الفصل الثالث عشر

نَشْر كتابَي «النباتات المتسلِّقة» و«النباتات الآكلة للحشرات»

[يذكر والدي في «سيرته الذاتية» (الواردة في الجزء الأول من هذا الكتاب) أن ما دفعه إلى الاهتمام بموضوع النباتات المتسلِّقة كانت قراءة ورقة الدكتور جراي البحثية «مذكرة عن الحركة الالتفافية لمحالق النباتات».١ يبدو أن هذه المقالة قُرئت في عام ١٨٦٢، ولكن لا يسعني إلا تخمين تاريخ الخطاب الذي يطلبُ فيه معلومات الإحالة إليها؛ لذا لا يُمكن تحديد تاريخ بدايته هذا العمل بدقة.

من المؤكَّد أنه كان يعمل عليه بالفعل في يونيو ١٨٦٣، وأرسل خطابًا إلى السير جيه دي هوكر طالبًا معلوماتٍ بخصوص المنشورات السابقة عن الموضوع؛ لأنه لم يكن يعرف آنذاك بكتابَي بالم وهوجو فون مول عن النباتات المتسلِّقة، اللذَين نُشرا كلاهما في عام ١٨٢٧.]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢٥ [يونيو] [١٨٦٣]
عزيزي هوكر

أعكفُ على ملاحظةِ حقيقةٍ صغيرة فاجأتني بعناية شديدة، وأُريد أن أعرف منك ومن أوليفر ما إذا كانت تبدو جديدةً بالنسبة إليك أو غريبة، فلتُخبرني بهذا وقتما تُرسل خطابًا؛ إنها حقيقة تافهة جدًّا؛ لذا لا ترُدَّ من أجلها خصوصًا.

حصلت على أحد نباتات الخيار البري لألاحظ مدى قابلية الاستثارة لدى المحالق، التي وصفها آسا جراي، والتي تُعد واضحةً جدًّا بالطبع. ولأن النبات موجود في غرفة مكتبي، فوجئت عندما وجدت أن الجزء العلوي من كل فرع (أي الساق الموجودة بين الورقتَين العلويتَين باستثناء الطرف النامي) يلتفُّ ببطء و«استمرار» مكوِّنًا دائرةً في مدةٍ تتراوح بين ساعة ونصف وساعتَين، وأحيانًا ما يلتفُّ مرتَين أو ثلاثة، ثم ينحلُّ من التِوائه بالمعدَّل نفسه ويلتوي في الاتجاه المعاكس. وعادةً ما يظل ساكنًا نصفَ ساعة قبل أن يعود إلى وضعه السابق. ولا تُصبح الساق دائمة الالتواء. أمَّا جزء الساق الواقع أسفل الجزء الملتوي فلا يتحرَّك إطلاقًا، مع أنه ليس مربوطًا. تظل الحركة مستمرةً طوال النهار وطوال الجزء الأول من الليل. ولا علاقة لها بالضوء؛ لأن النبات يلتوي مبتعدًا عن الضوء بالسرعة نفسها التي يلتوي بها نحوه. لا أعرف ما إذا كانت هذه ظاهرةً شائعة أم لا، لكنها حيَّرتني بشدة عندما بدأت أُلاحظ ظاهرة قابلية الاستثارة لدى المحالق. لا أقول إن هذه هي الغاية النهائية، لكن النتيجة جميلة؛ لأن النبات يمتد ملتفًّا كل ساعة ونصف أو ساعتَين مُكوِّنًا دائرةً يتراوح قُطرها بين قدم واحدة وعشرين بوصة (على حسب طول الساق المنحنية وطول المحلاق)، وعلى الفور يلمس المحلاق أيَّ شيء يستحوذ عليه بسبب حساسيته؛ لقد قال بستانيٌّ ذكي من جيراني، رأى النبات على منضدتي الليلة الماضية: «أعتقد يا سيدي أن المحالق تستطيع الرؤية؛ لأنني حيثما وضعتُ النبات، يكتشف أي عصًا على مقربة كافية منه». أعتقد أن الكلام الوارد أعلاه يُفسِّر ذلك؛ أي إن النبات يظل يمتد ملتفًّا ببطء. معنى هذا أن المحالق لديها شيء من الإدراك؛ لأنها لا يمسك بعضها ببعض عندما تكون صغيرة.

مع خالص مودتي
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٤ يوليو [١٨٦٣]
عزيزي هوكر

أستمتع جدًّا بمحالقي؛ هذه بالضبط هي نوعية العمل التافه الذي يناسبني، ولا يستغرق وقتًا بل يُريحني في أثناء الكتابة. لذا فهلَّا تُفكِّر فقط فيما إذا كنت تعرف أيَّ نبات ذي محالق تستطيع أن تعطينيه أو تقرضنيه، أو ربما نبات يُمكنني شراؤه، على أن يكون فيه سِمة لافتة جديرة بالملاحظة بأي طريقة، سواء تَطوُّره، أو بنيته الغريبة أو المميزة، أو حتى غرابة موضعه في الترتيب الطبيعي. لقد رأيتُ، أو أستطيع أن أرى، فصيلة القرعيات وجنس الباسيفلورا والأنواع مُتسلِّق فرجينيا، وسيسوس جافانا، والبازلاء الشائعة والبازلاء الأبدية. ما أغربَ تنوُّع قابلية الاستثارة لدى المحالق (لا أقصد الحركةَ العفوية، التي كتبتُ عنها من قبل وكنتُ على صوابٍ فيما كتبته، كما يتضح بمزيد من الملاحظة)؛ فعلى سبيل المثال، وجدت أن الضغط على طرفِ المحلاق في نباتات فصيلة القرعيات ضغطةً خفيفة بين الإبهام والسبابة يُسبِّب حركةً فورية، لكن مثل هذه الضغطة لا تُثير أيَّ حركة لدى نباتات نوع سيسوس جافانا. السبب أن النباتات الأولى فيها جانب واحد فقط قابل للاستثارة (الجانب المقعَّر)، في حين أن كلا الجانبَين قابلٌ للاستثارة في النباتات الثانية؛ ولذلك إذا أثَرتَ جانبَين «متقابلَين» في الوقت نفسه، فلن تنشأ حركة، ولكن عند لمسِ فرعَي المحلاق بقلم رصاص في أي موضع على الإطلاق، ستُحدِث حركةً نحو تلك النقطة؛ لذا أستطيع تشكيل الفرعَين في أي شكل أُريده، بمجرَّد لمسة …

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٤ أغسطس [١٨٦٣]

