الفصل الأول

«قراءة» الثقافات الإلكترونية

خطة الفصل

  • التعريف بالثقافات الإلكترونية

  • مجتمع المعلومات

  • المسائل الأساسية في دراسات الثقافة الإلكترونية:

    • العولمة، والرأسمالية التكنولوجية، والثقافات الإلكترونية

    • المادية والبدنية

    • الانقسام الرقمي

    • الحكم الإلكتروني

    • المجتمع المدني

    • حكم الفضاء الإلكتروني

    • الهُويَّة

    • العِرْق

    • الطبقة

    • النوع والميول الجنسية

    • الفضاء والجغرافيا

    • الخطر

    • المدينة الوسائطية وفضاء «الآخر»

    • الجماليات

  • دراسات الثقافة الإلكترونية:

    • الأبعاد الإثنوجرافية للفضاء الإلكتروني

    • نظرية الأباراتجايست

    • الدراسات الثقافية

في ٣١ يناير ٢٠٠٨، قطعتْ مرساةُ سفينةٍ كابلات ممتدَّة تحت مياه البحر المتوسط. تضرَّرت بشدة خدمات الإنترنت والاتصالات عبْر العالم. وعانت الهند، التي كنتُ أكتب فيها، اضطرابًا في عملياتها القائمة على التعهيد (إس جوشي ٢٠٠٨). وفي نوفمبر ٢٠٠٨، حكى تقرير من وكالة الأنباء الهندية الآسيوية ذو عنوانٍ مُوحٍ وهو «غرام الحياة الثانية يُكلِّف زواج الحياة الأولى»؛ قصة زوجين بريطانيِّين كانا بصدد الطلاق بسبب علاقة غرامية كان الزوج يخوضها في موقع «سكند لايف» (حياة ثانية) في العالم الافتراضي: رفضت الزوجة أن تقبل عذره بأن الأمر «كان في نهاية المطاف غَرامًا في عالَم وهمي» (indianinfo.com). تُصوِّر الحادثتان فرضية هذا الكتاب: أن الفضاء الإلكتروني، والثقافة الإلكترونية، والواقع الافتراضي؛ كلها تبقى مترسِّخةً بعمق في ظروف مادية للغاية.

يذهب هذا الكتاب إلى أن للثقافات الإلكترونية والعوالم الافتراضية بُعدًا ماديًّا. وينتبه للخطابة والخطابات الصادرة من الثقافات الإلكترونية أو عنها، بينما يُنبِّه باستمرار إلى حقيقة أنَّ بِنى «العتاد الصلب» — من الأجساد، والمدن، والخرسانة، والكابلات، والمشاعر، وأماكن العمل، والعمال — التي تقوم عليها الثقافات الإلكترونية خاضعةٌ لآليات العِرْق، والطبقة، والنوع، والتفاوتات الاجتماعية، والحُكم، والظلم.

(١) تعريف بالثقافات الإلكترونية

تُستخدَم عبارة «الثقافات الإلكترونية»، بوصفها مصطلحًا مختصرًا؛ لتشمل ثقافات العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين المُتشابكة، والإلكترونية، والمتصلة فيما بينها. ومن المصطلحات الأخرى المستخدَمة: دراسات الإنترنت، ودراسات وسائل الإعلام الجديدة، ودراسات وسائل الإعلام الرقمية، ودراسات الثقافة الرقمية، ودراسات الثقافة الشبكية، ودراسات مجتمع المعلومات، ودراسات وسائل الإعلام المعاصرة. وتدلُّ كثرة المصطلحات المتاحة للاختيار من بينها على طبيعة الحقل العابِرة للتخصُّصات.

الفضاء الإلكتروني

يَصف الفضاء الإلكتروني العوالم والمجالات الناشئة عن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الرقمية. ويُنظَر إليه في هذا الكتاب على أنه منظومة من العلاقات والأفعال داخل فضاء الأجهزة الإلكترونية.

غالبًا ما يسمَّى الفضاء الإلكتروني أيضًا «فضاء المعلومات» أو «الفضاء التكنولوجي» (مَنْت ٢٠٠١: ١١). ويُعرَّف بأنه «الفضاءات الاجتماعية الجديدة التي تُغذِّيها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الْمُؤَتْمَتة والمتاحة عبْر الكمبيوتر» (هاكن ٢٠٠٨: ٢١٦). وتُشير الثقافة الإلكترونية، وَفق ما تُعرِّفها به «موسوعة وسائل الإعلام الجديدة»، إلى «الثقافات المشَكَّلة في الفضاءات الاجتماعية على الإنترنت أو المرتبطة بها» (كندال ٢٠٠٧).

من الناحية الفنية، تَشمل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات عمليات جمع ومعالجة وتخزين واسترجاع ونقل المعلومات في صورة نصٍّ وفيديو وصوت ورسوم، لأغراض اقتصادية واجتماعية وثقافية وعلمية وسياسية بين الأفراد والجماعات والمؤسَّسات والدول. تُحوَّل المعلومات إلى صيغة رقمية، وتُنقَل من خلال تكنولوجيات متزايدة التلاقي؛ حيث يقدِّم الكمبيوتر الشخصي، والهاتف، والإنترنت، والوسائط المتعددة صورة متكاملة من صور الاتصال.

الثقافة الإلكترونية

البيئة الإلكترونية التي تَتلاقى فيها أشكال متنوعة من التكنولوجيات ووسائل الإعلام؛ ألعاب الفيديو، والإنترنت والبريد الإلكتروني، والصفحات التعريفية، والدردشات على الإنترنت، وتكنولوجيات الاتصال الشخصي (مثل الهواتف الخلوية)، وتكنولوجيات الترفيه والمعلومات المحمولة، والتكنولوجيات المعلوماتية الحيوية والطبِّية الحيوية.

يُنتَج الفضاء الإلكتروني أيضًا من خلال تطبيقات الوسائط المتعدِّدة؛ مثل الهاتف المحمول، والمراقبة الإلكترونية، وعقد الاجتماعات عن بُعد باستخدام الكاميرات. وإذ يتصفَّح المزيد من الناس الإنترنت من خلال هواتف آي فون، وإذ تشيع الهواتف الخلوية في كل مكان عبْر العالم، فمن الواجب إعادة تعريف «الفضاء الإلكتروني» نفسه. إذا كانت بيئات الواقع الافتراضي موضوعًا شائعًا لدى الدراسات الأكاديمية للثقافة الإلكترونية، فهي لا تُشكِّل، كما تُوضِّح ليزا ناكامورا (٢٠٠٦) بحقٍّ، معظمَ خبرة مستخدمي التكنولوجيا الرقمية. المدوَّنات، والألعاب، والصفحات التعريفية، والتواصل الاجتماعي، والتسوُّق، والدردشة على الإنترنت، كل ذلك أهمُّ فيما يتعلق بالأمور المشتركة واليومية. وإذا ما أمَّلَت دراسات الثقافة الإلكترونية أن تستلهم من أُطُر الدراسات الثقافية — المستقرة في الحياة اليومية — فعليها أن تلتفت إلى الإنترنت الشعبي، لا إلى البيئات الشاذة في مَعامِل الواقع الافتراضي. ليس هناك ثقافة إلكترونية «واحدة»؛ فبالنظر إلى أن الثقافة الإلكترونية أصبحت مطبَّعة للغاية، ومطوَّعة، ومعدَّلة، ومستأنسة في حيواتنا اليومية، فهناك في الواقع ثقافات إلكترونية كثيرة، لعلَّ الإنترنت هو أكثرها شيوعًا. مع الهواتف المحمولة وهواتف الجيل الثالث، لدينا ثقافات إلكترونية في راحات أيادينا، ومنفذ إلى العالم الافتراضي. ومن ثَمَّ، يتعامل هذا الكتاب مع الثقافات الإلكترونية باعتبارها «تشكيلًا» ناتجًا عن كثير من البِنى، والأدوات، والأفكار، والأيديولوجيات المتصاحبة: الاقتصاد السياسي، والمعلومات، والتمويل العالمي، والرأسمالية، ومنطق السوق، وتراكيب الكوابل والأسلاك، والشاشات، وبطاقات الإس آي إم. وتَشتمِل الثقافات الإلكترونية على وفرة من المواقع والتطبيقات، من التطبيب إلى التعبئة، ومن الإباحية إلى السياسة، ومن الترفيه إلى أشكال الإدمان. ومع ذلك — وهذا هو لب الموضوع — فالمعلومات التي ترتبط بها الثقافات الإلكترونية في نقاط متنوعة وبطرق مختلفة، متصلةٌ بالظروف «المادية» للحياة الواقعية، وتُكرِّرها، وتُمدِّدها، وتُضخِّمها.

لا تُعامَل بيئة الفضاء الإلكتروني — من «فضاء» أنظمة الاتصالات المحمولة إلى عوالم الألعاب — خلال هذا الكتاب باعتبارها مجرَّد عالَم موازٍ، ولكن باعتبارها «امتدادًا» و«تضخيمًا» للعالم اليومي. فالإنسان في هيئة «أفاتار» (هُوية على الإنترنت) في الفضاء الإلكتروني، ذي هُويات مختلفة ومُتعدِّدة، لا يكون منتشرًا وكأنه «مُشكَّل مجدَّدًا» بقدْر ما يكون إنسانًا مُتمدِّدًا. وليس ما بعد البشري شكلًا جديدًا مذهلًا، ولكنه نسخة معدَّلة من الإنسان كما ظلَلنا نعرفه.

الأفاتار

الأفاتار هو هُوية على الإنترنت، وعادة ما يكون تمثيلًا رسوميًّا للمُستخدِم في بيئة افتراضية، ويُمكن تعديله وجعله يُشبه أي شيء يرغب فيه المستخدِم، ويمكن أيضًا جعله يُؤدِّي حركاتٍ في بيئة الإنترنت. يأتي المصطلح بالصدفة من الميثولوجيا الهندوسية؛ حيث يرمز إلى إعادات تجسيد الآلهة أو تجلياتها الأرضية (مظاهرها على الأرض). وربما كان استخدامه الأول في لعبة «هابيتات» على الإنترنت، التي أنتجتها شركة لوكاسفليمز، ويرجع تاريخها إلى ثمانينيات القرن العشرين.

الثقافات الإلكترونية «تشكيل» متصل بالسياقات والظروف المادية ومُدمج فيها. هذه الظروف تُنْتِج الفضاء الإلكتروني، وتُمدُّه بالمعلومات، بل تحكم طبيعته، وإنتاجه، وتَوَسُّعه، وتطبيقه. ويعني هذا أننا بحاجة إلى أن نرى الثقافات الإلكترونية مثل أي عملية «مناسبة» بِنيَةً ثقافية أخرى، تُحدِّد موضع العِرْق، والطبقة، والنوع، والميل الجنسي، والهُوية، وتُمثِّلها، وتمارس نفوذها عليها، وتؤثِّر فيها بطرق مميزة. توسِّع دراسات الثقافة الإلكترونية عمل النقد الثقافي والدراسات الثقافية بوضع الثقافات الإلكترونية في موقعها على اعتبار أنها تؤثِّر في هذه الهُويات الفعلية للأفراد، وتتأثَّر بها.

وبينما يُصبِح الإنترنت ووسائل الإعلام الرقمية والثقافات الإلكترونية «مطبَّعة»، ومستأنَسة، ومدمَجة في الحياة اليومية للأفراد والمنظمات، نحتاج إلى فهْم الطريقة التي تؤثِّر بها في تلك الحياة اليومية. هل تمتلك كل أقسام المجتمع الدرجةَ (أو الطبيعة) ذاتها، من التحكُّم في العوالم الافتراضية والتمثيلات في هذه العوالم؟ هل الثقافات الإلكترونية مؤسَّسَة على النوع في الحيوات اليومية للأفراد؟ هذان السؤالان مهمان؛ لأنهما يكشفان عن كون الثقافات الإلكترونية منظومةً من الممارسات الاجتماعية. الثقافات الإلكترونية، كالفيلم أو التليفزيون أو الرياضة، تشكيلاتٌ ثقافيةٌ لها سياستها الثقافية الخاصة (المتصلة بالعِرْق، أو الاقتصاد، أو الطبقة، أو النوع). يُحلل هذا الكتاب الثقافات الإلكترونية بوصفها مُدمَجَة في صور القوة، أو مغلِّفة لها، أو منتِجة لها.

وحتى «نقرأ» الثقافات الإلكترونية، نحتاج إلى أن ننظر إليها على اعتبار أنها «ثقافة» تكنولوجية. لا يعامل هذا الكتاب الفضاء الإلكتروني بوصفه كِيانًا مستقلًّا، ولكن بوصفه كيانًا متصلًا بالعالم المادي، بكل مشكلاته وهمومه الحاضرة. وبينما تُحدِّد الثقافات أي أشكال من التكنولوجيا تتطوَّر، فهذه التكنولوجيات بدورها تُشكِّل الثقافات. ليست التكنولوجيا، بعبارة أخرى، مجرد ناتج أو سبب للثقافة، ولكنها «كلاهما»؛ فهي تحدِّد الثقافة التي تتطوَّر فيها، وتَتَحدَّد بفعلها. ثمة روح ومنطق لأي تكنولوجيا معينة يتغذيان من المجتمع والثقافة ويغذيانهما. بعبارة أخرى، على المرء أن يضع أي تكنولوجيا «داخل» سياقاتها «المادية» المحدَّدة. التكنولوجيا جميعها، حسب هذه القراءة، محكومة بسياق. ليست التكنولوجيات شيئًا موجودًا وحسب، بل هي جزء أساسي من حيواتنا، ومندمجة في الشأن اليومي. إن التكنولوجيات «مستأنسة» (سيلفرستون وهادون ١٩٩٦)، وهي، في المقابل، تُوجِّه الطريقة التي ندير بها حيواتنا اليومية «من حولها». وبالإضافة إلى امتلاك التكنولوجيات قيمةً ذرائعية، فهي تمتلك أيضًا قيمًا ثقافية — من الوجاهة، والأمان، والتآلف الاجتماعي — تُوجِّه باطرادٍ تصميم الأجهزة التكنولوجية وتَطوُّرها.

لا بد للهاتف المحمول أن يكون أكثر من هاتف؛ إذ يجب أن يكون بمنزلة مفكرة شخصية، ومؤشِّر صحي، أو جهاز ترفيه، ورمز للمكانة. ولذا يحتاج المُصمِّمون إلى التنبُّه لتلك القيم التي صارت مهمة وجُعِلت مرغوبة في ثقافةٍ ما، وأن يدمجوا تلك القيم في «الشيء» الذي يُصمِّمونه. ولهذا السبب يُصبِح لذلك «الشيء» أبعادٌ أكبر؛ فهو يمثِّل التطلعات، وخيارات أسلوب الحياة، والقيم الثقافية، والشعور (بيَّنت الأبحاث التجريبية مثلًا أن الناس متعلِّقون «عاطفيًّا» بهواتفهم الخلوية. انظر بالن وهيوز ٢٠٠٧؛ سريفاستافا ٢٠٠٦)، والقيم الوظيفية. لا بد أن يكون الهاتف الخلوي كفؤًا وجذابًا؛ إذ تُعبِّر الصفة الأولى عن قيمة «إنتاجية» و«ذرائعية»، والأخرى عن قيمة «رمزية» و«ثقافية». في أكتوبر ٢٠٠٧، أطلق هوتميل خدمة «كول هوتميل» (www.coolhotmail.com). وهي خدمة «سماتها» الأساسية كلها اجتماعية، وتُتيح للمستخدمين أن يختاروا هُويات شخصية:
«احصل على هُويات تعريفية للبريد الإلكتروني بوصفها إثباتًا للإقامة!»
«جِد هُوية تعريفية للبريد الإلكتروني تصفُ شخصيتك هنا!»
«رياضة، وطعام، وشراب، وكثير من المتعة! هُويات تعريفية لكل المناسبات. كم من هذه الهُويات التعريفية المبتكرة للبريد الإلكتروني حصلت عليها؟»

وأخيرًا، الحجة الأكثر إقناعًا:

أنت في طبقة خاصة بك، الفردية هي مفتاحك. الأمر كله يتعلَّق بكونك أنت، في فضائك الخاص. الأمر يتعلَّق بالهُوية التعريفية لبريدك الإلكتروني!

