(١) مجال البحث
سمح انتشار الإنترنت، وتحوُّل أجهزة الحاسوب إلى أجهزة إعلامية في منتصف التسعينيات،
بإقامة علاقةٍ متداخلة بين العرض المسرحي والأجهزة الجديدة للتكنولوجيا الرقمية.
إلا أنه
ما زال علينا أن نُعرِّف الوسائل التي من خلالها يمكن للتطور التكنولوجي أن يصبح
من جهةٍ
تطورًا لغويًّا، ومن جهةٍ أخرى منهجًا آخر للتمثيل في العالم المعاصر؛ فما زالت الوسائل
المنهجية لعمل ذلك قليلةً جدًّا حتى الآن، وما زالت الحالات المرتبطة بهذا الواقع
والمستخدمة لاقتفاء أثر هذا التطوُّر مجزَّأة، ويصعُب من خلالها إنجازُ تحليلٍ تاريخي
متكامل.
عوَّدَتنا أعوام التسعينيات على أساليبَ فنية، وإبداعٍ، وأنظمةٍ فنية صنعَت من العَدْوى
الفنية
التي تعرَّضَت لها حالتها الجمالية الخاصة، ونتيجة ذلك غالبًا ما يجد النقد نفسه
أمام
ضرورة اختيار مجالات تحليل أو مناهجَ متحولة من مجالاتٍ وقطاعاتٍ فنية مختلفة.
إن السقطة المدوِّية للروايات العظيمة، والتي يرى ليونارد أنها تميِّز الثقافة المعاصرة،
تُحوِّل المعرفة إلى قدوةٍ دراسيةٍ بينية
١ والتي عادةً ما تكون الخاصية الأساسية في الدراسات الخاصة بالمسرح؛ ولهذا
إذن تتضح أهمية وضع حدود لما نرغب في التحدث عنه، في محاولةٍ لمقاومة أخطار عدم التحديد
التي يمكن الوقوع فيها بسهولة. تقع أشكال التعاون بين وسائل الإعلام المتعددة والمسرح
في مفترق الطرق بين طريقَين مختلفَين؛ فمن جهةٍ يمكن تطوير إمكانات العرض المسرحي،
ليتحول
إلى حدث جماهيري، تبعًا للمسار الذي بدأ بالفعل من خلال مسرح التليفزيون، والذي من
خلاله
تظهر إمكانية انتشار المعلومات إلى جمهورٍ أكثر اتساعًا وغير محدَّد.
ومن جهةٍ أخرى تحاول بعض التجارب استيعاب خاصية حدث الانتقاء نفسه، من خلال تحديد
مجموعةٍ محدودة من المتفرِّجين، وبناء نشاط العرض المسرحي من خلال علاقةٍ مباشرة
معهم.
والتبادل بين هذَين الاختبارَين يحدِّد منطقةً تتحرك فيها الكثير من الحالات الحديثة.
تخاطر
الحالة الأولى بأن تتم ترجمتها إلى شيءٍ آخرَ مختلفٍ تمامًا؛ فالعرض المسرحي بتحويله
إلى
سياقٍ آخر يشهد حتمية التغيير في لغته الخاصة.
يوجد بالتأكيد المسرح المسجَّل على شرائط الفيديو، والذي يمكن استخدامه بطريقةٍ ما،
أو
الذي يكون فعَّالًا بطريقةٍ أو بأخرى، والذي استطاع أن يكوِّن لنفسه، بمرور الوقت،
أسلوبه
الخاص.
على سبيل المثال، عندما نرى إنتاج اتحاد الإذاعة والتليفزيون الإيطالي
RAI لمسرحيات إدواردو دي فيليبو،
نعرف أننا أمام إعادة
صياغةٍ خاصة بأسلوب الإعلام الجديد، وجوهريًّا، نجد أنفسنا أمام نسخةٍ جديدة من العمل
المسرحي. وبالرغم من قدرة الإيهام للعُلبة التليفزيونية، والتي يمكن أن تقودنا إلى
عدم
طرح تساؤلات حول عملية الترجمة التي حدثَت للنص، إلا أن إدواردو نفسه يشهد كيف تم
القيام
بتلك العملية، وبشكلٍ واعٍ؛
٢ ؛ حيث قام إدواردو بالفعل بتطوير نظريةٍ ما خاصةٍ بالمسرح الفيديو، وذلك تبعًا لما يُطلَق
عليه «المُشاهِد ذو النظَّارة المعظِّمة».
٣
غير مستبعد إذن، وانطلاقًا من هذا الاتجاه، أن تظهر محاولاتٌ في المستقبل لترجمة
العرض
المسرحي، والتي تذهب أبعد من أن تكون مجرد إعادة إنتاج بسيطة للعرض على شريطٍ رقمي؛
فكما
يحدث بالفعل في السينما ربما نجد بعد فترةِ الدي في دي المسرحي Theatre
DVD، الذي يُضاف إلى رؤية العرض المسرحي (بعد تصويره ومونتاجه)، لقطاتٍ
لإعداد المَشاهد، ومواد تسجيلية، وتعليق الممثلين، وألعابًا تربوية … إلخ، بل وربما
يصبح من
الممكن أيضًا، كما يحدُث في أفلام الدي في دي ذات خاصية التفاعل، أن يقرِّر المتفرج
بأن
يركِّز نظراته على شخصيةٍ ما، أو على جزءٍ معيَّن من المشهد، أو بناء نوعٍ من التعديل
الحسي
Live editing للعرض المسرحي. ربما يمكن في المستقبل
القيام بإعادة إنتاج للعرض بطرقٍ مختلفة دائمًا من حينٍ لآخر حسب احتياجاتنا.
ولكن هذا كله ينتمي إلى مجال الترجمة والنقل (بين وسائل الإعلام المتعددة)، فيما
يتعلق
بإمكانية التوثيق وإعادة الإنتاج وتوزيع حدثٍ ما تم بالفعل، وبالأخص لا يتجاوز المشكلات
المطروحة بالفعل في الثمانينيات.
٤
وقد أسهمَت بالفعل دراسات السيميوطيقا في تحليل تلك اللغات الجديدة لوسائل الإعلام.
وبالرغم من فضل تلك الدراسات في توضيحِ أشكال الاتصال المختلفة لوسائل الإعلام، فإنها
لم تنجح في التركيز على الفرص الإبداعية والفنية للوسيلة نفسها، ولم تعالج أيضًا
العلاقات الممكنة بين العرض المسرحي ووسائل الإعلام.
إن القدرة على تمييز القواعد الهيكلية لعرض رموز الأوامر على شاشة الحاسوب، وتحديد
الأنظمة الخاصة لمونتاج نوافذ التعليمات المختلفة للتعليمات بالضغط على «مساعدة»،
والمرتبطة أيضًا بالقواعد الخاصة بالمونتاج السينمائي، هي أنشطةٌ تساعد على بناء
طريقة
التفكير في الوسائط الموجودة بالفعل. إن التحليل السيميوطيقي للوسائط الجديدة يتضمَّن
بالضرورة الاختلاط بين المناهج والإسهامات الغربية.
وضَّحَت الدراسات السيميوطيقية، منذ فترة، أن تحليل المواد الإعلامية الممثِّلة لتلك
العروض يُوجب بالضرورة الابتعاد عن تعريف الهياكل النظرية للغة، لتصل إلى النواحي
العملية؛
يجب إذن وضع كيفية الحدث التمثيلي في الاعتبار، وكيف يقع في وقتٍ وفضاءٍ محدَّدَين.
إذن فالاحتمالات الفعَّالة لنجاح نصٍّ تمثيلي فُكَّت شفرته، من خلال الجمع سواء بين
تحليل
النماذج النظرية الإنتاجية للمعنى ونوايا الموضوع الذي يدور حوله الحدث، يجب أن
تحتوي في طيَّاتها منذ البداية على عملية التفسير. لا يمكننا تحليل حدثٍ ما (سواء
إعلامي أم
مسرحي) انطلاقًا فقط من نشاطنا المستقل والنقدي والتفسيري.