أَدينُ لك بموضوعي المفضَّل الحالي؛ أي المحالق؛ فخاصية قابليتها للاستثارة جميلة، وهي جميلة في كل تعديلاتها بقدرِ جمال أيِّ شيء في السحلبيات. بخصوص الحركة «العَفْوية» (غير المعتمدة على اللمس) للمحالق وأجزاء الساق العلوية الواقعة بين العُقَد، ذُهلتُ بعض الشيء بسؤالك الذي قلتَ فيه: «أليست معروفةً جيدًا؟» فأنا لا أستطيع العثور على أي شيء عنها في أي كتاب موجود لديَّ … صحيح أن الحركة العَفْوية للمحالق ليست معتمدةً على حركة أجزاء الساق العلوية الواقعة بين العُقَد، لكنَّهما تتحرَّكان معًا بتناغم وتلتفَّان مُكوِّنتين دائرةً لتستطيع المحالق الإمساك بعصًا ما. لذا ففي النباتات المتسلِّقة (التي ليس لديها محالق) التي فُحصت حتى الآن، تستمر أجزاء الساق العلوية الواقعة بين العُقَد ليلًا ونهارًا في الامتداد ملتفَّةً في اتجاه واحد ثابت. من المدهش مشاهدةُ نباتات الفصيلة الدفلية بسيقانٍ طولها ١٨ بوصة (متجاوزةً بذلك طول العصا الداعمة) تبحث باستمرار عن شيء لتتسلَّقه. عندما تلتقي الساق بعصًا، تُوقَف الحركة عند هذه النقطة، لكنها تظل مستمرةً في الجزء العلوي؛ لذا فإن ظاهرةَ التسلُّق لدى كل النباتات التي فُحِصت إلى الآن ليست سوى نتيجة بسيطة للحركة الدائرية العَفْوية التي تتحرَّكها أجزاء الساق العلوية الواقعة بين العُقَد. أرجو أن تقول لي هل نُشِر أيُّ شيء عن هذا الموضوع من قبل؟ فأنا أكره نشر الموضوعات القديمة، لكني لن أندم إطلاقًا على عملي لو اتضح أنه قديم ونوقِش سلفًا بالفعل؛ لأنه أمتعني جدًّا …

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
٢٨ مايو ١٨٦٤

… ذَكَر رجلٌ أيرلندي نبيلٌ على فراش الموت أنه يستطيع أن يقول بضميرٍ مرتاح إنه لم يحرم نفسه من أيِّ لذة طول حياته، وأنا أستطيع القول بضميرٍ مرتاح إنني لم أتردَّد قَط في إزعاجك، وها أنا ذا سأفعل مُجدَّدًا. هل سافرت إلى الجنوب، وهل يُمكنك أن تقول لي ما إذا كانت الأشجار، التي تتسلَّقها نباتات بيجونيا كابريولاتا، مغطاةً بالطحالب أم الحزاز الخيطي أم التيلاندسيا؟٢ أسألُ لأن محالقها تكره العِصي البسيطة، ولا يُعجبها اللِّحاء الخشن، لكنها تُسَر بالصوف أو الطحالب. فهي تلتصق بطريقةٍ غريبة من خلال تكوين أقراص صغيرة، مثل جنس الأمبيلوبسيس … بالمناسبة، سأُرفق بعض العينات، وإذا كنت ترى الأمرَ يستحق العناء، تستطيع أن تضعها تحت المجهر البسيط. إن التكيُّف المميز الذي يتجلَّى في بعض المحالق لافتٌ للنظر للغاية؛ فمحالق أزهار المجد التشيلي Eccremocarpus scaber لا تحب العِصي، وتتجاهل خيوط الصوف، ولكن إذا أعطيتها حُزمةً من سيقان العشب، أو حُزمةً من شعيرات جامدة منتصبة، فستلتف حولها وتمسك بها بإحكام.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٠ يونيو [١٨٦٤]

… قرأتُ الآن كتابَين ألمانيَّين، وكلَّ ما أعتقد أنه كُتِب عن النباتات المتسلِّقة؛ فقد اتقدت حماستي عندما وجدتُ أن لديَّ قدرًا كبيرًا من المادة الجديدة. هذا غريب، لكني أظن حقًّا أن أحدًا لم يشرح النباتات الملتفة البسيطة. ألهبت تلك الأعمال حماستي، وجعلتني مُتشوِّقًا للحصول على النباتات التي خُصَّت بالذكر فيها. سأكون ممتنًّا جدًّا للحصول على النباتات التي تذكرها. أرسلتُ خطابًا إلى فيتش طالبًا فيه نباتاتٍ صغيرةَ السن من جنسَي النيبينثيز والفانيلا (التي أعتقد أنها ستكون حالة عظيمة، وإن كانت من النباتات التي تتسلق بجذورها)، وإذا لم أستطِع شراء نبات صغير السن من جنس الفانيلا، فسأطلبه منك. لقد طلبت أحدَ نباتات السرخس ذي الأوراق المتسلِّقة المنتمية لجنس الليجوديوم. كل هذا العمل المتعلِّق بالنباتات المتسلِّقة سيؤلم ضميري؛ لأنني كنت أظن أنني أستطيع العمل بجدٍّ أكبر.٣

[واصل إجراء ملاحظاته على النباتات المتسلِّقة في أثناء مرضه المطوَّل الذي عاناه في خريف عام ١٨٦٣، وفي الربيع التالي. وأرسل خطابًا إلى السير جيه دي هوكر، في مارس ١٨٦٤ على ما يبدو، قائلًا فيه:

«صحتي أفضلُ حالًا بكل تأكيد منذ عدة أيام، وما أشدِّد عليه بكل قوة (بغض النظر عمَّا يقوله الأطباء) أن عقلي أقوى بكثير، وأنني لم أعُد أشعر بالعديد من الأحاسيس البشعة. الصوبة الزراعية تمنحني تسليةً كبيرة، وهي تسلية أَدين لك بها؛ لأنني أستمتع بملاحظة الأوراق والنباتات الغريبة الكثيرة من كيو … الطريقة الوحيدة التي أستطيع العمل بها أن أُلاحظ المحالق والنباتات المتسلِّقة؛ فهذا لا يُتعب عقلي الواهن. اطلب من أوليفر أن يُلقي نظرةً فاحصة سريعةً على الأسئلة المرفقة، (ولتُلقِ عليها نظرةً بنفسك)، وليُسلِّ رجلًا عليلًا خائر القوى من إخوته في تخصُّص علم التاريخ الطبيعي بالإجابة عن أي أسئلة يستطيع الإجابة عنها. إذا تسكَّعتَ عبْر صُوَبِك في أي وقت، فتذكَّرني أنا والنباتات المتسلِّقة.»