تمنح أيديولوجية الفردية تصميم سطح المكتب والبريد الإلكتروني شكلهما. ومن هنا تُسمِّي مايكروسوفت برامجها إم إس أوفيس، موحية من ثَمَّ بأنه يخدم طبقةً معينة من الناس (الذين يعملون في المكاتب، لا في البناء أو البستنة مثلًا). ليست هذه تفصيلات فنية، ولكنها قيم اجتماعية وثقافية. اسم البرنامج متجذر في سياقات مادية واقعية؛ حيث يُمنَح العمل والخدمات المكتبيان — أو «العمل في مجال المعرفة» (إيه ليو ٢٠٠٤) — باطرادٍ قيمةً أكبر مما يُمنَح لأشكال العمل الأخرى في الاقتصاد المعلوماتي.

وبالمثل، تكنولوجيات إعداد قواعد البيانات محكومة بعوامل ليست تكنولوجية؛ مثل النفاذ إلى المعلومات عبْر الحدود، أو الاعتبارات الأمنية، أو مسائل الخصوصية، أو رأس المال البشري، أو الصراعات. وتُؤثِّر عوامل المال، والسوق، والسياسات التعاونية بين الدول أيضًا في الآليات التشغيلية لقواعد البيانات. بينما سيطرت الدولة أو إدارة السجلات فيما مضى على المعلومات (تفاصيل الضرائب، والسجلات الجنائية، والسكان، وسجلات المواليد والوفيات)، يُتيح استخدام التكنولوجيا الرقمية إمكانيات حفظ السجلات لفاعلين مُتنوِّعين. ولذا، فمنطق التكنولوجيا غالبًا ما يكون اجتماعيًّا.

نحتاج أيضًا إلى أن نسأل عما إن كان الرجال والنساء يستخدمون التكنولوجيا الرقمية بالطريقة نفسها أم لا. هل تُبدِّل الثقافة الرقمية جوهريًّا الهُويات في العالم الواقعي حيث لا يزال العِرْق والإثنية والطبقة والنوع علامات تمييزية رئيسية؟ لا تتمحور التساؤلات من هذا النوع عن العوالم الافتراضية أو المجتمعات الإلكترونية أو عوالم الألعاب الرقمية، ولكنها عن خبرات البشر التي يَعيشونها في أنحاء العالم.

تُحرِّك الثقافاتِ الإلكترونيةَ اعتباراتٌ مادية مُتعلِّقة بالربح والقوة، وتؤثِّر في الناس في حيواتهم الواقعية. ويُظهِر كل هذا كيف يجب النظر إلى التكنولوجيا دائمًا على اعتبار أنها سياقية، ومعاملتها على اعتبار أنها ثقافة تكنولوجية تقترن فيها المعاني، والقيم، والوظائف بالموضوع. وهكذا؛ فالثقافة والتكنولوجيا ليستا منفصلتَين، ولكنهما متصلتان.

تنشأ الثقافات الإلكترونية في سياق حركات للناس على نطاق واسع، وتَمازُج للثقافات يؤدِّي إلى أشكال هجينة، وأشكال مُنتشرة من الإنتاج، وعلى نحو أكثر أهمية، «تدفقات» رأس المال الواسعة الانتشار. تَستلزم اتجاهات رأس المال المتزايدة نحو التحكُّم في إنتاج السِّلَع، وتداولها، واستهلاكها، تواصليةً أكبر، ولكن مع ضوابط متزايدة أيضًا (ستراتون ١٩٩٧).

تبحث المنظمات غير الحكومية وتترابط مع مواقع منتشرة، في سعيها لإحداث تغيرات في المجتمعات عبْر العالم. بَنى العمال المهاجرون (وخصوصًا من آسيا) وادي السليكون، الذي قاد في نهاية المطاف الأبحاثَ والجوانبَ التِّجاريةَ إلى ثورة الكمبيوتر. وانبثق الإنترنت من مشروعٍ لوزارة الدفاع في الولايات المتحدة. ورغبت صناعة الترفيه في الانتشار بقدْر ما يمكنها من حيث الاتساع والعمق، وكان الطلب على ترفيهٍ أعظمَ، ومُستمرٍّ، وأكثر تنوُّعًا، دافعًا لإنتاج أجهزة الووكمان، والتكنولوجيات المحمولة لعرض الأفلام، والترفيه أثناء التنقُّل. أما العولمة التي يُقال إنها الجانب الاجتماعي/السياسي/الثقافي الأكثر وضوحًا لثقافة القرن العشرين، فلم تكن لتتسنَّى لولا تكنولوجيات المعلومات والاتصالات.

ينصبُّ اهتمام هذا الكِتاب على ثقافات الإنترنت المتصلة شبكيًّا والعوالم الافتراضية التي تلعب فيها الكمبيوترات والتكنولوجيات الرقمية وأنظمة الاتصالات دورًا رئيسيًّا. بينما تصير الهواتف المحمولة باطِّراد محطاتٍ طَرفيةً وعُقدًا لثقافات الإنترنت، فهي تظهر هنا في صورة امتدادات لمثل هذه الثقافات الشبكية. ويفحص هذا الكتاب:
  • الأشكال الشعبية من الثقافات الإلكترونية.

  • الفضاءات (الخاص، والعام، والعُمْري) التي تنتجها التكنولوجيات الإلكترونية.

  • الطبيعة المؤسَّسة على النوع والعِرْق والطبقة لهذه الثقافات الجديدة.

في بقية هذا الفصل، سأُبيِّن: (١) سياقات الثقافة الإلكترونية بمعايير مجتمع المعلومات والعولمة. (٢) المسائل الأساسية في دراسات الثقافة الإلكترونية. (٣) المقاربات المختارة لدراسة الثقافات الإلكترونية.

(٢) مجتمع المعلومات

يُمكن تعريف «مجتمع المعلومات» (حسب قاموس ويبستر، طبعة ٢٠٠٣) بأنه نظام يوجد فيه:
  • تلاقٍ متزايد للاتصالات السلكية واللاسلكية واستخدام الكمبيوتر في الحياة اليومية، والإنتاج، والاستهلاك، والسياسة.

  • أهمية متزايدة لإنتاج المعرفة.

  • عدد دائم التزايد من المشتغلين بالعمل المعلوماتي (مقابل العمل البدني الزراعي أو الصناعي).

  • ربط شبَكي بين المدن والفضاءات عبْر تدفُّقات المعلومات (من خلال شبكات الاتصال السلكية واللاسلكية).

  • قدْر مُتزايد من «تبادل» المعلومات في شكل نصٍّ وصُوَر وصوت.

انتقل العالم، وفقًا لفرضية دانييل بِل (١٩٧٣) الشهيرة، إلى حالة مجتمع «ما بعد صناعي». وهذا الانتقال موسوم بانخفاض في العمالة الصناعية، وتوسُّع موازٍ في صناعة الخدمات و«مجتمع معلومات». وبدلًا من العمال اليدويِّين والعمال، لدينا «مهنيون»؛ «نخبة ثقافية جديدة» ترغب في إشباع حاجات المجتمع ما بعد الصناعي إلى المعلومات.

يرتبط مجتمع المعلومات ارتباطًا وثيقًا بالعولمة. وتتميز العولمة بالسمات الآتية:
  • توسُّع التجارة بمعايير علاقات التبادل التجاري وحركة رأس المال.

  • تطور شبكات الاتصال عبْر القومية والعالمية.

  • الدور المقلَّص للدولة القومية، حتى داخل فضائها الإقليمي.

  • صعود الشبكات الثقافية والاقتصادية والسياسية عبْر القومية (مثل صندوق النقد الدولي، وحركة السلام الأخضر، ومنظمة العفو الدولية).

  • الحضور المتزايد للمنتجات الاستهلاكية والأدوات الثقافية الغربية (من ليفيز إلى مايكروسوفت)، أو ما يُسمَّى غالبًا «مكدلة» العالم (نسبةً إلى سلسلة مطاعم ماكدونالدز).

يتَّضح للعيان تقسيم جديد للعمل، سهَّلته شبكات الاتصال السلكية واللاسلكية، في عصر العولمة. ويتسنَّى التمويل العالَمي والخارجي، والعمل المعهود به إلى مصادر خارجية، ومواقع الإنتاج والاستهلاك المتعدِّدة والمُتشظية، والتدفُّقات الثقافية بفعل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات.

أدَّى الاعتماد المتزايد على جمع المعلومات ومعالجتها وتوزيعها في عالَم مترابط عالَميًّا إلى ما يصفه مانويل كاستلز بأنه «نظام معلوماتي» تحظى فيه «تدفُّقات» المعلومات بأهميةٍ فائقة؛ فتدفُّقات النقد هي في واقع الأمر تدفُّقات معلومات (كاستلز ١٩٩٦).

مجتمع المعلومات

يُستخدَم هذا المصطلح لوصف عصر التوسُّع الهائل في تكنولوجيات المعلومات والاتصالات خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، والاعتماد المتزايد على التبادل الإلكتروني/ربط البيانات، والأموال، والأسواق.

(٣) المسائل الأساسية في دراسات الثقافة الإلكترونية

يوجز هذا القسم الاهتمامات الأساسية في دراسات الثقافة الإلكترونية. كثير من هذا المسائل مدروسة بتفصيلٍ أكبر في الفصول التالية، وهي متضمَّنة هنا بالتحديد لتؤشر إلى الإمكانيات الكامنة في دراسات الثقافة الإلكترونية.

(٣-١) العولمة، والرأسمالية التكنولوجية، والثقافات الإلكترونية

صارت العولَمة مُمكنة بفضل اختراع الاتصالات عالية السرعة. وتميل الرأسمالية باطِّراد إلى أن تكون «رأسمالية تكنولوجية»؛ لأن الطبيعة الموزَّعة للإنتاج والتسويق والاستهلاك تَستلزم صلات تكنولوجية وتزامنية، واتصالات مُتواصلة على مدار اليوم. بيَّن عمل مانويل كاستلز، كما ذكرنا سابقًا، إلى أي مدًى تكتسب تدفُّقات المعلومات أولوية فائقة في هذا السياق. وإدارة تدفُّقات المعلومات والتدفُّقات المالية هي ما يُصبح بؤرةَ التركيز الأساسية في الرأسمالية التكنولوجية المُعَوْلَمة.

تأمَّل أمازون دوت كوم بوصفها مثالًا لهذه التدفُّقات في عصر المعلوماتية. أمازون دوت كوم هي، كما يُقال، أنجح شركة «دوت كوم» في الوقت الراهن. وبعد نجاتها من انفجار فقاعة «الدوت كوم» في عامَي ٢٠٠٠-٢٠٠١، توسَّعت توسُّعًا فلكيًّا منذ إنشائها، لتصبح النموذج الأشهر للترابط ما بين العولمة والتكنولوجيا والتجارة.

أمازون دوت كوم هي شركة فريدة بسبب الطريقة التي تُكيِّف بها نفسها مع البيئات المحلية. وإذا كان اسمها وعنوانها على الإنترنت اسمًا تجاريًّا، فإن جغرافيا الشاشة التي تستخدمها الشركة تتَّسم بالمرونة — كما يوضح مارتن دودج، (٢٠٠٤)، الشاشة هي جغرافيا مصغَّرة — على نحوٍ يمكِّنها من دمج الثقافة المحلية، وحتى العناصر الشخصية. وهذا يجعلها شركة «محلية» للمُستخدمين، شيئًا أشبه بالبقال القديم في الشارع؛ لأن موقع أمازون دوت كوم مصمَّم من أجل المُستخدِم الفرد، ومن قِبَله، إلى حد أن الموقع بأكمله هو باللغة المحلية. أمازون دوت كوم شركة مقرها سياتل، ولكنها شركة عبْر قومية، لها تدفُّقات وشبكات عالَمية للتمويل وتوزيع الناتج. وأخيرًا، حتى مع أن أمازون دوت كوم لا تَمتلِك متجرًا ماديًّا، فهي تمتلك «ركيزة» بِنية تحتية هائلة تدعم موقعها.

إضافة إلى موضوع التجارة وعولمة تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، تجذب سماتٌ أخرى انتباهنا في هذا المقام؛ فالناس والطبقات والأقاليم التي لا تحظى بأهميةٍ للمجتمع الدولي، تُستبعَد باطِّراد من العالم المترابط؛ كبار السن، والشعوب الأفريقية، والمصابون بأمراض عقلية، والمَعازل الكامنة في أعماق المدن، كل أولئك هامشيون لحركة تكنولوجيات المعلومات والاتصالات المُتعولِمة. ومثلما كانت الرأسمالية مدفوعة بمنطق تراكم رأس المال والإنتاج، فعصر التكنولوجيا العالية مدفوع بالحاجة إلى امتلاك كميات دائمة التعاظم من المعلومات، وأولئك الذين يَفتقرون إلى هذا (فقراء المعلومات) يُطرَدون من السباق. ومع ذلك، فقوة العمل البشري بالغة الأهمية لهذا الوضع المُستجَد أيضًا. وكما يَفترض دوجلاس كلنر (١٩٩٩)، فالأتمتة وجمْع المعلومات والعمالة تُناظِر الميكنة في عصر الرأسمالية الأسبق. في مثل هذا النظام الرأسمالي الجديد، يسقط فقراء المعلومات من خلال الفجوة.

للعولمة عواقب مادية جلية — من الأرباح إلى الفقر — وهذه هي الظروف التي توجد فيها الأشكال الثقافية الإلكترونية، والاقتصاد المعلوماتي، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وتؤدِّي وظائفها. من ثَمَّ يرى هذا الكتاب أن دراسات الثقافة الإلكترونية تشكل جانبًا أساسيًّا من دراسات العولمة نفسها.

(٣-٢) المادية والبدنية

تحتفي دراسات الثقافات الإلكترونية، مثل تلك التي أعدَّها هوارد رينجولد (١٩٩٤)، بالعوالم الافتراضية لتمكينها المستخدم من تجاوُز الجغرافيا والجسد. وكما يُفترض، فالتجرُّد من الجسد هو التغلُّب على قيود الجسد لصالح الرشادة والتفكير الخالصَيْن. وحينما يصفُ هانز مورافك (١٩٨٨) الجسد بأنه «محض هلام» (ص١١٦)، فإن الافتراض الأساسي في هذا الوصف هو أن المعلومات، والتفكير، والعقل أهم من الجسد (ولو أن ثقافة السايبربنك دائمًا ما تكون انتقاديَّة لمثل هذه الرُّؤى للأجسام ذات القدرات التكنولوجية، التي غالبًا ما تُمثِّل هواجسَ ثقافيةً بشأن «التحوُّل إلى المعلومات»). يُشكِّل موضوع التجرُّد من الجسد والتجاوُز الجسدي أيضًا أساسَ عمل الفنانين الإلكترونيِّين والرقميِّين من أمثال ستيلارك. يُمكن التغلُّب على قيود الجسد — المرض، والانتكاس، والشيخوخة — من خلال زراعة الأعضاء التكنولوجية. ويكون ما لدينا هو جسد «مضخَّم»: ما بعد البشري.

لا تعود الذاتية والهُوية متجذرتَيْن في الجسد. تكون الذاتية في الحالة ما بعد البشرية «موزَّعة عبْر دوائر التحكُّم الإلكتروني» (هيليس ١٩٩٩: ٢٧). يوحي إدماج المعلومات من الخارج في الجسد وتمديد الوعي إلى فضاءات أخرى من خلال الواقع الافتراضي أو دوائر التحكُّم الإلكتروني، بأن الوعي يَنبغي ألا يتقيَّد بالجسد. ومع ذلك، فإذا كان تجاوُز حدود الجسد أمرًا جذَّابًا — لأنه يتفادى، من بعض الجوانب، الانتكاس والشيخوخة — فإنه يفرض مشكلاته. ولأن المعاناة، والسياسة، والتحرُّر تظل أمورًا «متجسِّدة»، فتجاوُز الجسد لا يُفيد. وإلى جانب هذا، وفيما يخص النساء، والأقليات، والمهمَّشين اجتماعيًّا، يجب أن تبقى المطالبات بالعدالة متجذرة في «الجسد»، لا في «الوعي» الخالص، المُتجرِّد من الجسد، المجرَّد.

