الفصل الرابع

انتشار نظرية التطوُّر

العمل على كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»

١٨٦٣–١٨٦٦

[كان كتاب والدي عن الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين هو شغله الشاغل في عام ١٨٦٣. يُسجِّل دفتر يومياته الوقت الطويل الذي قضاه في تكوين فصوله، ويُوضِّح المُعدَّل الذي كان يُدوِّن به أفكاره تدوينًا تامًّا من أجل الترتيب لطباعة الملاحظات والاستنتاجات التي توصَّل إليها على مرِّ عدة سنوات.

بدأت كتابةَ الفصول الثلاثة المتعلِّقة بالوراثة في الجزء الثاني، والتي تشغل ٨٤ صفحةً مطبوعة، في يناير وانتهت في الأول من أبريل، فيما كُتبَت الفصول الخمسة المتعلِّقة بالتهجين، التي تشغل ١٠٦ صفحات، في ثمانية أسابيع، أمَّا الفصلان المتعلِّقان بالانتقاء، واللذان يُغطِّيان ٥٧ صفحة، فبدأت كتابتهما في ١٦ يونيو وانتهت في ٢٠ يوليو.

قوطِع أبي في العمل أكثرَ من مرة بسبب سوء صحته، واضطُر في شهر سبتمبر بسببِ ما ثَبت لاحقًا أنه بداية مرضٍ استمرَّ ستة أشهر، إلى مغادرة منزله لتلَقِّي العلاج المائي في مولفرن. عاد بعد ذلك في أكتوبر وظلَّ مريضًا ومكتئبًا، مع أن أحد أكثر الأطباء مرحًا وأمهرهم آنذاك قد أبدى رأيًا متفائلًا بشأن صحته. وقد أرسل خطابًا بهذا المفاد إلى السير جيه دي هوكر في نوفمبر، قائلًا:

«كان الدكتور برينتون (الذي رشَّحه لي باسك) هنا؛ إنه يعتقد أن عقلي وقلبي لم يتضرَّرا في العموم، لكن حالتي الصحية تتدهور بلا توقُّف، ولا يمكنني تفادي التشكك حيال ما إن كنت سأستعيد عافيتي مرةً أخرى ولو بدرجةٍ ضئيلة. إذا لم أستطِع استعادتها بما يكفي لقيامي بشيء قليل من العمل، فأرجو أن يكون ما تبقَّى من حياتي قصيرًا جدًّا؛ لأن الاستلقاء على الأريكة طوال اليوم وعدم فعل أيِّ شيء سوى التسبُّب في العناء للزوجة الأفضل والأطيب على الإطلاق وللأطفال الأعزَّاء، شيء بغيض لا يُطاق.»

أنجز في هذا العام أيضًا أعمالًا أخرى ثانويةً تضمَّنت ورقةً بحثية قصيرة في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو» (سلسلة جديدة، المجلَّد الثالث، الصفحة ١١٥)، بعنوان «عمَّا يُسمَّى ﺑ «الكيس السمعي» لدى هُدابيات الأرجل»، وورقة بحثية في دورية «جيولوجيكال سوسايتيس جورنال» (المجلَّد التاسع عشر)، عن «سُمك التكوين البامباني بالقرب من بوينوس آيريس». كانت الورقة الأولى ردًّا على انتقادات عالِم تاريخ طبيعي ألماني يُدعى كرون،١ وهي تفيد في توضيح استعداد والدي للاعتراف بالخطأ.
بخصوص انتشار الإيمان بفكرة التطوُّر، لم يكن ممكنًا آنذاك القول بأن المعركة قد حُسمت بالانتصار بعد، لكنَّ ازدياد الإيمان بالفكرة كان سريعًا بلا شك. لذا، فعلى سبيلِ المثال، كتب تشارلز كينجسلي خطابًا إلى إف دي موريس٢ ورد فيه:

«الحالة العقلية للوسط العلمي غريبةٌ جدًّا؛ داروين يغزو كل مكان، وينتشر مجتاحًا كالطوفان، بقوة الحقيقة والواقع وحدها.»

كان السيد هكسلي نشطًا كالعادة في توجيه النزعة المتزايدة إلى التسامح مع الآراء المطروحة في كتاب «أصل الأنواع» أو تقبُّلها، وتحفيز هذه النزعة. إذ ألقى سلسلةً من المحاضرات على بعض العلماء في كلية المناجم في نوفمبر ١٨٦٢. وقد طُبِعت هذه المحاضرات، من ملاحظاتٍ مختصرة كان السيد ماي قد دوَّنها، في صورةِ ستة كتب زرقاء صغيرة، سعر كل منها ٤ بنسات، تحت عنوان «معرفتنا بعلل الطبيعة العضوية». وعندما نُشِرت، قرأها والدي باهتمام، ومن ثَمَّ أشار إليها في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر، قائلًا:

«سُررت جدًّا بأن محاضرات هكسلي نالت إعجابك. لقد بُهِرتُ للغاية بها، لا سيما «فلسفة الاستقراء». تجادلت معه جدالًا محتدمًا بسبب مبالغته في الحديث عن العقمِ وتجاهله حالاتٍ من جيرتنير وكولروتير عن الضروب العقيمة. المحتوى الجيولوجي الذي طرحه مبهمٌ، ويراودني بعضُ الشك حيال تناوله لموضوع عقل الإنسان ولغته. لكني أرى أن المحاضرات «مثيرةٌ للإعجاب»، ومثلما تقولون في الإشادة بكتاب «أصل الأنواع» أقول: «ما أروعها!» لا أستطيع تجنُّب الإعجاب بها، وهذا يجعلني خجلان من نفسي بعض الشيء.»

أُعجِب والدي بوضوح الشرح الذي طُرِح في المحاضرات، وفي الخطاب التالي، حثَّ صاحبها على استخدام قدراته في نفع الطلاب:]

من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
٥ نوفمبر [١٨٦٤]

أريد أن أطرح عليك اقتراحًا، لكنه ربما يكون قد خَطَر ببالك على الأرجح. كانت — تقرأ محاضراتك واختتمت قائلة: «ليته يكتب كتابًا.» فأجبتها: «لقد كتب للتو كتابًا رائعًا عن الجمجمة.» فَرَدَّت: «لا أعتبر ذلك كتابًا»، وأضافت: «أريد شيئًا يستطيع الناس قراءته؛ إنه بارع في الكتابة». الآن، بما أنك تستطيع الكتابة بسلاسة وتتمتَّع بالمعرفة اللازمة، أفلا ترى أنك تستطيع كتابة أطروحة مبسَّطة عن علم الحيوان؟ صحيح أن هذا سيُضيع بعضًا من وقتك، لكني سُئِلت عدة مرات أن أُرشِّح كتابًا يناسب مستوى المبتدئين، ولم يسعني حينئذٍ سوى التفكير في كتابات كاربنتر عن علم الحيوان. أنا مُتيقِّن من أن أُطروحةً باهرة على هذا النمط ستُقدِّم خدمةً جليلة للعلم بتثقيف علماء التاريخ الطبيعي. إذا أبقيت حافظة أوراقك مفتوحةً لمدة عامَين، وألقيت فيها قصاصاتٍ ورقيةً عن الموضوعات التي تخطر بعقلك، فسرعان ما سيكون لديك هيكل عظميٌّ (وهذا هو الجزء الصعب في رأيي) لتكسوه باللحم والألوان بطريقتك التي لا تُضاهَى. أعتقد أن كتابًا كهذا يمكن أن يُحقِّق نجاحًا باهرًا، لكني لم أكن أعتزم الكتابة إليك عنه كثيرًا.

أُرسِل أطيبَ تحياتي إلى السيدة هكسلي، وأخبرها بأنني كنت أُطالع قصيدة «إينوك أردن»، ولأنني أعرف مدى إعجابها الشديد بتينيسون، يجب أن ألفت انتباهها إلى سطرَين عذبَين جميلَين (في الصفحة ١٠٥) …

… قال إنه كان يرجو لكِ الخير، هذا ما قاله،

ربما كان يرجو الخير، أو ربما ما كان يرجوه إلا بمقدار.

جوهرة كهذه كافية لتُعيد إليَّ شبابي، وتجعلني أحب الشعر بحماسة أصلية خالصة.

يا عزيزي هكسلي
لك خالص مودتي
سي داروين

[في خطابٍ آخر (بتاريخ يناير ١٨٦٥)، عاد إلى الاقتراح المذكور أعلاه، مع أنه عادةً ما كان يعارض بشدة أن يتخلَّى رجالُ العلم عن الوقت الذي من الممكن أن يُخصِّصوه للأبحاث الأصلية المُستقاة من وحي قرائحهم في سبيل كتابة الكتب الدراسية أو التدريس.

«كنت أعرف أن احتمالية أن يُتاح لك وقتٌ لكتابة أطروحة مبسطة عن علم الحيوان ضئيلة جدًّا، لكنك الرجل الوحيد تقريبًا الذي يقدر على ذلك. في الماضي كنت أشعر بأن إقدامك على فِعل ذلك سيكون بمثابة ارتكابك خطيئة؛ لأنه سيأتي بالطبع على حسابِ سَحقِ عملٍ أصليٍّ ما. لكن من ناحيةٍ أخرى، أرى في بعض الأحيان أن الأطروحات العامة المبسَّطة لا تقل أهميةً عن الأعمال الأصلية في تقدُّم العلم.»

ستُكمِل سلسلة الخطابات التالية تاريخ عام ١٨٦٣.]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٣ يناير [١٨٦٣]
عزيزي هوكر

إنني أستشيط غضبًا ولا بد أن أُنفِّس عن نفسي … لم أستطِع النومَ حتى الساعة الثالثة من الليلة الماضية من شدة الغضب.٣

والآن لننتقل إلى مواضيعَ مُبهجة؛ لقد استمتعنا جميعًا بدفاعك عن جمعِ الطوابع وهواية الجمع في العموم … لكني، ويا للعجب، لا أستطيع إطلاقًا هضمَ فكرة أن رجلًا بالغًا يجمع الطوابع. مَن كان سيخطر بباله على الإطلاق أنك ستجمع تُحف ويدجوود، لكن هذا مختلِف تمامًا عن المنقوشات أو الصور. نحن أحفاد مُنحَطون للراحل جوزايا ويدجوود؛ لأننا لا نملك في البيت قطعةً واحدة من التحف الجميلة.

… بالرغم من السبب المبهج جدًّا الذي علَّلتَ به عدم استمتاعنا بالعطلة، ألَا وهو أننا لا نمارس رذائل، فذلك يصيب المرءَ بمللٍ بشع. كنت أُحاول أن أبقى عاطلًا كسولًا من أجل صحتي، لكني لم أنجح في هذا. ما يجب أن أفعله الآن هو أن أُقيم لوحًا تذكاريًّا في كنيسةِ داون مكتوبًا عليه: «مُخصَّص لتخليد ذكرى … إلخ»، وأموت رسميًّا ثم أنشر كتبًا، لتكون «من تأليف الراحل تشارلز داروين»؛ لأنني لا أستطيع أن أعرف ما ألمَّ بي مُؤخَّرًا؛ دائمًا ما كنت أعاني انفعالًا عند التكلُّم، لكنَّ الوضع الآن صار سخيفًا. فمؤخَّرًا تحدَّثتُ مع ابن أختي لمدة ساعة ونصف (قطعتها بنفسي لأحتسي الشاي)، فظَلِلت [مريضًا] طوال نصف تلك الليلة. إنه شرٌّ مخيف على النفس والعائلة.

طابت ليلتك صديقك الدائم
سي داروين
[الخطاب التالي إلى السير يوليوس فون هاست،٤ يُعَد مثالًا على التعاطف الذي شعر به والدي مع انتشار العلم ونموه في المستعمرات. وقد عبَّر عن هذا الشعور أكثرَ من مرة؛ إذ كان حاضرًا في ذهنه في أحيانٍ كثيرة، وظهر مرارًا فيما يتفوَّه به من كلام. عندما حظينا، في كامبريدج، ببهجة استقبال السير جيه فون هاست ومنحه درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم (يوليو ١٨٨٦)، أُتيحت لي فرصةُ أن أسمع منه مقدار السعادة البالغة التي منحه إياها هذا الخطاب، وخطابات أخرى، من والدي. وسُررتُ برؤية مدى قوة التأثير الذي تركه التعاطفُ الطيب الذي أبداه والدي، وبالرغم من أنني الْتقيته بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على الخطاب، فقد بدا تأثُّره بالخطاب جديدًا كما كان عندما تلقَّاه أول مرة:]

من تشارلز داروين إلى يوليوس فون هاست
داون، ٢٢ يناير [١٨٦٣]
سيدي العزيز

أشكرك من صميم قلبي على أنك أرسلت خطابك والتقرير الجيولوجي إليَّ.٥ لم أقرأ في حياتي شيئًا أجرأ وأكثر إثارةً للاهتمام من خطابك إلا نادرًا. فتقدُّم مستعمرتكم يجعل المرء فخورًا، ومن الرائع حقًّا أن يشهد المرءُ إنشاء معهد علمي في أمةٍ شابة جدًّا كأمتكم. أشكرك على تعليقاتك المُشرِّفة جدًّا على كتابي «أصل الأنواع». ستُصدِّق بالطبع أن حقائقك اللافتةَ عن الفترة الجيولوجية القديمة أثارت بالغَ اهتمامي، وأعتقد أننا إذا مشَّطنا العالَم كله بحثًا، فلن نجد فيه مثلَ هذه المجموعة العظيمة من المصاطب. لديك بالفعل حقلٌ ممتاز لإجراء البحوث العلمية والاكتشافات. ما تقوله عن آثار مسير ثدييات [حية] مُفترَضة قد أثار بالغ اهتمامي. هل لي أن أطلب منك، إذا نجحتَ في اكتشافِ ماهية تلك الكائنات، أن تتحلَّى بلُطفٍ بالغ وتتفضَّل بإخباري؟ ربما قد يتضح أنها كائناتٌ أشبه بكائن «سولنهوفن» الطائر، بذيله الطويل وأصابعه الطويلة، وما لديه من مخالب متصلة بجناحَيه! ربما لي أن أذكر أنني وجدت في مناطقَ غير مأهولة تمامًا في أمريكا الجنوبية مصائدَ فئران تعمل بالنوابض وتُوضع فيها طعومٌ من «الجُبن»، كانت ناجحةً جدًّا في اصطياد الثدييات الأصغر. أود أنْ أتجرَّأ وأقترح عليك أن تحثَّ بعض الأعضاء الأكْفاء في معهدك على رصدِ مُعدَّل انتشار الحشرات والحشائش الأوروبية وطريقة انتشارها سنويًّا، وأن يُركِّزوا تحديدًا على ملاحظة «أي النباتات المحلية أكثر تعرُّضًا للموت»؛ فهذه النقطة الأخيرة لم يهتَم بها أحدٌ قَط من قبل. وكذلك، هل نحل العسل الدخيل يحل محلَّ أي حشرة أخرى؟ إلخ. فأنا أرى أن كلَّ هذه النقاط مطلوبة بشدة في العلم. يا له من اكتشافٍ مثير للاهتمام ذاك المُتعلِّق بالعثور على بقايا من إنسانٍ من عصرِ ما قبل التاريخ!
لك يا سيدي العزيز أشد احترامي
وجزيل شكري
مع بالغ إخلاصي
تشارلز داروين

من تشارلز داروين إلى كامي دارست٦
داون، ١٦ فبراير [١٨٦٣]
سيدي العزيز المحترم

أبعث إليك بأصدقِ شُكري على خطابك وكُتيبك. كنت قد سمعت عن عملك (في أحد كتب السيد كاتريفاج على ما أظن)، وكنتُ مُتلهِّفًا جدًّا لقراءته، لكني لم أعرف من أين يمكنني الحصولُ عليه. هذه أقيمُ هديةٍ يُمكن أن تمنحني إياها. لم أعُد للمنزل إلا توًّا، ولم أقرأ عملك بعد؛ إذا أردتُ طرح أيِّ أسئلة عندما أقرؤه، فسأتجرَّأ على إزعاجك بها. لقد سُررتُ للغاية باستحسانك كتابي عن الأنواع. لقد أعلن بعضٌ من علماء التاريخ الطبيعي في إنجلترا وأمريكا الشمالية وألمانيا أنَّ آراءهم بشأنِ الموضوع تغيَّرت بعض الشيء، ولكن على حد علمي، لم يُحدِث كتابي أيَّ تأثير إطلاقًا في فرنسا، وهذا يجعلني أشدَّ سعادةً بتعبيرك اللطيف عن استحسانه. لك أصدق تحياتي وفائق احترامي يا سيدي العزيز.

مع بالغ إخلاصي وامتناني
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢٤ فبراير [١٨٦٣]
عزيزي هوكر

إنني مندهش جدًّا من رسالتك، وأنا لم أرَ عددَ دورية «ذا أثنيام»، لكني أرسلت في طلبه، وربما أحصل عليه غدًا، وسأقول رأيي حينئذٍ.

قرأت كتاب لايل. [«عصور البشر القديمة.»] يبدو لي بالتأكيد عملًا مُجمَّعًا، لكن من أعلى فئة؛ لأنه يُثبت صحةَ الحقائق الواردة فيه على الفور متى أمكن ذلك، ممَّا يجعله يكاد يكون عملًا أصليًّا. يبدو لي أن الفصول الجليدية هي أفضلُ ما فيه، وأرى بعض أجزائها رائعة. لا أستطيع إصدار حُكم بشأن مسألة تطفُّر الإنسان إذ تلاشى عنه بريق الحداثة كله تمامًا. لكن المؤكَّد أن تجميعَ الأدلة خلَّف في ذهني تأثيرًا باهرًا جدًّا. أرى أن الفصل الذي يُقارِن بين اللغة وتغيُّرات الأنواع مبتكَرٌ للغاية ومثيرٌ جدًّا للاهتمام. لقد أظهر لايل براعةً كبيرة في انتقاء النقاط البارزة في الحجة المؤيِّدة لتغيُّر الأنواع، لكني أُصبت بخيبةِ أمل شديدة (لا أقصد شخصيًّا) عندما وجدت أن افتقاره إلى الجرأة يمنعه من إصدار أي حكم … فبناءً على كل أشكال تواصلي معه، لا بد أن أثق أنه تخلَّى تمامًا عن إيمانه بعدم قابلية الأنواع للتغيُّر، ومع ذلك، فإحدى أقوى الجمل في كتابه تنصُّ على ما يلي تقريبًا: «إذا كان ينبغي «على الإطلاق»٧ أن نؤمن بوجود أرجحيةٍ كبيرة لاحتمالية تغيُّر الأنواع بالتباين والانتقاء الطبيعي»، إلى آخر ذلك. كنت آمُل أن يُوجِّه جمهورَ القُراء إلى الإيمان بالفكرة بالدرجة التي بلَغها هو شخصيًّا في الإيمان بها … يوجد شيء واحد يُشعرني بالسعادة حيال هذا الموضوع؛ أن لايل يُقدِّر عملك حسب ما يبدو. لا بد أن جمهور القُراء، أو جزءًا منه، يمكن أن يُدفَع إلى اعتقادِ أن لايل يرى أن آراءنا تحمل قدرًا من الصواب نظرًا إلى أنه يُخصِّص لنا مساحةً أكبر ممَّا يُخصِّصها للامارك. عندما قرأتُ فصلَ الدماغ، انتابني انطباع قوي بأنه، لو كان قد قال صراحةً إنه يؤمن بتغيُّر الأنواع، وإن الإنسان، بالتبعية، اشتُقَّ من أحد الحيوانات الرباعية الأيدي، كان سيُصبح من المناسب جدًّا أن يناقش الاختلافاتِ في أهم عضو؛ أي الدماغ، من خلال تجميع الحقائق. ومع ذلك، يبدو لي أن تركيزَ الفصل الأساسي مُنصَبٌّ إلى حدٍّ ما على الرأس والكتفَين. لا أرى (لكني على أيِّ حال متحيزٌ كفالكونر وهكسلي، أو أكثر تحيُّزًا) أن الكتابَ أشدُّ قسوةً ممَّا ينبغي، بل أراه مكتوبًا بحزمٍ أشبهَ بحكم قضائي. يمكن القول بصدقٍ إنه لا يحق له الحُكم على موضوعٍ لا يفقه عنه شيئًا، لكنَّ جامعي الحقائق لا بد أن يفعلوا ذلك إلى حدٍّ ما. (تعرفُ أنني أُقدِّر جامعي الحقائق وأعتبرهم ذوي مكانة عالية؛ لأنني شخصيًّا واحد منهم!) لقد صدَّقتُ كلامك بحذافيره، وأطلتُ الكتابة للغاية. إذا تلقَّيت عددَ دورية «ذا أثنيام» غدًا، فسأضيف انطباعي عن خطاب أوين.
… سيأتي آل لايل إلى هنا مساء الأحد ليمكثوا حتى يوم الأربعاء. إن هذا مؤسف للغاية، لكن لا بد لي من القول إنني مُحبَط جدًّا من أنه لم يُعبِّر عن رأيه في مسألة الأنواع صراحة، فضلًا عن تحفُّظه بدرجةٍ أكبر في إبداء رأيه بشأن مسألة تطوُّر الإنسان. الطريف في الأمر أنه يظن أنه تصرَّف بشجاعةِ شهيد من شهداء قديم الزمان. آمُل أن يكون رأيي بشأنِ جُبنه مبالغًا فيه، وسأسعد «جدًّا» بمعرفة رأيك في هذه النقطة.٨ عندما تلقَّيت كتابَه، قلَّبت صفحاته، ورأيت أنه ناقش مسألةَ الأنواع، وقلت إنني ظننته سيبذل أكثرَ ممَّا بذلناه كلنا من أجل إقناع الجمهور باعتناق الأفكار الجديدة، والآن (وهذا يجعل الأمر أسوأ لي) يجب أن أتراجع بصراحةٍ عمَّا قُلته. ليته لم يذكر أيَّ كلمة عن الموضوع.

