مغامرة الرجال الراقصين

ظل هولمز جالسًا بضع ساعاتٍ في صمت، وظهرُه الناحل الطويل منحنٍ فوقَ وعاء من أوعية المواد الكيميائية، كان يُحضِّرُ فيه مادةً كريهةَ الرائحة للغاية. كان رأسه غارقًا فوق صدره، وقد بدا في نظري مثل طائرٍ مهزولٍ غريب، بريشٍ رماديٍّ باهتٍ وقُنزُعةٍ سوداء.

فاجأني سائلًا: «إذن، يا واطسون، أنت لا تعتزمُ الاستثمارَ في الأسهم بجنوب أفريقيا، أليس كذلك؟»

أجفلت مذهولًا؛ فعلى الرغم من تعوُّدي على مَلَكات هولمز العقلية اللافتة للنظر، فإن هذا النفاذ غير المتوقع إلى أكثر أفكاري خصوصيةً كان متعذرًا تمامًا على التفسير.

وسألتُ: «بحق السماء كيف تأتَّتْ لك معرفة هذا؟»

فاستدار على كرسيه، وبيده أنبوب اختبارٍ يتصاعد منه البخار وفي عينَيه الغائرتَين التماعةٌ عابثة.

وقال: «والآن، يا واطسون، اعترفْ أنك بُغِتَّ كُليًّا.»

«أعترف.»

«يجدر بي أن أجعلك تُوَقِّع على ورقةٍ تشهد بهذا.»

«لِمَ؟»

«لأنك ستقول بعد خمس دقائق إن الأمر كله كان بسيطًا إلى حد السخافة.»

«أنا واثق أني لن أقول شيئًا من هذا القبيل.»

فثبَّتَ أنبوب الاختبار في الحامل وبدأ يُحاضر وكأنه أستاذ يخاطب تلاميذه: «تعرف، عزيزي واطسون، أنه ليس من الصعب حقًّا أن تُنشئَ سلسلة من الاستنتاجات، يعتمد كل واحد فيها على الذي يسبقه ويكون كل واحد منها بسيطًا في ذاته. إذا أقصى المرءُ، بعد فعل هذا، كل الاستنتاجات التي في وسط السلسلة وقدم لجمهوره نقطة البداية والنتيجة النهائية، فقد يتمكن من إحداث تأثير مذهل، لكنه ربما يكون زائفًا. والآن، ومن خلال فحص الثُّلمة التي بين سبابةِ يدك اليسرى وإبهامها، فلمْ يكن من العسير في الواقع أن أتأكد أنك لمْ تنوِ استثمارَ رأس مالك الصغير في حقول الذهب.»

«لا أرى علاقة بين الأمرَين.»

«على الأرجح لا يوجد، لكني أستطيع أن أُريك علاقةً قويةً في الحال. وإليك الحلقاتِ المفقودةَ من السلسلة البالغة السهولة. أولًا، كان هناك أثرُ طباشير بين سبابة يدك اليسرى وإبهامها عندما عُدتَ من النادي في الليلة الماضية. ثانيًا، أنت تضع الطباشير في هذا الموضع لتجهيز عصا البلياردو عندما تلعب هذه اللعبة. ثالثًا، أنت لا تلعب البلياردو مطلقًا إلا مع ثرستن. رابعًا، لقد أخبرتني منذ أربعة أسابيع أن ثرستن كان لديه حق التصرف في ممتلكات معينة بجنوب أفريقيا خلال مدة عقدٍ تنتهي في غضون شهر، وقد أرادك أن تشاركه فيه. خامسًا، دُرج مكتبي مُغلقٌ على دفتر شيكاتك، ولمْ تطلب مني المفتاح. والنتيجة: أنتَ لا تنوي استثمارَ أموالك بهذه الطريقة.»

فصحتُ: «كم هذا بسيطٌ إلى حد السخافة!»

فقال، وهو مُغضَب قليلًا: «بكل تأكيد! كل قضية تصبح في غاية السخافة بمجرد أن تُفسَّر لك. ها هي قضية لم تُفسر بعد. فأخبرني ماذا تستطيع أن تستشفَّ من وراء هذه، يا صديقي واطسون.» وقذفَ بورقة على الطاولة ثم استدار مرةً أخرى إلى تحليله الكيميائي.

نظرتُ باندهاش إلى الرسوم المبهمة العبثية التي على الورقة.

فصِحتُ: «ما هذا يا هولمز؟ إنها رسمة طفل.»

«أوه، هذا هو رأيك!»

«وماذا ينبغي أن تكون بخلاف هذا؟»

«هذا ما يتلهَّفُ لمعرفته السيد هيلتن كيوبت، المقيم بمنزل ريدلينج ثورب مانور، بمقاطعة نورفك. لقد وصلت هذه الأحجية الصغيرة مع بريد أول قطار، وكان المفترض أن يلحق بها في القطار التالي مباشرة. جرس الباب يدق، يا واطسون. ينبغي ألَّا أُفاجأ كثيرًا لو كان هو الذي بالباب.»

سمعنا وطءَ أقدام متثاقلة على السلالم، وبعد هُنَيهةٍ دخلَ رجلٌ طويلُ القامة متورد اللون حليق الذقن والشاربَين، كانتْ عيناه الصافيتان ووجنتاه المتوردتان تشي بأنه كان يحيا حياةً بعيدة عن ضباب شارع بيكر ستريت، وبدا كأنه قد جلب معه عند دخوله نفحةً من هواء الساحل الشرقي الطلق القوي المنعش حيث يُقيم. كان على وَشْك الجلوس بعد أن صافحنا كلينا، حين وقعتْ عينه على الورقة ذات العلامات الغريبة، التي كنتُ قد فحصتُها لتوِّي وتركتُها على الطاولة.

فصاح: «حسنٌ، يا سيد هولمز، ما الذي فهمتَه من هذه الرسوم؟ لقد أخبروني أنك مغرمٌ بالألغاز الغريبة، ولا أظنك تستطيع إيجاد لغز أغرب من ذلك. لقد أرسلتُ الورقة سلفًا لعلك تجد الوقتَ لدراستها قبل أن أصل.»

فرد هولمز قائلًا: «إنها بالتأكيد عملٌ غريب نوعًا ما، وربما تبدو للوهلة الأولى أنها مَقلبٌ صبياني. فهي تتكون من عددٍ من الرسوم الصغيرة السخيفة لأشخاص يرقصون بعرضِ الورقة التي رُسموا عليها. ما الذي يحملُك على أن تعزوَ أيَّ أهميةٍ لشيءٍ غريب كهذا؟»

«لست كذلك مُطلقًا، يا سيد هولمز. لكنَّها زوجتي. يكاد الأمر يقتلها خوفًا. إنها لا تنبس ببنت شفة، لكنني أستطيع أن أرى الرُّعبَ في عينَيها. ولهذا أريد أن أسبرَ غوْرَ هذا الأمر.»

رفع هولمز الورقة حتى يسطعَ ضوءُ الشمس عليها بالكامل. كانتْ صفحةً مقطوعةً من مُفكرة والأشكالُ مرسومة عليها بالقلم الرصاص على هذا النحو:

فحصها هولمز لبعض الوقت، ثم طواها بحرص، ووضعها في مفكرة الجيب خاصته.

ثم قال: «إن هذه القضيةَ تُبشِّر بأن تكون في غاية الإثارة والغرابة. لقد أعطيتني قليلًا من التفاصيل في خطابك، يا سيد هيلتن كيوبت، لكني سأكون ممتنًّا جدًّا لك إذا تفضَّلتَ بتكرارها كلها مرة أخرى من أجل صديقي، الدكتور واطسون.»

رد ضيفُنا، وهو يُراوح بين تشبيك أصابع يدَيه القويتَين الضخمتَين وحلِّهما بتوتُّر: «لستُ بالراوي الجيد؛ فسلْني عن أيِّ شيءٍ لا أحسنُ توضيحه. سوف أبدأ من وقت أن تزوجتُ في السنة الماضية، ولكني أريد أن أقول، قبل كل شيءٍ، إنه على الرغم من أنني لستُ رجلًا ثريًّا، فإن عائلتي تعيش في منزل ريدلينج ثورب مانور منذ ما يقارب خمسة قرون، ولا توجد عائلة أشهر من عائلتي في مقاطعة نورفك. لقد وفدتُ إلى لندن في العام الماضي من أجل الاحتفال باليوبيل الماسي لجلوس الملكة فيكتوريا على العرش، وأقمتُ في نُزُلٍ في ميدان راسل سكوير؛ لأن باركر، كاهن أبرشيتنا، كان مقيمًا فيه. التقيت هناك فتاة أمريكية، كان اسمها باتريك؛ إلسي باتريك. وبطريقة ما أصبحنا أصدقاء، وقبل أن تحين نهايةُ شهر زيارتي كنت مُتيَّمًا بها بقدر ما يُمكن لرجلٍ أن يكون. تزوجنا بهدوءٍ في مكتب للزواج المدني، وعدنا إلى نورفك زوجَين. ستعتقد أنه أمرٌ طائشٌ جدًّا، يا سيد هولمز، أن يتزوجَ رجلٌ من أسرةٍ كريمةٍ عريقةٍ بامرأةٍ بهذه الطريقة، وهو لا يعرف شيئًا عن ماضيها ولا عن أسرتها، لكنك لو رأيتَها وعرفتَها لساعدك ذلك على تفهُّم موقفي.