٥
وأخيرًا، لا يجب أيضًا استبعاد أن بعض الدراسات السيميوطيقية لوسائل الإعلام الأقل
تحديثًا، ما زالت تتمسك بالفكرة الجامدة للإنتاج التجاري. ويبدو أن بعض الدراسات
تطبِّق، في
هذا الاتجاه، تقنيات تحسين الموضوع أكثر من اللغة نفسها. وباتباع هذا الاتجاه نستخلص
أن
الدعم التفاعلي للأسطوانة المدمجة أو الأفلام الديجيتال
(CD أو الدي في دي) لا يمكن فقط أن يتم تبعًا لإجراءاتٍ
ذاتِ كفاءةٍ إنتاجية، ولكن يجب أن يتم تنظيم أسلوبها وشكلها وتطلُّعاتها وإبداعها
التجديدي
تبعًا لمعاييرَ متشابهة. ويُمكِن أن تكون التجربة السينمائية دليلًا على إثبات خطأ
ذلك.
بالرغم من أنه لا يمكن بالتأكيد إنكار تعقيد العملية الإنتاجية لفيلم، وهي العملية
التي
تتطلب دقةً اقتصادية ودقةً في إدارة الموارد (الإنسانية والمالية)، ولا يمكن، ضمنيًّا
أن
نستنتج من ذلك أنه لا بد وأن يكون هناك بالضرورة مدير مشروع، وأن يستخدم خياله أو
أسلوبه، مستخدمًا
الأساليب نفسها التي يستخدمها مديرُ مصنع.
وإذا تطلَّعنا إلى ضرورة التحقُّق من الإمكانات الجمالية لمسرحٍ ما يتكامل مع لغات
وسائل
الإعلام، فمن الضروري إذن أن نقود دراستنا في مجال الحدث، وليس في حالة إعادة الإنتاج.
يمكننا بالتالي من خلال منهجياتٍ مطابقة لأنظمة العرض المسرحي القيامُ بالعديد من
التجارب
في المجال المسرحي.
(٢) خصائص وسائل الإعلام
عادةً ما يلخَّص تأثيرُ التكنولوجيا الرقمية على الثقافة المعاصرة بالتعريف البارز
«الثورة الرقمية».
٦
وقد ظهرَت داخل هذا الجدل المحتوم، حول هذه المسألة، مواقفُ تمتدح التخصُّص التكنولوجي
وتُنافِس جذريًّا التأثيرات الضمنية الثقافية والفلسفية الناتجة عن ذلك التغيُّر.
ومن جهةٍ أخرى يحاول علماء الحاسوب، والمهندسون، ومعهم أيضًا الفلاسفة والفنانون،
اقتراح
تحليلٍ وافتراضاتٍ تأريخية حول هذه الظاهرة.
هل حقيقي بالفعل أن تأثير دخول البيكسل
٧ الثوري لثقافتنا، مثل تأثير اختراع الحروف المتحركة في الطباعة في أوروبا، في
القرن الخامس عشر؟
هذه هي أحد الاعتبارات الممكنة حول تأثير تلك التكنولوجيا حول الطريقة التي نتصل
ونعيش وننمو بها.
٨
جزء كبير من هذه الافتراضات نشأ في معمل الوسائط
Media
Lab في بوسطن، أو في الأجواء القريبة منه. وكانت ضمن الآراء التي عبَّر
عنها بالفعل مؤسِّس المعهد نيكولاس نيجروبونته
Nicholas
Negroponte عام ١٩٩٥م، المصطلحات الخاصة بالمناقشة النظرية حول الطرق
المؤِّثرة لما يُطلَق عليه «الثورة الرقمية» على الثقافة المعاصرة.
٩
وفي دراسة «الكينونة الرقمية digitali Essere» يفترض
المؤلف أن عنصرًا محدَّدًا بهذا المعنى ينقل انتباهنا من المادة (الذرات) إلى البايت
Bit، من خلال المحيطات الرقمية (في الكود المكوَّن من
عنصرَين بين ٠-١) إلى أن إجمالي البايت يقدِّم معلوماتٍ متعددة تبعًا لكيفية
تأويلها.
وعلى بعد نحو ثلاثين عامًا من نظريات ماكلوهان يحاول نيجروبونته ضمنيًّا أن يعيد
نقاش
مفهوم المعاصرة، بل ويقترح أيضًا تضادًّا مستفزًّا لتحليل عالِم الاجتماع الكندي؛
في العالم
الرقمي لم يعُد الوسيط هو الرسالة، ولكنه مجرد إحدى وسائل التنفيذ. الرسالة الواحدة
يمكن
أن تقدَّم بطرقٍ متعددة؛ حيث نستطيع الحصول عليها آليًّا بالتعديل في المحيطات نفسها،
وفي
المستقبل سيتمكَّن من يعرض شيئًا من أن يرسل لنا متتالياتٍ من البايت، والتي يُمكِن
للمتلقي
معالجتها كما يحلو له.
١٠
وبالرغم من احتوائها على بعض الأفكار الساذجة، إلا أن الدراسة التي قام بها نيجروبونته،
تؤكد على صعوبة التأقلم وإمكانية التحول؛ وبالتالي تقدِّم تعريفًا لتدفُّق المعلومات
الرقمية؛ إن وسائل الاتصال المتعدِّدة تُعرف ليس فقط بوجودها المشترك في أكثر من
وسيلة
اتصال معاصرة، ولكن أيضًا في إمكانية انتقالها الفوري من وسيلةٍ إلى أخرى. ويجدُر
بنا إذن
أن نعترف بأن هذا التدفُّق هو الثمرة الأساسية «للثورة الرقمية»؛ وبالتالي علينا
أيضًا
استخدام مصطلح الوسائط المتعددة الرقمية digital
multimedia ليحل محل المصطلح العام لوسائل الاتصال المتعدِّدة. ومن
الطبيعي أن يتم وصف ذلك التدفُّق للبايت bit بمصطلحاتٍ
مناسبة بحيث يتم تمييز خصائصها الفريدة.
وفي دراسة تمَّ تكريسُها للرواية المتشعِّبة الروابط عرضَت جانيت موراي
Janet
Murray بجدارة المصطلحات مثل: الانغماس، العميل والتحول من
الخصائص الحقيقية والفعلية للنواحي الاستاطيقية الجديدة للعمل الرقمي.
١١
إذن فالمؤلِّفة ترى أن الوسائط المتعددة الرقمية تُوجَد كمجالٍ ساحرٍ فيه يتحرك المستخدم
بأقصى درجات الحرية مكونًا ذاتيًّا مسيرته الخاصة الشعورية والسردية، ويصبح كل اختيارٍ
له
فعلٌ وسببٌ يحمل خصائص تتغيَّر باستمرار تبعًا لما نأمر به.
وهكذا تتضح أمامنا فكرة الرقمي كمجالٍ ذي إطارٍ واهٍ، والذي تتحول فيه خاصية عدم وجود
حدود
داخلية أو خارجية له إلى عنصرٍ مميز وهام.
وفي دراسةٍ أخرى مختصَرة ومكثَّفة عبَّر بيار ليفي
Pierre
Levy في مصطلح التحول إلى الافتراضي
Virtualizzazione عن عملية تستثمر عالمنا باستمرار، بل
ووضعه في داخل ديناميكية الفكر الأساسي المرتبط بتطوُّر العالم الغربي، وأصبح بالتالي
تحول الشيء إلى رقمي هو إحدى عمليات التحول إلى العالم الافتراضي، ربما أوضحها وأعنفها،
إلا أنها عمليةٌ عضويةٌ ضرورية للتقدم الإنساني. انطلاقًا من المنظور الذي تبناه
ليفي،
فالافتراضي ليس مرادفًا للتجريد أو للخيالي، ولكنه يحمل ملامحَ درجةٍ مختلفة من الواقع،
هوية جديدة.