مهمٌّ أيضًا أن أي تكنولوجيا للتجاوُز البدني لا يُمكن بناؤها إلا من خلال جهد دءوب، تُؤدِّيه أجسادٌ ماديةٌ تمامًا، تعمل غالبًا في ورش للعمل الشاق، مقابل أجور مُتدنية. وعلى الجانب الأكثر إيجابية، يُمكن أن تُحسِّن التطورات المستجدة في زراعات الأعضاء وفي الدواء المُعتمدَيْن على الكمبيوتر، الوظائفَ تحسينًا ملموسًا؛ ومن ثَمَّ تحسِّن الحياة المادية للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، والمسنين، والمرضى.

تَستكشِف دراسات الثقافات الإلكترونية تأثير تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وعواقبها، وسياقها، وتجلياتها، على الأوضاع الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، والمادية (أي ذات اللحم والدم)، للأجساد الواقعية، وتُمحِّص التحوُّلات في طبيعة حياة الأجساد المادية عبْر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات ووسائل الإعلام الجديدة. في الفصل المعني بالأجساد الإلكترونية (الفصل الثالث)، نعود إلى هذه الموضوعات البدنية وغيرها.

(٣-٣) الانقسام الرقمي

بديهي أن الموارد والقوة ليستا موزَّعتَين بالتساوي بين شعوب العالم ودوله. وصعود تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وتوسُّعها السريع يَخضعان لوضعٍ مماثلٍ من التفاوت بين أفريقيا وأوروبا، مثلًا، في القدرة على الاتصال، على نحوٍ يُفضي إلى «انقسام رقمي». تفترض بيبا نوريس، بالتركيز في المقام الأول على النفاذ إلى الإنترنت، بوصفه النقطة المحورية في الثقافة القائمة على الشبكة، أن هناك انقسامًا ثلاثي الطبقات: «الانقسام العالَمي» الذي يشير إلى التباين في النفاذ إلى الإنترنت بين الدول المتقدمة والدول النامية؛ و«الانقسام الاجتماعي» الذي يشير إلى التباين في النفاذ إلى الإنترنت، وفي استخدامها بين الطبقات والأقسام في مجتمع معيَّن (الذي يُصطلَح على تسميتِه «أغنياء المعلومات» و«فقراء المعلومات»)؛ و«الانقسام الديمقراطي» الذي يشير إلى الفرْق في طبيعة/جودة استخدام الإنترنت والمصادر الرقمية بين المستخدمين (نوريس ٢٠٠١: ٤). من أمثلة هذا الانقسام الرقمي، المبيَّن في سبتمبر ٢٠٠٧ (إحصائيات الإنترنت العالمية ٢٠٠٧)، معدل استخدام الإنترنت والتغلغل السكاني:
  • لدى أفريقيا ١٤٫٧ في المائة من سكان العالم، وتُشكِّل ٣٫٥ في المائة من إجمالي استخدام الإنترنت في العالم (وإن كانت تُظهِر أكبر توسُّع في استخدام الإنترنت — ٨٧٤٫٦ في المائة بين ٢٠٠٠ و٢٠٠٧).

  • لدى أوروبا ١٢٫٣ في المائة من سكان العالم، وتُشكِّل ٢٧٫٢ في المائة من استخدام الإنترنت في العالم.

  • تحظى أمريكا الشمالية بنسبة ٦٩ في المائة من حيث تغلغل الإنترنت على الرغم من أنه لا يوجد لديها إلا ٥٫١ في المائة فقط من سكان العالم.

  • داخل آسيا، تُشكِّل أفغانستان ٠٫١ في المائة من مجموع المستخدمين في آسيا، و٢٫٠ في المائة من سكانها على اتصال بالإنترنت. وتمثِّل الهند ١٣٫١ في المائة من مجموع مستخدمي الإنترنت في آسيا، و٥٫٣ في المائة من سكانها على اتصال بالإنترنت. و٦٨٫٢ في المائة من سكان هونج كونج متصلون بالإنترنت، وفي اليابان ٦٨ في المائة.

الفارق بين المستخدمين وتغلغل الإنترنت واضح من الإحصائيات، غير أن دلالة هذا الفارق ليست واضحة للغاية للوهلة الأولى، وطبيعة الانقسام الرقمي هي ما يهمنا هنا من حيث الفاعلية، والقدرة، ومسائل القوة والهُوية.

الانقسام الرقمي

يُستخدَم هذا المصطلح لوصف الطبيعة المتفاوتة للاتصال بالإنترنت، وجودة الاتصال بالإنترنت، والاتصال الإلكتروني، والثقافات الإلكترونية عمومًا. ويظهر في المقام الأول الفرق في الثقافات الرقمية — إنتاجها، وانتشارها، واستخدامها — بين شعوب العالم الأول والعالم الثالث، وإن كان «الانقسام» داخل العالم الأول يُوصف باطِّراد أيضًا وفقًا للقاعدة نفسها.

يتَّخذ العالم الأول طابعًا «معلوماتيًّا»، ومتصلًا شبكيًّا، ومترابطًا على نحوٍ متزايد. ربما يعني العصر الرقمي في مثل هذه الحالات، بالنسبة إلى شرائح معينة من المجتمع، «المزيد من النفاذ» إلى الخدمات الصحية (شبكات العاملين في الرعاية الصحية، وبياناتها، وخبرتها)، والتعليم (التعلُّم عن بُعد، والوصول إلى المعلومات)، والمعاملات المالية (التجارة الإلكترونية)، والمشاركة الأهلية (التصويت عبْر الإنترنت، والنقاشات العامة عبْر الإنترنت). يُغيِّر الكمبيوتر الشخصي وطبيعة الاتصال الأسرع والأرخص دور الفرد أو المجتمع في المجال العام؛ إذ يُمكِّنان الأفراد والمجتمعات من النفاذ إلى المعلومات؛ ومن ثَمَّ تحسين أساليب معيشتهم أو ظروفهم.

غير أن العالم الأول يشهد تفاوتات عِرقية وطبقية في الوصول إلى المصادر الرقمية واستخدامها؛ يوجد نفاذ مُتفاوِت فيما يخص السود والتشيكانو، ويوجد انقسام ريفي-حضري. ولذا، فالانقسام الرقمي يستلزم دراسته على مستوى الدولة، والمؤسسة، والفرد (نوريس ٢٠٠١: ١٤-١٥). يُمكن للطلاب البيض الذين لا يَملكون كمبيوترات في منازلهم أن يتصلوا بالإنترنت من أماكن أخرى، أكثر مما يستطيع ذلك الطلاب غير البيض. وأظهرت الدراسات أن الأطفال القوقازيين يتصفَّحون الإنترنت بحثًا عن مواقع المرح والترفيه، بينما يبحث الأطفال الأمريكيون المنتمون إلى أصول أفريقية من المجموعة العمرية ذاتها عن المعلومات، والتعليم، والأنشطة المساندة للعِرْق في الغالب، وإن كان الإنترنت الشعبي لا يبدو أنه يُظهر انقسامًا عرقيًّا بين الأطفال (جاكسون وزملاؤه ٢٠٠٧).

ومع ذلك، فالانقسام الرقمي لا ينحصر في مسألة توفُّر الكمبيوتر الشخصي أو الإنترنت؛ فالعوامل الثقافية الأخرى مثل اللغة (الافتقار إلى معرفة الإنجليزية، مثلًا، فيما بين المهاجرين في الولايات المتحدة الذين قد يَحتاجون إلى إيجاد معلومات عن الرفاه الاجتماعي أو القوانين) يمكن أن تحدِّد عدد المستخدمين. ويُعيدنا هذا إلى سؤال «القوة» في النقاشات المتصلة بالعصر الرقمي. صعد الإنترنت بصفته تشكيلًا انتقائيًّا نخبويًّا، وتوسَّع إلى نزعة نخبوية-تكنولوجية كاملة، محدَّدة على أساس رأس المال. تُحدِّد عوامل النفاذ والبنية التحتية والتكاليف، التي تتسم كلها بالتمايز، قدرةَ الأفراد على قضاء الوقت على الإنترنت، أو تشكيل المجتمعات على الإنترنت. وتستمر التساؤلات عن السلطة، بما تَشمله من مراجعة الأقران، والسيطرة على الموارد، والتمتُّع بالاحترام، والقدرة على صنع السياسة — أو «أصول» هذه العوامل على وجه الدقة — في توجيه الثقافات الإلكترونية. هذه أسئلة عن القوة في نهاية الأمر، وهي بالضبط المجالات التي تُظهِر فيها الثقافات الفرعية، مثل المُخترِقين، «فاعليتَها».

إن تركيز دراسات الثقافة الإلكترونية على الاقتصاد السياسي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات يُولي اهتمامه إلى مسائل القوة والعدالة، والأجندة الاجتماعية، والعواقب السياسية لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات. وتَستدعي دراسات الثقافات الإلكترونية الانتباه إلى الطبيعة المُستندة إلى العِرْق والنوع والطبقة، التي تتسم بها «ثورة المعلومات»، وتأثيرات هذه الثورة على قطاعات المجتمع المختلفة، ومسألة القوة التي تُحدِّد مسار الثورة.

الفاعلية

الفاعلية هي قدرة الأفراد على صنع خيارات لتغيير مَسار حيواتهم، وتطبيق هذه الخيارات. والفاعلية في النظرية الاجتماعية هي أساس الهُوية والحقوق؛ حيث تكون المُطالبة بالحقوق هي المطالبة بأن يكون الأفراد قادرين على السعي لتحقيق غاياتهم، وطموحاتهم، وأهدافهم بلا إعاقة.

(٣-٤) الحكم الإلكتروني

الحكم الإلكتروني هو أحد العناصر الأساسية في النقاش حول الانقسام الرقمي. يفترض المُتحمسون للديمقراطية الرقمية أنَّ تَوسُّع الإنترنت والمصادر الرقمية سيعزِّز المشاركة الأهلية، والاتصالات بين المواطنين والدولة، واستجابة الدولة للمجتمع. ويَشتمل الحكم الإلكتروني على خدمات عامة مُتزايدة، تتنوَّع من الرعاية الصحية للمجتمع إلى استجابات الموظَّفين المدنيِّين لطلبات الاستشارات المحلية؛ فبينما تتسم الاجتماعات وجهًا لوجه بالصعوبة وارتفاع التكاليف، تَستطيع الثقافات المتصلة شبكيًّا إتاحةَ مثل هذه التفاعُلات على نحوٍ مُثمرٍ في الفضاء الإلكتروني. تُقدِّم مواقع الحكومة والخدمات العامة على الإنترنت معلومات عن العمليات الرسمية مجانًا في أغلب الأحيان. جمعت المؤسسات البحثية بيانات من بلدان مختلفة، ووجدت أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة تَمتلكان أعلى عدد للعمليات الحكومية المبيَّنة على الإنترنت (سيابرسبيس بوليسي ريسيرش جروب ٢٠٠١).

الهدفان والمَبدآن الرئيسيان في قضايا الحكم الإلكتروني هما «الشفافية المعلوماتية» و«التفاعلية الاتصالية» (نوريس ٢٠٠١: ١١٩-١٢٠). تصف الأولى مقدار المعلومات التي تُقدِّمها الحكومة، بينما تصف الثانية التفاعلات بين هيئات الدولة وبين المواطنين. ويُمكن لنشر التقارير الرسمية، والقرارات الإدارية، وعمليات صنع السياسة، على الإنترنت وإتاحتها أن يُساعد المواطنين في التصويت، وصياغة بياناتهم للدولة، وفهْم السياسات والتشريعات التنظيمية، وربما حتى القيام بتدخُّلاتهم الخاصة. يُمكن القول إن عملية الحكم الإلكتروني تَنشُد زيادة الشفافية وتعزيز الاتصال بين الحكومة والمواطن. ومع ذلك فإن إتاحة المعلومات «لا تَضمن» بحد ذاتها جودة المعلومات المزوَّدة أو موثوقيتها.

تُعنَى دراسات الثقافة الإلكترونية بدور تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في التشريع، وتأثير التكنولوجيات الجديدة في مجال المشاركة السياسية. وانطلاقًا من اهتمامها بالاقتصاد السياسي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، تتصدَّى دراسات الثقافة الإلكترونية لمسائل التمكين، والرقابة، والاستخدامات (وإساءة الاستخدامات) السياسية للتكنولوجيات الجديدة، والهويات القومية، والطرق الجديدة لمشاركة المواطنين في السياسة والحكم.

(٣-٥) المجتمع المدني

طالَما فُهِم أن التكنولوجيات الرقمية، بما تحتويه من قدرة على زيادة التواصل سواء داخل المجتمع أو بين المجتمع والدولة، تُعزِّز المجتمع المدني. تمتلك المنظمات غير الحكومية، والنشطاء، والخبراء، والجمهور العام منفذًا أكبر إلى المعلومات، وفرصًا أكبر للترابُط معًا من أجل ممارسة الضغط. في ١٩٩٩، خلال اجتماع منظمة التجارة العالَمية في سياتل، التقى أنصار البيئة، والنشطاء، والمحتجُّون المناهضون للعولمة، والنقابات العُمالية ليتظاهَرُوا. ووفَّر موقع المجتمع المدني الدولي على الإنترنت تقريرًا كل ساعة، عن التظاهرات — تقارير وُزِّعت/بُثَّت تليفزيونيًّا لمئات من المنظمات غير الحكومية عبْر العالم. وتُضرَب تلك الأمثلة للإشارة إلى تعاظم قوة النشاط الجماهيري.

تزداد الحركات الاجتماعية استخدامًا للإنترنت بوصفها وسيطًا للاتصال، والدعاية، والتعبئة السياسية. وتستخدم منتديات المواطنين، وآليات التغذية الراجعة للدولة، والمنظمات غير الحكومية الإنترنت والمصادر الرقمية لتقوية بنياتها التحتية، واستجاباتها، وواجهاتها العامة.

التفتَت الحركات الاجتماعية على اختلاف بؤر تركيزها — البيئة، ومناهضة العنصرية، وحقوق المثليِّين والمثليات، ومناهضة العولمة، وتمكين النساء — إلى الإنترنت بوصفه فضاءً يُمكن فيه اصطناع صور من التضامُن وتقويتها. والتمست القوائم البريدية، والمناشدات على الإنترنت، ورسائل البريد الإلكتروني التمويلَ والدعمَ السياسي. أما الذين أحجموا، في المقابل، عن احتجاجات الشوارع أو عن التعبيرات المماثلة عن الآراء السياسية، فيزيدون جماهير الملتمسين على الإنترنت. وأما المحتجون السياسيون فاستخدموا الإنترنت بطرقٍ أخرى أكثر «إضرارًا» — لحجب المواقع الحكومية أو تشويهها، مثلًا — من أجل جذب الانتباه (مثال هذا تشويه مُخترِقين مناصرين لفلسطين مواقع أمريكية مناصرة لإسرائيل عام ٢٠٠٠). والأهم أن ثمَّةَ إمكانية لعولمة الحركة ذاتها؛ لأن الصلات عبْر القومية بين المنظمات والجماعات تلقى المساعدة في عملياتها وبرامجها ذات الانتشار الجماهيري من خلال الوسيط. بوسع الحركات الاحتجاجية والاجتماعية بثُّ أيديولوجياتها ومعتقداتها وقيَمِها إلى عدد أكبر من الناس وعلى أقاليم أوسع مما كان متاحًا لها في أي وقت. يفترض مانويل كاستلز أن التلاشي البطيء للتَّشكيلات السياسية التقليدية، مثل الحزب السياسي والنقابة المهنية، مكَّن التحالفات الرخوة، والتجمعات حسب الغرض، والحراكات العفوية من أن «تحلَّ محل» البِنى الدائمة والأكثر تنظيمًا (كاستلز ٢٠٠١: ١٤٠-١٤١).

