الخاتمة

إن مجموعة التجارب والافتراضات التي عُرضَت في هذا الكتاب تفحصُ حدود منطقةٍ معقَّدة ومتشعِّبة. لقد اخترنا مسارًا ينطلق من المشهد المسرحي، ويتسع في فضاءات شبكة الإنترنت، وصولًا إلى ظهور الشخصيات الاصطناعية. وعند هذه النقطة الأخيرة، والتي تبعُد كثيرًا عن تراب خشبة المسرح، ننطلق لنعيد ربط خيوط حوارنا.

إن التجارب التي اهتمت أكثر بالذكاء وليس بالصور، في محاولة لمحاكاة قدرة الأداء «الدرامية» للممثل، تخلَّت بدورها، عن الشكل المجسَّم. ذلك التخلي، والذي أملته أيضًا الظروف التكنولوجية، لا يرتبط بالضرورة بالفشل. إن أسطورة الكائن الاصطناعي على المسرح، خلال القرن العشرين كله، لم تكن مؤسسةً على محاكاة شكل الممثل، بل على أساس وضعٍ جديد لوظيفته كعميل.

إن الأبحاث المعاصرة، أيضًا تلك التي تعمل، على الأقل، على أساس أشكالٍ مسرحيةٍ معروفة بالفعل، تكشف تقارُبًا بين توقُّعات ديبيرو Depero أو برامبوليني rampolini، جريج Craig وشليمر Schlemmer، والذين بالنسبة إليهم ومن خلال إنكار الممثل ذي الأصول الطبيعية، ستظهر الحياة على خشبة المسرح في أشكالٍ جديدةٍ ميتافيزيقية، أشكالٍ ضمنية ومتقلبة تجسِّد الممثل أكثر من كونها تشترك معه.

وهكذا نعود للملحوظات التي سبق أن عرضناها في الفصل الأول. يصبح الممثل موقع تأمل حول الهوية في عالمٍ فيه يكتسب جسد الإنسان قوة وارتفاعًا ويُهجَّن باستمرار. كم هو عضويٌّ ذلك الجسد المقوَّى بالأدوية والدعائم؟ إن الافتراضية لا يمكن أن تُفهم ببساطة على أنها الاختفاء أو نزع المادية.

[…] نكرِّر أنها لا بد وأن تُفهم أساسًا كتغييرٍ للهوية، كعبورٍ من حلٍّ محدَّد إلى إشكاليةٍ عامة، أو كتحول نشاطٍ خاص ومحدَّد إلى وظيفةٍ منزوعة الموقع ومنزوعة التزامن، جماعية. إن التحويل الافتراضي للجسد ليس إذن نزع الجسد، بل إعادة إبداعه، إعادة تجسيده، عملية تكاثُر، عملية تغييرٍ لما هو إنساني.١

إن المسرح، في هذا الأفق، ليس فقط ذكرى سلوكٍ موجود مسبقًا، ولكنه أيضًا قد تأثَّر وجوديًّا بما نطلق عليه اليوم اسم: افتراضي. إن جسد الممثل جسدٌ افتراضي. والتحويل الافتراضي للجسد وللممثل يرتبط بشدة، بعيدًا عن المحتوى التكنولوجي القوي التأثير؛ وبالتالي يفجِّر توترًا فريدًا في تجارب التأثر بين المسرح والوسائط المتعددة؛ ربما أن هاتَين البيئتَين، اللتَين تبدوان متباعدتَين، تكشفان في العمق انجذابًا، تماثلًا يُخفي ويُربك الحدود الخاصة. السؤال، في أقصى افتراض، يُطرح إذن ليس كتأثير، ولكن كتطوُّر. إن المسرح هو الموقع المختار لذلك التحوُّل الافتراضي، الذي ميَّزه ليفي؛ الوسائل التقنية للتعبير عن تلك النزعة الافتراضية تتغيَّر عَبْر التاريخ.