لقد كانتْ صريحةً جدًّا بخصوص هذا الأمر، هكذا كانتْ إلسي. لا أستطيع أن أقول إنها لمْ تُعطِني كل فرصةٍ لإنهاء علاقتنا لو كنتُ رغبتُ في ذلك. فلقد قالت: «لقد كانتْ لديَّ بعض العلاقات غير المقبولة تمامًا على مدى حياتي، وأتمنى أن أنسى كل شيءٍ عنها. أُفضِّل ألَّا أُلمِّحَ أبدًا إلى الماضي؛ لأنه موجعٌ جدًّا بالنسبة إليَّ. إذا تزوجتَني، يا هيلتن، فستتزوج من امرأةٍ ليس لديها ما يضطرها للشعور بالخزي على المستوى الشخصي، لكن سينبغي عليك أن ترضى بكلمتها ضمانًا على ذلك، وأن تسمح لي بعدم الإفصاح عن كل ما يتعلق بما مضى من حياتي قبل أن أصبح لك. إذا كانت هذه الشروط من الصعوبة بحيث تُعجِزك، فعُد إذن إلى نورفك وخلِّني لحياة الوحدة التي وجدتَني فيها.» لمْ تقُلْ لي هذه الكلمات تحديدًا إلَّا قبل زواجنا بيومٍ واحد. قلتُ لها إنني سعيد بالزواج منها وفقًا لشروطها، ولمْ أزَلْ عندَ كلمتي.

حسنٌ، لقد مرَّ عامٌ على زواجنا حتى الآن، ونحن في غاية السعادة. لكن منذ حوالي شهر، في نهاية شهر يونيو، بدأتُ أرى لأول مرة مؤشرات المتاعب. ففي أحد الأيام تلقَّتْ زوجتي خطابًا من أمريكا. لقد رأيتُ عليه طابع البريد الأمريكي. لاحظت على وجهها شحوبًا كشحوب الموتى، وبعد أن قرأت الخطاب ألقتْه في نار المدفأة. لمْ تأتِ زوجتي على ذِكرِه بعد ذلك، ولا أنا فعلتُ، فإن العهد يقتضي الوفاء، لكنها لمْ تنعمْ براحةٍ قط منذ تلك اللحظة. فهناك دائمًا ملامحُ خوف على وجهها، ملامحُ انتظارٍ وترقُّب. سيكون من الأفضل أن تثقَ بي. سوف تجدُ أنني أفضل صديقٍ لها. لكن لا يمكنني قول أي شيء إلى أن تخبرني هي بالحقيقة. لكني ألفتُ نظرك، يا سيد هولمز، إلى أنها امرأةٌ جديرةٌ بالثقة، ومهما كان من مشاكل في حياتها الماضية، فلا ذنب لها فيها. إنني لستُ سوى مالِكِ ضيعة بسيط في مقاطعة نورفك، لكن ما من رجلٍ في إنجلترا يُبجِّل مقامَ عائلته مثلما أفعل. وهي تعرف هذا جيدًا، وكانتْ تعرفه جيدًا قبل أن تتزوج بي. لذا، فهي لن تلوث مقام هذه العائلة بأيِّ شيء، إنني موقن من هذا.

حسنٌ، والآن أصل إلى الجزء الغريب من قصتي. فمنذُ حوالي أسبوع — وكان يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي — وجدتُ فوق عتبة إحدى النوافذ عددًا من الرسوم الغريبة لأشكال صغيرة راقصة، كتلك التي على الورقة، وقد رُسمت باستخدام الطباشير، فظننتُ أن الفتى الذي يعمل في الإسطبل هو الذي رسمها، لكنَّ الفتى أقسمَ أنه لا يعلم شيئًا عنها. على أيِّ حال، رُسِمَت تلك الأشكال هناك أثناء الليل. فأمرتُ بغسلها، ولمْ أذكر الأمر لزوجتي إلا فيما بعد. ففُوجِئْتُ أنها بالغتْ في أخذِ الأمر على محمل الجدِّ، وتوسَّلتْ إليَّ أنْ أُرِيَها تلك الرسوم إذا ظهرَ المزيد منها. ولمْ يظهر شيءٌ طوال أسبوع، ثم في صباح البارحة وجدتُ هذه الورقة ملقاةً فوق المِزولة في الحديقة. أَريتُها لإلسي، فسقطتْ فجأةً وعانتْ من فقدانٍ كاملٍ للوعي. ومنذ ذلك الحين وهي أشبه بامرأةٍ داخلَ حُلْم، في شبه ذهول، وفي عينَيها رعبٌ كامن طوال الوقت. ثم كانَ أن راسلتُك وبعثت إليك الورقة بعد ذلك، يا سيد هولمز. لمْ يكن الأمر يصلحُ أن أعرضه على الشرطة؛ لأنهم كانوا سيسخرون مني، لكنَّك ستخبرني بما عليَّ فعلُه. أنا لستُ بالرجل الثري، ولكن إذا كان هناك أيُّ خطرٍ يتهددُ زوجتي الغالية، فسأنفقُ آخر مليمٍ لديَّ لكيْ أحميها.»

كان إنسانًا مهذبًا، ذاك الرجلُ الآتي من الأرض الإنجليزية العتيقة، بسيطًا، وصريحًا، ودمث الأخلاق، له عينان زرقاوان واسعتان تفيض منهما الجدية، ووجهٌ رحبٌ وسيم. كان حبه لزوجته وثقته بها باديَين على ملامحه. أصغى هولمز إلى قصته بأقصى قدرٍ من الاهتمام، ثم جلسَ بعض الوقت في تأمُّلٍ صامت.

ثم قال، أخيرًا: «ألا تعتقد، يا سيد كيوبت، أنَّ الطريقة المُثلى قد تكون بمناشدة زوجتك مباشرةً أن تطلعك على سرِّها؟»

فهزَّ هيلتن كيوبت رأسه الضخم، وقال: «العهدُ يقتضي الوفاء، يا سيد هولمز. لو أرادتْ إلسي أن تخبرَني، فستفعل. وإلَّا، فليس من حقِّي أن أجبرها على الوثوق فيَّ. لكنِّي معذورٌ في التصرف بصورة مستقلة، وسوف أفعل.»

«إذن، فسأساعدك من كل قلبي. أولًا، هل سمعتَ بحلول أيِّ غرباء في المنطقة المجاورة لك؟»

«لا.»

«أفترض أنها منطقة هادئة جدًّا. ألن يُثيرَ ظهورُ أيِّ وجهٍ جديدٍ فيها كلام الناس؟»

«أما في الجوار المباشر فنعم. لكن عندنا عدة أنزال صغيرة وهي لا تبعد كثيرًا عنَّا. والمزارعون يستقبلون النزلاء هناك.»

«من الواضح أن لهذه الرسوم المبهمة معنًى. إن كانتْ عشوائيةً كلِّيًّا فسيتعذرُ علينا فهمُها، أما إن كانتْ مكتوبةً وفقًا لنظامٍ ما، فلا أشك أننا سوف نسبر غورها. لكنَّ هذه العينةَ مقتضبةٌ جدًّا بحيث لا أستطيع أن أستشف منها شيئًا، والحقائق التي جئتَني بها بالغةُ الغموض؛ فليس لدينا ما نؤسس عليه تحقيقًا. أقترح أن تعود إلى نورفك، وأن تراقب الوضع عن كثب وتأخذَ نسخةً طبق الأصل من أيِّ رسومٍ جديدة قد تظهر لرجال راقصين. إنه لمؤسفٌ حقًّا أننا لا نملك نسخة من تلك الرسوم التي رُسمت بالطباشير على عتبة النافذة. استعلِمْ بحذرٍ كذلك عن وجود أيِّ غرباء في الجوار. وعندما تجمِّع بعض الأدلة الجديدة عاود زيارتي مرةً أخرى. هذه أفضل نصيحة أستطيع أن أقدمها لك يا سيد هيلتن كيوبت. إذا جدَّتْ أيُّ تطوراتٍ طارئةٍ فسأكون مستعدًّا دائمًا للمسارعة إلى رؤيتك في منزلك بنورفك.»

لقد تركتْ هذه المقابلةُ شيرلوك هولمز غارقًا في التفكير، ولقد رأيتُه مرات عديدة في الأيام القليلة التالية لها يُخرج قصاصة الورق من مفكرته ويطيل النظر بجدية في الأشكال الغريبة المنقوشة فوقها. لكنه لمْ يأتِ على ذكر القضية إلا بعد مرور حوالي أسبوعَين، وكان ذلك بعد ظهر أحد الأيام. كنتُ أهمُّ حينها بالخروج من البيت فطلب مني العودة للداخل.

«يجدر بك البقاء هنا، يا واطسون.»

«لِمَ؟»

«لأنني تلقيتُ برقيةً من هيلتن كيوبت هذا الصباح. أتذكرُ هيلتن كيوبت، صاحب رسوم الرجال الراقصين؟ كان من المفترض أن يصل إلى شارع ليفربول ستريت في الساعة الواحدة والثلث، وقد يصل إلى هنا في أي لحظة. لقد أدركتُ من برقيته أن بعض الأحداث الجديدة المهمة قد وقعتْ.»

لمْ يطُل انتظارنا، فقد أتى صاحبُنا مالِكُ الضيعة بنورفك مباشرةً من المحطة بأقصى سرعة تستطيع عربةٌ أن تُحضره بها، وقد بدا قلقًا كئيبًا، وكانتْ عيناه متعبتَيْن وجبينه مُقَطَّبًا.

وقال، وهو يغوص في مقعد ذي ذراعين، كما يفعل رجلٌ مُنهك: «إن هذا الأمر يُتلف أعصابي، يا سيد هولمز. إنه لمؤذٍ بما فيه الكفاية أن تشعرَ أنك محاطٌ بأناسٍ لا تراهم ولا تعرفهم، وهم يحيكون مكيدةً ما ضدك، ولكن عندما تعرف، علاوة على ذلك، أن هذا الأمر يوشك أن يقتل زوجتك، فإنه يصبح فوق ما يتحمَّله بشر. إنها تذوي تحت وطأة هذا الأمر، فقط تذوي أمام عيْنَيْ.»

