الفصل العاشر

تلقيح الأزهار

[في الخطابات التي عُرِضَت سلفًا، كان ضروريًّا أن نشير إلى علاقةِ عدد من مسائل علم النبات بمسألة التطوُّر ككل. ويتبقَّى بذلك أن نشير إلى تفاصيل عمله في مجال علم النبات الذي أنجزه والدي مُسترشدًا بالضوء الذي أُلقي على دراسة التاريخ الطبيعي بفضل عمله الشخصي المتعلِّق بفكرة التطوُّر. ففي خطاب إلى السيد موراي، بتاريخ الرابع والعشرين من سبتمبر ١٨٦١، يقول متحدِّثًا عن كتابه «تلقيح السحلبيات»: «ربما سيفيد في توضيح كيف يُمكن دراسة التاريخ الطبيعي من منظور الإيمان بفكرة تغيُّر الأنواع.» يشير هذا التعليقُ إلى قيمة عمله المتعلِّق بعلم النبات وإلى أهميته، وربما يُمكن التعبير عنه بعباراتٍ جازمة بدرجة أكبر دون الخوف من المبالغة.

ويقول في الخطاب نفسه إلى السيد موراي: «أظن أن هذا المجلَّد الصغير سيعود بالنفع على كتاب «أصل الأنواع»؛ لأنه سيُبيِّن أنني عملت بجدٍّ على التفاصيل.» صحيح أن عمله المتعلِّق بعلم النبات أضاف مجموعةً هائلة من التفاصيل الداعمة إلى الحجة المؤيِّدة لفكرة التطوُّر، لكنَّ الدعم الرئيسي الذي حصلت عليه أفكاره من هذه الأبحاث كان من نوعٍ مختلف. فقد شكَّلت هذه الأبحاث حجةً ضد هؤلاء النقاد الذين شدَّدوا تشديدًا قاطعًا بكل صراحة على عدم جدوى بعض البِنى، وعلى ما يترتَّب على ذلك من استحالة أن تكون تطوَّرت بالانتقاء الطبيعي. إن ملاحظاته التي أجراها على السحلبيات مكَّنته من أن يقول: «أستطيع أن أُبيِّن المغزى من وجود بعض النتوءات الطولية والقرون التي تبدو بلا مغزًى، فمن سيجرؤ الآن على القول إن هذه البِنية أو تلك عديمة الجدوى؟» وقد عبَّر عن نقطةٍ مشابهة في خطاب إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ الرابع عشر من مايو ١٨٦٢):

«عندما تُبدي أجزاء عديدة من البِنية، كبِنية نقَّار الخشب، تكيُّفًا مختلفًا مع الأجسام الخارجية، فمن غير المعقول أن نُرجِع أسبابَ وجودها إلى تأثيرات المُناخ وما إلى ذلك، لكن عندما يكون الحديث عن جزء واحد فقط، كبذرة ذات خطافات، فمن الممكن منطقيًّا أن نقول إنه نشأ هكذا. لقد وجدتُ دراسة السحلبيات مفيدةً جدًّا لأنها أوضحت لي كيف تتكيَّف كل أجزاء الزهرة تقريبًا تكيُّفًا مشتركًا لتخضع للتلقيح بواسطة الحشرات، وكيف أنها بذلك تُعَد من نواتج الانتقاء الطبيعي، حتى أتفه تفاصيل البنية.»

من الخدمات الجليلة التي قدَّمها والدي لدراسة التاريخ الطبيعي إحياءُ مبدأ الغائية. فالمؤمن بنظرية التطور يدرُس الغاية أو المغزى من وجود الأعضاء بنفس حماسة مبدأ «الغائية» الأقدم، لكن بغرضٍ أوسعَ وأكثر اتساقًا. فهو على درايةٍ مُحفِّزة بأنه لا يكتسب مفاهيمَ معزولةً عن اقتصاد الحاضر، بل يكتسب رأيًا متسقًا عن الماضي والحاضر. وحتى عندما يعجز عن اكتشاف جدوى أيِّ جزء، يُمكن، من خلال معرفته ببِنيته، أن يفهم تاريخ التغيُّرات الماضية في حياةِ النوع صاحب هذا الجزء. وبذلك تتسم دراسة أشكال الكائنات المتعضية بالقوة والاتساق، بعدما كانت تفتقر إليهما. نُوقشت هذه النقطة سلفًا في فصل السيد هكسلي «حول استقبال كتاب «أصل الأنواع»»، ولا داعي إلى تناولها هنا. ومع ذلك، يُهمنا أن نُدرك أن الفضلَ في تحقُّق هذه «الخدمة الجليلة للتاريخ الطبيعي»، على حدِّ وصف الدكتور جراي، يرجع تقريبًا إلى عمله الخاص المتعلِّق بعلم النبات بقدرِ ما يرجع إلى كتاب «أصل الأنواع».

وللاطلاع على نطاقِ عمل والدي المتعلِّق بعلم النبات وتأثير هذا العمل، يُمكنني الإشارةُ إلى مقالة السيد ثيسلتون داير في كتاب «تشارلز داروين»، الذي يُعَد أحدَ كتب سلسلة دورية «نيتشر». فمعرفة السيد داير الواسعة وصداقته بأبي، وبالأخص قدرته على التعاطف مع عمل الآخرين، كلها عوامل تمتزج معًا فتُعطي هذه المقالةَ قيمةً بارزة. وفي هذا الصدد، تُعطي الفقرة التالية (الواردة في الصفحة ٤٣) صورةً حقيقية:

«بِغض النظر عن مقدار عمله المتعلِّق بعلم النبات، وتنوُّع هذا العمل، دائمًا ما كان السيد داروين يُنكر أيَّ أحقيةٍ له في أن يُعتبَر متمرِّسًا في علم النبات. من المؤكَّد بلا أدنى شك أنه وجَّه اهتمامه إلى النباتات لأنها كائنات مناسِبة لدراسة الظواهر العضوية في أقل أشكالها تعقيدًا، وهذا المنظور الذي يتسم بشيء من تفكير الهواة، إذا كان للمرء أن يستخدم هذا المصطلح دون ازدراء، فهو بالغ الأهمية في حد ذاته. فلأنه لم يكن مُلمًّا بالمؤلَّفات المتعلِّقة بأي نقطة إلى أن يتولَّى دراستها، كان ذهنه يخلو تمامًا من أي رأي مُسبق. ولذا لم يَخَفْ قَط من حقائقِه أو صياغة أي فرضية يبدو أنها تُفسِّرها، مهما كانت صادمة … ولو كان غيره مَن يتبع هذا السلوك؛ لنتج عنه الكثيرُ من الأعمال المتسرِّعة غير الناضجة. لكنَّ السيد داروين — إذا كان لي أن أتجرَّأ على استخدام مصطلحاتٍ لن يبدو فيها أي مبالغة لأي شخص ممَّن تحدَّثوا معه سابقًا — يبدو أنه استطاع، بإقناع لطيف سلس، أن يخترق حصون هذه الطبيعة التي تُحيِّر الرجال الأقل منه شأنًا. بعبارة أخرى، أعطته خبرته الطويلة نوعًا من بصيرةٍ غريزية جعلته يفهم طريقةَ معالجة أي مسألة بيولوجية، مهما كانت غير مألوفة له، بينما يتحكَّم بكل دقة في خصوبة عقله في التفسيرات الافتراضية من خلال الخصوبة الشديدة في التجارب المُبتكَرة ببراعة.»

ولتكوين أيِّ فكرة صائبة عن عظمة الثورة التي أحدثتها أبحاث والدي في دراسة تلقيح الأزهار، من الضروري أن نعلم الظرف الذي نشأ منه هذا المجال المعرفي. فينبغي تذكُّر أن صحة تطبيق فكرة الجنس على النباتات لم تُثبَت ثبوتًا راسخًا على الإطلاق إلا في أولى سنوات القرن الحالي. وقد قدَّم زاكس في كتابه «تاريخ علم النبات» (١٨٧٥)، بعضَ الأمثلة التوضيحية اللافتة على البطء الملحوظ الذي توسَّع به نطاق قَبول هذه الفكرة. فهو يقول إننا عندما ننظر إلى الأدلة التجريبية التي قدَّمها كامراريوس (١٦٩٤) وكولروتير (١٧٦١–١٧٦٦)، لن نُصدِّق أن ثمَّة شكوكًا أُثيرت بعد هذه الأدلة بشأنِ مسألةِ وجود نشاط جنسي لدى النباتات. غير أنه يُوضح أن مثل هذه الشكوك ظهرت مِرارًا بالفعل. وقد استند معظمُ هذه الانتقادات المعارضة إلى تجارِبَ غير مُتقَنة، لكنها بُنيت في حالاتٍ عديدة على حُججٍ مُسبَقة. وحتى في وقتٍ قريب كعام ١٨٢٠، نشرت مجلةٌ مَعنية بعلم النبات تقريرًا يتحدَّث بجِدية عن كتابٍ من هذا النوع، والذي لن يجد له مكانًا الآن إلا بين كُتُب فلسفة تربيع الدائرة أو تسطُّح الأرض.

لم يكن قد مرَّ وقتٌ طويل على بزوغ تصوُّرٍ واضح لوجود نشاط جنسي لدى النباتات من وسط ضباب المناقشات العقيمة والتجارِب الضعيفة عندما بدأ والدي دراسةَ علم النبات بحضور محاضرات هنزلو في كامبريدج.

وعندما ترسَّخ الإيمان بوجود نشاط جنسي لدى النباتات وصار جزءًا لا جدال فيه من المعرفة، تبقَّى قَدرٌ من التصوُّرات الخاطئة أعاق أيَّ رأي عقلاني بخصوص الموضوع. إذ كان كامراريوس١ يعتقد أن الزهور الخُنثى مُلقَّحة ذاتيًّا بالضرورة (وهذا كان اعتقادًا طبيعيًّا في عصره). بالرغم من ذلك فكان يتمتَّع من الذكاء ما يكفي لأن يجعله مشدوهًا من ذلك، ولم يصل إلى هذا القدرِ من الذكاء، كما يقول زاكس، معظمُ مَن جاءوا بعده.

تُظهِر المقتطفات التالية من أحد الدفاتر أن هذه النقطة خَطَرت ببال والدي في وقتٍ مُبكِّر جدًّا يصل إلى عام ١٨٣٧:

«ألَا تتعرَّض النباتاتُ التي لديها أعضاء ذكرية وأنثوية معًا [أي في الزهرة نفسها]، بالرغم من ذلك، لتأثيرٍ من نباتات أخرى؟ ألَا يُقدِّم لايل حجةً ما عن صعوبةِ أن تظل الضروب [حقيقية] بسبب حبوب اللِّقاح التي تتلقَّاها من نباتاتٍ أخرى؟ لأن ذلك قد يُستخدَم لإظهار أن كل النباتات تتعرَّض لتأثير من نباتات أخرى.»

وبالفعل فهِم سبرينجل٢ أن البنية الخُنثى لا تُؤدِّي بالضرورة إطلاقًا إلى التلقيح الذاتي. لكنه وإن اكتشف أن حبوب اللِّقاح في العديد من الحالات تُنقَل بالضرورة إلى ميسم «زهرة» أخرى، لم يفهم أن مفتاح المسألة برُمَّتها يكمُن في الأفضلية المُكتَسَبة من التلقيح المتبادل بين «نباتات» مختلفة. وقد أحسن هيرمان مولر القول عندما ذَكَر أن هذه «الهفوة كانت مُدمِّرةً لأعمال سبرينجل طوال أجيال عديدة … وذلك لأن علماء النباتات، حينها وبعدئذٍ، شعروا بعيوب نظريته شعورًا طغى على إحساسهم بسماتها الأخرى، ونحَّوا جانبًا، مع أفكاره المعيبة، مخزونَه الثري من ملاحظاته الصبورة الثاقبة وتفسيراته الشاملة الدقيقة». وتبقَّى لوالدي أن يُقنع العالَم بأن المغزى المستتر في بنية الأزهار يمكن إيجادُه بالبحث عن النور في نفس الاتجاه الذي عمِل فيه سبرينجل جاهدًا قبل سبعين عامًا. كان روبرت براون هو حلقةَ الوصل بينهما؛ فبالرغم من أن الدكتور جراي٣ يرى أن براون — والعالم كله — كان يدرك روعةَ أفكار سبرينجل، فإن توصيته هي التي جعلت والدي يقرأ، في عام ١٨٤١، كتاب سبرينجل «اكتشاف سر الطبيعة»٤ الذي صار يحظى الآن بالاحتفاء الشديد. فقد ارتأى أنه كتابٌ «مليء بالحقيقة» وإن كان «يحوي قليلًا من الهراء». لم يُشجِّعه الكتاب في تكهُّناته المشابهة فقط، بل أرشده في عمله كذلك؛ لأنه تحدَّث في عام ١٨٤٤ عن إثبات صحةِ ملاحظات سبرينجل. وربما يُمكن للمرء أن يظن أن روبرت داون لم يغرس في حياته بذرةً أجملَ من وضعِ كتابٍ كهذا في أيادٍ كهذه.