في ٢٩ أكتوبر ١٨٦٤، كتب خطابًا إلى الدكتور جراي قائلًا:

«لم أستطِع مقاومة القيام بالقليل من العمل في ورقتي البحثية، أو بالأحرى كتابي الصغير بِناءً على حجمها، عن النباتات المتسلِّقة، التي تُعَد بمثابةِ ابنتك بالمعمودية، والتي أُقسم أنني سأجعل شخصًا ما ينسخها وإلا فلن أتوقَّف أبدًا. كانت هذه النوعية من العمل جديدةً عليَّ، وسُررتُ بمعرفة أن الاقتناع التام بتغيُّر الأنواع دليلٌ إرشادي ممتاز جدًّا لعمليات الملاحظة.»

وفي ١٩ يناير ١٨٦٥، قال في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر:

«صحيح أننا الآن في أيام عمل، لكني أُحاول الحصول على عطلة مُدَّتها يوم؛ لأنني أتممتُ ورقتي البحثية عن النباتات المتسلِّقة يوم أمس وأرسلتها. لم أكن أفعل شيئًا طوال الأيام العشرة الماضية سوى تصحيح جملٍ عنيدة، وصرت أكره الموضوع برُمَّته.»

ويتضمَّن خطاب إلى الدكتور جراي، بتاريخ ٩ أبريل ١٨٦٥، بضع كلمات عن الموضوع:

«بدأت تصحيح بروفات طباعة ورقتي البحثية عن «النباتات المتسلِّقة». وأظن أنني سأستطيع إرسالَ نسخة إليك في غضون أربعة أو خمسة أسابيع. أظن أنها تتضمَّن قدرًا كبيرًا من النقاط الجديدة وبعض النقاط الشائقة، لكنها طويلة جدًّا جدًّا إلى حدِّ أن أحدًا لن يقرأها أبدًا. بالرغم من ذلك، فلن تكون والدًا طبيعيًّا إذا لم «تتصفَّحها»؛ لأنها بمثابة ابنتك.»

قرأ الدكتور جراي الورقةَ البحثية، واستحسنها أيضًا، ممَّا أسعد والدي بشدة، كما يتضح في المقتطفات التالية:

«سُررتُ جدًّا بتلقي خطابك المؤرَّخ بتاريخ ٢٤ يوليو. ولأنني لا أستطيع فِعل شيء الآن، أقضي وقتي مُتسكِّعًا بين موضوعات قديمة، وقد غمرني استحسانك لورقتي البحثية عن النباتات المتسلِّقة بارتياحٍ بالغ «جدًّا». أجريت ملاحظاتي عندما لم يكن بوسعي فِعل شيء آخر، واستمتعتُ جدًّا بها، لكني دائمًا ما كنت أشكُّ فيما إذا كانت جديرةً بالنشر. أعترض على التعليق الذي أشار إلى عدمِ ضرورة الإسهاب بالتفصيل في شرح أن اللفات اللولبية في المحالق «العالقة» تمتد في اتجاهَين متعاكسَين؛ لأن هذه الحقيقة لطالما حيَّرتني، ووجدت أنه من الصعب جدًّا أن أشرح السبب لشخصَين أو ثلاثة.» (١٥ أغسطس ١٨٦٥.)

«تلقَّيت يوم أمس مقالتك٤ عن النباتات المتسلِّقة، وقد غمرتني بسعادةٍ استثنائية، بل تكاد تصل إلى حدِّ البلاهة. إنك تنهال عليَّ بإطراء رائع، وكما قلت لزوجتي للتو، أظن أن أصدقائي يتصوَّرون بالتأكيد أنني أُحب المديح؛ إذ يعطونني منه مثل هذه الجرعات الكبيرة. دائمًا ما أعجبُ ببراعتك في المقالات النقدية أو النبذات، وقد كتبت هذه المقالة بامتياز وعرضتَ فيها جوهر ورقتي كله … تلقَّيتُ خطابًا من عالم حيوان ماهر في جنوب البرازيل، إف مولر، الذي تحمَّس جدًّا لملاحظة النباتات المتسلِّقة، وهو يُقدِّم لي بعضَ الحالات الشائقة من النباتات المُتسلِّقة «بالأغصان»، وهي حالات تتحوَّل فيها الأغصان إلى محالق، ثم تُواصل النمو وتُخرِج أوراقًا وأغصانًا جديدة، ثم تَفقد طابعها المحلاقي.» (أكتوبر ١٨٦٥.)

أُعيد نشرُ الورقة البحثية المتعلِّقة بالنباتات المتسلِّقة في عام ١٨٧٥ في صورةِ كتاب منفصل. وكان المؤلِّف قد عجز عن الاعتناء بأسلوب المقالة الأصلية بالقدر المعتاد منه؛ لأنها كُتبت في فترة من المرض المستمر، واتضح حينئذٍ أن الأسلوب يحتاج إلى تعديلات كثيرة. أرسل خطابًا إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ ٣ مارس ١٨٧٥) قال فيه: «من حسن حظ المؤلفين في العموم أنهم لا يحتاجون إلى بذل هذا الجهد البشع في مجرَّد تحسين صياغةِ ما يكتبونه.» وقال في خطاب إلى السيد موراي في سبتمبر: «التصحيحات كثيرةٌ وشاقة في كتاب «النباتات المتسلِّقة»، لكني مع ذلك راجعتُ المخطوطة والأوراق القديمة ثلاث مرات بتأنٍّ.» نُشر الكتاب في سبتمبر ١٨٧٥، فصدرت منه طبعةٌ قوامُها ١٥٠٠ نسخة، وحقَّق مبيعاتٍ جيدةً جدًّا، وطُبعت ٥٠٠ نسخة إضافية في يونيو من العام التالي.]

كتاب «النباتات الآكلة للحشرات»

[في صيف عام ١٨٦٠، كان يمكث في بيت الآنسة ويدجوود، أخت زوجته، القائم في غابة آشداون، وكتب من هناك خطابًا (بتاريخ ٢٩ يوليو) إلى السير جوزيف هوكر، قال فيه:

«لا أفعل شيئًا هنا مُؤخَّرًا، لكني في البداية كنت أُسلِّي نفسي بإجراء بضع ملاحظات على قوةِ الإمساك بالحشرات لدى نباتات جنس الندية، ولا بد أن أستشيرك في وقتٍ ما بخصوصِ ما إذا كان «هرائي» يستحق أن أُرسله إلى الجمعية اللينية أم لا.»

وفي أغسطس قال في خطابٍ إلى الصديق نفسه:

«سأُرسل بكل امتنان ملاحظاتي عن نباتات جنس الندية عندما ينسخها ناسخي؛ فالموضوع أمتعني حين لم يكن لديَّ شيء أفعله.»

