الفصل الثاني
المشهد المسرحي والوسائط الرقمية الجديدة
(١) الواقع الافتراضي كبيئةٍ إبداعية
في بدايات التسعينيات قرَّر بعضُ الفنانين والباحثين، الذين اجتمعوا في جامعة كانساس
(في
الولايات المتحدة الأمريكية)، العمل على إنتاج عرضٍ ينجحون خلاله في دمج الفضاء والممثلين
الفعليين مع أجواء الواقع الافتراضي. وقد تسبَّبَت فكرة إدخال إنتاجٍ مماثل داخل
الملف
الرسمي لجامعة المسرح University theatre في الكثير من
الارتباك؛ حيث إن العلاقة بين المشهد الرقمي والمشهد المادي تبدو علاقةً بعيدةَ الاحتمال
وجريئة. وبعد تنفيذه نال العرض إعجابًا شديدًا، وأصبح العرض الأول في هذه السلسلة،
وما
زال يُعتبر حتى اليوم العرضَ الرائدَ في التجريب في هذا المجال.
ذلك الإجراء الفريد في إخراج هذا العرض، بالإضافة إلى استثمار الأشكال المتعلقة بذلك
العرض، والذي سنعرضُه بتفاصيلَ أكثر في الفِقْرة التالية، كان له الفضل أيضًا في
طرح بعض
الأسئلة ذات الطابع العام.
إن الواقع الافتراضي Virtual reality هو تكنولوجيا
كانت في ذلك الوقت تثير الشكوك أو الاهتمام الشديد، وذلك بسبب الغموض المحيط بمعنى
المصطلح. ترتبط الكثير من المعاني المزدوجة والجذابة (والمضلِّلة) بهذا المصطلح،
وتعوق
إمكانات تحديد تعريفٍ معيَّن له، إلى حد أنه حتى اليوم، لا نستطيع إغلاق الجدل حول
جوهره،
وما يتضمَّنه المصطلح من الناحية النظرية والعملية.
وفي تلك الأعوام، ومع بداية الانتشار التشعُّبي لشبكة الإنترنت، وعندما لم يكن الحاسوب
بعدُ أحد أجهزة المنزل الأساسية، وبالأخص مع محدودية إمكانات معالِج المعلومات وكروت
الجرافيك، كان الواقع الافتراضي شيئًا يشبه الخيال العلمي. أصبحَت الطرقُ التي تصف
السينما والتليفزيون بها ذلك العالَم الرقميَّ الجديدَ طرقًا غامضة ومليئة بالمتناقضات،
متنوعةً ما بين الخوف والأمل. وكانت السينما والتليفزيون والصحافة، تسقُط أحيانًا
في إغراء
هذا الموضوع، وتخصِّص لمناقشة هذه المسألة اهتمامًا كبيرًا، ولكن دون أن يؤثِّر ذلك
تأثيرًا
فعَّالًا في توضيح المصطلحات.
كانوا يربطون بصفةٍ عامةٍ فكرة الواقع الافتراضي بالشاشة والكماليات المرتبطة بالحاسوب،
أو بالأزياء التكنولوجية المُفرِطة التي بمجرد ارتدائها تنقل جسدَنا كله ومشاعرَنا
إلى
العالم الرقمي. وفي هذه الحالات يكون التركيز على إمكانية إلغاء أقصى ما نستطيع من
الواقع اليومي، وأن نصل أجسادَنا مباشرةً بالواقع الرقمي. وجميعُها بالتأكيد افتراضاتٌ
مرتبطة بالاتجاهات الحالمة أو المُبالَغ فيها المنتشرة في ثقافتنا المعاصرة، والتي
تتخذ
شكلًا طموحًا يرتبط بالفكر نفسه الخاص بتجاوز فضاءات الاستقبال الواقعية، ويرتبط
بالفكر
نفسه يوتوبيا تلك الإنسانية التي لها مقَرٌّ فيما وراء الأشياء، وحقيقةٌ تختفي خلف
ما هو
ظاهر. خلال رؤى الحركات الفنية فإن هذا النوع من الواقع الافتراضي يستمر لتخطِّي
أو تضخيم
إمكانات التلقي اليومية في القرن العشرين؛ فهو مكانٌ للمحاكاة غريبٌ تمامًا عن الفضاء
الواقعي الذي تشغَله أجسادنا.
على كل حال، سنجد أنه في كثيرٍ من معالجات الفضاء الافتراضي يُوضَع الإنسان في بيئةٍ
ماديةٍ تمامًا، وتكون لحركاته خاصية المحاكاة القوية للواقع، ولكن لتصرُّفاته علاقة
سببية
وتأثيرية في عالم الحاسوب الرقمي، والذي يتفاعل ويقدِّم ويُعيد تلك النتائج نفسها
من خلال
عملياتٍ آلية على البيئة. إذن فالواقع الافتراضي يتجسَّد كعالمٍ حتمي، مرتبط بالواقع،
خاص
بالإدراك المادي اليومي. وفي هذه الحالة تكتسب المكوِّنات التقنية أهميةً أكبر؛ فالواقع
الافتراضي ليس عملًا فكريًّا، بل أحد إمكانات الواقع.
بالنسبة للبعض، على سبيل المثال، اشتُهرَت بالفعل إمكانية محاكاة قيادة الطائرات
الخاصة بتدريب الطيارين. وفيها يجلس الشخص بداخل تقليدٍ دقيقٍ لكابينة قيادة طائرة
بوينج
٧٤٧، مغلقة في كبسولةٍ محكمة الصنع من المكابس المائية، لا تعتمد تلك الخبرة فقط
على صور
عملية الطيران التي تظهر على الشاشات/النوافذ الصغيرة، ولكن تَم أيضًا استعادة حركات
الطائرة وذبذباتها والأصوات والجهد على تحريك مقابض التحكُّم. يكون موقعُ المحاكاة
عادةً
مناسبًا تمامًا (يتم تجسيده «واقعيًّا») على شاكلة الفضاء الذي تُوجد فيه أجسادنا
فعليًّا.
وفي معالجةٍ من النوع الأول الهدفُ هو إحداثُ خبرةٍ تُعيد الواقع، أما في معالجات
النوع
الثاني فنجد أنفسنا أمام تماثُلٍ دقيق معه. وإذا دقَّقنا النظر فسنرى أن تلك الازدواجية
تتميز
بأهدافٍ مختلفة؛ من جهةٍ مجال التعبير والمعنى والفن، ومن جهةٍ أخرى الدقة المهنية
والتكوين
والكفاءة العملية.
ومن المؤكَّد أن المثالَين المذكورَين يُعتبران نموذجَين مبالغَين للظاهرة نفسها،
ويمكن
بالتالي الخلط بين إجراءات الظاهرتَين، كما يحدث أحيانًا في عالم الملاهي؛ حيث تُوجَد
بعض
حدائق الملاهي التي تسمح باشتراك في مغامراتٍ افتراضيةٍ جماعية فيها. وهناك، على
سبيل
المثال، يمكن العثور على حجرة، ثم عرض صورٍ من بيئاتٍ افتراضية على جدرانها (وغالبًا
ما
تكون ألعابَ حربٍ يحاكي المشاركون فيها معركة حربية)؛ يُمنح اللاعبون أجهزةَ استشعار
ونظاراتٍ خاصة، تساعد على الشعور بأنهم لم يعودوا في الحجرة المغلَقة، بل في وسط
غابةٍ ما،
استوائية مثلًا. وهنا يكون الجسد في علاقة مع الفضاء الواقعي، والذي يشارك فيه بجزءٍ
كبيرٍ من حواسِّه، بينما تغدو الرؤية موضوعَ نوعٍ من الوهم يبدو أنه موجودٌ في مكانٍ
مختلف.
لا يُوجَد حاليًّا مفهومٌ واحد يستطيع أن يحتويَ في ذاته ظاهرة الواقع الافتراضي برُمته؛
وبالتالي نجد تضاعُفًا في تعريفات الظاهرة مع زيادة الإمكانات التقنية، ومع تحديث
الأدوات
التي تعمل كوسائط للمستخدم، انطلاقًا من تطور فنون الجرافيك التي تُقدم بها البرامج
الجديدة على الشاشة إلى ألعاب الكونسول المركبة لألعاب الفيديو، ومن المناسب، في
هذه
المرحلة الاستمرار في ضم الوقائع الظاهرة بدلًا من محاولة تصنيفها تبعًا للنظريات
القائمة.
وكما يذكُر لانس جارافي
Lance Gharavi، تبقى الحقيقة
أن الواقع الافتراضي يرتبط باستخدام التكنولوجيا الرقمية. وبكلمات أخرى يمكن القول
إن
الحاسوب هو العامل الأول في توليد بعض أدوات التحريض الاستشعارية، أو في إدارة البيئة
الاصطناعية، تبعًا للوسيط المستخدم وتبعًا لأهداف العرض (سواء من خلال إعادة إنتاج
شيءٍ
واحد أو عالم بأكمله.
١ وفي دراستنا هذه يهمنا فقط أن نوضِّح أن الواقع الافتراضي، كجزء من الوسائط
المتعددة الرقمية، يرتبط ببيئة التمثيل، ويحاكي أو يبدع واقعًا من خلال استخدام تقنياته
المحدَّدة؛ وبالتالي يكشف هذا الواقع عن علاقاتٍ مثيرة للاهتمام مع فن المسرح.
حظي تحليل الاتصالات المتعددة الوسائط والرقمية، كما حدث بالفعل في مجال السينما
والسمعيات والبصريات، باهتمام دارسي السيميوطيقا. وتأسَّس التناول على تصنيفات وأساليب
تفسيرية نابعة من دراسة السينما، وهو الأمر الذي يعني أن الوسائط المتعددة الرقمية
على
صلةٍ وثيقة بعلم السمعيات والبصريات، وربما تمثل جزئيًّا تطوُّر هذا العالم. ولقد
رأينا كيف
أن هذا حقيقيٌّ فقط جزئيًّا؛ فنحن نرغب هنا في أن نؤكِّد، فيما يتعلق بأهدافنا، أن
هذا
الانتماء الخاص بالوسائط الرقمية الجديدة إلى عالم السمعيات والبصريات هو أمرٌ يجب
مناقشته. إن الواقع الافتراضي، بصفةٍ خاصة، يشير بوضوحٍ إلى بُعد المسافة بينه وبين
الوسائط
السمعية والبصرية، وهو يتناسق أكثر مع الأهداف التي سبق وذكرناها، الخاصة بعلاقة
الرقمي
بالتمثيل المسرحي.
ولنعهَد، قبل كل شيء، بتعريف «التمثيل» تبعًا للخصائص المعروفة والصالحة عامة؛ فيمكننا
بذلك أن نقصد «تمثيل» وظيفةٍ أساسية لكل اللغات. ونقصد هنا، بصفةٍ خاصة، أن كل وسائل
العرض
التكنولوجية المتوفرة ستصبح لها وظيفةٌ تمثيلية موجهة للتعبير عن الموضوع، والتي
تميل
لعملية إعادة إنتاج أقرب ما تكون للواقع.
ونضيف أيضًا أنه ليس بالإمكان تحديد فكرة الواقعي بهذه السرعة، وفي مصطلحاتٍ دقيقة
من
الناحية الموضوعية؛ فالطرقُ التي يمكن من خلالها اعتبار وتفسير فكرة الواقعي طرقٌ
مختلفة،
وغالبًا تكون نتيجة لما نعتقده، ولرأينا الخاص، أو للطبيعة نفسها التي نجادل بها.
والسؤال
يحتوي في طياته على نبراتٍ غير محدَّدة وغير واضحة حتمًا، وبالتحدث عن تمثيل الواقعي
علينا
بالضرورة أن نلجأ إلى معطيات مثل التشابه والتماثل مع الواقع؛ فالأجواء المعلَّقة
بالكامل
في بعض لوحات جوفاني بيلِّيني، أو محاكاة قطاعات الضوء الجريئة لكارافاجو، هي مجرد
مثال عن
كيفية ابتعاد التمثيل الواقعي عن الطبيعة.
وبعيدًا عن كونه مجرد إعادة إنتاجٍ دقيق علينا أن نعتبر التمثيل عملية استبدال، «تأسيس
شيء يكاد يؤدي إلى (…)؟ وفي الوقت نفسه فإن التمثيل يعني إذن الإثارة والإلغاء، تنفيذ
عملية تجمع بين الحضور والغياب.»
٢
وفي كل عملية تمثيلٍ ليس الهدف هو مجرد استعادة الموضوع، ولكن تأسيس نظام علامات يبني
صورةً جديدة، والتي تُحيل بدَورها للموضوع. وهي بالتالي أسسُ السيميوطيقا، وأداة
العرض التي
عليها، على سبيل المثال، تعمل لغة الكتابة، ولكن الأمر ينطبق أكثر على عملية التمثيل
التي تعتمد على الصورة.
إن التمثيل التصويري، والذي يستهدف حركة العين (مثل ذلك الذي يعتمد على الأذن) ليس
مجرد تمثيلٍ بسيط، ولا مجرد تقليد/تقديم بصري، ولا حتى يتماثل مع ما يشير إليه؛
عادةً
ما يُدعم بفكرةٍ ما، والتي عادة ما تتجاوز إبعاد الصورة والمرئي، وتمتد لكل ما يتعلق
بالعلاقة المعرفية للإنسان مع الكون.
٣
ليس بالإمكان تمثيل أي شيء، حتى عن طريق التصوير، إذا لم يُوجَد على أساس هذا الشيء
نموذجٌ تفسيري لذلك الذي نرغب في تمثيله. فكل تمثيل، وبصفةٍ خاصةٍ ذلك التصويري،
يعتمد على
اشتراك الأعراف التفسيرية بين من يؤدي ومن يشاهد، وفي عملية التمثيل المسرحي وسيلة
العرض
هي أداة التنفيذ. عادةً ما يستعدُّ المتفرج الذي يقصد المسرح لأن يعلِّق شكوكه لمدة
ساعة أو
أكثر، وأن يتخلى عن ذلك الشرط الذي يربطه مع واقعه اليومي، وأن يترك نفسه ليندمج
مع تلك
الصور والمشاعر المقدَّمة أمامه على خشبة المسرح.
والواقع الافتراضي يبسط المسافة بين مصطلحات هذه العلاقة بين المادي والخيالي، بواسطة
ذلك الذي سيُطلق عليه خاصية انغمار الأداء. إن الانغمار هو جزءٌ مرتبط بإرادة واعتقاد
المستخدم بأنه موجود بالفعل، في تلك اللحظة المحدَّدة، بداخل بيئةٍ ولَّدَها الحاسوب،
ولكنها
تنتُج في أغلب الأحوال، من الطريقة التي يُدرك بها هذا الواقع؛
٤ حيث إن تأثير الواقع الافتراضي يعود إلى تلك التركيبة المكوَّنة من الإرادة
والإدراك.
وإلى هنا ربما لا تزال المسألة مختلطة بحيث لا تظهر اختلافاتٌ جوهرية بين الوسيط
الرقمي الجديد والسمعيات والمرئيات أو السينما، ولكن بالعودة إلى المنظور السيميوطيقي
يمكننا أن نقول إن الواقع الافتراضي أيضًا يتحدث بلغةٍ تربط بين سلسلة من الصور الفاعلة.