صباح الأربعاء: اطلعتُ على عدد دورية «ذا أثنيام». لا أظن أن لايل سيكون منزعجًا جدًّا بقدرِ ما تتوقَّع على الإطلاق. من المؤكَّد أن الجملة الختامية لاذعةٌ للغاية. لا أحد يستطيع فكَّ طلاسم خطاب أوين سوى عالِم بارع في التشريح؛ إنه على الأقل يفوق قدرتي على الاستيعاب بكثير.

… ذاكرة لايل تخونه عندما يقول إن كل علماء التشريح ذُهِلوا من ورقةِ أوين البحثية؛٩ لقد استُشهِد بها باستحسانٍ مرات كثيرة. أتذكَّر «جيدًا» إعجابَ لايل بهذا التصنيف الجديد! (لا تُكرِّر هذا.) أتذكَّره لأنني، مع أني لم أكن أعرف أيَّ شيء إطلاقًا عن الدماغ، روادتني قناعةٌ بأن التصنيف الذي يتأسَّس بهذه الطريقة على طابعٍ واحد سينهار، وارتأيت أن عدم فصل الجرابيات على مستوًى أكثرَ اكتمالًا كان خطأً فادحًا …

يا له من شرٍّ لعينٍ أن يوجد كل هذا الشجار المحتدِم داخل ما يُفترَض أنها عوالم العلم المسالمة!

سأتجه إلى العمل على موضوعي الحالي المتعلِّق بالوراثة، وأنسى كل ذلك فترةً من الوقت. إلى اللقاء يا صديقي العزيز القديم.

سي داروين

من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٣ فبراير [١٨٦٣]

… إذا كان لديك وقتٌ للقراءة فلتقرأ كتاب لايل عن الإنسان؛ لأن بعض أجزائه ستُثير اهتمامك، لكن يؤسفني القول إن محتوى الجزء الأفضل، المتعلِّق بالفترة الجليدية، ربما يكون مُتخصِّصًا جدًّا إلى حدٍّ يجعله صعبَ الفهم على غير المتخصِّصين في الجيولوجيا. إنه يستشهد بكلامك في النهاية بإعجابٍ شديد. بالمناسبة، أخبرني قبل بضعة أيام بمدى السرور البالغ الذي عبَّر عنه البعض حين سمعوا أنهم يستطيعون شراء كُتَيبك. وكذلك تتحدَّث مجلة «ذا بارثينون» عنه واصفةً إياه بأنه أبرعُ المؤلَّفات عن هذا الموضوع. كم يسعدني أن أرى عملك ينال التقدير!

سيأتي آل لايل إلى هنا بعد أسبوعٍ من اليوم، وسوف أُعرب عن تذمُّري من مبالغته في الحذر … فربما يقول الجمهور إنه إذا لم يجرؤ رجلٌ مثله على التعبير صراحةً عن رأيه أو لا يرغب في التعبير عنه، فأنَّى لنا، نحن الجهلةَ، أن نُكوِّن ولو حتى رأيًا تخمينيًّا عن الموضوع؟ ابتهج لايل عندما أخبرتُه مُؤخَّرًا بأنك تظن أنه يمكن استخدام اللغة كشرح توضيحي ممتاز لمسألة اشتقاق الأنواع؛ سترى أن كتابه يتضمَّن فصلًا «رائعًا» عن هذا …

قرأتُ محاضرةَ كيرنس الممتازة،١٠ التي تُوضِّح بطريقةٍ جيدة جدًّا كيف كانت العبودية سببًا في صراعكم. لقد جعلَتني لبعض الوقت أتمنَّى انتصار الشمال بكل صدق، لكنني لم أستطِع قط، رغم محاولتي، منْعَ نفسي من التفكير طوال الوقت في أننا على الأرجح قد نُضطر إلى خوضِ حربٍ تحت وطأة التهديد والإجبار عندما تنتصرون. بالرغم من ذلك، فأنا أعتقد حقًّا أنه سيكون من المُروِّع أن ينتصر الجنوب، بعبوديته اللعينة، وينشر الشر. أظن أنني، لو كنت أملك سلطة تنفيذ ذلك — والحمد للرب على أنني لا أملكها — لكنت سأدعكم تغزون الولايات الحدودية، وكل مناطق غرب المسيسيبي، ثم أُجبركم على الاعتراف بولايات القطن. لأنكم ستبدءون الآن في الشك حيال قدرتكم على غزوهم والاحتفاظ بالسيطرة عليهم، أليس كذلك؟ ها أنا ذا قد أزعجتك بخُطبةٍ مُوبِّخة طويلة.

صحيفة «ذا تايمز» تصبح أبغض (وإن كانت هذه كلمةً أضعف ممَّا ينبغي) من أي وقت مضى. تود زوجتي الطيبة أن نتخلَّى عن قراءتها، لكني أقول لها إن هذا تصرُّف بطولي جدًّا لا تقدر عليه سوى امرأة. فالتخلِّي عن صحيفة «ذا تايمز القديمة اللعينة»، كما اعتاد كوبيت أن يصفها، يشبه التخلِّي عن اللحوم والشراب والهواء. إلى اللقاء يا عزيزي جراي.

مع أصدق تحياتي
سي داروين

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٦ مارس، [١٨٦٣]

… لقد أثار كتابك١١ بالغ اهتمامي بالطبع. ليس لديَّ أيُّ تعليقات جديرة بالإرسال تقريبًا، لكني سأكتب بعضَ الخواطر عن أكثر الأجزاء إثارةً لاهتمامي. لكنِّي أولًا سأُفصح عمَّا أكره قوله؛ ألَا وهو أنني أشعر بخيبةِ أمل شديدة لأنك لم تُدلِ بحُكمك ولم تُعبِّر صراحةً عن رأيك في مسألةِ اشتقاق الأنواع. كنت سأقنع لو أنك أعلنت بجرأة أن الأنواع لم تُخلَق خلقًا مستقلًّا، كلٌّ على حدة، وألقيتَ قدرَ ما تشاء من الشك على مدى كفاية التباين والانتقاء الطبيعي. أرجو من السماء أن أكون مخطئًا (ويبدو أنني كذلك بِناءً على ما تقوله عن هيوويل)، لكني لا أستطيع أن أرى كيف يُمكن أن تُقدِّم فصولك نفعًا أكبرَ ممَّا يُقدِّمه مقالٌ نقدي بارع استثنائي. أظن أن مجلة «ذا بارثينون» مُحِقة في أنك ستترك جمهورَ القُراء في حالةٍ من التشوُّش. من المؤكَّد أنهم قد يستنتجون أنك، لمَّا خصَّصت لي ولوالاس وهوكر حيزًا أكبرَ ممَّا خصَّصته للامارك، فإنك تَعُدُّ رأينا أفضل. لكني دائمًا ما كنت أرى أن حُكمك كان سيصبح مرحلةً فارقة في الموضوع. كل ذلك قد انتهى بالنسبة إليَّ، ولن أُفكِّر إلا في البراعة الرائعة التي انتقيتَ بها النقاط اللافتة وشرحتها. أرى أن أيَّ إشادة بالفصل الفريد الذي يَعقد مقارنةً بين اللغة والأنواع لن يكون فيها أي مبالغة مهما بلغ مقدارها.
توجد١٢ في أعلى الصفحة ٥٠٥، جملةٌ تجعلني أتأوَّه …

أعرف أنك ستسامحني على أنني أكتب بحُرِّية تامة؛ لأنك تعرف بالتأكيد مدى احترامي العميق لك بصفتك مُرشدي وأستاذي الموقَّر القديم. أتمنَّى من أعماق قلبي أن يُحقِّق كتابك رواجًا هائلًا ويُجدي نفعًا بطرقٍ كثيرة مثلما ينبغي له، وأنا أتوقَّع ذلك. أنا متعَب؛ لذا سأكتفي بهذا القدر. لقد كتبتُ بإيجازٍ شديد جدًّا إلى حدِّ أنك ستُضطر إلى تخمين قصدي. يؤسفني القول إن تعليقاتي تكاد تكون غيرَ جديرة بالإرسال أصلًا. إلى اللقاء، مع أطيب تحياتي لليدي لايل.

صديقك الدائم
سي داروين

[اقتبس السيد هكسلي (الجزء الثاني، الصفحة ١٩٣) بعضَ الفقرات من خطابات لايل التي تُبيِّن حالته الذهنية آنذاك. وكذلك الفقرة التالية، المقتبَسة من خطابٍ بتاريخ ١١ مارس إلى والدي، ذات أهمية كبيرة:

«ومع ذلك، فمشاعري تُشكِّل عائقًا أكبر ممَّا تُشكِّله أيُّ فكرة عن الحكمة أو النفعية، يمنعني من تشكيل رأي نهائي قاطع بشأنِ مسألة انحدار الإنسان من الكائنات المتوحِّشة؛ فهي مسألة، وإن كنت مستعدًّا لقَبولها، تنتقص الكثيرَ من سحرِ تخميناتي بشأن الماضي المتعلِّق بمثل هذه الأمور … يجدر بك أن تكون راضيًا بالرغم من ذمك لأنني سأجلب إلى صفك المئات الذين، لو كنتُ اعتبرتُ المسألةَ عقيدةً راسخة، كانوا سيتمرَّدون.»]

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٢ [مارس، ١٨٦٣]
عزيزي لايل

أشكرك على خطابك الساحر الذي يُمكنني القول إنه كان لطيفًا ومثيرًا جدًّا للاهتمام. كنت أخشى أن تغضب مني لبعض الوقت. فأنا أعرف بعضَ الرجال كانوا سيغضبون لو كانوا مكانك. ليست لديَّ تقريبًا أي انتقادات أخرى جديرة بأن أكتبها على أي حال. ولكن يمكنني أن أذكر أنني فوجئت قليلًا بأن بي دو بيرت لم يُذكَر ذِكرًا أكثرَ تكريمًا بعض الشيء. أود أن أقترح أن تحذف بعض الإحالات إلى كتاب «مبادئ الجيولوجيا» إن أمكن ذلك؛ فإحالةٌ واحدة ستكون كافيةً للطالب الجيد كمائة إحالة، وبالنسبة إلى القارئ العادي، فالإكثار من الإحالة إلى كتبٍ أخرى أمرٌ مزعج بعض الشيء ويُعطيه انطباعًا بأن المحتوى ناقص. ونظرًا إلى أنك تقول إنك تحدَّثت عن مسألة الأنواع بصراحة وفقًا للدرجة التي بلغتها في تصديقها، فليس لديَّ ما أقوله؛ لكني أرى في بعض الأحيان بِناءً على المحادثة والتعبيرات والخطابات وما إلى ذلك، أنك مثلي، قد تخلَّيتَ تمامًا عن الإيمان بعدم قابلية الأشكال المعينة للتغيُّر. لم أزل أعتقد بالتأكيد أن تعبيرًا واضحًا منك، «لو أنك صرَّحت به»، كان سيُحدِث تأثيرًا كبيرًا لدى الجمهور، لا سيما أنك كنت تتبنَّى آراءً مضادةً سابقًا. كلما عملت، ازدادت قناعتي بالتباين والانتقاء الطبيعي، لكنِّي أعتبر هذا الجزءَ من القضية أقلَّ أهمية، وإن كان أكثر إثارةً لاهتمامي شخصيًّا. ونظرًا لأنك طلبتَ مني ذِكر انتقاداتي بخصوص هذه النقطة (وصدِّقني ما كنت لأذكرها من دون طلب)، فسأخص بالذكر (صفحتَي ٤١٢ و٤١٣) أن كلمات مثل: «يسعى السيد دي جاهدًا ليُوضِّح» و«يعتقد المؤلِّف أنها تُلقي الضوء»، من شأنها أن تقود القارئ العادي إلى أن يظن أنك شخصيًّا «لا» تتفق إطلاقًا مع رأيي، بل تظن فقط أنه من المنصف أن تعرضه. وأخيرًا، تصفُ رأيي مرارًا بأنه تعديل لعقيدة لامارك المتعلِّقة بالتطوُّر والارتقاء. إذا كان هذا هو رأيك المدروس، فلا شيء يُقال بخصوص ذلك، لكنه لا يبدو كذلك لي. ذلك أن أفلاطون وبوفون وجَدِّي قد طرحوا من قبلِ لامارك وآخرين، الآراءَ «الواضحة» القائلة بأن الأنواع، إذا لم تكن أُنشئت إنشاءً منفصلًا، كلٌّ على حدة، فلا بد أنها انحدرت من أنواعٍ أخرى، ولا أستطيع أن أرى شيئًا مشتركًا آخرَ غير ذلك بين كتاب «أصل الأنواع» ولامارك. أعتقد أنَّ عرض القضية بهذه الطريقة يُلحِق ضررًا جسيمًا بقابلية تقبُّلها؛ لأنه يوحي ضمنيًّا بأن الارتقاء ضروري، ويربط ربطًا وثيقًا بين آرائي وآراء والاس، وبين كتابٍ أعتبره رديئًا جدًّا بعدما قرأته مرتَين بتروٍّ، ولم أستفِد منه شيئًا (وأتذكَّر جيدًا دهشتي من ذلك). لكني أعرف أنك تضعه في مرتبةٍ أعلى، وهذا غريب؛ لأنه لم يُزعزع اعتقادك قيدَ أنملة. لكنَّ هذا يكفي وزيادة. رجاء فلتتذكَّر أنك مَن جلبت هذا كلَّه على رأسك!

يؤسفني جدًّا ما سمعته بشأن عزمِ فالكونر «على استعادة حَقِّه الذي يرى أنه سُلب منه».١٣ أكره تلك العبارة، وأُكنُّ له مودةً صادقة.
هل قرأتَ من قبلُ أيَّ شيء أردأ من مقالاتِ دوريةِ «ذا أثنيام» عنك وعن هكسلي١٤ بالأخص. «هدفك» هو أن تجعل الإنسانَ قديمًا، وهدف هكسلي هو الحط من مكانته. إن الكاتب الرديء لا يفقه أيَّ شيء عمَّا يعنيه اكتشافُ الحقيقة العلمية. ما أروعَ بعضَ الصفحات في كتاب هكسلي، ولكن يؤسفني القول إن الكتاب لن يحظى بالشهرة …

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [١٣ مارس، ١٨٦٣]

كان ينبغي أن أشكرك في وقتٍ أبكرَ من ذلك على عدد دورية «ذا أثنيام» والرسالة السابقة المُبهجة للغاية، لكني كنت مشغولًا، ومصابًا بعدم ارتياح شديد من جرَّاء الشعور المزعج المتكرِّر بالامتلاء، والألم الطفيف في القلب وبعض الوخز الخفيف به. لكن لأنني لا أُعاني أيَّ أعراضٍ أخرى تُشير إلى مرضٍ قلبي، أفترض أنه ليس مُتضرِّرًا … تلقَّيت رسالةً لطيفة جدًّا ومفعمة بالصراحة المبهجة من لايل، الذي يقول إنه عبَّر عن رأيه بصراحة وفقًا لِمَا يعتقده. لا شك عندي في أن اعتقاده قد خانه بينما كان يكتب؛ لأنني مُتيقِّن من أنه في بعض الأحيان لا يؤمن بفرضية الخلق بأكثر من إيماني أو إيمانك بها. أبديتُ قليلًا من التذمُّر في ردِّي عليه بخصوص أنه «دائمًا» ما يُصنِّف عملي على أنه تعديل على عمل لامارك، وهذا ينطبق عليَّ بقدرِ ما ينطبق على أي مُؤلِّف آخر لم يؤمن بعدم قابلية الأنواع للتغيُّر، وآمنَ بانحدارها. يؤسفني بشدة أن أسمع من لايل أن فالكونر سينشر ردًّا رسميًّا يُعلن فيه أحقيته بادعاءاته التي سُلبت منه …

من المؤلم جدًّا أن أُفكِّر في أننا يجب أن نذهب إلى مولفرن في منتصف أبريل، وفي ذلك خراب لي.١٥