تحدَّث في «سيرته الذاتية» (الواردة في الجزء الأول من هذا الكتاب) عن الطبيعة العامة لهذه التجارب المبكِّرة. فقد لاحظ التصاقَ الحشرات بأوراق النبات، وعندما وجد أن الذباب وغيره من الحشرات الأخرى التي تُوضع على الغدد اللاصقة تُمسَك وتُضَم بإحكام، ظن أن الأوراق مُكيَّفة لإمداد النبات بالمواد الغذائية النيتروجينية. لذا جرَّب التأثير الذي تُحدثه العديد من السوائل النيتروجينية في الأوراق، وقد أكَّدت النتائج صحة ظنونه إلى حدٍّ ما. وفي سبتمبر ١٨٦٠، أرسل خطابًا إلى الدكتور جراي قائلًا:

«استمتعتُ للغاية بالعمل على جنس الندية؛ فالحركات شائقة حقًّا، والطريقة التي تكتشف بها الأوراق بعض المركبات النيتروجينية مذهلة. سوف تضحك على ذلك، لكني في الوقت الحالي أومن تمامًا (بعد تجارب لا حصر لها) بأنها تكتشف ما مقداره ١ / ٢٨٨٠ حبة من نترات الأمونيا، وتتحرَّك تبعًا لذلك، لكن مركَّب كلوريد الأمونيا ومركَّب كبريتات الأمونيا يُضعِفان المهارة الكيميائية لدى الأوراق؛ ولذا لا تستطيع اكتشاف النيتروجين في هذَين المِلحَين على الإطلاق! لقد بدأت هذا العمل على جنس الندية في سياق مسألة «التدرُّج»؛ لأنه يلقي بعضَ الضوء على جنس خناق الذباب.»

وفي وقت لاحق في الخريف، اضطُر مُجدَّدًا إلى مغادرة منزله متجهًا إلى إيستبورن، حيث واصل عمله على جنس الندية. وكان العمل جديدًا عليه تمامًا لدرجة أنه واجه صعوبات في تحضير المحاليل، وصار مُتحيِّرًا بخصوص مقادير السوائل والمواد الصلبة، وما إلى ذلك. وقد أرسل خطابًا فيه تقرير عن التجارب إلى أحد أصدقائه، وهو الراحل السيد إي كريسي الذي ساعده في مسألة الأوزان والمقادير. ويُوضِّح المقتطف التالي (المأخوذ من خطاب بتاريخ ٢ نوفمبر ١٨٦٠) بالأمثلة ما كان يطبِّقه غالبًا على أبحاثه من احتياطات استثنائية:

«تفحَّصتُ كل غدة وشعرة على الورقة عمومًا قبل إجراء التجارب، لكن خَطَر ببالي أنني ربما أؤثِّر بذلك في الورقة بطريقةٍ ما، رغم أن ذلك شبه مستحيل؛ إذ تفحَّصتُ تلك التي وضعتُها في الماء المُقطَّر (الماء نفسه المُستخدَم لإذابة كربونات الأمونيا) بالقدْر نفسه من العناية. بعد ذلك، قطعتُ أربع أوراق (دون أن ألمسها بأصابعي)، ووضعتها في ماء عادي، وقطعت أربع أوراق أخرى ووضعتها في المحلول الضعيف، وبعدما تركتها ساعةً ونصفًا، تفحَّصتُ كلَّ شعرة على الأوراق الثماني، فوجدت عدم حدوث تغيير في الأوراق الأربع التي نُقعت في الماء، أمَّا الأوراق التي كانت في الأمونيا، فقد تأثَّرت كل غدة وشعرة فيها.

كنتُ قد قستُ كميةَ المحلول الضعيف، وأحصيت الغدد التي امتصت الأمونيا، وتأثَّرت بوضوح، وقد أقنعتني النتيجة بأن كل غدة لا يُمكن أن تكون قد امتصَّت أكثرَ من وزنٍ مقداره ١ / ٦٤٠٠٠ حبة أو ١ / ٦٥٠٠٠ حبة. جرَّبت عدة تجارب أخرى وكلها تشير إلى النتيجة نفسها. وتدفعني بعض التجارب إلى اعتقاد أن الأوراق الحساسة جدًّا تتأثَّر بجرعاتٍ أصغر بكثير. فكِّر في مدى ضآلة كمية الأمونيا التي يمكن أن يحصل عليها نباتٌ ينمو في تربة فقيرة، لكنه يحظى بالتغذية رغم ذلك. أرى أن الجزء المُدهش حقًّا أن التأثير ينبغي أن يكون مرئيًّا، وليس تحت قوة تكبيرية عالية جدًّا؛ لأنني بعدما جرَّبتُ قوةً تكبيرية عالية، ارتأيت أنه من الأسلم ألَّا نأخذ في الحُسبان أيَّ تأثير ليس مرئيًّا بوضوح تحت عدسة شيئية ذات قياس مقداره ٢ / ٣ وعدسة عينية متوسِّطة. التأثير الذي تُحدثه كربونات الأمونيا أنها تفصل السائل المتجانس في الخلايا إلى غيمة من حبيباتٍ وسائلٍ عديم اللون، ومن ثَمَّ تتحد الحبيبات مكوِّنةً كتلًا أكبر، وتتحرَّك حركاتٍ غريبةً للغاية طوال ساعات؛ إذ تتجمَّع وتنقسم وتتجمَّع، بلا توقُّف. لا أعرف ما إذا كنتَ ستهتم بهذه التفاصيل المكتوبة بأسلوب رديء، لكني مُتيقِّن من أنني ملزم بتلبية طلبك، بعد كل العناء الشديد الكريم جدًّا الذي تكبَّدتَه.»

وعند عودته إلى المنزل، أرسل خطابًا إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ ٢١ نوفمبر ١٨٦٠)، قائلًا:

«أعمل كالمجنون على جنس الندية. هاك حقيقةً أكيدة بقدرِ تأكُّد وجودك حيثما أنت، مع أنك لن تُصدِّقها، ومفادُها أن وضْع جزء صغير جدًّا من شعرة، يبلغ وزنه ١ / ٧٨٠٠٠ حبة، على إحدى الغدد سيجعل «إحدى» الشعرات الحاملة للغدد لدى نباتات الندية تنحني نحو الداخل، وسيُغيِّر حالة محتويات جميع الخلايا في سويقة الغدة.»