والنتيجة بالتحديد هي أن الديناميكية بين التعبير (معنى النص) واللاتعبير (الأداء
الذي
تقوده الحواس)، تُدمج في علامةٍ واحدة، هي في حد ذاتها حدوث الفعل. يلزم في التمثيل
التصويري وجودُ جهازٍ له مغزًى يلعب على الوجود/الغياب، فهو يُبرز الإيهام عن بُعد
(سواء
زمني أو مكاني) لموضوع العرض. تكون الصورة في المجمل، في حد ذاتها، موضوعًا واقعيًّا،
إذن لا
يمكن أن يصبح الموضوع الممثل (المسافة)؛ والواقع الافتراضي أيضًا، مثل الصورة الرقمية
(التي تحوَّلَت لرقمية)، لا وجود له على الرغم مما نراه؛ إنها التعليمات الحسابية
التي قام
برنامجٌ معيَّن (برنامج حاسوبٍ خاص بإعداد الصور، أو وحدات ثلاثية الأبعاد يمكن توصيلها
plug in) بقراءتها، ليُعيد لنا التمثيل البصري للشيء. إنه
إجراء، يحدث أمام أعيينا في تلك اللحظة، وإدارة العمليات تعني الحركة الدائمة، والتحوُّل
الدائم.
٥ يتكون كل هذا من بايتس
bits، لا يُوجَد له
شكلٌ موحَّد، يصبح قابلًا للتعديل، إنها دعوةٌ مستمرة للتغيير.
إذا كان الواقع الافتراضي يستعيد التمثيل بواسطة سلسلة من الأفعال المتتالية، وإذا
كان ذلك يحدث بواسطة سلسلة من الإجراءات التي تتم في اللحظة نفسها (في الزمن الواقعي)
فمن
الواضح أن تلك الأفعال تتغير تبعًا للمعطيات والأوامر التي تُزود بها الآلة؛ فلو
نُفذَت
العملية في اللحظة نفسها التي فيها نشاهد النتيجة، لا يُوجَد سببٌ يمنعها من أن تختلف
في
كل مرة. والتنوع هنا وليد الإرادة، على سبيل المثال، على أساس الأوامر الخارجية من
المستخدم. ينتُج عن ذلك السلوك اندماجُ المتفرج تبعًا للنموذج المعروف كنوعٍ تفاعلي،
والذي
يصبح فيه الأداء مزدوج الإرادة.
يتطابق إذن الواقع الافتراضي مع الوسائط المتعددة الرقيمة ليس فقط من حيث الجانب
التقني (استخدام الحاسوب)، ولكن أيضًا فيما يتعلق بأنظمة الإنتاج، بل يقترب من أن
يصبح
وسيلة تمثيل.
حتى يومنا هذا لا تُوجَد استاطيقيةٌ خاصة بالواقع الافتراضي، ولكن التطورات التي يمكن
ملاحظتُها حاليًّا تشير إلى وجود مركزية لمكوِّنات التفاعل مع المستخدم. إن التمثيل
الافتراضي يكتسب فاعليةً إذا نُفذ على درجة تسمح بالتفاعل الحر مع البيئة، تبعًا
للنماذج
التي تقلِّد الحوار بين الذات والموضوع في العالم الواقعي. منح عرض الجرافيك وواجهة
العرض
الخاصة بالحاسوب في تلك الأعوام الأخيرة اهتمامًا متزايدًا لتلك القيمة، إلى حدِّ
أنه حوَّل
فرضية ذلك الواقع الافتراضي السلبي إلى تجاورٍ حقيقي وفعلي للتضادات؛ حيث يبدو أن
العالم الافتراضي خُلق لحث نشاط المستخدم؛ وبالتالي تبدو العلاقة بين الإنسان والآلة،
في هذه الحالة (علاقة سبب/تأثير)، علاقة تَتالٍ مستمرٍّ للفعل، علاقة لا متناهية،
علاقة فعلٍ
وردِّ فعلٍ غير منتهية.
وجود شاشة تليفزيون مفتوحة في وسط الصالة، بينما نحن، على سبيل المثال، نقف في المطبخ
لإعداد الغذاء، هي استمرارية في الأداء، تمامًا كما وكأننا نجلس أمامها على الأريكة
لمشاهدة الإرسال. إذن فالجهاز ما زال يحتوي على أقل حدٍّ ممكن من الأداء؛ حيث يُعرض
حدثٌ آنَ
أو انتهَى بالفعل في مكانٍ آخر؛ إنه وسيلة لنقل الحدث من جانبٍ واحد. إن شاشة الحاسوب
المفتوحة دون مستخدمٍ تصبح ثابتة، لا تفعل أي شيء، لا ترسل، ولا تبُث أي شيءٍ آخر،
باختصار، لا وجود لها إلا من خلال العلاقة مع المستخدم.
٦
وفي هذه الحالة أيضًا يمكننا أن نُفسِّرَ هذه المشكلة بشكلٍ مبالغ فيه، لنحاول أن
نوضِّح
الاختلافات وأوجه الغرابة؛ ففي هذه العملية تعيش وسائل الإعلام في عملية عَدْوى مستمرة
فيما بينها. والتليفزيون الرقمي الذي يعمل على طريق القمر الصناعي يسمح لنا باختيار
الأخبار التي نرغب في رؤيتها، واختيار الفيلم الذي نرغب في مشاهدته. وأصبح الحاسوبُ
بدوره
يشابه بطريقةٍ أسرع طرقَ العرض، ولم يبقَ علينا سوى الاعتياد على دور المشاهد. ولكن
مما
لا شك فيه أن انتشار أجهزة الحاسوب المنزلية في السنوات العشر الأخيرة، وتطوُّر الوسائط
والتأثُّر بسوق العرض قد أوضح أهمية تدخُّلات المستخدم في مجال الاتصالات الرقمية.
إذن فالواقع الافتراضي باشتراكه في ملء جوهره، سواء من ناحية خاصيته وخصائصه كوسيطٍ
متعددٍ رقمي (حدث يتم هنا والآن، في علاقة مع عميل أو أكثر، والإحالة الذاتية للتمثيل)،
يؤسس بذلك بعض الروابط الرئيسية مع المسرح.
٧
طوَّرَت البرامج كلها حاليًّا، وسائطَ تصويريةً تبعًا لنظام الاستعاضة عن هذا بذلك
(أو الشيء بالشيء)؛
٨ فمثلًا تُوضَع صورة السلة بدلًا من أمر «الإلغاء» وصورة ملف بدلًا من «الدليل»،
وبصفةٍ عامة تُوضَع سلسلة من الرموز المجازية التي تمثِّل الفعل الذي نرغب في تنفيذه.
إن
زيادة ثقتنا في أنفسنا في البيئة الرقمية تسمح للوسائط المجازية بأن تتطور، لتظهر
في
أشكالٍ أكثر تعقيدًا، كما حدث في السينما مع المونتاج من قبلُ.
سمح إذعان الجمهور، وتطوُّر الدراما الفيلمية للممثلين، بأن يتجاوزوا ما يمكن أن نُسمِّيَه
المونتاج الهوليوودي التقليدي، لتزيد جرعة التناقضات والقفزات، دون أن يفقد المشاهد
مراكز
الإحالة الروائية. يمكن بالطريقة نفسها أن تصبح هناك خططٌ روائية جديدة تقود المستخدم
للفعل الذي يرغب في تنفيذه.
ومن الممكنِ افتراضُ أن لغة الحكي الرقمية سوف تصل إلى درجة من التطوُّر تتجاوز المعرفة
المجازية، وتستبدلها بتلك الافتراضية. «إن التخطيط لشيءٍ افتراضي يتم ليس فقط في
إطار
الأشياء المشتركة مع ظواهر العالم الواقعي، ولكن في إطارٍ صِرفٍ لتلك التركيبات المفهومية
والإدراكية.»
٩ لننتقل من إعادة إنتاج الظواهر الواقعية إلى تلك الآليات المرتبطة
بالفانتازيا والخيال. وبهذه الطريقة فإن الافتراضي يوسِّع حدود التمثيل الرقمي.
يوجد إذن حدٌّ يفصل بين استيراد الأشكال المجازية من خبرتنا اليومية ومحاكاة بيئةٍ
مجهولة ومتخيَّلة. إنه نموذجٌ مفهومي للعلاقة بين الإنسان والآلة، تلك العلاقة المنتشرة
بالفعل في مجال ألعاب الفيديو، ولكن ربما تصلُح أيضًا في الإطارات الأقل ارتباطًا
للمحاكاة؛ وبالتالي بالإطار الافتراضي. وبتطبيق ذلك على بنك المعلومات
database على سبيل المثال، وأيضًا في الإبحار في شبكة
الإنترنت، كانت فكرة البحث عن شيءٍ ما أساسية دائمًا؛ وبالتالي بات التركيز دائمًا
على
المحتوى، وعلى المعطى الذي يجب العثور عليه. لنتخيَّل إذن كيف لخبرتنا أن تتغيَّر
إذا ركَّزنا
في العملية نفسها، وفحصناها، وعشنا فيها كمغامرة بدلًا من التركيز عما نبحث عنه.
١٠
لا أريد هنا أن أدفع بالحوار إلى افتراضاتٍ ربما تحوِّل مسار موضوعنا، ولنكتفِ
بأن نؤكِّد أنه في الواقع الافتراضي تبدو مفاهيمُ التمثيل والتفاعلات مرتبطةً بشدة
فيما
بينها، بل ويكون للتفاعل تعريفٌ أكثر تركيبًا. وإذا اتفق الجميع على أن تلك الخبرات
في
تلك المجالات الرقمية يمكن أن تصبح تفاعلية، فسيبقى دائمًا الخلاف حول درجة هذا التفاعل.
وكما يقترح لانس جارافي من الأفضل عدم محاولة قيادة المناقشة في إطارٍ يحاول أن يقتصر
على تصنيف الأحداث والأدوات والأفعال، ولكن من الأفضل تعريف التفاعلية في إطار
استمرارية الدرجات التي يمكن الصعود عليها (بطريقةٍ تفاعلية إلى حدٍّ ما)، بدلًا
من اللجوء
إلى المعارضات (تفاعلية أم غير تفاعلية).
١١ وبكلماتٍ أخرى من الصعب تمييز حدودٍ قاطعة
بين ما هو تفاعلي وما ليس تفاعليًّا،
بينما يمكن تحديد هيكلٍ كمِّي لتبادل الاتصالات.
بالإضافة إلى ذلك فإن الواقع الافتراضي، في طبيعته الإجرائية، شديد المرونة، ولا
يمكن
تعريفه إلا بمعاييرَ متداخلة. وكما يذكُر جارافي باستمرار، يمكن فحص ثلاثة أنواعٍ
متغيرة،
وهي: تركيب الصورة، وحقل الرؤية، وتكرار التحديث.
١٢
ومن وجهة النظر التقنية فإن هذه الأنواع المتغيرة والمرتبطة فيما بينها، ليست كافية،
ومن الضروري اقتراح بدائل مثل درجة التفاعل مع المستخدم، عدد المستخدمين الذين يمكنهم
التفاعل مع العرض، درجة العلاقة مع الواقع الملموس. وفي هذا السياق نجد أن تركيب
التعريفات من وجهة النظر التكنولوجية يقودنا إلى تحديد بعض الإشارات المناسبة أكثر
لسياق بحثنا. وفي نهاية هذا التحليل الملخص نستطيع إذن أن نصف الواقع الافتراضي كحدث
يتم في الزمن الواقعي، ويتمحور تبعًا لدرجات التفاعل المختلفة مع المستخدم، يغمره
في
تقديم بيئةٍ واقعية أو خيالية تُحدد على أساس التقاليد المتعارف عليها بين الممثل
والجمهور. تبعًا لتلك الترتيبات تتطوَّر تجارب الإخراج، والتي حاولَت نوعًا من الخلط
بين
المشهد المسرحي والعالم الافتراضي.
(٢) الجسد الواقعي والمشهد الافتراضي
منذ فترةٍ ومهنةُ السينوغرافيا تتطلب، على الأقل في حالة الأفلام الضخمة الإنتاج،
اعتيادًا
معينًا على التكنولوجيا الرقمية. وفي المسارح الكبيرة يمكن أن نجد حركات المياه على
المسرح والخلفيات، بالإضافة إلى المؤثِّرات التقنية الضوئية وعروض الفيديو تُدار
ويُتحكم
فيها من خلال مراكزَ رقميةٍ صغيرة. في جامعة كانساس بدأ السينوغرافي مارك رياني تجريب
التطبيقات الممكِنة للتكنولوجيا الرقمية، والتي يمكن استخدامها في الإخراج المسرحي
منذ
عام ١٩٨٧م. ولجأَت تجاربه المهنية، وبالرغم من أنها كانت تدور كلها في إطار الإنتاج
الذي
يمكن أن نطلق عليه لفظ «تقليدي»، إلى استخدام الحاسوب أكثر من مرة. وبفضل برامج
الحاسوب المتطورة الخاصة بالمشروعات المعمارية للمباني والتصميم الداخلي، تمكَّن
السينوغرافي من استخدام التكنولوجيا الرقمية والرسوم الثلاثية الأبعاد بصفةٍ خاصة
كأداة
لتنفيذ اسكتشات السينوغرافيا. وباجتياز الصعوبات الأولى (لنتذكر أن في تلك الأعوام
لم
تكن تلك البرامج منتشرةً مثلما هو الحال اليوم) كان يمكن للسينوغرافي أن يقدِّر مرونة
المشاريع المعدة بواسطة استخدام هذه التقنية.
فلنتخيَّل أننا نخطِّط سينوغرافيا في مسرحٍ سحري. أرغب القول في مسرحٍ سحري أكثر
من
المعتاد. ولنتخيَّل أنه بجلوسكم في مكانكم المفضَّل يمكنكم أن تشاهدوا مشهدًا سبق
إعداده قبل
بضعِ دقائقَ فقط، ولكن يبدو لكم أن الحائط الأيسر لخشبة المسرح يجب أن يرتفع نصف
متر،
ويجري أحد التقنيين الخفيين (غير المرئي) ليُطيل السينوغرافيا الخطأ لتصبح في الطول
المطلوب. وبعد بضعة تعديلاتٍ أخرى، تلاحظون أن لون البانوراما ليس كما تخيَّلتموه،
عندئذٍ
يبدأ الرسم في التغير من لونٍ إلى آخرَ حتى يتفق مع ذوقكم، ولكن المناخ نفسه ليس
هو
المطلوب. تعطون أمرًا لعاملِ كهرباءَ سحري، وفي لحظةٍ واحدة يصبح المشهد كله مغطًّى
بلونٍ
أزرقَ ناعمٍ، تضيفون ضوءًا أبيضَ خفيفًا من أحد الجوانب، ويكتمل المشهد، ولكن حان
وقت التحكُّم في
الرؤى. بضغطةٍ واحدة من إحدى أصابعكم تنتقلون إلى مكانٍ آخر في أحد أقصى جوانب المسرح.
وبحركة من اليد تبدَءون في الارتفاع حيث يُوجَد البلكون. وبعد ذلك تستمرون في الارتفاع
حتى
تصلوا إلى السقف، وهكذا يمكنكم رؤية المشهد مثل ماكيت. وحتى تخرجوا من تلك الأرض،
أرض
اللاشيء، أمرٌ غاية في البساطة؛ فبدلًا من أن تدقُّوا على كعوب أحذيتكم، أو تخرُجوا
من
مرآةٍ سحرية، يكفي ببساطة أن تنزعوا عنكم خوذة الرؤية، وأن تُطفِئوا الحاسوب؛ حيث
قمتُ بتصميم
السينوغرافيا الخاصة بكم في الأرض الخيالية الإلكترونية للواقع الافتراضي.
١٣
إلى هنا نجد أن السينوغرافي يُقدِّر الواقع الافتراضي كأداة عمل، ليرى بأفضل طريقةٍ
ممكنة
النتيجة النهائية لاسكتشه الخاص. أدرك رينيه Reaney أنه
يمكن من خلال التكنولوجيا المتوفرة في الأسواق، أو المصنَّعة خصوصًا لهذا الهدف،
أن يسمح
للراغبين في أن يعيشوا خبرة الواقع الافتراضي؛ بأن يرتدوا خوذةً لها مقدِّمة من الكريستال
السائل، والمصنَّعة للإبحار في الأجواء الافتراضية، وأحيانًا أيضًا قفازًا خاصًّا
(قفازًا
للمناورات في العالم الافتراضي) لبعض الحركات، والتحرك في ذلك الذي يبدو وكأنه البيئة
الفعلية، وكما سيتم تنفيذه على خشبة المسرح.