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٧ مارس [١٨٦٣]
عزيزي لايل

لقد أثارت خطاباتك وما أرفقته بها بالغَ اهتمامي، وأشكرك من صميم قلبي على منحي الكثيرَ من الوقت في حين أنك مشغول جدًّا بكل تأكيد. يا له من خطابٍ غريب ذاك المُرسَل من بي دو بي [بوشيه دو بيرت]! يبدو راضيًا تمامًا، ومن المؤكَّد أنه رجل ودود جدًّا. أعرف بشأن أخطائه بعض الشيء، وطالَعت كتابه منذ سنوات عديدة، وكم يخجلني أن أتذكَّر أنني استنتجت أن الكتاب برُمَّته محضُ هراء! بالرغم من ذلك، فإن ما قدَّمه لمسألة تطوُّر الإنسان شبيه بما قدَّمه أجاسي لمسألة الأنهار الجليدية.١٦
لا أستطيع القول إني أتفق مع هوكر في أن الجمهور لا يُحب أن يُقال له ما ينبغي أن يستنتجه، «إذا كان مصدره شخصًا بمكانتك». بالرغم من ذلك، فأنا آسف جدًّا على أنني دُفِعت إلى التذمُّر أو ما يشبه التذمُّر، بشأن الطريقة التي تعاملتَ بها مع الموضوع، وأنا أكثرُ أسفًا على فعلِ ذلك بخصوص أيِّ شيء يتعلَّق بي. دائمًا ما «أُحاول جاهدًا» ألَّا أنسى إيماني الراسخ بأنه لا يمكن لأحد أن يحكم على عمله الذي أنجزه بنفسه إطلاقًا. أمَّا بخصوص لامارك، فأنت المنتصرُ ما دام رجل مثل جروف معك، وهذا لا يعني أنني أستطيع تغيير رأيي في أنه كان كتابًا عديمَ الجدوى تمامًا من وجهة نظري. ربما كان هذا لأنني دائمًا ما أبحث في الكتب عن الحقائق، وربما بسبب معرفتي السابقة بتخمين جدي السابق على ما طرحه لامارك والمطابق له تمامًا. لن أزيد على ذلك سوى أنني، إذا استطعت تحليل مشاعري (وأشكُّ بشدة في قدرتي على هذا)، فسيتبيَّن أن رغبتي الشديدة في أن تكون درجة إيمانك قد سمحت لك بالتصريح بجرأة ووضوح بأن الأنواع لم تُنشأ إنشاءً منفصلًا، كانت من أجل مصلحتك تقريبًا قدرَ ما كانت من أجلي. لقد أخبرتك بصفةٍ عامة عن تقدُّم الآراء بشأن مسألة الأنواع بقدرِ ما أسمعه. ثمَّة عالم تاريخ طبيعي ألماني من صفوة مُتخصِّصي هذا المجال،١٧ (نسيتُ الاسم الآن!) نشر مُؤخَّرًا كتيِّبًا عظيمًا، قد أعرب عن رأيه بشأنِ كتاب «أصل الأنواع» بأقصى صراحة. يرى آسا جراي أن دي كاندول، في ورقة بحثية جيدة جدًّا عن طيور «الأوك»، يؤمن بأفكاري بقدرِ ما يؤمن بها جراي، لكنَّ دي كاندول يقول، في خطاباته التي يرسلها إليَّ، ««نحن» نظن هذا وذاك»؛ لذا أستنتجُ أنه يتفق معي إلى أقصى حد حقًّا، ويُحدِّثني عن عالِم حفريات نباتية فرنسي (نسيت اسمه)١٨ كتب إلى دي كاندول قائلًا إنه مُتيقِّن من أن آرائي ستنتصر في النهاية. غير أنني لم أكن أنوي كتابةَ كل هذا. فأنا أرضى بالنتائج النهائية، لكني بدأت أرى أن هذه النتيجة ستستغرق عمرَين أو ثلاثة. فعلماء الحشرات وحدَهم قادرون على تأخير تقدُّم الموضوع لنصف قرن. كم أُشفق عليك لاضطرارك إلى الموازنة بين ادعاءات العديد من الطامحين المتلهِّفين إلى جذب الانتباه؛ من الواضح أن إرضاء الجميع مستحيل … من المؤكَّد أنني بُهِرت بالتوقير التام المستحق الذي منحتَ فالكونر إياه. قرأتُ للتو رسالةً من هوكر … سُررتُ من أعماق قلبي بأنك جعلته لافتًا جدًّا؛ فهو صادق جدًّا، وصريح جدًّا، ومتواضع جدًّا …

قرأتُ ما كتبه … لم أجد مشكلةً ملموسة، وهذا يُسعدني جدًّا من ناحية؛ لأنني أكره الجدال، لكنه من ناحية أخرى يُحزنني بشدة لأنني أتوق إلى أن أكون في القاربِ نفسه مع أصدقائي … إنني سعيد من صميم قلبي بأن الكتابَ يُحقِّق نجاحًا على أحسنِ ما يُرام.

صديقك الدائم
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [٢٩ مارس، ١٨٦٣]

… شكرًا جزيلًا على عددِ دورية «ذا أثنيام» الذي تلقَّيته صباح اليوم، وسأرده صباح غد. مَن كان يخطر بباله على الإطلاق أن دورية «ذا أثنيام» القديمة الغبية ستبدأ انتهاج فلسفة متعالية شبيهة بفلسفة أوكن ومكتوبة بأسلوب أوين؟! … ما هي إلا مسألة وقت وسنرى «العفن الغروي، والبروتوبلازم، إلى آخر ذلك» يُنتِج حيوانًا جديدًا. لكني لطالما ندِمت على أنني أذعنتُ بضعفٍ للرأي العام واستخدمتُ مصطلحَ الخلق الوارد في أسفار موسى الخمسة١٩ الذي لم أقصد به في الواقع سوى أنها «ظَهَرت» بعمليةٍ ما مجهولة تمامًا. أرى أن التفكير حاليًّا في أصل الحياة محضُ هراء؛ فالأفضل أن يُفكِّر المرء في أصل المادة.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، مساء الجمعة [١٧ أبريل ١٨٦٣]
عزيزي هوكر

سمعتُ من أوليفر أنك ستكون الآن في كيو؛ ولذا سأُسلي نفسي بالكتابة إليك قليلًا. آمُل أن تكون قد استمتعت بجولتك لأقصى درجة. لم أرَ في حياتي شيئًا كزهور الربيع في العام الحالي. ما أعجبَ مجموعةَ الأشياء المثيرة للاهتمام التي نُشرت مؤخَّرًا! لقد أُعجِبت جدًّا بمقالتك النقدية عن دي كاندول. يا لها من مقالةٍ لاذعة جدًّا تلك التي كتبها فالكونر عن لايل؛ إنها تُشعرني بأسفٍ شديد، أظن أن فالكونر من جانبه لا يوفي بيرت العجوز وشميرلنج حقهما … أتحرَّق فضولًا لمعرفةِ رد [لايل] عليها غدًا. (اضطُررتُ إلى الاحتفاظ بعدد دورية «ذا أثنيام» عندي فترةً من الوقت.) أشعر بالأسف الشديد على أن فالكونر كَتب بهذا الحقد الهائل، حتى وإن كان في اتهاماته شيء من الحقيقة؛ لقد خاب أملي في خطابِ كاربنتر بعضَ الشيء، صحيحٌ أن أحدًا لم يكن ليدلي بردٍّ أفضلَ، ولكن يبدو لي أن الغاية الرئيسية من خطابه إظهار أنه، وإن لمسَ القار، لم يُدنَّس به. لن يفترض أحدٌ أنه وصل في إيمانه إلى حد اعتقاد أن الطيور كلها قد أتت من سلف واحد. كتبتُ خطابًا إلى دورية «ذا أثنيام» (وهي المرة الأولى والأخيرة التي سأفعل فيها شيئًا كهذا) لأقول كلمةً دفاعًا عن نفسي، تحت عباءة الهجوم على مسألة التولد التلقائي. من المقرَّر أن يظهر خطابي الأسبوع المقبل، حسب ما يقول المحرِّر، وأنوي أن أقتبس جملة لايل٢٠ الواردة في طبعته الثانية، استنادًا إلى المبدأ القائل بأن المرء إذا أراد أن يُبالغ في مدحِ نفسه والتفاخر بها، فمن الأفضل أن يفعل ذلك على خيرِ وجه. …

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٨ أبريل [١٨٦٣]
عزيزي لايل

الحق أنني شعرت بأسفٍ شديد لأنك كنتَ قد أرسلت إليَّ من كتابك القيِّم نسخةً ثانية.٢١ لكنَّ أسفي تلاشى بعد بضعِ ساعات لهذا السبب؛ أرسلتُ خطابًا إلى دورية «ذا أثنيام» لأقول، تحت عباءة الهجوم على المقالة الشنيعة عن موضوع التولد التلقائي، كلمةً أُدافع بها عن نفسي ردًّا على كاربنتر، والآن قد أدرجتُ بضعَ جملٍ تُشير إلى اعتراضك المشابه بشأن مسألة الخفافيش على الجزر، وبعدئذٍ، وبخُبث هائل، اقتبست الجملة المعدَّلة، بما تحمله من عبارة اعتراضية («وهو ما أومن به تمامًا»)؛٢٢ لا أظن أنك يمكن أن تنزعج من إقدامي على هذا الفعل؛ فأنا مصمِّم، مثلما ترى، أن أحاول قدرَ استطاعتي أن يدرك الجمهور مدى إيمانك بالفكرة. هذه هي المرة الأولى التي أقول فيها كلمةً دفاعًا عن نفسي في أي دورية، وأعتقد أنها ستكون الأخيرة. خطابي قصير، ولا يتضمَّن أيَّ شيء عظيم. كنت مهتمًّا للغاية برؤيةِ رسالة فالكونر العِدائية غير المحترمة. أُعجِبتُ للغاية بردِّك الذي قرأتُه للتو؛ فأنت تتخذ موقفًا متشامخًا جليلًا جديرًا بك تمامًا.٢٣
أظن أنك لو كنتَ استخدمت عددًا أكبرَ بقليل من صيغ التفضيل في الحديث عن المؤلِّفين المُتعدِّدين، لَمَا نشأ أيٌّ من هذا الضجيج البشِع. أنا مُتيقِّن من أنه لا أحدَ يعرفك يُمكن أن يشكَّ في تضامنك الصادق مع كلِّ مَن يُحرِز أيَّ تقدُّم طفيف في العلم. فما زلتُ أتذكَّر جيدًا الطريقةَ التي أصغيت بها إليَّ في شارع هارت عند عودتي من رحلة «البيجل». لقد غمرتني بسعادةٍ بالغة. وإنه لممَّا يُصيب المرءَ بإزعاجٍ فظيع أن يتصرَّف رجلٌ صريح جدًّا وودود فيما يبدو مثل فالكونر بهذه الطريقة.٢٤ حسنًا، سيُنسى كلُّ ذلك عمَّا قريب …

[ردًّا على خطابِ والدي إلى دورية «ذا أثنيام» المذكور أعلاه، ظهر مقال في تلك الدورية (بتاريخ ٢ مايو ١٨٦٣، الصفحة ٥٨٦)، يتهم والدي بأنه يدَّعي أن آراءه وحدَها هي ما تتسم بالميزة الحصرية المتمثِّلة في أنها «تربط بخيطٍ واضح من الاستدلال المنطقي» عددًا من الحقائق في علم التشكُّل، وغيره. فيقول الكاتب إن «التعميمات المختلفة، التي استشهد بها السيد داروين واصفًا إياها بأنها لا ترتبط بعضها ببعض من خلالِ خيطٍ واضح من الاستدلال المنطقي إلا من خلال محاولته شرحَ تحوُّل مُعيَّن، ترتبط في الواقع بذلك التحوُّل على هذا النحو؛ أنها تُهيِّئ عقولَ علماء التاريخ الطبيعي لاستقبال مثل هذه المحاولات لشرح كيفية انبثاق الأنواع من أنواعٍ أخرى استقبالًا أفضل.»

ردَّ والدي على ذلك في دورية «ذا أثنيام» في ٩ مايو ١٨٦٣:]

داون، ٥ مايو [١٨٦٣]

آمُل أن تمنحوني الفرصةَ لأعترف بأن ناقدكم كان محقًّا تمامًا حين قال إن أيَّ نظرية عن الانحدار ستربط التعميمات المتعدِّدة المُحدَّدة سلفًا «بواسطة خيط واضح من الاستدلال المنطقي». يجب أن أُقرَّ بهذا الاعتراف صراحة، ولكن مع ذكرِ تحفُّظٍ مفادُه أنه لا توجد نظرية، على حد ظني، تستطيع أن تشرح هذه التعميمات المتعدِّدة (لا سيما تكوُّن السلالات الداجنة مقارنةً بالأنواع الطبيعية، ومبادئ التصنيف، والتشابه الجنيني، وما إلى ذلك) أو تربط بينها جيدًا على النحو الذي تُقدِّمه نظريةُ الانتقاء الطبيعي، أو فليُسمِّها الناقد فرضيةً أو تخمينًا، إذا شاء. ولا يوجد أيضًا أيُّ تفسيرٍ آخرَ مقنع لتكيُّف الكائنات الحية شبه التام بعضها مع بعض ومع ظروف حياتها الطبيعية. وسواء أكان عالِم التاريخ الطبيعي يؤمن بالآراء التي طرحها لامارك أو جوفري سانت إيلير أو مؤلِّف كتاب «بقايا» أو والاس، أو التي طرحتها أنا؛ فهذا ليس مهمًّا إطلاقًا مقارنةً بالاعتراف بأن الأنواع انحدرت من أنواعٍ أخرى، ولم تُخلَق غيرَ قابلة للتغيُّر؛ لأن مَن يعترف بهذا على أنه حقيقةٌ عظيمة، فسينفتح أمامه مجالٌ واسع لمزيد من البحث والتحري. ومع ذلك، أعتقد بِناءً على ما أراه من تقدُّم الآراء في القارة، وفي هذا البلد، أن نظرية الانتقاء الطبيعي ستُصبح هي النظرية المتَّبعة في نهاية المطاف، مع إضفاء العديد من التعديلات والتحسينات الثانوية عليها بالتأكيد.

تشارلز داروين

[ترِد الإشارةُ فيما يلي إلى الخطاب المُرسل إلى دورية «ذا أثنيام» المذكور أعلاه:]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
ليث هيل بليس،
السبت [١١ مايو ١٨٦٣]
عزيزي هوكر

أنت مُحق في نصيحتك بعدم الكتابة في الصحف؛ فها أنا ذا أكَزُّ على أسناني غضبًا من حماقتي، وليس هذا بسبب سخرية … التي كانت بارعةً جدًّا إلى حد أنني كدت أستمتع بها. لقد كتبتُ مرةً أخرى لأعترف بأنه محقٌّ فيما يقوله إلى حدٍّ ما، وإذا أقدمتُ على مثلِ هذه الحماقة مرةً أخرى بعدئذٍ على الإطلاق، فلا ترحمني. قرأتُ السخرية اللاذعة الواردة في مجلة «بابليك أوبينيون»؛ إنها ممتازة، إذا كان يوجد المزيد، وكانت لديك نسخة، فلتُعِرني إياها. إنها تُبيِّن بوضوحٍ شديد أنه من الأفضل لرجلِ العلم أن يُداس في التراب على أن يتشاجر. أعكفُ منذ فترةٍ على رسم المخطَّطات البيانية، وتشريح البتيلات، بينما يحَار عقلي إلى حدٍّ ميئوس منه عند التفكير بشأنِ تشعُّب الأوراق، لكني فشلت تمامًا بالطبع. غير أنني أرى أن الموضوع غريبٌ جدًّا ومذهل حقًّا …

[يُشير الخطابُ التالي إلى الخطابِ الرئاسي الذي ألقاه السيد بينثام أمام الجمعية اللينية (٢٥ مايو ١٨٦٣). لا يُذعِن السيد بينثام لنظريةِ التطوُّر الجديدة، و«لا يمكنه الاستسلام تمامًا ما دام العديدُ من الركائز الأساسية المهمة لم يزل محلَّ نزاع». لكنه يُوضِّح أن الجزء الأكبر من الآراء العلمية يتَّجه نحو الإيمان بالنظرية.

إنَّ تطرُّق السيد بينثام إلى ذِكر باستور متعلِّقٌ بالنظرية التي أصدرها ناقد الدكتور كاربنتر عن التولُّد التلقائي في دورية «ذا أثنيام» (٢٨ مارس ١٨٦٣)، «كما لو كان يصدِر فرمانًا إلزاميًّا». إذ يشير السيد بينثام إلى أن الكاتب، بتجاهله دحض باستور لحقائق التولُّد الذاتي المُفترَضة، لا يتصرَّف بتلك «الحيادية التي من المفترض أن يتحلَّى بها كل ناقد».]

من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، ٢٢ مايو [١٨٦٣]
عزيزي بينثام

أنا في غاية الامتنان لخطابك اللطيف والمثير للاهتمام. إنني مطمئِن إلى أن أي شيء سيقوله رجلٌ مثلك لن يضايقني إطلاقًا. وعلى الجانب الآخر، سأسعدُ جدًّا بأي استحسان من شخص أحترمُ رأيه ومعرفته بكل صدق منذ سنوات عديدة. إن الاعتراض الذي صغتَه ببراعة، متمثِّلًا في أن بعض الأشكال تظل على حالها دون تغيير عبْر نطاق زمني وحَيِّز مكاني طويلَين، منيع في ظاهره بلا شك، وفي حقيقته أيضًا إلى حدٍّ ما، وفقًا لتقديري. لكن ألَا يستند قدرٌ كبير من الصعوبة على أننا نفترض في صمتٍ أننا نعرف أكثرَ ممَّا نعرفه بالفعل؟ فالحق أنني لم أجدْ ما هو أكثر صعوبةً من محاولة تذكُّر جهلنا دائمًا. إنني لا أمَلُّ أبدًا، عندما أمشي في أي حي مجاور أو منطقة ريفية جديدة، من التفكير في مدى جهلنا التام لسبب عدم وجود بعض النباتات القديمة هناك، ووجود نباتات أخرى جديدة، ونباتات أخرى بنسبٍ مختلفة. إذا أدركنا هذا تمامًا مرةً واحدة، فهل يكون من العجيب جدًّا إذن عند الحكم على نظرية الانتقاء الطبيعي، التي تشير إلى أن الشكل سيبقى على حاله دون تغييرٍ ما لم يوجد تعديلٌ ما يخدم مصلحته، أن تتغيَّر بعضُ الأشكال بدرجةٍ أبطأ وأقل بكثير، وألَّا تتغيَّر بضعةُ أشكال على الإطلاق في ظل ظروفٍ تبدو لنا (نحن الذين لا نعرف ما هي الظروف المهمة إطلاقًا) مختلفةً جدًّا؟ من المؤكَّد أننا ربما كنا نتوقَّع ﺑ «الاستنتاج البديهي» أن كل النباتات التي أُدخلت قديمًا إلى أستراليا قد خضعت لبعض التعديلات؛ لكنَّ حقيقة أنها لم تُعدَّل لا تبدو لي صعوبةً بارزة بما يكفي لزعزعةِ اعتقادٍ قائم على حُججٍ أخرى. لقد عبَّرت عن نفسي على نحوٍ سيئ للغاية، لكني مُتوعِّك اليوم.

تغمرني سعادة بالغة لأنك ستُشير إلى باستور؛ لقد بهرني عمله بإعجابٍ لا متناهٍ. مع خالص الشكر، وأصدق تحياتي يا عزيزي بينثام.

لك بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة: في الواقع، يجب أن يُبنى الإيمان بالانتقاء الطبيعي في الوقت الحالي كليًّا على اعتبارات عامة. أولًا، على كونه «سببًا حقيقيًّا»، استنادًا إلى الصراع على البقاء، والحقيقة الجيولوجية المؤكدة القائلة بأن الأنواع تتغيَّر بطريقةٍ ما. ثانيًا، استنادًا إلى التشابه مع التغيير الحادث تحت تأثير التدجين بواسطةِ الانتقاء البشري. ثالثًا، استنادًا في الأساس إلى أن هذا الرأي يربط بين مجموعة من الحقائق تحت وجهةِ نظر واضحة. عندما نتعمَّق لنخوض في التفاصيل، نستطيع إثبات عدم تغيُّر أي نوع واحد [أي لا نستطيع إثبات أن نوعًا واحدًا قد تغيَّر]؛ ولا نستطيع إثباتَ أن التغييرات المفترضةَ مفيدة، في حين أن هذا هو أساس النظرية. ولا نستطيع تفسيرَ السبب في تغيُّر بعض الأنواع وعدم تغيُّر بعضها الآخر. وأرى أن فهْمَ الحالة الثانية بدقةٍ وتفصيل لا يختلف في درجة الصعوبة عن فهم حالة التغيُّر المُفترَض الأولى. يمكن لبرون أن يسأل المدرسةَ القديمة المؤمنة بفرضية الخلق وكذلك المدرسة الجديدة عن سببِ وجود أُذنَين أطول لدى أحد الفئران من أُذنَي فأرٍ آخر، ووجود نبتة ذات أوراق مُدبَّبة بدرجةٍ أكبر من أوراق نبتة أخرى، لكنَّ ذلك سيكون دون جدوى.