وبعد ذلك ببضعة أيام، قال في خطاب إلى لايل:

«سأُنهي مخطوطتي عن جنس الندية، التي ستستغرق مني أسبوعًا، ويجب أن أُنهيها لأن اهتمامي بهذا الجنس في الوقت الحالي أكبرُ من اهتمامي بأصلِ كل الأنواع في الدنيا. بالرغم من ذلك، فلن أنشر شيئًا عن هذا الجنس حتى العام المقبل؛ لأنني مرعوب ومذهول من نتائجي. أعلنها حقيقةً أكيدةً أن أحدَ الأعضاء حسَّاسٌ جدًّا لِلَّمس لدرجةِ أن وزنًا أقلَّ ثمانٍ وسبعين مرةً من ذلك الذي يُغيِّر أفضلَ توازن كيميائي؛ أي ١ / ١٠٠٠ حبة، يكفي لإحداث حركة واضحة. أليس غريبًا أن يكون نباتٌ ما أكثرَ حساسيةً بكثير لِلَّمسِ من أي عصب في جسم الإنسان؟ ومع ذلك فأنا متيقن تمامًا من أن هذا صحيح. عندما أكون منهمكًا في دراسة موضوع مهووس به، لا أستطيع مقاومةَ إخبار أصدقائي بما أُحرزه فيه من تقدُّم إيجابي؛ لذا يجب أن تعذرني.»

تواصَلَ العمل باعتباره مهمةً أدَّاها وقتُ العطلة حين كان في بورنموث، حيث كان يمكث في خريف عام ١٨٦٢. وتجدر الإشارة إلى أن ما يدور في الخطاب التالي من نقاشٍ حول وجود «مادة عصبية» في نباتات الندية مهم فيما يتعلَّق بالأبحاث التي أُجريت مؤخَّرًا عن اتصال البروتوبلازم من خلية إلى خلية:]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
كليف كوتيدج، بورنموث،
٢٦ سبتمبر [١٨٦٢]
عزيزي هوكر

لا تقرأ هذا الخطاب إلى أن تحظى بمتسعٍ من وقت الفراغ. وإذا حانت هذه اللحظة المُباركة على الإطلاق، فسوف أسعَدُ جدًّا بمعرفة رأيك في موضوعه. دُفعت إلى رأي مفادُه أن نباتات الندية لا بد أن لديها مادة منتشرة فيها وبينها اتصال عُضوي، أشبه جدًّا بالمادة العصبية لدى الحيوانات. عندما تُزوَّد غدد إحدى الحليمات أو أحد المجسات في وضعها الطبيعي بسائل نيتروجيني وبعض المواد المحفزة الأخرى، أو عندما تُحمَّل بوزنٍ خفيف للغاية، أو عندما تُضرب عدة مرات بإبرة، تنحني السويقة بالقرب من قاعدتها في غضونِ أقل من دقيقة. وبذلك تنتقل هذه المواد المحفِّزة المختلفة إلى أسفل السويقة بوسيلةٍ ما، و(هذه الوسيلة) لا يُمكن أن تكون الاهتزاز؛ لأن قطرات السائل التي توضع في سكون تام تُسبِّب الحركة، ولا يُمكن أن تكون امتصاصَ السائل من خلية إلى خلية؛ لأنني أرى أن وتيرة الامتصاص وإن كانت سريعة، أبطأ بكثير من ذلك، ثم إن الانتقال يكون فوريًّا في نباتات خناق الذباب، وسوف يقودنا القياس على الحيوانات إلى أن الانتقال يحدث عبْر مادة عصبية. فبعدما فكَّرتُ في قوة الامتصاص السريعة في الغدد، والحساسية الفائقة لدى العضو كله، والحركة الواضحة التي تُحدثها محفِّزات متنوِّعة، جرَّبتُ عددًا من المواد التي ليست كاويةً ولا أكَّالة … لكنَّ معظمها معروف بأنه يُسبِّب تأثيرًا ملحوظًا على المادة العصبية لدى الحيوانات. سترى النتائج في الورقة المُرفقة. ولأن المادة العصبية لدى الحيوانات المختلفة تتأثَّر بطرقٍ مختلفة عند تعرُّضها للسموم نفسها، لا يتوقَّع المرء حدوثَ التأثير نفسه لدى النباتات والحيوانات، إنما يتوقَّع ظهور تأثير مشابه بعض الشيء لدى النباتات في حالة وجود مادة عصبية منتشرة داخلها. وهذا صحيح جزئيًّا. وعند النظر إلى هذه التجارب، مع التعليقات التي ذُكِرت سابقًا عن وظائف الأجزاء، لا أستطيع تجنُّب استنتاج أن نباتات الندية لديها مادة مشابهة للمادة العصبية في التكوين والوظيفة، وإن كان ذلك بقدرٍ ما على الأقل. الآن أخبرني برأيك، بقدرِ ما تستطيع أن تستنتجَ من مُلخصي الذي أوردتُه؛ صحيح أنه يتعيَّن إجراء تجارب أكثرَ بكثير، لكني في سنوات سابقة جرَّبتُ أن أُضيف إلى الورقة كلها، بدلًا من الإضافة إلى غدد منفصلة، موادَّ غيرَ ضارة مثل السكر والصمغ والنشا وما إلى ذلك، ولم تُحدِث أيَّ تأثير.٥ سيساعدني رأيك في أن أُقرِّر، في وقتٍ ما في المستقبل، أن أستأنف العمل على هذا الموضوع. ما كنت لأظن أن الأمر يستحق المحاولة، ولكن لم يكن لديَّ أي شيء أفعله على الإطلاق.
لك بالغ إخلاصي يا عزيزي هوكر
سي داروين
ملحوظة: سنعود إلى المنزل يوم الإثنين الموافق ٢٨ من الشهر. الشكر للرب!

[تلا ذلك انقطاع طويل في عمله على النباتات الآكلة للحشرات، ولم يشغله الموضوع جديًّا مرةً أخرى حتى عام ١٨٧٢. بالرغم من ذلك، تُوضِّح فقرةٌ واردة في خطابٍ إلى الدكتور آسا جراي، كُتب في عام ١٨٦٣ أو ١٨٦٤، أن المسألة لم تغِب تمامًا عن باله في هذه الفترة من الانقطاع المؤقَّت:

«أؤكِّد لك أنك ظالم في حكمك على جدارة نباتات الندية التي أُحبها؛ فهي نباتات رائعة، أو بالأحرى حيوانات فطنة جدًّا. سأظل أُدافع عنها إلى يوم موتي. الرب وحده يعلم ما إذا كنت سأنشر كومةَ التجارب التي أجريتها عليها أصلًا، أم لا.»

يُشير في دفتر يومياته إلى أن بروفة الطباعة الأخيرة لكتاب «التعبير عن العواطف» قد انتهت في ٢٢ أغسطس ١٨٧٢، وأنه بدأ العمل على جنس الندية في اليوم التالي.]