ولتحسين فعالية العمل في مشروعي وضعتُ نظامًا ابتدائيًّا للواقع الافتراضي. كان ذلك المعمل
الخاص بمشاريع المشاهد المصنوعة من الواقع الافتراضي، بنيتُه وانطلق من حاسوبٍ شخصي
ماكنتوش.
وكانت الأجهزة (أجهزة الهاردوير) الخارجية تتضمن بعض الوسائط المساعدة على الغوص في
الواقع الافتراضي، مثل بعض خوذات
HMD المُصنَّعة في
المنزل، ونظَّارات، ومكبِّر للشاشة ذي العدسات العريضة ذات الزوايا
(
FOV) التي صنعتُها خصوصًا لهذا الغرض.
١٤
وفي محاولة تقريب المسافة بين الاسكتش السينوغرافي والتأثير الفعال للمشهد المبني
فعليًّا، بدأ رينيه في عام ١٩٩٣م، بتجريب إعادة إنتاج الأجواء الثلاثية الأبعاد بحجمٍ
طبيعي على خشبة
المسرح. وكانت الفكرة في البداية هي عرض صور الواقع الافتراضي على الشاشة الكبيرة
في عمق
خشبة المسرح؛ بحيث تصبح لدى المخرج نفس الرؤية عن كيفية ظهور المشهد في البيئة المقصودة،
وبداخل إطار خشبة المسرح. اتضح أن تلك التجربة لم تكن سهلة، وأن التنفيذ كان معقدًا
جدًّا
وبعيدًا عن هدفه، ولكن أدرك رينيه أنه ستصبح في المستقبل إمكانية نقل البيئة الخاصة
بالواقع الافتراضي مباشرة إلى خشبة المسرح في عرضٍ فعلي. إذن، لن يصبح الواقع الافتراضي
بعد ذلك مجرد أداة عملٍ بالنسبة للسنيوغرافي، بل طريقة جديدة لإدراك واستيعاب الفضاء
المسرحي.
ولقد دفعَت الخبرةُ الخاصة كسينوغرافي، وسحرُ العلاقة بين الواقع الافتراضي والتمثيل
المسرحي، وبطبيعة الحال، التنافس العلمي الذي زاد في الأعوام الأخيرة، دفعَت كلُّ
هذه
العوامل برينيه لأن يخطِّط لمشروع إنتاج عملٍ فني، سيعمل كحقل دراسة وفي الوقت
ذاته كاقتراحٍ عملي. وبالفعل في الشهور الأخيرة من عام ١٩٩٣م بدأ رينيه، بالاشتراك
مع
المخرج رونالد ويليس Ronald A. Willis، في العمل في
فكرة أحد العروض الذي يشترك، نصُّه وممثِّلوه وتقنيَّته، في بناء واقعٍ افتراضيٍّ
يتكامل مع
السلوك الاتصالي الشائع.
وفي ربيع عام ١٩٩٥م أنتج رينيه، بالاشتراك مع رون ويليس، عرض الآلة الحاسبة؛ مشروع
واقعٍ
افتراضي The adding machine: Virtual Reality
Project ربما كان الأمر يتعلق بالمحاولة الأولى لاستخدام
الواقع الافتراضي، في عرضٍ مبني على نص درامي — العمل المنتمي للنزعة التعبيرية لإلمر
رايس Elmer Rice — وذلك من خلال استخدام ممثلين واقعيين.
وكانت هذه هي أيضًا المناسبة التي تم فيها إنشاء معهد اكتشاف الواقع الافتراضي
Institute for the Exploration of Virtual Realities (.i.e VR)، وهو المعهد الذي ما زال يعمل تحت
مظلة جامعة المسرح في جامعة كانساس University Theatre dell’Università del Kansas. والتجريب التكنولوجي يجب ألَّا يكون محايدًا
بالنسبة للمحتوى الفني للعرض المسرحي، ومثلما يمكِن لمشهدٍ مسرحيٍّ تقليدي يعتمد
على حواجز
الشرفات أن يُنفَّذ جيدًا في صالةٍ برجوازية على طراز إيبسن، فإن النص المختار لا
بد وأن
يحتوي في ذاته على عناصرَ تتفق مع خصائص الواقع الافتراضي. إن مرونة الواقع الافتراضي
تبدو رائعة، على سبيل المثال، في منح تغييراتٍ سريعة ومستمرة للمشهد. من المناسب
إذن
اختيار عملٍ يتطلب تعدُّد المشاهد وتغييرها في تتابعٍ سريع. وكانت هناك أيضًا مشكلة،
ذات
طابعٍ تقني، وهي المتعلقة بمحاكاة الواقع من خلال الواقع الافتراضي؛ فمن المؤكَّد
أن اليوم
يُمكِن لرسمٍ ثلاثي الأبعاد أن يطوِّر تعريف التفاصيل؛ حيث إنه ينجح في تقليدٍ يصل
إلى الكمال
تقريبًا للصورة الحقيقية، ولكن منذ عشر سنوات كانت تكلفةُ مشروعٍ مثل ذلك محبطةً
للغاية،
بالإضافة إلى ذلك، كان الواقع الافتراضي بالنسبة للممثلين يبدو فقيرًا، إذا تم استخدامه
كمجرد بديلٍ لتغطية غياب مشهدٍ ثلاثي الأبعاد فعلي، وديكورٍ حقيقي، وكانت البدائل
الأكثر
إثمارًا في المشهد تتكوَّن من زيادة التأثير الحقيقي وتبنِّي وجهةِ نظرٍ خيالية وهمية.
وكما يذكر جارافي، كان رينيه وويليس حريصَين على ألا يصبح العرض مجرد «حالة عرض»
Showcase من الخدع والمؤثِّرات التكنولوجية، كانا يبحثان
عن نصٍّ يمكن من خلاله أن يصبح موضوع التكنولوجيا أيضًا حافزًا للتفكير في الخبرة
الإنسانية، نصٍّ يكون فيه استخدام الواقع الافتراضي شيئًا ضروريًّا وليس مُقحَمًا.
بعد بضعة أشهرٍ من التفكير يتفقان على نص «الآلة الحاسبة»
The adding
Machine لإلمر رايس
Elmer Rice.
١٥
والنص الذي نشرَتْه عام ١٩٢٣م، دار نشر ويليام هينمان
William
Heinemann وعُرض على خشبة المسرح للمرة الأولى، في العام نفسه، على مسرح
Theatre Guild في نيويورك، يُعد نموذجًا كلاسيكيًّا لتأثير النزعة
التعبيرية الألمانية
Guild على الدراما الأمريكية. وقد
استمرَّ عرضُه بنجاحٍ في تلك السنوات، إلى حد أنه تحوَّل إلى فيلمٍ سينمائي عام ١٩٦٩م.
١٦ والمشاهد السبعة التي تنقسم إليها الدراما تدور في سبعة أماكنَ مختلفة؛ حجرة
نوم ومكتب، صالة الطعام والمحكمة، المدفن ولوحة رعوية، وأخيرًا مكتب آخر. وباختصار
فالعرض يحكي مآسي السيد «صفر»، بطل المسرحية، وكيف يحاول هو أن يبحر بين إحباطات
الحياة
اليومية الغريبة والمجنونة، وبين عالمٍ آخر فيه لا يستطيع أن يجد نفسه ولا أن يتأقلم.
بعد أن قام لمدة خمسة وعشرين عامًا بأداء عملِ حساباتٍ مملٍّ ويتَّسم بالتكرار، يُفاجأ
صفر
المسكين برئيسه في العمل يرفتُه، ببساطةٍ قاسية ووحشية؛ حيث إن حصوله على آلةٍ حاسبةٍ
آلية
يُغني عن وجوده. وفي المشهد التالي ننتقل إلى منزل «صفر»؛ حيث كان يستقبل هو وزوجته
السيدة «صفر»، زملاءه في المكتب وزوجاتهم (وكانت أسماؤهم السيد «واحد» والسيدة «واحد»
وهكذا)، ولكن فجأة تقتحم الشرطة المنزل، وتعلن القبض على السيد «صفر» بتهمة قتل رئيسه
في
العمل. ويستمر العرض بالمحاكمة، التي لا ينكر فيها المتهم مسئوليته، ويتم الحكم عليه
بالإعدام، ومن هنا تبدأ رحلة السيد «صفر» إلى العالم الآخر. في البداية في المدفن؛
حيث
يعقد صداقةً مع شخصٍ قتل أمه، ثم في أحد الأماكن الشبيهة بجنة عدن؛ حيث يلتقي من
جديد
بدايزي، زميلته، وربما حبيبته.
ويبدو أن الأشياء أخذَت تُحل بطريقةٍ إيجابية؛ حيث إن السيد صفر يمكنه أخيرًا أن يحصل
على السلام والتناغم في الفردوس، بعد المعاناة التي عاناها على الأرض، غير أن صفر،
بدلًا
من أن يستمتع بصفاء الفردوس، يشعُر بالتوتُّر، وبعدم الارتياح وذلك بسبب افتقاده
للأوامر
والتعليمات التي تقودُ حياته. يصبح مثل الحيوان الذي وُلد ونشأ في الحبس، والذي يفقد
اتجاهه خارج القفص، وفي إطار الحيوية المطلقة الممنوحة له، لا يستطيع الإنسان، أسير
عمليات الاستغلال الرأسمالية، أن يتعرف على ذاته. وفي المشهد السابع والأخير نجد
«صفر»
وقد عاد من جديدٍ لينهمك في حساباتٍ وفي عملٍ تكراري؛ لقد عاد مرةً أخرى، ليحاكي
الآلة
الحاسبة في أدائها الإنتاجي الصِّرف. وقبل نهاية المسرحية بقليلٍ نكتشف أن رُوحَه
ستُبعث إلى
الأرض مرةً أخرى، وأنها ربما ستعود إلى هناك كروحٍ أسيرةٍ لشخصٍ أو لشيءٍ ما؛ لأنه
لا يمكن
لأحد أن يحرِّرنا إذا رغبَت أرواحُنا البقاء في العبودية.
إن تركيب النص والحوارات والتصميم والشخصيات تتميَّز بخصائص لعملٍ جدير بالبحث.
تبدو الحوارات كتصريحات، وقلَّت الكثافة النفسية إلى أدنى الحدود، العلاقات تبدو ثابتة
وأساسية
(بخلاف العلاقة بين صفر ودايزي؛ حيث تتغير العلاقة من الضغينة إلى الانجذاب). وأجواء
الأحداث، في جزءٍ كبيرٍ منها، غير واقعية ومتخيَّلة، وبالرغم من أنها مرتبطة بأماكنَ
واقعية
من الحياة اليومية إلا أنها تمثل العلامة الواضحة للجنون أو للكابوس. إنها نظرة الهلوسة
التابعة للنزعة التعبيرية، والتي نراها في الحدث. حجرة النوم عارية بشكلٍ غير طبيعي
وبلا
أي ديكور؛ حجرة المكتب ليست أكثر من مائدة مكتبٍ موضوعة على بساطٍ يحيط بها بحوائطَ
عاليةٍ
رمادية اللون؛ حجرة الطعام مختزلة في شكلٍ هندسيٍّ لموائد ومقاعد؛ كل المدعوِّين
في حفل
استقبال صفر وزوجته يرتدون ملابسَ متشابهة، وكأنهم جنود في جيشٍ كئيب. يسود الأجواءَ
جوٌّ
مأساوي، غير إنساني، يظهر فيه الفرد مسحوقًا أسفل النظام. عندما يرفتُ المدير «صفر»
يبدأ
البساط الموضوع أسفل المكتب في الدوران ويختفي في الخلفية، بينما تقتحم أصواتٌ متناغمة
ضوضاء آلية الفضاء وتغطِّي على أصوات الممثلين؛ يكشف مجتمع الآلات عن حقيقته كوحشٍ
جديدٍ
مفترس الأرواح بأن يبرُزَ ببطءٍ على المشهد؛ فهو يبتلع وجود البطل، ويرسم بداية المصير
المأساوي.
تتخلل جوَّ العمل المسرحي كله إشاراتٌ رمزية وضمنية. بالنسبة للمؤلف تجد مخاوفه من
الصراع الطبقي والخوف من عملية نزع الجانب الإنساني عن العمل، وكون الخبرة الإنسانية
الخالية من التضامن وقتية، كل هذه المخاوف تجد في أسطورة الآلة رمزًا واضحًا وفعَّالًا.
كل هذا تتخلله أيضًا نظرةٌ ساخرة للبطل، وذلك البطل الذي هو أحد تُروس الآلة؛ وبالتالي
يمكن لها أن تنزع عنه وظائفه الإنتاجية الخاصة.
ذلك الجو الموحي بكابوسٍ مزعج، وأسطورة الآلة العدائية، والشخصيات التي تتحرك كالآلات
بلا روحٍ؛ كلها عوامل تبدو متناسقة تمامًا، ومناسبة لاستخدام الواقع الافتراضي، والذي
كان
مجالًا ممتازًا لإعداد سلسلة من إعادة الصياغة والتأمل وكأنها لعبة مرايا غير منتهية.
إن الضيق من عالمٍ يزداد عداوةً وغربةً يومًا بعد يوم، يزداد بقوةٍ عندما ينجح الإخراج
في كسر
وحدة التلقِّي المتعلقة بالواقع، وينقل الجمهور لكابوسٍ تكنولوجي.
وقد اتبعَت العملية الإنتاجية للعرض المسار التقليدي؛ وبينما يعمل المخرج مع
الممثلين حول تفسير وتقديم النص، كان السينوغرافي يُعد المشاهد. ومن الطبيعي أن يتناسق
مشروع المشاهد مع تنفيذ أجواء الواقع الافتراضي في الحاسوب، وإعداد الأدوات اللازمة
للعرض على خشبة المسرح، فقرَّر استبعاد كل ما له صلة بالسينوغرافيا العادية الواقعية
(الأدوات، والأثاث … إلخ)، ولا بد من غَمْر الممثلين على خشبة المسرح في جوٍّ افتراضيٍّ
مطلَق،
تشكيليٍّ وقابلٍ للتحول.
كان لا بد وأن يكون عالمًا تخيليًّا يعلن عن خصائصه الرقمية، ويوضِّح على الفور عنصر
الصورة
Pixel كعاملٍ مضاد للمادة؛ ولكن بالأخص لذلك العالم
الخيالي، والذي لا بد وأن ينفَّذ في الحاضر. بالإضافة إلى الرغبة في تحويل اتجاه
الرؤية، فإن
هذا الاختيار يشير أيضًا إلى نزعة الإحالة الآلية للحدث.
عندما نتحرك بداخل الأجواء الافتراضية، مثلما حدث في بعض ألعاب الفيديو، ونتحرك
بداخلها من حجرة إلى أخرى، يكون لدينا الانطباع أننا ندخل في أجواءٍ موجودة مسبقًا.
ولكن
الحقيقة أن معالج الحاسوب يقوم بسرعةٍ بخلق الصور أمام أعيننا على أساس القواعد التي
تم
إرساؤها في تلك البيئة وذلك المجال. لا يُوجد فضاءٌ بصورته المرئية سوى عندما نصدر
نحن
الأمر للحاسوب بإبداعه (ولهذا يقوم كارت الصورة بداخل الحاسوب بتفعيل بعض اللوغاريتمات،
وينشط استدعاء الصورة المرسومة).
لهذا السبب لا يُوجد أيٌّ من الأجواء أو الحركات الخاصة بمشاهد العرض قد تم تسجيله
مسبقًا، ولم يتم تحديد المدة أيضًا مسبقًا، كان كل شيء يحدث مباشرة.