من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، ١٩ يونيو [١٨٦٣]
عزيزي بينثام

لقد غمرني خطابك الرئاسي، الذي تكرَّمتَ بإرساله إليَّ، بالسعادة وأثار بالغَ اهتمامي. أرى أنه قد أُنجِزَ على نحوٍ ممتاز، وبدرجةٍ كبيرة ممَّا يُميِّز القضاةَ من الهدوء والحياد تضاهي ما كان وزير العدل سيُبديه لو كان هو مَن كتبه. أمَّا بخصوصِ ما إذا كان السادة المحترمون «المؤمنون بعدم قابلية الأنواع للتغيُّر» سيتفقون مع هذا الحياد أم لا، فذلك موضعُ للشك؛ إذ ربما يقولون إن الخطاب يحمل لُطفًا مبالغًا فيه تجاهي أنا وهوكر وآخرين. وفوق ذلك، فأنا أعتقد بلا ريب أن خطابك، بهذه الطريقة التي كُتب بها، سيُسهِم في زعزعة الذين لم يُزعزَعوا وإقناع أولئك الذي يميلون إلى أفكارنا بالانضمام إلى صفنا، بدورٍ أكبرَ ممَّا تُسهم به أيُّ كتابات أخرى تحمل تأييدًا مباشرًا لمسألةِ تغيُّر الأنواع. لا أستطيع إطلاقًا معرفةَ سبب ذلك، لكنَّ خطابك أسعدني بقدرِ ما خيَّب كتاب لايل أملي؛ أعني الجزء المتعلِّق بالأنواع، وإن كان مكتوبًا ببراعة. أتفق مع كل تعليقاتك على النقاد. بالمناسبة، لوكوك٢٥ مؤمن بتغيُّر الأنواع. أستطيع شخصيًّا أن أُعلن بضمير حي أنني لا أتفاجأ أبدًا من تمسُّك أي أحد بالإيمان بفكرةِ عدم تغيُّر الأنواع، وإن كنتُ كثيرًا ما أتفاجأ بشدة من الحجج التي تُطرَح تأييدًا لهذا الجانب. فما زلت أتذكَّر جيدًّا للغاية تقلُّباتي اللامتناهية بين الشك وما كنتُ أجده من صعوبةٍ في تقبُّل الفكرة. أضحكُ حقًّا عندما أُفكِّر في السنوات التي انقضت قبل أن يتضح لي ما أعتقد أنه شَرْح لبعض أجزاء القضية؛ أعتقد أن خمسة عشر عامًا قد انقضت منذ أن بدأت دراسة هذا الموضوع إلى أن أدركت المغزى من تشعُّبِ ذريةِ أي زوج واحد، وسبب هذا التشعُّب. شدَّ ما تكيلُ لي من إطراءات لطيفة ومبهجة جدًّا. لقد سُررت جدًّا بكثير من الأشياء في محتوى خُطبتك، لا سيما تعليقاتك على مجموعةٍ متنوِّعة من علماء التاريخ الطبيعي. وكذلك أشعر بسعادةٍ بالغة لأنك أشرت إلى باستور بتكريم شديد. لقد ألقيتُ للتو نظرةً فاحصة سريعة على هذه الرسالة، وأرى أنها لا تُعبِّر بقوة كافية عمَّا شعرتُ به من اهتمام عند قراءة خطبتك. أعتقد أنك قدَّمت نفعًا حقيقيًّا ﻟ «الجانب الصحيح». مع أصدق تحياتي يا عزيزي بينثام.
لك بالغ إخلاصي
سي داروين

١٨٦٤

[وَرَد هذا الإدخال في مفكرةِ يوميات والدي ضِمن أحداث عام ١٨٦٤: «مريض طوال يناير وفبراير ومارس.» وفي منتصف أبريل تقريبًا (أي بعد سبعة أشهر من بداية مرضه في الخريف السابق) تحسَّنت صحتُه. وحالما صار قادرًا على تأدية أي عمل، بدأ في كتابة ورقتيه البحثيتين عن جنس الخثري، وعن «النباتات المتسلِّقة»؛ ولذا فالعمل الذي يعنينا الآن لم يبدأ إلا في سبتمبر، عندما شرع مرةً أخرى في العمل على كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين». ويقدِّم أحدُ الخطابات إلى السير جيه دي هوكر نبذةً عن استئناف العمل؛ إذ يقول والدي فيه: «بدأتُ أتفحَّص مخطوطتي القديمة، وهي تبدو جديدةً عليَّ كما لو أنني لم أكتبها من قبل؛ توجد فيها أجزاءٌ مملَّة إلى حدٍّ مذهل، لكنها تستحق الطباعة، على ما أظن؛ وأجزاء أخرى تبدو لي جيدةً جدًّا. إنني مليونير، بكلِّ معنى الكلمة، وثروتي من الحقائق الصغيرة الغريبة والعجيبة، وقد ذُهلت حقًّا من جَودة العمل عندما كنت أقرأ فصولي عن الوراثة والانتقاء. الرب وحدَه يعلم متى سيكتمل الكتاب — إن اكتمل أصلًا — لأنني أجد أنني واهن جدًّا، وحتى في أفضل أيامي، لا أستطيع العملَ أكثرَ من ساعة أو ساعة ونصف. هذا أصعبُ بكثير من الكتابة عن نباتاتي المتسلِّقة العزيزة.»

حصل في هذا العام على أعظمِ تكريمٍ يُمكن أن يحصل عليه أيُّ عالِم في هذا البلد؛ وسام كوبلي من الجمعية الملكية. يُقدَّم هذا الوسام في اجتماع الذكرى السنوية في عيد القديس أندرو (٣٠ نوفمبر)، وعادةً ما يكون الحاصل عليه حاضرًا لتسلُّمه، لكنَّ حالة والدي الصحية منعته من ذلك. أرسل خطابًا إلى السيد فوكس عن هذا الموضوع قائلًا:

«سُررتُ برؤية خط يدك. يُعَدُّ وسام كوبلي تكريمًا عظيمًا؛ لأنه يُمنَح على الإنجازات في جميع مجالات العلوم وعلى نطاق العالم بأسره، لكنَّ مثل هذه الأشياء، باستثناء عدةِ خطابات لطيفة، لا تُشكِّل لديَّ فارقًا كبيرًا. غير أنه يُوضِّح أن الانتقاءَ الطبيعي يحرز بعضَ التقدُّم في هذا البلد، وهذا يسعدني. بالرغم من هذا، فالموضوع مرحَّب به في أراضٍ أجنبية.»

وكتب إلى السير جيه دي هوكر أيضًا، قائلًا:

«كم كنتَ لطيفًا في ردِّ فعلِك على نَيلي هذا الوسام؛ الحق أنني أنعَم بالكثير من الأصدقاء الطيبين، وقد تلقَّيت أربع رسائل أو خمسًا ملأتني بالسرور. كثيرًا ما أتعجَّب من أنَّ عجوزًا باليًا مثلي لم يُصبح طيَّ النسيان التام. بمناسبة الحديث عن الأوسمة، هل حاز فالكونر الوسامَ الملكي؟ يحق له أن يحصل عليه بالطبع، مثلما يحق لجون لوبوك أن يحصل عليه. وبهذه المناسبة، يُخبرني هذا الثاني بأن بعض أعضاء الجمعية الملكية القُدامى صُدِموا بشدة من حصولي على وسام كوبلي. هل تعرف مَن هم؟»

وأرسل خطابًا إلى السيد هكسلي، قائلًا:

«يجب أن أردَّ عليك وسأرد عليك؛ إذ يسرني حقًّا أن أشكرك من صميم قلبي على رسالتك. ذلك أن رسالةً كرسالتك هذه، وبضع رسائل أخرى، هي الوسام الحقيقي لي، لا تلك القطعة الذهبية. لقد غمَرَتني مثل هذه الرسائل بسعادةٍ ستدوم طويلًا؛ لذا فلتُصدِّق شُكري الخالص النابع من أعماق قلبي على رسالتك.»

تحدَّث السير تشارلز لايل، في خطابٍ أرسله إلى والدي في نوفمبر ١٨٦٤ (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلَّد الثاني، الصفحة ٣٨٤)، عن الساخطين المزعومين قائلًا إنهم كانوا خائفين من منح الوسام على عملٍ غير تقليدي جدًّا ككتاب «أصل الأنواع». لكنه يُضيف أنهم، إذا كانوا يحملون هذه المشاعرَ حقًّا، ﺑ «قد تحلَّوا بالحس العقلاني السليم وكبحوها داخلهم». بالرغم من ذلك، يبدو من الخطابِ نفسه أن اقتراح منح والدي وسام كوبلي في العام السابق لم يحظَ بالتأييد لحالةٍ مشابهة تتمثَّل في الافتقار إلى الشجاعة الكافية، وهو ما أغضب لايل بشدة.

في عدد دورية «ذا ريدر»، بتاريخ ٣ ديسمبر ١٨٦٤، نُشر تقرير مطوَّل بعض الشيء عن خطاب الجنرال سابين الرئاسي في اجتماعِ ذكرى التأسيس السنوية. ولقد أشيد على نحوٍ خاص بعمل والدي في الجيولوجيا وعلم الحيوان وعلم النبات، أمَّا الإشادة التي حَظِي بها عن كتاب «أصل الأنواع» فهي أنه يتضمَّن «مجموعةً هائلة من الملاحظات … إلى آخره». ومن الغريب أن تكريمه في هذه الحالة لم يكن على عمل حياته العظيم، بل على عملٍ أقل أهميةً في مجالات خاصة، وحدث ذلك أيضًا في حالة انتخابه في المعهد الفرنسي. جاءت الفقرة التي تُشير إلى كتاب «أصل الأنواع» في خُطبة الجنرال سابين على النحو التالي:

«في أحدث أعماله «عن أصل الأنواع»، وبالرغم من أن الآراء قد تكون منقسمةً بشأن جَدارة الكتاب في بعض النواحي أو لم تتحدَّد بعد، فسيعترف الجميع بأنه يحوي مجموعةً هائلة من الملاحظات المتعلِّقة بعادات الحيوانات وبنيتها وصِلات القرابة بينها وتوزيعها، والتي قد لا يوجد ما يُضاهيها في الفائدة والدقة والصبر على الرصد والملاحظة. ربما يميل البعض منا إلى قَبول النظرية التي يُشير إليها عنوان هذا العمل، بينما قد يميل آخرون إلى رفضها، أو على الأقل إرجاء اتخاذ قرار بشأنها إلى وقتٍ ما في المستقبل لحين اكتساب مزيد من المعرفة يُتيح أسبابًا أقوى لقَبولها التام أو رفضها. ولهذا؛ فقد اتفقنا بصفةٍ عامة وبشكلٍ جماعي على حذف هذا العمل صراحةً من الأُسس التي منحْنا الجائزةَ استنادًا إليها.»

أعتقد أنني محق في القول إنَّ بعض زملاء الجمعية شعروا باستياء شديد من أسلوب الرئيس في الحديث عن كتاب «أصل الأنواع».

هذا، وكان منْح وسام كوبلي مفيدًا بطريقة أخرى أيضًا؛ لأنه دفع السير سي لايل، في خُطبته التي ألقاها بعد العشاء، إلى «الجهر بمدى إيمانه بكتاب «أصل الأنواع»». إذ قال في خطابٍ إلى والدي (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلَّد الثاني، الصفحة ٣٨٤): «قلتُ إنني قد اضطُررت إلى التخلِّي عن إيماني القديم دون أن أرى طريقي إلى إيمانٍ جديد بوضوح تام. لكني أظن أنك كنت ستَقنَع بالمدى الذي بلغتُه.»]

من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، ٣ أكتوبر [١٨٦٤]
عزيزي هكسلي

إذا لم أُعبِّر عن إعجابي بمقالك عن كوليكر، فسأنفجر. لم أقرأ في حياتي أيَّ شيء كُتِب بطريقةٍ أفضل منه. تمنَّيت بشدة أن يردَّ أحدٌ على مقاله، بل فكَّرت في أن أفعل ذلك بنفسي، حتى إنني عالجت عدةَ نقاط منها بالفعل. لقد ناقشتَ النقاط كلها، وبعض النقاط الإضافية أيضًا، ويا إلهي، لكم برعت في ذلك! فبينما كنت أواصل القراءة وأصل إلى نقطةٍ تلو الأخرى من النقاط التي كنت أُفكِّر فيها، لم أستطِع تجنُّب السخرية من نفسي والتهكُّم عليها؛ لأنني رأيت كيف أنك أنجزتَ ذلك على نحوٍ أفضل للغاية ممَّا كان يمكنني فِعله. حسنًا، إذا قرأ ذلك أيُّ شخص، ممَّن لا يفهمون الانتقاءَ الطبيعي، فسيكون غبيًّا إذا لم يرَه واضحًا كضوء النهار. لم يكن فلورانس العجوز٢٦ يستحق عناءَ تناولك له على الإطلاق، لكن ما أبرعَ الطريقةَ التي تحدَّثتَ بها عن ذلك «الأكاديمي»، وأرى أن مثالك الذي استخدمته والخاص برمال البحر «فريد من نوعه».

كم أعجب من قدرتك على مقاومةِ التحوُّل إلى ناقدٍ منتظم متفرِّغ! حسنًا، ها أنا ذا قد انفجرت الآن، وقد أراحني ذلك بشدة …

[وفي المقالة نفسِها في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو»، يتحدَّث السيد هكسلي عن كتاب فلورانس، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم الفرنسية، المُشار إليه أعلاه، واصفًا إياه بأنه واحد من «انتقادَين هما الأكثر تفصيلًا واستفاضة» عن كتاب «أصل الأنواع» في ذلك العام. ويقتبس منه الفقرة التالية:

«يواصل السيد داروين قائلًا: «لا يوجد فرقٌ مُطلق بين الأنواع والضروب، ومن المحال أن يوجد مثلُ هذا الفرْق! لقد أخبرتكم بالفعل بأن ذلك خطأ؛ إذ يوجد فرقٌ مُطلق يفصل الأنواعَ عن الضروب.» ويُعلِّق السيد هكسلي على هذا قائلًا: «نظرًا إلى أننا محرومون من بركاتِ وجودِ أكاديمية للعلوم في إنجلترا، فلسنا معتادين أن نرى أبرعَ رجالنا يلقَون مثل هذه المعاملة، حتى ولو من سكرتير دائم.» وبعدما أثبت السيد هكسلي سوءَ فهمِ السيد فلورانس لمسألة الانتقاء الطبيعي، يقول: «أنَّى للمرء أن يعرف كلَّ ذلك عن ظهر قلب، وما أشدَّ ارتياحه وهو يقرأ، في الصفحة ٦٥، جملة «إنني أضع القلم عن السيد داروين»».»

وبخصوص الموضوع نفسِه، كتب والدي في خطاب إلى السيد والاس:

«ثمَّة شخص نافذ مرموق يُدعى فلورانس، ألَّف كتابًا ضعيفًا بعض الشيء ينتقدني فيه، وقد سُررتُ به جدًّا؛ لأنه من الواضح أن عملنا الجيد ينتشر في فرنسا. يتحدَّث كاتبه عن «الافتتان الشديد» بهذا الكتاب، قائلًا إنه «مليء بأفكارٍ فارغة افتراضية».» جاءت الفقرة المشار إليها على النحو التالي:

«ظهر عمل السيد داروين أخيرًا. لا يسَع المرءَ سوى أن يُبهَر بموهبة المؤلِّف. ولكن يا لها من أفكارٍ مبهمة وأفكار خاطئة! فكم يستخدم من المصطلحات الميتافيزيقية ويُقحمها بطريقةٍ غيرِ لائقة في التاريخ الطبيعي، ويتضح أنها محضُ هراء حالما تصطدم بأفكار واضحة؛ أفكار صحيحة! يا لها من لغة طنَّانة فارغة! يا لها من تجسيدات صبيانية عفا عليها الزمن! يا أيها الوضوح، ويا صلابة الروح الفرنسية، ماذا دهاكما؟»]

١٨٦٥

[شهدت هذه الفترة تدهورَ صحته بشدة مُجدَّدًا، لكن قرب نهاية العام، بدأ يتعافى تحت رعاية الدكتور الراحل بينس جونز، الذي فرض عليه نظامًا غذائيًّا صارمًا، و«كاد يجعله يموت جوعًا»، حسب تعبيره. استطاع العملَ على كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» حتى نهاية أبريل تقريبًا، ومنذ ذلك الوقت، لم ينجز أي عمل تقريبًا حتى ديسمبر، باستثناء إلقاء نظرة سريعة على كتاب «أصل الأنواع» من أجل إصدار طبعة فرنسية ثانية. كتب في خطاب إلى السير جيه دي هوكر، قائلًا: «أقرأ كتاب «أصل الأنواع» للمرة الأولى إن جاز القول؛ لأنني أُصحِّح بعضَ ما فيه من أجل إصدار طبعة فرنسية ثانية، وأقسمُ بحياتي، يا صديقي العزيز، أنه كتاب جيد جدًّا، لكن آه، يا إلهي، إن ما أقوم به عمل صعب، وليته قد اكتمل.»٢٧

يُشير الخطاب التالي إلى خُطبةِ دوق آرجايل التي ألقاها أمام الجمعية الملكية في إدنبرة في الخامس من ديسمبر عام ١٨٦٤، والتي ينتقد فيها كتاب «أصل الأنواع». ويبدو أن والدي قرأ خُطبة الدوق كما وردت في صحيفة «ذا سكوتسمان» في السادس من ديسمبر عام ١٨٦٥. وقد كتب لايل في خطاب إلى والدي (١٦ يناير ١٨٦٥، كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلَّد الثاني، الصفحة ٣٨٥): «الخُطبة بمثابةٍ خطوة كبيرة نحو تأييد آرائك، أكبر بكثير، حسب ما أعتقد، ممَّا تبدو عليه عندما تُقرأ بالنظر إلى الانتقادات والاعتراضات فحسب.»]