تستطيع شبكات المواطنين في البلدات والمدن أن تُقدِّم فرصًا أعظم للمجتمع وللأفراد للمشاركة في النقاشات عن المسائل التي تعنيهم. كما تمتدُّ الشبكات الجامعية، وشبكات المجتمع المحلي المخصَّصة للمواطنين كبار السن والجماعات المساعدة إلى أعداد أكبر من خلال الوسيط المُتمثِّل في مواقعها على الإنترنت، وخطوط المساعدة، وآليات التغذية الراجعة، ومنتديات النقاش على الإنترنت. هذه العمليات الديموقراطية (التغذية الراجعة، والآراء، والنقاش الديمقراطي) تُيسِّرها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة، على نحوٍ يُبرِز حقبة جديدة بالكامل للمجتمع المدني، ويُحسِّن الفاعلية السياسية والاجتماعية والثقافية — من نشر الآراء إلى الفعل السياسي.

غير أنه يجب الأخذ في الاعتبار أيضًا أن مثل هذا النشاط السياسي على الإنترنت قد لا يكون له تأثير «مادي» (لم يُغيِّر المحتجون على منظمة التجارة العالمية، أو على نظام ميانمار، مثلًا، مسار الأحداث). ثمَّة خطر أن تبقى المقاومة أو النشاط الثقافي الإلكتروني على المستوى الافتراضي، مع أثر قليل في العالم الواقعي، أو لا أثر على الإطلاق. يظهر إحساس زائف بالالتزام والتمكين الاجتماعيَّيْن في النشاط السياسي على الإنترنت — لا يستوي وضع امرئ توقيعه الإلكتروني على الْتماسٍ على الإنترنت وسد الطريق على موظَّف مدني، أو قطع الطريق لإعاقة المرور تعبيرًا عن المطالب. وسنحسن صنعًا أيضًا لو أدركنا المفارقة الكامنة في أن تقديم الالتماسات على الإنترنت يُمكن أن يؤدي إلى «انسحاب» من التظاهُر السياسي المادي الذي يجتذب الانتباه والفعل.

باهتمامها بالاقتصاد السياسي والأسس المادية لتكنولوجيا المعلومات والثقافات الرقمية، تستكشف دراسات الثقافات الإلكترونية الطرق التي طوَّعت بها المنظمات، والأفراد، والحملات، والمجتمع المدني عمومًا تكنولوجيات المعلومات والاتصالات أو قاومتها.

(٣-٦) حكم الفضاء الإلكتروني

إذا كانت الحقبة الرقمية بشَّرت بتفاعلٍ محسَّن بين المواطن والدولة من خلال تكنولوجيا محقِّقة للديمقراطية، ولو في المجتمعات ما بعد الصناعية، فإن الثقافة الإلكترونية والشبكات تَخضعان للحكم والتنظيم. تستلزم «حرية» الفضاء الإلكتروني التمحيص الدقيق في مواجهة مُمجِّدي «ثقافة الإنترنت».

لا يُعنى الحُكم بالعتاد الصلب من الكوابل، أو المحركات، أو الأجهزة الملحقة بالكمبيوتر، أو الراوترات، وحسب، ولكنه يُعنى أيضًا بتبعة أنماط نقل البيانات من خلال الأنظمة الرمزية أو البروتوكولات. البروتوكولات (بروتوكول التحكُّم بالنقل/بروتوكول الإنترنت، ونظام اسم الحقل) هي الركيزة المادية لنظام توزيع الإنترنت، ويمكن تنظيمها. يُعرَّف البروتوكول بأنه «لغة تُنظِّم التدفُّق، وتدير فضاء الشبكة، والعلاقات بين النظم الرمزية، وتربط بين صور الحياة» (جالوي ٢٠٠٤: ٧٤).

موضوع البروتوكول — قواعد العتاد المَرِن — هو السلطة.

البروتوكول

هو مجموعة القواعد التي تُحدِّد تخصيص عناوين الإنترنت وأسماء النطاقات والخوادم.

مع مؤتمر رستون، في فيرجينيا والمنتدى الدولي بشأن الكتاب الأبيض عام ١٩٩٨، بدأ إرساء آليات لتنظيم «الجذر». ورغبت مؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصَّصة في إنشاء ما أسمته «الإدارة الفنية»، ولكنها كانت في الواقع نظامًا تنظيميًّا أطلق «حكم الإنترنت». وكما يؤكِّد ميلتون مويلر، فمؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصَّصة، هي نظام دولي جديد مشكَّل على أساس استخدام الإنترنت، يُربَط فيه التنسيق الفني بتنظيم الصناعة (مويلر ٢٠٠٢: ٢١٧-٢١٨).

يَنطوي تخصيص أسماء النطاقات وفئاتها (أي دوت كذا، مثل دوت كيدز) أيضًا على مسائل تتعلَّق بسُلطة مدير الجذر، كما يوضِّح مويلر. مَن يقرِّر ما إذا كانت المواقع التي تُصنَّف تحت عنوان دوت كيدز ملائمة حقًّا للأطفال؟ يخضع تخصيص مساحة العنوان لمسائل «فنية واقتصادية»، ومسائل «السياسة»؛ مثل فرادة المعرِّفات، وكفاءة استهلاك الموارد، وحالات التنازع بين عمليات تخصيص الأسماء (مويلر ٢٠٠٢: ٢٩).

وأخيرًا، فالمصالح التجارية لشركة أُول أو مايكروسوفت تدفع وتشكِّل الحكم «المؤسسي» للإنترنت. ويُمكن لقوانين حقوق النسخ، وأسماء النطاقات، واعتبارات الأمن القومي، أن تُسفِرَ، عبْر البروتوكولات، عن تنظيم الإنترنت العَصِيِّ على السيطرة والموزع بطبيعته. حتى محركات البحث، لها سياستها، وتخدم مصالح الشركات من قبيل مايكروسوفت أو ياهو! حينما تُحوَّل إلى نطاقات إعلانية، لا ماكينات بحث «محايدة» (إنترونا ونيسنباوم ٢٠٠٠؛ سبينك وزيمر ٢٠٠٨).

(٣-٧) الهُوية

ترفض النظرية الاجتماعية والنقدية المعاصرة فكرة الهُوية المستقرة الموحدة المتماسكة، ناظرة إلى الهُوية، خلافًا لذلك، على أنها الأثر التراكمي لمجموعة من المفاوضات، والاختلافات، والخطابات (بتلر ١٩٩٠؛ هال ٢٠٠٠). الهُويات في الفضاء الإلكتروني طيِّعة كما لم تكن من قبل. فالأفاتارات (الهُويات على الإنترنت)، والصفحات الرئيسية، وهُويات البريد الإلكتروني، والأجساد كلها غير مُستقرَّة بطبعها. والانفصال بين التمثيل والجسد (الذي لا يَزال مصدرًا رئيسيًّا للهُوية في العالم «الواقعي») هو، بحكم التعريف، لا نهائي في الفضاء الإلكتروني. يُتيح الفضاء الإلكتروني للمرء أن يَختار هُوية، وأن يتنكَّر، وأن يُقلِّد، وأن يتجاوز الهُويات الجسدية ويتفاعل مع العالم وكأنه شخص آخر. في عالَم يمكن أن يُصبِح فيه العِرْق والطبقة والنوع والميل الجنسي عقبات في التفاعل مع العالم، يتيح الفضاء الإلكتروني للمرء أن «يختار» هُوية قد لا تكون لها علاقة بنوعه الاجتماعي أو عِرْقه في «الحياة الواقعية». ويرى النقاد هذا الوضع تمكينيًّا (تركل ١٩٩٥). يسمح للمثلي المستتر بتأكيد هُويته، كما يُمكن إشراك امرأة في الفضاء «غير الأنثوي» للنقاش السياسي من خلال تنكُّرها في هيئة رجلٍ بأمانٍ نسبي. ويُمكن تقديم الجسد الدميم في هيئة جميلة وجذابة في الفضاء الإلكتروني؛ لأن برامج الكمبيوتر تسمح للأفراد باختيار لون بشرتهم، وشعرهم، وأعينهم، وكذلك تغيير شَكلِهم. ويُمكنهم أن يلعبوا أي دور يختارونه؛ لأنه من الصعب التثبُّت من الهُوية المقدَّمة في الفضاء الإكتروني.١ تكون ذاتية الفرد في حالةٍ موزَّعة؛ حيث لا تبقى حدود الذات هي الجسد أو البشرة (هيليز ١٩٩٩: ٧٢).

يمكن «تضخيم» الهُوية في الفضاء الإلكتروني بعمل إضافات من مجموعة متنوعة من الخيارات؛ ومن ثَمَّ، فهذه الهُوية المتحولة الطيِّعة غير المستقرة في الفضاء الإلكتروني تُعامَل في أغلب الأحوال بوصفها هُوية «سائلة». ومرة أخرى، يكمن اهتمام دراسات الفضاء الإلكتروني في عواقب التكنولوجيات الجديدة وتطويعها.

لا بدَّ من اختزال مسائل الهُوية بقدْر أكبر إلى أنواع محدَّدة من الهُوية؛ العِرقية، والطبقية، والنوعية الاجتماعية. والشكل الأخير هو موضوع الفصل الخامس، ويشتمل على الهُويات الجنسية.

(٣-٨) العِرْق

في فبراير ٢٠٠٤، أظهر غلاف مجلة «وايرد» امرأةً من جنوب الهند ويدها تحجب وجهها جزئيًّا، مرتدية ما بدا أنه حِلية عرس. كان كف يدها منقوشًا بالحناء، وهو شكل تقليدي من زينة العُرس في مناطق كثيرة من الهند. كانت نقوش الحناء في الواقع نص شفرة وتعليمات كمبيوترية. أما قصة الغلاف التي كتبها دانييل بينك بعنوان «الوجه الجديد لعصر السليكون»، والتي احتفَت بهذه الصورة المرئية، فتناولت موضوع التعهيد، وكيف أن الهند استولت على وظائف التكنولوجيا العالية.

كانت الصورة دقيقة بقدرِ ما كانت تعكس اتجاه العوامل الديمغرافية: يشكِّل سكان جنوب الهند كتلة كبيرة من المبرمجين في صناعة الكمبيوتر. والتفسير العِرقي القائم على النوع، الذي قدَّمته «وايرد» للعمالة وللمشهد التكنولوجي، إشكاليٌّ بالطبع؛ فهو لا يكتفي بإضفاء طابع عِرْقي أو نوعي اجتماعي على السياقات التكنولوجية للاستعانة بالمصادر الخارجية في تسيير الأعمال (القائمة في المقام الأول على الأجور المتدنية في الهند: يكتب بينك «إن المُبرمِجة الهندية يُمكنها أن تؤدي وظيفتك التي تتقاضى عنها سبعين ألف دولار في السنة مقابل أجور الصِّبية العاملين في «مطاعم تاكو بل»)، ولكنه يُضفي طابعًا أجنبيًّا غريبًا على «العاملة». تشي زينةُ العرس بهُويةٍ مفعمة بالأمل والطاقة، بينما يُعبِّر المكتوب عن عداوةٍ بيِّنةٍ وقلقٍ (يُوصف المبرمجون الهنود مِن قِبَل بينك بأنهم هم «سبب الخوف والاشمئزاز»، ليس فقط لأن الأمريكيين يفقدون وظائفهم لصالحهم، ولكن، كما يُضيف، لأنهم مضطرُّون إلى تدريب هؤلاء العاملين الهنود في مجال البرمجيات). ولهذا القلق عواقب ثقافية واجتماعية وسياسية منظورة؛ المنظَّمات الساعية إلى حماية الوظائف الأمريكية من خطر التعهيد، التي انطلَقَت (مثل التحالف من أجل العامل الأمريكي المستقبلي www.americanworker.org)، والناس الذين يحثُّون الكونجرس على فرض غرامة مُناهِضة للتعهيد (كان جون كيري، المرشح الرئاسي في انتخابات عام ٢٠٠٤، ومايك إمونز من فلوريدا مرشَّحَيْن من هذا النوع).

ربما يُسهِّل الإنترنت بناء هُويات مُستعارة أو مُستَتِرة. غير أن لهذا النوع من «تجاوز» الهُوية جانبَين أكثر إشكالية من قضية الهُويات «البديلة» البسيطة.

  • (١)

    الفاعلية: هل تُريد الأقليات، والمُستضعفون، والمهمَّشون تجاوز منظومة العِرْق، والمجتمع، والنوع الحاسمة، وإذا كانوا يَرغبون في ذلك، فهل يَستطيعون فعل ذلك.

  • (٢)

    التمثيل: كيف يُمثَّل العِرْق على الشبكة العنكبوتية العالَمية؟ يرتبط هذا مجدَّدًا مع مسألتي القوة والفاعلية. أي أيديولوجياتٍ توجِّه «ترميز» العِرْق على الإنترنت؟ بما أن الإنترنت هو عملية اجتماعية، فالعوامل الثقافية كالعِرْق لا غنى عنها بالتأكيد في وظيفة هذه التكنولوجيا وشكلها واستخدامها.

يوجد تناقُض جوهري في قلب الثقافات الإلكترونية، يتناسب تمامًا مع النموذج المعرفي للدراسات الثقافية؛ حيث تكون البدنية والمادية مُكوِّنَيْن من المكوِّنات الأساسية للهُوية والقوة.

أولًا: الفضاء الإلكتروني هو وسط «مؤسَّس على العِرْق»؛ حيث يكون التجرُّد من الجسد، والتجاوز، والهُويات السائلة من نصيب العِرْق الأبيض (ناكامورا ٢٠٠٢). حينما يكون عالَم الفضاء الإلكتروني بأكمله مكوَّنًا من نُسَخ من الواقعي، معادة التكوين، ومقلَّدة، وغير مادية؛ حيث تكون كل الهُويات محلَّ شك؛ وحيث يكون الفرْق بين «الأصل» و«الصورة» غائمًا، يكون ثمة قلق ثقافي مصاحب بشأن الأصالة. معنى هذا أنه في زمن الهُويات غير المؤكدة، تنتشر الأفكار النمطية عن «أهل البلد» المستقرين «الأصلاء» الذين لا يَتغيَّرون، أو «الآخر» العِرْقي. في سياق ما بعد البشري المضطرب، المعدل يوجد بحث متزامن عن الآخر الذي يُمكن التعرُّف عليه. هذا الآخر الذي يُمكن التعرُّف عليه هو في أغلب الحالات المرأة أو الشخص الأسود. غالبًا ما يلجأ الناس الذين يَعتنقون هُويات مختلفة في الفضاء الإلكتروني إلى إنشاء صور نمطية عن النوع والعِرْق (ناكامورا ٢٠٠٢: ١٤)؛ ولذلك فهم يُشيِّئون أو يسلِّعون ابن البلد، أو المرأة، أو الشخص الأسود؛ لأنهم يُشكِّلون «الآخر» الذي لا يتغيَّر، الذي يمكن للبيض أن يُمارسوا في مواجهته تبديلاتهم ما بعد البشرية للهُوية. وباقتباس صياغة دونا هاراواي (١٩٩١ب)، يكون السايبورج بمنزلة ما بعد البشري غير الملائم، فقط لأن هناك صورًا نمطية ملائمة على نحوٍ مناسب — أو ما تُسميه ناكامورا (٢٠٠٢) «أنماطًا إلكترونية».