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
 [سيفيناوكس]، ٢٢ أكتوبر [١٨٧٢]

… عملتُ بجدٍّ شديدٍ طوال أربعة أسابيع أو خمسة ثم خارت قواي؛ لذا استأجرنا بيتًا بالقرب من سيفيناوكس لمدة ثلاثة أسابيع (حيث أمكث الآن) للحصول على راحةٍ تامة. لست أقوى على العمل الآن إلا قليلًا، ويجب أن أُؤجِّل الجزء المتبقي من العمل على جنس الندية إلى الربيع المقبل؛ لأن نباتاتي تموت. إنه موضوعٌ لا ينتهي، وعليَّ اختصاره؛ ولذا لن أعمل كثيرًا على جنس خَنَّاق الذباب. النقطة الأشد إثارةً لاهتمامي هي تَعقُّب «الأعصاب» (!) التي تتبع حُزم الأوعية. فبإحداث ثقب صغير بمشرطٍ حادٍّ عند نقطة مُعيَّنة، أستطيع أن أشلَّ نصف الورقة، فلا تحدُث حركة عند إثارة النصف الآخر. هذا شبيهٌ تمامًا بقَطع النخاع الشوكي لدى ضفدع؛ إذ لا يُمكن حينها إرسال إشارة مُنبِّهة من الدماغ أو الجزء الأمامي من العمود الفقري إلى السيقان الخلفية، ولكن إذا أُثيرت هذه السيقان، فستتحرَّك بحركةٍ انعكاسية لا إرادية. أجد أن نتائجي القديمة المتعلِّقة بالحساسية المذهلة لدى الجهاز العصبي (؟!) عند نباتات الندية تجاه مُحفِّزات متنوِّعة قد تأكَّدت تمامًا وأُضيف إليها مزيد من التفاصيل …

[سرعان ما قاده عمله على موضوع الهضم في نباتات الندية ونقاط أخرى متعلِّقة بوظائف أعضاء النبات إلى مناطقَ لا يعرف عنها الكثير، وهنا استفاد جدًّا من النصائح والمساعدة التي تلقَّاها من الدكتور بردون ساندرسون:]

من تشارلز داروين إلى جيه بردون ساندرسون
داون، ٢٥ يوليو ١٨٧٣
عزيزي الدكتور ساندرسون

أود بشدة أن أُحدِّثك قليلًا عن عملي الذي أجريته مُؤخَّرًا على جنس الندية؛ لأريك أنني استفدتُ من اقتراحاتك، ولأسألك سؤالًا أو اثنَين.

  • (١)

    رائعة حقًّا تلك السرعة والجودة اللتان يتمتَّع بهما جنسا الندية وخَنَّاق الذباب في إذابة المكعَّبات الصغيرة من الزلال والجيلاتين. لقد أبقيت مكعَّباتٍ بالحجم نفسه على طحالبَ مبلَّلة لإجراء مقارنة. عندما كنتَ هنا، نسيتُ أنني كنتُ قد جرَّبت الجيلاتين، لكن الزلال أفضلُ بكثير في مشاهدة ذوبانه وامتصاصه. أخبرني فرانكلاند كيف أُجري اختبار الكشف عن الببسين بطريقةٍ تقريبية بسيطة، وسيكتشف في الخريف ماهية الحمض الذي تحويه العصارة الهضمية.

  • (٢)

    السائل الناتج من غلي أوراق الكرنب والبازلاء الخضراء يُسبِّب انحناءً بالقدرِ الذي تُسبِّبه نُقاعة اللحم النيئ، أمَّا تأثير السائل الناتج من غلي العشب، فهو أقل قوة. مع أنني أسمع أن اختصاصيي الكيمياء يحاولون ترسيبَ كل الزلال من مُستخلص نبات البيلادونا، أظن أنهم سيفشلون بالتأكيد؛ لأن المُستخلص يُسبِّب انحناءً، في حين أن مقدارًا جديدًا من الأتروبين، وفاليريانات [الأتروبين]، لا يُحدِث أيَّ تأثير.

  • (٣)

    جرَّبت تجاربَ كثيرةً باستخدام ماء مُسخَّن … ألَا ينبغي أن تُسمِّي هذه الحالةَ حالةَ تيبُّس ناجم عن الحرارة؟ لقد سُخِّنت ورقتان إلى حرارة مقدارها ١٣٠ درجةً مئوية، وانحنت جميع المجسَّات فيهما منغلقة، ثم أُخرِجَت إحداهما ووُضعت في ماء بارد، فتمدَّدت مجدَّدًا، فيما سُخِّنت الأخرى إلى حرارةٍ مقدارها ١٤٥ درجة، ولم يكن لديها أدنى قدرة على التمدُّد مرةً أخرى. أليست هذه الحالة الثانية تيبُّسًا ناجمًا عن الحرارة؟ إذا كنت تستطيع إخباري، فسوف أرغب بشدة في أن أعرف منك درجة الحرارة التي تُقتَل عندها الحيوانات ذوات الدم البارد واللافقاريات.

  • (٤)

    يجب أن أُخبرك بنتيجتي النهائية [بخصوص] حساسية نباتات الندية، والتي أنا متيقن منها. أعددتُ محلولًا تبلغ فيه نسبة وزن فوسفات الأمونيا إلى وزن الماء واحدًا إلى ٢١٨٧٥٠، وأضفتُ من هذا المحلول كميةً كبيرة لدرجةِ أن ورقةً حصلت على وزنٍ مقداره ١ / ٨٠٠٠ حبة من الفوسفات. ثم أحصيتُ الغدد، ووجدت أن كل غدة لا يمكن أن تكون قد حصلت إلا على وزنٍ مقداره ١ / ١٥٥٢٠٠٠ حبة، وبعدما امتصَّت الغدد هذه الكمية، كانت كافيةً لجعل المجسَّات التي تحمل هذه الغدد تنحني بزاويةٍ قياسها ١٨٠ درجة. هذه الحساسية تتطلَّب طقسًا حارًّا، وأوراقًا منتقاةً بعناية على أن تكون ناضجةً وصغيرة السن في الوقت نفسه. أراها حقيقةً عجيبة. ويجب أن أُضيف أنني اتخذت كلَّ الاحتياطات، بتجرِبة أوراقٍ عديدة في الوقت نفسه في المحلول وفي نفس الماء المُستخدم لإعداد المحلول.

  • (٥)

    إذا استطعتَ إقناعَ صديقك بتجربةِ تأثيرات كربونات الأمونيا على تجمُّع كريات الدم البيضاء، فسأرغب بشدة في معرفة النتيجة.