١٢ ولهذا إذن يكتسب معنى التبدُّل والتحوُّل معانيَ أخرى، بالطريقة نفسها التي
نعتبر بها خبرتنا واقعية.
تصبح للأشياء حدودٌ واضحة فقط في الإطار الواقعي. إن التحول إلى الافتراضي، والمسيرة
نحو الإشكالية، وانتقال الوجود إلى منطقة الاستفهام، هو بالتأكيد طرحُ الهوية الكلاسيكية
وضعَ النقاش؛ وبالتالي كل ما يتعلق بما هو تعريفات ووصف، من استبعاد ومحتويات؛ لذلك
فإن
التحول إلى الافتراضي يكون دائمًا متغاير الخواص، إلى آخر، فهي عملية استقبال النزعة
الأخروية؛ لذلك يجب ألا نخلط بين تغيُّر الخواص مع تضادِّها وعداوتها، ومع التغريب؛
الذي يمكن أن أعرِّفه بالاختزال المادي، والتحقير من شأن الموضوعي، بل ومن «الحقيقي».
١٣
عُرفَت العملية التي ميَّزها الفيلسوف من حيث إشكالياتها، بأنها طريقةٌ للواقع الذي
ينصهر
على إمكاناته المستمرة، في أن يستجيب بطرقٍ مختلفة، وبتحولاتٍ متنوعة لاستخدام مصطلحٍ
مُوازٍ
إلى الضرورات والمتطلَّبات الخاصة بالحاضر الحتمي.
والخلاصة حسب آراء ليفي هو أن الافتراضي ليس مرادفًا للاواقعي، وأن عملية التحول إلى
الافتراضي لا تنزع عن الأشياء طبيعتها المادية، بل بالعكس تضع الكائن الواقعي في
موضع
إشكالية بواسطة التفعيل المستمر لحلول في الحاضر. إن الواقعي متساوٍ مع ذاته بينما
الافتراضي «متغير الآنيَّة» باستمرار، وبطرقٍ مختلفة؛ وبالتالي يتغير باستمرارٍ كحدث.
تبعًا
لليفي فإن الاختراعات التكنولوجية المتنوِّعة هي عبارةٌ إذن عن صياغاتٍ متجددة لمشكلاتٍ
موجودة بالفعل، بل وتَم طرحها في الماضي. إذن فتلك الاختراعات لا تحمل خصائصَ ثورية،
بل
تطورية. إن تعريف القواعد النحوية للغةٍ ما، على سبيل المثال، هي في حدِّ ذاتها تصرُّفٌ
يميل
للافتراضية، وبالتالي عملية الكتابة نفسها هي عملية تحويلٍ افتراضي للكلمة.
وكما نرى فإن هذه العملية لا تنزع الخاصية المادية، بل ما يحدث في هذه الحالة هو أن
يصبح الصوت موضوعًا للطباعة، للعلامة الدالة. ونلاحظُ ما يدعمُه المؤلِّف وعلاقته
مع النص
المتعدد الروابط:
إن النص المتعدِّد الروابط، والوسيط المتعدِّد الروابط، والوسيط المتعدد التفاعلي
تستمر إذن في
عملية القرن في تحويل القراءة إلى شيءٍ مصطنع.
فإذا كان فعل القراءة يعني الاختيار والحفاظ على الصيغ الثابتة، وبناء شبكةٍ من
الإحالات الداخلية للنص، والربط بمعلوماتٍ أخرى، والتكامل بين الكلمات والصور للذاكرة
الشخصية الخاصة في عملية إعادة البناء المستمرة، عندئذٍ يُمكِن بالفعل التأكيد أن
الأدوات
الخاصة بالنص المتعدد الروابط تشكِّل نوعًا من التحويل إلى الموضوعية والتغريب، والتحوُّل
الافتراضي لعمليات القراءة.
١٤
نشهد إذن عمليةً لها تعبيرٌ ميكروسكوبي في الوسائط المتعددة الرقمية، ولكنها لا تقسم
ما
سبقها، بل بالعكس تشترك في تحولٍ ثقافي واسع المدى، ولكنه بطيء. ولقد اضطُرَّت بالفعل
موسوعة ديديروا
Diderot المستوحاة من نظامٍ علمانيٍّ صِرفٍ
للمعرفة، وفي محاولةٍ منها لمنح إطارٍ للمعرفة الإنسانية، أن تهجُر للأبد المفهوم
الشمولي
والهيكلي للأسس المعرفية اللاهوتية والمنتمية للعصور الوسطى، في مقابل النزعة المثالية
الألمانية، والتي ترى في موسوعة هيجل محاولةً لتعليم الفلسفة التأملية، منذ حوالَي
قرنَين،
للتحكُّم في الشرط المعاصر الذي يتطابق مع بنوك المعلومات. إنها تبعُد عن قُدرات
أي مستخدم،
وبدلًا من أن تقترح شيئًا مشتركًا تُعيد تدوير المعرفة، وتعبِّر تمامًا عن طبيعة
الإنسانية ما
بعد الحداثة.
١٥
في هذه الحالة يتبع استخدامَ التكنولوجيا الرقمية اتجاهٌ موجودٌ بالفعل؛ فمن خلال
خبرة
الأجيال السابقة كان استخدام أدوات التوجيه النموذجية، مثل الموسوعة (القواميس والأجهزة،
ومسرد الكلمات، والأطلس، والجداول، والملخصات والإحالات إلى نهايات الأصوات) يقسم
بالفعل
الحوار، ويحفِّز على قراءة نوعٍ من النصوص المتشعِّبة الروابط أيضًا.
١٦
انطلاقًا من تلك الاعتبارات يرسم الفيلسوف الفرنسي خطًّا، نقول عنه، اصطلاحيًّا «المفهوم
الرقمي». وإتباع ذلك بالافتراضات حول القرية الكونية ومجتمع الاتصالات الكامل؛ فالمؤلف
يعرض العلاقة مع النزعة المضادة للعقلانية لجيمس هيلمان
James
Hilllman، الفيلسوف والمحلل النفسي، والذي بالخلاف مع المفهوم الجسدي-العصبي
أو التاريخي الاجتماعي للذهن، ميَّز في الأسطورة وفي النماذج النمطية أُسُسَ ما عرَّفه
بمصطلح «روح العالم»، وذلك من خلال محاولته تحرير مفهوم الروح من النزعة الذاتية
(فكرة
الملكية الخاصة وإذابتها في البحر الأكثر اتساعًا (وغير المميز) للمشاعر الجماعية.
١٧
ولكن إذا كان ذلك الاتجاه لدى هيلمان يندرجُ أساسًا في البحث عن نموذجٍ نفسي جديد،
فبالنسبة لليفي المجالُ أكثر براجماتية، ويكشف عن تفاؤلٍ علمي تجاه علم الاجتماع.
بالإضافة
إلى أن الفيلسوف الفرنسي اعتنى عنايةً خاصة بمعالجة فكرة الذكاء الجماعي، والذي بالرغم
من عدم قصره وربطه بمجتمعٍ جماهيري، إلا أنه يتضح في أشكالٍ ميكروسكوبية بداخل ذلك
المجتمع.
١٨
ولكن هذا لا يتخذ بالضرورة نبرات التكتيل ونزع الشخصية، والذي افترضه فريتز لانج
Fritz Lang في كتابه
Metropolis والذي صدر عام ١٩٢٦م؛ حيث تحوَّل الأفراد إلى
نوعٍ من النمل الشغَّال.