ثانيًا: وهو الأدعى للقلق في خطابات الهُويات السائلة، والأفاتارات، والتجرُّد من الجسد في الأعمال التي تمجِّد العصر الرقمي (تركل ١٩٩٥)، إنكار التجسُّد؛ فممارسات الحياة الواقعية، وخبراتها، ومسائل المواطَنة، والقانون، وعلم الطب المتجذِّرة في الجسد (المواطن هو «جسد» فردي، والقانون يُصنِّف/يسجن «الأجساد» الفردية على أساس أفعالها، والطب يعالج «الأجساد» المريضة)، تتَّسم بكونها بدنية ومادية للغاية. تجاوُز الجسد ليس خيارًا لأولئك الذين هم بحاجة ماسَّة إلى الجسد — المعرَّف على أساس العِرْق أو الطبقة أو النوع أو الميل الجنسي؛ الجسد الصلب، القابل للتعرُّف عليه، المحدَّد — من أجل الهُوية. يصير التجرُّد من الجسد أسلوبًا رأسماليًّا تكنولوجيًّا إضافيًّا ﻟ «الحرمان من الفاعلية». لا تعني خطابات الهُويات التعددية المتغيرة السائلة شيئًا على الإطلاق لأناسٍ من قبيل الأقليات، أو النساء، أو ذوي القدرات المختلفة؛ لأن تجسُّدهم هو ما يحتاج إلى الاعتراف به وتمكينه. ومهما تكن أفاتارات الإنترنت جذابة أو متقنة، فهي لا تمحو أو تلطِّف مشكلات الجسد خارج الإنترنت في مجتمع يفتقر إلى المساواة.

وأخيرًا، لا ينتهي أمر العِرْق عند الجسد، ولكنَّ له سياقًا «ماديًّا» واسعًا. يجب تذكُّر أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، نمَتْ في الأصل من العمل البدني الذي أنتجه في الغالب العمال غير البيض في وادي السليكون. تعتمد أعمال التعهيد في تسيير الأعمال، التي مكَّنت من الترابط العالمي عبْر الشبكات، على العمالة الآسيوية بالكامل تقريبًا (الهند التي أكتب منها هي مركز لصناعة التعهيد في تسيير الأعمال). ذُكر أن بيل جيتس أعلن أن مركز أبحاث مايكروسوفت في بكين هو واحد من أكثر مراكز شركته إنتاجية، قبل أن يُضيف أنه حينما قابل أكثر عشرة موظَّفين إنتاجية في شركته، «كانت لتسعةٍ منهم أسماء لم أتمكَّن من نطقها» (ويبر ٢٠٠٦). في هذه النقطة، مهم أن نرى كيف تعمل القوة داخل التطوير والابتكار التكنولوجيَّين:٢
  • كيف تتحكَّم مايكروسوفت في البحث وتُسخِّر جهود الآسيويين في وادي السليكون ومكاتبها العالمية؟

  • كم من الفاعلية السوداء أو السمراء «حر»، وكم منها «مملوك» لمايكروسوفت؟

ينتمي التساؤلان إلى معادلات القوة «المستندة إلى العِرْق».

تنظم الشركات حيوات الموظَّفين، وحيازة المواد، والمسار الذي يتبعه البحث والتطوير، وتسويق المنتجات. ويوجه ذراعها الإعلاني أيضًا أفعال المُستهلِك ويُؤثِّر فيها. تشمل القوة هنا القوة المالية والاجتماعية والسياسية؛ حيث تُوجَّه فاعلية الموظَّف والمستهلِك، ولو في الخفاء، وتُراقَب من جانب الشركة أو الدولة. أما من حيث العِرْق، فيدور سؤال القوة عن الفوارق التي توجد بين التكنولوجيات الإلكترونية للتصنيفات من قبيل أبيض/غير أبيض، أو عالَم أول/عالَم ثالث.

الأجور ومزايا العمل، ومشاركة الأرباح، والبنى المؤسسية المتفاوتة جميعًا هي بنًى «قائمة على العِرْق». وهذه مسائل متعلِّقة بالقوة، والهُوية، و«المواد». تشكِّل برامج العتاد المرن التي كتبها آسيويون في وادي السليكون (بحلول عام ١٩٩٦، أُصدِر نصف تأشيرات الحكومة الأمريكية المؤقتة لعمال التكنولوجيا العالية، لهنود)، ووحدات التعهيد في تسيير الأعمال في المدن الهندية، والمراكز المالية في دول العالم الأول؛ حيث تُتخَذ القرارات المتعلقة بالبرامج، وحقوق النسخ، والاستحواذ على الشركات؛ سياقات الفضاء الإلكتروني الاجتماعية والثقافية والمادية «المبنية على العِرْق».٣

إذا كان «تضخيم» الجسد هو «الأباراتجايست» — أي روح الجهاز (انظر أدناه) — لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات والعصر الرقمي، فهذا التضخيم مُتجذِّر في بنًى قائمة على العرق والطبقة، تحكم تصميم تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وأبحاثها وتداولها وتسويقها. ودراسات الثقافة الإلكترونية تنبهنا لهذه الطبيعة العِرقية والطبقية للاقتصاد المعلوماتي.

(٣-٩) الطبقة

تَنقُل مسائل القدرة على الاتصال، والطبقة، والنخبوية التكنولوجية بؤرةَ الاهتمام إلى أمورٍ أكثر مادية من قبيل القوة الإلكترونية. تشتمل القوة الإلكترونية على مناقشات عن حرية النفاذ إلى المعلومات (ومن ثَمَّ سياسة النفاذ)، والسيطرة على الإنترنت، والنطاق الرقمي (ومن ثَمَّ مسألة الحكم، والتحكم في اسم النطاق، والبِنية التحتية التي تُنتِج الفضاء الإلكتروني)، وحقوق الخصوصية، والنخبوية.

لدى نيويورك سيتي أكبر تركُّزٍ للمباني المتصلة بألياف بصرية في العالم، ولا يوجد في حي هارلم سوى مبنًى واحد من هذه المباني؛ كما لا يوجد أيٌّ منها في لوس أنجلوس الجنوبية الوسطى (موقع الاضطرابات العِرقية في التسعينيات) (ساسن ١٩٩٩: ٦٠). التباين في الموارد الرقمية والقدرة الاتصالية في أفريقيا جنوب الصحراء وسنغافورة أو فنلندا واقعيٌّ جدًّا، ومقلِقٌ جدًّا، وخصوصًا أن مجالات حاسمة، مثل الرعاية الصحية والتمويل، تزداد إدارتها من خلال القدرة الاتصالية المحسنة والنقل السريع للبيانات والمصادر.

وعلى الرغم من أن هذه التباينات في البِنى التحتية آخذة في الزوال، فهناك تمييز كبير ديمغرافي، وطبقي، وعرقي، وقومي بين الموصولِين وغير الموصولين. تتحكَّم طبقة تكنولوجية في التوزيع والتشغيل والبِنية للإنترنت، والهاتف المحمول، والراوتر، وموقع اﻟ «دوت كوم» الذي يستخدمه الشخص العادي. ولا يزال مجال التكنولوجيا العالية في قبضة النُّخبة التكنولوجية، التي يغلب عليها البيض والذكور. بمعايير رأس المال الاجتماعي، مجتمعات المُستهلكين في العالم تعلي من شأن الأدوات، والقدرة الاتصالية، والسرعة، مانحةً بذلك مكانةً أعلى لأولئك الذين يَملكون الثلاثة معًا. كما تُعزز المكانة بعض الشيء من خلال النخبوية التكنولوجية (دير وفلَسْتي ١٩٩٩؛ جراي ٢٠٠١؛ راتسكي ١٩٩٩).

(٣-١٠) النوع والميول الجنسية

إذا كان بالإمكان إعادة اختراع الهُويات في الفضاء الإلكتروني، فما عواقب هذه السهولة فيما يخصُّ النوع؟ كيف تستخدم النساء تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لحيازة التمكين؟ وكيف تُصوِّر البيئات الجديدة لتكنولوجيا المعلومات النساء؟ كيف تستخدم النساء الهواتف المحمولة؟ هل يَستخدمنها من أجل البقاء على اتصالٍ بأُسَرِهنَّ ومنازلهن أكثر مما يستخدمنها للاستمتاع والعمل؟ هل تتصفَّح النساء من أجل الترفيه والاستمتاع أكثر من تحصيل المعلومات وحدها؟ هل تحتفظ النساء بهويات مُتنكِّرة منفصلة في الفضاء الإلكتروني تسمح لهن بالإفلات من قيود أجسادهنَّ ونوعهن الاجتماعي في العالم الواقعي؟

بدايةً، هناك مشكلة «النفاذ» الأساسية. كم من النساء يستطعن النفاذ إلى العالم المترابط إلكترونيًّا؟ يحتاج هذا السؤال إلى مَزيد من التحسين والتعديل، بالانتباه إلى الخلفيات الطبقية والعِرقية للنساء اللائي يَملكْن أو لا يَملكن منفذًا.

ثمة مشكلة ثانية وهي «دور النساء» في صنع التكنولوجيا وبوصفهنَّ أدوات للابتكار الفني والتغيير. أوضح نُقَّاد التكنولوجيا النسويون (مثل وايكمان ١٩٩٣) أن الأمر لا يقتصر على أن النساء «لا» يَحظَيْنَ بحقوق نفاذٍ متساويةٍ إلى التكنولوجيا العالية، ولكنهن نادرًا ما يُشرَكن أيضًا في التصميم والبحث اللذَين يخلقان التكنولوجيا. ويفترض أنصار نظريات البناء الاجتماعي (من أمثال بيكر ١٩٩٥) أن النساء قد يؤدين دور العمالة «الرخيصة» في المصانع أو المختبرات، ولكن تأثيرهن محدود في طريقة إنجاز التصميم، وطريقة استخدام التكنولوجيا.

المشكلة الأساسية الثالثة هي مشكلة «التمثيل». فإذا كانت مصطلحات الثقافة الإلكترونية مثل «المصفوفة» (الماتريكس) (مشتقة من الكلمة اللاتينية «ماتر» التي تعني «الأم»)، واللوحات الأم، و«التوصيل بالإيلاج»، مُرمَّزة بوضوحٍ بلغة النوع، فيُصبح من المهم التساؤل كيف يصبح الفضاء الإلكتروني مصطبغًا بالنوع. تعزِّز تمثيلات النساء بوصفهن «متخلفات تكنولوجيًّا»، وكائنات ذات طابع جنسي، ومستخدمات سلبيات، معادلات القوة القائمة على النوع المُستمَدة من العالم الواقعي. استنتجت القراءات النسوية أن الصور النمطية المستعارة من العالم الواقعي تعمُّ الإنترنت، بل حتى تطغى وتُخيِّم عليه باستمرار، موحية بأن حتى الفضاء الإلكتروني قائم على النوع مثله مثل العالم الواقعي.

ولذا يَرغب النسويون الإلكترونيون في منح الفضاء الإلكتروني طابعًا نسويًّا من خلال ضمان مواءمة التكنولوجيا لاستخدامهم. يرغب النسويون الإلكترونيون في الإخلال بتراتبيات القوة من خلال تَمثيل أنفسهم في الفضاء الإلكتروني، ومن خلال الرغبة في التحكُّم في هوياتهم على الإنترنت، وأن يكونوا في الصدارة بهوياتهم الجنسية. وتشي مصطلحاتهم الشعبية — التلوث، والفيروسات، والعدوى — باختلال داخل المجال الثقافي الإلكتروني (فلاناجان ٢٠٠٢؛ جاجالا ٢٠٠٣؛ هاراواي ١٩٩١أ/١٩٨٥؛ بلانت ١٩٩٥؛ صوفيا ١٩٩٩).

وكما تُبيِّن الفصول التي تدرس الهُويات الجنسية الإلكترونية، والمجال العام الإلكتروني، فالفضاء الإلكتروني مصطبغ بالنوع، لا بمعيار القدرة على الاتصال فقط، ولكن أيضًا بمعيار الطُّرق التي تُطوِّع بها النساءُ الفضاءات الإلكترونية.

(٣-١١) الفضاء والجغرافيا

ظلَّت النظرية النقدية للقرن العشرين مهووسة بالفضاء. ولا عجب أن الثقافات الإلكترونية التي تَخلُق فضاءات جديدة وعوالم افتراضية، وتُغيِّر خبرتنا بالمكان والموقع قدَّمت أرضًا خصبة للجغرافيِّين ودارسي الفضاء. دخل عدد هائل من الاستعارات المكانية خطاب الفضاء الإلكتروني؛ مثل: «الطريق السريع» للمعلومات، و«الجوار» الإلكتروني، و«الرحالة» الافتراضيِّين الذين «يجوبون» الشبكة العالمية، و«مواقع» الإنترنت.

واضح أن افتقار الفضاء الإلكتروني الظاهر للحدود يضفي عليه سحرًا وغرابة. وهكذا تغيَّرت أفكارنا عن الدولة القومية، المرتبطة بإحكامٍ بشئون الإقليم. وحتَّمت الأنشطة العابرة للقومية، مثل الأسواق العالَمية، والتليفزيون، وشبكات المعرفة، والتمويل (ومن ذلك الإرهاب مع الأسف)، علينا أن نُعدِّل ما نفهمه باعتباره الفضاء.

الفضاء الإلكتروني أو فضاء التحكُّم الإلكتروني مختلف عن البيئة المعيشة بطرقٍ متميزة. بينما تشتمل البيئة المعيشة، أو الفضاء الاجتماعي على بنًى وأدواتٍ من قبيل المدارس، والمنازل، والمصانع، والمستشفيات التي تُوفِّر المكان للعلاقات الاجتماعية؛ يتكوَّن الفضاء الإلكتروني من أدوات صورية، وسَمعية، ونصية تمكِّن العلاقات الاجتماعية وتتوسَّطها. الفضاء الإلكتروني شبكة مكوَّنة من عدد هائل من الصِّلات الإلكترونية، والروابط، والتفاعُلات، وتَشاطُر المعلومات. هذا هو «منطق» الفضاء الإلكتروني؛ نظام من الروابط العشوائية أو المحسوبة، التي هي نفسها نتاج القيم الاجتماعية والثقافية، والمعتقدات، والحاجات. وهو أيضًا فضاء له تناقضاته. تمكِّننا تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات من تجاوز الحدود والمساحات — يُمكن أن نكون هنا وهناك في الوقت ذاته — بينما تُمدُّنا «بالتزامن» بمعلومات دقيقة (من خلال أنظمة تحديد المواقع) عن موقعنا المحدَّد. من الصعب، بوضوح، منْح ميزة للفضاءات الافتراضية والحياة الافتراضية حينما تظلُّ الفضاءات والحياة الواقعيتان الماديتان الجسديتان هما مركز المراقبة والتهديد المحتمل. الفضاء الإلكتروني هو موقع للعلاقات الاجتماعية، هو عملية وليس شيئًا.

يُمكن لهذه الشبكات أن تكون هي شبكات السوق (ساسن ٢٠٠٥)، أو شبكات التآلف الاجتماعي، أو تَشارُك المعرفة (باش وستارك ٢٠٠٥)، ولكنها من حيث الأساس «فضاءات تفاعُل». ومن هنا فإن مصطلح «التشكيل الرقمي» (لاثام وساسن ٢٠٠٥) الذي يلوح في هذا البُعد التفاعلي المشكَّل/المتأثر على نحوٍ ثقافي اجتماعي، بوصفه السمةَ المنتِجةَ للفضاءات، يبدو ملائمًا لوصف الفضاء الإلكتروني. ويعني هذا أن الفضاء الإلكتروني يمكن أن يكون عُرضة لما يتعرَّض له الفضاء الاجتماعي «الواقعي» من ضغوط، وكوابح، وتلاعب؛ لأنه مدمَج في الفضاء الاجتماعي.

ومن الممكن، كما افترض دوجلاس كوان (٢٠٠٥) على نحو بليغ، أن يكون الإحساس بأن الفضاء الإلكتروني مكان آخر هو بالأساس نتيجة تمثيله المرئي؛ فنحن نعتقد ونتخيَّل أننا في مركز التسوق الافتراضي لأنه «يشبه» مركز التسوق. والقابلية للتبويب — التي نُميِّز من خلالها بين الأماكن — مؤسَّسة في المقام الأول على القرائن المرئية على صفحات الإنترنت والصور. والأماكن منظَّمة من أجلنا على الإنترنت على أساس الخبرات والتوقُّعات النابعة من/الكامنة في ذلك المكان؛ حيث يكون المكان هو موقع الفعل المحتمَل. هذا الفعل المحتمَل يُمكن أن يكون أيضًا منصةَ تشكُّلِ مجتمعٍ ما.