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٢ يناير ١٨٦٥
عزيزي لايل

أشكرك على خطابك المثير جدًّا للاهتمام. لديَّ ذلك التقديس الإنجليزي الفِطري الحقيقي للرُّتبة الاجتماعية؛ ولذا أردت أن أعرف بشأنِ ما جرى مع الأميرة الملكية.٢٨ سألتَني عن رأيي في خُطبة الدوق، ويسرني أن أُخبرك به. أراها خُطبةً ذكية «للغاية»، مثل جميع ما قرأتُه له؛ لكني لم أتزعزع — ربما ستقول إنه ما من آلهة ولا بشر يستطيعون أن يزعزعوني. أحتجُّ على تكرار الدوق اعتراضه الذي يقول فيه إن الريش اللامع للطائر الطنان الذَّكَر لا يمكن أن يكون قد اكتُسِب عبْر الانتقاء، متغاضيًا تمامًا في الوقت نفسه عن مناقشتي (الصفحة ٩٣، الطبعة الثالثة) التي ذكرتُ فيها اكتساب الجميل من الريش عبْر الانتقاء «الجنسي». ربما يرى الدوق أن هذا غير كافٍ، لكن تلك مسألة أخرى. المقارنة كلها تجعلني أختلف مع الدوق تمامًا في أن الاختلاف في المنقار والجناح والذيل ليس مهمًّا للأنواع المتعدِّدة. ففي النوعَين الوحيدَين اللذَين راقبتُهما، كان الاختلاف في التحليق واستخدام الذيل كبيرًا بوضوح بارز.
ربما يكون الدوق، الذي يعرف كتابي عن السحلبيات جيدًا، قد تعلَّم منه درسًا في الحذر، بخصوص نظريته القائلة بأن الاختلافاتِ موجودة للتنوُّع أو الجمال فحسب. يمكن القول بكل ثقةٍ إنه ما من قبيلة نباتية توجد فيها مثل هذه الاختلافات الشاذة الجميلة، ولم يكن أيُّ شخص يتصوَّر حتى وقتٍ قريب أنها تحمل أيَّ فائدة، لكني استطعت الآن إظهارَ ما لها من فوائد مهمة في كل الحالات تقريبًا. ينبغي أن نتذكَّر أيضًا أن حدوث تعديلٍ ما في جزء واحد لدى الطيور الطنَّانة أو السحلبيات سيُسفر عن تغيُّرات مترابطة في أجزاءٍ أخرى. أتفق مع ما تقوله عن الجَمال. لقد تفكَّرتُ في الموضوع مليًّا قبل ذلك، وهذا التفكير قد هداني تمامًا إلى رفضِ النظرية القائلة بأن الجَمال أُنشئ من أجل الجَمال فحسب. أعترضُ أيضًا على مصطلح «الذُّريَّات الجديدة» الذي استخدمه الدوق. ربما تكون تلك نظريةً جيدة جدًّا، لكنها ليست نظريتي، إلا إذا كان يصف طائرًا وُلِد بمنقارٍ أطول من المعتاد بمقدار جزء واحد من المائة من البوصة بأنه «ذرية جديدة»؛ لكنَّ ذلك ليس هو المعنى الذي يُفهَم به هذا المصطلح في المعتاد. كلما عملتُ ازددت اقتناعًا بأن تراكم مثلِ هذه التباينات الطفيفة للغاية هو ما يُنشئ أنواعًا جديدة. لا أعترفُ بأنني مُذنب في اتهام الدوق لي بأنني نسيت أنَّ الانتقاء الطبيعي يعني الحفاظ على التباينات التي تنشأ نشأةً مستقلة فحسب.٢٩ لقد عبَّرتُ عن هذا بأقوى كلماتٍ استطعت استخدامها، لكنَّ الكلام كان سيصبح مملًّا للغاية لو توخَّيت الحذر بهذه الدرجة في كل مرة. سأصيح قائلًا: «أنا مذنب» عندما أسمع بمهاجمتك أنت أو الدوق لمُربِّي الحيوانات لأنهم يقولون إن الإنسان أنشأ سلالات مُحسَّنةً من الماشية القصيرة القرون أو الحمَام النفاخ أو دواجن بانتام. وكان بإمكاني الاستشهادُ بتعبيرات أقوى بكثير يستخدمها الخبراء الزراعيون. يُنشئ الإنسان سلالاته الاصطناعية؛ لأن قدرتَه الانتقائية لها أهمية أكبر مقارنةً بالتباينات التلقائية الطفيفة. بالرغم من ذلك، فما من أحدٍ سيهاجم المربِّين بسبب استخدامهم هذه التعبيرات، ولن يلومني الجيل الصاعد.
شكرًا جزيلًا على عرضِك إرسالَ كتاب «عناصر الجيولوجيا» إليَّ.٣٠ آمُل أن أقرأه كلَّه، لكنَّ القراءة مع الأسف هي أكثر ما يصيب رأسي بالدُّوار. أستطيع في معظم الأيام أن أعمل لساعتَين أو ثلاث؛ ولهذا تأثيرٌ كبير في مستوى سعادتي. عقدتُ العزم على عدم الاستسلام لأية إغراءات، وألَّا أنشر أيَّ شيء حتى إتمام كتابي عن التباين. لقد أسديتَ إليَّ نصيحةً ممتازة بشأنِ الحواشي السفلية في فصلي المتعلِّق بالكلاب، لكن تكبَّدتُ عناءً شديدًا للغاية في تعديلها، وكثيرًا ما تمنَّيتُ أن تُلقى الكلابُ كلها، وأنتَ شخصيًّا في بعض الأحيان مع الأسف، إلى الجحيم.

نبعثُ نحن (المملي والكاتبة) بأشدِّ محبتنا إلى الليدي لايل.

مع خالص مودتي
تشارلز داروين
ملحوظة: إذا تحدَّثتَ إلى الدوق في أيِّ وقتٍ عن الموضوع، فأرجو منك أن تُخبره بأنَّ خُطبته أثارت بالغَ اهتمامي.

[قال والدي في مُلخَّص سيرته الذاتية إن شعوره بشرفِ اختياره ليكون عضوًا في جمعية إدنبرة الملكية وجمعية إدنبرة الطبية الملكية «فاق شعوره بأي شرف مشابه»؛ وذلك بسببِ ذكريات قديمة مُعيَّنة. تشير الفقرة التالية المقتبسة من خطابٍ إلى السير جوزيف هوكر، إلى اختياره عضوًا في الجمعيتَين السابقتَين. ويُشير الجزء الأخير من الفقرة إلى أكاديمية برلين للعلوم التي اختير عضوًا فيها في عام ١٨٧٨:

«سأخبرك بشيء غريب جدًّا بالنظر إلى أن بروستر هو الرئيس وبَلفور هو السكرتير. لقد وقع عليَّ الاختيار لأكون عضوًا فخريًّا في جمعية إدنبرة الملكية. وهذا يقودني إلى سؤالٍ ثالث. هل تُرسل أكاديمية برلين للعلوم مَحاضرَ اجتماعاتها إلى الأعضاء الفخريين؟ أريد أن أعرف لأتيقَّن ممَّا إذا كنتُ عضوًا أم لا؛ أفترضُ أنني لست كذلك؛ لأنني أعتقد أنني كنت سأتذكَّر ذلك، بالرغم من هذا، أتذكَّر بوضوح أنني تلقَّيتُ شهادةً رسمية ممهورةً بتوقيع إرينبرج. لقد كنت في منتهى الإهمال؛ إذ ضيَّعتُ العديدَ من الشهادات الرسمية، وأُريد الآن أن أعرف الجمعيات التي أنتمي إليها؛ لأنني أُلاحظ أن كل [شخص] يضيف ألقابه إلى اسمه في كتالوج الجمعية الملكية.»]

من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢١ فبراير [١٨٦٥]
عزيزي لايل

لقد تأخَّرتُ كثيرًا في أن أشكرك جزيلَ الشكر على كتاب «عناصر الجيولوجيا» الذي أهديتَني إياه.

أُطالعه كله بإمعان؛ إذ أقرأ كلَّ الأشياء الجديدة، والأشياء التي نسيتها، وهي كثيرة.

إنني شديدُ الانبهار بمقدارِ ما كُثِّف في هذا العمل من جهدٍ ومعرفةٍ وتفكيرٍ واضح. أرى أنه برُمَّته عظيم جدًّا. وما أثار اهتمامي بالأخص هو كلامك عن عمل هير، وحديثك عن قارة أتلانتس. سُررتُ جدًّا بالرأي الذي تتبنَّاه إزاء الموضوع؛ فلطالما رأيت أن فوربس قد أضرَّ به بتشكيل القارات على هواه بكل حرية.

سُررتُ للغاية أيضًا بقراءة حجَّتك المتعلِّقة بتعرية منطقة ويلد، ومُلخَّصك الممتاز عن طبقات بوربيك، وهذه هي النقطة التي وصلتُ إليها حاليًّا في كتابك. لا أستطيع القول إنني مقتنع تمامًا بعدمِ وجود صلةٍ غير تلك التي أشرتَ إليها بين التأثير الجليدي وتكوين أحواض البحيرات؛ لكنك لن تولي رأيي في هذه النقطة قيمةً كبيرة؛ لأنني غيَّرت رأيي بالفعل حوالي ست مرات.

أُريد أن أعرض عليك اقتراحًا. لقد وجدت أن وزن مجلَّدك لا يُحتمل، لا سيما عندما يُمسكه المرء مستلقيًا؛ لذا فلتتحلَّ بجرأة كبيرة وتقسمه إلى جزأَين، وتُخرجه من غلافه؛ ألَا يستطيع أن يُضيف موراي الآن، دون أي تغيير آخر، إلى إعلانه سطرًا يقول فيه «إذا جُلِّد في مجلَّدَين، فسيتكلَّف مبلغًا إضافيًّا قدرُه شلن أو شلن وستة بنسات»؟ وبهذا تكون قد أجريت تغييرًا سيكون بمثابة نعمة لجميع القُرَّاء ذوي الأيادي الضعيفة.

مع أصدق تحياتي يا عزيزي لايل
لك بالغ إخلاصي
تشارلز داروين

فلتمُنَّ «بنعمة حقيقية» ثانية، وتطلب قطع حواف الأوراق آليًّا، ككتاب مجلَّد.

من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
داون، ١١ يونيو [١٨٦٥]
عزيزي لوبوك

تُلِي عليَّ النصف الأخير من كتابك،٣١ والأسلوب واضح وسهل جدًّا (كلٌّ من القارئ والمستمع يراه مثاليًّا) إلى حد أنني أبدأ الآن من البداية. لا يمكنني مقاومةُ إخبارك بمدى روعةِ الكيفية التي كتبتَ بها ذاك الفصلَ المثيرَ للاهتمام عن حياة الهمج، من وجهة نظري. وبالرغم من أنك قد جمعت الموادَّ فقط بالطبع، جاءت النتيجة النهائية العامة في غاية الإبداع والأصالة. لكن يجدُر بي أن أحتفظ بمصطلح الأصالة لأصف به فصلَك الأخير، الذي أراه نِقاشًا عميقًا مثيرًا للإعجاب. لقد أسعدني بشدة؛ لأن الجمهور سيرى معدنك الأصلي، الذي أفتخر أنني أعرفه بالفعل قبل دَزِّينة من الأعوام.

أتمنَّى لك من صميم قلبي كلَّ التوفيق في انتخابك وفي السياسة. وبعدما قرأتُ ذاك الفصل الأخير، يجب أن تدعني أقول: وي! وي! وي!

مع خالص مودتي
سي داروين
ملحوظة: إنك تكيل لي مديحًا رائعًا،٣٢ لكني أخشى أن يسخرَ منك بعضُ أصدقائك بسبب هذا المديح ويتهموك بالمبالغة.

[يشير الخطاب التالي إلى كتاب فريتز مولر، «من أجل داروين»، الذي ترجمه السيد دالاس لاحقًا بِناءً على اقتراح والدي. وهو مهم لأنه باكورةُ سلسلةٍ طويلة من الخطابات التي كتبها والدي إلى هذا العالِم البارز المتخصِّص في التاريخ الطبيعي. وصحيحٌ أنهما لم يلتقيا قط، لكن مراسلاته مع مولر، التي استمرَّت حتى نهاية حياة والدي، كانت مصدرَ سعادة بالغة له. وأعتقد أن فريتز مولر أكثرُ مَن كان يحظى بتقدير والدي، من بين كل أصدقائه الذين لم يلتقِهم. تجدر الإشارة إلى أنَّ لفريتز مولر شقيقًا آخرَ من البارزين أيضًا، وهو الراحل هيرمان مولر، مؤلِّف كتاب «تلقيح الأزهار»، والعديد من الأعمال القيِّمة الأخرى:]

من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، ١٠ أغسطس [١٨٦٥]
سيدي العزيز

ظَلِلت مريضًا لفترة طويلة جدًّا إلى حد أنني لم أنتهِ من الاستماع إلى تلاوة كتابك عن الأنواع إلا الآن. والآن يجب أن تسمح لي بأن أشكرك من صميم قلبي على الاهتمام البالغ الذي أثاره في نفسي خلال قراءته. لقد قدَّمتَ خدمةً جليلة للقضية التي يؤمن بها كلانا. أرى العديدَ من حُججك ممتازًا، والعديد من حقائقك رائعًا. ومن بين هذه الحقائق، كان أشدَّها مفاجأةً لي شَكلَا الذكورِ. ذلك أنني عكفتُ مُؤخَّرًا على دراسة حالات النباتات الثنائية الشكل، وأرغب بشدة في أن أرسل إليك ورقةً أو اثنتَين من أوراقي البحثية إذا عرفتُ السبيل إلى ذلك. لقد بعثتُ إليك مؤخَّرًا من خلال البريد بورقةٍ بحثية عن النباتات المتسلِّقة، وذلك على سبيل التجرِبة لأعرف ما إذا كانت ستصل إليك أم لا. من النقاط التي لفتت انتباهي للغاية في ورقتك هي تلك المتعلِّقة بالاختلافات الموجودة في جهاز تنفُّس الهواء لدى الأشكال المتعدِّدة. لقد رأيت هذا الموضوع مهمًّا جدًّا عندما كنتُ أدرس الجهاز الكهربائي لدى الأسماك من قبل. أرى أن ملاحظاتك المتعلِّقة بالتصنيف وعلم الأجنة جيدةٌ جدًّا وتتسم بالأصالة والإبداع. فهي تُظهِر أن مجال دراسة تطوُّر القشريات رائع جدًّا، وهي أكثرُ ما أقنعني بوضوحٍ أننا سنصل إلى نتائجَ رائعة في مجال التاريخ الطبيعي في غضونِ بضع سنوات. ما أروعَ مجموعة البِنَى الموجودة لدى القشريات، وما أشدَّ ملاءمتها لموضوع بحثك! لم أكن أعرف شيئًا عن جذموريات الرءوس حتى قرأتُ كتابك، أرجو منك أن تلقي نظرةً على ما أوردتُه من سردٍ وأشكال عن برنقيلات الأنلازما Anelasma؛ لأنني أرى أن هذه البرنقيلات، المنتمية إلى هدابيات الأرجل، بمثابة حلقة وصل جميلة بجذموريات الرءوس.
إذا سنحت لك أيُّ فرصة، فأنا ألتمس منك، بما أنك مُشرِّح ماهر جدًّا، أن تنظر إلى الفتحة الموجودة في قاعدة أول زوج من الأهداب في هدابيات الأرجل، وإلى العضو الغريب الموجود فيها، وتكتشف ماهيته؛ فأنا أظنني كنت مخطئًا تمامًا، وإن كنتُ لا أستطيع أن أقتنع تمامًا بملاحظات كرون. وإذا وجدت أيًّا من أنواع جنس السكالبيلوم Scalpellum على الإطلاق، فأرجو أن تبحث عن ذكورٍ مُكمِّلة؛ إذ شكَّك كاتب ألماني في ملاحظتي مُؤخَّرًا لمجرَّد أن الحقائق بدت له شديدة الغرابة.

اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك من أعماق قلبي على السرور الذي غمرني به كتابك، وأن أُعبِّر عن إعجابي الصادق بأبحاثك القيِّمة.

مع أصدق تحياتي واحترامي يا سيدي العزيز
لك بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة: لا أعرف ما إذا كنتَ مهتمًّا على الإطلاق بالنباتات، ولكن إذا كنتَ كذلك، أود أن أُرسل إليك كتابي الصغير عن «تلقيح السحلبيات»، وأظن أن لديَّ نسخةً ألمانية.

هل تستطيع أن تعطيني صورةً فوتوغرافية لك؟ أرغب جدًّا في أن تكون لديَّ صورة لك.

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الخميس، ٢٧ [سبتمبر ١٨٦٥]
عزيزي هوكر

كنتُ أعتزم أن أكتب صباح اليوم خطابًا أشكر فيه السيدة هوكر من صميم قلبي على رسائلها الأخيرة والمتعدِّدة التي حدَّثَتني فيها عن أحوالك، والآن قد سُررتُ للغاية برسالتك المكتوبة بخط يدك. من الرائع جدًّا أنك مشيت مسافةً تتراوح بين خمسة وستة أميال، لا شك أنك ستتعافى قريبًا إذا تحلَّيت بقليل من الصبر. عرفتُ أنك كنت مريضًا جدًّا، لكني لم أكن أعرف إطلاقًا مدى شدة هذا المرض، حتى يوم أمس، عندما أتى بينثام (من آل كرانورث)٣٣ إلى هنا، وتمكَّنت من لقائه لعشر دقائق. لقد حدَّثني قليلًا عن أيام والدك الأخيرة، وأتمنَّى لو أن معرفتي بوالدك كانت أقوى؛ فانطباعي عنه مقتصرٌ على سلوكه الودود الدمث الصريح إلى حدٍّ لافت. أتفق كليًّا مع ما تقوله عن اختلاف الشعور عند فقدان أبٍ وعند فقدان طفلة، وأتفهَّمه تمامًا. لا أظن أن أي شخص من الممكن أن يُحب أباه أكثرَ ممَّا أحببتُ أبي، وأعتقد أنه لا تمر بي ثلاثة أيام أو أربعة حتى الآن إلا وأنا أُفكِّر فيه، لكن موته في الرابعة والثمانين من عمره لم يُشعرني بمثقال ذرة من الحزن الذي انتابني عند فُقدان عزيزتنا المسكينة آني والذي كان لا يُطاق.٣٤ وهذا يبدو لي طبيعيًّا تمامًا؛ لأنَّ المرء يعرف أن وفاةَ أبيه تقترب ببطء شيئًا فشيئًا قبلها بسنوات، في حين أن وفاة طفله أو طفلته تكون وجعًا مفاجئًا لا يُحتمل. من الرائع أنك تقرأ بهذا القدر؛ فأنا أتأذَّى للغاية من عجزي عن قراءة أي شيء تقريبًا؛ لأن القراءة تُصيب رأسي بدُوار عنيف على الفور تقريبًا. صحيحٌ أن نساء أسرتي الطيبات يقرأن لي كثيرًا، لكني لا أجرؤ على أن أطلب منهن أن يقرأن لي الكثير من العلم، ولستُ متيقِّنًا ممَّا إذا كنتُ أستطيع تحمُّل ذلك. استمتعتُ بكتاب تايلور٣٥ «للغاية»، والجزء الأول من كتاب ليكي؛٣٦ لكني أرى أن الجزء الأخير غامضٌ في معظم أجزائه، ويعطي انطباعًا ظاهريًّا خاطئًا بأنه يلقي الضوء على موضوعه بعباراتٍ على غرار «روح العصر»، و«انتشار الحضارة»، وما إلى ذلك. لا أقرأ سوى ربع ساعة في اليوم أو نصف ساعة، وأكتفي خلال ذلك بتصفُّح المجلَّدات القديمة لمجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، وأجد الكثيرَ ممَّا يُثير اهتمامي. أفتقدُ نباتاتي المتسلِّقة جدًّا؛ لأنني أستطيع العمل على ملاحظتها عندما أكون مُتوعِّكًا بشدة.
لم أستمتِع بكتاب «الطاحونة على نهر فلوس» قدرَ استمتاعك به، لكننا سنقرؤه مرةً أخرى بِناءً على ما تقوله. هل تعرف «سيلاس مارنر»؟ إنها رواية قصيرة ساحرة، إذا لم يتبقَّ لديك كتبٌ جديدة لتقرأها، وأردت الحصولَ على هذه الرواية، فيُمكننا إرسالها إليك بالبريد … كدنا ننتهي من قراءة مُجلَّد بالجريف الأول،٣٧ وأنا معجَب به جدًّا، لكن هل رأيت من قبلُ كتابًا على هذه الدرجة من سوء الترتيب؟ فتكرار التلميحات إلى ما سيُقال لاحقًا مثيرٌ جدًّا للضحك … بالمناسبة، سُررتُ جدًّا بالحاشية السفلية الواردة عن والاس في الفصل الأخير من كتاب لوبوك.٣٨ لم أكن أعرف أن هكسلي قد دعم لوبوك بخصوص مسألةِ دخول البرلمان … هل رأيت تلك الملاحظةَ الساخرة التي وردت في صحيفة «ذا تايمز» منذ فترةٍ عن أن السياسةَ أكثر إثارةً للاهتمام من العلم بكثيرٍ جدًّا، حتى لرجال العلم أنفسهم؟ تَذكَّر ما يقوله ترولوب، في رواية «هل تستطيع أن تسامحها؟» عن أن الانضمام إلى البرلمان هو أعلى طموح دنيوي. أتذكَّرُ أن جيفري قال، في أحد خطاباته، إن إلقاء خُطبة مُؤثِّرة في البرلمان أعظمُ بكثير من كتابة أعظم الأحداث التاريخية. غير أن هذا كلَّه يبدو لي رؤيةً قاصرة ضعيفة. لا أستطيع أن أصف لك مدى سعادتي برؤية خط يدك مُجدَّدًا؛ يا أعز أصدقائي القدامى.
مع خالص مودتي
سي داروين

[في أكتوبر، كتب في خطاب إلى السير جيه دي هوكر:

«بمناسبة الحديث عن كتاب «أصل الأنواع»، لَفَت رجلٌ أمريكي انتباهي إلى ورقةٍ بحثية مرفقة بالكتاب الشهير «مقالة عن الندى»، الذي ألَّفه الدكتور ويلز، وقُرئ في عام ١٨١٣ أمام الجمعية الملكية، لكنَّه لم يُطبَع [آنذاك]، وهو يُطبِّق فيها مبدأ الانتقاءَ الطبيعي بوضوحٍ شديد على أعراق الإنسان. أي إن باتريك ماثيو العجوز المسكين ليس الأول، ولا يستطيع بعد الآن أن يضع على صفحات عناوين كتاباته جُملة «مكتشف مبدأ الانتقاء الطبيعي»، أو الأحرى أنه لا ينبغي له ذلك!»]