الفارق الأول، ومنه تنبثق جميع الفروق الأخرى، هو أن الذكاء الجماعي يفكِّر فنيًّا بينما
النملة جزءٌ شبه مظلم، ترسٌ خالٍ من الإدراك. نحن نستمتع بصفةٍ فريدة بالذكاء الجماعي،
والذي يزيد ويعدِّل من ذكائنا الفردي. كلٌّ منا، بطريقته، يحتوي ويعكس جزئيًّا ذكاء
المجموعة. أما النملة، فعلى العكس، ليس لديها سوى قدرةٍ استيعابية ضعيفة أو رؤيةٍ
للذكاء
الجماعي لا تكتسب من خلالها أي زيادةٍ عقلية. إنها الطاعة الحميدة، تلك التي تجعلها
تنضمُّ
إليها كالضرير.
١٩
إذن متبعًا لما يراه ليفي «فإن التقدم الإنساني تجاه إرساء أشكالٍ جديدة للذكاء
الجماعي يتعارض جذريًّا مع فكرة قرية النمل.»
٢٠ إن الإنسان ليس ضحية التقدم، بل هو صانعه، يكون منه الجزء الروحي، ويُمثل
جوهره في التصرف الإجرائي. لسنا أمام قانونٍ تاريخي، بل بالأحرى مشروع يمكن تنفيذه
أو
وضعه في طي النسيان. إن التحول الرقمي، الذي يعُده نيجروبونته أمرًا واقعًا؛ حيث
يتضمن
حتميةً تاريخية، يتحوَّل في هذه الحالة اختيارًا؛ حيث يصبح وظيفة مستقبل التفكير.
وفي منطقةٍ حدوديةٍ بين تاريخ الفكر والعلوم الاجتماعية نجد أن الوسائط الرقمية الجديدة،
واختراع الفضاء الإلكتروني والواقع الافتراضي، تتداخل في العمليات التي تتحكَّم في
إبداع
الأشكال الجديدة والأكثر تطورًا من الذكاء الجماعي.
إن العبور من الذكاء الجماعي إلى تحوُّلٍ «فاضل» للجماعة الذكية، ربما يصبح موضوعًا
مركبًا يُبعدنا عن أهداف هذه الدراسة، ولكنه مهمٌّ بالنسبة لنا في اللحظة التي يكون
فيها
الانتقال من التحوُّل التاريخي (الذكاء الجماعي كتطور للبشرية) شرطًا أساسيًّا أمام
الحاضر
المطلق (المجتمع الذكي كحدث هنا والآن).
٢١ تبدو ظواهر التحويل إلى الافتراضي، هكذا، مرتبطةً بشدة لتعريف الحدث،
الفعل:
[…] يشبه الواقعي المحتمل، بينما الحالي يجيب عن الافتراضي. الافتراضي نوع من المواقف
الذاتية ذات تجسيدٍ ديناميكي ذي ميول وقوًى، أهداف وحدود تحدث في لحظةٍ حالية. اللحظة
حدث،
بالمعنى القوي للمصطلح. يُنجَز فيها عملٌ لم يكن محددًا في السابق في أي مكان، والذي
بدوره يغيِّر الشكل الديناميكي الذي يحمل معنًى ما، تمنح معالجة الحالي والافتراضي
روحًا
للدياليكتية نفسها الخاصة بالحدث، للعملية، للوجود نفسه كعملية خلق.
٢٢
إذن فمهما كان اتجاه القراءة حول خصائص الوسائط المتعددة الرقمية، سواء من الناحية
العملية أو الثورية، الفلسفية أو الإصلاحية، فالتعريفات تقود المناقشة تجاه الحدوث؛
وبالتالي إلى العرض المسرحي.
إذن فالرقمي هو أحد إمكانات الافتراضي، وترجع إذن للافتراضي، حسب الخطوط التي صاغها
ليفي، إمكانية المشهد المُقدَّم على المسرح، ونوع الآنيَّة الخاص بالمشكلة الدرامية.
إن
العمل الذي فكَّر فيه المؤلف أو المخرج يكتسب وضعه «الحالي»، تبعًا لديناميكية الحلول
المطروحة، في عرضٍ ما، وذلك بدوره ليس شيئًا ثابتًا، ويمكن أن يتم تعديله بناءً على
«التجسيد الديناميكي» الذي عرفه: إن العرض يُوجَد ويتحوَّل من أمسيةٍ إلى أخرى.
(٣) المجاز المسرحي
يبقى بالتأكيد أن نعرف في أي صِيَغٍ يمكن لكل هذا أن يحدث في الممارسة المسرحية؛ كيف
يمكن استخدام تكنولوجيات الوسائط المتعددة الرقمية وما هي إسهاماتها اللغوية؛ وخاصة
إذا
وُجد منظورٌ جمالي تتضمَّنه هذه العَدْوى أو هذا التأثير.
وقد رأينا بالفعل أن الصلة تبدو ظاهرة، بالفعل على الصعيد النظري، فيما يتعلق بطبيعة
الحدث؛ فالحاسوب يدير إجراءات وعمليات؛ وبالتالي في كل مرة نبدأ تشغيله نشهد حدثًا
ما
(سماعيًّا – فيديو – سينمائيًّا) يحدث هنا الآن (ذلك من خلال فك شفرة المعلومات).
بداخل
هذا الحدث، نحن ممثلون، ونتفاعل مع أناسٍ آخرين، أو ربما مع أدواتٍ موجودة على الشاشة
(رموز
الأوامر، قائمة الأوامر، مفاتيح التحكم). علينا في هذه التفاعلات أن نُوافقَ على
سلسلة من
الأعراف لخلق مشاركةٍ فعالة. إن إزالة مِلفٍّ من فوق سطح المكتب
desktop معناه القيام بعملٍ مناسب بداخل شفرة السلوك
التي اتفقنا عليها مع الآلة، وذلك من خلال الضغط على الفارة، ثم نقل رمز الملف إلى
سلة
المهمَلات. إنه إطارٌ فيه تلك العلاقات السببية والتأثيرية قد تم تشفيرها ثقافيًّا،
وتُعرِّف
نطاقًا من القواعد المتناسقة، بحيث تسمح بهامشٍ فسيح من حرية التخمين لدينا، ولكنه
أيضًا
مجال يمكن فيه الاشتراك فقط من خلال التفاوض على القواعد والوظائف، التي يتم ترسيخها
من
خلال اتفاقية التواصل، مستوًى في منتصف الطريق بيننا نحن والآلة؛ بكلماتٍ أخرى، علينا
نحن
تحديد خشبة المسرح التي نرغب في التحرك فوقها.
٢٣
إن العمليات التي يقوم بها الحاسوب متأثرة إلى حدٍّ كبير بدرجة وتناسق نشاطنا.
بالمقارنة مع الحاسوب، مع وظائفه وسلوكه، يمكن أن يُظهر هذا النشاط درجةً من التركيب
تتجاوز الصلة المباشرة السبب/التأثير، وتعريف القدرة الحقيقية على الأداء.
أسئلة مشابهة تشغل دارسي تصميم الوصلات البينية Interface
design أي التخطيط للتفاعلات بين الإنسان والحاسوب، والذي لا يحدِّده فقط
التصميم الجرافيكي، ولكن أيضًا الصِّلات النظرية للاتصال. والشيء المثير للدهشة هو
أنه من
خلال التحليلات لأحدث الأوضاع في هذا المجال، ليس من الصعب أن نجد أنفسنا في مواجهة
مناقشاتٍ تشير إلى الطرق نفسها، الخاصة بالحدث المسرحي.
منحَت بريندا لوريل Brenda Laurel عنوان
«الحاسوب كمسرح» Computer as Theater، وذلك منذ عام
١٩٩٣م، لعملها الشهير؛ حيث تفترض أن العلاقات المؤسَّسة بالفعل، من قبل التقديم المسرحي
بين
المشهد والجمهور، يمكن أن تفيد لتحليل العلاقة بيننا وبين ما يحدث فوق شاشة
الحاسوب.