وتُبيِّن إحدى الفقرات الواردة في فصل «سيرة ذاتية» (الجزء الأول من هذا الكتاب) كيف جُذِب والدي إلى موضوع التلقيح: «في صيف عام ١٨٣٩، إضافةً إلى الصيف السابق عليه، على ما أعتقد، دَفعَتني الرغبةُ إلى دراسة التلقيح المتبادل أو الخلطي للزهور عن طريق الحشرات؛ إذ إنني كنتُ قد توصَّلتُ إلى نتيجةٍ من تأمُّلاتي في موضوع أصل الأنواع مفادُها أن التبادل قد أدَّى دورًا مهمًّا في الإبقاء على أشكالٍ مُعيَّنة ثابتة كما هي.»

تُعَد الصلة الأصلية بين دراسة الأزهار ومسألة التطوُّر غريبةً، ولا يُمكن التنبُّؤ بها إطلاقًا. وفوق ذلك، فهي لم تكن صلةً دائمة. فحالما نشأت فكرةُ أن الذرية الناتجة من التلقيح المتبادل من المحتمل، في صراعها من أجل الحياة، أن تتغلب على الشتلات الناتجة من التلقيح الذاتي للأصل الأبوي، يتشكَّل إيمانٌ أقوى بكثير بقوة تأثير الانتقاء الطبيعي في تشكيل بِنية الأزهار. ومن ثم، توجد فكرةٌ مركزية يُمكن توجيه التجارب وعمليات الملاحظة نحوها.

وقد أحسَن الدكتور جراي التعليقَ على هذه الفكرة المركزية (دورية «نيتشر»، ٤ يونيو، ١٨٧٤)، قائلًا: «إن الفكرة القائلة بأن «الطبيعة تكره الفراغ» مثالٌ مُميَّز لعلم العصور الوسطى. أمَّا الفكرة القائلة بأن «الطبيعة تكره التلقيح الذاتي» وإثبات هذا المبدأ، فهما ينتميان إلى عصرنا وإلى السيد داروين. وعندما نقول عن رجل واحد إنه ابتكر هذا المبدأ وكذلك مبدأ الانتقاء الطبيعي … وطبَّق هذَين المبدأَين على منظومة الطبيعة بطريقةٍ خلَّفت على التاريخ الطبيعي، في غضون اثنَي عشر عامًا، تأثيرًا أعمقَ ممَّا خلَّفه أيُّ شيء آخر منذ لينيوس، يكون ذلك سببًا كافيًا جدًّا لعلو مكانته.»

جذبت أزهار الفصيلة البقولية اهتمامه مُبكِّرًا، وكان موضوع ورقته البحثية الأولى عن التلقيح.٥ ويبدو أن الفقرة التالية المقتطفة من خطابٍ غير مؤرَّخ إلى الدكتور آسا جراي قد كُتِبَت قبل نشر ورقته البحثية هذه، ربما في ١٨٥٦ أو ١٨٥٧ على الأرجح:
«… ما تقوله عن أزهار الفصيلة البقولية صحيحٌ جدًّا، وليست لديَّ حقائقُ لأُبيِّن بها أن الضروب لُقِّحت تلقيحًا متبادلًا، لكني مع ذلك (والكلام نفسه ينطبق على نحوٍ جميل على أزهار الفوماريا والدايلترا، كما لاحظتُ قبل سنوات عديدة) لا بُد أن أعتقد أن بِنية الأزهار مصمَّمة جزئيًّا لتتوافق مع زيارات الحشرات إليها، ولا يُمكنني فهمُ الكيفية التي تستطيع بها الحشراتُ تجنُّب إحضار حبوب اللقاح من أزهار أخرى. من الجميل حقًّا أن يشاهد المرء تأثيرَ نحلة طَنَّانة على الفاصولياء القرمزية، وفي هذا الجنس (وفي نوع الجلبان كبير الزهر أيضًا)، يكون العسل مُستقرًّا تمامًا في موضعٍ واحد إلى حدِّ أن النحلة دائمًا ما تهبط على هذا الجانب «نفسه» من الزهرة الذي تبرُز نحوه المدقة الحلزونية (جالبةً معها حبوب اللقاح)، وتُدفَع، بفعل انخفاض البتلة الجناحية، إلى مُلامسة جانب النحلة المُغبَّر كله بحبوب اللقاح.٦ أمَّا في أزهار نبات الوزال، فتُفرَك المدقَّة على وسط ظهر النحلة. أظن أن ثمَّة شيئًا ما يُمكن فهمه بخصوص الفصيلة البقولية سيجعل «نظريتنا» تنطبق على الحالة، لكنني أخفقت في تحقيق ذلك. ستشرح نظريتنا السببَ في أن فِعل التلقيح أو التخصيب عادةً ما يحدث في المملكة النباتية والحيوانية، في الهواء الطلق، حتى في الخَنَاثى، مع أنه يكون مُعرَّضًا بذلك لضرر «جسيم» من الرطوبة والمطر. ففي الحيوانات التي لا يُمكن أن [تُخصَّب] بواسطةِ الحشرات أو الرياح، «لا توجد حالة» تكون فيها الحيوانات «الأرضية» خُنثى دون التقاء الفردَين.»

ويعرِض خطاب إلى الدكتور آسا جراي (بتاريخ ٥ سبتمبر ١٨٥٧) مادةَ الورقة البحثية المنشورة في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»:

«دفعتني الرغبةُ مُؤخَّرًا إلى فحصِ بعضِ براعم الفاصولياء القرمزية وحبوب اللقاح المتساقطة من المتك، لكني هُديت إلى اعتقاد أن حبوب اللقاح «لا» يُمكن أن تصل إلى الميسم بواسطةِ الرياح أو غيرها، إلا بواسطة النحل الذي يزور [الزهرة] ويُحرِّك البتلات الجناحية؛ لذا وضعت حُزمةً صغيرة من الأزهار في زجاجتَين وأولَيتُهما العنايةَ نفسها بالضبط، وكنت أعكف يوميًّا على تحريك الأزهار في إحدى الزجاجتَين حركةً لحظية كأن نحلةً هي التي حرَّكتها؛ وهكذا أنتجت هذه الأزهار ثلاثة قرون جميلة، أمَّا الأزهار في الزجاجة الأخرى، فلم تُنتِج «ولو قرنًا واحدًا». لا بد بالطبع من تَكرار هذه التجرِبة البسيطة، وقد فات أوانُ ذلك في إنجلترا العام الحالي؛ لأن الأزهار نادرًا ما تُنتِج الآن أيَّ بذور على ما يبدو. إذا كان النحل ضروريًّا لتلقيح هذه الزهرة تلقيحًا ذاتيًّا، فلا بُد أن النحل يكاد يُلقِّحها تلقيحًا متبادلًا؛ لأن الجوانب اليُمنى المُغبرَّة من رءوسه وسيقانه اليُمنى تلمس الميسم باستمرار.

أعكف أيضًا مُؤخَّرًا على إعادة ملاحظة أزهار اللوبيليا الكاردينالية يوميًّا؛ إن تلك الموجودة في حديقتي لا تزورها الحشرات أبدًا، ولا تُنتِج بذورًا أبدًا، دون أن توضع حبوب اللقاح على الميسم (في حين أن أزهار اللوبيليا الزرقاء الصغيرة يزورها النحل ولا تُنتج بذورًا)؛ أقول ذلك بسبب وجود وسائلَ جميلة لمنع الميسم من الحصول على حبوب لقاحه على الإطلاق، وهذا يبدو عصيًّا على التفسير إلا بالاستناد إلى فكرة أفضلية الهجائن.»

أُكمِلَت هذه الورقة البحثية بورقة ثانية في عام ١٨٥٨.٧ ويبدو أن الغاية الرئيسية من هاتين الورقتين كانت الحصول على معلوماتٍ بشأن إمكانية نمو ضروب من نباتات الفصيلة البقولية بعضها بالقرب من بعض، وتظل حقيقيةً مع ذلك. من الغريب أن الفصيلة البقولية لم تكن فقط أولى الأزهار التي جذبت اهتمامه بتكيُّفها الواضح مع زيارات الحشرات، بل شكَّلت كذلك واحدًا من أشد الألغاز إيلامًا له. فأزهار البازلاء العادية والبازلاء الحلوة سبَّبت له حيرةً كبيرة لأن ضروبها تبقى حقيقية، حتى وإن بدا واضحًا أنها مُتكيِّفة مع زيارات الحشرات كبقية أزهار هذه الرتبة. الحقيقة أن هذَين النوعَين من البازلاء لا يتكيَّفان تكيُّفًا مثاليًّا مع التلقيح بواسطة الحشرات البريطانية؛ لأنهما ليسا من النباتات الأصلية للمكان. لم يستطِع، في هذه المرحلة من ملاحظاته، أن يعرف أن التنسيقَ بين زهرةٍ ما والحشرة التي تُلقِّحها ربما يكون دقيقًا وحسَّاسًا جدًّا كالتناسق بين قفلٍ ومفتاحه؛ لذا كان من المستبعَد أن يخطر ذلك التفسير بباله.٨
وإلى جانب انخراطه في ملاحظة أزهار الفصيلة البقولية، كان قد شَرع بالفعل، كما اتضح في المقتطفات السابقة الذكر، في دراسة بِنية أزهار أخرى من حيث علاقتها بالحشرات. ففي بداية عام ١٨٦٠، عكف على دراسة أزهار الليتشينوليتا Leschenaultia،٩ التي حيَّرته في البداية، لكنه فهِمها في نهاية المطاف. ويبدو أن إحدى الفقرات في خطاب مُتعلِّق أساسًا بأزهار الليتشينوليتا تُوضِّح أنه لم يبدأ التوسُّع في تطبيق معرفته على علاقة الحشرات بأزهارٍ أخرى إلا في ربيع عام ١٨٦٠. ويُعد ذلك مفاجِئًا بعضَ الشيء عندما نتذكَّر أنه كان قد قرأ كتابات سبرينجل قبل ذلك بسنوات عديدة. فقد قال في الخطاب (بتاريخ ١٤ مايو):

«ينبغي أن أنظر إلى هذه الوسيلة المبتكَرة الغريبة على أنها مرتبطة ارتباطًا خاصًّا بزيارات الحشرات؛ لأنني بدأت أظن أن ذلك ينطبق في كل الحالات تقريبًا.»

وحتى في يوليو ١٨٦٢، قال في خطابٍ إلى الدكتور آسا جراي:

«لا نهاية للتكيُّفات. ألَا ينبغي أن تجعل هذه الحالات المرء حذرًا جدًّا عندما يُشكِّك في جدوى كل الأجزاء؟ أنا موقن تمامًا من أن بنية كل الأزهار غير المنتظمة محكومة وفقًا للحشرات. فالحشرات هن حاكمات عالم النبات (على حدِّ تعبير دورية «ذا أثنيام» البارعة الطريفة).»

من المرجَّح أن ما جذبه إلى دراسة السحلبيات أن العديد من أصنافها شائع بالقرب من داون. وتُظهر خطابات عام ١٨٦٠ أن هذه النباتات شغلت قدرًا كبيرًا من اهتمامه، وفي عام ١٨٦١، كرَّس جزءًا من الصيف والخريف كله لهذا الموضوع. ومن الواضح أنه كان يعتبر نفسه عاطلًا بسبب تضييع وقته على السحلبيات، معتبرًا أن هذا الوقت كان من الأَولى أن يُخصَّص للكتاب الذي يتحدث عن التباين تحت تأثير التدجين. ولذا قال في أحد الخطابات:

«صحيح أن عملية المُلاحظة أشدُّ إثارةً لاهتمامي بكثير من الكتابة، لكني أشعر بأنني مُذنب جدًّا لأنني اقتحمت هذه الموضوعات، ولم أظلَّ ملتزمًا بدراسة ضروب الديوك والدجاج والبط اللعينة. سمعت أن لايل ينتقدني بشراسة. لن أقاوم زهرة الكَتان الصيف المُقبل أبدًا.»

كان صيف عام ١٨٦٠ هو الذي شهد فهمه واحدةً من أبرز الحقائق اللافتة والمألوفة في الكتاب؛ ألَا وهي الطريقة التي تُهيَّأ بها كُتل حبوب اللقاح في جنس السحلب (الأوركيس) لتنقلها الحشرات. وقال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر بتاريخ ١٢ يوليو:

«أعكفُ على تفحُّص حالةِ أزهار نوع السحلب الهرمي، وهي تكاد تضاهي حالة أزهار جنس الليسترا التي تدرُسها، بل ربما تُعَد أفضلَ منها؛ فالغدد اللزجة اللاصقة تتحد معًا بالفطرة، مُكوِّنةً بذلك عضوًا أشبهَ بالسرج له قدرة كبيرة على الحركة، ويقبض بإحكام على شعيرة منتصبة جامدة (أو خرطوم الحشرة) بطريقة باهرة، ثم تحدُث حركة أخرى في كتل حبوب اللقاح تُعَد من أساليب التكيُّف الرائعة لترك حبوب اللقاح على سطحَي الميسم «الجانبيَّين». لم أرَ في حياتي شيئًا جميلًا جدًّا كهذا.»

