلا القسمين من الأوصاف الأزلية. (ﺟ) أسماء مشتقة من أفعاله مثل: خالق، رازق، عادل. وكل اسم اشتُق من فعله لم يكن موصوفًا به من قبل وجود أفعاله. ومن الأسماء ما يحتمل المعنيين، أحدهما أزلي والآخر فعل، مثل الحكيم، فهو اسم يشير إلى العلم وإلى الفعل معًا (الفِرَق، ص٣٣٨).
١٠٩  «لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية. أمَّا الذاتية فالحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة، وأمَّا الفعلية فالتخليق والترزيق والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل» (الفقه، ص٨٤).
١١٠  ذهبت المعتزلة إلى أن الباري حي عالم قادر لذاته، لا بعلم ولا قدرة وحياة. واختلفوا في كونه سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا على طرق مختلفة (النهاية، ص١٨٠). لم يكن الجبائي يقول لم يزل عالمًا قادرًا بل لم يزل سميعًا (مقالات، ج٢، ص٨٧، ص١٦٣).
١١١  عند عبَّاد بن سليمان لا يُقال: الله لطيف، بل لطيف بعباده (مقالات، ج٢، ص١٦٥). وعند بعض البغداديين أن الله علم بمعنى أنه عالم وله قدرة بمعنى أنه قادر، ولا يقولون له حياة بمعنى أنه حي ولا سمع بمعنى أنه سميع؛ لأن الله أطلق العلم والقوة ولم يطلق الحياة والسمع والإرادة (مقالات، ج٢، ص١٧٣). وعند أبي الهذيل يجوز تقسيم كلام الله إلى ما يحتاج إلى محل، أي في جسم من الأجسام ويكون كل كلامه أعراضًا، وإلى ما لا يحتاج إلى محل مثل كن فهو حادث لا في محل (الفِرَق، ص١٢٧). وعند المعتزلة البصرية الإرادة أيضًا مفتقرة إلى محل مثل إرادتنا (الفِرَق، ص١٢٧؛ الأصول، ص٩١).
١١٢  يعتبر المعتزلة وعيسى الصوفي الكرم والجود والإحسان من صفات الفعل، أمَّا الإسكافي فيعتبرها من صفات النفس والفعل معًا (مقالات، ج٢، ص١٧٢-١٧٣). كما يعتبر المعتزلة صفات الحلم والصدق والخلق والرزق من صفات الفعل (مقالات، ج٢، ص١٧٣). ويعتبر المعتزلة إلا عبَّادًا الرحمن والرحيم من صفات الفعل (مقالات، ج٢، ص١٧٣). وعند الجبائي السميع والبصير والعالم من صفات الذات. أمَّا السميع فبمعنى يجيب الدعاء، فهي من صفات الفعل (مقالات، ج٢، ص١٦٢، ص١٨٧). وعند البعض الآخر الحياة والسمع والبصر من صفات الذات (مقالات، ج١، ص١٣٨). وعند الشيبانية (من الثعالبة العجاردة الخوارج) والخازمية (من العجاردة الخوارج) الولاية والعداوة صفتان للذات لا للفعل (مقالات، ج١، ص١٦٦–١٦٨). واختلف الناس في الأمر والرحمة والمغفرة، فقال قوم هي صفات ذات لم تزل، وقال آخرون لم يزل الله العزيز الرحمن بذاته. وأمَّا الرحمة والأمر فمخلوقتان (الفصل، ج٢، ص١٥٠).
١١٣  عند ابن كرام الله لم يزل خالقًا رازقًا على الإطلاق. لا بالإضافة إلى المخلوقين والمرزوقين. ولا تذكر الإضافة إلا عند وجود الخالقين والمرزوقين. ولم يزل معبودًا، ولم يكن في الأزل معبود العابدين، إنما صار معبود العابدين عند وجود العابدين وعبادتهم له (الفِرَق، ص٢١٩). فأفعال الذات الإنسانية هي المخالفة لصفات الذات الإلهية.