«أولمْ تقل أيَّ شيءٍ بعد؟»

«لا، يا سيد هولمز، لم تقلْ شيئًا. ورغم هذا كانت الفتاة المسكينة ترغب أحيانًا في أن تتكلم، لكن لم تستطعْ أنْ تُرغم نفسها على اتخاذ هذه الخطوة الحاسمة. لقد حاولتُ مساعدتها، ولكني على الأرجح فعلتُ هذا بطريقةٍ خرقاءَ فكرَّهتُ إليها الأمر. لقد كانتْ تتكلمُ عن عائلتي العريقة، وعن مكانتنا المرموقة في مقاطعة نورفك، وعن اعتزازنا بشرفنا الذي لا تشوبه شائبة، ودائمًا ما شعرتُ أن هذا كان سيؤدِّي بنا للحديث عن الموضوع، لكن وبطريقةٍ ما كان الكلام يتحول لمسار مختلف قبل الوصول إليه.»

«لكنك اكتشفتَ شيئًا ما بنفسك؟»

«اكتشفتُ الكثير، يا سيد هولمز. فعندي لك العديدُ من الصُّور الحديثة لرجالِ راقصين لكي تفحصها، والأكثر أهمية، هو أنني رأيتُ الرجل.»

«الرجل الذي يرسمها؟»

«نعم، لقد رأيته وهو منهمك في رسمها. لكني سأخبرك بكل شيءٍ بالترتيب. عندما عدتُ للمنزل بعد زيارتك، كان أول ما رأيتُه على الإطلاق في الصباح التالي للزيارة مجموعة جديدة من أشكال الرجال الراقصين. كانت قد رُسمت بالطباشير على باب مخزن المعدات الخشبي الأسْود، الذي يقع قُربَ المرجة الخضراء بمواجهة النوافذ الأمامية مباشرة. فأخذتُ منها نسخةً طبق الأصل، وها هي ذي.» نشرَ الرجل ورقةً وبسطها فوق الطاولة، قائلًا: «ها هي ذي نسخة من الرسوم المبهمة»:

قال هولمز: «رائع! رائع! أكملْ، أرجوك.»

«وبعدما أخذتُ النسخة أزلتُ العلامات، لكن بعد يومَين ظهرَ نقشٌ جديد. ومعي نسخة منه هنا»:

ففركَ هولمز كفَّيه إحداهما بالأخرى وضحك ضحكة خافتةً في سرور.

وقال: «الأدلة تتجمَّع سريعًا.»

«وبعد ثلاثة أيامٍ وجدتُ رسالةً كُتبتْ على عجلٍ في ورقة، ووُضعتْ تحتَ حصاةٍ فوقَ المزولة. ها هي ذي. وكما ترى، فالرموز متطابقة تمامًا مع تلك التي في الرسالة الأخيرة. وبعد هذا قررتُ أن أتربص به؛ لذا أخرجتُ مسدسي وسهرتُ بمكتبي الذي يُطل على المرجة والحديقة. وفي حوالي الساعة الثانية صباحًا كنتُ جالسًا قربَ النافذة، في ظُلمةٍ مطبقةٍ لا يشقُّ ستورَها حولي غيرُ نورِ القمر بالخارج، إذ سمعتُ خلفي وقعَ خُطًى، فإذا هي زوجتي مرتديةً ثياب نومها. أخذتْ تتوسل إليَّ أن آوي إلى الفراش. فقلتُ لها بصراحةٍ إنني وددت أن أعرف من ذاك الذي يُمازحنا بتلك الخدع السخيفة. فأجابتْ بأنَّه لمْ يكن غير مقلب أخرق، وأنه ينبغي لي ألَّا أوليه أيَّ اهتمام.

وقالتْ: «لو كان حقًّا يزعجك، يا هيلتن، فيمكننا أن نسافر، أنا وأنت، فنتفادى هذه المضايقة.»

فقلتُ لها: «ماذا؟ أنُجبَرُ على الرحيل من منزلنا بسبب صانع مقالب؟ يا للهول، إننا بذلك سنجعل نورفك بأسرها تسخر منَّا.»

فقالتْ: «حسنٌ، تعالَ لتنام، وسندرس هذا الأمر في الصباح.»

وفجأةً، وأثناءَ ما كانتْ تتكلم، رأيتُ وجهها الشاحبَ يزدادُ شحوبًا تحت ضوء القمر، واشتدت قبضتها على كتفي. كان شيءٌ ما يتحركُ في ظلمة مخزن المعدات. رأيتُ هيئةً قاتمةً لشخصٍ ينسلُّ نحو ركن المخزن ثم يقعي أمام الباب. فقبضتُ على مسدسي وهممتُ بالمسارعة إلى الخروج، فألقتْ زوجتي بذراعَيها حولي وأمسكتْ بي بقوةٍ وهي تتشنج. حاولتُ أن أتحرر منها، لكنها تشبثت بي باستماتة قصوى. ثم تحررت من يدَيها أخيرًا، ولكن عندما فتحت الباب ووصلتُ إلى المخزن كان ذلك الشخص قد رحل. ولكنه خلَّفَ وراءه أثرًا لوجوده، فقد كان يوجد على الباب نفسُ نسقِ أشكال الرجال الراقصين الذي تكرر ظهوره مرتَين من قبل بالفعل، والذي نسختُه على تلك الورقة. ورغم أنني ذرعتُ المساحة المحيطة بالمنزل كلها بحثًا عن الرجل، فلمْ أجد له أثرًا آخر في أي مكان. لكن المدهش في الأمر أنه كان موجودًا هناك طوال الوقت بلا شك، لأنني عندما فحصتُ الباب مرةً أخرى في الصباح، وجدتُ أنه رسمَ المزيد من تصاويرِه تحتَ السطر الذي كنتُ قد رأيتُه سلفًا.»

«هل هذا الرسم الجديد معك؟»

«نعم؛ إنه مقتضب جدًّا، ولكني أخذتُ نسخةً عنه، وها هو ذا.»

وأخرج ورقةً مجددًا. وكانت الرقصة الجديدة بهذا الشكل:

قال هولمز وقد بدا لي من عينَيه أنه كان متحمسًا جدًّا: «قُل لي، أكانتْ هذه مجرد إضافة للرسم الأول، أم بدت مستقلةً تمامًا عنه؟»

«لقد كانتْ على لوحٍ مختلفٍ من ألواح الباب.»

«عظيم! هذا هو الأكثرُ أهميةً بكثيرٍ لمرادنا بين كل ما عداه. إنه يملؤني بالأمل. والآن، سيد هيلتن كيوبت، أكمل حديثك البالغ التشويق من فضلك.»

«ليس عندي مزيد قولٍ، يا سيد هولمز، غير أني غضبتُ من زوجتي تلك الليلة على إثْر منعها إيَّاي، وقد كان من الممكن أن أمسك بهذا الوغد المتسلل. لقد قالت إنها كانتْ تخشى أن يصيبني مكروه. جالَ بذهني للحظة أنه ربما كان الذي تخشاه بالفعل أن يصيبه هو مكروه؛ لأنني لمْ أستطع أن أشك في أنها كانتْ تعرف من هو هذا الرجل وما الذي كان يقصده بتلك الإشارات الغريبة. لكن هناك نغمة في صوت زوجتي، يا سيد هولمز، ونظرة في عينَيها تقطعان الشكوك، وأنا موقن أنها إنما كانت تقصد سلامتي بالفعل. ها هي ذي القضية بكاملها، وأنا الآن أريد نصيحتك بخصوص ما يجدر بي فعلُه. فأنا أميل إلى وضع ستة من رجال مزرعتي بين الشجيرات، فإذا جاء هذا الرجل ثانيةً أبرحوه ضربًا بالسياط حتى يدعنا وشأننا فيما بعد.»

قال هولمز: «أخشى أن القضية أعقد من أن تُحلَّ بمثل هذه الحلول البسيطة. إلى متى تستطيع البقاء في لندن؟»

«يجب أن أعود إلى نورفك اليوم؛ فلن أترك زوجتي وحيدةً طوال الليل لأي سبب من الأسباب. إنها متوترةٌ جدًّا وقد رجتني أن أعود.»

«أظن أنك على صواب. لكنك لو كنتَ بقيتَ قليلًا فلربما كنتُ سأتمكن من الرجوع معك بعد يوم أو يومَين. أما الآن فستدعُ لي هذه الأوراق، وأظنني — على الأرجح — سوف أزورك قريبًا وألقي بعض الضوء على قضيتك.»

احتفظ شيرلوك هولمز بسلوكه الاحترافي الرزين حتى رحلَ ضيفُنا، لكنه كان من اليسير عليَّ، أنا الذي خبرتُه تمام الخبرة، أن أرى شدة تحمسه. فلحظةَ توارَى ظهرُ هيلتن كيوبت العريضُ خلف الباب طارَ رفيقي إلى المنضدة، وبسطَ أمامه كل قصاصات الورق التي تحتوي على أشكال الرجال الراقصين، ثم أُغرق في عمليةٍ من التفكير المستفيض والمعقد. راقبتُه مدةَ ساعتَين وهو يملأُ صفحةً بعد أخرى بالأشكال والحروف، مستغرقًا بالكامل في مهمته هذه حتى غدا واضحًا أنه نسي وجودي. كان تارةً يحرزُ تقدمًا فيصفِّر ويغني جَذِلًا بما أنجزه، وتارةً أخرى يتحير، فيمكثُ فترات طويلة مقطَّبَ الجبينِ ذاهلَ النظرات. وأخيرًا نهض فجأةً من مقعده وهو يهتف هتاف رضا، وأخذ يسير في أرجاء الغرفة جيئةً وذهابًا ويفرك يديه إحداهما بالأخرى، ثم كتبَ برقيةً طويلةً على إحدى أوراق التلغراف، وقال: «إذا وافقَ الردُّ على هذه البرقية ما أرجوه، فسيكون لديك قضيةٌ ممتازة جدًّا تضيفها إلى مجموعتك يا واطسون. إنني أتوقع أن نتمكن من الذهاب إلى مقاطعة نورفك في الغد، وأن نقدِّم لصديقنا بعض الأخبار الأكيدة عن السر وراء انزعاجه.»