يمتلك الإنترنت نفسُه جغرافيا؛ «جغرافيته الفنية» (البنية التحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية، والراوترات، وشبكات كوابل الألياف البصرية، والعتاد الصلب للبث)، و«جغرافية مستخدمه» (كما تتجلَّى في توزُّع المستخدمين في الإحصائيات القومية/الإقليمية)، وأخيرًا «الجغرافيا الاقتصادية» لإنتاج الإنترنت (كاستلز ٢٠٠١: ٢٠٨–٢٢٤). إذا كانت الأولى محكومة بمقارِّ الشركات، وبالمجازفات التجارية، والاندماجات، والاستحواذات؛ فالثانية يُوجِّهُها تَوزُّع المستخدمين، والثالثة توجهها الأرباح المولَّدة، والتجارة الإلكترونية، والرأسمالية التكنولوجية. إيه أوه إل، ومايكروسوفت، وإريكسون، نوكيا، وآي بي إم، بسيطرتها على العتاد الصلب والعتاد المرن والراوترات، والأهم من أي شيء آخر، القوة العاملة، تركز تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في أيدي (وخزائن) التكتُّلات والشركات. أما الجغرافيا الاقتصادية للإنترنت فهي، بالتحديد، سيطرة العالم الأول المشتركة المتروبوليتانية الانتقائية هذه على مسافات واسعة، ووحدات إنتاجية، وناس، وخدمات إعلامية من خلال تدفقات رأسمالية منظمة ومصمَّمة بعناية (كاستلز وهال ١٩٩٤؛ ويلر وزملاؤه ٢٠٠٠).

سوف نعاود الحديث عن هذا، موضوع جغرافيا الفضاء الإلكتروني، في الفصل السادس.

(٣-١٢) الخطر

تعلن أيقونة صغيرة في ركن نظام تشغيل ويندوز لديَّ أن كمبيوتري محصَّن الآن ضد ٩١٤ ألف فيروس. لماذا يُهمُّني أن أعرف هذه المعلومة عن منصة عملي اليومي؟ يقلقني أنه لولا هذا الحائط الناري/المضاد للتجسُّس/المضاد للفيروسات لتمكنتْ ٩١٤ ألف إصابة وغزو وكارثة من ضرب كمبيوتري. يوميًّا، أعيش مع خطر أن عتادي الصلب، وعتادي المرن؛ ومن ثَمَّ عتادي الرطب (أنا)، يمكن أن نتعرض للغزو. تؤكِّد لي مواقع الإنترنت أنها «آمنة» وأن باستطاعتي إجراء معاملاتي المالية بلا قلق.

يبدو أن التكنولوجيات الجديدة والأسرع تُضخِّم الخطر. تُنتِج الثقافات الإلكترونية أشكالها الخاصة من الخطر؛ أعطال الكمبيوتر، إدمان الجنس الإلكتروني، اختراق الخصوصية، والاحتيال المالي، والتحرُّش، وغيرها من الأخطار. بناءً على صياغة أولريش بك (١٩٩٢) الشهيرة ﻟ «مجتمع المخاطر»، يفترض يوست فان لون (٢٠٠٢) أننا نعيش في حالة توقُّع الخطر. الخطر دائمًا «كامن»، دائمًا بانتظار الحدوث، أو «التحوُّل إلى واقع» (٢٠٠٢: ١٣٠)، والعِلم التكنولوجي مدعو إلى إخفاء المخاطر المتضمنة وكشفها في آنٍ معًا (٢٠٠٢: ١٥٦).

في العصر الرقمي، تتكوَّن بيئة «الفضاء الإلكتروني» وتُبنى من خلال عملية من التدفقات والتحويل الرمزي فيما بين التجارة، والقانون، ووسائل الإعلام، والمؤسسة العسكرية. ويصير الافتراضي «واقعيًّا» فقط حينما تُضاف معًا هذه العناصر كلها. ويُكوِّن النظام (العتاد الصلب، العتاد المرن، العتاد الرطب)، والبيئة (فضاء التحكُّم الإلكتروني)، كلٌّ منهما الآخر؛ حيث يصعب باطِّراد تمييز الحدود بينهما. وهذا هو جدل الافتراضي والواقعي.

في حالة الثقافات الإلكترونية، يكون خُلُق تجنُّب الخطر أكثر تعقيدًا من مجرد الإلمام بالخطر. يفرض ظهور فيروس كمبيوتر خطرًا على الأنظمة. ويتطوَّر خطر غير مباشر من هذا الإدراك؛ وترسل البرامج، وأنظمة إدارة المواقع، والمستخدمون، عشرات الرسائل الإلكترونية محذرةً الناس من هذا الخطر الكامن، مُضيفين بذلك إلى العبء على النظام. ولذا، ليس فقط عنصر الخطر — الفيروس — هو ما يَنتشِر بأسلوب النسخ الذاتي من خلال الوسيط، ولكن أيضًا عملية التحذير من الخطر وإدارة الخطر.

وجد دونالد ماكينزي (١٩٩٨)، من خلال دراسته وفيات الحوادث المتعلقة بالكمبيوتر، أن معظم الحوادث الكارثية ربما تكون انطوت على تفاعل بشري-كمبيوتري خاطئ، أكثر من انطوائها على «إخفاقات» كمبيوترية خالصة. ويوحي ماكينزي بأن المخاطر المتضمنة لا يمكن تأسيسها على الأدلة السابقة (مع الكمبيوتر أو أي تكنولوجيا أخرى) بسبب تزايد الحدوث والتعقيد في الاعتماد على الكمبيوتر. ويقترح أن ما نحتاج إليه لتقويم المخاطر هو ألا نتصدَّى فقط لجوانب الكمبيوتر الفنية، ولكن أيضًا للجوانب الإدراكية والتنظيمية لتشغيلها في «العالم الواقعي» (١٩٩٨: ٢١٠–٢١٢). خلقت التطورات في العلوم المعلوماتية الطبية وفي الثقافات الإلكترونية الطبية «طُرُزًا» من المخاطر تخصُّها وحدَها. والجدل بشأن جسيمات التكنولوجيا النانوية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هو مثال لما يُصطَلح على تسميتِه «الوصم»؛ حيث تُبرِز الكتابة العلمية الشعبية والقصص التخيُّلية (روايات مايكل كريتون، وخصوصًا روايته المعنونة «الفريسة»، عام ٢٠٠٠، حالة دالة) مخاطرَ التكنولوجيا النانوية. تمثل التكنولوجيا النانوية كلًّا من التكنولوجيا الطبية والهندسية البالغة التقدم، وخطرًا خفيًّا بسبب حجم الأجسام. وقدَّمت التغطية الصحفية في المملكة المتحدة، مثلًا، خليطًا من الأمل في إمكانات التكنولوجيا الجديدة، والقلق من آثارها الجانبية (ويلكنسون وزملاؤه ٢٠٠٧). وأثبت ويلكنسون وزملاؤه كيف أن المناقشات بشأن الخطر تدور في المقام الأول حول السياسة العامة والتغطية الإعلامية للتكنولوجيا. هذه هي اللحظة الأساسية في ثقافة المخاطر؛ حيث تشغل التداعيات الاجتماعية لأي تكنولوجيا موقع الصدارة إلى جانب المكوِّن العلمي.

(٣-١٣) المدينة الوسائطية وفضاء «الآخر»

الإنترنت وسيط نَصِلُ من خلاله إلى أجزاء بعيدة من العالم، وإلى الغرباء، وإلى دائرة أصدقائنا وأقاربنا المباشرة. وهو يخدم غرضًا اجتماعيًّا وسياسيًّا مهمًّا. ووفقًا لتصوُّر روجر سيلفرستون لوسائط الإعلام الجماهيرية، فهو «فضاء ظهور» (٢٠٠٧: ٢٥–٥٥). لا يُصبِح الآخر الذي يظهر لنا معلومًا لنا إلا على شاشاتنا. ما يُمكِّننا من رؤية الاختلاف بيننا وبينه. «المدينة الوسائطية» هي «فضاء ظهور من خلال الوسائط، فيه يَظهر العالم، وفيه يُشكَّل العالم في ظهوره، ومن خلاله نَكتشِف أولئك الذين هم — أو ليسوا — مثلنا» (٢٠٠٧: ٣١). تبني الشاشة ووسائل الإعلام العالم لنا، حتى مع كون الوسيط نفسه مبنيًّا «من قبل» العالم.

يعني هذا أننا بحاجة إلى أن نسأل: أي «نُسَخ» من الآخر أو العالم تظهر على شاشاتنا؟ كيف يُوجِّه الإنترنت العالم لنا ويُشكِّل توجُّهنا نحو العالم؟ هذه المجموعة من الأسئلة تفضي بنا، كما يُبين سيلفرستون، إلى مجال الأخلاق؛ وذلك أنه:

بسبب أن وسائل الإعلام تُوفِّر … الأطر … لظهور الآخر، فهي، بحكم الأمر الواقع، تُعرِّف الفضاء الأخلاقي الذي يظهر فيه الآخر لنا، وتدعو في الوقت ذاته (تطالب، وتُقيِّد) إلى استجابة أخلاقية مناسبة منَّا، نحن الجمهور، بوصفنا مواطنين محتملين أو فعليين (٢٠٠٧: ٧).

تُحوِّل هذه «الاستجابة الأخلاقية» مسألة التمثيل إلى مسألة مواطَنة عالمية ممكنة؛ حيث يُدعى المرء إلى الاستجابة بطرقٍ معينة لصور المعاناة، والاستغلال، والظلم.

تساعد الأقليةُ والأصوات البديلة التي تتمكَّن من إيجاد فرصة للتعبير على إرساء إطارٍ لثقافة العولمة، وفقًا لمقولة سيلفرستون، حتى بينما تكون وسائل الإعلام تحت سيطرة رأس المال العالمي. وربما تُمكِّن الناس من أن يكونوا كوزموبوليتانيين — «مُواطني العالم» — مع التشارك والقدرة على الاتصال المُتزايدَين في العالم. وهكذا يظهر أمامنا الغريب، والجار، و«الآخر» جميعًا.

يوفِّر فضاء الظهور عبْر الوسائط المسرحَ الذي تُصنَع فيه القرارات والأحكام. ويدلُّ هذا على إمكانية ظهور مجتمعٍ مدنيٍّ جديدٍ — أو مجتمع مدني افتراضي، ليصبح مرادفًا له — حيث يكون «الآخر» شخصًا يُمكننا التعرُّف عليه، ونأمل أن نفهمه.

داخل دراسات الثقافة الإلكترونية، تكون مسألة الأخلاقيات، والتمثُّلات، واستهلاك «الآخر» على شاشاتنا ومن خلال المعلومات مسألةً أساسيةً.

(٣-١٤) الجماليات

كان الكمبيوتر كيوب من صنع شركة أبل أولَ كمبيوتر في التاريخ يُعرض في قسم «التصميم» في متحف نيويورك للفنون الحديثة. حوَّله هذا من آلة إلى غرض فني يتمتع بجاذبية وقيم جماليتَين. ركَّز كلٌّ من سين كابيت (١٩٩٨)، وديفيد جي بولتر وريتشارد جروسين (١٩٩٩)، وبولتر وديان جرومالا (٢٠٠٣) على تصميم الكمبيوتر والأشكال الفنية المعيَّنة التي طوَّعت تكنولوجيات وسائل الإعلام الجديدة.

في عام ٢٠٠٦، ظهرت مختارات من المقالات التي تتفحَّص إمكانيات «الاستخدام الجمالي للكمبيوتر» (فيشويك ٢٠٠٦)، مميزة ما قد يكون بدايات «مشروع» جديد في مجال التفاعل بين تكنولوجيا الكمبيوتر، وعلم الجمال، والفن. الاستخدام الجمالي للكمبيوتر هو «تطبيق نظرية الفن وممارسته على مجال استخدام الكمبيوتر» (فيشويك، ٢٠٠٦: ٦). ويشتمل على النظر في البِنيات الداخلية والرِّياضياتية لاستخدام الكمبيوتر، واستخدام البرامج لإنتاج الفن (غالبًا ما يُسمى «فن العتاد المرن»)، أو فن الواجهة التفاعلية. ويُركِّز الاستخدام الجمالي للكمبيوتر على مجالات محدَّدة مثل التفاعل بين الإنسان والكمبيوتر، أو التخيل، أو البنى المنفصلة. وتشتمل أيضًا على النظر في عِلم علامات الكمبيوتر؛ مثل موقع وتصميم سطح المكتب، أو ترتيب العتاد الصلب.

من منظور علم الجمال والكمبيوترات، يُقدِّم فن الكمبيوتر نسقًا مختلفًا من الفن. يُنتج الفن المدعوم بالكمبيوتر أسئلةً فلسفية أوسع عن «طبيعة» الفن نفسها. بما أن معظم فناني الكمبيوتر يستخدمون برامج مطوَّرة تجاريًّا، فما دور «المبدع» الفرد؟ ليس الكمبيوتر محض أداة للفنان؛ لأنه يؤدي مجموعة متنوعة من الوظائف، ويوسِّع قدرات الفنان الجسدية والعقلية. وينبغي لذلك التعامل معه على أنه شريك إبداعي للفنان (همفريس ٢٠٠٣: ٢٢–٢٤).

وبينما يبدو أن فن الكمبيوتر يتضمن الكثير أو القليل من الدمج المباشر للكمبيوترات واستخدامها في إنتاج أشكال الفن، فثمَّة بُعد أقل ملاحظة عمومًا، وهو الفن الذي يتبدَّى في تصميم الكمبيوتر نفسه؛ فالواجهة التفاعلية — البُعد الأكثر ظهورًا ومباشرةً في استخدام الكمبيوتر لدى المستخدم العادي — يمكن اعتبارها مجموعة من «العلامات». والعلامات، كما نعرف، «ثقافية». تتكوَّن الواجهة التفاعلية من رسوم مَرئية، هي نتاج برمجيات غير مرئية. وهذه الواجهة التفاعلية هي أيضًا، كما يؤكد نيك وجرابوسكي (٢٠٠٦: ٦٢-٦٣)، وثيقة الصلة بوجودنا الجسدي؛ فنحن نُدرك هذه الأشياء التي تظهر على شاشتنا أو تنبثق من سمَّاعاتنا. وغالبًا ما تتغيَّر الواجهة التفاعلية مع تغيُّر الطريقة التي نُشغِّل بها باستخدام أجسادنا الفأرة أو المؤشر. أي إن هناك، من جهة، التصميم والفن للواجهة التفاعلية «الأساسية» التي تظهر على شاشتنا، ومن الجهة الأخرى «المنظر» المُتغيِّر للواجهة التفاعلية كما نتعامل معه من خلال المؤشر والنقرات.

وهناك أيضا التخيُّل — من بيولوجيا الخلية إلى الفضاء الخارجي — الذي نراه في التقارير الإخبارية وعلى شاشاتنا. تتضمَّن أساليب التخيل الكثير من استخدام الكمبيوتر، وتُشكِّل ما سمَّاه ستيفن ولسن (٢٠٠٢) «فنون المعلومات».

أخيرًا، يَشتمِل الاستخدام الجمالي للكمبيوتر على النظر في التصميم الرقمي للتفاعل. يَفترض يوناس لوفجرن (٢٠٠٦) أنه يجب تشكيل المواد الرقمية على نحوٍ يجعل المستخدمين يروْنَها «جيدة». تصميم التفاعل هو «تشكيل المواد الرقمية لخلق ظروف للاستخدام الجيد» (لوفجرن ٢٠٠٦: ٣٨٤). يُحدِّد لوفجرن ١٩ كيفية استخدام للتصميمات الرقمية، تشمل: القابلية للتشغيل، والإغوائية، والفائدة، والمفاجأة، والتحكُّم/الاستقلالية في السلاسة، والأناقة، والصلة. هذه ملامح يَجدُر أخذها في الاعتبار ودمجها في لحظة التصميم من أجل تمكين المستخدم من استخدام الواجهة التفاعلية والبرنامج والارتباط بهما.