كان عمل الممثلين يسيرًا في اكتشاف النص، وفي تمييز أهدافه، والتقنيات الصوتية، وتشكَّلَت
الشخصيات من خلال أداءٍ مميز، تميَّزوا بقوة، وبلا تغيير، في تناسقٍ مع الملامح المرتبطة
بالنزعة التعبيرية للنص الأصلي. وبالإضافة إلى ذلك، وتبعًا لما جاء على لسان المخرج
واليس، لم يكن هذا مجرد بُعدٍ خاص في عمل إلمر رايس
Elmer
Rice، ولكن أيضًا ضرورة للبيئة الافتراضية التي سيتحرك الممثلون
بداخلها. وهو يرى أن ضعف الحميمية النفسية سيتم التغلب عليه بالتجديد في المشاهد،
وكان
على الممثلين الاجتهاد لجذب انتباه المشاهدين؛ فأمام اللامادية المُغرِية للمشهد
يجب أن
يظهر التناقُض الذي يتحقَّق خلال وجودٍ ماديٍّ قويٍّ للأداء. بالإضافة إلى ذلك، ففي
وجود الجو
التخيُّلي والخيالي — للنص وللعرض — سيمنح وجود وجوهٍ مقنَّعة ذات إطاراتٍ واضحةٍ
مصداقيةً
وإقناعًا. كان الممثلون يعملون في الإطار نفسه الخاص بالرسوم المتحركة؛ حيث الشكل
مفصَّل
والإطارات قوية.
١٧
إن استخدام الواقع الافتراضي وضَع الممثلين ومعهم المخرج أمام مشكلةٍ جديدة؛ ففي خلال
إجراءات الاستعداد نجد الفرقة نفسها، وبعد الانتهاء من قراءة النص، تبدأ في البروفات
من
خلال حدود الفضاء وتحركات محدَّدة في علاقة مع العوائق والحدود الخاصة بالمشروع
السينوغرافي، ولكنْ ممثلو عرض «الآلة الحاسبة» وجدوا أنفسهم في فضاءٍ خالٍ وسيبقى
كذلك،
بل فضاء سيقوم بدوره بالتأقلم مع تحرُّكاتهم. لم يكن المشروع السينوغرافي قائمًا
على بناء
أدواتٍ ما يمكن تجربتُها أو غير ذلك، بل مجرد مجموعة من الشاشات الموزَّعة على خشبة
المسرح.
ويمكن تعديل الديكورات المفترض أن تظهر بواسطة آلات العرض باستمرار. أديرت أسابيع
البروفات الأولى بلا أي دعمٍ تكنولوجي؛ وبالتالي لم تكن لدى الممثلين ولا واليس فكرةٌ
واضحةٌ حول طبيعة الديكورات الافتراضية التي ستُعرض خلف ظهورهم، بل وفي بعض الحالات،
لم
يعرفوا إذا كانوا سيقدِّمون أدوارهم فوق خشبة المسرح أم في الكواليس. كان لدى الممثلين
إذن الحرية الكاملة في إبداع واكتشاف وتجريب سلوك الشخصيات التي يقومون بتقديمها.
ومن
خلال قلبه التام للآلية التقليدية للعلاقة بين السينوغرافي والممثلين تمكَّن رينيه
الذي
يحضُر البروفات باستمرار، من بناء الفضاءات الافتراضية حول أداء الممثلين.
وبالنسبة لمكان العرض اختاروا مسرح كرافتون برير
Grafton-Preyer Theatre، وهو مسرحٌ كبير يتسع لألف وثمانمائة مقعد،
وحفرة للأوركسترا ومقدِّمة خشبة المسرح مساحتها حوالَي ١٣ مترًا. وحتى يتمكَّن الجمهور
من أن
يقترب أكثر من خشبة المسرح وتتوفَّر مساحةٌ أكبر بحيث يمكن إدارة الآلة التكنولوجية
الضخمة، تقرَّر أن يتم استخدام المسرح من منظورٍ معكوس. وهكذا وجد حوالي ١٩٠ متفرجًا
لأنفسهم
مكانًا فوق مدرَّجٍ موضوعٍ في عمق خشبة المسرح مواجهًا للصالة. وُضِع حولهم، سواء
في الخلف أم على
جانبَي المدرج ستارٌ من قماشٍ أَسْودَ بهدف تركيز الرؤية على الفضاء المسرحي، وزيادة
الإيهام
والاندماج في الفضاء الافتراضي. وعلى بعد نحو متر، أمام الجمهور، بُنيَت منصة خصوصًا،
ارتفاعها نحو سبعين سنتيمترًا وعمقها ثلاثة أمتار ونصف، وعرضها أربعة أمتار، وكانت
المنصة أيضًا مغطَّاة بسجادٍ أسوَدَ لتقليل أي انعكاسٍ ضوئي (انظر ملحق الصور).
فوق عمق المنصة، وباتساعها كله، وُضعَت شاشةٌ ضخمةٌ خاصة بالعرض الخلفي، والتي كانت
تمنع
الرؤية الفعلية للصالة. على جانبَي المنصة وُضعَت الشاشة مستطيلة بزاوية لتحدِّد
منطقة التمثيل.
ارتفاع الشاشة كلها نحو ثمانية أمتار، ولكن حُدِّدَت منطقة العرض، لأسبابٍ تقنية،
لنحو أربعة
أمتارٍ أو أكثرَ قليلًا، وكانت تظهر في وسطها الصورة الافتراضية وهي تتحرك، بينما
عُرضَت صورٌ ثلاثية الأبعاد على الجانبَين بحيث يزيد تأثير الاندماج في المشهد.
يُمكِن لتلك الصور، تبعًا للحاجة، أن تعمل على إطالة الديكور المعروض على الشاشة
المركزية، أو أن تبرز بعض الملامح الرئيسية له. تبعًا لجهازٍ خاصٍّ بالاختيار والتكبير.
أثناء عرض الشاشة المركزية، على سبيل المثال، صالة منزل البطل، كانت تظهر على الجانبَين
زجاجة شمبانيا أو صورٌ أخرى تتعلق بموضوع الاحتفال.
ومن الطبيعي الاحتفاظ بأدنى حدٍّ من الإضاءة على خشبة المسرح لتظهر الصور المعروضة
بوضوح، فكان يُوجَد على جانبَي المشهد برجان طول كلٍّ منهما سبعة أمتار يحملان مصباحَين،
يتحكَّم فيهما شخص. يبُث المصباحان حزمةً ضوئيةً محدَّدة فقط على الممثلين؛ بحيث
لا ينعكس الضوء
على الشاشة فيضطرب المعروض عليها.
تُنتج كل الصور المعروضة في المشهد والتحكم فيها في زمنٍ واقعي؛ وفيما عدا الموسيقى
لم
يسجِّلوا أي شيءٍ مسبقًا. حتى مركز الرؤية بداخل الديكور الافتراضي كان مبنيًّا ومرتجلًا،
كل
مساء، بواسطة تقنيةٍ محدَّدة تُدعى (Virtual VED Environment
Driver قائد الديكور الافتراضي).
من خلال ملاحظة الممثلين الفعليين فوق خشبة المسرح يتفاعل عامل
VED بحرية معهم، يصطحب حركاتهم ويتحكَّم تبعًا لها، في
الديكورات المحيطة بأداء الممثلين، في إحالاتٍ مستمرة للمشهد الذي يظهر على الشاشات
حولهم.
وبالتالي يبدو وكأن الممثلين الفعليين انصهَروا بالفعل في الأجواء الافتراضية، وتتبعهم
النظرة وهم يتحركون كما في تتالٍ سينمائي. عندما، على سبيل المثال، دخل كلٌّ من السيد
والسيدة صفر، في المشهد الأوَّلي، إلى حجرة النوم، كانت السينوغرافيا تتحرك معهما
من
اليمين إلى اليسار؛ وعندما صَعِد «صفر» فوق فراشه كان مركز أبصار الجمهور قد تحرك
فجأةً
إلى أعلى. يقف الممثل بطريقةٍ معيَّنة أمام الصورة الثلاثية الأبعاد للفراش، ولكن
يرى
الجمهور من أعلى البطلَ مستلقيًا على الفراش.
وكانت القدرة الإيحائية والاندماجية مع هذه الأجواء الافتراضية قد ازدادت بواسطة
نظارةٍ مستقطبةٍ للضوء يرتديها كل متفرج، والتي تمحو – تخفي الفارق بين الأبعاد الثنائية
للشاشات والأبعاد الثلاثية للممثلين وللفضاء المسرحي.
اعتمد النظام بأكمله على محطة مركَّبة من حواسيبَ مختلفةٍ موضوعةٍ على مائدةٍ خلف
الشاشة،
والتي يتم تسميتُها بسخرية (لتشابهها مع صالة التحكم الفضائية لوكالة ناسا)
Mission Control،
مركز التحكُّم في المهمة. كان أساسُ العملية جهازَيْ عرض من الكريستال السائل، كلاهما
يستهدفان الشاشة المركزية، وموضوعان أحدهما في مقابل الآخر. الجهاز الأول يعالج الصور
التي تستهدف العين اليمنى، والجهاز الثاني يعالج الصور التي تستهدف العين اليسرى.
والمُشاهِد، من خلال إمكانية الاستقطاب في العدستين، يستقبل الصور المعروضة بتأثيرٍ
ثلاثي الأبعاد.
١٨
كانت الصور المعروضة منتجة بواسطة أربعة مصادر مختلفة؛ وبالتالي من الضروري وجود زوجَي
ميكسر فيديو رقميَّين للتحكُّم في اختيارها وإدارتها تبعًا لإمكانيةٍ متنوعةٍ من
المؤثِّرات
(زيادة في التعبير، الاختفاء في الأسوَد … إلخ). كان قد تم توصيل كل ميكسر بزوجَين
من شاشات
الفيديو لإعداد تغيير المشهد والمؤثِّرات.
لكل مشهدٍ من المشاهد الثمانية للنص أُعد ديكورٌ افتراضي يمكن التحكُّم فيه
في وقت العرض تبعًا لحركات الممثلين. تلك
الأجواء والديكورات نُفِّذَت بواسطة جهازٍ ما Power Mac 7100/AV،
باستخدام أحد برامج الحاسوب الذي صمَّمَتْه شركة فيرتوس Virtus
Corporation. كان جهازًا يشبه في جوهره جهاز
Walk Through Pro إلا أنه يسمح بالتحكُّم في الصور ذات الإسقاط الاستريوجرافي Stereografico. تسمح تلك الأداة الجديدة بإنتاج
نسختَي الصورة بطريقةٍ منفصلة (العين اليسرى والعين اليمنى). يستطيع حاسوب التحكُّم
والمزوَّد
بكروت فيديو بثَّ الديكورات الافتراضية على شاشتَين مختلفتَين. ويُمكِن تحويل كروت
الفيديو تلك، والضرورية لتحقيق رؤية مجسمة على الفور، إلى
NTSC ستاندرد، وإرسالها إلى زوجَي الميكسر وإلى العارضات
وفي النهاية وصولًا للشاشة. كان هناك حاسوبٌ آخر Power
Mac متصل بالفيديو ميكسر، يُستخدَم لإنتاج عناوين، لتلك الرسوم الخاصة،
عند الانتقال من ديكور إلى آخر. تلك الآلة كانت هي مصدر «إرنست الميت
Dead Ernest» (الذي يُدعى «رأس» في نص رايس)؛ كان عبارة
عن نوع من الكرتون الرقمي، شبح يظهر في المقابر (المشهد الخامس). تلك الشخصية المحرومة
من الجسد في النص الأصلي للدراما، ولم يكن له سوى ثلاث عبارات على الخشبة، وهكذا
بدا
مناسبًا لإبداعه عن طريق العميل الافتراضي. ولإدخاله في الأجواء الاصطناعية باستخدام
تقنيةٍ عادية، رُسم الرأس وحده على خلفيةٍ خضراء، وهكذا كان يمكن وضعه فوق صورة
المقابر باستخدام وظيفة مفتاح الكروما cromakey في ميكسر الفيديو.
تمكنوا بالطريقة نفسها أيضًا من عرض صور الممثلين الفعليين على الشاشات مع الديكورات
الافتراضية. في أحد جوانب الممَر الخشبي، وبعيدًا عن أنظار الجمهور، ولكن وضعوا بالقرب
من
المشهد، استوديو تليفزيون صغيرًا. وصوَّروا بعض الممثلين أمام إحدى الخلفيات الخضراء،
مباشرةً
أثناء العرض، بينما كانوا يمثِّلون أنهم يتفاعلون مع الممثلين الآخرين الموجودين
في
المشهد أمام الجمهور.
وكانت هناك كاميرا فيديو ترسل بتلك الصور إلى ميكسر الفيديو، الذي يعرضُها بدَورِه
على
الشاشات مع الديكورات الافتراضية، وفي مشهد الحفل (المشهد الثالث) ظهر المدعوُّون
وكأنهم
معروضون على الشاشات؛ وفي مشهد المحاكمة (المشهد الرابع) لم يكن المحلَّفون سوى تكرارٍ
لصور
ممثلَين اثنَين فقط تم تصويرهما بكاميرات التليفزيون. ديكوراتٌ افتراضية وتصميماتٌ
متحركة،
ممثلون تُعرض صورهم على الشاشة وآخرون يظهرون بلحمهم وشحمهم، الجميع يتفاعلون معًا
في
المساحة الواقعية أمام الجمهور.
كان تدفُّق المشهد الافتراضي يمنح الانتقال من تمثيل الديكور إلى الظهور الواضح لوضعٍ
نفسي انفعالي، عمليةً سهلة. يذكُر جارافي، على سبيل المثال، أنه في المشهد الثاني،
كان
صفر وديزي موجودَين معًا بداخل مكتبهما حيث يعملان عادة. كانت حركاتهما يقوم بها
ممثلان
يقفان في الكواليس، في ذلك الاستوديو التليفزيوني الصغير، وصورتا الفيديو تعرضانهما
على
الشاشة وكأنهما خيالان شبه آدميَّين للممثلين أمام الجمهور. وأثناء أحد حواراتهما
الحميمية يبدو «صفر» ومعه «ديزي» وكأنهما اختُطِفَا في حُلمهما. أخذ عرض الديكور
الافتراضي
يتراجع إلى الخلف حتى ظهر بعيدًا في العمق، وفي الوقت نفسه أصبحت الصورة الرقمية
نموذجًا
صغيرًا تائهًا في فراغٍ هائل. أصبح جسدَا الممثلَين في المشهد يُوحيان بانفصالٍ لحظي
عن الجو
الواقعي بينما ما زال يظهَر من بعيدٍ زوجان من الأشباح يتحرَّكان في المكتب الذي
تحوَّل إلى
صورةٍ صغيرةٍ بعيدة.
١٩
سمحَت التقنية نفسها بإبداع حوارٍ بين ممثل حقيقي والصورة المعروضة، عندما فُصل صفر
في
نهاية المشهد الثاني. وهنا صُوِّر الممثل الذي قام بدور رئيس صفر في العمل خارج المشهد
وتُركَت صورته فوق الشاشة لتتفاعل مع الممثل الآخر (الموجود فوق الخشبة أمام الجمهور).
إن التصاعد الذي تم التعبير عنه في النص بمجموعة المؤثِّرات الصوتية وحركة الستائر
والخشبة تم ترجمتُه هنا في زيادة الزووم على وجه رئيس العمل؛ حيث كبرَت الصورة وأصبحَت
بلا
مقياسٍ حتى ملأ وجه الرئيس الضاحك الشاشة كلها.