أعترف أنني كنتُ ممتلئًا فضولًا، ولكني كنت أعرف أن هولمز يحب أن يكشف عن أسراره في الوقت الذي يحدده وبالطريقة التي يختارها؛ لذا انتظرتُ حتى يحين الوقت الذي يناسبه فيه أن يطلعني على أسراره.

لكنْ تأخر الردُّ على برقيته؛ إذ تبعَها يومان من نفادِ الصبر، كان هولمز خلالهما يصيخ سمعَه لكل دقة من دقات جرس الباب. وفي مساء الليلة الثانية وصل خطابٌ من هيلتن كيوبت. كان كل شيءٍ لديه على ما يرام، غير أنَّ نقشًا طويلًا قد ظهرَ في صباح ذلك اليوم على قاعدة المزولة. وقد أرفق بالخطاب نسخةً منه، أُعيدُ بدوري نسخها هنا:

انحنى هولمز على هذا النقش العجيب بضع دقائق، ثم انتفض واقفًا فجأةً شاهقًا شهقةَ اندهاشٍ وفزع، وقد شحبَ وجهه من القلق.

وقال: «لقد سمحنا لهذا الأمر أن يتمادى بما فيه الكفاية. أهناك قطار متوجه إلى بلدة نورث والشم الليلة؟»

فرجعتُ إلى جدول مواعيد القطارات، ووجدتُ أن القطار الأخير كان قد غادرَ للتو.

فقال هولمز: «إذن فسنفطر مبكرًا ونأخذ أول قطارٍ في الصباح، فوجودُنا هناك ضروريٌّ بصورة ملحة. أوه! ها هي ذي البرقية التي نتوقعها. لحظة واحدة، سيدة هدسون؛ فقد يكون هناك ردُّ ما. لا، هذا ما توقعته تمامًا. هذه الرسالة تحتم علينا بصورة أكبر ألَّا نُضيع ساعةً واحدة قبل أن نخبر هيلتن كيوبت كيف تسير الأمور، حيث إنه شَرَكٌ غريبٌ وخطيرٌ ذلك الذي وقع فيه صاحبنا مالك الضيعة الطيب في مقاطعة نورفك.»

وهكذا بالفعل كانتْ حقيقةُ الأمر، وإنني — إذ أقتربُ من النهاية القاتمة لقصةٍ لمْ تكن تزيد في نظري على كونها سخيفة وغريبة — لأقاسي من جديدٍ ذاكَ الفزع وذلك الرعبَ اللذيْن كانا قد غمراني من قبل. ليتني كنتُ أعرف خاتمةً أكثر إشراقًا لأبلغ قُرائي بها، لكن هذا سرد لوقائع حقيقية، ولا خيار لديَّ إلا أن أقفوَ سلسلة الأحداث الغريبة وُصولًا إلى ذروتها الحالكة، تلك الأحداث التي جعلتْ من منزل ريدلينج ثورب مانور كلمةً تتردد في طول لندن وعرضها لبضعة أيام.

لم نكد نحط رحالنا في بلدة نورث والشم، ونعلن عن وجهتنا، حتى أسرع نحونا ناظر المحطة قائلًا: «أعتقد أنكما المحققان القادمان من لندن، أليس كذلك؟»

فعلتْ وجهَ هولمز نظرةُ انزعاج، وقال: «ما الذي يجعلك تعتقد مثل هذا الأمر؟»

«لأن مفتش مدينة نوريدج، المفتش مارتن، مرَّ من هنا للتو. لكن ربما تكونان الجرَّاحَيْن. هي لا تزال على قيد الحياة، أو لمْ تمت بحسب الروايات الأخيرة للأحداث. لعلكما وصلتما في الوقت المناسب لإنقاذها — بيْدَ أنكما ستنقذانها كيْ تتلقَّاها المشنقة.»

اكفهرَّتْ ملامحُ هولمز من القلق.

قال: «إننا متوجهان إلى منزل ريدلينج ثورب مانور، لكننا لمْ نسمع شيئًا عمَّا حدثَ هناك.»

فقال ناظر المحطة: «إنه أمرٌ فظيع، فكلاهما أُصيب بطلقٍ ناري، السيد هيلتن كيوبت وزوجته على حد سواء. لقد أطلقتْ عليه الرصاص ثم على نفسها — هكذا يقول الخدم — ففارق الحياة، أما هي فحياتها ميئوسٌ منها. يا إلهي، يا إلهي، كم عجيبٌ أن يحدث هذا لعائلة من أعرق العائلات وأرفعها مكانةً في مقاطعة نورفك.»

فأسرع هولمز إلى إحدى العربات دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة، وطوال مسافة الطريق الطويلة البالغة سبعة أميال لم يفتحْ فمه مطلقًا. لقلَّما رأيتُه جازعًا تمامًا هكذا. لقد كان مهمومًا طوال رحلتنا كلها من ساعة غادرنا البلدة، ولاحظتُ أنه قد تصفَّح جرائدَ الصباح باهتمامٍ وقلق، أما الآن فإن هذا التحقُّقَ المفاجئ لأسوأ مخاوفه تركَه في كآبةٍ مُطبِقة. أسند هولمز ظهره إلى مقعده، وتاهَ في تأملٍ مُوحش. ورغم هذا فقد كان حولنا الكثير مما يثير انتباهنا، إذ كنا نمر عبر منطقة ريفية لا تختلف في تفردها عن أيٍّ من أرياف إنجلترا، حيث تناثر قليلٌ من الأكواخ منبئة عن عدد سكانها آنذاك، بينما كانت الكنائس الضخمة ذات الأبراج المربعة تنتصب عالية على كلا الجانبَين فوق المناظر الطبيعية الخضراء الممتدة لتنبئ عن بهاء منطقة إيست أنجليا العتيقة وازدهارها. وأخيرًا تبدَّت حافة بحر الشمال البنفسجية فوق الضفة الخضراء لساحل مقاطعة نورفك، ثم أشار السائقُ بسوطه ناحية اثنَين من الأسقف المجملنة العتيقة المبنية بالطوب والخشب اللذين برزا من خلال أيكةٍ من الأشجار قائلًا: «هذا هو منزل ريدلينج ثورب مانور.»

وأثناء ما كانت العربة تُقلنا ناحية الباب الأمامي ذي الرواق المُعمَّد رأيتُ أمامَه، وبالقرب من ملعب التنس، كُلًّا من مخزن المعدات الأسود والمزولة ذات القاعدة، اللذَيْن يرتبطان عندنا بتلك الأشياء الغريبة. قابلنا رجلًا أنيقًا ضئيل البنية، ذا طريقةٍ نشطة رشيقةٍ وشاربٍ مفتولٍ، وقد نزلَ لتوه من عربةٍ عالية. فعرَّفنا بنفسه أنه المفتش مارتن، من شرطةِ نورفك، وعندما سمع اسمَ رفيقي، اعتراه ذهولٌ كبير.

«يا للهول، يا سيد هولمز، إن الجريمةَ لمْ تُرتكب إلَّا في الثالثة من صباح اليوم! فكيف لك أن تسمع بها وأنت في لندن ثم تصل إلى موقعها حالما وصلتُ أنا؟»

«لأنني كنتُ أتوقعُها. وقد أتيتُ على أملِ أن أمنعها.»

«فلا بد إذن أنك تملك دليلًا مهمًّا لا نعرفه نحن؛ لأنه يُقال إنهما كانا زوجين متآلفين إلى أبعد الحدود.»

قال هولمز: «معي فقط دليل الرجال الراقصين، وسوف أشرح لك الأمر لاحقًا. أما الآن، وبما أنه فات أوانُ منع هذه المأساة، فإنني متلهِّف جدًّا لاستخدام ما لديَّ من معلومات في سبيل ضمان تحقيق العدالة. هل ستُشركني في تحقيقك، أم تُفضل أن أعملَ بمفردي؟»

فقال المفتش، بنبرة جادة: «إن من دواعي فخري أن أتعاون معك يا سيد هولمز.»

«في هذه الحالة سيسعدني الاستماع إلى الشهود وفحص مسرح الجريمة دون أدنى تأخير.»

كان لدى المفتش مارتن من الكياسة ما جعله يسمح لصديقي بإنجاز المهمة على طريقته الخاصة، واكتفى بتدوين النتائج بدقة. كان جرَّاحُ المنطقة، وهو رجل مُسنٌّ أشْيَب، قد نزل لتوه من حجرة زوجة السيد هيلتن كيوبت، وأعلن أن جروحها خطيرة، لكن ليستْ مميتة بالضرورة؛ إذ نفذت الرصاصة عبر مقدمة دماغها، ويُحتمل أن يتطلب الأمر بعض الوقت قبل أن تتمكن من استعادة وعيها. وعندما سُئل هل أُطلقَت الرصاصة عليها أم هي أطلقتْها على نفسها، لمْ يجرؤ على الإفصاح عن أيِّ رأي حاسم، لكن المؤكد أن الرصاصة قد أُطلقت من مسافة قريبة جدًّا. ولمْ يُعثر في الغرفة إلا على مسدسٍ واحد قد أُفرِغَت أسطوانتاه. أما السيد هيلتن كيوبت فقد أُصيب برصاصةٍ في القلب. كانت احتماليةُ أن يكون هو مَن أطلق عليها الرصاص ثم على نفسه متساويةً مع كونها هي الفاعلة؛ لأن المسدس كان مُلقًى على الأرض في منتصف المسافة بينهما.

فسأل هولمز: «هل نُقلتْ جثته؟»

«لمْ ننقل أيَّ شيءٍ باستثناء السيدة. لمْ نستطِع تركها ممددةً على الأرض وهي مُصابة.»

«منذ متى وأنتَ هنا، يا دكتور؟»

«منذ الساعة الرابعة.»

«أيوجد أي أحد غيرك؟»

«نعم، هذا الشرطي.»

«وأنتَ لمْ تمسَّ أيَّ شيء؟»

«مُطلقًا.»

«لقد تصرفتَ بحرص شديد. من الذي أرسل في طلبك؟»

«خادمة المنزل، ساندرز.»