إن الهدف الأساسي لهذا الكتاب هو اقتراح الطرق التي يمكن بها تطبيق مفهوم المسرح،
ليس ببساطةٍ كمجاز، ولكن كوسيلة لمنحِ مفهومٍ للتفاعلِ نفسِه الحادثِ بين الإنسان
والحاسوب.
٢٤
إن موضوع لوريل كبير وموجَّه بالتأكيد تجاه علوم الاتصالات، ولا يبتعد عن بعض الإشارات
الضمنية للعلم النفسي أيضًا، ويبقى غايةً في الأهمية الجهدُ الذي قامت به لانتزاع
الدراسة
والبحث حول الرقمي من العلوم الموجودة مسبقًا، والتي حتى وقتٍ قريب كانت تتدخل بثقلٍ
في
اللعبة؛ فمن جهةٍ هناك الهندسة الإلكترونية والمعلوماتية، ومن جهةٍ أخرى علم النفس
والسيميوطيقا. الغرض إذن هو الوصول إلى تعريف علمٍ منهجي للتحليل، وخلفيةٍ ثقافيةٍ
محدَّدة،
منطلقين من التهجين مع المجال الذي، في وجهة نظر الكاتبة، يبدو جديدًا على هذا
الجدل.
إن هذا الاضطراب حول طبيعة النشاط بين الإنسان والحاسوب يمكن أن يصل إلى أدنى حدٍّ
له بالتفكير في تلك العلاقة من خلال المسرح، حيث العلاقة الخاصة بين التقديم
المسرحي والواقع قد استقرَّت بالفعل، ليس فقط من حيث النظريات، ولكن أيضًا من حيث
الطريقة التي يخطِّط بها الناس ويختبرون الأعمال المسرحية.
٢٥
حول شرعية المعالجة «الفنية» بدلًا من المعالجة «العلمية» لتخطيط المشروعات المتعدِّدة
الوسائط، توضِّح الممثلة نفسها أن هجرة الحدود الضيقة للمنطق الإنتاجي وتوظيف العلم
الهندسي يمكن أن يفتح طرقًا جديدة لتطبيقاتٍ أكثر فاعليةً وحداثةً على مستوى اللغة.
[…] لدينا على الأقل سببان لنعتبر المسرح نقطةَ انطلاقٍ خصبة للتفكير والتخطيط الخاص
بالخبرات بين الإنسان والحاسوب. أولًا: يُوجَد توالٍ ذو معنًى في الأهداف الأساسية
للمجالَين؛
أي إن المجالين يمثِّلان أفعالًا مع عملاء متعدِّدين. ثانيًا: المسرح يقترح الأسس
كنموذجٍ
لنشاطٍ إنساني-حاسوبي يبدو معتادًا ومفهومًا.
٢٦
(٤) التمثيل الرقمي
يُكوِّن كلٌّ من المسرح والسينما والفيديو معانيَه الخاصة من خلال تمثيل الأداء (من
خلال
التعبير بالحركة). إن العرض المسرحي والفيلم والبرنامج التليفزيوني تطرح نصوصَها
من خلال
الأداء، تبني علاماته؛ فهي تطرح في آنٍ واحد المستويَين؛ الإلقاء، والأداء.
٢٧ الوسائط المتعدِّدة الرقمية تعمل بالطريقة نفسها؛ تُمثل من خلال أفعال. ما
العلاقة التي تؤسِّسها مع أداة التمثيل؟
إن عملية إنتاج المرئي والمسموع تدفع إلى تحوُّل عناصر الواقع الفيلمية، الذي يتخذه
التمثيل انطلاقًا من شبكة العلاقات (تلك الجديدة الداخلة على اللغة المسموعة-المرئية)،
إلى حد عزلها بالنسبة لموقعها الأصلي (العالم الواقعي). يمكن التأكيد على عدم
توقُّف مرجع التمثيل السمعي/المرئي؛ فهو لم يعُد الجوهر الذي صُوِّر ليتداخل مع الواقع
الجديد
لعملية الإخراج المسرحي.
٢٨
إن عملياتِ التمثيل الرقمية ذاتُ إحالةٍ ذاتية بالتأكيد، بعيدًا عن المحاكاة للواقع،
تلك
العلامات تُحيل إلى الشفرة الثنائية واللوغاريتم الذي يقوم بتفسيرها،
٢٩ بل إن ما نراه على شاشة الحاسوب ربما ليس له أي علاقة مع العالم الواقعي
(إذا لم تكن علاقة محاكاة، ولكن في هذه الحالة سيكون تركيبًا تفسيريًّا قويًّا أكثر
منه تركيبًا
ذا معنًى). عندما نشاهد عالمًا من الجرافيك الثلاثي الأبعاد ليس له أي مرجعٍ موضوعي
سوى ذهن/فكرةٍ مبدعة، لا يمكننا أيضًا أن نفترض علاقةً بعيدة بين ما نراه وبين الموجود
في الواقع.
عند مشاهدة شجرة في التليفزيون يمكننا بالتأكيد إدراك المعنى، نظرًا للمجال المحدَّد
الذي
تُوضَع فيه، ولكن لا يمكننا أن ننسى أن تلك الشجرة «كانت موجودة» في زمنٍ آخر وفي
مكانٍ آخر؛
وبالتالي يثير ذلك عمليةَ تمثيلٍ ضمنية للمسافة.
في الحاسوب تكون صورة الشجرة حدثًا؛ حيث تتخذ شكلًا في اللحظة التي ننظر إليها فيها؛
إن نصًّا خاصًّا، على سبيل المثال، تتم قراءته في اللحظة الخاصة بالتحميل
٣٠ Plugin الضرورية، يمكن أن ينتج ما نراه
بعيدًا عن أي إحالة. تلك الشجرة موجودةٌ في تلك اللحظة وفي ذلك المكان، كما لو كنا
في غابةٍ ما ونُشاهِدها مباشرة. إن شاشة الحاسوب لا تُظهِر الأشياء، بل تتسبَّب في
النظرة
نفسها، فعل الرؤية نفسه، حتى يحدث بصفةٍ استثنائيةٍ نتيجةً للجذب بين الموضوع والذات،
إنه
حدثٌ تفسيري؛ فالشيء يتخذ شكله الظاهر فقط أمام أعيننا. وهي إحالةٌ ذاتيةٌ مشابهة
تُعيدنا
بالتأكيد إلى المسرح.
إن حدوثَ العرض المسرحي هنا والآن يعوق، أو يُعرقِل التمثيل عن بُعد، والذي تحدثنا
عنه في
الوسائل السمعية/البصرية. إن العرض بالرغم من أنه يُحيل إلى قصةٍ بعيدة، وبالرغم
من أنه
يحكي عن وقائعَ حدثَت في الماضي وفي أماكنَ مختلفة، يحدث دائمًا في اللحظة التي نحضُر
نحن
فيها العرض؛ فالممثلون وخشبة المسرح والمشاهد تخلُق الحدث «هنا والآن»؛ هاملت «موجود»
في
كل مرة نراه فيها. إن الدراما فعلٌ أوَّلي، ليس هو التمثيل «الثانوي» لشيءٍ «أوَّلي»،
ولكنها
تمثِّل نفسها، تقدِّم نفسها.
٣١ الأفعال الحاضرة في ذلك التتابُع، والتي يميِّزها سزوندي كأساسٍ للدراما، يمكن
معارضتها من خلال كتابة النص، ولكن ليس من حيث خاصيَّتها في بناء علاقة في المشهد.