٢٠
وعلى الصعيد المنهجي، تتميز نواة عملية الإخراج في الجدل بين الأجساد والفضاءات
الواقعية وبين الأجساد والفضاءات الافتراضية. وكان العنصر الذي يسمح بذلك الحوار
بين
عناصرَ بعيدةٍ تمامَ البُعد هو تقنية VED، وعمل هذه التقنية
يكمُن في توافُق حركات الممثلين في الزمن الواقعي مع منظور المشهد الافتراضي، وذلك
من
خلال التحكم في إمكاناتها وذكائها لإخفاء ذلك الاختلاف. من المؤكد أن التأثير الثلاثي
الأبعاد يشترك في ذلك التأثير أيضًا؛ حيث تبدو وكأن الصورة الافتراضية تخرج من الشاشة
لتغزو الفضاء الذي فيه تتحرك الشخصيات. ذلك التنسيق الناجح بين الأدوات التكنولوجية
والحصافة الإنسانية كان يعمل على أن يظهَر كلٌّ من الخشبة والشاشة معًا إلى الجمهور
كعنصرَين
متصلَين وليس منفصلَين وفي صراعٍ فيما بينهما، بل وكأن الحدود القصوى للفضاء الجديد
الذهني،
في التدرُّجات التالية، تنطلق من المادي لتصل إلى المعنوي. ومكان العرض كله تم بناؤه
بطريقةٍ تتناسق مع هذه الضرورة؛ فباقتراب الخشبة جدًّا من مدرَّج الجمهور عمل على
استمرارية
الواقعية الملموسة، ولكن بالتدريج، وعندما تبتعد نظرة المتفرج تجاه العمق، عمق المشهد،
يتبخَّر ذلك الشعور المادي ويتجه نحو الرقمي المتخيَّل.
إلى هنا رأينا الحلول التكنولوجية التي توصَّل إليها كلٌّ من رينيه وويليس. أما على
صعيد
تناسُق اللغات مع الموضوعات ومحتوى العمل فإن المشكلات تبدو أكثر تعقيدًا
وتشعبًا.
النسخة الأولى من نص رايس تحمل في داخلها عملية الإخراج الأصلية لعام ١٩٢٣م، والتي
عرضَها على مسرح جيلد في نيويورك Theatre Guild. وفي ذلك
النص، وبملاحظة الصور القليلة الموجودة، فإن الأجواء والديكورات تتميَّز طوال العرض
بلمعة
كآبة وعبوس. والتناسُق مع الجو الدرامي لا جدال فيه، قسوة الحوائط التي تُحيط المكتب،
شكل
الصالة المصنوعة من أشياء صغيرة متماثلة، شكل قاعة المحكمة التي تلخِّص في القليل
من
الملامح عدمَ إنسانية قوانين الأقوياء، قسوة الأزياء وتنظيم المشاهد، كل شيء يوحي
بغياب
الروح وبتغريب الفرد، ويظهر ذلك على نحوٍ خاص في المشاهد الخمسة الأولى من هذه النسخة،
وبالإضافة إلى التأثر الكبير بالخبرات المسرحية والسينمائية الألمانية، تتضح أيضًا
إيحاءاتٌ لنوعٍ من التصوير معروف، ويشترك فيه العديد من أعمال العشرينيات. كل شيء
يبدو
وكأنه يشارك بوضوح، أيضًا من خلال الإخراج، في إظهار تلك المخاوف من ذلك المجتمع
الذي
يحكُمه الاستغلال وتسيطر عليه نزعة الميكنة، وليس بالغريب أن يتم إنتاج العمل الشهير
ميتروبوليس Metropolis لفريتس لانج
Fritz Lang بعد مرور ثلاثة أعوام على هذا العرض.
يتميَّز إخراج العمل عام ١٩٩٥م بحركاتٍ مستمرة، ألوانٍ عنيفة، شخصياتٍ تتشوَّه كشخصيات
الرسوم
المتحركة؛ ففي مقابل جمود النزعة الثابتة للنص الأصلي نجد أنفسنا أمام تدفقٍ كامل
وسلاسة
للأشكال وللديكورات. ذلك الاختلاف، على مختلف الأصعدة وبوضوحٍ من ناحية الشكل، فتح
الطريق
أمام المزيد من التفكير حول إمكانات استخدام الواقع الافتراضي. ويقبل عرض رينيه وويليس
الاستياء العميق والحزن المميزَين للنص، إلا أنه يبتعد تمامًا عن الإحالات المباشرة
للأنظمة الشمولية والعسكرية وعن الخوف من النظام الواحد والمطلق. وهكذا يعمل المؤلفان
على نوعٍ من التحديث الجوهري لمحتويات النص؛ فالتغريب لم يعُد يرتبط بصورة المجموعة
المتحجِّرة، والحشد هنا لا يعني اختفاء الاختلافات والتحول إلى وحدةٍ فقيرة؛ حيث
يتحلل
الفرد خلال تجزئة الخبرة، ومن خلال الانفجار، إلى العديد من الجزيئات غير المتشابهة
والمختلفة. لا يتم تدمير روح صفر من خلال نظامٍ بيروقراطيٍّ وآليٍّ مصنوعٍ من قواعدَ
محدَّدة
ومتشابهة للإنتاج، بل تختفي روحه في واقعٍ بلا حدود، منزوعٍ عنه القواعد والأبعاد؛
حيث
يتم استغلاله ويتخذ هذا الاستغلال ملامح الخيانة من خلال رسمٍ متحركٍ إلكتروني. واختيار
رايس يفتح الأبواب أمام اعتبارٍ قاسٍ يتعلق بخبرةٍ إنسانية يتم تشبيهها — استيعابها
— في
شكلٍ مبعثرٍ ومراوغ. البيكسل، والصورة الرقمية والواقع الافتراضي جميعُها تشترك في
نوعٍ من
الآنية ليس فقط من ناحية الأسلوب، ولكن أيضًا من جهة المحتوى؛ إن الجدل بين الإنسان
ومخاوفه يجد مرةً أخرى مجازًا رائعًا في التطور التكنولوجي. إذا كان في الإخراج الأول
للعمل المسرحي قامت سلسلة الإنتاج بتشبيه الإنسان بالآلة، فهنا في هذا الإخراج نجد
أنه
تم نزعُ الجسد والمادية عن الشخص، ويُوضَع بدلًا منهما الشعور بالبؤس الناتج عن فقد
الاتجاه، والاضطراب الذي يجتاح الطرق التي نتفاعل ونُوجَد بها في الحياة.
(٣) الاندماج والضياع
وبعد أن تمَّ تجريب فعالية الجدل بين الممثلين والواقع الافتراضي على خشبة المسرح
اتجهَت أبحاث الفرقة إلى طرقٍ لإدماج المتفرجين. إن اضطراب الإدراك الحسي الذي تم
افتراضُه
خلال عرض «الآلة الحاسبة» أصبح نقطة الانطلاق للتفكير في وجود ومكان العرض.
وقد قام مارك رينيه
Mark Reaney بتطوير عمل البحث
والإنتاج، بالاشتراك مع مساعده لانس جارافي
Lance
Gharavi٢١ وذلك في مقر الورشة، قرَّرا معًا استخدام تقنية
HMD وهو نموذجٌ لتجسيد الواقع تم إنتاجه بواسطة
الافتراضي
I-O، والذي تميَّز بالتمكُّن من رؤية الصور الرقمية على شاشة العرض
display سواء من
خلال اختراقها بالنظر أو من خلال مشاهدة الديكور الواقعي أمامها، في وقتٍ واحد. ذلك
النوع الفريد من النظارات يتكوَّن من زوجَين من الشاشات الصغيرة المصنوعة من الكريستال
السائل (
LCD) والتي يتم وضعُها على مستوى العين (مثل
حافة القبَّعة) والشاشة منحنية إلى أسفل. أسفلها تُوجَد نظارتان شبه شفافتَين، تنحنيان
في زاوية
قدرها ٤٥ درجة، وتعكسان الصورة في اتجاه عين المتفرج. وبالتحكُّم في درجة الضوء الموجودة
في
الديكور الفعلي، أو الصادرة عن اﻟ
LCD يمكن رؤية
الممثِّلين على خشبة المسرح والصور الافتراضية أو كليهما معًا في آنٍ واحد.
وكانت مهمة إخراج عرضٍ موجزٍ جديد قد عُهد بها إلى لانس جارافي. قرَّر المخرج الشاب
على الفور استخدام نص بيكيت Beckett، سواء بسبب شغفه
وإعجابه الشخصي بالكاتب الدرامي الإنجليزي، أو لأن النص كان يبدو له مناسبًا من
الناحية الأسلوبية لإمكانات التجريب.
كان بيكيت يبدو لي اختيارًا مناسبًا بصفةٍ خاصة، ليس فقط بسبب أسلوبه غير الواقعي
وإيجاز بعض أعماله، ولكن أيضًا بسبب الطريقة التي يلعب بها المؤلف عادة بأفكار
«الوجود» و«الغياب»، والوجود والظهور. إن ذلك الوجود/الغياب المستمر عندما يتم
تنفيذه في الصورة الإلكترونية، يلعب دورًا أساسيًّا في إنتاج كل أشكال المسرح
الإلكتروني
Cyberteatro تقريبًا. إن إدماج بيكيت مع
الواقع الافتراضي؛ وبالتالي مواجهة المشكلات الفريدة المتعلقة بالوجود التي يفترضها
الاثنان يبدو اتجاهًا منطقيًّا — بل بالأحرى جذابًا — في طريق الاكتشاف.
٢٢
وأخيرًا وقع الاختيار على عرض «مسرحية
Play»، عمل
موجز مكتوب بالإنجليزية بين أواخر عام ١٩٦٢م وبداية عام ١٩٦٣م.
٢٣ يقدِّم العمل ثلاث شخصياتٍ رجلٍ وامرأتَين، موضوعة في ثلاث جرَّاتٍ رمادية اللون،
متشابهةٍ تمامًا، موضوعةٍ الواحدة بجوار الأخرى، والتي تبرُز من قمَّتها فقط الرءوس
الثلاثة،
ثلاثة وجوه بلا زمن ولا تعبير. وفي النص المختصر تقوم الوجوه الثلاثة بسرد أجزاءٍ
من
العلاقة المتشابكة بين الزوج والزوجة والعشيقة. وتناغُم الحوار ثلاثي موسيقى (
Trio) مصطلح
يُطلق في أغلب الأحوال علي أي عمل موسيقي يقوم به ثلاثة أشخاص يجعل
الإخراج يشبه ثلاثيًّا موسيقيًّا، تقوده في حزمة ضوئية تتسلط كلٌّ بدوره،
ولكن التركيب الدرامي يُعيد إلى الأذهان نوعًا
من التحقيق البوليسي، وخاصة بسبب استقلال الإضاءة، وتتحرَّك وتُقاطع أيضًا الحوار
المسرحي.
وفي تعليقٍ على النص يشرح المؤلف:
إن مصدر الضوء فردي، ولا يجب وضعُه بعيدًا عن المكان المثالي (الخشبة)، والتي يشغلها
ضحاياه. إن أفضلَ وضعٍ للكشَّاف هو في وسط خشبة المسرح؛ بحيث يتم إضاءة الوجوه من
قريب
ومن أسفل. وعندما يكون هناك احتياجٌ استثنائي لاستخدام ثلاثة كشافات لإلقاء الضوء
على
الوجوه الثلاثة في وقتٍ واحد، يجب أن يكون التأثير نابعًا أيضًا من كشافٍ واحد ينقسم
إلى ثلاثة؛ ففي هذه اللحظات الاستثنائية يجب استخدام کشافٍ مفردٍ متحرك، يدور في
أقصى
سرعة من جانب إلى آخر تبعًا للضرورة، والأسلوب الذي يعتمد على كشافٍ محدَّد على
كل
وجه، أسلوبٌ غيرُ كافٍ، ولا يفي بالغرض؛ لأنه لا يمنح التعبير نفسَه بأن هناك محققًا
واحدًا،
والذي يحقِّقه وجود كشافٍ واحدٍ متحرك.
٢٤
إذن فالكشاف ليس فقط وسيلةً لإضاءة الوجوه دراميًّا، ولكنه يُعَد كشخصيةٍ تتفاعل
مع
الشخصيات الأخرى، تقود أداء الوجوه الثلاثة، «وتنزع منهم الكلمة»،
٢٥ وأحيانًا تحفِّزهم على الكلام، وأحيانًا أخرى تقطع حديثهم، والشخصيات لا تتحرك،
تتحدث بسرعة، وبلا تغيير في النبرة، وبإيقاعٍ ثابت. إنهم مثل ذكرياتٍ لأحداثٍ بعيدة،
أحداثٍ لم
يعُد بها لون ولا تأثير.
وفي الورشة التي قادها جارافي، تصبح حزمة الضوء الشخصية الوحيدة، من لحم ودم، وعلى
العكس الشخصيات الثلاثة الأخرى يتم تمثيلها بواسطة أداة تكنولوجية، وبارتداء المتفرجين
خوذاتٍ
HMD يمكنهم رؤية العالم
الافتراضي، سواء من خلال ما يدور على الشاشة، أو «من خلال العرض»،
بينما المخرج في منتصف رقعة مظللة يتحكَّم في الكمبيوتر، ويجعل الشخصيات تتحدَّث.
٢٦
ودور هذا المخرج كان تحولًا من دور قائد الديكور الافتراضي
VED في العمل السابق؛ فتدخُّل تكنولوجيا
VED (قائد الديكور الافتراضي) حوَّلَت الديكور الافتراضي
في عرض الآلة الحاسبة إلى شخصيةٍ إضافية. وفي الواقع، إذا كانت الديكورات والحركات
لم
يتم تحديدها، ولكن يتم إدارتها في لحظة العرض من خلال محركٍ مستقل — والذي يكون دوره
هو
أن يتفاعل بحرية مع العوامل الواقعية — ينتج عن ذلك أن يتم إدخال شخصيةٍ أخرى إلى
العرض.
وبينما في عرض «الآلة الحاسبة» تم إخفاء اﻟ VED وحاسبه
الآلي عن أعين الجمهور، نجد أنه يصبح في عرض «مسرحية» عضوًا عاملًا في عملية الإخراج،
مرئيًّا أمام الجمهور بينما يتحكم في الأجواء والديكورات مباشرة وفي الزمن الواقعي،
يعتبره الجمهور مثل قائد أوركسترا، شخصٍ ما، بالرغم من أنه ليس جزءًا من الرواية،
إلا
أنه يشترك في عملية الإخراج. وفي حالة عرض «مسرحية» كان يمكن للمخرج استخدام إيماءاتٍ
من النص، والتي تبرِّر وجوده في الرواية. وكانت النتيجة النهائية للورشة هي عرضٌ
خاص لعينة
من ستة متفرِّجين من بين أساتذة الجامعة والذين جلسوا في حجرةٍ صغيرة. نظمَت مجموعة
من
أجهزة الحاسوب ومعدَّات الفيديو على مائدةٍ طويلة تُضيئها حزمةٌ ضوئية، وارتدى المتفرجون
الستة
نظارات HMD. وبعد فترةِ صمتٍ طويلة دخل جارافي مرتديًا
قميصًا أبيض ورداءً أسود فضفاضًا، جلس وبدأ في تشغيل الأجهزة، ثم ظهر فوق المائدة
وفوق
الصورة الواقعية لجارافي وأمام الجمهور عالمٌ افتراضيٌّ ثلاثيُّ الأبعاد؛ فأمام أعينهم
فُتح مستوًى متسعٌ ومفتوح أبعد منه بقليل، في أعلى، كانت تتدلى جَرَّة ضخمة – رمادية
اللون،
كبيرة جدًّا؛ بحيث لا يمكن رؤية نهاية جزئها العلوي، وشمس تغرب (ليست رسومًا متحركة،
ولكن
صورة واقعية) توحي بالاقتراب الحتمي لليل. وكان التصوير يقترب من الجزء الأسفل للجرَّة،
حتى بدأَت الصورة تعطي الانطباع بأنها ترتفع وتطير في السماء حتى تكاد تسقط على فوَّهتِها.