وفي يونيو من العام نفسه قال في خطابٍ آخر:

«تقول إن التكيُّف نادرًا ما يكون «ظاهرًا»، وإن كان موجودًا في النباتات. أعكفُ منذ فترة قصيرة على ملاحظة أزهار السحلب الشائع، وأؤكِّد أنني أظن أن تكيُّفاتها في كل جزء من الزهرة جميلةٌ وواضحة جدًّا بقدرِ جَمال تكيُّفات نقار الخشب ووضوحها، أو أجمل منها حتى. كتبتُ مقالةً قصيرة وأرسلتها إلى دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»،١٠ عن صعوبة مُحيِّرة شائقة في أزهار السحلب النحلي، وأرغب بشدة في معرفة رأيك في تلك الحالة. تطرَّقت في هذه المقالة تطرُّقًا عابرًا إلى مسألة التكيُّف مع زيارات الحشرات، لكنَّ الحيلة المُستخدَمة لإبقاء الغدد اللزجة ناضرةً ولزجة أفضل من أي حيلة أخرى تقريبًا في الطبيعة. لا أتذكَّر أنني رأيتها موصوفةً قَط، ولكن من المؤكَّد أنها وُصِفَت من قبل، ولأنه ليس بوسعي أن أطرح هذه الملاحظة في كتابي على أنها من الملاحظات التي أجريتها بنفسي، فسأسعد جدًّا بمعرفة موضع وصف هذه الحيلة الجميلة.»

وأرسل خطابًا إلى الدكتور جراي في ٨ يونيو ١٨٦٠، قائلًا:

«بمناسبة الحديث عن التكيُّف، أعكف مؤخَّرًا على ملاحظة السحلبيات الشائعة لدينا، ويُمكنني القول إن الحقائق قديمةٌ ومعروفة جدًّا، لكني أُعجِبت جدًّا بحِيَلها المبتكرة الخاصة بالتلقيح إلى حدِّ أنني أرسلت مقالةً قصيرة إلى دورية «ذا جاردنرز كرونيكل». ذلك أن حالةَ أزهار السحلب النحلي تتسم، كما سترى، بتناقضٍ شائق في البنية.»

وإلى جانب انخراط والدي في دراسةِ تلقيح الأزهار، كان منشغلًا بالفعل، في عام ١٨٦٠، بموضوعِ أوجه التشابه بين الأجزاء، الذي استفاد منه جيدًا في كتابه عن السحلبيات. فقد قال في خطابٍ إلى السير جوزيف هوكر (في يوليو):

«من المضحك جدًّا أن أُناقش معك أوجه التشابه بين السحلبيات بعدما تفحَّصتُ ثلاثة أو أربعة أجناس فقط، وهذه الحقيقة نفسها تجعلني متيقنًا من أنني على صواب! صحيح أنني لا أفهم بعضَ مصطلحاتك تمامًا، لكن لا بد أن أطلب منك شرحَ أوجه التشابه يومًا ما؛ لأنني شديدُ الاهتمام بالموضوع وكأنه إحدى مباريات الشطرنج.»

كان هذا العمل قيِّمًا من وجهةِ نظر منهجية. فقال في خطاب إلى السيد بينثام في عام ١٨٨٠:

«كانت لفتةً طيبة جدًّا منك أن ترسل إليَّ خطابًا عن السحلبيات؛ لأنني سُررتُ للغاية بأنك استفدتَ مني «أي» استفادة على الإطلاق فيما يتعلَّق بطبيعة الأجزاء.»

ويتجلَّى السرور الذي استمدَّه من ملاحظاته المبكِّرة التي أجراها على السحلبيات في مقتطفاتٍ مثل هذه الفقرة التالية المقتبسة من خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ ٢٧ يوليو ١٨٦١):

«لا يُمكنك أن تتصوَّر مدى سعادتي البالغة بالسحلبيات. لقد وصلت سالمة، لكن العلبة تحطَّمت بعض الشيء؛ فعُلب الكاكاو أو السعوط الأُسطوانية القديمة آمنةٌ بدرجة أكبرَ كثيرًا. أُرفِقُ نفقات الإرسال مع هذا الخطاب. في معرض وصفي للحركة، سأُشير إلى زهرةٍ أظنُّها من جنس الأونسيديوم، ولكَي «أتيقَّن»، فهل الزهرة المُرفقة ذات البتلات المجعَّدة تنتمي إلى هذا الجنس؟ لديَّ أيضًا رغبةٌ شديدة في معرفة جنس الزهرة السحلبية البُنية الكروية الصغيرة المُرفَقة. لم أرَ من أزهار جنس الكاتليا إلا بعض حبوب لقاحها على نحلة، لكنك بالطبع لم ترسل إليَّ أكثرَ ما أرغب فيه (بعد زهرة جنس البهية أو جنس المورمودز)، أقصد زهرةً من قبيلة الإبيدندري Epidendreæ عن غير قصد، أليس كذلك؟! أرغب «بشدة» (وسأُخبرك بالسبب قريبًا) في ساقٍ أخرى من سيقان هذه السحلبية الصغيرة، على أن تكون أزهارها أكبرَ سنًّا، بل بعضها شبه ذابل.»

ويتضح تلذُّذه بالملاحظة مُجدَّدًا في خطابٍ إلى الدكتور جراي (١٨٦٣). فقد كَتب مُتحدِّثًا عن خطابات كروجر من ترينداد: «إنه رجل سعيد الحظ؛ فلقد رأى بالفعل حشودًا من النحل تطير حول أزهار جنس البهية، وكتلة حبوب اللقاح مُلتصقة بظهورها!»

تُلقي المقتطفاتُ التالية من خطابات إلى السير جيه دي هوكر بمزيد من الضوء على الاهتمام الذي أثاره عمله في نفسه:

«لقد أرسل إليَّ فيتش مجموعةً عظيمة صباح اليوم. يا لها من بِنًى رائعة!

الآن قد رأيت قدرًا كافيًا، ويجب ألَّا ترسل إليَّ المزيد؛ لأنني، وإن كنتُ أستمتع «جدًّا» بملاحظتها واستفدتُ جدًّا من رؤيةِ قدرٍ هائل من الأشكال المختلفة، أرى ذلك خمولًا وبطالة. ذلك أن تحقيق غايتي يتطلَّب دراسةَ كل نوع أيامًا عديدة. يا ليتك كنت تملك متسعًا من الوقت لتتولَّى دراسة المجموعة! سأُخصِّص وقتًا كبيرًا لمعرفة ماهية الخَطْم rostellum، الذي تتبَّعتُ الكثير جدًّا من الأشكال المُعدَّلة الشائقة المنبثقة منه. أعتقد أنه لا يُمكن أن يكون أحدَ المياسم،١١ إذ توجد، على ما يبدو، نزعةٌ كبيرة إلى ظهور ميسمَين جانبيَّين. مع أنني لم أتطرَّق سوى قليلٍ في ورقتي البحثية إلى نقاطٍ ثانوية، أخشى أن يصل طولُ مخطوطتها إلى ١٠٠ ورقة مزدوجة الصفحات! أرى أن جمالَ تكيُّف الأجزاء لا يُضاهَى. أظن، أو أُخمِّن، أن حبوب اللقاح الشمعية كانت متمايزةً جدًّا. وفي أزهار جنس خُف السيدة التي يبدو أنها لم تخضع إلا للقليل من التعديلات وقد أُبيدَت إلى حدٍّ كبير، الحبيبات مفردة. أمَّا في «أزهار كل الأجناس الأخرى»، بقدرِ ما رأيت، تكون حبوب اللقاح مجتمعةً في أربع حُزم، وتلتحم هذه الحُزم معًا مُكوِّنةً في نباتات السحلب كُتلًا عديدةً إسفينية الشكل تبدأ بثماني حبيبات، ثم أربع ثم اثنتَين في النهاية. يبدو غريبًا أنْ توجد زهرةٌ لا تستطيع أن تُلقِّح إلا زهرتَين أُخريَين «على أقصى تقدير»، بالنظر إلى مدى وفرةِ حبوب اللقاح في العموم؛ أعتبرُ أن هذه الحقيقة تشرح كَمال الوسيلة المُبتَكرة التي تُنقَل بها حبوب اللقاح، المُهمة جدًّا بسبب قلة عددها، من زهرة إلى زهرة» (١٨٦١).

«كنت أُفكِّر في إرسال خطاب إليك اليوم، عندما جاءت رسالتك مع أزهار السحلبيات. يا له من عناء فظيع ذلك الذي تكبَّدته بخصوص زهور جنس الفانيلا؛ يجب بالفعل ألَّا تتكبَّد مزيدًا من العناء ولو كان ذلك مثقال ذرة؛ لأن السحلبيات تُعَد تسليةً بالنسبة إليَّ أكثرَ ممَّا تُعَد عملًا حقيقيًّا. أثارت أزهار جنس الإبيدندرم بالغَ اهتمامي، وعملت عليها طوال الصباح؛ من أجل الرب، لا تُفسِدْني بإرسال المزيد منها» (٣٠ أغسطس ١٨٦١).

كان يعتزم في الأصل نشْرَ ملاحظاته عن السحلبيات في صورةِ ورقةٍ بحثية في دورية الجمعية اللينية، ولكن سرعان ما اتضح أن نشْرَها في صورة مجلَّد منفصل سيكون أنسبَ. فنجد أنه قال في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر، ٢٤ سبتمبر ١٨٦١:

«أخشى أن تظن أنني تصرَّفتُ بحماقة، وربما أكون قد تصرَّفت كذلك بالفعل. عندما أتممتُ قبل بضعة أيام كتابةَ ورقتي البحثية عن السحلبيات، التي وصل طولها في النهاية إلى ١٤٠ ورقةً مزدوجة الصفحات! وفكَّرت في تكلفة الألواح الخشبية التي ستُنقَش عليها الرسومات التوضيحية، قلت لنفسي سأعرض على الجمعية اللينية أن تسحبها، وتنشرها في صورةِ كُتيب. ثم خَطَر ببالي أن موراي ربما قد ينشره؛ لذا عرضت عليه الوضعَ بدقة، وعرضتُ عليه تقاسُم الخسارة والأرباح. أرسل إليَّ خطابًا صباح اليوم يقول فيه إنه سينشُر، وسيتحمَّل هو كلَّ المخاطر، وسيقاسمني الأرباح وسيدفع كلَّ تكاليف الرسومات التوضيحية. إنها مخاطرة، والربُّ يعلم ما إذا كانت ستبوء بالفشل الذريع أم ستنجح، لكني لم أخدع موراي، وأخبرته بأن الكُتيب لن يُثير اهتمامَ أحد إلا أولئك الشغوفين بالتاريخ الطبيعي. آمُل ألَّا أكون مُبالِغًا في مقدارِ الاهتمام الذي أظن أن الوسائل الخاصة العديدة للتلقيح ستثيره.»

كَتَب الخطابَين التاليَين إلى السيد موراي بخصوص نشر الكتاب:]

داون، ٢١ سبتمبر [١٨٦١]
سيدي العزيز

هلَّا تتكرَّم بإعطائي رأيك، الذي سأتبعه اتباعًا مطلقًا. أتممت للتو كتابةَ ورقة بحثية طويلة جدًّا كنت أعتزم نشرها في دورية الجمعية اللينية (العنوان مُرفَق)، وخطَر ببالي يوم أمس لأول مرة أنها «ربما» تستحق أن تُنشَر في مجلَّد منفصل، وأن هذا سيُوفِّر عليَّ العناء والتأخير. الحقائق جديدة، وقد جُمِعت على مرِّ عشرين عامًا، وأنا أراها شائقة. وعلى غرار أطروحة بريدجووتر، تتمثَّل الغاية الرئيسية من هذه الورقة في تبيان كَمال الوسائل العديدة للتلقيح في السحلبيات. إن موضوع التكاثر مثيرٌ لاهتمام معظم الناس، وقد تناولتُه في ورقتي البحثية بطريقة تجعل أيَّ شخص قادرًا على قراءته. صحيح أن بعض الأجزاء عِلميٌّ بحت ويسرُد الحقائق برتابة، لكني أظن أن ورقتي البحثية ستُثير اهتمامَ عدد كبير جدًّا من الأشخاص المهتمِّين بالتاريخ الطبيعي، دون غيرهم.

… سيكون كتابًا صغيرًا جدًّا، وأعتقد أنك تكره الكتب الصغيرة جدًّا. أنا نفسي أحمل شكوكًا «كبيرة» بشأن الموضوع. وبالرغم من أنني مستعد جدًّا للموافقة على أنني أُبالغ في تقدير الأمور، فأنا أرى الموضوع شائقًا ومثيرًا للاهتمام.

أتوسَّل إليك ألَّا تتأثَّر إطلاقًا بأي رغبة في أن تُجاملني، لكني أرجو أن تعطيني رأيك، من وجهة نظرك. إذا كنت سأنشر البحث في مجلَّد منفصل بالفعل، فسأقبل بأي شروط، كأن نتشاطر مخاطرَ الخسارة ونتشاطر الأرباح، لكني لن أنشره متحمِّلًا المخاطر وحدي؛ لأنني، كي أكون صريحًا، أُخبِرتُ بأنه لا يوجد أيُّ ناشر يهتم بنجاح كتاب في مثل هذه الظروف.

