الفصل الثاني

الثقافات الإلكترونية الشعبية

خطة الفصل

  • الملامح الأساسية للثقافات الإلكترونية الشعبية:

    • التلاقي

    • إعادة الوساطة

    • الاستهلاك

    • التفاعلية

  • السايبربنك:

    • تشويش الحدود

    • الجسد

    • التناسل

    • الزمن والفضاء

    • البيئة

    • المعلومات

    • السايبورج

    • الأبعاد السياسية للسايبربنك والاستجابة النسوية

  • الألعاب:

    • التآلف الاجتماعي الجديد

    • المهارات والمسئولية والألعاب

    • السرد

    • تأدية الأدوار

    • عوالم الألعاب وسياستها

  • فن وسائل الإعلام الجديدة:

    • النصية الرقمية

    • فن الجمهور النشط

    • إعادة الوساطة

    • الحيوية

  • تكنولوجيات الاتصالات الشخصية وأجهزة الآي بود والتسجيل والبث عبْر الإنترنت.

  • الفنون الجينومية والبيوميديا:

    • العرض

    • الوحشي والمسخ

    • الأجساد المعلوماتية

    • التحكم

  • التواصل الاجتماعي:

    • مسائل الخصوصية والنبذات التعريفية

    • تضخيم العلاقات

    • ثقافة الشباب ومواقع التواصل الاجتماعي

يقترح الخيال العلمي إمكانية وجود غرباء في الفضاء الخارجي. أوصل الفنان ستيلارك جسده بالإنترنت ليَحصُل آخرون على «منفذ» سهل، أما المعجبون بهاري بوتر فيستخدمون برامج الكمبيوتر ليُظهروا إعجابهم بشخصيتهم الشهيرة ومودتهم لها بإنشاء مواقع مُعجبين. هذه ثقافات إلكترونية «شعبية»، ودائمًا ما تَرُوج التكنولوجيا المعقدة في المجال العام من خلال مثل هذه الأشكال الشعبية من الترويح أو الترفيه. وليست التكنولوجيات الثقافية الإلكترونية استثناءً من هذا التطويع. تتمتَّع الثقافات الإلكترونية بتنوُّعٍ وشعبيةٍ مدهشَيْن، بطرقٍ تنافي تعقيد التكنولوجيات الكامن وراء جهاز الألعاب المحمول أو الآي بود. وهذا «الاستئناس» للتكنولوجيا داخل الأشكال الشعبية من الثقافة الإلكترونية هو موضوع هذا الفصل.

تَشمل الثقافة الإلكترونية، كما سبق ذكره، تكنولوجيات وأشكالًا جديدة (وشعبية) متنوعة. وتُوسِّع ثقافات وسائل الإعلام الجديدة، وهو مصطلح لقيناه بكثرة في أواخر التسعينيات، أشكالًا ثقافية إلكترونية، مثل الإنترنت، وتُدمِج أخرى مثل تكنولوجيات الهواتف المحمولة. إن صفحات الإنترنت الأقدم المَبنية على النص تُفسِح المجال للصوت والفيديو، بينما تتحوَّل تكنولوجيات الاتصال، مثل الهاتف المحمول، إلى أساليب ترفيه مع تنزيلات الأفلام والموسيقى والألعاب. وتُدمَج المطبوعات، والمرئيات، والصوتيات جميعًا في أشكال ثقافية شعبية على سطح المكتب أو شاشة الهاتف المحمول.

يُدرس هذا الفصل في البداية الملامح الأساسية للتعبيرات الشعبية عن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات. ويتقدَّم من هذا إلى مناقشة أشكالٍ أو أصنافٍ محدَّدةٍ داخل الثقافات الإلكترونية الشعبية؛ الأدب الشعبي، وأعمال المُعجبين، والألعاب، والتواصل الاجتماعي، والأشكال الجديدة من الفن الإلكتروني. كما يُعنَى الفصل عناية خاصة بتساؤلاتٍ عن التبدُّلات في الحياة اليومية من خلال تضافر هذه التكنولوجيات.