١١٤  هذه تفرقة جهم بن صفوان. فقد امتنع جهم عن وصف الباري بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد؛ لأنه لا يوصف بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء موجود، وحي وعالم ومريد، ويوصف بأنه قادر، موجد، فاعل، خالق، محيي، مميت (الفِرَق، ص٢١١-٢١٢).
١١٥  هذا هو رأي الحسين بن مسلم الصالحي (وأحيانًا الخيَّاط). فالله لم يزل عالمًا بمعلومات وأجسام مؤلفات ومخلوقات في أوقاتها. ولم يزل يعلم موجودًا في وقت كذا … ولا يثبت المعلومات قبل كونها. وعنده أن القدرة على الشيء في وقته وقبل وقته ومعه، ولكنه لا يثبت مقدورًا موجودًا إلا في حال كونه. فالله لم يزل عالمًا بالأشياء في أوقاتها، ولم يزل عالمًا أنها ستكون في أوقاتها (مقالات، ج٢، ص١٦٨-١٦٩). ويعزى هذا الرأي أيضًا إلى جهم بقوله إن الله يعلم الشيء في حالة حدوثه (مقالات، ج٢، ص١٦٤، ص١٦٩).
١١٦  يرى فريق من الروافض أن الله لا يعلم الشيء حتى يؤثر أثره، والتأثير هو الإرادة. إذا أراد الشيء علمه، والإرادة حركة، فإذا تحرك علم، ويعلم ما لا يكون، فالله لا يعلم الشيء حتى يحدث له إرادة، فإذا أحدث له الإرادة لأن يكون عالمًا بأن يكون، معنى يعلم هو معنى يفعل (مقالات، ج٢، ص١٦١). وعند شيطان الطاق: الله عالم في نفسه ويعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها. فالشيء لا يكون شيئًا حتى يقدره ويثبته بالتقدير. الله يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها. وقبل ذلك محال أن يعلمها لا لأنه ليس بعالم ولكن لأن الشيء لا يكون شيئًا حتى يقدره، والتقدير هي الإرادة (مقالات، ج٢، ص١٦٣؛ الفِرَق، ص٧١). الله لا يعلم شيئًا حتى يؤثر أثره ويقدره. إذ أراد الشيء فقد علمه والإرادة حركة، لا يعلم حتى يحدث الإرادة (مقالات، ج١، ص٢٦٦–٢٦٨). وعند المجسمة الله كان قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد، ثم أراد وإرادته حركة. فإذا أراد كون الشيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك، وليست الحركة غيره، وقدرته وعلمه وسمعه وبصره معانٍ وليست غيره، وليست بشيء لأن الشيء هو الجسم (عند فريق آخر حركته غيره، وبالتالي يكون أقرب إلى إثبات الصفات). وعند ابن كرام لم يزل الله موصوفًا بأسمائه المشتقة من أفعاله عند أهل اللغة مع استحالة وجود الأفعال في الأزل. لم يزل خالقًا رازقًا منعمًا من غير وجود خلق ورزق ونعمة. ولم يزل خالقًا بخالقية فيه ورازقًا برازقية. والخالقية هي القدرة على الخلق، والرازقية هي القدرة على الرزق … إلخ. والقدرة قديمة والخلق حادث بالقدرة. لذلك يفرق ابن كرام بين الكلام والقول. فالله لم يزل متكلمًا قائلًا، لم يزل متكلمًا بكلام هو قدرته على القول، ولم يزل قائلًا بقائلية لا بقول، والقائلية هي القدرة على القول، والقول حروف حادثة فيه، فالقول حادث والكلام قديم (الفِرَق، ص٢١٩). الله يعلم معناه الله يفعل، لم يزل يعلم بنفسه ولم يزل يفعل لكن الفعل غير قديم.
١١٧  تعزى هذه المقالة إلى جهم أيضًا حين يجوز أن يكون الله عالمًا بالأشياء كلها قبل وجودها بعلم محدث بها (مقالات، ج١، ص٢٣١-٢٣٢، ص٣١٢؛ ج٢، ص١٦٤).