من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، ٢٤ سبتمبر [١٨٦١]
سيدي العزيز

أنا في غاية الامتنان لرسالتك وعرضك السخي جدًّا. كانت لديَّ بعض المخاوف وهواجس تأنيب الضمير. كلُّ ما أنا متيقن منه أن المخطوطة تتضمَّن العديدَ من الحقائق الجديدة والشائقة، وأنا متيقن من أن المقالة كانت ستثير اهتمامي، وستثير اهتمام أولئك الشغوفين بعجائب الطبيعة، لكني لا أعرف إطلاقًا إلى أي مدًى سيهتم عامة الناس العاديين بمثل هذه التفاصيل الدقيقة. هذه تجرِبة جريئة، لكنها لا يُمكن أن تُسفر عن خسارةٍ فادحة حتى في أسوأ الأحوال؛ لأنني أظن أنه سيُحقِّق بعضَ المبيعات بالتأكيد. غير أن تحقيقَ مبيعاتٍ كبيرة محال بالتأكيد. فحسبما أجد، إن النقاط التي تُثير اهتمامي عادةً ما تثير اهتمام آخرين، لكني أخوض التجرِبة خائفًا ومرتجفًا، ليس من أجلي، بل من أجلك …

[في الثامن والعشرين من سبتمبر أرسَل خطابًا إلى السير جيه دي هوكر قائلًا:

«يا لك من رجلٍ نبيل لأنك لم تسخر مني، بل أشدتَ بي! يراودني شكُّ شديد في أن نشر ورقتي البحثية لن يكون تصرُّفًا مُثيرًا للسخرية. سأنزعج جدًّا إذا باء النشر بفشل ذريع، وذلك من أجل موراي فقط.»

كان لا يزال متبقيًا الكثير من العمل الذي ينبغي إنجازه، وكان في شهر أكتوبر لا يزال يتلقَّى السحلبيات من كيو، وأرسل خطابًا إلى هوكر قال فيه:

«مستحيل أن أشكرك شكرًا كافيًا. كدتُ أن أُجَن من كثرة السحلبيات.» وقال أيضًا:

«أرسل إليَّ السيد فيتش، في لفتةٍ كريمة للغاية، برعمَين رائعَين من براعم جنس المورمودز، سيكونان ممتازَين للتشريح، لكني أخشى ألَّا يكونا سريعَي الاستثارة أبدًا؛ لذا أتوسَّل إليك، من أجل الإحسان وحُب الرب، أن تُلاحظ ما يحدثُ من حركةٍ في أزهارِ جنس السيكنوتشس، وأيُّ الأجزاء يجب أن يُلمَس. كما أرسل إليَّ السيد فيتش زهرةً رائعة من جنس البهية، أروع زهرة سحلبية رأيتها.»

وفي الثالث عشر من أكتوبر، أرسل خطابًا إلى السير جوزيف هوكر، قائلًا:

«يبدو أنني لا أستطيع استنفادَ طبيعتك النبيلة. لقد قضيت يومًا شاقًّا للغاية في العمل على دراسة زهرة جنس البهية وبراعم جنس السيكنوتشس، وأعتقد أنني صِرت أفهم أخيرًا آليةَ الحركات والوظائف. تُعَد أزهار جنس البهية حالةً جميلة من حالات حدوث تعديلٍ طفيف في البنية يُؤدِّي إلى وظائفَ جديدة. ما من موضوع قد أثار اهتمامي طوال حياتي كلها أكثر ممَّا أثاره موضوع السحلبيات. أَدين لك بالكثير.»

وأرسل خطابًا آخرَ إلى الصديق نفسه مُجدَّدًا، بتاريخ ١ نوفمبر ١٨٦١، قال فيه:

«إذا كنتَ تستطيع حقًّا أن تُوفِّر لي زهرةً أخرى من جنس البهية وقتما تكون مستعدًّا، فسأكون في غاية الامتنان؛ أليس من الأفضل أن أُرسل في طلبها؟ الحالة رائعة حقًّا، من المؤكَّد أن (ما يُسمَّى) الإحساس أو الاستثارة من لمسة خفيفة ينتقل عبر قرون الاستشعار مسافةً تتجاوز بوصةً كاملة «فورًا» … ثمَّة حشرة لعينة، أو ما شابه، استثارت زهرتي الأخيرة، فأطلقت حبوب لقاحها الليلة الماضية.»

قال البروفيسور دي كوندول عن والدي:١٢ «لم يكن بالشخص الذي سيطلب تشييدَ قصورٍ لإيواء المختبرات.» كان ذلك قولًا حقيقيًّا جدًّا عن عمله المتعلِّق بالسحلبيات، أو بالأحرى سيكون أقربَ إلى الحقيقة أن نقول إنه لم يكن لديه مختبر؛ لأنه لم يُشيِّد لنفسه صوبةً زراعية إلا بعد نشر كتاب «تلقيح السحلبيات». فقد قال في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ ٢٤ ديسمبر ١٨٦٢):

«والآن سأُخبرك بخبرٍ مهم «جدًّا»! لقد استقرَّ رأيي على بناء صوبة زراعية صغيرة؛ لقد اقترَح هذه الفكرة البُستاني الممتاز الذي يعمل لدى جاري، وعرض عليَّ أن يُعِد لي خططًا، وأن يضمن بناءها بإتقان، وهو رجل ذكي حقًّا، ويحصد جوائزَ كثيرة، وبارع جدًّا في الملاحظة. يعتقد أننا سوف ننجح بقليل من الصبر، سأستمتع جدًّا بإجراء تجارِب على النباتات.»

وقال مُجدَّدًا في خطابٍ آخر (بتاريخ ١٥ فبراير ١٨٦٣):

«أُرسلُ هذا الخطاب؛ لأن الصوبة الزراعية الجديدة صارت جاهزة، وأنا متشوِّق لملئها بالنباتات، وكأنني صبي في المدرسة. هل تستطيع أن تُخبرني عمَّا قريب جدًّا بالنباتات التي تستطيع أن تعطيني إياها، وحينئذٍ سأعرف النباتات التي ينبغي أن أطلبها؟ وهلَّا تنصحني بأفضلِ طريقة أستطيع بها الحصول على تلك النباتات التي يمكنك أن «توفِّرها» لي. هل سيكون مناسبًا أن أُرسل عربتي الصغيرة في الصباح الباكر، في يومٍ غيرِ قارس البرودة، على أن تكون العربة مُبطَّنةً بقطعٍ من السجاد، وتأتي إلى هنا قبل الليل؟ لا أعرف إطلاقًا ما إذا كان هذا القدْر من التعرُّض للهواء البارد (والعربة ستكون باردةً بالطبع) سيُلحِق ضررًا بالنباتات التي تحتاج إلى حرارة اصطناعية لتبقى حية؛ فالرحلة إلى المنزل ستستغرق حوالي خمس ساعات (بما فيها استراحةُ السائق للغداء في منتصف النهار).»

وبعد ذلك بأسبوع قال في خطابٍ آخر:

«لا يُمكنك تخيُّل كَمِّ السعادة الشديدة التي غمرَتني بها نباتاتك (إنها سعادة أشدُّ بكثيرٍ ممَّا يُمكن أن تمنحك إياه تُحَف ويدجوود)؛ وأنا أذهب وأتباهى بها بكل ابتهاج، لكنَّ كلينا اعترف سرًّا للآخر بأنها لو لم تكن نباتاتنا، لربما ما كنا سنرى هذا الجمال الفائق في كل ورقة.»

وفي مارس، عندما كانت حالته الصحية سيئةً للغاية، قال في خطاب:

«أودُّ ذِكر بضع كلمات عن النباتات التي تحتاج إلى حرارة اصطناعية لتبقى حيةً في الأجواء الباردة؛ لقد أمتعتني جدًّا. زحفتُ لأراها مرتَين أو ثلاثًا. هلَّا تُصحِّح المحتوى المُرفَق وتُجيب عليه وتردُّه إليَّ. لقد بحثتُ في كل كتبي ولم أستطِع العثورَ على هذه الأسماء،١٣ وأنا أرغب بشدة في معرفة الفصيلة.»

نُشر الكتاب في الخامس عشر من مايو ١٨٦٢. وأرسَل إلى موراي، بتاريخ الثالث عشر والثامن عشر من يونيو عن الاستقبال الذي لاقاه، قائلًا:

«علماء النبات يُشيدون بكتابي عن السحلبيات إشادةً تبلغ عَنان السماء. أرسل إليَّ شخصٌ ما (ربما يكون أنت) مجلة «ذا بارثينون»، وفيها مقال نقدي جيد. أمَّا دورية «ذا أثنيام»١٤ فتُعاملني بمزيجٍ من الشفقة والاستخفاف، لكن صاحب المقال النقدي المكتوب فيها لا يعرف شيئًا عن الموضوع الذي يعالجه.»
«يوجد مقالٌ نقدي رائع، وإن كان يحمل بعضَ المبالغة مع الأسف، في دورية «لندن ريفيو».١٥ لكن إقدامي على النشر لم يكن حماقةً مني، كما كنت أظن؛١٦ لأن آسا جراي، الذي يُعَد أكفأ حَكَم في العالم، يستحسن الكتاب بقدرِ ما تستحسنه دورية «لندن ريفيو». غير أن دورية «ذا أثنيام» ستعوق عملية بيع الكتاب بشدة.»

كان المبجَّل إم جيه بيركلي هو مؤلِّفَ المقال النقدي القصير الذي نُشر في دورية «لندن ريفيو»، كما عِلم والدي من السير جيه دي هوكر، الذي أضاف: «أظن أنه مُتقَن جدًّا بالفعل. لقد قرأت جزءًا كبيرًا من كتاب السحلبيات، وأتفق تمامًا مع كلِّ ما يقوله.»

ردَّ والدي على ذلك في خطاب (بتاريخ ٣٠ يونيو ١٨٦٢)، قائلًا:

«صديقي القديم العزيز، تقول إنني أسعدتك جدًّا، لكنك لن تعرف أبدًا عدد المرات الكثيرة التي أسعدتني أنت فيها. لا أقصد استحسانك لعملي العلمي (مع أنني أهتم به أشدَّ ممَّا أهتم باستحسان أي شخص آخر)؛ بل شيئًا أعمقَ. فإلى اليوم، ما زلت أتذكَّر بوضوح شديد خطابًا أرسلته إليَّ من أكسفورد، عندما كنت أخضع للعلاج المائي، ومدى البهجة التي أدخلها على قلبي عندما كنت ضجرًا تمامًا من حياتي. حسنًا، كتابي عن السحلبيات يُحقِّق نجاحًا (لكني لا أعرف ما إذا كان يُباع أم لا.)»

وقال في خطابٍ آخرَ إلى الصديق نفسه:

«لقد أسعدتني جدًّا بما تقوله عن استحسان بينثام وأوليفر لكتابي؛ لأنني كنت قلقًا نوعًا ما، وكنت أشكُّ أنني تصرَّفت بحماقةٍ فظيعة، واختلقت في ذهني تعليقاتٍ لاذعةً فكاهية قد تُذكَر في المقالات النقدية، مثل: «يبدو أن السيد داروين قد اغترَّ بعدما حقَّق قدرًا مُعيَّنًا من النجاح، وصار يظن أن أتفه الملاحظات تستحق النشر».»

وَرَد استحسان السيد بينثام للكتاب في خُطبته الرئاسية أمام الجمعية اللينية، في ٢٤ مايو ١٨٦٢، وما عزَّز قيمة هذا الاستحسان أنه جاء من رجلٍ لم يكن من المتصوَّر على الإطلاق أنه يستحسن الأفكارَ التطوُّرية.]

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١٠ يونيو [١٨٦٢]
عزيزي جراي

تعاطفك الكبير يجعلك تُبالغ في تقديرِ قيمةِ ما قرأته من كتاب السحلبيات. لكن خطابك المؤرَّخ بتاريخ الثامن عشر من مايو والسادس والعشرين من مايو غمرني بارتياحٍ بالغ. أعرف أن الموضوعَ أثار اهتمامي بقدرٍ يفوق قيمته الحقيقية، لكني كنت قد بدأت أظن مؤخَّرًا أنني تصرَّفتُ بحماقةٍ تامة عندما نشرته في صورةٍ شبه شعبية. أمَّا الآن فسأتحدَّى العالم بكل ثقة. سمعتُ أن بينثام وأوليفر يستحسنانه، لكني لم أسمع رأي أحدٍ آخر ممَّن لرأيهم قيمة … لا شك أن مجلَّدي يتضمَّن أخطاءً كثيرة، ما أشدَّ صعوبةَ أن يكون دقيقًا، مع أنني بذلت قُصارى جهدي! أستطيع الآن تحمُّل أن أ… مَن ينتقدونني وأنا مفعمٌ راحةُ بالٍ لا توصَف. أشكرك من صميم قلبي على هذه الفائدة. إنني مندهش من أنك تمتلك من قوة الذهن ما يُتيح لك الاهتمام بالعلم، وسط الأحداث اليومية الفظيعة التي تجري في بلدك. أُطالع صحيفة «ذا تايمز» يوميًّا باهتمام شديد يُضاهي اهتمامَ أي مواطن أمريكي. متى سيحل السلام؟ من المروِّع أن يُفكِّر المرء في خراب أجزاءٍ كبيرة من بلدكم الرائع، وفي كل هذا البؤس الصامت الذي يعانيه الكثيرون. آمُل، أن نكون نحن الإنجليز مخطئين في استنتاج أن عَودة الرخاء إليكم ستستغرق وقتًا طويلًا، وأظن ذلك ليس مستبعدًا. من الفظيع التفكير في هذا الموضوع …

[كَتَب الدكتور آسا جراي مقالًا نقديًّا عن الكتاب في دورية «سيليمان جورنال»،١٧ حيث تحدَّث، بكلمات قوية، عن الانبهار الذي من المؤكَّد أنه أحدَثه حتى لدى القُراء القليلي الاطلاع عن الموضوع. وكذلك أجرى ملاحظاتٍ جديدةً مُبتكرة على زهرة سحلبية أمريكية، وقد أبدى والدي في خطاب (بتاريخ ٢٣ يوليو) ترحيبه بهذه الملاحظات، التي كانت باكورةَ ثمار الموضوع وأُرسِلَت إليه في صورةِ مخطوطةٍ أو بروفة طباعة، قائلًا:

«في الليلة الماضية قرأت الرِّزمة الكبيرة من الملاحظات، بعدما كتبتُ ما وَرَد أعلاه. لم تكن لديَّ فكرةٌ عمَّا يتعيَّن عليَّ قراءته. يا لها من ملاحظات رائعة! لقد تفوَّقت عليَّ في موضوعي المفضَّل! لم أشعر منذ أسابيعَ ببهجةٍ شديدة كالتي غمرتني بها ملاحظاتك.»