أرجو ألَّا يُتعبك هذا الخطاب.

لك أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى دبليو ثيسلتون داير
داون، ٢٤ [ديسمبر ١٨٧٣؟]
عزيزي السيد داير

أخشى أن تظنني شخصًا مملًّا جدًّا، لكني لا أستطيع مقاومةَ إخبارك بأنني اكتشفتُ للتو أن أوراق نباتات جنس البنجويكيولا (صائد الحشرات) لديها قدرةٌ مُكيَّفة بطريقةٍ جميلة على الحركة. ففي الليلة الماضية وضعتُ صفًّا من ذباباتٍ صغيرة الحجم بالقرب من إحدى حواف ورقتَين «صغيرتَي السن»، وبعد ١٤ ساعةً انطوت هذه الحواف على نفسها بطريقةٍ جميلة لتقبض على الذباب، ومن ثمَّ صارت الغدد ملامسةً لأسطح الذباب العلوية، وهي الآن تُفرز إفرازات غزيرةً فوق الذباب وتحته، ومن المؤكَّد أنها تمتَصه. سَرَى الإفراز الحمضي إلى أسفل الحافة شبه الأنبوبية وتَجمَّع في الطرف الشبيه بالملعقة، حيث تمتص الغدد الحساء اللذيذ بكل تأكيد. تبدو الورقة عند أحد جانبَيها شبيهةً تمامًا بحلز الأذن، إذا كنت ستحشو الطية بالذباب. لك بالغ إخلاصي.

سي داروين

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٣ يونيو [١٨٧٤]

… أعمل الآن بجدٍّ شديد على تجهيز كتابي عن نباتات الندية وبقيةِ أشباهها للطباعة، لكنه سيستغرق بعضَ الوقت لأنني دائمًا ما أكتشف نقاطًا جديدةً جديرة بالملاحظة. أظن أن ملاحظاتي التي أجريتُها على عمليةِ الهضم في تلك النباتات ستُثير اهتمامك؛ فالإفراز يحوي حمضًا من سلسلة حمض الأسيتيك، وإنزيمًا مُخمرًا شبيهًا جدًّا بالببسين لكنه ليس مطابقًا له؛ إذ إنني أجريت سلسلةً طويلة من تجارب المقارنة. لن يُصدِّق أحدٌ ما سأنشره عن صِغَر جرعات فوسفات الأمونيا التي تُحدث تأثيرًا.

… بدأت أقرأ عن المقالة التي تتحدَّث عن مدغشقر٦ بجدية تامة، وعندما وجدتُ أنها ذكرت أن حيوانات السنور والبقر كانت تعيش في مدغشقر، ظننتها قصةً خاطئة، ولم أرَ أنها هراء إلى أن وصلت إلى الجزء المتعلق بالمرأة …

من تشارلز داروين إلى إف سي دوندرس٧
داون، ٧ يوليو ١٨٧٤
عزيزي البروفيسور دوندرس

أرسل إليَّ ابني جورج خطابًا يقول فيه إنه التقاك، وإنك كنت لطيفًا جدًّا معه، وأنا أشكرك من صميم قلبي على ذلك. أخبرني بأنك مَصدرُ حقيقةٍ تثير اهتمامي للغاية، وأرغب بشدة في أن يُسمَح لي باقتباسها. إنها متعلِّقة بتأثير وزنٍ مقداره واحد على مليون حبة من الأتروبين على العين. فهلَّا تتكرَّم، وقتما يسنح لك القليل من وقت الفراغ، وتُخبرني بما إذا كنتَ قد لاحظت هذه الحقيقة بنفسك، أم إنك تُصدِّقها بِناءً على مصدر موثوق. أُريد أيضًا أن أعرف النسبة بين وزنِ الأتروبين ومياه المحلول، وكمية المحلول التي عُرِّضت لها العين. السبب الذي يجعلني متلهِّفًا جدًّا بخصوص هذه النقطة أنها تحمل بعض التأييد لحقائقَ معيَّنة لاحظتُها مرارًا فيما يتعلَّق بتأثير فوسفات الأمونيا على نباتات الندية. فعندما تمتص إحدى الغدد وزنًا مقداره ١ / ٤٠٠٠٠٠٠ حبة، يُسبِّب ذلك انحناءً واضحًا في المجس الذي يحمل هذه الغدة، وأنا مقتنع تمامًا بأن وزنًا مقداره ١ / ٢٠٠٠٠٠٠٠ حبة من الملح المتبلور (أي يحوي حوالي ثلث وزنه ماءً من ماء التبلور) يُحدث التأثير نفسه. إنني الآن غير سعيد على الإطلاق بفكرة أن أُضطر إلى نشر مثل هذا الزعم. ولهذا سيكون مفيدًا جدًّا لي أن أستطيع طرْح أي حقائق مشابهة تؤيِّده. وما يجعل حالة نباتات الندية أشدَّ إثارةً للاهتمام هو أن امتصاص المِلح أو أي مادة محفِّزة أخرى تتعرَّض لها الغدد يجعلها توصل تأثيرًا حركيًّا إلى الجزء السفلي من المجس الذي يحمل الغدة.

أرجو أن تسامحني على إزعاجك، ولا تتعب نفسك بالرد على هذا الخطاب إلى أن تستعيد تمام عافيتك.

لك أصدق تحياتي
وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين

[في صيف عام ١٨٧٤، كان يعمل على جنس حامول الماء (اليوتريكيولاريا)، وأرسل إلى السير جي دي هوكر خطابًا (بتاريخ السادس عشر من يوليو) يصف فيه المُحرَز في عمله:

«إنني سعيد بعض الشيء لأنك لم تستطِع إرسال نباتات جنس حامول الماء؛ لأن النوع الشائع منه كاد يصيب إف ويصيبني بالجنون. البنية معقَّدة «للغاية». تصطاد المثانات العديد من القشريات السفلية Entomostraca ويرقات الحشرات. الحق أن آلية الاصطياد ممتازة. غير أنه توجد نقاطٌ كثيرة لا نستطيع فهْمها. بِناءً على ما رأيته اليوم، يراودني ظن قوي بأن هذا الجنس آكل للجيف؛ أي إنه لا يستطيع الهضم، بل يمتص موادَّ مُتحلِّلة.»