(٤) دراسات الثقافة الإلكترونية

من الجليِّ أن الثقافات الإلكترونية هي توليفة مما هو اقتصادي، وما هو فني، وما هو ثقافي اجتماعي. وتَشمل الثقافات الإلكترونية مسائل العمل والمال، والضبط السياسي والقوة، والفرد والمجتمع. ويجب على أي دراسة للثقافات الإلكترونية أن تتصدَّى لكل جوانب مجتمع المعلومات. ولعمل ذلك، يجب أن تكون المقاربة تجميعية، ومتعدِّدة المواقع، تتعامل مع جوانب متعدِّدة من الثقافات الإلكترونية دون التضحية بأيٍّ منها. معظم الدراسات، ومنها المقدمات مثل هذه المقدمة، هي تَجميع للمقاربات.

لذا، وبينما نَنجذب إلى اختزال الثقافات الإلكترونية إلى ثقافات الإنترنت، أو الثقافات الرقمية، فإن التلاقي المُتزايد بين الأشكال التكنولوجية يحث على رؤيةٍ ذات أساس أشمل. طُرحت قراءات ونماذج إبداعية عديدة لمقاربة الثقافات الإلكترونية، تستقطب انتباه الدارسين في دراسات وسائل الإعلام والاتصال، والدراسات الثقافية، وعلم الاجتماع، والعلوم الإنسانية.

(٤-١) الأبعاد الإثنوجرافية للفضاء الإلكتروني

الإنترنت هو تشكيل اجتماعي أو عملية اجتماعية، ويترتب على هذا إذًا، شأنه شأن الأدوات الاجتماعية والثقافية، أن من المُمكن دراسته دراسة إثنوجرافية. وتبعًا لكريستين هاين (٢٠٠٠)، ثمة ثلاثة مجالات أساسية لدراسة الإنترنت يُمكِن تمييزها إثنوجرافيًّا؛ الانتقال والتفاعل وجهًا لوجه، والنص، والتكنولوجيا، والانعكاسية، وصنع الأشياء الإثنوجرافية. يدعو المجال الأول إلى إعادة تعريف ما يعنيه التفاعل وجهًا لوجه. الإنترنت هو مجموعة من النصوص، ومهمة الباحث الإثنوجرافي هي فهْم المعاني التي تُنتجها هذه الممارسات النصية. وأخيرًا، يجب أن يُعامَل الإنترنت على أنه أداة ثقافية متصلة بالعلاقات والسياقات المنفصلة عن الإنترنت؛ لوضعها داخل سياقات أوسع ورُؤية كيف يكمِّل أحدهما الآخر.

تحتاج الأبعاد الإثنوجرافية للثقافة الإلكترونية، كما يَفترض أرتورو إسكوبار (١٩٩٦)، إلى النظر في الطُّرق التي تُصمَّم من خلالها البرمجيات والتطبيقات وتُستخدَم، وإنشاء المجتمعات والشبكات على الإنترنت، والأشكال الثقافية الشعبية لهذه التكنولوجيات (من السايبربنك إلى ألعاب الكمبيوتر)، والهُويات الثقافية التي تظهر في الفضاءات التكنولوجية الجديدة، والاقتصاد السياسي للثقافة الإلكترونية (وخصوصًا العلاقة بين الرأسمالية، والاقتصاد العالمي، والقوة). ومن أمثلة هذا النوع من الإثنوجرافيا مشروعُ مدرسة لندن للاقتصاد حول وسائل الإعلام الجديدة للشباب، الذي يَدرُس استخدام الشباب للوسائط الإعلامية، و«التفريد» الناتج من هذا، وأشكال وقت الفراغ الجديدة، والإلمام بالأساسيات، والتآلُف الاجتماعي (انظر ليفينجستون ٢٠٠٣).

يُغطي هذا الكتاب بعضًا من كل هذه المجالات، مُتنقِّلًا عبْر الاقتصاد السياسي، ومسائل المجال العام، والنوع، والهُويات الأخرى، والأشكال الثقافية الشعبية. وفي كل حالة، يسعى إلى بسط مسائل القوة، والفاعلية، والهُوية المتعلقة بكلٍّ من مستخدمي الثقافة الإلكترونية و«مبدعيها».

(٤-٢) نظرية الأباراتجايست

استحدث جيمس كاتس ومارك آخوس (٢٠٠٢) نظرية الأباراتجايست للتعبير عن منطق تكنولوجيا الاتصالات الجديدة ورُوحها. «الأباراتجايست» — وهي كلمة منحوتة من كلمة «أباراتوس» (التي تعني «المواد اللازمة لغرضٍ ما» و«الآلة») والكلمة الألمانية «جايست» (التي تعني «الرُّوح» أو «العقل») — تظهر بمعنى الحركة، والاتجاه، والدافع في أي تكنولوجيا. وتُصوِّر الجوانب الفردية والجمعية للسلوك الاجتماعي، بينما تفترض التداخل بين الوضع الثقافي والتكنولوجيا القائمة. «أباراتجايست» تكنولوجيا الاتصال (يدرس كاتس وآخوس الهواتف المحمولة وتكنولوجيات الاتصالات الشخصية، ويجب أخذ هذا في الاعتبار) هي أباراتجايست «الاتصال الدائم». الاتصال الدائم هو منطقها وروحها، ويحكم فلسفة تصميم تكنولوجيات الاتصالات الشخصية، وتطويرها، واستخدامها. ويصف منطق اللغة ذاتها في برنامج «إم إس وورد» مثلًا. على سبيل المثال، إذا بحث شخص باستخدام الزر الأيمن للفأرة عن مرادفات كلمة «يتَّصل» على برنامج «إم إس وورد»، فسيظهر له:
  • يصبح على صلة ﺑ

  • ينشئ صلة ﺑ

  • يستدعي

  • يهاتف

  • يتحدَّث إلى

  • يكتب إلى

  • يكتب رسالة وجيزة إلى

تُغطي هذه المترادفات مدى أنماط الاتصال الممكنة، وفق إدراك برنامج «إم إس وورد» وقاموسه المدمج فيه للاتصال.

يفترض كاتس وآخوس أن ثمة منطقًا اجتماعيًّا للاتصال الدائم. يَملك الناس أسبابًا واضحة (الشكل، والوظيفة، والتكاليف) وأخرى مُستترة (كيف يُدركهم الآخرون، المعتقدات بشأن النفع، الملاءمة) لاختيار نماذج وتصميمات معينة (٢٠٠٢: ٣٠٩-٣١٠).

يمكِن استخدام «أباراتجايست» الاتصال الدائم استالنوعية الاجتماعية، والعِرْقية، والفرديةخدامًا مثمرًا لصياغة مقاربة للثقافات الإلكترونية؛ لأنه:
  • يضع التكنولوجيا في عالم التفاعُل الاجتماعي.

  • يضع العوامل الفردية والثقافية داخل التكنولوجيا.

  • يتبدى في الجوانب العاطفية/الذاتية والاجتماعية/اللاشخصية لتكنولوجيات الاتصال بتقديم القيم الشخصية، ونظريات الاتصال الشعبية، وحتى المتعة البدنية.

  • يُؤكِّد الجوانب الرمزية للتكنولوجيا بإيلاء اهتمامٍ لمسائل الطبقة، والأدوار، والبِنى الاجتماعية مثل الأسرة.

  • يربط الفرد، والمادة، والعوالم الاجتماعية بعناصر العتاد الصلب والعتاد المرن الكائنة في التكنولوجيا.

تُعيدنا هذه النقطة الأخيرة إلى الأساس الاجتماعي للتكنولوجيا بافتراضها أن منطق الاتصال الدائم هو منطق اجتماعي متأصِّل في التشكيلات الاجتماعية، والبِنى؛ ومِن ثَمَّ الأيديولوجيات والسياسة. غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن كاتس وآخوس (٢٠٠٢) يُوحيان ﺑ «رُوح» أو منطق «واحد» هنا. وكما نعلم، «الثقافات الإلكترونية» هي تركيبة من أشياء كثيرة؛ فهي وسيط اتصال عالَمي (راسموسن ٢٠٠٢) وأداة حفظ وذاكرة. وهي علامة على بداية «المدينة الوسائطية» وفقًا لبعض النقاد (سيلفرستون ٢٠٠٧). وتشمل ميزاتها الرئيسية المشاركة، والجمعية، والقدرة على الاتصال (ثاكر ٢٠٠٠٤ب). والإنترنت، الذي ربما يكون أبرز مكونات الثقافات الإلكترونية الشعبية، قائم على الجغرافيا العمرية، ويفترض أن يكون ديمقراطية. ويمكن أن يكون أيضًا بمنزلة أداة نافعة للرأسمالية التكنولوجية من خلال المراقبة وبنوك البيانات.

يعني تعقيد الثقافات الإلكترونية المتأصل وأشكالها الكثيرة أنه لا يُمكن وجود أي روح واحدة تُوجِّه المجال وتُؤثِّر فيه؛ ولذا أقترح، بالإضافة إلى «أباراتجايست» الاتصال الدائم، أباراتجايست آخر، وهو أباراتجايست «التضخيم».

تُشكِّل الثقافات الإلكترونية حالةَ تضخيم واضحة. تنطبق هذه «الروح» على تصميم الأجهزة الثقافية الإلكترونية؛ من هواتف الآي فون التي تَرغب في «تحسين» الاستقبال، إلى محرِّكات البحث التي تُجري عمليات بحث «أسرع» و«أكفأ»، إلى الكمبيوترات «الأسرع». التخزين «الأكبر»، والأمن «المعزز»، والتكنولوجيات الطبية «الأنجع» هي الكلمات الأساسية في «ثقافة التضخيم» التي تدعمها التكنولوجيات الجديدة. يدفع «المزيد» من المشاركة والقدرة على الاتصال بين عدد «أكبر» من الناس — وظهور الآخر على الشاشات بقَدْر أكبر من أي وقت مضى — الإنترنت بوصفه وسيطَ اتصال، بينما ترغب الدولة والتكتُّل الرأسمالي التكنولوجي في مزيد من التحكُّم في الوسيط (وهذه هي الحركة المُتناقِضة داخل ثقافة التضخيم: من جهة، الدفع باتجاه نشر أوسع وحرية أعظم؛ ومن الجهة الأخرى، التحرُّك من أجل مزيد من الضبط والتنظيم). وترغب حالات الأجساد الموصولة والمعدَّلة في «تضخيم» الإنسان في الطريق إلى حالة ما بعد بشرية.

يُدرِك «الاتصال الدائم» و«التضخيم» رُوح الثقافات الإلكترونية المعاصرة ومنطقها.

(٤-٣) الدراسات الثقافية

ربما تُقرَأ الثقافات الإلكترونية «على النحو الأمثل» من خلال عدسات الدراسات الثقافية. ويصلح تعريف الدراسات الثقافية الذي قدَّمه كيري نلسون وزملاؤه أن يكون نقطة بداية هنا: الدراسات الثقافية «معنية بدراسة المدى الكامل من فنون مجتمعٍ ما، ومُعتقداته، ومؤسَّساته، وممارساته الاتصالية» (١٩٩٢: ٤). تُفهَم ثقافة مجتمعٍ ما على أنها طريقة الحياة، وكذلك منظومة الممارسات، والمؤسسات، وبِنى القوة التي تخضع للنقاش باستمرار؛ حيث تُثمَّن من خلال عمليات الإدراج والإقصاء، بعض المعاني، والجماعات، و«النصوص» على حساب غيرها. وتشمل الدراسات الثقافية قراءة «سياسية» لبنى القوة التي تؤثِّر في إنتاج المعنى، وغالبًا ما تحدِّده، في ثقافةٍ ما، والتي تُسخِّر فاعلية الآخرين (ومنهم الآلات) لصالح غاياتها، وتسلط الضوء على الجماعات المُستضعفة في الممارسات الثقافية. ولذلك، تهتم الدراسات الثقافية بالمعاني (الكامنة في القصائد، والمعمار، والسياسة)، وبالبِنى التي تظهر فيها المعاني (الحكومة، «الأدب»، الوسط الأكاديمي، الصناعة). وتُركِّز، وهذا هو الأهم، على طريقة إنتاج المعنى في الحياة اليومية من خلال أشكال الثقافة الجماهيرية (الأفلام، والمدوَّنات، وبرامج الطهي) والتفاعُل الاجتماعي أكثر مما في الثقافة الراقية.

تُبرِز الدراسات الثقافية أربعة موضوعات أساسية؛ الفاعلية، ودراسة الأصل، والهُوية والقوة، والمجال الاجتماعي والطبيعة البدنية (سلاك ووايز ٢٠٠٦: ١٤٣).

أما «الفاعلية» فتشمل مسائل قدرة الأفراد والمجتمعات أو الأشياء على تأكيد إرادتهم وإحداث تغييرات.

وأما «دراسة الأصل»، فتَعني موقع تكنولوجيا أو ابتكار ثقافي معيَّن داخل تواريخ، وخطابات، وصراعات قوة معيَّنة. وتشتمل على مسائل الحاجة، والمشاعر، وبِنى القوة مثل القانون أو الطب، والمنافع المالية، والقوة الرمزية. وكما رأينا فيما سبق، ظهرت وسائل الإعلام الجديدة والثقافات الإلكترونية في سياقات متعدِّدة تمدُّها بأصولها، وليس من خلال طريقة خطية بسيطة «للتقدم». بدأ الإنترنت حياته في هيئة استراتيجيةِ دفاع مصمَّمة ومبنية مِن قِبَل الحكومة الأمريكية في ظلِّ احتمالية نشوب حرب نووية؛ ولذلك تبقى مسائل السيطرة باستمرار في قلب ما يُسمَّى التكنولوجيا الناشرة للديمقراطية في الثقافة الإلكترونية؛ حيث تسعى بروتوكولات نقل البيانات، والرقابة، والمراقبة إلى نشر الإنترنت بصفته أنظمة ضبط، لا أنظمة حرية.

وأما «الهُوية» فلا تُعَدُّ «ذاتًا» أساسية أو جوهرية بقدْر ما تُعَد نتاجًا للعلاقات الاجتماعية الكائنة في تقاطع خطابات متعدِّدة. تُرى الهُويات بوصفها «بِنياتٍ» أكثرَ منها باطنًا. وهي محل نقاش أكثر منها غنيَّة عن البرهان. وفق هذه الرؤية، لا تكون التكنولوجيا محايدة أبدًا؛ لأنها تَنطوي على تساؤلات سياسية عن الهُوية. وهكذا، تكون تساؤلات الثقافة التكنولوجية، من وجهة نظر الدراسات الثقافية، هي: كيف يساعد الهاتف المحمول أو الإنترنت في بناء هُوية؟ هل تُؤثِّر التكنولوجيا على ظهور المجتمعات للعيان؛ ومِن ثَمَّ إقرار هُويتها؟

وأخيرًا، تتعامل أي مُقاربة تنتمي إلى الدراسات الثقافية مع التكنولوجيا على أنها فاعل اجتماعي ظرفي يُؤثِّر في استخدام الفضاء. يشمل هذا التصدي لثلاثة أنواع من الفضاء: الفضاء «المبني» العام، والفضاء الاجتماعي، وفضاء الجسد. تُغيِّر المراقبة المتزايدة للفضاء العام من الخبرة بذلك الفضاء، وتشمل مسائل حقوق النفاذ والأمن. ويشمل الفضاء الاجتماعي عالَم السياسة؛ وفي الثقافات الإلكترونية، لا بد من فهْم هذا العالم على اعتبار أنه يشمل مسائل التصويت الإلكتروني، والتعبير عن الرأي، وآليات التغذية الراجعة الرسمية، التي يُسهم كلٌّ منها في الشأن الاجتماعي والشأن السياسي. تستخدم المنظمات غير الحكومية والنشطاء تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لنصرة قضايا معينة، هادمة في أغلب الحالات للسياسة الرسمية السائدة، مُحوِّلة بذلك الفضاء الإلكتروني إلى أداة للثقافة السياسية المضادَّة. ويُغيِّر استخدام تكنولوجيات الإنترنت والأجهزة الرقمية الطريقةَ التي يستخدم بها البشر أجسادهم تغييرًا جذريًّا، ويُضخِّمها، ويتجاوز بطرقٍ معينة مشكلات الجسد ونقائصه؛ فالأجهزة التي تضخِّم القدرات وتُحسِّنها تُمكِّن المستخدمين من ممارسة فاعليةٍ أعظم من خلال الجسد. وفحوصات الأشعة الاختراقية، والزرعات العصبية، والتدخلات الجراحية التي تعتمد على نقل البيانات من الجسد وإليه، من مستوى البشرة إلى مستوى الحمض النووي، هي أيضًا عوامل تُعزِّز الفاعلية؛ ولذا فالفضاء البدني هو بُعدٌ حاسمٌ في تحليل ثقافات التكنولوجيا في العصر الرقمي.