يشير الخطاب التالي إلى نشر المقال النقدي:]

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٨ يوليو [١٨٦٢]
عزيزي جراي

لا أعرف إطلاقًا على أيِّ شيء أشكرك أولًا. لقد أحدَثَت طوابعك سعادةً بالغة. أخذتُ له١٨ مجموعةً منها أولًا، ثم مجموعةً أخرى بعدها بساعة. وقد اتَّكأ بجسده على أحدِ مرفقَيه فعليًّا لينظر إليها. كانت تلك أول انتعاشة حيوية يُبديها. اكتفى بالقول: «يجب أن تشكر البروفيسور جراي شكرًا جزيلًا للغاية.» وفي المساء، بعد صمت طويل، قال تلك الجملة المبهمة الأخرى: «إنه طيب للغاية.» وأنت كذلك بالفعل لأنك، رغم إجهادك من كثرة العمل، تكبَّدت عناءً شديدًا من أجل ابننا العزيز المسكين. والآن يجب أن أُعبِّر عن امتناني الشديد لك فيما يخصُّني؛ يا له من نقدٍ ممتاز ذاك الذي نشرتَه عن كتاب السحلبيات! لم يكن ممكنًا أن يكون أفضل من ذلك، لكني أخشى أن تكون مُبالغًا في تقييمه. إنني على يقين تام من أنني لم أكن أتصوَّر إطلاقًا أن الكتاب سينال استحسانًا شديدًا منك أو من أي أحد. أُعيدُ إليك ملاحظاتك الأخيرة تحسُّبًا لأن تنشر أيَّ مقالة نقدية عن الموضوع، لكنك ربما قد ترى رغم كل شيء أن ذلك لا يستحق العناء ولا الوقت، وإن كنتُ أرى أن «العديد» من حقائقك، لا سيما المتعلِّقة بالزهرة السحلبية الخضراء الشمالية، أفضلُ «بكثير» من أن تُدمَج في مقالةٍ نقدية. غير أنني دائمًا ما أُلاحظ أنك تُفرِط في الاهتمام بأن تكون مقالاتك النقدية أصليةً من وحي ابتكارك أنت …

[نشر السير جوزيف هوكر مقالًا نقديًّا عن الكتاب في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، ونجح في كتابته بأسلوبٍ مُحاكٍ لأسلوب المُحرِّر ليندلي. فقال والدي في خطاب إلى السير جوزيف (بتاريخ ١٢ نوفمبر ١٨٦٢):

«أنت إذن مَن كتب المقال النقدي المنشور في «ذا جاردنرز كرونيكل». راودتني الشكوك مرةً أو اثنتَين في أن ليندلي هو الكاتب، لكن عندما وصلتُ إلى فقرةٍ تحمل توبيخًا طفيفًا مُوجَّهًا إلى آر براون، زالت شكوكي. يا لك من محتال! لا أستغربُ أنك خدعت آخرين أيضًا. ربما أكون شخصًا مغرورًا، ولكن إذا صحَّ ذلك، فأنت مسئول عن ذلك بدرجةٍ كبيرة؛ إذ إنني لم أتلقَّ في حياتي إشادةً بالغةً كهذه، ولأنها صادرة منك، فهي أقيَمُ عندي من أي إشادة صادرة من أيِّ شخص آخر.»

بخصوص رأي علماء النباتات بوجه عام، قال في خطابٍ إلى الدكتور جراي: «إنني مذهول جدًّا من النجاح الذي لاقاه كتابي لدى علماء النبات.» ومن بين علماء التاريخ الطبيعي غير المتخصِّصين في علم النبات، عبَّر لايل عن تقديره البالغ والبارز للكتاب. لا أعرف على الإطلاق متى قرأه، لكنه في أواخر حياته، كما علمتُ من البروفيسور جود، كان متحمِّسًا في إشادته بكتاب «تلقيح السحلبيات»، الذي كان يعتبره ثاني أقيَم أعمال داروين «بعد كتاب «أصل الأنواع»». وأمَّا عن جمهور القُرَّاء العاديين، فلم يسمع المؤلِّف في البداية بوجود العديد من المريدين المهتمِّين بالموضوع بينهم؛ ولذا قال في خطابٍ إلى ابن عمه فوكس في سبتمبر ١٨٦٢: «على حدِّ علمي، لم يهتمَّ بالكتاب أيُّ أحد من غير المتخصِّصين في علم النبات سواك.»

وظَهَر مقالٌ نقدي يستحسن الكتابَ في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، ١٨ أكتوبر ١٨٦٢؛ إذ يقول كاتب المقال إن الكتاب سينجو من الجَدل الغاضب الذي أثاره كتاب «أصل الأنواع».١٩ ويتضح هذا بالمثال في مقالٍ نقدي في دورية «ذا ليتيراري تشيرشمان»، الذي لم يذكر فيه الكاتب سوى عيب واحد فقط أخذَه على المؤلِّف؛ ألَا وهو أن تعبير السيد داروين عن إعجابه بالوسائل المختلفة للتلقيح لدى السحلبيات يُعَد طريقةً غير مباشرة جدًّا لقول: «عجبًا يا إلهي، يا لَتنوُّع خَلقِك!»

وكذلك وَرَد انتقادٌ مشابه بعض الشيء لهذا في دورية «ذي إدنبرة ريفيو» (أكتوبر ١٨٦٢). يُشير فيه كاتب المقال إلى أن السيد داروين يعكف باستمرار على استخدام عباراتٍ مثل «وسيلة جميلة»، و«الشُّفية … لكي تجذب»، و«والرحيق موجود على الوضع الذي هو عليه عمدًا». ويختتم الكاتبُ مقالته هكذا: «نعرف أيضًا أن هذه الأغراض والأفكار ليست أغراضنا ولا أفكارنا، بل أغراض وأفكار مِن إبداع «ذاتٍ أخرى».»

ونُشر في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، بتاريخ ١٥ نوفمبر ١٨٦٢، مقال ينتقد تناوُل دورية «ذي إدنبرة ريفيو» لهذا الموضوع؛ وعن هذا المقال، قال والدي في خطابٍ إلى السير جوزيف هوكر (بتاريخ ٢٩ ديسمبر ١٨٦٢):

«إليك مصادفةً غريبة؛ ابن أختي هنري باركر، وهو مثال نموذجي لِخِريجي أكسفورد وزميل كلية أوريل، أتى إلى هنا مساء اليوم، وسألته عمَّا إذا كان يعرف هُوية كاتب المقال القصير المنشور في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، الذي يسحق [كاتب مقال دورية «ذي إدنبرة ريفيو»] والذي نال إعجابنا، وبعد قليل من التردُّد، اعترف بأنه هو الكاتب. لم أكن أعرف قَط أنه يكتب في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، أَوَلم تكن هذه مصادفةً غريبة؟»

كان دوق آرجايل هو كاتب مقالة دورية «ذي إدنبرة ريفيو»، واستخدمها بعد ذلك في كتابه «سيادة القانون»، المنشور في ١٨٦٧. وقد رَدَّ السيد والاس٢٠ على انتقادات الدوق، مُدليًا ببعض التعليقات الجيدة جدًّا على تلك الانتقادات التي تُشير إلى السحلبيات. فهو يُوضِّح كيف أن الغدة الرحيقية لدى أزهار جنس الأنجريكَم السحلبي (التي يتراوح طولها بين ١٠ بوصات و١٤ بوصة) وخرطوم العُثة الطويل بما يكفي للوصول إلى الرحيق، يمكن أن يتطوَّرا بالانتقاء الطبيعي، وذلك بواسطة «تكيُّف ذاتي جميل». ويواصل مضيفًا أن أي نظرية أخرى ستقودنا حتمًا إلى افتراض أن الزهرة خُلقت بغدة رحيقية ذات طول هائل، وأن الحشرة خُلقت بعد ذلك بفعلِ تأثير خاص، وهي مُكيَّفة لزيارة الزهرة، التي ستبقى عقيمةً لولا ذلك. وقد قال والدي في خطاب (بتاريخ ١٢ أو ١٣ أكتوبر) بخصوص هذه النقطة:

«نسيتُ أن أقول لك إنك قلبت الطاولة على الدوق ببراعة شديدة، عندما بيَّنت أن كلامه يعني أن أزهار الأنجريكَم وحشرات العث ظهرت بعملية خلقٍ خاص.»

إذا تفحَّصنا المؤلَّفات المتعلِّقة بتلقيح الأزهار، فلن نجد فرع الدراسة الجديد هذا قد شهد أيَّ نشاط كبير بعد نشر كتاب السحلبيات فورًا. صحيح أن هذه الفترة شهدت نشر بضع أوراق بحثية من تأليف آسا جراي، في ١٨٦٢ و١٨٦٣، وهيلدبراند في ١٨٦٤، وموجريدج في ١٨٦٥، لكنَّ المجموعة الكبيرة من الأعمال التي ألَّفها أكسل ودلبينو وهيلدبراند والأخوان مولر لم تبدأ في الظهور إلا في عام ١٨٦٧ تقريبًا. بالرغم من ذلك، فالفترة التي كانت الآراء الجديدة لم تزَل تُستوعَب فيها، قبل أن تُصبح مثمرةً جدًّا، كانت قصيرةً إلى حدٍّ مفاجئ. وربما يمكن قياس النشاط الذي شهده هذا الفرع بعد ذلك بأن «قائمة المراجع» القيِّمة، التي أوردها البروفيسور دارسي تومسون في ترجمته لكتاب «تلقيح الأزهار» الذي ألَّفه مولر (١٨٨٣)، تتضمَّن إحالات إلى ٨١٤ ورقةً بحثية.

وإلى جانب كتاب السحلبيات، كتب والدي ورقتَين بحثيتَين أو ثلاثًا عن الموضوع، ستجدونها مذكورةً في المُلحق. كانت أُولى هذه الأوراق مُتعلِّقةً بالأشكال الجنسية الثلاثة لأزهار جنس البهية ونُشرت في عام ١٨٦٢، وتُعد تمهيدًا لأحد أجزاء كتاب السحلبيات، ولم تُنشَر إلا في دورية الجمعية اللينية، اعترافًا منه بالفائدة التي استفادها من إحدى العينات التي تحوزها الجمعية. وقد أوحت إليه إمكانيةُ أن تكون الأنواع التي تبدو مختلفةً مجرَّد أشكالٍ جنسية لنوع واحد بإجراء تجرِبة من نوعية التجارِب التي اعتاد القيام بها، والتي يُشار إليها في الخطاب التالي المُرسَل إلى أحدِ أوائل مُريديه في دراسة تلقيح الأزهار:]

من تشارلز داروين إلى جيه تراهِرن موجريدج٢١
داون، ١٣ أكتوبر [١٨٦٥]
سيدي العزيز

أنا ممتن جدًّا لك على ألواح الطباعة والنصوص الوصفية الجميلة الخاصة بك؛ لأن النقطةَ الأكثر إثارةً لاهتمامي والأشد تحييرًا لي في التاريخ الطبيعي هي التلقيح الذاتي لأزهار السحلب النحلي.٢٢ لقد أوضحت بعض المعلومات عن الموضوع بالفعل، وملاحظاتك الحالية تُبشِّر بتوضيح المزيد عنها.