كان مدينًا لليدي دوروثي نيفيل بالعيِّنات المثيرة من نوع يوتريكيولاريا مونتانا، الذي لا يُعد مائيًّا كالنوع الأوروبي، بل ينمو بين الطحالب والبقايا النباتية على غصون الأشجار. ويشير الخطاب التالي إلى هذا النوع:]

من تشارلز داروين إلى الليدي دوروثي نيفيل
داون، ١٨ سبتمبر [١٨٧٤]
عزيزتي الليدي دوروثي نيفيل

إنني ممتن جدًّا لكِ. إذ كنتُ مقتنعًا جدًّا بأن المثانات موجودة في الأوراق لدرجةِ أنني لم أُفكِّر قَط في إزالة الطحالب، وكان هذا غباءً شديدًا مني. صحيح أن الانتفاخات الكبيرة الصلبة التي تشبه المثانات وتكاد تكون موجودةً على السطح أشياءُ رائعة، لكنها ليست المثانات الحقيقية. فقد وجدت تلك (المثانات الحقيقية) على الجذور بالقرب من السطح، وممتدةً إلى أسفل في الرمال حتى عمق بوصتَين. إنها شفَّافة كالزجاج، ويتراوح حجمها بين ١ / ٢٠ بوصة و١ / ١٠٠ بوصة، ومجوَّفة. ولديها كل النقاط البنيوية المهمة الموجودة لدى مثانات النوع الإنجليزي الطافي، وكنتُ واثقًا من أنني سأجد فريسةً حبيسة. وما أسعدني أنني وجدت ذلك بالفعل في مثانتَين، مع دليل واضح على أنهما قد امتصتا الغذاء من الكتلة المتحلِّلة. وذلك لأن حامول الماء يتغذَّى على الجيف، وليس آكلًا للحوم بالضبط كجنس الندية.

أعتقد أن الأجسام الكبيرة الصلبة الشبيهة بالمثانات خزاناتٌ تُخزِّن الماء كمَعِدة الجَمل. حالما أُجري بضع ملاحظات أخرى، أعتزم أن أكون قاسيًا جدًّا لدرجة ألَّا أُعطي نباتك أي ماء، وأُلاحظ ما إذا كانت المثانات الكبيرة ستنكمش وتحوي هواءً بدلًا من الماء، وكذلك سوف أغسل كلَّ الجذور من كل بقايا التربة العالقة فيها حينئذٍ، وأرى ما إذا كان يوجد فيها مثانات حقيقية تمسك بالحشرات التي توجد أسفل سطح التربة وصولًا إلى أدنى قعر الأَصِيص. الآن هل سترينني طمَّاعًا إذا طلبتُ منك أن تعطيني نباتًا آخرَ من هذا النوع، بافتراض أنه ليس ثمينًا جدًّا، وأنك تملكين العديد منه، وإذا وافقتِ، فأرجو أن ترسليه إلى «محطة أوربنجتون، إس إي آر (السكك الحديدية الجنوبية الشرقية)، ليوصله إليَّ أحد السعاة سيرًا على الأقدام».

اليوم يكاد يكون أمتع أيام العمل التي قضيتها في حياتي على الإطلاق، وأنا أَدين بذلك لكرمِ سيادتكِ البالغ.

البذور غريبة جدًّا، أتصوَّر أنها بذور نباتٍ ما مرتبِط بجنس الفصة، لكني سأُري الدكتور هوكر إياها.

مع امتناني الشديد لسيادتكِ
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٣٠ سبتمبر ١٨٧٤
عزيزي هوكر

لقد وصلت إليَّ هديتك المتمثِّلة في نبات الألدروفاندا سالمةً تمامًا. استمتعتُ جدًّا بإلقاء نظرة واضحة على الأوراق المُقفلة، التي فتحتُ إحداها بإحداث قَطعٍ فيها. إن هذا الجنس نوعٌ مائي من جنس خَنَّاق الذباب اكتسب بعض البِنى المُتطابقة مع بِنَى جنس حامول الماء!

إذا تفتَّحت الأوراق واستطعتُ أن أنقلها مفتوحةً إلى تحت المجهر، فسأجرب بعضَ التجارب؛ لأن هذا الإغراء لا يستطيع أن يقاومه أيُّ رجل. أمَّا إذا لم أستطِع نقلها، فلن أفعل شيئًا؛ لأن الأمر من دون ذلك سيتطلَّب مئات الأوراق.

أنت رجل صالح لأنك غمرتني بهذه السعادة.

لك خالص مودتي
سي داروين

[انتهت مخطوطة كتاب «النباتات الآكلة للحشرات» في مارس ١٨٧٥. ويبدو أن كتابة هذا الكتاب أصابته بإرهاقٍ أشدَّ من المعتاد؛ لذا قال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر في فبراير:

«تسألني عن كتابي، وكل ما أستطيع قوله إنني مستعد للانتحار؛ إذ كنت أظن أن صياغته مقبولة، لكنني أجد أجزاءً كثيرةً جدًّا تحتاج إلى إعادة الكتابة، لدرجةِ أنه لن يكون جاهزًا للإرسال إلى المطبعة قبل شهرَين، وسيكون كتابًا كبيرًا إلى حدٍّ لعين. سيقول موراي إن النشر في منتصف الصيف لن يُجدي فائدة؛ لذا لا أعرف إلامَ ستئول الأمور، لكني بدأت أرى أن كل مَن ينشر كتابًا شخصٌ أحمق.»

نُشر الكتاب في الثاني من يوليو عام ١٨٧٥، وبيعت ٢٧٠٠ نسخة من الطبعة التي كانت مكوَّنةً من ٣٠٠٠ نسخة.]

هوامش

(١) دورية «بروسيدينجز أوف ذي أميريكان أكاديمي أوف آرتس آند ساينسز»، ١٨٥٨.
(٢) عَرف لاحقًا من دكتور جراي أن نبات سرخس القيامة Polypodium incanum يوجد بكثرة على الأشجار في المناطق التي ينمو فيها هذا النوع من نباتات البيجونيا. طالِع كتاب «النباتات المتسلِّقة»، الصفحة ١٠٣.
(٣) كانت صحته سيئةً جدًّا آنذاك.
(٤) نُشر الجزء الأول منها في عدد سبتمبر من دورية «سيليمان جورنال»، والجزء الثاني والأخير في عدد يناير ١٨٦٦.
(٥) جعله هذا المسار البحثي يرغب في الحصول على معلومات عن تأثير السموم على النباتات، وقد طَلَب ذلك من البروفيسور أوليفر في العديد من الحالات الأخرى، وقال في خطابٍ إلى هوكر بخصوصِ نتاج هذه الطلبات: «أرجو أن تشكر أوليفر بكل حرارة على كومة مراجعه المتعلِّقة بالسموم.»
(٦) تعرض المقالة وصفًا لنباتٍ آكلٍ للحوم من المفترض أنه يتغذَّى على البشر.
(٧) البروفيسور دوندرس، أستاذ علم الوظائف المعروف في أوترخت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