وبداخل عملية الجذب هذه للوسائط (سينما، سمعي بصري، مسرحية، رقمية) والمقسَّمة تبعًا
للتمثيل عن بُعد للشيء الموجود مسبقًا (هنا وفي مكانٍ آخر للصورة التي يُعاد إنتاجها)
وغياب
تلك المسافة (مطلَق هنا والآن). والواقع الافتراضي، الحاسوب جرافيك، والتقديم الرقمي
بأنواعه المختلفة، تنتمي للنوع الأخير من القطب مع المسرح، وبمصطلح أكثر شمولًا للعرض
بصفةٍ عامة.
وهكذا تظهر، بداخل تأملٍ مبدئي، فرصُ الاتصال على الصعيد النظري، والذي فيه العَدْوى
بين
الحدث المباشر (العرض المسرحي، العرض الاستعراضي للرقص … إلخ) والوسائط المتعددة
الرقمية — بكلماتٍ أخرى بين التمثيل المسرحي والتمثيل الرقمي — لا يبدو أمامنا جدلٌ
متناقض،
بل نحن أنفسنا أمام انجذابٍ رقيق ووهنٍ لمتماثلَين.
المسرح في الفضاء الإلكتروني ربما يكون وسيلةً مستعملةً لتسمية الموضوع الذي نتناوله،
وهو العنوان الذي مُنح بالفعل لكتابٍ يجمع بعض الدراسات صدر حديثًا.
٣٢ والكتاب يُعد من أولى المحاولات لطرح هذه المسألة.
إلا أنه كان يجب مواجهة صعوبةٍ أخرى؛ بدا عدم التحديد وكأنه إحدى الخصائص الأساسية
للوسائط المتعدِّدة الرقمية. كان المسرح، من جانبه، له وجودٌ دائم في إطار نشاطٍ
إشكالي
قوي داخل ثقافتنا، يشهد لذلك انسحابُه الفردي ودخولُه في التعريف الجمالي. هذا النوع
من الاضطراب الباطني يشكِّل المنافسات حول المسرح الرقمي، وليست مصادفةً إذن أنَّ
أحدث
الأبحاث، والمُعنوَن
Virtual Theatres المسارح
الافتراضية، تتنقل الموضوعاتُ فيه من إعداد المسرح إلى قنَّاصة الإنترنت، ومن ألعاب
الفيديو إلى فن الإنترنت.
٣٣
وبأخذ صعوبة تعريفٍ نظريٍّ للمشكلة في الاعتبار، من المناسب هنا التوجُّه نحو معالجةٍ
أوَّلية
تُحلِّل الظواهر الفردية المختلفة، وتتحقَّق من إمكانات الافتراضات التي توحِّدها.
وبجانب بعض
الاعتبارات العامة سيتوجَّه عملنا نحو المعنى العلمي والتجريبي. ليس هدفنا هنا تعريف
«نوع
رقمي» جديد للعرض، لكن يمكننا إذن أن نحلِّل كيف تسمح خصائص الوسيط الرقمي للعرض
المسرحي
أن يصبح أكثر ثراءً، وأن يستمر في أفضل الحالات في عمله الخاص في عروضه الحالية.
(٥) العَدْوى التكنولوجية
إن الحدث المسرحي جوهريًّا هو عملٌ تمثيلي/تفسيري؛ وبالتالي يكتسب
قيمةً فقط داخل الإطار
الذي يحدث فيه. وبما أن المسرح مؤسَّس على العلاقة بين الممثل والجمهور، فهو يحدث
دائمًا
داخل منسقاتٍ خاصة سياسية واجتماعية، ولا يمكن أن يكون مجرَّدًا من الشروط الاقتصادية،
ولا
من التطوُّر التكنولوجي. هذا الأخير يبدو مرتبطًا بقوة بالممارسة المسرحية. لقد كانت
الآلة،
وما زالت، موضوعَ وعميلَ الاتصال على خشبة المسرح. في حالاتٍ كثيرة يمكن للإبداع
التكنولوجي أن يكون محدودًا في مجال المشهد التكنولوجي، ولا يشكِّل عنصرًا أساسيًّا
في تطور
اللغة، في مجالاتٍ أخرى، وبالتأكيد في العديد من التجارب المنتمية للنزعة المستقبلية
الإيطالية، فإن وجود الأجهزة الآلية قد اتخذ خصائصَ ثورةٍ جماليةٍ حقيقية.
٣٤ في إطار بحثنا هذا سنطلق مصطلح «العَدْوى» على تلك المحاولات التي تشكِّل عناصرَ
جديدةً ذاتَ معنًى في اللغة المسرحية.
اعتاد الجمهور من خلال السينما والراديو والتليفزيون، في الأعوام العشرة الأخيرة،
على
أشكالٍ غامضة «للعروض»؛ فلقد أصبحَت الدراما الإذاعية مؤسَّسةً وثابتةً في الدراما
الآن، حتى
وإن كانت تتخلى عن الوجود الجسدي، إلا أنها تغمسُ المتفرِّج في مجالٍ صوتيٍّ ساحر.
ومن جهةٍ
أخرى الدراما والمشاهد والشخصيات لسينما معيَّنة، مثل، على سبيل المثال، (١٩٨٢م)
Querelle de Brest لفاسبيدر
Fassbinder تبدو وكأنها تخيُّل للخيال المسرحي أكثر من
ذلك السينمائي. وفي مقابل ذلك نجد عرض (٢٠٠٠م) Poly
grapha لروبرت لوباج Robert Lepage
يقترح مسرحًا قادرًا على تقليد التركيب الروائي ورؤية الشاشة السينمائية. وفي عرضه
The Far side of The Moon عام ٢٠٠١م، يلعب لوباج على
التحوُّل المستمر للمشهد، إلى حد أن الخصائص الملموسة للأشياء تبدو وكأنها تتلاشى
بالتدريج. الأدوات والأجواء والديكورات التي تحدِّد المشهد تبدو في تعريفٍ وحركةٍ
مستمرَّين،
وتظهر دائمًا مختلفةً عما كانت، حتى تختفيَ تمامًا، ولا يتبقَّى منها سوى ما نستنتجه
من
تفاعُل الممثل. إذن فالمشهد الذي أبدعه لوباج يتشابه مع الواقع الافتراضي، والذي
فيه
يمكن للأشياء أن تتحرَّك كما يحلو لنا. يتحرك الممثل أيضًا في المشهد وكأنه في عالمٍ
افتراضي، والذي فيه الإيحاءات الواقعية موجودةٌ دائمًا في أوامره أو إيماءاته، للتحوُّل
إلى آخر حتى يتظاهرَ الممثل ويوحيَ لنا بأنه يصبح في الفضاء. يفقد بالتالي العالم
الواقعي
ثبات المادة (atoms)، ويكتسب إمكانات التغيير في شكلٍ من
أشكال البايت Bit.
وفي إطار العَدْوى أيضًا، ولكن في تطوراتٍ أكثر إثارةً للجدل، يمكننا أيضًا التحدث
بهذا
الصدد عن العلاقات التي أقامها المسرح في الأعوام الأخيرة مع التليفزيون؛ فبينما،
في
الأمثلة السابقة، لا تُشكِّك المعالجة الحالية حول الطبيعة الفنية «لانتماءات» العروض
إلى
محتوًى معيَّن (راديو، سينما، مسرح)، إلا أن موضوع مسرح الفيديو كان موضعَ جدلٍ طويل.
هذا الجدل أعادنا بوضوحٍ إلى فكرة أن الحدث المسرحي أعاد مناقشة نظام العلاقات الخاص
به، وطوَّر
شفراتٍ جديدة للمشهد. يكفي أن نتذكر الحجرة المجردة
La Camera
astratta ١٩٨٧م، لباربيريو لورسيتي
Barberio Lorsetti لنذكُر حالةً إيطالية، يصبح فيها موضوع
التليفزيون، وصورة الفيديو موجودَين بصورةٍ مطلقة في أثناء أداء الممثلين على خشبة
المسرح،
مقترحًا دياليكتيةً صارخة بين الجسد الملموس والجسد الإلكتروني، بين أماكن المسرح
وأماكن
الفيديو. وجود شاشة العرض والصور التليفزيونية يرجع في الأساس إلى الاستعانة بالفيديو
في الفن المعاصر. كان عرضًا، على الرغم من أنه يستخدم تكنولوجيا التصوير التليفزيوني،
سواء في الزمن الواقعي أم للتفعيل، إلا أنه ليس مشابهًا للمنتَج التليفزيوني، بل
للعرض
المسرحي، ولكنها كانت نزعةً مسرحية جديدة ودخيلة.