من تشارلز داروين إلى إف دبليو فارار٣٩
داون، ٢ نوفمبر [١٨٦٥؟]
سيدي العزيز

لأنني لم أدرس علمَ اللغة قط، ربما قد يبدو ذلك تصرُّفًا وقحًا، لكني لا أستطيع مقاومةَ لذة إخبارك بمقدارِ ما استقيته من فائدةٍ ومتعة من الاستماع إلى كتابك يُقرَأ عليَّ.٤٠

لقد قرأتُ كتابات ماكس مولر سابقًا، وارتأيتُ أن نظريته (إذا كانت تستحق أن تُسمَّى بالنظرية) مبهمة وضعيفة، والآن، بعدما سمعتُ ما تقوله، صرتُ مُتيقِّنًا من أن هذا صحيح بالفعل، وأن قضيتك ستنتصر في النهاية. لقد ازداد اهتمامي غير المباشر بكتابك بسبب السيد هينزلي ويدجوود، الذي تستشهد بكلامه مرارًا؛ لأنه شقيق زوجتي.

لا يمكن لأحد أن يعارض آرائي عن تعديل الأنواع بطريقة أكثر تأدُّبًا من تلك التي تعارضني بها. بالرغم من ذلك، فبِناءً على الطابع الذي يتسم به عقلك، تراودني قناعةٌ تامة خالية من أي ريب (ولا يمكن زعزعتها) بأن دراساتك إذا دفعتك إلى الاهتمام بالمسائل العامة في التاريخ الطبيعي كثيرًا، فستصل إلى النتيجة نفسها التي توصَّلتُ إليها.

هل سبق لك على الإطلاق أن قرأت كُتَيب محاضرات هكسلي؟ سأرسل إليك نسخةً بكل سرور إذا ارتأيتَ أنك تود قراءته.

بالنظر إلى ما تُعلِّمنا إياه الجيولوجيا، أرى أن الحجة القائمة على افتراض عدم قابلية أنواعٍ معينة للتغيُّر شبيهة جدًّا بأن يقول همجي عجوز حكيم ما، في أمة ليس لديها كتابات قديمة، إن لغته لم تتغيَّر قط؛ لكنَّ استعارتي أطول من أن أستطيع إكمالها.

مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي وامتناني يا سيدي العزيز.

سي داروين

١٨٦٦

[دُوِّنت أبرز أحداث عام ١٨٦٦ في دفتر يوميات والدي بالكلمات التالية:

«واصلتُ تصحيح فصول «تباين الحيوانات والنباتات».

١ مارس: بدأتُ في العمل على الطبعة الرابعة من كتاب «أصل الأنواع»، التي تكوَّنت من ١٢٥٠ نسخة (تقاضى مقابلها ٢٣٨ جنيهًا إسترلينيًّا)، ما جعل إجمالي نسخ الكتاب ٧٥٠٠ نسخة.

١٠ مايو: أتممتُ كتاب «أصل الأنواع»، باستثناء التنقيحات، وبدأتُ في مراجعة الفصل الثالث عشر من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات».

٢١ نوفمبر: أتممتُ الجزء المتعلِّق بفرضية «شمولية التكوين».

٢١ ديسمبر: أتممتُ إعادةَ مطالعة الفصول كلها، وأرسلتها إلى المطابع.

٢٢ ديسمبر: بدأتُ الفصل الختامي من الكتاب.»

ذهب إلى لندن مرتَين، وظلَّ هناك أسبوعًا في كل مرة حيث مكث مع شقيقه، وأقام بضعة أيام (من ٢٩ مايو إلى ٢ يونيو) في سُري؛ وقضى في داون بقيةَ العام.

ويبدو أن صحته شهدت تحسُّنًا تدريجيًّا؛ فهكذا قال في خطاب إلى السيد والاس (يناير ١٨٦٦): «صحتي في حالةٍ جيدة حتى الآن إلى حد أنني أستطيع العملَ ساعة أو اثنتَين في اليوم.»

كَتَب خطابًا إلى السير جيه دي هوكر بخصوص الطبعة الرابعة، قائلًا:

«لقد ضايقَتني الطبعة الجديدة من «أصل الأنواع» جدًّا بسبب أمرَين. الأول أنني نسيتُ ورقة بيتس عن التباين،٤١ لكني تذكَّرت في الوقت المناسب عمله عن المحاكاة التنكُّرية، والآن، اكتشفتُ أنني نسيت ورقتك عن القطب الشمالي، وهذا غريب! أعرف كيف حدث ذلك؛ لقد فهرستُ الموضوعات التي سُتدرَج في عملي الأكبر، ولم أتوقَّع قَط أنني سأطالَب بإصدار طبعة جديدة من كتاب «أصل الأنواع».

لا أستطيع أن أصف كم أن هذا كلَّه ضايقني. كلُّ ما قرأته في السنوات الأربع الماضية وجدته باهتًا جدًّا في ذهني.» على حد علمي، لم تُذكَر ورقةُ السيد بيتس في الطبعات اللاحقة من «أصل الأنواع»، ولا يمكنني معرفة السبب.

أعرضُ هنا مقتطفاتٍ من ثلاثة خطابات أرسلها إلى السيد هكسلي بخصوص كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، وهي مهمة لأنها تُعطي فكرةً ما عن تطوُّر نظرية «شمولية التكوين»، التي نُشرت في النهاية في ١٨٦٨ في الكتاب محل النقاش:]

من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، ٢٧ مايو [١٨٦٥؟]

… أكتبُ الآن لأطلب منك صنيعًا، وهو صنيع جليل جدًّا من شخصٍ دءوب مثلك. أطلب منك أن تقرأ ثلاثين صفحةً من مخطوطة منسوخة بجودة ممتازة، ولستُ أطلب منك أن تُقدِّم عليها انتقاداتٍ مُطوَّلة، بل رأيك فيما إذا كان بإمكاني أن أتجرَّأ على نشرها. يمكنك الاحتفاظُ بالمخطوطة شهرًا أو اثنَين. لم أكن سأطلب هذا الصنيع، لكني «صدقًا» لا أعرف أي شخص آخر سيكون حكمه على هذا الموضوع حاسمًا نهائيًّا من وجهة نظري.

الموقف كالتالي: سأنشر في كتابي القادم فصولًا طويلةً عن تباين البراعم والبذور، وعن الوراثة والارتداد، وآثار الاستخدام وعدم الاستخدام، وغير ذلك. وأنا أُفكِّر أيضًا منذ سنوات عديدة بشأن أشكال التكاثر المختلفة. ومن ثَم، صرتُ شغوفًا بمحاولة الربط بين كل هذه الحقائق بفرضيةٍ ما. والمخطوطة التي أود إرسالها إليك تُقدِّم هذه الفرضية؛ صحيح أنها فرضية مُتسرِّعة ومبدئية جدًّا، لكنها منحتني ارتياحًا عقليًّا كبيرًا، وأستطيع أن أبني عليها مجموعاتٍ كثيرةً جدًّا من الحقائق. أعرف جيدًا أن الفرضية عندما تكون فرضيةً بحتة، وهذه لا تعدو كونها ذلك، تكون ضئيلةَ القيمة، لكنَّ هذه الفرضية مفيدة جدًّا لي لأنها تُعَدُّ بمثابة تلخيص لفصولٍ مُعيَّنة. الآن، أرغبُ بشدة في أن تُصدِر حكمك بإيجاز، كأن تقول لي «احرقها»، أو تقول، وهذا هو أفضلُ حُكمٍ مُستحسن يُمكن أن أتمنَّاه، «إنها تربط ربطًا مبدئيًّا بين حقائقَ مُعيَّنة، ولا أظنها ستفارق عقلي على الفور». إذا استطعت أن تقول هذا القدر الكبير، ولم تَرَها سخيفةً تمامًا، فسأنشرها في فصلي الختامي. الآن هل ستسدي إليَّ هذا الصنيع؟ يجب أن ترفض إذا كنت منهكًا من فرط العمل.

يجب أن أقول عن نفسي إنني بطل لأنني أُعرِّض فرضيتي لمصيبة انتقادك الشديدة.

١٢ يوليو [١٨٦٥؟]
عزيزي هكسلي

أشكرك من صميمِ قلبي على أنك درست مخطوطتي بإمعانٍ شديد جدًّا. لقد كان هذا تصرُّفًا لطيفًا حقًّا. كنتُ سأتضايق للغاية لو أنني أعدتُ نشر آراء بوفون، والتي لم أكن أعرف بها، لكني سأحصل على الكتاب؛ وإذا أسعفتني عافيتي، فسأقرأ ما كتبه بونيه أيضًا. لا أشك في أن حكمك عادلٌ تمامًا، وسأحاول إقناعَ نفسي بعدم النشر. المسألة برُمَّتها أشدُّ اعتمادًا على التخمين ممَّا ينبغي، وإن كنتُ أرى أنه سيتحتَّم تبني مثل هذه الرؤية، عندما أتذكَّر بعضَ الحقائق مثل الآثار الموروثة للاستخدام وعدم الاستخدام، وما إلى ذلك. لكني سأُحاول توخِّي الحذر …

 [١٨٦٥؟]
عزيزي هكسلي

سامحني على كتابتي بالقلم الرصاص؛ فهذا ما أستطيع فِعله وأنا مستلقٍ. قرأتُ ما كتبه بوفون؛ توجد صفحاتٌ كاملة تشبه ما كتبتُه إلى حدٍّ مثير للضحك. من المدهش كَم أن المرء يصبح صادقًا عندما يرى آراءه ممثَّلةً في كلماتِ رجلٍ آخر. إنني خجلان بعضَ الخجل من المسألة برُمَّتها، لكني لم أُصبح غير مؤمن بها. لقد أسديت لي صنيعًا كبيرًا ﺑ «حدة ملاحظتك الثعلبية». ومع ذلك، يوجد فرقٌ جوهري بين آراء بوفون وآرائي. فهو لا يفترض أن كل خلية أو ذرة من الأنسجة تطرح برعمًا صغيرًا، بل يفترض أن النسغ أو الدم يتضمَّن «جزيئاتِه العضوية»، «التي تتشكَّل بالفعل» ملائمةً لتغذية كل عضو، وعندما يكتمل تشكيلُ هذا العضو، تتجمَّع هذه الجزيئات لتُشكِّل البراعمَ والعناصر الجنسية. صحيحٌ أن التكهُّن بالطريقة التي تكهَّنتُ بها محضُ هراء، لكني، إذا أسعفتني عافيتي على الإطلاق لنشر كتابي القادم، أخشى ألَّا أُقاوم إغراءَ فرضية «شمولية التكوين»، لكني أُؤكِّد لك أنني سأُدرجها بتواضعٍ كافٍ. أرى أن المسار العادي لتطوُّر الكائنات التي تتكوَّن فيها أعضاءٌ جديدة في مواضعَ بعيدة جدًّا عن الأجزاء السابقة المشابهة، مثل كائنات شوكيات الجلد، من الصعب للغاية أن يتوافق مع أي رأي ما عدا الرأي القائل بوجود انتشارٍ حر في أصل أجنَّة كل عضو جديد منفصل أو بُريعماته، وكذلك الأمر في حالات الأجيال المتعاقبة. لكني لن أُطيل الثرثرة عن هذا القدر. أشكرك من صميم قلبي يا أفضلَ النقاد وأعلم الرجال …

[تتناول الخطابات التالية تاريخ عام ١٨٦٦.]

من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ٥ يوليو [١٨٦٦]
عزيزي والاس

أثار خطابك، الذي كان جليًّا كضوء النهار، بالغَ اهتمامي. أتفق تمامًا مع كلِّ ما تقوله عن محاسن مصطلح «البقاء للأصلح» الممتاز الذي ذكره إتش سبنسر.٤٢ ومع ذلك، لم يخطر هذا ببالي قط. ولكن ثمَّة اعتراض قوي على هذا المصطلح؛ وهو أنه لا يُمكن أن يُستخدَم كاسمٍ يأتي متبوعًا بفعل، وهذا اعتراض حقيقي استنتجتُه من أن إتش سبنسر يستخدم كلمتَي الانتقاء الطبيعي باستمرار. كنت أظن سابقًا، بدرجةٍ مُبالغ فيها على الأرجح، أن الربط بين الانتقاء الطبيعي والانتقاء الاصطناعي مفيدٌ جدًّا، وهذا قادني بالفعل إلى استخدام مصطلح شائع، وما زلت أرى هذا مفيدًا بعض الشيء. ليتني تلقَّيت خطابك قبل شهرَين؛ لأنني كنت سأُضيف مصطلح «البقاء، إلخ» مرارًا في الطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»، الذي أوشك الآن أن يُطبَع، والذي سأرسل إليك نسخةً منه بالتأكيد. سأستخدم المصطلح في كتابي القادم عن الحيوانات والنباتات الداجنة، والذي أرى جليًّا، بالمناسبة، أنك تتوقَّع منه «الكثير»، بل أكثر ممَّا ينبغي. لقد صار مصطلح الانتقاء الطبيعي يُستخدَم الآن بكثرةٍ هائلة جدًّا، داخل البلاد وخارجها، إلى حد أنني أشكُّ فيما إذا كان التخلي عنه سيكون ممكنًا، وبرغم كل عيوبه، سأشعر بالأسف إذا نجحت محاولات التخلي عنه. لا شك أن مسألة نبذه أو مواصلة استخدامه تعتمد الآن على مصطلح «البقاء للأصلح». فبينما سيصبح المصطلح مفهومًا مع مرور الوقت بالتأكيد، ستصبح الاعتراضات على استخدامه أضعف وأضعف. أشكُّ فيما إذا كان استخدام أيٍّ من المصطلحَين سيجعل الموضوع مفهومًا لبعض العقول، حتى وإن كان واضحًا لعقولٍ أخرى؛ أفلا نرى أن فكرة مالتوس عن السكان لم تزل تُفهَم على نحوٍ خاطئ بسخافةٍ غير معقولة حتى إلى يومنا هذا؟ كثيرًا ما أتعزَّى بالتفكير في مثال مالتوس عندما أتضايق من تحريف آرائي. أمَّا بخصوص السيد جانيه؛٤٣ فهو ميتافيزيقي، ومثل هؤلاء الرجال أذكياء جدًّا إلى حدِّ أن عامة الناس كثيرًا ما يسيئون فهمهم، حسب ما أظن. إن انتقادك الذي ذكرتَه بخصوص المعنى المزدوج٤٤ الذي استخدمتُ به مصطلح الانتقاء الطبيعي جديدٌ عليَّ وليس عندي ردٌّ عليه، لكنَّ خطئي لن يُحدث ضررًا؛ فأنا لا أظن أن أحدًا سواك، قد لاحظه. أُقرُّ مجدَّدًا بأنني بالغت في إكثار الحديث عن «التباينات المواتية»، لكنِّي أظن أنك تطرح الفكرةَ المعاكسة بقوةٍ مُبالغ فيها؛ فلو أن كل جزء من كل كائن قد تباين، لا أظن أننا سنشهد الوصول إلى الغاية نفسها، أو الهدف نفسه، بمثل هذه الوسائل المتنوِّعة إلى حدٍّ مثير للعجب.

آمُل أنك تستمتع بالريف، وتحظى بصحةٍ جيدة، وتعمل بجدٍّ على كتابك عن أرخبيل الملايو؛ لأنني سأضع هذه الأمنيةَ دائمًا في كل رسالة أكتبها لك، كما يفعل بعض الأشخاص الصالحين؛ إذ يضعون نصًّا مقدَّسًا. لا تزال صحتي كما هي إلى حدٍّ كبير، أو تتحسَّن بعضَ التحسُّن، وأستطيع العمل يوميًّا لبضع ساعات. مع جزيل الشكر على خطابك المثير للاهتمام.

لك أصدق التحيات يا عزيزي من صديقك المخلص
سي داروين

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٣٠ أغسطس [١٨٦٦]
عزيزي هوكر

سُررتُ جدًّا بتلقي رسالتك وصحيفة نوتنجهام. نادرًا ما شعرت في حياتي بسعادةٍ أشدَّ من تلك التي انتابتني عند معرفة مقدار النجاح الباهر الذي حقَّقته محاضرتك.٤٥ أرسلَت إلينا السيدة إتش ويدجوود وأخبرتنا أنك قرأت المحاضرةَ ببراعة، وسط إصغاء الحاضرين باهتمام شديد وتصفيق حار. فهي تقولُ «بقينا جميعًا حائرين لدقيقةٍ أو اثنتَين»، عندما بدأتَ في إلقاء استعارتك الأخيرة،٤٦ ثم هَبَّت عواصفُ التصفيق هذه من الجمهور. لقد استمتعوا بها للغاية وسط صيحاتٍ من القهقهة والصخب، ممَّا جعل ختام المحاضرة باهرًا جدًّا.

سُررتُ بأنك ستنشر محاضرتك، وكنت متيقِّنًا من أن هذا سيحدث عاجلًا آم آجلًا، بل إن عدم نشرك لها كان سيُعدُّ خطيئة. وما يسرني بالأخص أنك تُقدِّم الحججَ المؤيِّدة للانتقال العَرَضي بإنصاف تام، ومن ثمَّ فستحظى الآن بنصيبٍ عادل من الاهتمام؛ إذ وردَت من متخصِّص متمرِّس في علم النبات مثلك. أشكرك أيضًا على خُطبة جروف؛ أراها جيدةً وإبداعية جدًّا ككل، لكن الجزء المتعلِّق بالأنواع أصابني بخيبةِ أمل؛ إذ تَنَاول الموضوع بتعميماتٍ جعلته قابلًا للتطبيق على أي رأي أو غير قابل للتطبيق على رأي محدَّد …

والآن، إلى اللقاء. إنني مسرور جدًّا من صميم قلبي بنجاحك، ومسرور لجروف بالنجاح الباهر الذي حقَّقه التجمُّع كله.

مع خالص مودتي
تشارلز داروين

[الخطاب التالي مهم لأنه يعرض بدايةَ العلاقة التي نشأت بين والدي والبروفيسور فيكتور كاروس. والترجمة المشار إليها هي الطبعة الألمانية الثالثة التي نُقِلَت عن الطبعةِ الإنجليزية الرابعة. ومنذ ذلك الحين، واصل البروفيسور كاروس ترجمةَ كتب والدي إلى الألمانية. وتجدُر الإشارة إلى أن العناية الدقيقة التي أُنجِزت بها هذه الترجمات قد جاءت بنفعٍ عظيم، وأتذكَّر جيدًا ما كان والدي يُبديه عادةً من إعجاب (وإن كان ممتزجًا بقدرٍ طفيف من الضيق من أخطائه) عند استقبال الملاحظات بشأنِ ما غفَل عنه، وما إلى ذلك، والتي كان البروفيسور كاروس يكتشفها في أثناء الترجمة. لم تكن علاقتهما تقتصر على العمل، بل توطَّدت بمشاعر الاحترام الودية من كلَيهما.]