  • كيف تُطوِّع الثقافة الشعبية التكنولوجيات المعقَّدة وتمثلها؟

  • هل التكنولوجيات من قبيل محركات البحث محايدة أم إن لها تبعات سياسية، من خلال استخدام الإعلانات التجارية على سبيل المثال؟

  • هل العوالم الافتراضية مفصولة عن العوالم المادية؟

  • هل يؤدي تمجيد السايبربنك للسايبورج أو الأجساد ما بعد البشرية إلى سنِّ سُنَّة جديدة من الأجساد المعدلة؟

  • هل الهالة الدعائية المُحيطة بالطابع التفاعلي (في عوالم الألعاب) مبرَّرة، وهل «يَمتلك» المستخدِمون حقًّا هذا النوع من التفاعلية؟

  • هل يؤدي ظهور ثقافات الألعاب والمُعجَبين إلى شكل جديد من الفردية، أو هل يُعيد تشكيل التآلف الاجتماعي؟

  • أي أشكال الفن تنشأ في عصر الهندسة الوراثية، والمعلوماتية الحيوية، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وما هي رُؤاها للمُستقبل البشري؟

  • كيف تُؤثِّر التكنولوجيات الاجتماعية صراحة؛ مثل مواقع التواصل الاجتماعي، في الخصوصية والفرادة والهُويَّة والمجتمع؟

(١) الملامح الأساسية للثقافات الإلكترونية الشعبية

الثقافات الإلكترونية «تشكيل» يظهر في تقاطع السياقات الفنية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية. ويستند هذا «التشكيل» إلى هذه السياقات في إنتاجه واستهلاكه، بينما يُؤثِّر فيها. وهذه السياقات، وخصوصًا في حالة الثقافات الإلكترونية المتعلِّقة بالأمور اليومية؛ مثل: الإنترنت الشعبي، وتكنولوجيات الاتصال الشخصي، والثقافات الرقمية لأماكن العمل، والثقافات المعلوماتية الترفيهية لوسائل الإعلام الجديدة؛ موسومة بأربع سمات أساسية:

(١-١) التلاقي

«التلاقي»، مصطلح روَّجَه هنري جنكينز (٢٠٠٦ب)، هو التقاء صور مختلفة من وسائل الإعلام على منصة أو واجهة تفاعلية مشتركة. يؤدِّي التليفزيون وظيفة واجهة الإنترنت، وتساعد أجهزة المسانَدة الرقمية الشخصية والهواتف المحمولة على تصفُّح الشبكة، وصنْع الأفلام، والبث (التسجيل والبث الرقميَّين).

التلاقي

التلاقي هو التقاء تطبيقات مختلفة عبْر أشكال الوسائط المتعددة على منصة أو واجهة تفاعلية مشتركة تتيح للمستخدم رؤية صفحات الإنترنت، وإجراء المكالمات الهاتفية، وتسجيل الموسيقى، وإذاعة المواد.

(١-٢) إعادة الوساطة

يُبيِّن بولتر وجروسين (١٩٩٩) كيف تُمدِّد أشكال وسائل الإعلام الجديدة القدرة الكامنة في وسائل الإعلام الأقدم وبنياتها، وتُوسِّعها. وهكذا يُوسِّع الإنترنت عمل الأفلام والتليفزيون.

تقوم «إعادة الوساطة» على منطق مزدوج؛ فهي، من جهة، تسعى إلى «المباشَرة» أو الحيوية؛ حيث تُحاوِل التكنولوجيا جعْل الجمهور يشعر وكأنه هناك من دون أي تدخل؛ أي من دون وساطة الوسيط/التكنولوجيا. ويعني هذا أنها ترغب في محو «العملية» والتكنولوجيا من الوساطة ذاتها. ومن الجهة الأخرى، تجذب أشكال وسائل الإعلام كلها الاهتمام إلى السياق الفائق الوساطة؛ أيُّ زاوية كاميرا يلتقطها الجمهور للمتابعة، أو أيُّ رابط يُنقر عليه للتعرُّف على شخصية معينة في البرنامج الذي يُبث بثًّا «حيًّا» (مثل برنامج «الأخ الأكبر» (بيج براذر)). وهكذا؛ فالشاشات المنقسمة، والرسوميات، والصوت المصاحب للعرض، وبث المقاطع المصوَّرة، والمؤثِّرات الصوتية، ونصوص الأخبار؛ كلها تؤكِّد حقيقة أن خبرتنا بما هو واقعي أو حي تَعتمِد بشدة على الوسائط. هذا المنطق المتناقض ما بين المباشَرة والوساطة الفائقة هو ما عبَّر عنه بولتر وجروسين (١٩٩٩: ١٩) بالتذبذب بين الشفافية والعتامة.