٣٥
بالإضافة إلى ذلك، وبالفعل في مختلف التجريب للثمانينيات، شهدَت الساحة الفنية نوعًا
من السحر التكنولوجي على خشبة المسرح، وبالفعل، منذ ذلك الوقت، ظهر بوضوحٍ أن أفضل
النتائج يمكن الحصول عليها عندما تنجح التكنولوجيا في أن تتحول من مجرد عملياتٍ ترقيعية
إلى عملياتٍ تجميلية.
٣٦ كانت «الأسطورة التكنولوجية»، في دياليكتية حول الفرض اللامحدود لذوق ما
بعد الحداثة، نظامًا لإعادة الاستحواذ على الممارَسة المسرحية، بعيدًا عن الدفعات
المدمِّرة
للفترة السابقة، ولكن رافضةً، في الوقت ذاته، العودة إلى الكلاشيه التقليدي؛ فهي
أعراضُ
تأمُّل حول معنى المسرح الذي لم يعُد في الإمكان أن يصبح سياسيًّا، ولم يجد وسائلَ
أخرى سوى
التأثر بما كان تقليديًّا بعيدًا عن المسرح (الإضاءة، الليزر، الفيديو، الإسقاطات
…
إلخ).
لكن الوجود المُكتسِح للتكنولوجيا يصبح في بعض الأحيان الطريقة لإعادة تشكيل إمكانات
التطوير والتجديد اللغوي للمسرح (كما في الأعمال التجريبية لفرقة Falso
movimento والتي أسَّسها المخرج ماريو مارتونه Mario
Martone في نابولي عام ١٩٧٧م)، وأحيانًا أخرى قدمَت طريقًا للخروج من حدود
النزعة النفسية للدراما الكلاسيكية ليقترح مسرحًا «تحليليًّا-وجوديًّا» (مثلما في
العروض
المنتَجة بواسطة Magazzini Criminali انطلاقًا من ١٩٨٠م، في
فلورنسا، والتي قام بها المخرج تياتزي Federico Tiezzi
والممثل ساندرو لومباردي Sandro Lombardi). تُوضَع بعض
التجارب إذن في مسار البحث الخاص، على أمثلةٍ تم تطويرُها بالفعل من الطليعية الفنية
للقرن العشرين، والتي أعادت النظر إلى وظيفة الممثل على خشبة المسرح، وإمكانية استبدال
حضوره الجسدي بعنصرٍ ديناميكي من نوعٍ آخر (دُمية آليَّة، مؤثِّرات في المشهد، إضاءة).
في هذه
الحالات تعلَّق الأمر بتطوير وجود الممثل الإنسان بإدخال نوعٍ من الذات الأخرى الإلكترونية
(كما رأينا في عرض كورسيتي Barberio Corsetti). في حالاتٍ
كثيرة تعلَّق الأمر بصفةٍ عامةٍ بإعادة ربط العرض المسرحي بالخصائص الأساسية للخبرة
المعاصرة.
إن طريقة العروض الجديدة، والتي تنقل العناصر المميزة للخبرة المعاصرة للمدن
الكبيرة (الروايات، المجلات المصورة، التليفزيون) إلى الفضاء المسرحي، تعمل على
نوعٍ
من «إعادة النزعة القبلية» وذلك بتركيبها بطريقةٍ فوريةٍ داخل العرض.
٣٧
اتخذَت النزعة الاستعراضية الجديدة، هكذا، ملامح الحركة العضوية، بالرغم من الخلافات
الداخلية، والتي حاولَت بذلك إعادة تأهيل اللغة المسرحية، على ضوء ذلك التذوُّق المتجِه
إلى
التأثر بالأسلوب والفنون الخاصة بتلك الفترة. اقترح المسرح صراحةً لحظةً من التأمل
نُظمَت
على أساس التجزئة المعاصرة، وحاولَت إعادة قيادة كل شيء إلى مركزية الخبرة الفورية.
وهذه
الحالة جاءت حتمية الإشارة إلى الفارق بين تجارب الثمانينيات والأحداث التالية للتأثُّر
الرقمي في بانوراما المسرح المعاصر. من الصعب، في هذه الأحداث الأخيرة، التعرُّف
على
إعادة تأسيس جمالية للمسرح.
في بعض الحالات، نتج استخدام التكنولوجيا الرقمية كحلٍّ عمليٍّ لمشكلات في عملية الإخراج،
وفي حالاتٍ أخرى جاء كإجابة على طلبٍ مُلحٍّ وضعَتْه بالفعل النزعاتُ الطليعية للقرن
العشرين،
وفي حالاتٍ أخرى أيضًا أصبح النقاش حول وجوب بناء العرض المقدم لنفسه في مكانٍ محدَّد
(مُعرِّفًا نفسه على الإنترنت من خلال شاشة الحاسوب)، أمرًا حتميًّا.
والمنظور الجمالي يمكن الوصول إليه فقط انطلاقًا، مرةً أخرى، من ذلك المفقود.
٣٨ إذن فهي ليست مشكلة تأثُّرٍ مسرحيٍّ فقط، بل هجوم على استقلال الفنون وعلى
وضعها الراهن. يجد التحوُّل إلى مركز الخبرة الإنسانية والوجود في العالم المعاصر
مقابلَه
في الهجوم على الخصائص المؤسِّسة للمسرح. وهنا تبدأ مناقشة أن الممثل يجب أن يكون
من لحم
وشحم، وأنه ربما وجد مكانه حيث حضور الجمهور كان شرطًا وحيدًا للوجود في الزمن الواقعي.
تغيَّرَت أساليب احتمالية وجود الممثل والجمهور، واعتماد أحدهما على الآخر أثناء
فترةٍ محددة
زمنية. والممثل السينمائي يُعد جزءًا من عمليةٍ إنتاجيةٍ معقَّدة تُبدع نوعًا من
الانقسام بين
نشاطه التمثيلي والعمل الذي سيتم عرضه على الجمهور. في التجارب المسرحية التي تميَّزَت
بالتأثير المتبادل بين الرقمي والمسرح، لا يتم إعادة إنتاج العرض مرةً أخرى، ولكنها
تُنفَّذ
دائمًا في اللحظة التي يشاهد فيها الجمهور العرض.
في العلاقة بين المسرح والوسائط المتعددة تعمل تلك الأجهزة التجزيئية، التي يميِّزها
Lyotard في ظروف ما بعد الحداثة. تنتُج نزعة التجريب
الفلسفية المدفوعة من التجريب التكنولوجي، عن نظرية عدم الاستقرار، والتي فيها يكون
التطورُ غير المستمر، كارثيًّا، لا يمكن إصلاحه؛ إنها عمليةُ إنتاجٍ للمجهول بلا
يوتوبيا فنية
خالية من نموذجٍ شرعي، باستثناء ذلك الخاص بالفارق كقياسٍ تمثيلي.
٣٩
ستصبح إذن فكرة الخبرة الجمالية، المكوَّنة من الوجود المادي المشترك المباشر للعمل،
هي
موضع المناقشة. إذا كان بينجامين
Benjamin قد طرح
بالفعل مشكلة فقدان «الهالة» للعمل الفني بسبب تكنولوجيات إعادة الإنتاج، فإن الرقمي
يبدو وكأنه ينزع أي علاقة بالأسئلة الخاصة حول الفارق بين الأصل والصورة. ويتبع ليفي
تلك الآثار مقترحًا أن الاختراع المعاصر للفضاء الإلكتروني «يتسبب في إرباك مفاهيم
الوحدة
والهوية والانتماء للمكان».