من تشارلز داروين إلى فيكتور كاروس
داون، ١٠ نوفمبر ١٨٦٦
سيدي العزيز

أشكرك على خطابك اللطيف للغاية. لا أستطيع التعبير بما يكفي عن مدى رضاي بأنك تولَّيت مراجعةَ الطبعة الجديدة، وأنا أُدرك الشرف الذي منحتني إياه. أخشى أن تجد ما ستبذله من جهدٍ هائلًا، ليس بسبب الإضافات فقط، لكني أظن أن ترجمة برون مليئة بالعيوب، لقد سمعت على الأقل شكاوى بخصوص هذه النقطة من أناسٍ كثيرين جدًّا. سأسعدُ جدًّا إذا عرفتُ أن الترجمةَ كانت جيدةً حقًّا، كالتي لا أشك في أنك ستُنجزها. وفقًا لعادتنا الإنجليزية، سيكون من حَقِّك تمامًا أن تحذف ملحقَ برون كله، وسأسعدُ جدًّا بحذفه. فيمكن أن نَعُدَّ الطبعة الجديدة كتابًا جديدًا … تستطيع إضافة أي شيء من وحي قريحتك كما تشاء، وهذا سيسعدني جدًّا. إذا أدرجت أي إضافات أو ألحقت أيَّ ملحوظات، فأرى أن الخطاب الذي ألقاه ناجيلي بعنوان «أصل ومفهوم، إلخ»٤٧ سيكون جديرًا بالذكر، بصفته أحد أكفأ الكُتَيبات عن هذا الموضوع. ومع ذلك، فأنا بعيد كل البعد عن الاتفاق معه في أن اكتساب طباعٍ معينة تبدو غير مفيدة للنباتات يُشكِّل مشكلةً كبيرة، أو يُقدِّم دليلًا على وجودِ نزعةٍ فطرية في النباتات نحو الكمال. إذا نويتَ الإشارةَ إلى هذا الكُتَيب، فسأستفيض لاحقًا في ذكرِ بعض التفاصيل الإضافية عن الموضوع.

… ليتني كنت أعلم عند كتابة مُلخصي التاريخي أنك نشرت في عام ١٨٥٣ آراءك عن الارتباط النَّسَبي بين الأشكال السابقة والحالية.

أفترضُ أن لديك أوراقَ الطبعة الإنجليزية الأخيرة التي وضعتُ فيها علاماتٍ بالقلم الرصاص على كل الإضافات الرئيسية، لكنها تحوي العديد من التصحيحات البسيطة في الأسلوب غير مُعلَّمة.

أرجو أن تُصدِّق أنني ممتن بكلِّ صدق للخدمة الجليلة والشرف الكبير اللذَين منحتني إياهما بالترجمة الحالية.

سأظل، يا سيدي العزيز، أُكنُّ لك بالغَ إخلاصي
تشارلز داروين
ملحوظة: سأكون سعيدًا «للغاية» بالحصول على صورتك الفوتوغرافية، وأُرسلُ إليك صورتي إذا كنت تود الحصول على نسخة منها.

من تشارلز داروين إلى سي ناجيلي٤٨
داون، ١٢ يونيو [١٨٦٦]
سيدي العزيز

أرجو أن تسامحني على إرسال خطابٍ إليك من تلقاء نفسي دون إذن. لقد قرأت للتو كُتَيبك «أصل ومفهوم، إلخ»، وإن كانت قراءةً غير مُتقَنة، وقد أثار بالغَ اهتمامي إلى حد أنني أرسلته ليُترجَم؛ لأنني ضعيف في اللغة الألمانية. أتممت للتو طبعةً جديدة [رابعة] من كتابي «أصل الأنواع» ستُترجَم إلى الألمانية، وغايتي من إرسال هذا الخطاب هي إخبارك بأنك، إذا طالعت هذه الطبعة، فستظن أنني اقتبست منك مناقشتَين عن جمال الزهور والثمار، دون الاعتراف بذلك، لكني أُؤكِّد لك أن كلَّ كلمة كانت قد طُبِعَت بالفعل قبل أن أفتح كُتَيبك. إذا كنت ترغب في الحصولِ على نسخة من الطبعة الألمانية الجديدة أو الطبعة الإنجليزية الجديدة، فسأفتخر بإرسال نسخة إليك. ربما لي أن أضيف، بخصوص جمال الزهور، أنني قد ألمحت بالفعل في ورقتي البحثية عن جنس الخثري إلى الآراء نفسِها التي تتبنَّاها.

صحيح أن العديد من انتقاداتك لآرائي هي أفضلُ ما صادفته من الانتقادات، لكني أستطيع الردَّ على بعضها بما يرضيني على الأقل، ويؤسفني للغاية أنني لم أقرأ كُتَيبك قبل طباعة الطبعة الجديدة من كتابي. أظن أنك أسأت فهمي قليلًا في نقطة أو اثنتَين، وإن كنت أجرؤ على القول إنني لم أكن حذِرًا في التعبير عن فكرتي. أبرز تعليق لَفَت انتباهي هو ذاك القائل إن موضع الأوراق لم يُكتسَب عبْر الانتقاء الطبيعي؛ لأنه لا يحمل أيَّ أهمية خاصة للنبات. أتذكَّر جيدًا أن مشكلةً مشابهة قد أرَّقتني من قبل؛ ألَا وهي موضع البويضات النباتية، وحالتها المقلوبة، وما إلى ذلك. وقد غفلتُ سهوًا عن ذكرِ هذه المشكلة في كتاب «أصل الأنواع».٤٩ صحيح أنني لا أستطيع تقديمَ تفسير لمثل هذه الحقائق، وكل أملي أن أرى إمكانيةَ تفسيرها، لكني مع ذلك لا أرى على الإطلاق كيف تدعَم هذه الحقائقُ فكرةَ وجودِ قانونٍ ما للتطوُّر الضروري؛ لأنني لا أفهم مسألةَ أن تكون نبتةٌ ما أعلى مرتبةً من نبتة أخرى لأن أوراقها موضوعة بزاوية مُعيَّنة، أو لأن بويضاتها موجودة في موضعٍ مُعيَّن. بالرغم من ذلك، يجب أن أعتذر عن إزعاجك بهذه التعليقات.

نظرًا إلى أنني أرغب بشدة في الحصول على صورتك الفوتوغرافية، فقد سمحتُ لنفسي من دون إذن بإرفاق صورتي مع هذا الخطاب، مع أصدقِ احترامي يا سيدي العزيز.

وسأظل أُكن لك بالغ الإخلاص
سي داروين

[أعرضُ بعض المقتطفات من خطابات ذات تواريخ مختلفة تُظهر اهتمام والدي، المُشار إليه في الخطاب الأخير، بمسألة ترتيب الأوراق على سيقان النباتات. ويمكن القول أيضًا إن البروفيسور شفيندينر من برلين قد تناول المسألةَ بنجاح في كتابه «النظرية الميكانيكية لمواضع الأوراق»، ١٨٧٨.

إلى الدكتور فالكونر
٢٦ أغسطس [١٨٦٣]

«هل تتذكَّر نصيحتك لي بدراسة ترتيب الأوراق؟ حسنًا، كثيرًا ما تمنَّيت أن تهوي إلى قاع البحر؛ لأنني لم أستطِع المقاومة، وأربكت عقلي بالمخطَّطات البيانية، وما إلى ذلك، وبالعينات، ولم أصل إلى أي شيء، كما كان من المفترض أن أتوقَّع. هذه الزوايا مسألةٌ عجيبة للغاية، وأتمنَّى أن أرى شخصًا يُقدِّم تفسيرًا منطقيًّا لها.»

إلى الدكتور آسا جراي
١١ مايو [١٨٦١]

«إذا كنت ترغب في إنقاذي من ميتةٍ بائسة، فأخبرني بسبب وجود تسلسل الزوايا ١ / ٢، ١ / ٣، ٢ / ٥، ٣ / ٨، إلخ، دونًا عن أي تسلسل آخر. هذا كافٍ لجعل أهدأ الرجال يستشيط غضبًا. هل نشرت أنت وعالِمُ رياضياتٍ ما٥٠ ورقةً بحثية عن هذا الموضوع؟ يقول هوكر إنك فعلت ذلك؛ فأين هي؟»

إلى الدكتور آسا جراي
 [٣١ مايو ١٨٦٣؟]

«كنت أُطالع عملَ نيجالي عن هذا الموضوع، ودُهِشت إذ رأيت أن الزاوية في البتيلات الحديثة، عندما تصبح براعم الأوراق ملحوظةً لأول مرة، لا تكون مطابقةً دائمًا للزاوية في الفروع المكتملة النمو. أظن أن هذا يُبيِّن وجودَ سبب قوي بالتأكيد لتلك الزوايا؛ أعتقد أن لها تفسيرًا بسيطًا كتفسير زوايا خلايا النحل.»

تراسَل والدي أيضًا مع الدكتور هوبرت إيري وكان مهتمًّا بآرائه عن الموضوع، التي نُشرت في دورية «رويال سوسايتي بروسيدينجز»، عام ١٨٧٣، الصفحة ١٧٦.

نعود الآن إلى أحداث عام ١٨٦٦.

في نوفمبر، عندما كانت مقاضاة الحاكم إير تقسم إنجلترا إلى حزبَين شديدي الخصام، أرسل خطابًا إلى السير جيه هوكر قال فيه:

«ستصرخ في وجهي عندما تسمع أنني تبرَّعت للتو للجنة جامايكا.»٥١

وبخصوص هذا الموضوع، أقتبس فقرةً من أحد خطابات أخي:

«بخصوص سلوك الحاكم إير في جامايكا، كان مقتنعًا تمامًا بأن جيه إس ميل كان محقًّا في مقاضاته. أتذكَّرُ أننا كُنَّا نتحدَّث عن الموضوع في بيت عمي مساء أحد الأيام، ولأنني كنت أرى أن مقاضاة الحاكم إير بتهمة القتل إجراء أشدُّ قسوةً من اللازم، تفوَّهتُ بقولٍ أحمق عن أن محاميي الادعاء أنفقوا فائض الأموال التي جمعوها في وجبة عشاء. فهاجمني والدي وهو يكاد يستشيط غضبًا، وأخبرني أنه إذا كان هذا هو رأيي، يجدر بي العودة إلى ساوثهامبتون؛ حيث قدَّم السكان عشاءً للحاكم إير عند هبوطه، ولكن لم تكن لي أي علاقة بذلك.» وقد انتهت هذه الواقعة، كما سردها أخي، بتصرُّف من تصرُّفات والدي المعتادة التي كانت تُميِّزه جدًّا إلى حدِّ أنني لا أستطيع مقاومةَ ذِكر هذا التصرُّف، مع أنه ليس مُتعلِّقًا بالمسألة محل النقاش. «في صباح اليوم التالي في الساعة السابعة، أو نحو ذلك، جاء إلى غرفة نومي وقعد على سريري، وقال إنه لم يستطِع النومَ من التفكير فيما أبداه تجاهي من غضب شديد، ثم قال لي بضع كلمات لطيفة أخرى وتركني.»

تجدر الإشارة إلى أن هذه الرغبة المُلحة نفسها في تصحيح انطباع كريه أو خاطئ توصَف على نحوٍ جيد في فقرة مقتطفة أقتبسها من بعض رسائل المبجَّل جيه برودي إنيس:

«كان إمعانه البالغ في الملاحظة مصحوبًا بصدقه اللافت للغاية في كل شيء. ففي إحدى المناسبات، عُقِد اجتماع لأفراد الأبرشية بخصوص موضع خلافٍ غير ذي أهمية كبيرة، وفوجئت ليلتئذٍ بزيارة من السيد داروين. كان قد جاء ليقول إنه، عندما فكَّر في النقاش الذي دار بشأن هذه النقطة، ارتأى أنني ربما توصَّلت إلى استنتاج خاطئ — والحق أن ما قاله كان دقيقًا إلى حدٍّ كبير — وإنه لم يكن لينام حتى يشرحَ لي ذلك. أعتقد أنه، لو عرف في أي يوم بحقيقة مُعيَّنة تتعارض مع أعزِّ نظرياته لديه، لدوَّن هذه الحقيقة قبل أن ينام لكي تُنشَر.»

يتفق هذا مع عادات والدي، كما وصفها بنفسه. فعندما كانت تخطر بباله إحدى الصعوبات أو الاعتراضات كان يرى أن تدوينها على الفور مهمٌّ للغاية؛ لأنه كان يجد الحقائقَ المناهضة لأفكاره تزول بسرعة شديدة من ذاكرته.

يتجسَّد هذا الأمر نفسه في الحادثة التالية، التي أدينُ بها للسيد رومينز:

«دائمًا ما أتذكَّر الحادثةَ الصغيرة التالية كمثال جيد على اهتمام السيد داروين الشديد بمسألة الدقة. في مساء أحد الأيام في داون، دارت محادثةٌ عامة عن صعوبة شرح تطوُّر بعض المشاعر التي يتميَّز بها البشر، لا سيما تلك المشاعر المتعلِّقة بإدراك الجمال في المناظر الطبيعية. اقترحت رأيًا عن الموضوع من وجهة نظري، وكان هذا الرأي، بِناءً على مبدأ الارتباط، يستلزم افتراض أن سلسلةً طويلة من الأجداد قد سكنت مناطقَ تتسم بما يُعَد الآن من المناظر الجميلة. وفي اللحظة التي كنتُ فيها على وشْك الإشارة إلى أن الصعوبة الرئيسية المرتبطة بفرضيتي نشأت من مشاعر الإحساس بالروعة الجليلة (نظرًا إلى أن هذه المشاعر مرتبطة بالرهبة، وبذلك فربما يُتوقَّع ألَّا تكون مُستحسَنة)، توقَّع السيد داروين ما كنت سأقوله، وذلك بأنه سأل عن الكيفية التي تُلائم بها الفرضية حالةَ هذه المشاعر. وفي المحادثة التي أعقبت ذلك، قال إن المرة التي كان فيها أشدَّ تأثُّرًا بمشاعر الإحساس بالجلال في حياته كانت عندما وقف على إحدى قمم السلسلة الجبلية في أمريكا الجنوبية، وتفحَّص الأفق الرائع في كل مكان من حوله. شعر حينئذٍ، حسبما قال بأسلوب جذاب، ويكأن أعصابه قد صارت أوتارًا في آلة كمان، وبدأت كلها تهتز بسرعة. لم يقُل ذلك إلا عَرَضًا، وانتقلت المحادثة إلى فرعٍ آخر. وبعد حوالي ساعة، تركنا السيد داروين ليخلد إلى الراحة، وسهرتُ أنا في غرفة التدخين مع أحد أبنائه. واصلنا التدخين والتحدُّث عدة ساعات، وإذا بالباب يُفتح برفقٍ في حوالي الساعة الواحدة صباحًا وظهر منه السيد داروين مرتديًا خُفَّيه ورداءه المنزلي. وعلى حدِّ ما أتذكَّر، فقد قال:

«منذ أن ذهبت إلى الفراش، كنت أُفكِّر في الحوار الذي دار بيننا في غرفة الجلوس، وخطر ببالي للتو أنني كنت مخطئًا عندما قلت لك إنني كنت أشدَّ إحساسًا بالجلال حين كنتُ على قمة السلاسل الجبلية في أمريكا الجنوبية؛ فأنا متيقن تمامًا من أنني اختبرت ذلك الشعور بدرجةٍ أكبر عندما كنت في غابات البرازيل. ارتأيتُ أنه من الأفضل أن آتي وأُخبرك بهذا فورًا خشيةَ أن يُضلِّلك كلامي. أنا الآن متيقن من أن أقصى ما اختبرته من الإحساس بالجلال كان في غابات البرازيل.»

كان هذا هو كلَّ ما جاء ليقوله، وبدا جليًّا أنه أتى لفعل ذلك؛ لأنه كان يظن أن حقيقةَ أنه كان «أشد إحساسًا بالجلال عندما كان في الغابات» تتسق مع الفرضية التي كُنَّا نناقشها بدرجةٍ أكبر من الحقيقة التي ذكرها سابقًا. ولأنه لا يوجد مَن هو أدرى من السيد داروين بالفرْق بين التخمين والحقيقة، ارتأيتُ أن هذا الموقف البسيط الذي يُظهِر يقظةَ الضمير العلمي جديرٌ بالذكر، لا سيما أن المسألة التي كُنَّا نناقشها فيه ذاتُ طابع تخميني جدًّا. وما كنت سأنبهر بشدة لو أنه ظن أن نسيانه المؤقَّت قد ضلَّلني في أي مسألة واقعية بالفعل، مع أنه، حتى في مثل هذه الحالة، هو الرجل الوحيد بين كلِّ مَن أعرفهم الذي قد يبالي بالنهوض من فراشه في مثل هذا الوقت من الليل ليُصحِّح ما قاله فورًا، بدلًا من الانتظار حتى صباح اليوم التالي. لكن لمَّا كان التصحيح بشأن فرضية هزيلة فحسب، فقد كنت شديد الانبهار بالطبع بهذا الموقف الذي أظهر ذاك الطابع.»]

من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٠ ديسمبر [١٨٦٦]

… قرأتُ الآن الجزءَ الأخير من كتاب إتش سبنسر.٥٢ لا أعرف ما إذا كنت أراه أفضلَ من الجزء السابق أم لا، لكنه يتسم بذكاءٍ مدهش، وأظن أن أغلب محتواه صحيحٌ. أشعر بأنني وضيعٌ بعضَ الشيء عندما أقرأ كتاباته؛ أستطيع تحمُّل الشعورِ بأنه يزيد عني في الإبداع والذكاء ضعفًا، حتى إنني أستمتع بذلك بعضَ الاستمتاع، لكن عندما أشعر بأنه أفضل مني بعشرة أضعاف، حتى في إتقان فن التملُّص، أشعر بالحزن. لو أنه قد درَّب نفسه على الإكثار من الرصد والملاحظة، ولو على حساب فقدان بعض القدرة على التفكير، وفقًا لقانون التوازن، لأصبح رجلًا رائعًا.

… أشعر بالسعادة «من أعماق قلبي» لأنك تتناول موضوع توزيع النباتات في نيوزيلندا، وأفترض أنه سيكون جزءًا من كتابك الجديد. أرى أن وجهة نظرك القائلة بأن نيوزيلندا هبطت وكوَّنت جزيرتَين صغيرتَين أو أكثر ثم ارتفعت مُجدَّدًا، حسب ما أفهمها، مُرجَّحة جدًّا … عندما اعتصرتُ دماغي مفكِّرًا بإمعان في نيوزيلندا، أتذكَّر أنني وصلت إلى استنتاجٍ مفاده، كما ذكرتُ بالفعل في كتاب «أصل الأنواع»، أن نباتاتها، إضافةً إلى نباتات بعض الأراضي الجنوبية الأخرى، قد تخلَّلها أحد نباتات القطب الجنوبي، الذي من المؤكَّد أنه كان موجودًا قبل الفترة الجليدية. استنتجتُ أن الالتحام الوثيق بين نيوزيلندا وأستراليا لم يكن ممكنًا قط، وإن كنتُ أفترض أن نيوزيلندا كانت قد استقبلت بضعة أشكال أسترالية بوسائل انتقال عَرَضية من حين إلى آخر. هل يوجد أيُّ سبب لافتراض احتمالية أن نيوزيلندا كانت أكثرَ الْتحامًا بجنوب أستراليا في أثناء الفترة الجليدية، بينما يمكن أن تكون نباتات الكافور وغيرها، قد دُفِعَت مسافةً أطول نحو الشمال؟ يبدو أنه لم يتبقَّ هناك إلا خط الجزر الغارقة من نيو كاليدونيا، الذي أظنك قد أشرت إليه. تذكَّر من فضلك أن جنس الإدورادسيا من شقائق البحر قد جُرِف إلى هناك عبر البحر بالتأكيد.