كوَّنتُ رأيَين تخمينيَّين؛ أولهما أن بعض الحشرات ربما تُلقِّح النباتات تلقيحًا متبادلًا في مواسمَ مُعيَّنة، لكني على وشْك التخلي عن هذا الرأي، لكني أرجو أن تُلقي نظرةً على الأزهار الموسم القادم. وثانيًا، خمَّنت أن أزهار السحلب العنكبوتي والسحلب النحلي ربما تُمثِّل شكلَين من النوع نفسه، لكن أحدهما يُلقَّح تلقيحًا متبادلًا والآخر ذاتي التلقيح. وبِناءً على ذلك، أرسلت خطابًا منذ بضع سنوات إلى أحد معارفي، طالبًا منه أن يُحدِّد بعض أزهار السحلب العنكبوتي بعلامة مميزة، ويلاحظ ما إذا كانت تحتفظ بالسِّمة نفسها أم لا، ولكن من الواضح أنه رأى طلبي أحمقَ كأنني طلبتُ منه أن يُعلِّم إحدى أبقاره بشريط تزييني؛ ليرى ما إذا كانت ستتحوَّل في الربيع التالي إلى حصانٍ أم لا. الآن، هلَّا تتحلَّى بكَرمٍ بالغ إلى حدِّ أن تربط رباطًا حول سيقان نصف دَزِّينة من أزهار السحلب العنكبوتي، وعندما ترحل عن منتون، اقتلعها من التربة، وسأحاول أنا إنباتها لأرى ما إذا كانت ستظل على حالها أم لا، لكني سأطلب معرفة نوعية التربة والظروف التي تنمو فيها. سيكون ضروريًّا تعليم النبات بعلامة مميزة لنكون متيقنين من أن كلًّا منها ينتمي إلى النوع المقصود. من الممكن أيضًا أن يُنتِج النبات نفسُه، في مواسمَ مختلفة، سويقاتٍ جذريةً مختلفة، وستكون النباتات المُعلَّمة بعلامة مميزة بمثابة دليل.

مع جزيل الشكر يا سيدي العزيز
بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة: أُرسلُ ضمن هذه الدفعة البريدية ورقتِي عن النباتات المتسلِّقة، التي ربما قد تود قراءة أجزاء منها.

[كذلك نال السير توماس فارار والدكتور دبليو أوجل إرشادًا وتشجيعًا من والدي في ملاحظاتهما. ويُشير الخطاب التالي إلى ورقةٍ بحثية من تأليف السير توماس فارار في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، ١٨٦٨، عن تلقيح أزهار الفاصولياء القرمزية:]

من تشارلز داروين إلى تي إتش فارار
داون، ١٥ سبتمبر ١٨٦٨
عزيزي السيد فارار

يحزنني بشدة القولُ إن السمات «الرئيسية» لحالتك التي طرحتَها معروفةٌ بالفعل. وأنا المُذنب الذي سبقك؛ إذ وصفتُها منذ حوالي عشر سنوات. غير أنني أغفلت تفاصيلَ كثيرة، كالجزء الطرَفي المُلحَق بالسَّداة المفردة، ونقاط أخرى كثيرة. أُرسلُ إليك ملاحظاتي، لكني مضطر إلى أن أطلب منك إعادتها إليَّ؛ لأنني «لا أملك نسخةً أخرى». أُوافق تمامًا على أن الحقائق لافتة جدًّا، لا سيما بالطريقة التي تطرحها بها. هل أنت متيقن من أن نحلَ العسل هو الذي يَقرِض الأوراق ويقطعها؟ فهذا يعارض خبرتي. إذا كنتَ متيقنًا، فلتُولِ النقطةَ مزيدًا من التوضيح، أو احذفها إذا لم تكن متيقنًا. لا أظن أن الموضوع جديدٌ بما يكفي لتنشره الجمعية اللينية، ولكن يُمكنني القول إن مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري» أو دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» ستسعد بنشرِ ملاحظاتك، ومن المؤسف جدًّا أن تضيع. إذا شئتَ، فسأُرسل ورقتك البحثية إلى كلتا المجلتَين مع مذكِّرة مني. في هذه الحالة، يجب أن تورِد عنوانًا، واسمك، وربما سيكون من المُستحسَن أن تكتب قبل ملاحظاتك سطرًا تشير فيه إلى ورقتي وتقول إن ملاحظاتك مستقلةٌ عن ملاحظاتي وأتمُّ منها.

لقد قرأتُ ورقتي كلها سريعًا بعد فترة دامت سنوات عديدة، وتعجَّبت من الحذر الذي طرحتُ به الحجةَ القائلة بأن الغاية النهائية هي التلقيح المتبادل بين الأزهار المفردة المختلفة، وهي الحجة التي كنت مقتنعًا بها آنذاك تمامًا قدرَ اقتناعي بها الآن، لكني كنت أعرف أن الفكرة ستصدم كلَّ علماء النبات. والآن بدأ هذا الرأي في أن يصبح مألوفًا.

ليس من الصعب أن ترى اختراق أنابيبَ اللقاح، لكنَّ ذلك يتطلَّب في معظم الحالات بعض التدريب على التشريح تحت عدسة مفردة ذات بُعد بؤري مقداره عُشرُ البوصة، وسيبدو هذا صعبًا للغاية في البداية فقط.

يا لك من مُلاحِظ ممتاز؛ إنك عالِم تاريخ طبيعي من صفوة العلماء قد ضُحِّي به، على نحوٍ كامل أو جزئي من أجل الحياة العامة.

لك أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة: إذا صادفتَ أيَّ زهرة كبيرة الحجم من أزهار جنس القصعين، فلتلاحِظها بإمعان؛ لأن وسيلة التلقيح لديها رائعة. لقد أحزنني أن أُخبر رجلًا أتى إلى هنا قبل بضعة أسابيع ومعه رسوماتٌ ومخطوطة رائعة عن جنس القصعين بأن العمل كله قد أُنجِزَ بالفعل في ألمانيا.٢٣

[المقتطف التالي مأخوذ من خطابٍ بتاريخ ٢٦ نوفمبر ١٨٦٨ إلى السير توماس فارار، كُتب، كما علمت منه، «ردًّا على طلبه للنصيحة بخصوص أفضل طُرُق الملاحظة».

«أرى من وجهةِ نظري أن الخطة الفُضلى هي المُضي قُدُمًا في العمل وإعداد مذكِّرات غزيرة دون التفكير كثيرًا في النشر، وإذا اتضح بعدئذٍ أن النتائج جديرةٌ بالاهتمام، فانشرها. رأيي، وإن كنت لست متيقنًا من أنني على صواب، أن الخطة الفُضلى والأحدث هي عدم وصف وسائل التلقيح في نباتاتٍ مُحدَّدة، واللجوء بدلًا من ذلك إلى دراسة الدور الذي تُؤدِّيه بِنًى مُحدَّدة لدى كل النباتات أو لدى مراتب مُعيَّنة بأكملها، مثل كتلة الشعيرات الشبيهة بالفرشاة الموجودة على قلم الميسم، أو التحام خيوط الأسدية في أزهار الفصيلة البقولية، مُكوِّنةً حُزمتَين، أو الشعيرات الموجودة داخل التُّويج، إلخ، إلخ. بعدما نظرت إلى خطابك، أظن أن هذه ربما تكون الخطة التي تقترحها.

ينبغي أن تتذكَّر أن علماء التاريخ الطبيعي يرَون الملاحظات أقيمَ بكثير من التسويغ المنطقي؛ لذا ينبغي أن تُعزَّر استنتاجاتك، كلما أمكن، بملاحظة الكيفية التي تُؤدِّي بها الحشراتُ عملها في الواقع.»

في عام ١٨٦٩، تراسَل السير توماس فارار مع والدي بشأن تلقيح جنس زهرة الآلام (الباسيفلورا) وأزهار التاكسونيا. وقد أعطاني انطباعاته عن هذه المراسلات:

«كنت قد اقترحتُ أن السلسلة المعقَّدة المُعَدَّة بدقةٍ من الحواجز الحادة الشائكة، التي تحمي الغدة الرحيقية لدى نوع زهرة الآلام الشائعة، مُصمَّمة خصوصًا لتحمي الزهرةَ من الطيور الطنانة ذات المناقير الحادة الجامدة التي لن تُلقِّحها، ولتُسهِّل وصول خراطيم النحل الطنان الصغيرة إليها لأنها تُلقِّحها، أمَّا الأنبوب الطويل المعلَّق، والإكليل المرن الشبيه بالصمام الذي يحوي رحيقَ أزهار التاكسونيا، فيصدان النحل لأنه لا يُلقِّح تلك الزهرة، ويسمحان بوصول الطائر الطنان إليها لأنه يُلقِّحها. من الممكن جدًّا أن يكون هذا الاقتراح بلا قيمة، ولا يُمكن تأكيد صحته أو دحضه إلا بفحص الأزهار في البلاد التي تنمو فيها طبيعيًّا … ما كان يثير اهتمامي هو أن السيد داروين كان يستطيع أن يقول عن هذه النقطة، مثلما كان يستطيع القول عن أي نقطة أخرى تقريبًا من نقاط الملاحظة التفصيلية: «نعم، لكني أجريت ملاحظاتٍ بنفسي بخصوص هذه النقطة بالتحديد يومًا ما، وأظن أنك ستجد، إلخ، إلخ.» لقد انبهرتُ جدًّا آنذاك بقدرته على أن يتذكَّر، بعد مرور سنوات، أنه قد لاحظ البنيةَ الغريبة التي كنتُ أشير إليها في نوعِ زهرة الآلام الحمراء.»

وبخصوص انتشار الاعتقاد بتكيُّف الأزهار من أجل التلقيح المتبادل، قال والدي في خطابٍ إلى السيد بينثام بتاريخ ٢٢ أبريل ١٨٦٨:

«أنا متيقن من أن معظم الانتقادات التي أُصادفها أحيانًا في الأعمال الفرنسية ضد وتيرة التلقيح المتبادل ناتجةٌ من جهلٍ محض ليس إلا. فأنا أومن بقاعدة ثابتة مفادُها أن المؤلِّف حين يصف بِنية زهرة مُكيَّفة خصوصًا للتلقيح الذاتي، فهي تكون في الحقيقة مُكيَّفةً للتلقيح المتبادل، ولم أجد أن هذه القاعدة اختلَّت قَط إلى اليوم. تُقدِّم أزهار الشاهترجية مثالًا جيدًا على ذلك، وقد انتقدني تريفيرانوس فيما قلته بخصوص هذه الرتبة، لكنَّ هيلدبراند يُظهر أن فكرةَ التلقيح الذاتي خاطئة تمامًا في جنس القنبري. إن ورقة هذا المؤلِّف البحثية عن جنس القصعين جديرةٌ بالقراءة حقًّا، وقد أجريتُ ملاحظات على بعض الأنواع، وأعرف أنه على صواب.»

يُشير الخطاب التالي إلى ورقةِ البروفيسور هيلدبراند عن أزهار جنس القنبري، التي نُشِرَت في دورية «بروسيدينجز أوف ذا إنترناشونال هورتيكالتشرل كونجرس»، لندن، ١٨٦٦، وفي المجلَّد الخامس من دورية «يارابوشر»، التي كان برينجشيم يُحرِّرها. ترِد المذكِّرة المتعلِّقة بجنس القصعين المشار إليها في المجلَّد السابق من الدورية نفسها:]

من تشارلز داروين إلى إف هيلدبراند٢٤
داون، ١٦ مايو [١٨٦٦]
سيدي العزيز

حالتي الصحية تمنعني من حضور مؤتمر البستنة، لكني بعثتُ يوم أمس بورقتك إلى أمين المؤتمر، وإذا لم ينهلَّ عليهم كمٌّ هائل من الأوراق، فسيتلقَّون ورقتك بكل سرور. لقد أجريتُ ملاحظات كثيرةً على أزهار الشاهترجية، واقتنعت بأنها كُيِّفت لتُلقَّح بفعل الحشرات، لكني لم أُلاحظ قَط أيَّ شيء يكاد يُضاهي التشويق الكامن في حقائقك المثيرة جدًّا للاهتمام. آمُل أن تُكرِّر تجاربك على أزهار جنس القنبري على نطاقٍ أكبر، ولا سيما على العديد من النباتات المختلفة؛ إذ ربما تكون نبتتك حالةً خاصة مفردة، مثل بعض أفراد أزهار اللوبيليا، وغيرها، التي وصفها جارتنر، وأزهار الآلام والأزهار السحلبية التي وصفها السيد سكوت …

منذ أن كتبتُ إليك من قبل، قرأتُ مذكِّرتك الرائعة عن جنس القصعين، وقد أثارت اهتمامي تقريبًا بقدرِ ما أُثير عندما بدأتُ دراسةَ بنية السحلبيات لأول مرة. إن ورقتك البحثية تُوضِّح بالأمثلة نقاطًا عديدةً في كتابِي «أصل الأنواع»، لا سيما تحوُّل الأعضاء. ولأنني لم أكن أعرف سوى نوعَين أو ثلاثة في هذا الجنس، كثيرًا ما تعجَّبت من كيفية تحوُّل إحدى خلايا المتك إلى ذلك الشكلِ الشبيه بالطبق أو الملعقة القابلِ للتحريك، وأرى أنك أحسنت توضيحَ التدرُّجات ببراعة شديدة، لكني متفاجئ من أنك لم تُصِرَّ إصرارًا أقوى على هذه النقطة.