٤٠
لنتذكَّر، على سبيل المثال، كيف يميِّز بينجامين العبور من القيمة الثقافية لتلك
الاستعراضية للعمل الفني.
وهكذا كما في العصور الأولية، ومن خلال الثقل المطلَق للقيمة الثقافية، كان العمل
الفني مجرد أداةٍ سحرية، ثم بعد ذلك بفترة، وبطريقةٍ ما اعتُرف به كعملٍ فني، فاليوم
أيضًا، ومن خلال الثقل المطلَق لقيمته الأساسية، أصبح العمل الفني شكلًا ذا وظائفَ
جديدةٍ تمامًا، والتي من بينها تلك الوظيفة التي نُدركها؛ أي تلك الوظيفة الفنية،
والتي تظهَر من خلال إمكانية تحوُّلها إلى شيءٍ هامشيٍّ في المستقبل.
٤١
إن فكرة العمل الفني كمجموعةٍ من الوظائف التي يمكِن أن تتنوَّع في علاقة مع الإطار
التاريخي والتكنولوجي يستخدمها بينجامين ليُلقيَ بالضوء على الإشكالات حول انتماء
الصورة
(ثم السينما) للمجال الفني؛ فهو يرى أنه لا بد من الانتباه لفكرةٍ عميقة؛ هل عدل
اختراع
الصورة أم لا الخاصية التركيبية للفن؟
٤٢ وبالطريقة نفسها لا بد أن نعترف أن تقدُّم اللغات الجديدة للوسائط المتعدِّدة،
وخاصة الفضاء الإلكتروني، في حقل الفن التمثيلي، يجدِّد، ليس فقط أشكال التمثيل،
ولكن أيضًا
الخبرة الجمالية نفسها.
إن الأعمال التجريبية التي سنفحَصها لا تهدفُ إلى إعادة تفكيك وحدة الخبرة المسرحية،
بل
تصنع قوةً مركزيةً تدفع العرض خارج حدوده الخاصة؛ خشبة المسرح ليست المكان الذي يمكن
فيه
للخبرة المعاصرة أن تُعاد إلى شكلٍ ما يوحِّد العمل الفني، لا بد وأن نرضى بالاختيارات،
بالتجزيء، وأن نستنبط من ذلك المعنى فقط، إذا كان ذلك سيُساعِد على إدخال هوية المسرح
نفسها
في اللعبة.
تستثمر المعرفة النموذجية للوسائط المتعددة الرقمية الفروق والحدود، مقترحةً شكلًا
تمثيليًّا يقترب من الخصائص التليفزيونية، والسينمائية، والمسرحية. هذا يحدُث أيضًا
للمسرح،
وفي الوقت نفسه للسينما والتليفزيون، وهو يحدُث بتناسقٍ مع القيام بمناقشة عمليات
التنسيق
المستخدمة لتحليل الظواهر الفنية الموجودة في القرن العشرين كله.
إن ذلك «الاستياء النظري» الذي دار في ذهن العديد من العاملين في المسرح، بين القرنَين
التاسعَ عشرَ والعشرين، ذلك الشك المريب حول الخاصية الفنية للفن المسرحي، ذلك الضيق
المستمر في الدراسات المعاصرة حول المسرح كظاهرةٍ فنية؛ كل هذا لم يصل بعدُ إلى حلٍّ
معيَّن،
بل ازدادت حدَّته بظهور التأثير الرقمي.
٤٣
في العالم الرقمي يضع التصرف الإنساني حدثًا ما موضع الحركة، يمكن أن يتصادفَ ذلك
مع
تحديث إدارةٍ ما، وفتح الباب أمام النزعة الافتراضية؛ فالسباحة في بحار الفضاء
الإلكتروني لها طابعٌ أدائي؛ لا بد أن يقدر المرء على حل المشكلات. وبين ثنايا النزعة
التقنية يمكِننا العثور على كميةٍ مدهشةٍ من التخمين والخيال.
يعتمد تفوُّق النزعة الاستعراضية في مساواة التنافس وفي الإنتاج، وليس في مجرد
الحصول على المعرفة، على ذلك «الخيال»، والذي يسمح سواء بتنفيذ حركةٍ جديدة أم بتغيير
قواعد اللعبة.
٤٤
إن فعل قارئ نصٍّ متشعب الروابط يحتوي على جرعة من ذلك الذي نطلق عليه تقليديًّا
«إبداعًا». كل مرة يتصفَّح فيها القارئ النصوص على شبكة الإنترنت يبني مساره الخاص،
ويؤسِّس
علاقاته، ويحدِّد نوعًا من الرحلات الفردية؛ وبالتالي يؤسِّس نوعًا من الدياليكتية
بين
الواقع الذاتي والقراءة، ويحوِّل الاستفادة إلى فعل.
يمكن أن تتجسَّد الروابط والإحالات، والمسارات ذات الطابع الأصلي التي يخترعها القارئ
في
البناء نفسه لإجمالي العمل الفني. مع وجود النص المتعدد الروابط تصبح كلُّ عملية
قراءة فعلَ كتابة.
٤٥
هذا الخلط بين القارئ والكاتب هو تعبيرٌ عن كارثةٍ موجودة بالفعل. ولقد تعرَّفنا
على
ظواهرها في الموسوعات، وقد لاحظها أيضًا بينجامين؛ ولذلك «التمييز بين المؤلف والجمهور
على وشك أن يفقد خاصيته الجوهرية. أصبح وظيفيًّا فقط، ويتفاعل بطريقةٍ مختلفة تبعًا
للحالات.»
٤٦ بالطريقة نفسها يمكن للصعوبة، المرتبطة بفصل الممثل عن الجمهور في التجارب
التي سنُحلِّلها خلال الفصول القادمة، أن تُفسَّر كإعادة طرح لأزمةٍ موجودة بالفعل،
على سبيل
المثال، في الأبحاث حول العروض وحول الحدوث.
وفي حالة الكتابة للمسرح لا يتعلق المنظور هنا بصوت الفن، بل بإعادة تعريف واجبات
المؤلِّف في حالة، والممثِّل في حالةٍ أخرى. وهي مشكلات، كما سبق ورأينا، ترتبط بتمييز
قيمة
العمل الفني في حد ذاته، أحيانًا باستخدام مصطلحاتٍ حواريةٍ مختلفةٍ بين الأصل والصورة،
وأحيانًا في إطار الوجود والمسافة في الخبرة الفنية المعاصرة.
إذن فمحاولات التأثير بين العرض المسرحي والتكنولوجيات الرقمية في السنوات العشر
الأخيرة، وبعيدًا عن تعريف «نوعٍ مسرحيٍّ جديد»، تُعد جزءًا من تحدٍّ مُركَّبٍ واسع
المدى، تحدٍّ
جماليٍّ للألفية الجديدة؛ حيث تتقدَّم التكنولوجيا ليس كوسيلةٍ جديدةٍ للاتصال، ولكن
كأداةٍ
لتحديث الوسائط المتعدِّدة الموجودة بالفعل، على ضوء المكان الجديد للحدث الفني.
والفن هنا لم يعُد ينحصر فقط في تقديم «رسالةٍ» ما، ولكن في التجانس، والعثور على
أداةٍ مناسبةٍ تسمح للجزء الصامت في الإبداع الكوني أن يُسمِعَنا أغنيته. إن الفنَّان
الجديد لم
يعُد يروي لنا قصة؛ فهو معماري في فضاء الأحداث، مهندس في عوالم مليارات من القصص
المستقبلية؛ فهو ينحَت مستخدمًا الافتراضي نفسه.
٤٧