هكذا تكون «الثقافات الإلكترونية»، من وجهة نظر الدراسات الثقافية، رابطًا بين ثلاثة عناصر أو فواعل مهمة؛ العتاد الصلب (الماكينات، والكمبيوترات، وشبكات الكوابل)، والعتاد المَرِن (البرامج)، والعتاد الرطب (البشر). وبمَدِّ هذه الفرضية عبْر مقاربة الدراسات الثقافية، تكون الثقافات «الإلكترونية» في ثنايا هذا الكتاب هي أيضًا المفصل بين هذه العناصر الثلاثة، وغيرها، من قبيل؛ النوع، والعِرْق، والأشكال الرمزية والثقافية، والاقتصاد، والسياسة، والهُوية؛ بعبارة أخرى، «بيئة» الثقافة الرقمية. الفصل بين الرقمي وغير الرقمي (لنقُل: المادي) هو بمنزلة إغفال للحقيقة الحاسمة بأن التحوُّل إلى التكنولوجيا الرقمية مرتبط ارتباطًا لا انفصام له بالجوانب الاجتماعية والثقافية والمادية. ومن هنا وصف روبرت لاثان وساسكيا ساسن عملية التحوُّل الرقمي بمصطلح «التحوُّل الرقمي الاجتماعي»؛ حيث تحُوَّل الأنشطة وتواريخها في مجالٍ «اجتماعيٍّ» ما إلى شفرات وقواعد بيانات (لاثام وساسن ٢٠٠٥: ٣، ١٦–١٨). يُمدِّد التحوُّل الرقمي الاجتماعي التفاعل على مستوى الأسرة أو مكان العمل إلى العالم الرقمي؛ ولذا فمَنطق التشكيلات الاجتماعية — الذي سيتضمَّن، من وجهة نظر الدراسات الثقافية، مسائل الطبقة والعِرْق والنوع وعلاقات القوة ومُمارساتها — يُميِّز طبيعة أي «تشكيل رقمي» وشكله أيضًا.

توجد عناصر أو فواعل مادية «واقعية» في شبكة الثقافة الإلكترونية، ولكن هناك أيضًا عناصر أكثرَ سيولة واستعصاءً على القياس، من قبيل المشاعر (غراميات الإنترنت)، والاقتصاد (اختلاف القدرة على النفاذ حتى في المجتمعات الموصولة شبكيًّا)، والسياسة (التحكُّم في النطاقات أو البرامج من خلال قوانين حقوق النسخ الصارمة). الثقافة الإلكترونية هي الرابط بين العتاد الصلب، والعتاد المرن، والعتاد الرطب، وثلاثتهم «مدمَجون بعمق في سياق التكنولوجيا الاجتماعي والتاريخي».

تشكِّل الثقافات الإلكترونية — التي تشمل على وجه الخصوص ثقافةَ الهاتف المحمول، وثقافة الإنترنت، والثقافات الطبية الحيوية، والشبكات الرقمية للشركات والدولة والمنظمات غير الحكومية، والتدفُّقات المالية، والاستخدامات العسكرية والترفيه — هُويةَ الأفراد أو المجتمعات، وتُحدِّد المنافع والاستجابات السياسية من الدولة، وتُغيِّر الجسد من أجل أسلوب حياة مختلف وأفضل.

ولهذا، فالثقافات الإلكترونية هنا هي «جذورية»؛ أي إنها «تجميع» لتدفقات تتواصل فيها عناصر متعدِّدة بطُرقٍ عَرَضية وموزَّعة، وكلٌّ منها مدمَج في السياقات الاجتماعية والتاريخية للتكنولوجيا. تُؤثِّر السياقات الثقافية والمادية في شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية والفضاءات الإلكترونية، والعكس صحيح، في نوعٍ من «التفاعل التكراري» (جراهام ١٩٩٨: ١٧٤). يعني هذا أنه لا يمكن أن يتعامل المرء مع الثقافات الإلكترونية لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة بوصفها تدفُّقات، دون وضع هذه التدفقات في الظروف المادية، والثقافية، والاجتماعية الفعلية. وبعبارة أخرى، فالتشكيلات الرقمية هي توليفات من التكنولوجيات الشبكية المؤسَّسة على الكمبيوتر، ومن السياقات الاجتماعية. سنرجع إلى هذه الطبيعة المميزة للتشكيل الرقمي في مناقشتنا لفضاء التحكُّم الإلكتروني لاحقًا.

ليست التكنولوجيا أو عنصر محدَّد هو ما يقع في بؤرة انتباهنا، ولكن «صلات» هذه التكنولوجيا أو هذا العنصر بغيره (وداخل غيره) من التكنولوجيات والعناصر. باختصار، لا يُمكن أن ننظر إلى الثقافات الإلكترونية على أنها مجرَّد تكنولوجيات معلومات واتصالات دون إشارة إلى التساؤلات بشأن:
  • القوة (المالية، والسياسية، والثقافية، والفاعلية).

  • الهُوية (النوعية الاجتماعية، والعِرْقية، والفردية/المجتمعية، والجنسية).

  • الأيديولوجية (الرأسمالية التكنولوجية).

  • الثقافة (الفن، والرياضة، والألعاب).

تأخذ دراسات الثقافة الإلكترونية بعَين الاعتبار هذه التساؤلات وهي تدرس الثقافات الرقمية اليومية. ومع ذلك، فهذا الكتاب «لا يتقيَّد» بدراسات الإنترنت الشائعة، ولكنه يَنظر أيضًا في المسائل الكلية من قبيل حكم الفضاء الإلكتروني، والاقتصاد السياسي للتشكيلات الرقمية. وبينما يعترف بأن هذه التساؤلات ربما لا تُحَل، فهو يَفترض أن مثل هذه المسائل ينبغي تمحيصها. ومن الممكن أيضًا أن تكون مسارات هذا الكتاب، شأنها شأن الجذور التي يَستكشِفُها، عرَضية، ومتغيرة، وحائرة، ومتعددة.

يعني التركيز على الفاعلية الاجتماعية وسياسة التمثيل والمعنى في مقاربة الدراسات الثقافية للثقافات الإلكترونية أننا لا نعامل العالم الافتراضي على أنه كِيان منفصل، أو الشبكة الرقمية على أنها فضاء منفصل؛ فالفضاء الإلكتروني والثقافة الإلكترونية مُتجذِّران دائمًا في المادي؛ اللحم والدم، والصلب. إن تكنولوجيات الثقافات الإلكترونية اجتماعية، والفضاء الإلكتروني، مثل الفضاء المادي، مصنوع من سلسلة من العمليات والتفاعلات الاجتماعية.

الثقافات الإلكترونية، كما يفترض هذا الكتاب، مرتبطة ارتباطًا تكراريًّا بكل ما هو مادي، ومتجذِّرة دائمًا فيه، وتعود إليه، وتُكرِّره، وتعكسه. وتنعكس مشكلات الفاعلية، والهُوية، والقوة من مجالات الحياة المادية اليومية أيضًا في الفضاء الإلكتروني والثقافات الإلكترونية، وتمتدُّ إليهما، وتُوجِّههما؛ ومن ثَمَّ، ستظل هذه الشواغل تظهر في ثنايا هذا الكتاب، فيما يُشبه تلك النوافذ الإعلانية المُنبثقة على المواقع الإلكترونية!

هكذا، نحتاج إلى أن ننظر إلى ألعاب الكمبيوتر، أو الاتصالات على الإنترنت، أو التصويت الإلكتروني، أو قواعد بيانات معلومات الجسد على أنها تدور وتعود دائمًا وتَرتبِط بالأجساد التي تصنع هذه الفضاءات «الافتراضية» «اللامادية» وتحسُّ بها. إن فصل الافتراضي من المادي يُغامِر بنزع الصفة السياسية عن إنشائه وتبعاته معًا. ويعني هذا أن نَنتبه، ليس فقط للأبعاد السياسية الثقافية لإنتاج وسائل الإعلام الجديدة، وتصميمها، ونشرها، ولكن أيضًا للطرق التي استخدم الناس بها هذه الأشكال وقوَّضوها. ومعنى هذا أنه بينما توجد سياسة (ومنفعة) متضمَّنة في إنتاج الثقافات الإلكترونية، فثمة أيضًا سياسة في استهلاكها. حركات الاحتجاج التي تستخدم تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، ووسائل الإعلام التكتيكية، والسايبربنك النسوي، ووصلات الاختراق في ألعاب الكمبيوتر؛ هي في أغلب الأحوال مواءمات غير قصدية للثقافات الرقمية. إذا كانت علاقات القوة تحكم إنتاج الثقافات الإلكترونية (من حيث التصميم، وتمويل البحث، والإنتاج، وحقوق النسخ، والسيطرة الاحتكارية)؛ فالقوة إذًا هي أيضًا شيء يمتلكه المستخدِمون وينشرونه في تطويعهم للثقافات الإلكترونية. وكما سنرى، في الفصول اللاحقة، تبقى القوة والأيديولوجية أهم عناصر التحليل في دراسات الثقافة الإلكترونية؛ لأن الثقافات الإلكترونية تُؤثِّر في حيوات الناس؛ ولأن التأثير هو دائمًا مسألة قوة (ثقافية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية).

واتساقًا مع تنوُّع الثقافات الإلكترونية المذهل، تتشعَّب المقاربات النظرية لهذا الكتاب. وهي تشمل النظريات النسوية وما بعد البنيوية للأجساد والخطابات، ودراسات الثقافة الشعبية، ودراسات الاقتصاد السياسي، ونظرية الاتصال، وغيرها.٤

يعامِل هذا الكتاب الثقافات الإلكترونية بوصفها «تشكيلًا»، والإنترنت — الذي هو قلب الثقافة الإلكترونية — بوصفه أداةً ثقافية تُشكِّل سياقات متعدِّدة وتَتشكَّل بها؛ مثل الاقتصاد السياسي، والفن الشعبي، وخطابات التحرُّر، والأخلاقيات الحيوية، بينما تُوسِّع بعض أشكال الاتصال، والتآلف الاجتماعي، والرقابة، والأرشفة الأسبق. وهو يبحث ثقافات الإنترنت في «كثرة من المواقع» — يستخدم كلٌّ منها الكمبيوترات الشخصية، والبرامج، والوصلات، والإنترنت بدرجات متفاوتة وبطرقٍ مختلفة — من بينها الصفحات التعريفية، والمدوَّنات، والروايات التخيُّلية عن الفضاء الإلكتروني، وتقارير وسائل الإعلام، والتصميم (من قبيل سطح المكتب)، وأشكال الفنون التي تتعامل مع الكمبيوترات.

وضَّح هذا الفصل السياقات والمصطلحات والمقاربات الأساسية في دراسات الثقافة الإلكترونية وإزاءها. وافترض أن الثقافة الإلكترونية ليست واحدة، ولكنها كثيرة، وهناك كثير من مواقع الثقافة الإلكترونية، وتصميماتها، وتطبيقاتها؛ ومِن ثَمَّ فهي ليست كِيانًا متماسكًا، ولكنها سلسلة من العمليات، والاستخدامات، والتطبيقات، والمحادثات، والبِنى. ولذا افترضنا أنه لا توجد ثقافة إلكترونية، ولكن ثقافات إلكترونية.

عرضَ هذا الفصل فرضية الكتاب القائلة بأن الثقافات الإلكترونية لا يُمكن التعامل معها باعتبارها محض عوالم افتراضية مُنشأة باستخدام الكمبيوترات، ولكن باعتبارها تشكيلًا مُرتبطًا بالمادي والواقعي، ومتجذرًا فيه، ومتأثرًا به، ومؤثرًا فيه. هذا التشكيل هو نتاج كثيرٍ من البِنى، والأدوات، والأنظمة (الاقتصادي، والقانوني، والسياسي، والاجتماعي، والثقافي)، والأفكار، والأيديولوجيات المُجتمِعة؛ الاقتصاد السياسي، والمعلومات، والتمويل العالَمي، والرأسمالية، ومنطق السوق، وبنى الكوابل والأسلاك، والشاشات، وبطاقات الإس آي إم. وافترض أن الثقافات الإلكترونية يجب أن تُعامَل على أنها مُدمَجة في العالم الواقعي والمادي ومتصلة به؛ حيث تكون مسائل الاقتصاد، وهُويَّات العِرْق/الطبقة/النوع، والسياسة، والقوة مسائل حاسمة.

ووضعَ هذا الفصل الثقافات الإلكترونية في سياق مجتمع المعلومات والعولمة. وقدَّم مخططًا موجزًا للمسائل الأساسية في دراسات الثقافة الإلكترونية؛ العولمة والرأسمالية التكنولوجية، والمادية والبدنية، والانقسام الرقمي، والحكم الإلكتروني، والمجتمع المدني، وحكم الفضاء الإلكتروني، والهُويَّة، والعِرْق، والطبقة، والنوع، والميل الجنسي، والفضاء والجغرافيا، والخطر، والمدينة الوسائطية وفضاء «الآخر»، والجماليات. وأخيرًا، عرَضَ بإيجازٍ المقاربات الأساسية لدراسة الثقافات الإلكترونية؛ الأبعاد الإثنوجرافية للفضاء الإلكتروني، ونظرية «الأباراتجايست»، والدراسات الثقافية.

هوامش

(١) يبرز موقف مختلف حينما تنتقل العلاقات والهُويَّات على الإنترنت إلى الزمن الواقعي. يكشف الناس الذين يؤدُّون أدوارًا في الفضاء الإلكتروني عن كونهم أشخاصًا آخرين. هذا الملمح من ملامح الفضاء الإلكتروني تعرَّض للانتقادات وهو مصدر قلق، وخصوصًا تخفِّي مستغلِّي الأطفال جنسيًّا والمغتصبين في هيئة أناسٍ آخرين، ومقابلة الضحايا المحتمَلين خارج الإنترنت.
(٢) اقتداءً بأنتوني جيدنز (١٩٧٩)، أتعامل مع القوة هنا على أنها علائقية، بوصفها القدرة التغييرية لفرد/جماعة/مؤسسة على استخدام فاعلية الآخرين — البشر، والحيوان، والآلة — لخدمة غايات المرء.
(٣) بالمصادفة، لا يُمكن معاملة الأمريكيين من أصول آسيوية على أنهم محرومون، بل هم يبدون مُستخدِمين مميَّزين للشبكة، ومستهدَفين بوصفهم أسواقًا للتجارة المعتمدة على الإنترنت. لكن حتى هنا، يوجد تفاوت — يُعاملون على أنهم أهداف «للتجارة» لا على أنهم مُجتمَعات مُمَكَّنة (ناكامورا ٢٠٠٥).
(٤) يحصر ديفيد بيل، في مقدمته للطبعة الثانية من كتابه «قارئ الثقافة الإلكترونية» (٢٠٠٧: ٣-٤) ١٩ معيارًا يُمكن على أساسها أن نقرأ الثقافات الإلكترونية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