لنختم إذن ذلك العرض؛ فالأفضل أن نخصِّص اهتمامنا للنزعة المستقبلية، وأن نأخذ في الاعتبار كيف تم تحديد العلاقة بين التكنولوجيا والمسرح، في بعض الصفحات الخاصة بأومبرتو أرتيولي Umberto Artioli. بالنسبة لبعض الكتابات الخاصة بأومبرتو بوتشوني Umberto Boccioni، أوضح المؤلف ثقل وجود تأثير بيرجسون على بعض التعبيرات المستقبلية.٢ إن هذا التأثير يوضح أن الشغف بالآلة والنزعة الديناميكية لدى المستقبليين، لم يكن موازيًا للتبعية للدراسات العلمية والافتراضات التكنوقراطية، بل يتضح كيف، في هذه الحالة، أن مجاز الآلة والشيء، يتعارض مع النزعة الإيجابية للعلوم. إن حُلم الآلة يصبح رفضًا للذكاء كشيءٍ اصطناعي، انفجار أصوات دولاب القطار والموتور، كانت اقتراحاتٍ في تناغم مع الاقتراحات التي حدَّدها بيرجسون بعد ذلك، تقريبًا في تلك الأعوام ذاتها، كتعاونٍ ضروري بين الميكانيكا والرمز.٣
إن ديناميكية النزعة المستقبلية تتشابه مع حُلم النص المتشعب للفضاء الإلكتروني، نظرًا لأن في هذا الأخير تكون الحركة المحولة هي الروح نفسها المرتبطة بوجوده. بالنسبة للمستقبليين تتعارض مع النفس ومع الروح الرومانسية نزعة «الدفاع عن المادي كفضاء يشكِّل الطاقات التي لم تتجمد، كمكانٍ للقُوى والحركة الصِّرفة».٤ وبتجاوز قسوة المادة، فإن عملية تسييل المسارات والحواجز ستقود إلى رؤيةٍ جديدة للعالم.
في تاريخ الحركة المستقبلية، تُوجَد مرحلةٌ أولى بطولية واستفزازية للعرض المسرحي، والتي ترتبط مع «الرغبة في التقدير والتحية» ومحاولة كسر التقاليد المسرحية، بمشاركة الجمهور وإنعاش الاشتراك الانفعالي. إنه ذلك الذي يُسمِّيه مارينيتي التحويل الافتراضي للمسرح. وعلى مدار السنوات تم استبدال هذه المرحلة ببرنامجٍ أكثر طموحًا يشبه برنامج إعادة البناء المستقبلي للكون، والذي أعلنه كلٌّ من بالَّا Balla وديبيرو Depero عام ١٩١٥م. ويمكن أيضًا أن نقول إن النزعة المستقبلية الثانية كانت تتطلع لأن تتجاوز حدود الصالة لتمنح معنًى مختلفًا/جديدًا، ليس فقط للمسرح، بل للحياة نفسها، وذلك من خلال تحويل كل ما هو حيوي إلى عروضٍ مسرحية.٥ وكان بيان الجو المسرحي المستقبلي لبرامبوليني Prampolini عام ١٩٢٤م، يتناسق مع هذا الأفق في التفكير؛ حيث إن كلًّا من الديناميكيات الآلية والروحية لم تعُد تتجسَّد كهجومٍ أو كخصومةٍ مليئة بالطاقات التشنُّجية والغاضبة، ولكن كقبول قوًى مطمئنة ومطهرة، وانتصار لأبولوس على ديونيس.٦ يقدِّم البيان معنًى قويًّا لوحدة المشهد. وكانت النزعة الديناميكية، والارتجال، ووحدة الأداء بين الإنسان والبيئة، قد تم تعريفُها على أساس كونها المبادئ الأساسية.

إن تقنيَّة المسرح التقليدية خلقَت بإهمالها تلك المبادئ الأساسية لحيوية العمل المسرحي، تلك النزعة الثنائية بين الإنسان (العنصر الديناميكي) والبيئة (العنصر الاستاطيقي)، وبين التركيب والتحليل. أما نحن المستقبليون فقد وصلنا وأعلنَّا تلك الوحدة المسرحية، وذلك من خلال الجمع بين العنصر البشري والعنصر البيئي، في تركيبٍ مسرحي للأداء المسرحي. […]