ثم ظهر الجزء العميق من الجرة؛ حيث تمَّ تمييزُ مجموعةٍ من الأدوات موضوعة في العمق.
وبالتعمُّق أكثر في داخل الجرة، كان الفيديو يؤطِّر منصةً مربَّعة تطفو في الفضاء؛
وبالتدريج
تظهر أخريات، ثم تبدأ في الظهور جرارٌ أخرى رمادية. بعد قليلٍ تظهر رءوس الشخصيات،
ويحطِّمون
الصمت بأن يبدَءوا في حواراتهم. وبمجرد أن يتحدث أحدهم يختفي الآخرون، ثم يظهرون
فقط
عندما تحين أدوارهم. استمر النص هكذا، ومع كل تغييرٍ كان يظهر جارافي، خلف المائدة،
وهو
يُحرِّك أزرار الكمبيوتر ويُدير الأداء. وبعد أن اختفت الرءوس وتلاشت، وبينما تستمرُّ
أصواتها، كانت الصورة تظهر هرمًا من أربعة أبعاد. يبدأ مركز النظر يتحوَّل ليدورَ
حول الهرم،
والذي فوقه كان يُمكِن رؤية فيلمٍ مختصرٍ من الأبيض والأسود للشخصيات.
وعلى الجزء الأسفل للهرم كان يمكن رؤية جارافي، والذي كان يضحك، وكان الوجه يتبدل
ويتلوَّن اصطناعيًّا. وبعد هذا الفاصل يعودُ الجمهور إلى وضعه السابق أمام الجرَّات،
ويبدأ
الثلاثة في إعادة نص البداية، ولكن تختفي الصور في تَلاشٍ بطيء. جارافي يجلس ثابتًا
على
مقعده، مثبتًا عينَيه على شاشة حاسوبه في صمت. وبعد فترةِ سكونٍ طويلة، يقوم وببطء
يترك
الحجرة. وبعودة الإضاءة مرةً أخرى إلى الحجرة ينتهي العرض.
إن النصَّ الغامضَ لبيكيت يقترح أن الشخصيات لم تعُد تنتمي إلى هذا العالم؛ تبدو
الشخصيات
وكأنها معلَّقة في شيءٍ كأنه مطهر الذاكرة، وكأنهم مُعاقَبون بأن يقوموا بترديد قصتهم
إلى
الأبد. بينما يُحاول جارافي أن يبرز مركزية الجرَّات والتي تمثِّل صورةً أساسية في
العرض،
يتحرك تجاه نزعٍ أكثر حسمًا لمادية الشخصيات، وكأنهم الدليل العابر على صياغةٍ ما
متكرِّرة.
وهكذا يتم تحويل عمل بيكيت لنوعٍ من الطلقات مروِّع، يكشف في داخله النسخة المماثلة
لذاته.
٢٧ وانطلاقًا من هذا المعنى يُمكِن قراءة المقدِّمة التي شعَر خلالها المتفرجون
وكأنهم قد تم تسميرهم في جرَّةٍ عملاقة، والتي بداخلها يجدون ثلاثَ نسخٍ أصغر حجمًا.
كان ذلك
هو الإيحاء الواضح لسلسلةٍ لم تنتَهِ؛ فقدان التنسيق الفضائي كان يوحي بفقدانٍ أعمق
للاتجاه.
إن العرض بالرغم من أنه تم إنتاجه في فترةٍ وجيزة، ولم يخلُ من السذاجة في تفسير
النص،
إلا أنه أقنع مجموعة البحث لإدخال نظام الفيديو الثلاثي الأبعاد في الواقع الافتراضي
واستخدام عدسات HMD. إن عدسة الواقع المجسَّم؛ حيث لا يتم
حجب الرؤية تمامًا، تسمح بنوعٍ من الحرية والاستقلال للمتفرجين في مشاهدة العرض
المسرحي.
وفي عام ١٩٩٦م بدأ كلٌّ من رينيه وواليس إخراج نص أجنحة
Wings٢٨ لآرثر كوبيت
Arthur Kopit.
والنص الذي يعود تاريخ نشره لعام ١٩٧٨م، والذي كان في الأصل نصًّا مكتوبًا خصوصًا
لدراما الراديو،
يصف الخبرة التي عاشتها سيدة عجوز تُدعى إيميلي ستايلسون
Emily
Stilson، التي عملَت في شبابها قائدة طيارات، وفيه تحكي عن خبرتها حول
الشفاء من جلطةٍ دماغية وما تركَتْه من أضرارٍ على عقلها. وفكرة العمل على قصة مريضٍ
أُصيب
بالجلطة الدماغية ترجع إلى الخبرة الشخصية التي عاشها كوبيت مع أبيه الذي عانى من
المرض
نفسه؛ ففي العيادة التي كان يذهبُ إليها ليساعد أباه، استطاع المؤلف أن يقترب أكثر،
ويعرف
عن قربٍ الأعراض المختلفة ومعاناة مختلف المرضى. وقد أثَّرَت فيه كثيرًا، بالفعل،
شخصية امرأة
في السبعين من عمرها كانت بالفعل قائدةً لطائراتٍ ثنائية. أما الأعراض التي وصفَها
في عمله
فلقد أوحت إليه بها مريضةٌ شابة، التي تسبَّبَت الأضرار الذي أُصيبَت بها ليس في
صعوبة في
النطق، كما يحدث عادة، بل في عدم القدرة على إعطاء معنًى منطقيٍّ لكلماتها. لم تكن
حالة
نسيان، بل كانت نوعًا من الانفصال عن الواقع، الذي بسببه لم تكن الفتاة تستطيع أن
تنسِّق
العلاقة بين عالمها الداخلي والعالم الواقعي.
٢٩
إن الشخصية الموجودة في النص تنجح في قدرة مدهشة في استعادة الفوضى الذهنية التي
سببتها إصابة مماثلة، دون تحويلها إلى فيلم وثائقي طبي، ولكن بوصفها خبرة داخلية
خاصة.
والنص الدرامي الذي يغطِّي فترة زمنية عمرها عامان فقط من حياة المريضة، ينقسم إلى
أربعة
أقسام؛ المقدمة: اللحظات السابقة للجلطة الدماغية؛ الكارثة: الرحلة إلى العيادة وبقاؤها
هناك؛ الاستيقاظ: جزءٌ كبيرٌ منه مخصَّص في الأساس إلى محاولاتها استعادة اتجاهها
واستعادة القدرة على الكلام؛ الاكتشافات: وصف أنواع العلاج التي خضعَت لها المريضة
حتى
خروجها النهائي من العيادة.
وعلى عكس عرض «الآلة الحاسبة»، الذي اعتمد إخراجُه كله على كيفية منح الشعور بجوٍّ
ملامحُه
قوية ومميزة؛ ففي إعداد الديكور الخاص بأجنحة، وضع رينيه وويليس تركيزهما على إمكانية
تظليل الوقائع المختلفة الواحدة في الأخرى، وفي تركيب الصور الواحدة فوق الأخرى أمام
أعين الجمهور هكذا، كما كانت الأشياء تضطرب في الذهن المتعَب لإيميلي. كان المُعِدَّان
ينويان، بصفةٍ خاصة، إعادة إنتاج الصعوبات التي تتعرض لها البطلة في أن تُبرِزَ العالم
الواقعي وسط الهلاوس، وأن تفصل الومضات النادرة من وضوح الرؤية في ذاكرتها والمضطربة
في
ماضيها، والتي كانت تنفجر في النص لتُحيطَ بها. لن يصبح الأشخاص الجالسون في الصالة
مجرد
مشاهدين لتلك التأثيرات ونتيجتها على الشخصية الرئيسية، ولكنهم سيجدون أنفسهم وقد
انغمسوا في عاصفةٍ مماثلة من الصور عليهم أن يعيشوا هم أيضًا الخبرة نفسها، وأن يرَوا
ما كانت تراه إيميلي، وأن يتحرَّكوا معها خلال الفضاء والزمن، موجهين تجاه سلسلة
من
الوقائع، التي سوف تُفرض على اهتمامهم، وسيتم تفتيتُها ثم تجميعُها مرةً أخرى (انظر
ملحق
الصور).
والنص، ربما بسبب طبيعته الإذاعية، يُقدم كتأملٍ عميق في اللغة، حول الطريقة التي
يمكن
بها التعبير عن نوايا المتحدِّث. إن الفجوة بين ما هو داخلي وما هو خارجي، والتي
تسبَّبَت فيها
الجلطة الدماغية، كانت تسمح بفحص المسار بين بناء الفكرة وبين لفظها، ولكن بالنسبة
لكوبيت لم يُحبَّ أن يكون ذلك من خلال رحلة في حُلمٍ ما أو وصفٍ للنسيان، بل أراد
المؤلِّف أن
يمثِّل التشبُّث بالواقع، شجاعة المعنى المكتمل، الانكسار المأساوي في تدفُّق وسهولة
الاتصال.
إذن فمركز النص ليس هو أوهام إيميلي، بل الصعوبة التي تتعرض لها في محاولة الاتصال
باليومي. وهو الأمر الذي أدَّى إلى استبعاد افتراض إخراج العمل وتقديم عالمها الداخلي
فقط.
ولكن كان التحدي بالنسبة لرينيه وويليس هو اعتبار هذه الآليات في منظورٍ معكوس؛ فهما
يرغبان في أنه بدلًا من أن يرى الجمهور من الخارج (العالم الواقعي) محاولات المرأة؛
سيكون من الأفضل أن يعيشوا في الداخل (العالم الداخلي)، في داخل تقلباتها الداخلية.
هذا
الانقلاب كان يمكن تحقيقُه بفضل الواقع الافتراضي. عُرض «أجنحة» على مسرح
Blackbox Theatre في مسرح الجامعة
University Theatre.
٣٠
كان الجمهور (حوالي ٦٠ شخصًا نظرًا لضرورة تزويد كل واحدٍ منهم بنظارات
HMD) يجلس بالقرب من المسرح الصغير. وفي الفضاء السابق
للمنصة (الفضاء A) كانت البطلة تتحرك تقريبًا خلال مدة
العمل بأكملها. أحيانًا كان يدخل ممثلون آخرون ذلك الفضاء للتفاعُل مع البطلة.
وفي منتصف المنصة تقريبًا يُوجد سكريم Scrim أسود
(نسيج يبدو داكنَ اللون عندما يُضاء من الأمام وشفَّافًا إذا تم إضاءتُه من الخلف)،
الذي كان
يقسم الفضاء إلى اثنَين ويعمل عمل الشاشة. وكما في عرض «مسرحية» كان الجمهور يرتدي
النظارات الخاصة i-glasses للافتراضي Virtual
I-O وكان يمكنه مشاهدة الصور الافتراضية، أو التركيز على المشهد الواقعي
(انظر ملحق الصور).
وكان الصوت ينبعُ سواء من الممثلين على خشبة المسرح، أو من آثار الصوت المُرسَلة
مباشرة
إلى سماعات اﻟ HMD. وخلف السكريم كان يُوجَد فضاءٌ آخرُ خاص
بأداء الممثلين (فضاء B). وفي العمق، فوق خشبة المسرح،
كانت هناك شاشةٌ خاصة بالإسقاط الخلفي، وبحسب كمية وقطع الأضواء كان من الممكن رؤية
الممثلين خلف السكريم، في الوقت نفسه، مع الصور المعروضة على نسيج السكريم، أو على
الشاشة
الموضوعة في العمق.
وبينما إيميلي تؤدي دورها في الفضاء A، كان المرضى
الآخرون والعاملون في المستشفَى يتحركون في الفضاء B،
محتفظين بعلاقةٍ ما مع إيميلي وكأنها موجودة معهم. إن خبرات إيميلي، والمقسَّمة في
الثنائية الديكارتية للعقل والجسد، تم عرضُها من خلال العلاقة غير المباشرة بين الفضاءَين
A
وB. ولكن بأسلوبٍ معكوس؛ فكان الجسد المرئي كأنه صورة
بين الشخصيات في الفضاء B؛ وكان العقل ممثَّلًا بواسطة
الحضور المادي للممثِّلة في الفضاء A.
كان التنظيم الفضائي للعناصر الموجودة في المشهد مرتبًا بحيث يراكم مختلف طبقات
التلقي. يُحصيها جارافي في خمسة مستويات، جميعُها يمكن أن تكون متاحةً أمام أعين
الجمهور
في الوقت نفسه، انطلاقًا من أكثرهم قربًا، هي
HMD، الفضاء
A، نسيج السكريم،
الفضاء
B، وشاشة الإسقاط الخلفي. ذلك الترتيب العميق
للمعطَيات المرئية، سواء تلك الواقعية أم الرقمية، كان يخلق الانطباع بوجود واقعٍ
مركَّب من
أكثر من مستوًى، يتقافز ويتراكم الواحد فوق الآخر، كلٌّ منها يُطالِب بانتباه المتفرِّج.
وكان
الجمهور، باختياره لأن يركز، لحظة بلحظة، على أحد تلك الفضاءات، كان يجرِّب نفسه
في ذلك
الوضع الحسي المشابه لوضع إيميلي العقلي، والتي كانت هناك العديد من الوقائع المختلفة
تتصارع لتفرضَ نفسَها على وعيها.
٣١
وبالإضافة إلى ذلك كان كلٌّ من الأنظمة الثلاثة لإعادة إنتاج الصور (الشاشات المركَّبة
فوق الرأس
HMD، ونسيج السكريم وشاشة الإسقاط الخلفي)
يمكنها، في أي لحظة، إظهار المعطيات التابعة من أيٍّ من المصادر المختلفة المتوفرة.
٣٢
إن إدارة المصادر والتوزيع على الشاشات المختلفة كان يقوم به عاملان، كانا يُعِدَّان
المشاهد الواحد تلو الآخر، وذلك بالاحتفاظ بجرعةٍ محددة من الاستقلال، وذلك بالتفاعل
المباشر مع الممثِّلين.
كان الإخراج المسرحي لأجنحة يعتمد ليس على قدرة الواقع الافتراضي في تشكيل وتجسيد
ديكوراتٍ حقيقية، ولكن على قدرته على تقديم فضاءاتٍ ذهنية، وأجواءٍ نفسية، وديناميكياتٍ
داخلية. وكان مفهوم الزمن والفضاء مرتبطًا، أكثر من مرة، بمواقع نفسية، خالقًا بذلك
منظرًا
يشبه الأحلام دائم الحركة ومتحولًا. وكانت لحظات التوازن وجيزة جدًّا، قبل أن تفقد
إيميلي
نفسها، وتضيع في أحد أماكن عقلها. وكانت تلك اللحظات شذراتٍ من الخيالات؛ ظهور وجهٍ
ما،
مضطربٍ بشدة يصعُب التعرف عليه، عصفور يطير مبتعدًا، عامود يُظهر اتجاهات الرياح،
مُعدَّات
طبية. وبينما إيميلي منشغلة في تمييز مجموعة من الذكريات والصور المرتبكة، كانت الشاشات
المركَّبة HMD تُظهِر، على سبيل المثال، عالمًا افتراضيًّا
مكوَّنًا من سلسلة من الصور الفوتوغرافية، والمأخوذة من ماضيها. إذن يبدأ مركز الرؤية
في
الإبطاء في محاولة العبور الفعلية خلال الصور. كانت كل صورة تظهر أولًا وكأنها سلسلة
من
الألوان العابرة، ثم تبدأ ببطء، وبينما يبتعد مركز الرؤية عن الصورة، تبدأ النقاط
الملوَّنة المتنوِّعة في اكتسابِ ملامحَ يُمكِن تمييزُها لشخصٍ ما أو لمكانٍ ما،
ولكن بمجرد أن
تبدأ الصورة في الظهور بالكامل، يبدأ مركز النظر في العبور إلى صورةٍ أخرى، وتبدأ
الرحلة
من النقاط الملوَّنة للصورة، وصولًا إلى النسخة المقروءة لها في التَّكرار من جديد.