١١٨  عند هشام بن الحكم لا يجوز أن يُقال محدث أو قديم لأن الصفة لا توصف (مقالات، ج١، ص١٦٨). وعنه أيضًا أن القديم إمَّا عالم لنفسه كما قالت المعتزلة أو عالم بعلم قديم كما قالت الزيدية، وكلاهما خطأ (الانتصار، ص٨، ص١١٦). وعند البعض الآخر أن الصفات لا قديمة ولا حادثة، ولكن الله قديم بصفاته (مقالات، ج١، ص٢٣١-٢٣٢). وعند سليمان بن جرير وغيره من الصفاتية يستحق تعالى هذه الصفات لمعانٍ لا توصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقِدَم. ويقول هشام بن عمرو الفوطي: لا أقول لم يزل عالمًا بالأشياء لئلا أثبتها مع الله، ولا أقول لم يزل عالمًا بأن ستكون الأشياء لأنه لا يمكن الإشارة إلا إلى موجود. ولا يمكن تسميته ما لم يخلقه ولم يكن شيئًا، بل تسمية ما خلقه الله وأعدمه شيئًا وهو معدوم. وله أيضًا أن الله لم يزل عالمًا بنفسه لا بعلم سواء قديم ولا بعلم محدث. انظر دفاع الخيَّاط عنه وتصحيح مقالته ضد رواية ابن الراوندي (الانتصار، ص٦٠). وعنده أن الله لم يزل عالمًا بنفسه لا يعلم، سواء قديم كما قال أصحاب الصفات ولا بعلم محدث كما قال هشام بن الحكم وأصحابه من مشبِّهة الرافضة (الانتصار، ص٦٠). كما امتنع عبد الله بن سعيد والقلانسي من وصفها بالقِدَم مع اتفاقهما أنها كلية أزلية تحرُّجًا من استعمال ألفاظ غير شرعية أو اصطلاحية (الأصول، ص٩٠). وعند هشام بن الحكم، لم يزل عالمًا بنفسه ويعلم الأشياء بعد وكنها بعلم لا يُقال فيه محدث أو قديم لأنه صفة، والصفة لا توصف. ولا يُقال فيه هو هو أو غيره أو بعضه. والأمر ليس كذلك في القدرة والحياة لأنهما حادثتان، فهو يريد الأشياء وإرادته حركة ليست غير الله ولا هي عينه. وكلام الله لا يجوز أن يُقال مخلوق ولا غير مخلوق (الملل، ج٢، ص١٣٤). وهو أيضًا موقف بعض أهل السنة مثل عبد الله بن سعيد القطَّان. فلا يُقال إن أسماءه وصفاته هي غيره كما قالت الجهمية، ولا يُقال إن علمه هو هو كما قالت المعتزلة. الصفات قائمة بالله. الباري لم يزل لا لمعانٍ ولا لزمان قبل الخلق ما لم يزل عليه، فوق كل شيء (مقالات، ج١، ص٣٢٥). وعند عبَّاد بن سليمان لا يُقال الله لم يزل خالقًا أو لم يزل غير خالق (ج١، ص٢٢٤–٢٤٢؛ ج٢، ص١٦٧).
١١٩  مثلًا إن كان سمعه وبصره حادثين كان محلًّا للحوادث، وهو محال، وإن كانا قديمين فكيف يسمع صوتًا معدومًا وكيف يرى العالم في الأزل والعالم معدوم والمعدوم لا يُرى (الاقتصاد، ص٥٨–٥٩).
١٢٠  هذا هو موقف ابن حزم في اعتبار القولين في غاية الفساد لاتفاق الطائفتين على إطلاق تسميات على ربهم بطريق الاستدلال (الفصل، ج٢، ص١٣٨-١٣٩).
١٢١  تقول السبابية (عبد الرحمن بن سبابة) بالتوقف، ولكنها تؤمن بأن ما قاله جعفر حق دون أن تصوب عن ذلك شيئًا (مقالات، ج١، ص٢٦٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