يُعد تحويل الفضاء إلى شخصية لها وظيفة الممثل، كعنصرٍ حيوي تعبيري بين البيئة المسرحية وجمهور المشاهدين، أحد أهم الإنجازات لتطوُّر الفن التقني المسرحي؛ حيث إنه بذلك تم الوصول إلى حلٍّ نهائي لمشكلة الوحدة المسرحية. ٧

في المسرح المستقبلي المتعدد التعبير، والمتفق على أنه تجاوزٌ للانقسام بين الإنسان والبيئة، تم التصريح أيضًا بحُلم المشهد كالنواة المشتعلة للقيم الجديدة لتشع في العالم. انطلاقًا من تلك التأكيدات تُوجَد إمكانات اعتبار التجريب المسرحي حول التكنولوجيات الرقمية على ضوءٍ مزدوج.

قبل كل شيء مبدأ الوحدة بين المشهد والممثل يوضِّح كيف أن الأبحاث حول الواقع الافتراضي على خشبة المسرح، والتفاعل بين الأماكن المختلفة بفضل الفضاء الإلكتروني، والافتراضات الخاصة بالممثل الاصطناعي، لا تهدف إلأى الدفاع عن الآلي والاصطناعي، بل التعريف بمشهدٍ جديدٍ أكثر حساسية.

إن إجمالي العروض والأحداث الاستعراضية الموصوفة في الفصول السابقة، يمنح القدرة على رؤية إمكانات وجود مشهدٍ ماديٍّ وذكي، قادر على الاتصال مع الإنسان. المشهد والممثل ليسا إذن في وضعَين متضادَّين، بل على العكس، متجاوران، يقترب أحدهما من الآخر؛ الأداء (الديناميكية) في زمنٍ واقعي (الفورية). يتداخل تصاعُد الجسد مع تصاعُد المشهد الذي يعيد النقاش حول حدوده، سواء تلك المرتبطة بالنزعة المفاهيمية، أو الجسدية؛ يمكن للفضاء أن يكون ذكيًّا، ولكن يمكن أن يكون موزَّعًا أيضًا، خارج الموقع مثل الألعاب المنتشرة pervasive gaming.
إذن فإن إعادة تجسيد الوظائف التمثيلية في علاقة مع مشهدٍ مسرحي أصبح (بفضل التكنولوجيا) نشطًا وديناميكيًّا وأكثر حساسية، ينتُج عنها، ليس اختفاء العنصر البشري من فوق خشبة المسرح، بل إعادة تأهيل الروحي وإظهار ما هو خفي. إن استخدام التكنولوجيا في المسرح لا يرتبط مع الوظيفة الوصفية أو الوهمية للواقعي، بل بالعكس يقدِّم إيحاءً جديدًا، أكثر قدرةً من ذلك، إيحاءً يتجاوز خبرتنا اليومية. بالتأكيد يُوضَع التجريب الرقمي في مكانةٍ أبعدَ بكثيرٍ من قوانين مسرح التراث البرجوازي، ولا يمكننا سوى الاعتراف بالشحنة المدمِّرة والفوضوية للعالم الذي فيه ستنفجر النماذج المعتادة للعرض المسرحي، وصولًا إلى الممثل نفسه، ولكن هذه الشحنة الفوضوية تظهر أيضًا — للأسف — في تجزيءٍ شامل؛ فلم تعُد خشبة المسرح تنجح في أن تكون «مركزًا للتجريد الروحي لدينٍ جديدٍ مستقبلي».٨ نكتشف إذن أن الحث المستقبلي (وأيضًا ذلك المرتبط بالنزعة الطليعية) يمكن أن يتم قبوله فقط بشرط التخلي عن نقطة الانطلاق المسرحية. إن البيئة المسرحية الرقمية الجديدة تتبع حتميًّا الخروج عن حدود المجال، وتغزو الصالة والعالم الخارجي، الانتصار هنا معناه فقدان الوحدة المركزية للمشهد لصالح تضاعُف قُوى الطرد للخبرة.
وفي المستوى الأول يبقى المؤلف فيما وراء الحدود بين الفنون وانطلاقها. ما زالت مركزية دوره قوية. سبق وافترضنا أن اختراع قواعد البيئة سيحلُّ محلَّ اختراعات القصص، وسيحلُّ التحديد المسبق للإجراءات محل كتابة النص المسرحي. تُوجَد بالفعل أدواتٌ جديدةٌ متوفرة تهدف لاختراع حيواتٍ اصطناعية للمشاهد وللشاشات (من خشبة المسرح إلى شاشة الحاسوب ومن السينما إلى العالم الافتراضي). ربما، من حيث كوننا نمثِّل الجمهور، سنعتاد وسنقدِّر إبداعات هؤلاء المؤلِّفين على المشاهد، كما سبق واعتدنا من قبلُ أن نتأثر ونتفاعل مع الظلال المقدَّمة على شاشة السينما. يجب ألا يطرحَ اختراعُ تكنولوجيا جديدة للاتصال في الحقل الفني مشكلةَ ترجمة الوسيلة الموجودة بالفعل، بل اختراع الجديد. وفي هذا الصدد تتساءل جانیت موراي Janet H. Murray:

هل يمكن أن تعني القصص التي ستمنحُها لنا التكنولوجيات الجديدة للتمثيل «شيئًا ما» بالطريقة نفسها التي كانت تعنيها أعمال شيكسبير؟ […]

هل يمكننا تخيُّل دراما إلكترونية تتطور أبعد من المتعة والتسلية الساحرة، للوصول إلى تلك الطاقة وذلك الإبداع اللذَين نربطهما دائمًا بالفن؟٩

أسئلةٌ بالغة الأهمية، وتُلقي بوضوحٍ الضوء على أكثر الشكوك انتشارًا، فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيات المعلوماتية الجديدة في الفن. لقد تعلَّمنا أن نتخيَّل سواء المسرح أم السينما على أساس العلاقة بين المؤلف، والمخرج، والممثل، والجمهور. في أغلب الحالات نحضُر عرضًا لحدثٍ متشابه، بطريقةٍ أو بأخرى، ثمرة عملية إنتاج مؤسَّسة على العلاقة الإبداعية بين الأطراف الثلاثة (جميعهم آدميون). ماذا سيحدث إذا اختُرعَت أداةٌ جديدةٌ تكنولوجية لتحلَّ محلَّ المؤلف؟ ماذا سيكون مصير شخصيات بيرانديلُّو الست إذا كان يمكِنهم الظهور، ليس على خشبة المسرح، بل في شفرات برنامجٍ على الحاسوب؟ كيف سيكون هاملت الافتراضي؟ إنها أسئلةٌ ساحرة، ولكنها تحتوي أيضًا غموضًا شديدًا، كما أوضحَت موراي ذلك.

في محاولة لتخيُّل هاملت على منصةٍ خطية، لا أتساءل عن إمكانية ترجمة مسرحيةٍ معيَّنة لشيكسبير في صياغةٍ أخرى. لكنني أتساءل عن وجود أملٍ في أن يُقدَّم على الدراما الإلكترونية عملٌ حقيقي يرتبط بظروفنا الإنسانية، ويعبِّر عنها بالروعة التي عبَّر بها شيكسبير عن الحياة في مسرحه الإليزابيثي.١٠
١  Pierre Levy, Il virtuale, Cit.,. p.23.
٢  Umberto Artioli, La scena e la dynamis, Bologna, Patron, 1975, p. 28.
٣  يميز أرتيولي كمصدرٍ محتملٍ لمارينيتي L’evoluzione creatrice عام ١٩٠٧م. أما التداخل بين الميكانيكا والرمز الروحاني فلقد ذُكر بوضوحٍ في Le fonti della morale e della religione عام ١٩٣١م.
٤  Umberto Artioli, La scena e la dynamis, Cit., p. 31.
٥  Ivi, p. 43.
٦  Ivi, p. 45.
٧  Enrico Prampolini, Atmosfera scenica futurista, 1924 والذي يظهر بالكامل أيضًا في Paolo Fossati, La realtà attrezzata, Torino, Einaudi, 1977, pp. 259-264.
٨  Ibidem.
٩  Janet H. Murray, Hamlet on the holodek, Cit., p. 273.
١٠  Ivi, p. 274.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