كانت الرؤية من خلال الشاشات المركَّبة HMD تهدف لتقديم
درجةٍ معيَّنة من التفاعل المشترك في تحقق العرض. كان يمكن للمتفرج أن يوجِّه انتباهه
باستقلالٍ أكبر مقارنة بالعرض السينمائي؛ إذ إنه كان يستطيع أن يرفض تمامًا الصورة
الرقمية دون أن يفقد بذلك الصلة مع الحدث.
ومما لا شك فيه أن مسألة تحقُّق العرض والاستمتاع به كانت تبرز على السطح مشكلة
صعبة الحل؛ فمن خلال عرض أجنحة أراد رينيه Reaney أن
يُظهِرَ أن استخدام الواقع الافتراضي يمكن أن يُستخدَم ليس فقط في التحكُّم في إدارة
المشاهد
والمواضع الأكثر تركيبًا وتكلفة، ولكن أيضًا في تقديم الديناميكيات الداخلية، والتي
تُوحي
باضطرابٍ ما في خبرة التلقي. إذن فالواقع الافتراضي يُمكِن أن يكشفَ عن أفضلِ قدراته
التعبيرية، متخذًا نماذجَ تم وضعُها من قبلُ بواسطة النزعة الرمزية والنزعة السيريالية.
وبهدف تجريب سرعة زوال الحدود بين الواقع والوهم، فإن الخبرة المسرحية للمتفرج تفترض،
في هذه الحالة انغماسًا كاملًا؛ وبالتالي استخدام التكنولوجيا التي تعمل على قدرة
التلقي
اليومية، ولكن تُوجَد إشارةٌ عكسية لم تُحل؛ فاستخدام الشاشات المركبة
HMD تجزِّئ الوحدة المتماسكة للجمهور إلى العديد من
الأفراد المنفصلين، الذين يتصل كلٌّ منهم بوسيلة الرؤية الخاصة به. يتسبب ذلك في
الإضعاف
الشديد لمعنى الجماعة التي تشترك في منح أهليةٍ للحدث، ولكننا لا نريد بقولنا هذا
أن
ننكر على الإطلاق إمكانية أن تتخذَ خبراتٌ تجريبيةٌ مثل هذه خصائصَ العرض المسرحي.
وقد حدث بالفعل في مراتٍ أخرى أن تم تجزئة تحقُّق الجمهور المسرحي بناءً على رغبةٍ
مسبقة،
وقد نُفذ التقسيم أحيانًا إلى مجموعات أو إلى أفراد (عروض موجزة يحضرها متفرجٌ واحد
في
كل مرة، أو مونودراما مقدَّمة على شكل اعتراف)؛ فالخبرة المسرحية يمكن أن تجد طريقتها
الخاصة في الوجود انطلاقًا من حميمية العلاقة بالفرد. ومن المحتمل أن تنتهيَ اختباراتُ
الاندماج تلك نهايةً ناجحة إذا كانت تحمل في طيَّاتها نماذجَ مشابهة من الحميمية
والاتصال
الفردي. وإلا فلن يكون من الاستحالة، كمبدأ، إعادة بناء المعنى الجماعي للفريق، ولكن
سيلزم ذلك تكنولوجيات تنفيذ وتحقيق الواقع الافتراضي لم تُكتشف بعدُ، والتي يمكن
أن تنقل
إلى الديكورات والأجواء الافتراضية ليس الأفراد فقط، ولكن المجموعة بكاملها.
إن نشاط معهد اكتشاف الوقائع الافتراضية استمرَّ على مدار الأعوام، استكمالًا لمسيرة
تجريب الإمكانات التعبيرية للديكورات الرقمية على خشبة المسرح. إن تجربة مجموعة البحث
يبدو أنها تسير في الطريق الذي تم الإشارة إليه في الإنتاج الأول، وباستثناء عروضهم
المنتَجة في الفترة الأخيرة، والتي فيها تظهر بعض الشخصيات الافتراضية (التي سنتحدث
عنها
في الفصل الأخير)؛ فالتطور يتعلق بوجهٍ خاص، بالتفوق الجرافيكي في العلاقة مع استخدام
الآلات والتطبيقات الأكثر تطورًا. إن مجموعة تلك التجهيزات كان لها بالتأكيد، الفضل
في
وضع قضية الواقع الافتراضي في الإطار العملي التجريبي المسرحي، موضحةً بذلك المشكلات
التي
يمكن التعرض لها والحلول الممكنة أيضًا.
٣٣
وبهذا المعنى لا يبدو أن الكلمة الأخيرة في ذلك المجال قد قيلَت بعدُ. إن الأعمال
التي
أنتجها رينيه وويليس غالبًا ما تكشف عن آفاقٍ ثقافية متأثرة بشدة بالإنتاج التجاري
المعاصر، ومتأثرة أيضًا بمفهومٍ معياريٍّ للعرض المسرحي، والذي ربما لا يساعد على
إلقاء
الضوء على إمكانات الواقع الافتراضي.
إن الاهتمام بالتحديث التكنولوجي قد يعوق تأملًا أكثر عمقًا حول الحالة الجمالية للعرض،
وهو تحليلٌ أساسي للنماذج الشكلية التي يقوم على أساسها العمل المسرحي، وهو تخمينٌ
ضروري
للغاية في تلك التجارب، التي تضع بوضوحٍ الموضوعَ نفسَه موضعَ نقاش، وتلفِتُ أنظارنا
إليه.
وهناك نتائجُ أخرى تم الوصول إليها في أعوامٍ قريبة؛ ففي الثامن والعشرين من أبريل
عام
٢٠٠٢م، وفي مهرجان ميونيخ للأوبرا Munich Opera Festival
قُدِّم عرض يهودي مالطا The Jew of Malta قام تأليف الموسيقى
وتوزيعها أندريه ويرنر Andre Werner، وهو العمل المقتبس من أوبرا
لمارلو Marlower، وكان العرض
هو ثمرة عملٍ طويل وتعاونٍ بين المؤلِّف، وأسماءٍ
كثيرة معروفة في مجال البحث (ومن بينهم بعضُ الباحثين من ART
+COM في برليل وفي ZKM في
Karlsruhe). والهدف الأساسي هو بناءُ مسرحٍ تفاعلي
interactive stage
الذي فيه يدخل الفضاء الموصوف في الواقع الافتراضي في علاقةٍ مباشرةٍ مع أجساد الممثلين.
والأمر هنا يتعلق بأفضل العروض بهذا المعنى؛ حيث نجح في التنسيق بين الدراما والمشاهد
من
خلال استخدام التكنولوجيات الجديدة. والتفسير الذي اقترحَه ويرنر
Werner يميل إلى الاهتمام بالعلاقة التي لبطله مع
الفضاء الافتراضي، وإلى هذا يُضاف واقعُ أن الممثلين أنفسهم ينصهرون بداخل الفضاء
الافتراضي، بفضل ما يُطلَق عليه الأزياء الديناميكية، والتي عليها يمكن لبرنامج كمبيوتر
معيَّن، ومن خلال اقتفاء أثَر الحركة، يمكن أن يعرضَ بدقةٍ متناهيةٍ ألوانًا وأشكالًا
مختلفة.
وفي هذا العرض تتلاقى أفضل الاستخدامات للواقع الافتراضي في الوقت الواقعي: توليد
الأشكال آليًّا، تتبُّع الحركة، رسم الحركة، العرض الرقمي؛ ولذلك استحق العرضُ جائزة
Interactive Generative Stage and Dynamic Costumes
وذلك في دورة عام ٢٠٠٤م، لمسابقة الفنون الإلكترونية Ars
Electronica.
(٤) الخبرات الإيطالية الأولى
تبدو التجارب الإيطالية ذات علاقةٍ مضادَّة؛ فليس ممكنًا محاولة الوصول إلى استخدامٍ
واسع
النطاق لتكنولوجيات الواقع الافتراضي؛ بحيث يتوقف فقط على إعداد السينوغرافيا. إن
محاولات استيعاب الوسائل الرقمية الجديدة تتضافر مع مسار التجريب، واضعًا إياها في
مجال
ذلك الذي يُدعى مسرح البحث في إيطاليا، انطلاقًا من الستينيات.
فالأمر يتعلق على وجهٍ خاص بتلك التجارب التي تهدف إلى تكاملٍ عام للوسائط الرقمية
مع
كتابة المشاهد (الصورة الرقمية والديكورات التفاعلية). إلا أنه يصعُب التعرُّف هنا
على حركةٍ
حقيقية وفعلية، أو إلى أسلوبٍ يمكن حوله توحيدُ نشاطِ أكثر من فرقةٍ أو من مخرجٍ
واحد.
بالنسبة للمسرح الرسمي، والذي يمتلك وسائلَ اقتصاديةً ملائمة، فقد احتفظ بمسافة حرصٍ
من
التجارب الرقمية، ولا يُبدي اهتمامًا لاحتمالات الخلط بين المشاهد المسرحية والوسائط
الجديدة، مقتصرًا على توظيف الحلول المحدودة جدًّا، مثل إدخال بعض تكنولوجيا عرض
صور
الكمبيوتر جرافيك، كما حدث في عرض لوليتا Lolita الأخير
للوكا رونكوني Luca Roncori في المسرح الصغير في ميلانو
Piccolo Teatro.
وهكذا فإن الاهتمام تجاه الوسائط الرقمية المتعدِّدة يبرُز بالأحرى في نشاط شباب
الفنانين أو الفرق الصاعدة، التي، بفضل ثبات التزامها ومحاولاتها المستمرة، تُحاوِل
تأكيدَ
بعضِ النظريات الجديدة حول اللغة. في الواقع يُوجَد اقترابٌ ما بين بعض الأنشطة المسرحية
وعالم الحاسوب، أحيانًا يكون حسب الاحتياج، ومقيَّدًا باللحظة المطلوبة، وأحيانًا
أخرى يكون
شيئًا خطَّطوا له، وأدمجوه بالفعل في مشروع العمل.
وسنُلقي الضوء، باختصار، على تجربتَين مثيرتَين للاهتمام من الوهلة الأولى، في هذا
المجال.
منذ عدة أعوام بدأَت فرقة
TPO (مسرح الميدان أو
المناسبات
Teatro di Piazza O d’Occasione) بالفعل
بتطوير علاقةٍ فريدة بين مسرح الأطفال والاستعانة بالتكنولوجيا الرقمية.
٣٤ ومنذ عرض قصص مضغوطة
Storie Zip، الذي
فاز بجائزة ستريجاجاتُّو
Stregagatto عام ١٩٩٩م، عمل
المدير الفني دافيدي فينتوريني على تحديث الحواديت التقليدية عن طريق الوسائط الرقمية
المتعددة. والقصص المضغوطة، كما يتضح من عنوانها، تبني نسخةً مركَّزة من ثلاث حواديت
شهيرة
للأطفال (الخنازير الثلاثة، وذات الرداء الأحمر، والنعجات السبع)، والحواديت الثلاث
بينها عاملٌ مشترك، وهو وجود الذئب.
٣٥
يذكُر الممثل، الموجود وحده فوق خشبة المسرح، الراوي القادر على أداء أدوارٍ مختلفةٍ
في
الحدث، عندما يستدعي الأمر ذلك، وخلفه تُوجَد شاشةٌ عريضة للعرض، التي تعمل كخلفية،
وتحلُّ
محلَّ اللوحات المتحركة القديمة، بينما يقوم تقنيٌّ يجلس أمام الكمبيوتر بإدارة المعروض
من
الصور وكليبات الكمبيوتر جرافيك مباشرة. وحتى النسيج الصوتي للعرض (صوت الممثل وأصواتٌ
أخرى مسجَّلة، والموسيقى والمؤثِّرات) يتم إدارتُه مباشرةً بواسطة الكمبيوتر. والتفاعل
بين
الممثِّل والشاشة وتقنيِّ الحاسوب يخلق نسيجًا متناسقًا من الحركات والأصوات والصور
الرقمية
(انظر ملحق الصور).
وفي الحدث الذي يقوم فيه الممثل بتمثيل الذئب الذي يهاجم منزل الخنازير الثلاثة، على
سبيل المثال، وبينما يقترب من المنزل، يرى المتفرجون على الشاشة بقعًا سوداء متتابعة
وكأنها بصماتٌ على الأرض. وبالآلية نفسها، وعندما يهاجم الذئب، يظهر خطٌّ من اللون
الأحمر
لبضعِ دقائقَ وكأنه آثارُ أقدامه المجروحة.
ومن الطبيعي أن المعروض فوق الشاشة يستخدم أيضًا جسد الممثل، والذي لهذا السبب يرتدي
بدلةً بيضاء، حتى يعمل على إضعاف التضاد مع الشاشة الموضوعة في العمق، ولخلق الإيهام
بحوارٍ
أكثر بين وجهه الثلاثي الأبعاد وبين الصور الرقمية، بل أحيانًا يقوم الممثل نفسه،
تبعًا
لنوع الإسقاط على الشاشة والمسافة بينه وبينها، بوضع خياله ليظهر بوضوحٍ أكثر معطيًا
الانطباع بأن خياله هو ما يتفاعل مع الصور المعروضة.
هذا ينطبق على العروض الأخرى للفرقة نفسها؛ فهم لا يجرِّبون تكنولوجياتٍ جديدة بالمعنى
المباشر لذلك، بل يستحضرون في الممارسة المسرحية الاستخدام العادي للكمبيوتر الشخصي
والإسقاطات الخاصة بالكمبيوتر جرافيك.
ولكن ما يجب أن نلاحظه هنا هو الرغبة في تقديم الإحالات اللغوية، وحرية تركيب الصور،
وعوامل أخرى نموذجية في عالم الوسائط المتعددة داخل الحدوتة الخيالية. إن الكمبيوتر
— وتضميناته اللغوية — يصبح في تلك العروض وسيلةً لتقريب الأطفال والأولاد من المسرح؛
فالممثلون ينطلقون، بالتأكيد، من افتراضِ أن الجمهور الصغير، الذي يعرضون له، ليس
لديه
أفكارٌ مسبقة ضد الكمبيوتر، ولكن أيضًا بأن هذا الجمهور قد استوعَب بالفعل جزئيًّا
تلك
اللغة. هذا يسمح بالتالي بتقديم أداةٍ جديدة للعب؛ تحويل الخبرة الرقمية إلى مفاتيح
اللعبة، وهكذا يصبح اسم منزل الخنازير الثلاثة مكتوبًا
www.tre-porcellini.home. إنها مسيرةُ
بحثٍ تضع في مركزها كلًّا من الكمبيوتر والحدوتة كعنصرَين أساسيَّين في خيال الطفل،
وانطلاقًا
من هذه العلاقة يتم التركيز على عمليات الاتصال المرئية وعلى فورية اللغة. إن البحث
عن
مسرح الصور يتشابك مع الوسائط الجديدة؛ فمن العرائس المتحركة ننتقل إلى تحريك الصور
الرقمية، وذلك لبناء عملٍ درامي على مسرح يكون الممثل فيه هو المحرِّك الأساسي، يكون
هو
محرك الدمية، والدمية نفسها في الوقت ذاته.
أما المؤسسة الثقافية
Zonegmma فهي تمثِّل اتجاهًا آخر؛
وقد تأسَّسَت عام ١٩٩٩م، وأسَّسَها: جاکومو فیردي
Giacomo
Verde، ماسيو تشيتاديني
Massimo
Citadini أندريا بالزولا
Andrea
Balzola، آنا ماريا مونته فيردي
Anna Maria
Monteverdi ماورو لوبوني
Mauro Lupone.
وهؤلاء الخمسة يجمعهم، بطرقٍ متنوِّعة، الاهتمام بالمسرح، والاهتمام بالتكنولوجيا
الديجيتال الجديدة.