«هل كانتْ هي من طلبت المساعدة؟»

«هي والسيدة كينج، الطاهية.»

«وأين هما الآن؟»

«في المطبخ، على ما أعتقد.»

«أظن إذن أنه يجدرُ بنا سماعُ ما عندهما على الفور.»

تحولت القاعة العتيقة، التي تزينها ألواحُ خشب السنديان وترتفع نوافذها عاليًا، إلى ساحة للتحقيق. جلس هولمز على كرسي كبير قديم الطراز، وعيناه العنيدتان تلمعان في وجهه المنهك. كنتُ أقرأ فيهما عزمًا أكيدًا على تكريس حياته لهذا التحقيق حتى يُؤخذ في النهاية بثأر عميله الذي أخفق في إنقاذ حياته. كنت أنا والمفتش الأنيق مارتن وطبيب البلدة الأشيب وشرطي قروي متبلد الحس نشكل بقية تلك الرفقة الغريبة.

قصَّت المرأتان ما تعرفانه بالوضوح الكافي: لقد استيقظتا من نومهما على صوت انفجارٍ تبعه بعد دقيقة انفجارٌ آخر. كانتا نائمَتَين في غرفتَين متجاورتَين، فهُرعت السيدة كينج إلى ساندرز ونزلتا على الدرج معًا. كان باب حجرة المكتب مفتوحًا وثمة شمعة تشتعل فوق المنضدة وسيدهما ممدد على وجهه في وسط الحجرة وقد فارق الحياة بالفعل. أما زوجتُه فكانتْ جاثمةً بجوار النافذة، ورأسها مائل على الحائط. كانتْ إصابتها رهيبة، والدماءُ تصبغ صُدْغها بلونها الأحمر، وكانت تتنفس بصعوبة، لكنها لم تكن قادرة على قول أي شيء. كان الدخان ورائحة البارود يغمران الممر والغرفة، والنافذة موصدة ومحكمة الإغلاق من الداخل يقينًا. أبدت المرأتان استجابة إيجابية حيال الحادثة؛ إذ أرسلتا على الفور في طلب الطبيب والشرطي، ثم عمدتا إلى نقل سيدتهما الجريحة إلى غرفتها، بمساعدة سائس الخيل وفتى الإسطبل. كانت هي وزوجها قد أويا إلى غرفة النوم؛ إذ شُوهدت مرتدية ثوبها، وشُوهد الزوج مرتديًا روبًا فوق ملابس النوم. لمْ يتحرك شيءٌ من مكانه في غرفة المكتب. بقدر ما تعلم الشاهدتان فإنه لم يقع أيُّ شجار بين الزوج وزوجته مطلقًا؛ فقد كانتا دائمًا تريانهما زوجَين متآلفَين جدًّا.

كانتْ هذه النقاطَ الرئيسية في شهادة الخادمتَين. عندما سألهما المفتش مارتن عن أبواب المنزل، أكدتا أن جميع الأبواب كانتْ محكمة الإغلاق من الداخل، وأنه لمْ يكن أحدٌ ليستطيع الهروب من المنزل، كما أجابتا هولمز على سؤالٍ له بأنهما تذكران تمييزهما لرائحة البارود من لحظة إسراعهما بالخروج من حجرتَيهما بالطابق العلوي. فقال هولمز لزميل مهنته: «إنني أوصيك بتوجيه عنايتك الفائقة إلى هذه المعلومة. والآن أعتقد أننا مستعدون للشروع في فحصٍ شامل للغرفة.»

اتضح من الفحص أن حجرة المكتب حجرةٌ صغيرة، تصطف الكتب على ثلاثة من جوانبها، وبها طاولة للكتابة تقع في مواجهة نافذةٍ عاديةٍ مُطلةٍ على الحديقة. كان أول ما لفت انتباهنا جثة مالك الضيعة التعيس الحظ، التي كان بنيانها الضخم ممددًا فوق أرضية الغرفة. كانت ثيابه غير المهندمة تدل على أنه قد أُوقظ من نومه على عجل. لقد أُطلقت الرصاصةُ عليه من الأمام، وبقيتْ في جسده بعدما اخترقت القلب. من المؤكد أن موته كان فوريًّا ولم يكن مؤلمًا. لمْ يكن هناك أثر للبارود على روبه ولا على يديه، وبحسب ما قال جراح البلدة، فقد كانت هناك بقع على وجه السيدة، أما يدها فلم يكن عليها شيء.

قال هولمز: «إن عدم وجود أثر للبارود لا يعني شيئًا، ولكن وجودَه قد يعني كل شيء. فقد يستطيع المرء إطلاق العديد من الطلقات دون ترك أي أثر ما لمْ يرتد عليه بارود الخرطوش السيئ الصنع. أرى أنه يمكن إزالة جثمان السيد كيوبت الآن. أظن أنك لمْ تستخرج بعدُ الرصاصة التي أصابت السيدة، يا دكتور؟»

«سيحتم هذا إجراءَ عملية خطيرة. ولكن لا يزال هناك أربعة خراطيش في المسدس. أُطلق اثنان ووقعتْ إصابتان، لذا يمكن معرفةُ أين ذهبتْ كل رصاصة.»

قال هولمز: «قد يبدو الأمر كذلك، لكن ربما يمكنك أيضًا أن تضع في اعتبارك الرصاصة التي من الواضح جدًّا أنها أصابت حافة النافذة؟»

واستدار فجأةً، وإذا بإصبعه الطويل الرفيع يشير إلى فجوةٍ حُفرتْ في إطار زجاج النافذة السفلي مباشرةً على مسافة بوصةٍ تقريبًا فوق القاعدة.

فصاح المفتش: «يا إلهي! كيف استطعتَ رؤيةَ هذا؟»

«لأنني كنتُ أبحث عنها.»

قال جرَّاح البلدة: «مدهش! إنك محق تمامًا سيدي. إذن فقد أُطلقتْ رصاصة ثالثة، وعليه فلا بد أن شخصًا ثالثًا كان موجودًا. ولكن من عساه يكون هذا وكيف استطاعَ الهرب؟»

قال شيرلوك هولمز: «هذه هي المشكلة التي نوشك أن نحلها الآن. ألا تذكر، أيها المفتش مارتن، عندما قالت الخادمتان إنهما وجدتا رائحة البارود فوْرَ مغادرة حجرتَيهما أنني عقبتُ على ذلك بأن هذه النقطة بالغة الأهمية؟»

«بلى يا سيدي، لكن أعترف أنني لمْ أُدركْ ما رميتَ إليه على نحوٍ تام.»

«يشير هذا إلى أن النافذة وباب الحجرة كانا مفتوحَين لحظة إطلاق النار، وإلا لما انتشرَ دخان البارود في المنزل بهذه السرعة. كان هذا يستلزم وجود تيار هواء في الحجرة. بيد أن الباب والنافذة لم يفتحا إلا لفترة وجيزة جدًّا.»

«كيف يمكنك إثبات هذا؟»

«لأن الشمعة لمْ تذُب.»

فصاح المفتش: «ممتاز! ممتاز!»

«وإذ تيقنتُ أن النافذة كانتْ مفتوحةً وقتَ حدوث المأساة، تصورتُ أنه ربما كان هناك طرف ثالث في القضية، وقد وقف خارج هذه الفتحة وأطلق النار من خلالها. يمكن لأيِّ طلقة تُصوَّب على هذا الشخص أن تصطدم بإطار النافذة. فبحثتُ، وإذا بأثر الرصاصة هناك ظاهر بالفعل!»

«ولكن كيف أُوصِدت النافذةُ وأُحكِم إغلاقُها؟»

«قد يكون أول ما دفعت غريزةُ المرأة إياها إليه هو قفل النافذة وإحكام إغلاقها. لكن، مهلًا! ما هذا؟»

كان فوق طاولة الغرفة حقيبة يدٍ نسائية — حقيبة يد صغيرة أنيقة مصنوعة من جلد التمساح والفضة. ففتحها هولمز وأخرج محتوياتها. كان بها عشرون ورقة من فئة الخمسين جنيهًا الصادرة عن مصرف إنجلترا، وكانتْ مربوطة بشريط من المطاط — ولا شيء غير ذلك.

قال هولمز، وهو يسلم الحقيبة ومحتوياتها للمفتش: «يجب الحفاظ على هذه؛ فسيكون لها أهمية في المحاكمة. ومن الضروري الآن أن نحاول إلقاء بعض الضوء على هذه الرصاصة الثالثة، التي يبدو واضحًا، من خلال تشقق الخشب، أنها أُطلقتْ من داخل الغرفة. أود رؤية السيدة كينج، الطاهية، مرة أخرى. لقد قلتِ، سيدة كينج، إنك استيقظتِ على صوت انفجارٍ مُدوٍّ. عندما قلتِ هذا، هل كنتِ تقصدين أنه بدا لكِ أكثر حدةً من الانفجار الثاني؟»

«حسنٌ، سيدي، لقد أيقظني من نومي؛ لذا فمن الصعب أن أقرر. لكنه بدا عاليًا جدًّا.»

«ألا تظنين أنه ربما أُطلِقَت الرصاصتان في اللحظة نفسها تقريبًا؟»

«لا أستطيع الجزم، يا سيدي.»

«أعتقد أن الأمر كان كذلك دون شك. وأكاد أرى، أيها المفتش مارتن، أننا قد استنفدنا الآن كل ما يمكن لهذه الغرفة أن تخبرنا إياه. فهلا تتفضل بمرافقتي، علَّنا نرى ما لدى الحديقة من أدلة جديدة تقدمها.»

لاحظنا وجود حوض أزهار ممتد حتى نافذة حجرة المكتب، وقد أصابنا جميعًا الذهول عندما اقتربنا منه. كانت الأزهار قد سُحقتْ والتربة الرخوة مختومةً في كل جزء منها بآثار أقدام. كانتْ آثار قدمَيْ ذكر ضخمة ذات أصابع طويلة حادة الأطراف بطريقةٍ غريبة. وراحَ هولمز يفتش بين العشب وأوراق النباتات وكأنه كلبُ صيد يتعقب طائرًا جريحًا. ثم انحنى للأمام، وهو يصيح صيحة رضًا، ملتقطًا جسمًا أسطوانيًّا نحاسيًّا صغيرًا.