الحق أن دهشتي ستكون أكبرَ بكثير إذا لم تصل في النهاية إلى نفس اعتقادي بأن كل النباتات، حسبما يتجلَّى في عددٍ كبير من وسائل التلقيح الجميلة، تحتاج، لسببٍ ما مجهول، إلى أنْ تُلقَّح من حين إلى آخر بحبوب لقاح من زهرة مفردة مختلفة. مع خالص احترامي وأصدق تحياتي يا سيدي العزيز.

لك بالغ إخلاصي
سي داروين

[يشير الخطاب التالي إلى كتاب الراحل هيرمان مولر «تلقيح الأزهار»، الذي يُعَد أقيمَ كتاب بين المجموعة الهائلة من المؤلَّفات التي نشأت من كتاب «تلقيح السحلبيات». وقد نُشرت ترجمة إنجليزية له بقلم البروفيسور دارسي تومسون في ١٨٨٣. وتجدُر الإشارة إلى أن «المقالة التمهيدية» المكتوبة بقلم والدي في مُستهل هذا العمل مؤرَّخة بتاريخ ٦ فبراير ١٨٨٢، وبذلك فهي تكاد تكون آخر كتاباته:]

من تشارلز داروين إلى إتش مولر
داون، ٥ مايو ١٨٧٣
سيدي العزيز

بسبب تعرُّضي لكل أنواع المقاطعات، وقراءتي اللغة الألمانية ببطء شديد، لم أصل في قراءةِ كتابك إلا إلى الصفحة ٨٨، لكني يجب أن أحظى بسعادةِ إخبارك بأنني أراه عملًا قيِّمًا جدًّا. بغض النظر عن الملاحظات الأصلية المبتكرة العديدة، التي تُشكِّل الجزءَ الأهم بالطبع، سيكون هذا العمل مفيدًا للغاية في الإشارة إلى كلِّ ما أُنجِز بخصوص هذا الموضوع. إنني مذهول جدًّا من عدد أنواع الحشرات التي سجَّلتَ زياراتها إلى أزهارٍ مختلفة. من المؤكَّد أنك عمِلتَ بأكثر الطُّرُق مثابرة. قبل حوالي نصف عام، أشار مُحرِّر دورية «نيتشر» إلى أنها ستكون مهمة هائلة إذا قام عددٌ من علماء التاريخ الطبيعي بما أنجزتَه بالفعل بهذا الحجم الكبير بخصوص زيارات الحشرات. انتابتني سعادةٌ بالغة بقراءة قائمة مراجعك؛ لأنني لم أرَ في حياتي كلَّ المراجع موضوعةً معًا على هذا النحو. أحيانًا ما كنت أخشى أن أكون مخطئًا عندما قلتُ إن سي كيه سبرينجل لم يُدرك تمامًا أن التلقيح المتبادل هو الغاية النهائية من بنيةِ الأزهار، لكن قلبي قد اطمأنَّ الآن، ويغمرني رضًا بالغٌ بأنْ أعتقد أنني أسهمتُ في ذيوع شهرة كتابه الممتاز على نطاقٍ أعمَّ. غير أن أكثرَ ما أدهشني في قائمة مراجعك، هو مقدار الإسهام الكبير الذي أسهمتُ به أنا شخصيًّا بخصوص هذا الموضوع؛ إذ لم يخطر ببالي قَط أن أُفكِّر في جميع أوراقي البحثية ككل. بالرغم من ذلك، فليس لدي شكٌّ في أن تقديرك البالغ لمجهودات الآخرين قد جعلك تُبالغ في تقديرِ حجم إسهاماتي. مع خالص شكري واحترامي، وأصدق تحياتي.

لك بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
ملحوظة: ذكرتُ كتابك لجميع المهتمين بالموضوع في إنجلترا تقريبًا، على حدِّ علمي، وطلبتُ إرسال نسخةٍ إلى الجمعية الملكية.

[يشير الخطاب التالي، المُرسَل إلى الدكتور بيرنس، إلى نفس الموضوع الأخير:]

من تشارلز داروين إلى دبليو بيرنس
داون، ٢٩ أغسطس [١٨٧٨]
سيدي العزيز

إنني في غاية الامتنان لك على أنك أرسلت إليَّ مقالك «إسهامات في تاريخ نظرية التلقيح»،٢٥ وقد أثار بالغ اهتمامي. إنه يُسلِّط ضوءًا جديدًا على بعض الأشياء، ويُعرِّفني بأشياء أخرى لم أكن أعرفها. أتفق معك من صميم قلبي في تقديرك البالغ لعملِ الراحل العزيز سي سبرينجل، وكم آسَف أسفًا مريرًا على أنه لم يظلَّ حيًّا ليرى مجهوداته تنال هذا التقدير. يُسعدني أيضًا أن أذكر أنك تغمر إتش مولر بتقدير بالغ، الذي دائمًا ما رأيتُه ذا براعة رائعة في الملاحظة والتسويغ المنطقي. وها أنا ذا أسعى الآن جاهدًا إلى إقناعِ ناشر إنجليزي بإصدار ترجمة إنجليزية لكتابه «تلقيح الأزهار».

وأخيرًا، دعني أشكرك على تعليقاتك النبيلة جدًّا على أعمالي. فترتيبك للأعمال التي استطعتُ الإسهامَ بها في هذا الموضوع ترتيبًا منهجيًّا قد جعلني أرى عملي الشخصي أقيمَ بكثير ممَّا كنت أراه من قبلُ على الإطلاق! ورغم ذلك، أخشى أن يكون ما ذكرتَه عنِّي أكثرُ ممَّا أستحق.

سأبقى يا سيدي العزيز حاملًا لك بالغ الإخلاص والامتنان.

تشارلز داروين

[كان السبب في كتابة الخطاب التالي مقالَ الدكتور جراي في دورية «نيتشر»، الذي أُشير إليه سلفًا، والذي نُشر في ٤ يونيو ١٨٧٤:]

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٣ يونيو [١٨٧٤]
عزيزي جراي

سُررتُ برؤية خطِّ يدك مُجدَّدًا في خطابك المؤرَّخ بتاريخ الرابع من الشهر، الذي سأتعرَّض للمزيد من تفاصيله قريبًا. فوجئت برؤية إعلانٍ منذ حوالي أسبوع ذُكر فيه أنك ستكتب في دورية «نيتشر» مقالًا عني، وتلقَّيتُ صباح اليوم نسخةً من المقال قبل نشره. إنه أعظم ما كُتب عني على الإطلاق، لا سيما أنه صادر عن رجلٍ مثلك. لقد غمرني بسعادة عميقة، خصوصًا بعض تعليقاتك الجانبية. من الرائع لي أن أعيش إلى أن أرى اسمي مقترنًا باسم روبرت براون بأيِّ حال من الأحوال. غير أنك رجل جريء؛ لأنني متيقن من أنك ستتعرَّض لسخريةٍ من عددٍ ليس بقليل من علماء النبات. إنني لم أحظَ بمثل هذا التشريف البالغ من قبل، وآمُل أن يُفيدني ويجعلني أُحاول توخِّي الحذر قدرَ الإمكان، وما أصعبَها من مهمة! أشعر بفخر شديد، لكني آمُل ألَّا يستمرَّ ذلك …

[لاحظ فريتز مولر أن أزهار جنس الهيديكيم مُرتَّبة ترتيبًا محكمًا إلى حدِّ أن حبوب اللقاح تُنقَل بأجنحة الفراشات التي تحوم حولها. ويرِد في الخطاب التالي تنبُّؤ والدي بهذه الملاحظة:]

من تشارلز داروين إلى إتش مولر
داون، ٧ أغسطس ١٨٧٦

… أثارت مقالةُ أخيك عن أزهار جنس الهيديكيم بالغَ اهتمامي، وكنتُ مقتنعًا جدًّا قبل حوالي عامَين بأن الأزهار تُلقَّح بأطرافِ أجنحة حشرات كبيرة من العث، إلى حدِّ أنني أرسلت خطابًا إلى الهند لأطلب من رجلٍ أن يلاحظ الأزهار ويصطاد العث في أثناء عمله، وقد أرسل إليَّ عددًا يتراوح بين ٢٠ حشرةً و٣٠ من عث أبي الهول، لكنها كانت مُعبأةً تعبئةً سيئة جدًّا؛ فوصلت كلها مهشَّمة، ولم أستطِع التوصُّل إلى شيء …

لك بالغ إخلاصي
سي داروين

[المقتطف التالي مأخوذ من خطابٍ مُرسَل إلى الدكتور جراي (بتاريخ ٢٥ فبراير ١٨٦٤) وهو يشير إلى تنبُّؤ آخر قد تحقَّق:

«لم أرَ أحدًا بالطبع، وباستثناء هوكر العزيز الطيب، لا أتلقَّى خطاباتٍ من أحد. فهو، كأيِّ صديق صدوق حقيقي، غالبًا ما يرسل إليَّ خطابات وإن كان مُنهكًا من كثرة العمل.

تلقَّيت خطابًا أثار بالغَ اهتمامي، مع ورقة بحثية ستظهر في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»، من تأليف الدكتور كروجر من ترينداد، وتُبيِّن أنني مُحق تمامًا في كلِّ ما ذكرته عن أزهار جنس البهية، حتى فيما قلته عن الموضع الذي تلتصق عنده حبوب اللقاح بالنحل الذي يزور الزهرةَ ليقضم الشفية، كما قلتُ. وأرى أن كلام كروجر عن أزهار جنس جردل السحلبية وفائدة الشفية الشبيهة بالدلو والممتلئة بالماء هو الأفضل على الإطلاق، ولمَّا كان النحل مُبلَّلًا جيدًا، فأنا «أظن» أن ذلك يؤدي لأن تصبح شعيراته ملساء؛ ممَّا يسمح للقرص اللزج بالالتصاق.»]

من تشارلز داروين إلى الماركيز دو سابورتا
داون، ٢٤ ديسمبر ١٨٧٧
سيدي العزيز

أشكرك بصدقٍ على خطابك الطويل الشائق جدًّا، الذي كنت سأردُّ عليه في وقتٍ أبكرَ من ذلك لولا أنني تأخَّرت في لندن. لم أسمع من قبلُ أنني سأُرشَّح لأصبح عضوًا بالمراسلة في المعهد. ولأنني أعيش حياةً منعزلة جدًّا، أكاد ألَّا أتأثَّر بمثل هذه التكريمات، وأستطيع القول بكل صدق إن تعبيرك اللطيف عن التعاطف قد منحني وسيمنحني سعادةً أشدَّ بكثير من الانتخاب نفسه، إذا انتُخبت.

أرى أن فكرتك التي طرحتَ فيها أن النباتات الثنائية الفلقة لم تتطوَّر على نحوٍ كبير إلا بعدما تطوَّرت الحشرات الماصَّة فكرةٌ رائعة. أنا مندهش من أن هذه الفكرة لم تخطر ببالي من قبل، لكن هذا ما يحدث دائمًا عندما يسمع المرء شرحًا جديدًا بسيطًا لظاهرةٍ غامضة لأول مرة … أظهرتُ سابقًا أننا نستطيع أن نفترض افتراضًا وجيهًا مفادُه أن جمال الأزهار ورائحتها الحلوة ورحيقها الغزير كلها أشياء قد تُعزى إلى وجود الحشرات التي ترتاد الأزهار، لكن فكرتك، التي آمُل أن تنشرها، تصل إلى حدٍّ أبعدَ من ذلك بكثير وهي أهم بكثير. أمَّا بخصوص أن التطوُّر الكبير للثدييات في الفترات الجيولوجية الأخيرة قد حَدَث بسبب تطوُّر ثنائيات الفلقة، فأظن أنه ينبغي إثبات أن بعض الحيوانات، كالغزلان والأبقار والخيول وما إلى ذلك، لا يُمكن أن تنمو وتزدهر إذا تغذَّت فقط على نباتات الفصيلة النجيلية وأحاديات الفلقة الأخرى التي تُلقَّح بواسطة الرياح، ولا أعتقد أنه يوجد أيُّ دليل على هذه النقطة.

إن اقتراحك بدراسةِ طريقةِ تلقيحِ ما تبقَّى من أقدم أشكال ثنائيات الفلقة، جيدٌ جدًّا، وآمُل أن تهتم به بنفسك؛ لأنني وجَّهتُ اهتمامي إلى موضوعات أخرى. أظن أن دلبينو يقول إن أزهار جنس المجنوليا تُلقَّح بواسطة الحشرات التي تقضم البتلات، ولن أتفاجأ إذا كانت هذه الحقيقة نفسها تنطبق على أزهار جنس النيلوفر. فكلما نظرتُ إلى أزهار هذا الجنس الثاني، راودتني نزعةٌ إلى أن أعترف بالرأي القائل إن البتلات أسْدِيةٌ مُعدَّلة لا أوراقًا معدَّلة، رغم أن نوع بنت القنصل Poinsettia يوضِّح، على ما يبدو، أن بعض الأوراق الحقيقية يُمكن أن تُحوَّل إلى بتلات ملوَّنة. يؤسفني القولُ إنني لم أؤسَّس تأسُّسًا سليمًا قَط في علم النبات ولم أدرُس سوى نقاط خاصة؛ لذا لا أستطيع أن أدَّعي أنني أُدلي بأي رأي عن تعليقاتك على أزهار المخروطيات وجنس الجنتوم، إلخ، لكني سُررت بما تقوله عن تحوُّل نوعٍ توجد فيه الأعضاء الذكرية والأنثوية في نباتٍ واحد إلى نوعٍ توجد فيه الأعضاء الذكرية والأنثوية في زهرة واحدة، بواسطة تكثُّفات السواري على فرعٍ يحمل الأزهار الأنثوية بالقرب من القمة، والأزهار الذكرية بالأسفل.