إعادة الوساطة

إعادة الوساطة هي المنطق المُزدوَج والمتناقض، الذي تنشد فيه تكنولوجيا وسائل الإعلام أن تمحو وأن تُبرِز في الوقت نفسه عملية الوساطة. «يُعاد توسيط» أشكال وسائل الإعلام الأقدم بفعل الأشكال الأحدث، ومثال ذلك أن تليفزيون الإنترنت يجمع ما بين التليفزيون والسينما والشبكة العنكبوتية العالَمية. وتشمل هذه العملية منطقَيْن؛ منطق «المباشَرة» (الذي تبدو من خلاله عملية الوساطة، والوسيط نفسه — وليكن الكمبيوتر — غير مرئيَّين)، ومنطق «الوساطة الفائقة» (حيث يَتضاعف مقدار الوسائط المتاحة للموضوع نفسه).

(١-٣) الاستهلاك

يُشير «الاستهلاك» إلى الثقافة الاستهلاكية الناجمة عن تكنولوجيات وسائل الإعلام الجديدة. تشكِّل الأجهزة الإلكترونية أحد أكبر مكوِّنات السوق الاستهلاكية العالمية. والثقافة الإلكترونية مُرتبطة ارتباطًا لا انفصام له بالثقافة الاستهلاكية. تؤدِّي الأفلام إلى تصميم ألعاب الكمبيوتر قائمة على حبكتها، وتُنتج ألعاب الكمبيوتر مواقع مُعجبين، وحبكات أفلام، وألعابًا. وكل وسيط هو الآن وسيطٌ مُعبر، يُحوِّر الصيغة الأخرى، أو يستعير منها، أو يحاكيها. وأرى أن كل شكل من أشكال الوسائط يجري «تضخيمه» في الثقافة الاستهلاكية؛ حيث يعمل الهاتف عمل جهاز للبريد الإلكتروني، وكاميرا للأفلام، وأداة لبثِّ المؤتمرات، ومنصة للألعاب، ومفكرة شخصية، وأداة لتشكيل الجماعة، وبوصلة أو أداة لتحديد الأماكن الجغرافية.

يعني تركيز ثقافة المستهلك على الفرد أن المنتجات تُصمَّم لتضمن أن التكنولوجيا كلها «شخصية». وهكذا، يُمكن ربط الهواتف المحمولة وتكنولوجيات الاتصال الشخصي الأخرى بالووكمان، أو الآي بود، أو المفكرة الشخصية. وتسعى الثقافة الاستهلاكية إلى ضمان أنك متصل باستمرار ببياناتك الشخصية، وأحبائك، ومكان عملك. «التشخيص» كلمة أساسية في الثقافة الاستهلاكية؛ حيث كل شيء، من الأفاتار وصفحات الإنترنت إلى رنَّات الهاتف المحمول وهُويات المتصل من المفترض أن تعكس هُويتك.

في عصر برامج الكمبيوتر والمنتجات المنتجة بكميات هائلة، تلعب الثقافة الاستهلاكية على الحاجة إلى النزعة الفردية. تعمل الثقافة الإلكترونية، مثل كل الثقافات الاستهلاكية، مع التناقض الاستهلاكي؛ فهناك توحيد متزايد للمَعايير، وفي المقابل هناك السعي إلى إضفاء السمات الشخصية، وتميز المرء عن جمهور المستخدمين. تزدهر ثقافة المستهلك على موضوعات رئيسية مثل الأسرة، والنزعة الفردية، والمقدرة الاتصالية، والأمن؛ لكي تبيع منتجات ثقافية إلكترونية مثل الهاتف المحمول، أو البرامج، أو الكمبيوترات الشخصية. بغض النظر عن هيوليت باكارد بمقولتها «الكمبيوتر شخصي مجدَّدًا.» أو مجلة «وايرد» (التي تعني: متصل) المصقولة، يقوم «فضاء المنتَج» (وهو مصطلح استخدمه سيلفرستون وهادون لوصف الفضاء الثقافي وغيره من الفضاءات التي يُباع فيها المنتَج؛ ١٩٩٦: ٥٣) على أيديولوجيات محدَّدة عن البيت، والخصوصية، والسلامة، وسهولة الاتصال، والأمن؛ ولذا أثارت الهواتف المحمولة استجابات عاطفية وشخصية جدًّا (سريفاستافا ٢٠٠٦). وفي حالات أخرى، تُمكِّن التكنولوجيا الرقمية، أو الفوتوشوب، أو الاتصالات عبْر الأقمار الاصطناعية المتديِّنين من «الاتصال» بمعبوداتهم وآلهتهم. وفي كلٍّ من هذه الأمثلة نرى نوعًا آخَر من التلاقي؛ تلاقي السياقَين الاجتماعي والثقافي والثقافة التكنولوجية، وهو تلاقٍ تستغله الثقافة الإلكترونية على النحو الأمثل.