وقال: «كنتُ أتوقع هذا، المسدس به قاذفٌ للطلقات الفارغة، وها هو ذا الخرطوش الثالث. أعتقد حقًّا، أيها المفتش مارتن، أن قضيتنا قد حُسمتْ تقريبًا.»

أظهرتْ ملامح وجه مفتش البلدة دهشته الشديدة من التقدم السريع البارع الذي أحرزه تحقيقُ هولمز. صحيح أنه قد أظهر بعض الميل إلى تأكيد مكانته في بداية الأمر، ولكن الإعجاب غلبه الآن وصار مستعدًّا لاتِّباعِ هولمز أينما قاده من دون مناقشة.

وسأل: «فيمن تشتبه؟»

«سوف أُفصِّل هذا لاحقًا. إن في هذه القضية العديدَ من النقاط التي لمْ أتمكن بعدُ من توضيحها لك. أما الآن وبما أني وصلتُ إلى هذه النقطة من التقدم فيحسنُ بي أن أُكمل الأمر بطريقتي الخاصة، ثم أوضح الأمر كله بصورةٍ نهائية.»

«كما تُحب، يا سيد هولمز، ما دمنا سوف نتوصل إلى المجرم.»

«أنا لا أنوي اختلاق الألغاز، ولكن يستحيل الدخول في تفسيراتٍ طويلة ومعقدة لحظةَ أداء المهمة. إنني أُمسك بخيوط هذه القضية كلها في يدي، وحتى إن لم تستعِد هذه السيدةُ وعيَها أبدًا فما زال بإمكاننا أن نعيد تخيل أحداث ليلة أمس، وأن نضمن تحقق العدالة. ولكن قبل كل شيء أود أن أعرف إن كان يوجد أيُّ نُزُلٍ في الجوار يُعرف باسم «نزل إلريدج»؟»

أجرينا استجوابًا للخدم، ولكن لمْ يكنْ أحد منهم قد سمع بمثل هذا المكان، لكن الفتى الذي يعمل في الإسطبل ألقى ضوءًا على الموضوع عندما تذكَّر أن هناك مُزارعًا يحمل هذا الاسم ويعيش على بُعد بضعة أميال باتجاه قرية إيست راستن.

«هل مزرعته هذه في مكان معزول؟»

«إنها معزولة تمامًا، سيدي.»

«ربما لمْ يسمعوا بعد بكل ما حدث هنا أثناء الليل، أليس كذلك؟»

«نعم يا سيدي، ربما.»

وفكَّر هولمز قليلًا ثم بدأت ابتسامةٌ غريبةٌ تتراقص على وجهه.

وقال: «أسرِج فرسًا، يا فتى. أريدك أن تحمل رسالة إلى مزرعة إلريدج.»

أخرج هولمز من جيبه قصاصات الورق المتنوعة التي تحمل أشكال الرجال الراقصين، ووضعها أمامه على المكتب وراحَ يعمل لبعض الوقت. وأخيرًا سلَّم رسالةً للفتى، وأمره أن يسلمها يدًا بيد للشخص الذي كُتبتْ له، وأكد عليه ألَّا يُجيبَ عن أي أسئلةٍ من أيِّ نوعٍ قد تُطرحَ عليه. رأيتُ مظروفَ الرسالة، كان عنوانها مكتوبًا بأحرف مبعثرة غير منتظمة ومغايرة تمامًا لكتابة هولمز الدقيقة المعتادة. كانتْ موجهةً إلى السيد آيب سليني، بمزرعة إلريدج، قرية إيست راستن، مقاطعة نورفك.

علَّق هولمز قائلًا: «أعتقد، أيها المفتش، أنه يحسنُ بك أن تُرسل ببرقيةٍ تطلب فيها بعض الحرس؛ لأنه، إذا صحَّتْ توقعاتي، فمن الممكن أن تقبض على سجين بالغ الخطورة لا بد من إرساله إلى سجن المقاطعة. يمكن بلا شك للفتى الذي سيحمل هذه الرسالة أن يبعث ببرقيتك. إذا كان هناك قطار يتجه إلى المدينة في فترة بعد الظهر، يا واطسون، فأظن أنه يحسُن بنا أن نستقله؛ فأنا لديَّ تحليل كيميائي مهم أريد أن أنجزه، وهذا التحقيق يدنو سريعًا من نهايته.»

بعد إرسال الفتى بالرسالة أصدر شيرلوك هولمز تعليماته للخدم. أمرهم شيرلوك ألَّا يُفصِحوا عن أي معلومات عن حالة زوجة السيد هيلتن كيوبت لأيِّ زائرٍ قد يأتي سائلًا عنها، بل عليهم أن يصطحبوه على الفور إلى قاعة الاستقبال. أكد عليهم هولمز أهمية الالتزام بهاتَين النقطتَين مبديًا أقصى درجات الجدية، وفي النهاية تقدَّمَ إلى قاعة الاستقبال وهو يشير إلى أن الأمر لمْ يعد بأيدينا الآن، وأنه ينبغي لنا أن نمضي الوقت بأفضل صورة ريثما نتبين ما يخبئه لنا الغيب. غادر الطبيب بعدها إلى مرضاه، ولم يبقَ غيري أنا والمفتش.

قال هولمز، وهو يسحب كرسيه صوب المكتب ويبسط أمامه الأوراق المختلفة التي دُوِّنت عليها أشكال الرجال الراقصين الغريبة: «أظن أنني أستطيع أن أساعدكما على تمضية ساعةٍ من الوقت بطريقة ممتعة ومفيدة. أما بالنسبة إليك، صديقي واطسون، فأنا مدين لك بكل تعويضٍ لصبرك عن إشباع فضولك الطبيعي طوال هذه المدة. وأما عنك، يا حضرة المفتش، فقد تروق لك الواقعة كلها بوصفها دراسة احترافية بارزة. يجب عليَّ أن أخبركما أولًا بجميع الملابسات المثيرة للاهتمام والمتعلقة بالمشاورات التي أجراها السيد هيلتن كيوبت معي من قبل في شارع بيكر ستريت.» ثمَّ أعاد هولمز باختصار سرد الحقائق التي أوردتها بالفعل، وتابع قائلًا: «إن أمامي هنا هذه الرموز الفريدة، التي كان المرءُ سيضحك منها لو لمْ يثبتْ أنها كانتْ نُذُر مأساةٍ فظيعةٍ كهذه. إن جميع أنواع الكتابة السرية مألوفة لديَّ إلى حد ما، وأنا نفسي ألفتُ كتابًا متواضعًا عن هذا الموضوع، وقد حلَّلتُ فيه سر مائة وستين شفرة مختلفة، ولكني أعترف أن هذه الكتابة جديدة كليًّا بالنسبة إليَّ. من الواضح أن هدفَ من اخترعوا هذه الطريقة كان أن يُخفوا أن هذه الرموز تحمل معنى، وأن يعطوا انطباعًا أنها مجرد تصاوير عشوائية من صنع الأطفال.

لكن، بمجرد أن أدركتُ أن هذه الرموز تمثلُ حروفًا، وعندما طبقتُ عليها القواعد التي ترشدنا في جميع أنواع الكتابات السرية، أصبح الحل سهلًا بما فيه الكفاية. كانت أول رسالة سُلمتْ إليَّ قصيرة جدًّا بحيث كان من المستحيل أن أتوصل إلى ما هو أبعد من القول، ببعض الثقة، إن هذا الرمز:

يمثل الحرفَ E. كما تعرفان، فالحرف E هو الحرف الأكثر شيوعًا بين حروف الهجاء الإنجليزية، وهو غالبُ الورود فيها بدرجةٍ ملحوظةٍ جدًّا بحيث يتوقع المرءُ أن يجده الأكثر تكرارًا حتى في الجمل القصيرة. ومن بين خمسة عشر رمزًا تضمنتهم الرسالة الأولى كان هناك أربعة رموز متطابقة، لذا كان من المعقول أن أعد هذا الرمز حرف E. صحيح أن الشكل كان يحمل علَمًا في بعض الأحيان ولا يحمله في بعضها الآخر، لكن يحتمل — من خلال طريقة توزيع الأعلام — أنها كانت تُستخدم لتقسيم الجملة إلى كلمات. تقبلتُ هذا التصور باعتباره فرضية، ودونتُ أن حرف E كان يُمثَّل بهذا الرمز:
لكن بعد ذلك واجهتني الصعوبة الحقيقية في التحقيق؛ فترتيب شيوع الحروف الإنجليزية فيما بعد الحرف E غير محدد على الإطلاق، وأيُّ رجحانٍ قد يبدو لأحد الحروف على غيره في صفحةٍ عادية مطبوعة يمكنُ أن ينتقض بجملة واحدة قصيرة. فالحروف T، A، O، I، N، S، H، R، D، L تأتي على هذا الترتيب تقريبًا من ناحية تكرارها، لكن الحروف T، A، O، I تتكرر بنسبةٍ متقاربة جدًّا، وستكون تجربة كلِّ مزيجٍ منها بهدف الوصول إلى معنًى مهمة لا تنتهي؛ لذا انتظرتُ وُرودَ رسوم جديدة. وفي لقائي الثاني بالسيد هيلتن كيوبت استطاعَ أن يعطيني جملتين قَصيرتَين أخريَيْن ورسالة واحدة، وقد بدتْ — لعدم وجود أعلام فيها — أنها كلمة واحدة. ها هي الرموز. والآن، فإن لديَّ بالفعل في الكلمة المفردة حرفي E وهما واقعان في الترتيب الثاني والرابع لكلمة من خمسة أحرف. قد تكون هذه الكلمة هي Sever أو Lever أو Never (مستحيل). ما من شك أن الكلمة المحتملة بصورة أكبر هي الكلمة الأخيرة بوصفها ردًّا على طلبٍ ما، وقد أشارت الملابسات إلى كونها ردًّا كتبتْه السيدة. وبافتراض صحة هذا الاحتمال، يمكننا الآن أن نقول إن هذه الرموز:
تُمثل — بالتتابع — الحروف N، ثم V، ثم R.
حتى بعد الوصول إلى تلك المرحلة، فقد كنتُ واقعًا في صعوبة كبيرة، لكن خاطرةً موفقةً مكنتني من الاهتداء إلى حروف عديدة أخرى. خطر ببالي أنه لو كانتْ هذه الطلبات قد وردت، كما توقعتُ، من أحد الأشخاص الذين كانتْ تربطهم صلةٌ قوية بالسيدة في أول حياتها، فإنه من المحتمل جدًّا أن يرمزَ مزيجٌ مكون من حرفَيْ E بينهما ثلاثة أحرف أخرى إلى اسم السيدة بالإنجليزية ELSIE. وعند الفحص وجدتُ أن هذا المزيج من الرموز شكَّل خاتمة الرسالة التي تكررتْ ثلاث مرات. لقد كانت بالتأكيد طلبًا ما موجهًا إلى «إلسي». وبهذه الطريقة حصلتُ على أحرف L، S، I. ولكنْ أي نوع من الطلبات قد يكون هذا؟ كان ثمة أربعة أحرف فقط في الكلمة التي سبقتْ Elsie، وكانتْ تنتهي بحرف E. لا بد أن هذه الكلمة هي COME (تعالي). جربتُ كل كلمة أخرى تتكون من أربعة أحرف وتنتهي ﺑ E، ولكن لمْ أجد بينها ما يلائم الملابسات. وهكذا أصبحتْ معي الحروف C، وO، وM، وأصبحتُ مستعدًّا للشروعِ في دراسة الرسالة الأولى مرة أخرى، فقسمتُها إلى كلماتٍ ووضعتُ نقاطًا مكان كل رمزٍ لمْ أكن عرفته بعد. عندما تعاملت مع الرسالة بهذه الطريقة أصبحتْ بهذا الشكل:
.M .ERE ..E SL.NE.
والآن لا يمكن للحرف الأول إلَّا أن يكون A، وهو اكتشافٌ عظيم النفع؛ لأنه يظهر بما لا يقل عن ثلاث مرات في هذه الجملة القصيرة، ويظهر الحرف H أيضًا في الكلمة الثانية. والآن تصبح الجملة كالتالي:
(أنا هنا آ.ب ﺳﻟﻳﻧ.) AM HERE A.E SLANE.

أو تصبح، عند ملء الفراغات الواضحة في الاسم:

(أنا هنا آيب سليني.) AM HERE ABE SLANEY.

فأصبح لديَّ عندئذٍ عدد كبير جدًّا من الحروف بحيث استطعتُ التقدم بقدرٍ كبيرٍ من الثقة إلى الرسالة الثانية، التي تكشفت عن الآتي:

A. ELRI.ES.
لم أستطع الحصول على معنًى مفهوم إلَّا بوضع حرفَي T وG مكان الحرفَين المفقودَين، وأن أفترضَ أن هذا الاسم كان اسم منزلٍ أو نُزُلٍ ما حيث كان يُقيم كاتب الرسائل.»

جلستُ أنا والمفتش مارتن نستمع باهتمامٍ بالغٍ إلى الوصف الكامل والمفصل لكيفية توصل صديقي إلى النتائج التي مكنتنا من مثل هذا التغلب التام على مصاعبنا.

سأله المفتش: «وماذا فعلتَ بعد ذلك، يا سيدي؟»

«كان لديَّ كل الأسباب التي تجعلني أفترض أن آيب سليني هذا كان أمريكيًّا، لأن كلمةَ «آيب» لفظةٌ أمريكية مرخمة، ولأن مبتدأ المأساة كلها كان خطابًا واردًا من أمريكا. وكان عندي كذلك كل الدوافع لأعتقد أن الأمر كان ينطوي على سر جنائي؛ فتلميحات السيدة عن ماضيها ورفضها إطلاع زوجها على أسرارها يشيران إلى هذا الاحتمال؛ لذا أرسلتُ برقيةً إلى صديقي ويلسن هارجريف، في مكتب شرطة نيويورك، الذي استفاد أكثر من مرةٍ من معرفتي بعالم الجريمة في لندن. سألته إذا ما كان الاسم آيب سليني مألوفًا بالنسبة إليه. وها هو ذا رده: «أخطر محتال في شيكاجو.» في المساء نفسه الذي تلقيتُ فيه ردَّه أرسلَ إليَّ هيلتن كيوبت آخرَ رسالة وصلته من سليني. وبترجمتها إلى الحروف المعروفة، اتخذَت الرسالةُ الصورة التالية:

(إلسي .ﺳﺗ.دي لملاقاة رﺑ.) ELSIE .RE.ARE TO MEET THY GO.
أكملتْ إضافةُ حرفَي P وD معنى الرسالة التي فهمتُ منها أن الوغد انتقل من الاستمالة إلى التهديدات، وأهَّلتْني معرفتي بمحتالي شيكاجو للانتباه إلى أنه ربما ينفذ كلامه بمنتهى السرعة، فأتيتُ على الفور إلى نورفك برفقة صديقي وزميلي الدكتور واطسون، لأجد، آسفًا، أن أسوأ الأمور قد وقع بالفعل.»

قال المفتش، بحرارة: «إنه لشرف لي أن أشترك معك في حلِّ إحدى القضايا، ولكني أستميحك عذرًا في التحدث إليك بصراحة. أنتَ لستَ مسئولًا إلَّا أمام نفسك، أما أنا فمضطر لتبرير أفعالي لرؤسائي. فلو كان آيب سليني، المقيم في مزرعة إلريدج، هو المجرم بالفعل، وتمكَّن من الهرب وأنا جالس هنا، فسأقع في ورطة خطيرة بالتأكيد.»

«لست مضطرًّا للقلق. فلن يحاول الهرب.»

«وما أدراك بهذا؟»

«لأن الهرب سيكون اعترافًا بالذنب.»

«إذن فلنذهب للقبض عليه.»

«إنني أترقب مجيئه هنا في كل لحظة.»

«ولكن ما الذي يضطره للمجيء؟»

«لأنني كتبت إليه أستدعيه.»

«لكن هذا لا يصدق، يا سيد هولمز! ما الذي يدفعه للمجيء لأنك استدعيته؟ أليس من الممكن أن يثير مثل هذا الطلب شكوكه ويتسبب في هربه؟»

قال شيرلوك هولمز: «أظن أنني تمكنتُ من صياغة الخطاب بالطريقة المناسبة. في الواقع، إذا لم أكن مخطئًا تمامًا، فها هو ذا الرجل نفسه يتقدم ناحية الطريق الخاصة بالمنزل.»

ونظرنا فإذا برجلٍ يخطو خطًى واسعةً على الممشى المؤدي إلى باب المنزل. كان رجلًا داكن البشرة طويل القامة وسيمًا، مرتديًا بذلة رمادية من صوف الفلانيلَّا الناعم ويعتمر قبعة من القش، ذا لحية سوداء منتفشة وأنف ضخم معقوف ينبئ عن شراسة وعصًا يلوح بها أثناء سيره. راح يختال وهو يسير على الممشى وكأنه صاحب المكان، ثم سمعنا دقاته الحادة الواثقة على الجرس.

قال هولمز، بهدوء: «أظن، أيها السادة، أنه يجدر بنا أن نتخذ مواقعنا خلف الباب. يتحتم اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة عند التعامل مع مثل هذا الرجل. ستحتاج لأصفاد اليدين التي معك، أيها المفتش. يمكنكما أن تتركا التحدث لي.»

انتظرنا في صمتٍ مدة دقيقة — واحدة من تلك الدقائق التي لا يسع المرء نسيانها أبدًا. ثم انفتح الباب ودخل الرجل، وفي لمح البصر صوَّب هولمز مسدسًا نحو رأس الرجل وطوَّق مارتن معصمَيه بالقيود. حدث هذا كله بسرعة وبراعة بالغتَين حتى إن الرجل أضحى فاقدَ الحيلة قبل أنْ يتنبه إلى أنه قد هُوجم. راح يحملقُ فينا واحدًا بعد الآخر بعينَين سوداوَين متوهجتَين غاضبتَين، ثم انفجر في ضحكة ساخطة.

«حسنٌ، أيها السادة، لقد أوقعتم بي هذه المرة. يبدو أنني سقطت في شَرَك لا قِبَل لي به. ولكني أتيتُ إلى هنا تلبيةً لخطابٍ من زوجة السيد هيلتن كيوبت. لا تقولوا لي إنها طرفٌ فيما يحدث هنا، ها؟ لا تقولوا لي إنها اشتركت في نصب شركٍ لي. أفعلتْ هذا؟»

«لقد أصيبتْ زوجة السيد هيلتن كيوبت إصابة خطيرة وهي على حافة الموت.»

فصرخ الرجل صرخةَ أسًى بصوته الأجش دوَّتْ في أنحاء المنزل.

صاح بشراسة: «أنتَ مجنون! لقد كان هو الذي أُصيب، وليست هي. من كان سيؤذي الرقيقة إلسي؟ ربما أكون هددتُها، وليسامحني الرب، ولكني لم أكن لأمس شعرة من رأسها الجميل. تراجع عما قلت يا رجل! قل إنها لم تُصب بمكروه!»

«لقد وجدوها — بجوار زوجها القتيل — مصابةً إصابة بالغة.»

فغرق الرجل في الأريكة وهو يئن أنينًا عميقًا ودفن وجهه في يدَيه المصفدتَين. ظل ساكتًا مدة خمس دقائق، ثم رفع رأسه مرة أخرى، وأخذ يتكلم بهذا الهدوء الفاتر الذي يُرافق فقدانَ الأمل.