٣٦
وهنا نجد الأهدافَ واضحةً وتتجه إلى مناقشة طبيعة العرض، ومحاولة إعادة تأهيل اللغة
المسرحية على ضوء الإمكانات المعروضة من قِبل التكنولوجيات الجديدة؛ فالوسيط الرقمي
الجديد يمكن اعتباره، بتفاؤل، أداةً جديدةً لإعطاء روحٍ جديدةٍ للبحث والتجريب بمعنًى
ديمقراطي ومنتشر. وفي رأي المؤسِّسين فإن انتشار الرقمي لا ينزع عن الخبرة المسرحية
طبيعتَها، بل بالأحرى يُلقي بجسرٍ لتدعيم العلاقة بين العارض والجمهور؛ حيث يسمح
بلقاء
الطرفَين البعيدَين على مستوًى موحَّد من الاتصال الشامل والمشترك؛ فالرقمي إذن ليس
سلوكًا
مستقبليًّا، بل هو بناءُ الحاضر على أرضيةٍ جماعية من التبادل. إنه الوسيلة التي
ستسمح
للفنان بأن يُمزِّق عزلته الاختيارية، وأن يقترب من الجمهور.
إن ذلك الاشتراك لا يقترح إعادة تجديد سحر الخبرة المسرحية بمحفزاتٍ تزداد عداوةً
وعنفًا،
بل إنها رغبةٌ في التعرف على أسس التجربة المعاصرة، وعلى أساسٍ تفاعلي فيها تُبنى
بناءً
دراميًّا جديدًا؛ بحيث لا يكون الجمهور هو ذلك المتفرج السلبي، ولكن من خلالها يكتشف
المتفرج في كل مرةٍ طريقةً مختلفة للاشتراك في العرض والاندماج فيه. إن الظهور نفسه
لصورٍ
إلكترونية وأجسادٍ واقعية في اللحظة نفسها، يحثُّ في حدِّ ذاته على بداية حوارٍ جد
إيجابي
يهدف إلى إعادة اكتساب الجمهور لنشاطه؛ حيث إنه في الفترات الأخيرة لتقديم الوسائط
السمعية والبصرية تحوَّل أكثر إلى دورٍ سلبي، سواء في المسرح أم في السينما.
ولم تعُد قدرة الصور والعلامة المرئية لتلك الوسائط المتعلقة بالوسائط المتعددة
الرقمية، ترتبط آليًّا بالسلبية، بل بالعكس ستصبح في المستقبل، تكنولوجيا إنتاج الصور
في
وقتٍ فعلي، هي المحدِّدة لحوارٍ جديد ومكثَّف بين المسرح والجمهور.
وُلدَت مؤسسة Zonegemma نتيجةً للتعاون في الإخراج
المسرحي عام ١٩٩٨م، لعرض حكايات الماندالا، وهذا نصٌّ تشعبيٌّ درامي لأندريا بالزولا
Andrea Balzola، أخرجَه ومثَّله جاكومو فيردي، بالتعاون
الرقمي مع ماسيمو تشيتاديني.
انطلق الإنتاج من إيماءات الماندالا (كلمة سنسكريتية تعني الدائرة)، وهو شكلٌ نموذجي
من أشكالٍ وألوانٍ مختلفةٍ مرتبطةٍ بالتناترنيرم الهندوسي والبوذية، والذي يمثِّل
رمزيًّا
الكون.
والعرض هو حكايةٌ تفاعليةٌ مكوَّنة من ست حكايات أصلية، أعدَّها أندريا بالزولا بتصرُّف،
وربط
فيما بينها الرجل-الطفل، الماندالا، الأميرة السوداء، الغراب، الكلب الأبيض، الحجر،
وأخيرًا ثنائي الجنس. والعرض يحتمل شكلَين ممكِنَين من الديكورات أماميًّا ومركزيًّا.
وفي الحالتَين
فإن الجمهور يشترك في تطوُّر الحكاية متتبعًا سرد الممثل وتطوُّر الصور الرقمية.
٣٧ وبفضل نظام الماندالا للفرقة الكندية
VividGroup، فإن الممثِّل والمزوَّد بقفاز معطياتٍ
data glove (قفاز له القدرة على نقل حركات اليد إلى
الكمبيوتر)، يمكنه أن يتفاعل مع الديكور الرقمي، الذي يتحرك بدَوره بأن يتحوَّلَ
أو يُصدِرَ
أصواتًا بمجرد أن يلمسه.
٣٨ وبالاستفادة من القدرات الخاصة بالنص التشعُّبي للكتابة الرقمية في كل ليلة
عرضٍ كان يمكن للمتفرجين تحديدُ بأي قصة يبدأ العرض. أما الممثل فيحدِّد كيفية سير
السرد،
وذلك بأن يصبح هو نفسُه راويَ حكايات إلكترونيًّا يمكنه أن يغيِّر، تبعًا للدوافع
(لما يستشعره
من الجمهور)، مسارَ حكايته. وأصبح العرض أكثر إتقانًا بمرور السنوات، ويُعرَض حتى
الآن في
إيطاليا. أما أبحاث المؤسَّسة، وخاصة جاكومو فيردي، فلقد تحركَت في اتجاهاتٍ متنوِّعة،
حتى
بدأَت في مناقشة فكرة وجود الممثل والجمهور، وذلك بأن تشترك تلك التكنولوجيا ليس
فقط في
المشهد نفسه من حيث إمكانات تقديمه على شبكة الإنترنت؛ فالعرض المسرحي وضعَ مفهومَ
المكان
في أزمة، ويُواجِه إمكانية الاتصال الفوري والكوني للإنترنت.
مصادر ومواد من شبكة الإنترنت
-
هناك بحثٌ مثير حول العَدْوى بين المسرح والوسائط المتعددة الرقمية، وهو
Digital Performance Archive
(DPA).
يهدف هذا المشروع أن يصبح وسيلة فعالة لكل من يهتمُّون بهذا الموضوع
أكاديميًّا (ليس هذا فقط) بمعنى الدراسات المشتركة بين علمَين في مجالاتٍ
مختلفة (مسرح رقص، فنون تشكيلية، علوم اجتماعية، كمبيوتر، وإلكترونيات).
وهذا الأرشيف تأسَّس في المملكة المتحدة، بالتعاون مع وحدة أبحاث الديجيتال
Digtal Research Unit التي في قسم
المرئيات والفنون الاستعراضية Visual and Performing
Arts في جامعة نوتينجهام ترينت
(Nottingham Trent University) ووحدة
الاتصال وأبحاث الاستعراض في مدرسة الاتصال والموسيقى والاستعراض في جامعة
سلفرد Performance Research Unit presso la scuola di
Media, Music and Performance (University of Salford)
وبرئاسة أساتذة من المعهدَين بروفسور باري سميث وبروفسور ستيف ديكسون
Barry Smith & Stave
Dixon.
-
تُوجَد على النت أيضًا قاعدةُ بياناتٍ مفيدة جدًّا، متعدِّدة الروابط،
وقادرة على أن تزوِّد بإيجاز معلومات محدَّثة عن البانوراما العالمية في
الأعوام الأخيرة، بالإضافة إلى أنها تحتوي على بعض لقطات الفيديو ولقاءات
متخصِّصة مع المؤلِّفين: (
http://dpa.ntu.ac.uk/dpa_site/).
وهذا الأرشيف يُعد بالتأكيد واحدًا من أوائل المواقع التي نظَّمَت فهارسَ
دقيقة للتجارب المتنوعة للأحداث الحية التي تستخدم التكنولوجيات الرقمية،
سواء على المسرح أو من جهة التفاعل عن طريق الإنترنت. ويجب الثناء على قدرة
التنظيم للمشروع، تبعًا لإمكانات الإبحار في النص المتشعِّب، الذي يُعتبر
قطاعًا كان حتى الآن موضوعًا يتعرض لأقصى حالات الفوضى، وبعيدًا تمامًا عن
أي دقةٍ علمية.
والجدل حول الواقع الافتراضي متسع ومنتشر. ومن الطبيعي أنه يمكن الحصول
على شبكة الإنترنت على معلوماتٍ متنوعة بمجرد وضع الكلمات المطلوبة في
محركات البحث المعروفة. وعلى سبيل المثال سنذكُر اثنَين من تلك المواقع
المهمة. بداية هناك الموقع الإنجليزي لجمعية الواقع الافتراضي
Virtuality.
(
http://www.vrs.org.uk/)
والذي يمكن من خلاله العثور على قائمة المعامل التي تجرِّب الواقع
الافتراضي، وأيضًا مسردٌ مفيدٌ للمصطلحات المتخصِّصة. وفيما يتعلق بإيطاليا
نذكُر أن أحد أهم الأحداث المهمة للدراسة ولانتشار وتطور الواقع الافتراضي
يوجد في الدورية الصادرة في تورينو
Virtuality:
(
.http://www.vrmmp.it/virtuality/)
التي تهتم بصفةٍ خاصةٍ بصناعة السينما والألعاب.
-
تثير شخصية آلان تورينج
Alan Turing
اهتمامًا أبعد حتى من الأوساط العلمية؛ فهو يتمتع بخيالٍ خِصْب، وأظهر
شغفَه بالاختراعات، ومقدرةً غير عادية على الحساب. وعندما أعلن عن كونه
مثليًّا، تعرَّض للمحكمة وإدانة أدَّت إلى انتحاره وعُمرُه لم يتجاوز
الثانية والأربعين. وأكثر المواقع زيارة حول شخصيته:
http://www.turing.org.uk
والذي صمَّمه ويديره د. أندرو هودجز
Andrew
Hodges مدرس الرياضة في مدرسة وادهام
Wadham college التابعة لمعهد
الرياضيات في جامعة أكسفورد. وهناك أيضًا القسم المخصَّص له في معهد
ماساشوستس للتكنولوجيا في هاورد (بوسطن)
Massachusetts
Institute of Technology ad Harward (Boston)
http:/web.mit.edu/beland/www/papers/turing
وبعض المعلومات حول الشفرة السرية
Enigma
تُوجَد على موقع
http:/www.math.arizona.edu/~dsl/enigma.htm.
-
إن معهد اكتشافات الواقع الافتراضي
Institute for the
Exploration of Virtual Realities (i.e.
V.R) له مقَر في جامعة كانساس
Kansas في الولايات المتحدة
http://kuhttp.co.ukans.edu)
المعلومات والوثائق، الصور والفيديو، وأي نوع من المواد يمكن الحصول عليها
في الموقع:
http://kuhttp.co.ukans.edu/~mreaney/index.html
والموقع مقسَّم إلى ثلاثة أقسام: المعلومات ذات الطابع العام، تحديث حول
البحث وتوثيق الأعمال المنتَجة. ونتيجة أن الموقع تمَّ تطويرُه داخل قسم
السينما والمسرح فهو يحتوي على العديد من المواقع المثيرة.
بالنسبة ﻟ
Virtus
Corporation فقد تم تأكيدها منذ فترةٍ
كمؤسَّسة في مجال التسلية ذات اهتمامٍ خاص بتطوير برامج الكمبيوتر
للاستخدام، الثلاثية الأبعاد. ولقد غيَّرَت الشركة من اسمها مؤخرًا لتصبح
Virtus Entertainment
Corporation http://www.virtus.com/about.html
pro للأسف الموقع ذو طبيعةٍ تجارية إلى
حدٍّ كبير، ولا يحتوي على معلوماتٍ عن برنامج
Walk through
Pro؛ حيث إن الشركة قد طبَّقَت سياستها التجارية على
برامجَ أخرى. وعلى الشبكة تُوجَد نسخة
Walkthrough Pro 2.6
للبيع. المعلومات الأخرى عن هذا البرنامج يمكن العثور عليها مباشرةً على
موقع يديره
Reaney وهو:
http://www.ukans.edu/~mreaney/software/virtusrev.html.
بالنسبة لسمَّاعات
Head Mounted
Display HMD فهي منتشرةٌ جدًّا في
الأسواق، وخاصة على شبكة الإنترنت. وهناك اهتمامٌ كبيرٌ تجاه التأثير
الممكن لأدوات الواقع الافتراضي في مجال ألعاب الفيديو، كانت
Virtual
I-O شركة في سياتل
Seattle (أمريكا)، نشأَت عام ١٩٩٤م،
وحاولَت أن تحظى بوصفها على سوق ألعاب الفيديو، وذلك بالتجارة في تلك
العدسات الافتراضية (العدسات التي يمكن ارتداؤها). يقود حاليًّا البحث على
شبكة الإنترنت عن تلك الشركة إلى موقع
http://www.vio.com/VIO،
وهي الشركة الإنجليزية، التي تزوِّد العاملين في الوسائط الرقمية
digital
media بمنتجات برامج الكمبيوتر والخدمات.
ويُوجَد عرضٌ وافٍ لتلك المنتجات الموجودة حاليًّا في الأسواق على موقع:
I-O- Display
Systems والذي تم تأسيسه عام ١٩٩٧م:
www.i-glasses.com..
يوجد تصوير فيديو موجز حول إخراج مسرحية قاضي مالطا
The
Judge of Malta بين المشاريع المدرَجة في موقع
www.art+com.de.
هناك أيضًا المزيد ومسوَّدات تقنية على موقع شخصٍ آخر يشارك في المشروع:
http://www.buero-staubach.de
والعنوان الأصلي للعمل هو مارلو: قاضي مالطا
Marlowe: Der
Jude on Malta.
وقام بتأليف الموسيقى وتوزيعها أندريه ويرنر Andre
Werner، وروديجر بون Rüdiger
Bohn؛ قائد الأوركسترا ستيفان هارهایم
Stefan Herheim إخراج: جان أ. شرودر
Jan A. Shoeder؛ مشاهد وملابس بيورو
ستوباك Buro Staubach، الواقع الافتراضي
والفضاء التفاعلي وعروض الأزياء. واشترك في إعداد المشروع وتنفيذ بعض
الحلول الخاصة:
-
المؤسسة الثقافية المسرحية للميدان أو المناسبات
L’Associazione Culturale Teatro di Piazza o
d’Occasione مقرُّها في براتو
Prato لدى مسرح ميتاستازيو، ونشاط
المجموعة موثَّق جيدًا على موقعهم
http://www.tpo.it.
وبالإضافة إلى أن الموقع يحتوي على أوراق عروضهم (للأسف تلك التي ما زالت
في التوزيع)، يُوجَد أيضًا موادُّ توضيحية (صور وأشكال) ومعلومات عامة عن
الفرقة.
-
والمعلومات الخاصة بنشاط مؤسسة زونيجيما
Associazione
Zonegemma يمكن العثور عليها على الموقع
http://www.x-8x8-x.net/zonegemma/index.html
حيث تُوجَد الببليوجرافيا الموجزة للمكوِّنات المختلفة، وتُوجَد أيضًا بعض
المقالات ذات الطابع النظري والبرجماتي، وعلى الموقع يمكن أيضًا تسجيل
الاسم والبريد الإلكتروني في قائمة المراسلة الخاصة بالمسرح التكنولوجي
mailing list tecno
teatro، الذي يُعد، حتى هذه اللحظة،
أحد أكثر الأماكن حيويةً لمناقشة الموضوعات التي تربط بين المسرح والدراما
والتكنولوجيا. يدير جاكومو فيردي
Giacomo
Verde بطريقةٍ مستقلةٍ موقعًا خاصًّا به
http://www.verdegiac.org
والذي يمكن الحصول فيه على سيرةٍ مفصَّلة لأنشطته.
وقد قمتُ في الصفحات السابقة باختيار المنتجات الأكثر ارتباطًا بالموضوع
الذي عالجتُه، ويمكن الاطِّلاع على الموقع السابق لما تبقَّى خارج إطار
مناقشتنا.
ولمزيد من المعلومات حول نظام الماندالا
Mandala
system يمكن الاطِّلاع على الموقع
www.Vividgroup.com.