أتوقَّع أن هوكر سيأتي إلى هنا عمَّا قريب، وحينها سأُريه رسمتك، وإذا أدلى بأي تعليقات مهمة، فسأُرسل إليك بشأنها. إنه مشغول جدًّا الآن بإنجاز بعض الأعمال المتأخِّرة بعد رحلته الاستكشافية إلى أمريكا؛ لذا لا أُريد إزعاجه، ولو برسالة قصيرة للغاية. أعمل حاليًّا مع ابني على بعض الموضوعات المتعلِّقة بعلم وظائف الأعضاء، ونتوصَّل إلى نتائجَ شائقة جدًّا، لكنها ما زالت غير مؤكَّدة بما يكفي لتستحقَّ إرسالها إليك …

صديقك المجنون
سي داروين

[في عام ١٨٧٧، نُشرت طبعة ثانية من كتاب «تلقيح السحلبيات»، وذلك بعد فترة من نفاد كل كتب الطبعة الأولى. أُعيدت صياغة الطبعة الجديدة، بل يمكن القول إنها كُتبت من جديد، وأُضيف إليها قدرٌ كبير من المواد العلمية الجديدة، كان المؤلِّف يَدين بمعظمها لصديقه فريتز مولر.

وبخصوص هذه الطبعة، قال في خطابٍ إلى الدكتور جراي:

«أظن أنني لن ألمس الكتاب مُجدَّدًا أبدًا. فبعد الكثير من التردُّد، قرَّرت أن أتبع هذا النهج مع كل كتبي في المستقبل؛ أي أن أكتفي بتصحيحها مرةً واحدة ولا ألمسها مُجدَّدًا أبدًا؛ لكي أستخدم ما تبقَّى لديَّ من طاقة قليلة للعمل على المواد الجديدة.»

ربما شعر بتضاؤل قدراته على مراجعة مجموعاتٍ كبيرة من الحقائق، كتلك التي يتطلَّبها إعداد طبعات جديدة، لكنَّ قدراته على الملاحظة لم تتضاءل بالتأكيد. فقد قال في خطابٍ إلى السيد داير في ١٤ يوليو ١٨٧٨:]

عزيزي داير

أُرسِلَت إليَّ زهرة من نوع تاليا ديلباتا من كيو، ثم أزهَرت، وبعدما كنت أُلقي عليها نظراتٍ عابرةً من حين إلى آخر، جعلتني شبه مجنون، وعملتُ عليها طوال أسبوع كامل، إنها حالة عظيمة كحالة أزهار جنس البهية.

المدقة متحرِّكة بعُنف (إلى حد أن الزهرة كلها تهتز عندما تلتف المدقة على نفسها فجأة)؛ فعندما تُثار بلمسة، يُنتَج الخيطان في وضعٍ جانبي وعَرَضي عَبر الزهرة (فوق الرحيق مباشرة) من إحدى البتلات أو الأسدية المُعدَّلة. من الرائع مشاهدةُ الظاهرة تحت تأثير قوة ضعيفة عندما تُدخَل شعرة منتصبة داخل زهرة «صغيرة السن» لم تزُرها أي حشرة. على حد علمي، فأزهار الستايلديوم هي الحالة الوحيدة التي توجد فيها مدقة حساسة، وفي هذه الحالة لدينا المدقة والأسدية. وفي زهرة التاليا،٢٦ تَضمنُ الحركةُ العجيبة حدوث التلقيح المتبادل، إذا زار النحل أزهارًا مُتعدِّدة.

الآن قد أرحتُ بالي وسأُخبرك بالمغزى من هذه الرسالة: إذا أزهَرَ معك أيُّ نوع آخر من أنواع التاليا إلى جانب التاليا ديلباتا، فأستحلفك بالرب وكل القديسين أن ترسل إليَّ بضعًا منها في «صندوق صفيحي مع طحالب رطبة».

[في عام ١٨٧٨، نُشرت ترجمة الدكتور أوجل لكتاب كيرنر الشائق «الأزهار وزائراتها غير المدعية». وقد أسهَم والدي، الذي أثارت الترجمة بالغَ اهتمامه (كما يتضح في الخطاب التالي)، ببعض كلمات الاستحسان الاستهلالية:]

من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
داون، ١٦ ديسمبر [١٨٧٨]

… الآن قد قرأتُ كتاب كيرنر، الذي اتضح أنه أفضلُ حتى ممَّا كنت أتوقَّع. تبدو لي الترجمة واضحةً كضوء النهار، ومكتوبةً بلُغة إنجليزية قوية ومألوفة جيدة. إنني قلِق بعضَ الشيء من أن تستعصي على فهْم جمهور القُرَّاء الإنجليز الذين يبدو أنهم يحبُّون المحتوى السهل القليل الفائدة، ما لم يكن مُقدَّمًا لهم من شخصٍ ذائع الصيت، فيصبحون حينئذٍ سعداء، على ما أعتقد، بقدرٍ كبير من المحتوى غير المفهوم. أرجو من الرب أن أكون مخطئًا. على أي حال، لقد قدَّمت أنت والسيدة أوجل خدمةً جليلة جدًّا لعلم النبات. لك بالغ إخلاصي.

سي داروين
ملحوظة: لقد شرَّفتني تشريفًا بالغًا في تعليقاتك الاستهلالية.

[وَردت واحدة من آخر الإشارات إلى كتابه عن تلقيح السحلبيات في خطاب إلى السيد بينثام، بتاريخ ١٦ فبراير ١٨٨٠. وتُظهِر مقدار السعادة البالغة التي غَمَرت أبي من دراسة هذا الموضوع، وأنَّ تذكُّره هذا العمل كان يبث في نفسه سرورًا بالملاحظات التي سبقت نشره، وليس الإشادة التي أعقبت نشره (وهذا كان دأبه دائمًا):

«إنها لمخلوقات رائعة، هذه السحلبيات، وأحيانًا ما يكون تفكيري ممزوجًا بسعادةٍ بالغة عندما أتذكَّر أنني فهمت نقطةً بسيطة في طريقة تلقيحها.»]

هوامش

(١) زاكس، كتاب «تاريخ علم النبات»، الصفحة ٤١٩.
(٢) كريستيان كونراد سبرينجل، ١٧٥٠–١٨١٦.
(٣) دورية «نيتشر»، ١٨٧٤، الصفحة ٨٠.
(٤) «اكتشاف سر الطبيعة في شكل الأزهار وتلقيحها». برلين، ١٧٩٣.
(٥) دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، ١٨٥٧، الصفحة ٧٢٥. يبدو أن هذه الورقة كانت جزءًا من عمله «وقتًا إضافيًّا». إذ قال في خطاب إلى أحد أصدقائه: «أُنجِزَت هذه الورقة البحثية اللعينة عن الفصيلة البقولية بعد الظُّهر؛ ولذا اضطُررت إلى الذهاب إلى مور بارك أسبوعًا كاملًا.»
(٦) إذا نظرت إلى أحدِ أحواض أزهار الفاصولياء القرمزية، فستجد أن البتلات الجناحية الموجودة على الجانب «الأيسر» فقط كلها مخدوشة بأقدام النحل. [هذه ملحوظة واردة في الخطاب الأصلي الذي كتبه سي داروين.]
(٧) دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، ١٨٥٨، الصفحة ٨٢٨. وفي عام ١٨٦١، ظهرت ورقةٌ أخرى عن التلقيح في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، الصفحة ٥٥٢، شَرَح فيها تأثير الحشرات في أزهار نبات العناقية الكبرى. وكان ما جذبه إلى أزهارِ العناقية أنها لا تزورها الحشرات ولا تُنتج بذورًا أبدًا.
(٨) بالطبع أدرَك التباين في عادات الحشرات. وقد نشر رسالةً قصيرة في مجلة «إنتومولوجيستس ويكلي إنتليجنسر»، ١٨٦٠، متسائلًا عمَّا إذا كانت حشرات التينينا Tineina وحشرات العث الأخرى تمتص الأزهار.
(٩) نشر ورقةً بحثيةً قصيرة عن طريقة تخصيب هذه الزهرة، في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، ١٨٧١، الصفحة ١١٦٦.
(١٠) ٩ يونيو ١٨٦٠. يبدو أن هذه المقالةَ حازت بعض الاهتمام، لا سيما بين علماء الحشرات؛ لأن مجلة «إنتومولوجيستس ويكلي إنتليجنسر» أعادت نشرها، ١٨٦٠.
(١١) إنه شكل مُعدَّل من الميسم العلوي.
(١٢) كتاب «نظرة على داروين، إلخ»، مجلة «أرشيف دي ساينس فيزيك إيه ناتورال»، العدد الثالث. المجلَّد السابع، الصفحة ٤٨١، ١٨٨٢ (مايو).
(١٣) الصعوبة التي كانت تُحيِّره بخصوص أسماء النباتات موضَّحة، في سياقٍ متعلِّق بزهرة ترمس كان يعمل عليها، في فقرةٍ مقتطفة من خطابٍ أرسله (بتاريخ ٢١ يوليو ١٨٦٦) إلى السير جيه دي هوكر: «أرسلتُ إلى حديقة المشتل، التي اشتريت منها البذرة، ولم أتلقَّ سوى ردٍّ يقول إنها «زهرة الترمس الأزرق الشائع»، والرجل يقول إنه «ليس عالِمًا، ولا يعرف اللاتينية، وإن الأشخاص الذين يُجرون التجاربَ من المفترض أن يعرفوا الأسماء».»
(١٤) عدد ٢٤ مايو ١٨٦٢.
(١٥) عدد ١٤ يونيو ١٨٦٢.
(١٦) ومع ذلك، كانت الشكوك لا تزال تراوده بخصوصِ هذه النقطة في ذلك الوقت تقريبًا. إذ قال في خطابٍ إلى البروفيسور أوليفر (بتاريخ ٨ يونيو): «أنا سعيد لأنك قرأت كتابي عن السحلبيات، وتستحسنه على ما يبدو؛ لأنني لم أنشر في حياتي شيئًا كنت أشكُّ بشدة في جدارته بالنشر كهذا الكتاب، بل ما زلت أشكُّ في هذا. أظن أن الموضوع أثار اهتمامي بقدرٍ يفوق قيمته.»
(١٧) «سيليمان جورنال»، المجلَّد الرابع والعشرون، الصفحة ١٣٨. وَرَد في هذه المقالة تقريرٌ عن تلقيح نوع سحلبية هوكر. أمَّا نوع السحلبية الشمالية الخضراء P. hyperborea، فنُوقش في مقالة «إحصاء، إلخ» التي كتبها الدكتور جراي في المجلَّد نفسه، الصفحة ٢٥٩، ونوقشت أيضًا، مع أنواع أخرى، في مقال نقدي ثانٍ لكتاب السحلبيات في الصفحة ٤٢٠.
(١٨) واحدٌ من أولاده كان مريضًا.
(١٩) ذكر الدكتور جراي أن كتاب السحلبيات لو كان ظهر (مع حذف بضع نقاط تافهة منه) قبل كتاب «أصل الأنواع»، لكان علماء اللاهوت الطبيعي سيُقدِّسون المؤلِّف بدلًا من أن يلعنوه.
(٢٠) مقال منشور في دورية «كورترلي جورنال أوف ساينس»، أكتوبر ١٨٦٧. وأُعيد نشره في كتاب «إسهامات في نظرية الانتقاء الطبيعي»، ١٨٧١.
(٢١) الراحل السيد موجريدج، مؤلِّف كتاب «النمل الحاصد وعناكب الباب المسحور»، وكتاب «نباتات منتون» … إلخ.
(٢٢) قال ذات مرة للدكتور نورمان مور إن أحد الأشياء التي تجعله يتمنَّى أن يعيش بضعة آلاف من السنين هو رغبته في أن يشهد انقراض أزهار السحلب النحلي؛ إذ كان يعتقد أن عادة التلقيح الذاتي الموجودة لديها ستؤدِّي إلى هذه النهاية.
(٢٣) نَشَر الدكتور دبليو أوجل، وهو مُلاحِظ تلقيح أزهار القصعين الذي يقصده داروين هنا، نتائجه في دورية «بوبيلر ساينس ريفيو»، ١٨٦٩. وهو يتحدَّث بدماثة ولباقة وامتنان عن علاقته بوالدي في مقدمة ترجمته لكتاب كيرنر «الأزهار وزائراتها غير المدعية».
(٢٤) أستاذ علم النبات في فرايبورج.
(٢٥) مجلة «بروجرم دير كيه جيفيربيشوله زو إلبرفيلد»، ١٨٧٧-١٨٧٨.
(٢٦) وصف هيلدبراند ترتيبًا انفجاريًّا في بعض أفراد المارانتا Maranteae، وهي القبيلة التي ينتمي إليها جنس التاليا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