استهل حديثه قائلًا: «ليس لدي ما أخفيه عنكم، أيها السادة. إن كنتُ أطلقت النار على الرجل فقد أطلق هو الآخر النار عليَّ، وليستْ هذه بجريمة قتل عمد. ولكن إن كنتم تظنون أنني كنتُ أستطيع إيذاء تلك المرأة، فأنتم لا تعرفونني إذن ولا تعرفونها. إنني أؤكد لكم أنه ما من رجلٍ في هذه الدنيا أحبَّ امرأةً قط أكثر مما أحببتُها أنا. لقد كان لي الحق فيها. كانت رهنًا موقوفًا لي منذ سنين. من كان هذا الرجل الإنجليزي حتى يتسنى له أن يحول بيننا؟ أؤكد لكم أنني كنتُ أحق بها من البداية، وأنني إنما كنتُ أستعيد حقي.»

قال هولمز بصرامة: «لقد تخلصتْ من سلطانك عندما اكتشفتْ حقيقة ما أنتَ عليه، وهربتْ من أمريكا لتبتعد عنك، ثم تزوجتْ من رجلٍ شريف في إنجلترا، فتعقبتَها ولاحقتَها وجعلتَ حياتَها تعيسةً كيْما تحرضها على تركِ زوجها الذي أحبَّتْه واحترمتْه والهرب معك، وأنت الشخص الذي كانتْ تخافه وتكرهه. فانتهيتَ إلى التسبب في موت رجلٍ نبيل ودفعِ زوجته للانتحار. ذلك هو سجل أفعالك، يا سيد آيب سليني، وستُحاسب عليه أمام القانون.»

قال الرجل الأمريكي: «لئن ماتتْ إلسي فلن آبه بما يقعُ لي.» وفتح إحدى يدَيه ونظر إلى رسالةٍ مكوَّرة في راحة يده، ثم صاح، وفي عينَيه التماعة شك: «اسمع، أيها السيد. أنت لا تحاول إخافتي، أليس كذلك؟ إذا كانتْ إصابةُ السيدة بهذا السوء الذي تتحدث عنه، فمن الذي كتب هذه الرسالة؟» وقذف بها على المنضدة.

«أنا كتبتُها لآتي بك إلى هنا.»

«أنتَ كتبتَها؟ ما من أحد مطلقًا خارجَ عصابتنا يعرف سر الرجال الراقصين. كيف تسنى لك أن تكتبها؟»

فردَّ هولمز: «ما يستطيع إنسان أن يخترعه يستطيع آخر أن يكتشفه. هناك عربة قادمة لنقلك إلى مدينة نوريدج، يا سيد سليني. لكن، ريثما تأتي، فإن لديك وقتًا لتقدم تعويضًا بسيطًا عما اقترفته يداك. أتعرفُ أن ثمة شكوكًا خطيرة كانت تحوم حول زوجة السيد هيلتن كيوبت، متهمةً إياها بقتل زوجها، ولمْ ينقذها من التهمة إلَّا وجودي هنا والمعلومات التي تصادَف أني أعرفها؟ إنَّ أقل ما تدينُ لها به أنْ توضح للجميع أنها لم تكن بأي طريقة، مباشرة أو غير مباشرة، مسئولةً عن نهايته المأساوية.»

قال الرجل الأمريكي: «لا أطمع فيما هو أكثر من هذا، وأظن أن خيرَ ما يمكنني أن أبرر به موقفي هو قول الحقيقة المطلقة المجردة.»

فصاح المفتش، معبرًا عن النزاهة العظيمة التي يتصف بها القانون الجنائي البريطاني: «يجب عليَّ أن أحذرك أن هذا قد يُستخدم ضدك.»

فهز سليني كتفَيه في غير اكتراث، وقال: «سأجازف بهذا. أولًا، أريدكم أن تعلموا أيها السادة أني أعرف هذه السيدة منذ أن كانتْ طفلة. كنَّا سبعة أعضاء في عصابة في مدينة شيكاجو، وكان والدُ إلسي كبير جماعتنا. كان رجلًا ذكيًّا كبير السن، يُدعى باتريك، وهو الذي اخترع طريقة الكتابة هذه، التي قد تعدها عبث أطفالٍ لو لم تتفق لك معرفةُ سرها. حسنٌ، لقد تعلمتْ إلسي بعضًا من أساليبنا، لكنها لمْ تستطع تحمُّل الأمر، وكان لديها قليل من المال الذي جنته بطرق شرعية، لذا أفلتتْ منا جميعًا وهربتْ إلى لندن. كانتْ إلسي مخطوبة لي، وأظن أنها كانتْ ستتزوجني لو أنني كنتُ اتخذتُ لنفسي عملًا آخر، لكنها لمْ تكن مستعدةً للانخراط في أيِّ شيءٍ غير شريف. لمْ أتمكن من معرفة مكانها إلَّا بعدما تزوجتْ من هذا الرجل الإنجليزي، فكتبتُ إليها، ولكني لمْ أتلقَّ أيَّ رد. وبعد ذلك جئتُ إلى هنا، ولأنَّ الخطابات لم تُجدِ نفعًا، وضعتُ رسائلي حيثُ تستطيعُ أن تراها.

حسنٌ، لقد مر شهر على وجودي هنا حتى الآن. أقمتُ في تلك المزرعة، حيث كان لديَّ غرفة هناك بالطابق السفلي، وكنتُ أستطيع الدخول والخروج كل ليلة، دون أن يكشف أمري أحد. لقد بذلتُ وسعي لاستمالة إلسي، وقد عرفتُ أنها كانت تقرأ الرسائل، لأنها كتبتْ ردًّا تحت إحداها ذات مرة. ثم بلغ مني الانفعال مبلغه، فبدأتُ أهددها. أرسلتْ إليَّ إلسي خطابًا عندئذ تتوسل إليَّ فيه أن أرحل وتقول إنَّ قلبها سوف ينفطر لو أن أيَّ فضيحةٍ لحقتْ بزوجها، وأضافت أنها مستعدةٌ للخروج أثناء نوم زوجها في الثالثة صباحًا والحديث معي من خلال نافذة البيت الأخيرة، إذا كنتُ سأرحل بعد ذلك وأدعها وشأنها. بالفعل أتتْ إلسي ومعها بعض المال، في محاولةٍ منها لرشوتي حتى أرحل. لقد أفقدني تصرفها صوابي، فأمسكتُ بذراعها وحاولتُ جذبها من خلال النافذة، وفي هذه اللحظة اندفع الزوج إلى داخل الغرفة حاملًا مسدسه في يده، فسقطتْ إلسي على الأرض، وأصبحتُ أنا وهو وجهًا لوجه. كنتُ مسلحًا كذلك، فصوَّبتُ مسدسي نحوه أخيفه حتى يدعني أذهب، لكنه أطلقَ عليَّ رصاصةً أخطأتْني، فما كان مني إلا أن أطلقتُ النار أنا الآخر في اللحظة نفسها تقريبًا، فسقطَ أرضًا. هربتُ بعدها عبرَ الحديقة، وعند مغادرتي سمعتُ النافذة تنغلق خلفي. هذه هي الحقيقة الكاملة، أيها السادة، في كل كلمةٍ منها، ولمْ أسمع المزيد عن الأمر حتى أتى إليَّ ذلك الفتى على جواده حاملًا رسالةً جعلتْني آتي إلى هنا بقدمي، كالأحمق، وأضع نفسي في قبضتكم.»

وصلتْ عربةٌ أمام المنزل أثناء حديث الرجل الأمريكي، بداخلها رجلا شرطةٍ في زيهما الرسمي، فنهض المفتش مارتن ووضع يده على كتف سجينه.

وقال: «آن لنا أن نذهب.»

«أيمكنني أن أراها أولًا؟»

«لا، إنها غائبة عن الوعي. سيد شيرلوك هولمز، إنني آملُ فقط أن يسعدني الحظ بوقوفك إلى جانبي إذا حدث وواجهتني قضيةٌ مهمةٌ.»

وقفنا عند النافذة نشاهد العربة وهي تبتعد عن المنزل. وعندما استدرتُ لمحتْ عيني كرةَ الورق الصغيرة التي قذف بها السجين على المنضدة. لقد كانت الرسالة التي استدرجه هولمز بها.

قال هولمز، وهو يبتسم: «حاول أن تقرأها، يا واطسون.»

لم تحتوِ على أي كلمة، وإنما كان بها هذا السطر القصير من الرجال الراقصين:

قال هولمز: «إذا استخدمت الشفرة التي شرحتُها فستجد أنها تعني ببساطة: «تعالَ إلى هنا في الحال.» كنتُ واثقًا أنها دعوة ما كان له أن يرفضها؛ لأنه لمْ يكن ليتصور أبدًا إمكانيةَ ورودها من أي أحدٍ غير السيدة إلسي. وهكذا، عزيزي واطسون، فقد انتهينا إلى تحويل تلك الأشكال الراقصة إلى أداة للخير مع أنها طالما كانت وسيلة للشر، وأظن أنني أنجزت وعدي لك بتقديم شيء استثنائي تضيفه إلى مفكرتك. إن قطارنا ينطلق في الثالثة وأربعين دقيقة، وأظن أنه يجدر بنا الرجوع إلى شارع بيكر ستريت من أجل الغداء.»

أختتم سردي بكلمة واحدة فقط. حُكم على الأمريكي، آيب سليني، بالإعدام في جلسات محكمة الجنايات المنعقدة شتاءً بمدينة نوريدج، لكنْ تغيرتْ عقوبته إلى الأشغال الشاقة مراعاةً للظروفِ المخفِّفة للعقوبة، ونظرًا لحقيقة أن هيلتن كيوبت كان هو من أطلق الرصاصة الأولى. بالنسبة إلى زوجة السيد هيلتن كيوبت، فلا أعلم عنها سوى أنها تعافتْ بالكلية، وأنها لا تزال أرملةً، مكرسةً حياتها كلها لرعاية الفقراء وإدارة ممتلكات زوجها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