أتذكَّرُ تكهُّناتي في الأيام الخوالي بشأن مقدار الحياة؛ أي التغيُّر الكيميائي العضوي، في الفترات المختلفة. يبدو لي أنه يوجد عُنصر صعب جدًّا في المشكلة؛ ألَا وهو حالة تطوُّر الكائنات الحية في كل فترة؛ لأنني أفترض أن حياةً نباتية وحياة حيوانية مكوَّنة من نباتات خلوية لا زَهرية وحيوانات أولية وحيوانات شعاعية التناظر من شأنها أن تؤدي إلى تغيُّر كيميائي أقلَّ بكثير ممَّا يحدث الآن. لكني أطلتُ الثرثرة بما يكفي.

مع خالص مودتي
سي داروين

[الخطاب التالي شكرٌ لتلقِّي ردِّ السيد ريفرز على خطاب سابق كان والدي قد طلب فيه معلومات عن تباين البراعم.

ربما يكون من المناسب عرضه هنا توضيحًا لطريقة تواصل والدي مع أولئك «الذين كانت هواياتهم أو مهنهم في الحياة مرتبطة بتربية الكائنات الحية أو استخدامها»،٥٣ وقد أتى هذا التواصل بثمارٍ طيبة في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين». ولدى السيد داير بعض التعليقات الممتازة على الأهمية غير المتوقعة التي أُولِيَت نتيجةً لهذا لحقائقَ تبدو تافهةً أُخرِجَت من مدافنها في مجلات أسبوعية أو جُمِعَت بالمراسلة. يضيف قائلًا: «خبراء البستنة الذين … شكَّلوا تطوُّر بعض النباتات حسب مشيئتهم تقريبًا بدافعٍ من الذوق أو جني الربح قد ذُهِلوا وسُحِروا فور أن اكتشفوا أنهم كانوا يؤدون عملًا علميًّا ويساعدون في تأسيس نظرية عظيمة.»]

من تشارلز داروين إلى تي ريفرز٥٤
داون، ٢٨ ديسمبر [١٨٦٦؟]
سيدي العزيز

اسمح لي أن أشكرك من صميم قلبي على خطابك اللطيف للغاية. منذ سنوات وأنا أقرأ باهتمام كلَّ قصاصةٍ كتبتَها في الدوريات، ولخَّصتَها في مخطوطة كتابك عن الورود، وقد رغبت مرارًا في أن أبعث بخطاب إليك، لكني لم أكن واثقًا ممَّا إذا كنت ستراني أشدَّ تطفُّلًا ممَّا ينبغي. بالتأكيد سأكون ممتنًّا حقًّا لأي معلومات يُمكنك أن تمنحني إياها بخصوص تباين أو طفرات البراعم. عندما تخطرُ ببالي أيُّ نقاط شديدة الصعوبة في موضوعي الحالي (الذي يُعَد مجموعةً هائلة من الصعوبات)، سوف ألجأ إليك طالبًا المساعدة، لكنِّي لن أتجاوز حدودَ المعقول. صحيحٌ تمامًا قَولُك إن مَن يريد دراسة فسيولوجيا حياة النباتات جيدًا، يجب أن يكون لديه العديد من النباتات تحت أنظاره. حاولتُ جاهدًا أن أفعل ما بوسعي بالمقارنة بين ادعاءات العديد من الكُتَّاب ورصدِ ما أستطيع رصدَه بنفسي. مع الأسف، لم يضاهِ أحدٌ طريقتك في الرصد والملاحظة إلا قلة قليلة. ولأنك طيب جدًّا، سأذكر نقطةً واحدة أخرى أجمع عنها الحقائق؛ ألَا وهي التأثير الناتج على الجذع الأصلي بفعل التطعيم؛ إذ «يُقال» إن شجرة البندق ذات الأوراق الأرجوانية تؤثِّر على أوراق شجرة البندق العادية التي تُطعَّم عليها (لقد اشتريت للتو أحدَ هذه النباتات لأُجرِّبه)، و«يُقال» أيضًا إن الياسمين المبرقش يؤثِّر على أصله بالطريقة نفسِها. أحدُ أسباب رغبتي في معرفةِ هذه الحقائق هو إلقاء الضوء على شجرة اللبورنوم المدهشة التي تُعرف باسم لبورنوم آدامي، وأشجار البرتقال الثلاثية الوريقات، وما إلى ذلك. تبدو حالةُ شجرة اللبورنوم هذه واحدةً من أغربِ الحالات في علم وظائف الأعضاء. أعكفُ الآن على إنماء شجر لبورنوم صفراء «خصبة» ممتازة (ذات عذقة طويلة على غرار الشجرة المسمَّاة ووتررز لبورنوم) من بذرة الزهور الصفراء لشجرة لابورنوم آدامي. ليس بقدرٍ هين من الرضا ذلك الذي يشعر به رجل مثلي، مجبر على أن يعيش حياةً منعزلةً ويرى قلةً من الأشخاص، حين أسمع أنني استطعت بأي شكل من الأشكال [أن] أُثير اهتمامَ خبير مُتخصِّص في الرصد والملاحظة مثلك بكتبي.

نظرًا إلى أنني سأنشر عن موضوعي الحالي في غضون عام، أعتقد أن إرسالك بتيلات الخوخ والنكتارين، التي عرضتَ إرسالها إليَّ بكرمٍ بالغ منك، لن يكون مفيدًا؛ فأنا قد دوَّنتُ حقائقك.

اسمح لي مرةً أخرى بأن أشكرك من صميم قلبي؛ لأنني نادرًا ما أتلقَّى في حياتي خطاباتٍ ألطف من خطابك.

مع بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
سي داروين

هوامش

(١) ذكر كرون أن البِنَى التي وصفها والدي بأنها مبايضُ هي غدد لعابية في الواقع، وأن قناة البيض تمتد وصولًا إلى الفتحة التي وُصفت في «أُفرودة هدابيات الأرجل» بأنها صماخ سمعي.
(٢) طالِع الكتاب الذي يتناول سيرة كينجسلي، الجزء الثاني، الصفحة ١٧١.
(٣) لن يُجدي الخوضُ في المسألة الذي أغضبت والدي بشدة أي نفع. لقد كانت مسألةَ خيانة أدبية، وكان أحد أصدقائه هو المتضرِّر منها، لكن والدي نفسه لم يتضرَّر منها بأي شكلٍ من الأشكال.
(٤) وُلِد السير يوليوس فون هاست في ألمانيا، لكنه كان يقيم منذ فترة طويلة في نيوزيلندا. وكان، في عام ١٨٦٢، موفَدًا جيولوجيًّا حكوميًّا إلى مقاطعة كانتربري.
(٥) خطاب أُلقي أمام «معهد كانتربري الفلسفي (نيوزيلندا)». فيما وَرَد «التقرير» في «الجريدة الرسمية لحكومة نيوزيلندا بمقاطعة كانتربري»، أكتوبر ١٨٦٢.
(٦) البروفيسور دارست عالِم معروف في علم التشوُّهات والمسوخ الحيوانية. كان يعيش في مدينة ليل في عام ١٨٦٣، لكنه استُدعي منذ ذلك الحين إلى باريس. اهتمَّ والدي اهتمامًا خاصًّا بعمل دارست المتعلِّق بإنتاج الحالات المشوَّهة، باعتباره مرتبطًا بأسباب التباين.
(٧) التمييز هنا ليس من صُنع لايل.
(٨) كتب والدي خطابًا إلى السير جوزيف هوكر بشأن هذا الموضوع، قائلًا: «أشكرك من صميم قلبي على خطاباتك المثيرة جدًّا للاهتمام عن لايل وأوين والبقية. لا أستطيع وصفَ مدى سعادتي بمعرفة أن رأيي عن تعامل لايل مع مسألة الأنواع لم يكن ظالمًا. كنت أخشى أن أكون مُبالِغًا.»
(٩) «عن الطباع … إلخ، الخاصة بطائفة الثدييات». دورية «لينيان سوسايتي جورنال» المجلَّد الثاني، ١٨٥٨.
(١٠) البروفيسور جيه إي كيرنس، «قوة العبيد، إلى آخره: محاولة لشرح القضايا الحقيقية التي يتضمَّنها الصراع الأمريكي». ١٨٦٢.
(١١) «عصور البشر القديمة».
(١٢) بعدما يتكهَّن لايل بشأن الظهور المفاجئ لأفرادٍ يتمتَّعون بقدراتٍ أعلى كثيرًا من متوسِّط قدرات العِرق البشري، يسأل عمَّا إذا كان ممكنًا أن تكون هذه القفزاتُ إلى الأعلى في سُلَّم القدرات الفكرية هي ما «أدَّى، بقفزة واحدة، إلى إخلاء الحيز الذي يفصل المرحلةَ العليا من الذكاء غير التقدُّمي لدى الحيوانات الدُّنيا عن الشكل الأول والأدنى من التفكير المنطقي القابل للتحسين الذي أبداه الإنسان».
(١٣) «يقول فالكونر، الذي أشرتُ إليه أكثرَّ ممَّا أشرت إلى أي مؤلِّف آخر، إنني لم أُوفِّ الدورَ الذي اضطلع به في إحياء مسألة الكهف حقَّه، ويقول إنه سينشر ورقةً مستقلة لإثبات ذلك. عرضتُ عليه تغيير أي شيء في الطبعة الجديدة، لكنه رفض ذلك.» خطاب من سي لايل إلى سي داروين، ١١ مارس ١٨٦٣؛ كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، الجزء الثاني. الصفحة ٣٦٤.
(١٤) كتاب «مكان الإنسان في الطبيعة»، ١٨٦٣.
(١٥) ذهب إلى هارتفيلد في ساسكس، في ٢٧ أبريل، وإلى مولفرن في الخريف.
(١٦) وصف بوشيه دو بيرت، في كتابه «الآثار السلتية القديمة» (١٨٤٧)، الأدوات الصوانية التي عُثِر عليها في مدينة أبفيل مع عظام وحيد القرن والضبع وما إلى ذلك. «لكن العالم العلمي لم يكن مؤمنًا بالادعاء القائل بأن ثمَّة أعمالًا فنية، وإن كانت بدائيةً للغاية، قد عُثِر عليها في طبقات بهذا القِدَم لم يمسسها أحد.» («عصور البشر القديمة»، الطبعة الأولى، الصفحة ٩٥).
(١٧) من المؤكَّد أنه هيكل، الذي نُشرت أفرودته عن الشعوعيات في عام ١٨٦٢. وفي العام نفسه نشر البروفيسور دبليو برير من جامعة جينا أطروحةً عن طائر الأوك العظيم، التي كانت أحد أبكر أجزاء عملٍ خاص يستند إلى «أصل الأنواع».
(١٨) الماركيز دو سابورتا.
(١٩) يشير هذا إلى فقرةٍ يتحدَّث فيها ناقدُ كُتُب الدكتور كاربنتر عن «تأثير قوةٍ ما» أو «تزامن حدوث قوًى لم يعُد لها الآن مكان في الطبيعة»، واصفًا إياها بأنها، في الواقع، «قوة مبدعة لم يستطِع داروين أن يُعبِّر عنها إلا بمصطلحاتٍ من أسفار موسى الخمسة، واصفًا إياها بأنها الشكل البدائي «الذي نُفِخَت فيه نسمةُ الحياة لأول مرة»». تجدر الإشارة إلى أن وصف القوة المُبدعة بأنها شكلٌ أوَّلي هو تصوُّر الناقد وليس داروين.
(٢٠) طالِع الخطاب التالي.
(٢١) نُشرت الطبعة الثانية من كتاب «عصور البشر القديمة» بعد بضعة أشهر من ظهور الطبعة الأولى.
(٢٢) يقتبس والدي هنا ما كتبه لايل اقتباسًا خاطئًا؛ فالجملة الاعتراضية التي استخدمها لايل: «وهو ما أتوقَّع تمامًا أنه سيحدث».
(٢٣) في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر، كتب والدي: «أُعجِبتُ جدًّا بخطاب لايل. لكنَّ كل هذا الشجار سيعرقل رجالَ العلم كثيرًا. لقد رأيت السخرية في صحيفة «ذا تايمز» بالفعل.»
(٢٤) تشير الفقرة المقتطفة من خطاب إلى فالكونر، والواردة في الفصل الثالث من الجزء الأول من هذا الكتاب، إلى هذه المسألة.
(٢٥) مؤلف كتاب «الجغرافيا النباتية لأوروبا». ٩ مجلَّدات. ١٨٥٤–١٨٥٨.
(٢٦) «مراجعة نقدية لكتاب السيد داروين عن أصل الأنواع». بقلم بي فلورانس. ثمانية مجلَّدات. باريس، ١٨٦٤.
(٢٧) قُرب نهاية العام، تلقَّى والدي خبرًا باعتناقِ شخصٍ جديدٍ آراءه، ألَا وهو عالم التاريخ الطبيعي الأمريكي البارز ليسكرو. كتب في خطابٍ إلى السير جيه دي هوكر: «تلقَّيت خطابًا مطوَّلًا جدًّا من ليو ليسكرو عن النباتات المتحفِّرة في طبقات الفحم (وبعد شكوكٍ راودتني، لم أرَ أنه جدير بأن أرسله إليك). كان قد كتب بعض المقالات الممتازة في دورية «سيليمان» مهاجمًا الآراء الواردة في «أصل الأنواع»، لكنه يقول الآن إنه، بعدما قرأ الكتاب مرارًا، غيَّر قناعاته السابقة واقتنع بما فيه!»
(٢٨) «أجريت … محادثةً مفعمة بالحيوية عن الداروينية مع الأميرة الملكية، التي أراها ابنةً جديرة بأبيها، فيما يتعلَّق بقراءة الكتب الجيدة، والتفكير فيما تقرؤه. كانت مُلِمةً جدًّا بكتاب «أصل الأنواع»، وكتاب هكسلي، وكتاب «عصور البشر القديمة»، وغيرها» (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلَّد الثاني، الصفحة ٣٨٥).
(٢٩) «في الواقع، ليست نظرية السيد داروين نظريةً عن أصل الأنواع إطلاقًا، وإنما هي نظرية عن الأسباب التي تؤدِّي إلى النجاح أو الفشل النسبي لمثل هذه الأشكال الجديدة التي قد تُولد في العالم.» صحيفة «ذا سكوتسمان»، ٦ ديسمبر ١٨٦٤.
(٣٠) الطبعة السادسة في مجلَّد واحد.
(٣١) «عصور ما قبل التاريخ»، ١٨٦٥.
(٣٢) كتاب «عصور ما قبل التاريخ»، الصفحة ٤٨٧، حيث وردت هذه الكلمات: «اكتشافات نيوتن أو داروين».
(٣٣) كان روبرت رولف، لورد كرانورث ووزير عدل إنجلترا، يعيش في هولوود، بالقرب من داون.
(٣٤) يمكنني أن أقتبس هنا فقرةً من خطاب في نوفمبر من عام ١٨٦٣. كان هذا الخطاب مكتوبًا لصديق فقدَ طفله: «أتذكَّر جيدًا شعورك، عندما فقدنا آني. كانت أكبر تعزية لي أنني لم أخاطبها بكلمةٍ قاسية قط. لقد جعلني حزنك العميق أذرف بضعَ دموع على حبيبتنا المسكينة، لكني أصدِقك القول حين أُخبرك أن هذه الدموع فقدت ما كانت تحمله من مرارةٍ لا تُوصف في الأيام السابقة.»
(٣٥) «أبحاث في تاريخ البشرية المبكِّر»، بقلم إي بي تايلور، ١٨٦٥.
(٣٦) «صعود العقلانية في أوروبا»، بقلم دبليو إي إتش ليكي، ١٨٦٥.
(٣٧) كتاب ويليام جيفورد بالجريف، «رحلات في شبه الجزيرة العربية»، الذي نُشر عام ١٨٦٥.
(٣٨) وردت الفقرة المشار إليها، حسب ما يبدو، في نَصِّ كتاب «عصور ما قبل التاريخ» (الصفحة ٤٧٩). وهي تعبِّر عن الإعجاب بورقة السيد والاس البحثية في دورية «أنثروبولوجيكال ريفيو» (مايو ١٨٦٤)، وتتحدَّث عن «الإيثار المعتاد» لدى المؤلِّف في نَسَب نظرية الانتقاء الطبيعي «بالكامل إلى السيد داروين».
(٣٩) كاهن ويستمنستر.
(٤٠) «فصول عن اللغة»، ١٨٦٥.
(٤١) يبدو أن هذا يشير إلى ورقةِ «ملاحظات عن الفراشات في أمريكا الجنوبية»، دورية «ترانزاكشنز أوف إنتومولوجيكال سوسايتي»، المجلَّد الخامس، (سلسلة جديدة).
(٤٢) فقرة مقتطفة من خطاب من السيد والاس بتاريخ ٢ يوليو ١٨٦٦ تقول: «مصطلح «البقاء للأصلح» تعبيرٌ صريح عن الحقيقة، في حين أن مصطلح «الانتقاء الطبيعي» تعبيرٌ مجازي عنها، وغير مباشر وغير صحيح إلى حدٍّ ما؛ لأن … الطبيعة … لا تنتقي ضروبًا خاصةً بقدرِ ما تقضي على أقل الأنواع مُلاءمةً.»
(٤٣) من المؤكَّد أنه يقصد كتاب «المادية المعاصرة» لجانيه.
(٤٤) «أجدُ أنك تستخدم مصطلح «الانتقاء الطبيعي» بمعنيَين. أولًا، بمعنى الحفاظ البسيط على التباينات المواتية ونبذ التباينات غير المواتية، وهو في هذه الحالة مكافئ لمصطلح «البقاء للأصلح»؛ وثانيًا، بمعنى التأثير أو «التغيير» الناتج عن هذا الحفاظ.» فقرة مقتطفة من خطاب السيد والاس المُستشهَد به أعلاه.
(٤٥) في اجتماع الجمعية البريطانية الذي عُقد في نوتنجهام بتاريخ ٢٧ أغسطس ١٨٦٦. كان موضوع المحاضرة «نباتات الجُزُر». طالِع دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، عام ١٨٦٦.
(٤٦) ذَكَر السير جوزيف هوكر استعارةً شبَّه فيها اجتماعَ الجمعية البريطانية في أكسفورد بتجمُّعٍ لقبيلة من الهمج الذين كانوا يعتقدون أن المُحاق يُنشأ من جديد كل شهر. وقد عرض في هذه الاستعارة غضبَ الكهنة والشامانات من بدعةٍ هرطقية معيَّنة، مفادُها أن المحاق، أو القمر الجديد، ليس سوى ذُريةٍ للقمر القديم، عرضًا ممتازًا.
(٤٧) «أصل ومفهوم أنواع التاريخ الطبيعي». وهو خطاب أُلقي في اجتماعٍ عامٍّ ﻟ «الأكاديمية الملكية للعلوم» في ميونيخ، ٢٨ مارس ١٨٦٥.
(٤٨) أستاذ علم النبات في ميونيخ.
(٤٩) أشير في الطبعة الخامسة من الكتاب إلى خطاب ناجيلي.
(٥٠) ربما كان والدي يُفكِّر فيما كتبه تشونسي رايت عن ترتيب أوراق النباتات، في دورية «أسترونوميكال جورنال» التي أسَّسها جولد، العدد ٩٩، عام ١٨٥٦، وفي دورية «ماثيماتيكال مانثلي»، عام ١٨٥٩. هذه الأوراق مذكورة في كتاب «خطابات تشونسي رايت». تَراسَل السيد رايت مع والدي بشأن هذا الموضوع.
(٥١) تبرَّع بمبلغٍ قدره ١٠ جنيهات.
(٥٢) «مبادئ علم الأحياء».
(٥٣) السيد داير في كتاب «تشارلز داروين»، «سلسلة دورية «نيتشر»»، عام ١٨٨٢، الصفحة ٣٩.
(٥٤) كان الراحل السيد ريفرز خبيرًا بارزًا في البستنة وكاتبًا في هذا التخصُّص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