تُسوِّق الثقافة الاستهلاكية كذلك منتجات متنوعة — ألعاب الكمبيوتر، وتسجيلات الفيديو، وبرامج الكمبيوتر، والهواتف المحمولة، وأجهزة الاستريو — معًا. وغالبًا ما يركِّز أدب السايبربنك القصصي على إضفاء الطابع التجاري على تكنولوجيا المعلومات، من أحدث نماذج الكمبيوترات الشخصية إلى النُّسخ المتقدمة من برامج الكمبيوتر، إضافة إلى السوق السوداء المتضخِّمة في البرمجيات وأقراص الموسيقى/الأفلام المدمجة والرقمية المرئية المقرصنة.

تُسيطِر سوني وماكينتوش ومايكروسوفت على مجالات الثقافة الإلكترونية الاستهلاكية. وتجدُ الرأسمالية الفضاء الإلكتروني سوقًا جديدة للاستغلال حيث يُمثِّل الشباب، مثلًا، سوقًا متسارعة الاتساع للأجهزة والألعاب والبرامج. وتستهدف الشركات الرأسمالية الكبيرة أفراد هذه الطبقة (ما يَصطلِح أوريجي وجراهام على تسميتهم «المتسوقين الرقميين» مقابل «النخبة الرقمية» التي تتحكم بالاقتصاد).

ومن الأبعاد المتصلة بثقافة الإنترنت الاستهلاكية المراقبة المتنامية للمستهلكين وعمليات البحث على الإنترنت. استحوذت محركات البحث، مثل جوجل، ومايكروسوفت، وياهو! جميعًا على حملات إعلانية على الإنترنت في عام ٢٠٠٧ (اشترت جوجل دَبِلكليك، واشترت مايكروسوفت إيه كوانتيف، واشترت ياهو رايت ميديا). بل إن إريك شميدت، المدير التنفيذي لجوجل، أعلن أن جوجل قد تعمل منذئذٍ «بصفتها نظام إعلان في المقام الأول» (فوجلستاين ٢٠٠٧). ويدلُّ هذا على تحوُّل مثير للاهتمام فيما يخص الإنترنت كله، وثقافة التسويق الاستهلاكية خصوصًا.

غير أن التكنولوجيا تقوِّي معارضتها أيضًا. إذا كانت تكتلات وسائل الإعلام تستغل التكنولوجيا من أجل الإعلانات، فوسائل الإعلام التكتيكية (انظر الفصل الرابع حول الثقافات الفرعية الإلكترونية) والجماعات الراديكالية تُنتِج «الإعلانات الهدامة»؛ وهي نوع من الإعلان يُطلَق عليه غالبًا «التشويش الثقافي» (سمَّاها تيم جوردان في ٢٠٠٢ «الإرهاب السيميائي»). حينما ابتدعت منظمة جرينبيس شعارها المناهض لشركة إكسون موبيل، الذي يعلن «الجفاف المتطرف: الاحترار العالمي الذي ترعاه إكسون موبيل» مارست إعلانًا هدامًا، حمل رسالة اقتصادية سياسية عن أعمال إكسون، وأساليبها المعادية للبيئة. وظلَّت أدْباسترز (www.adbusters.org) رائدة في مثل هذه التلاعبات الراديكالية بالعلامات الإعلامية.

الإعلانات الهدامة

هذه تهكُّمات أو تلاعبات فكاهية بالإعلانات، غالبًا ما تحمل رسالة سياسية عن استراتيجيات الشركات، واستغلالها، أو عن القَمع الحكومي.

أما محرِّكات البحث المخصَّص — وهي تطوير للمحركات «الروتينية» في المستعرِضات الأقدم — فغالبًا ما تترك سجلًّا لأسئلة المُستخدِم، يولِّد مقدارًا لا بأس به من البيانات عن تفضيلات المستخدم المخصصة. وحينما يتجمع مقدار كافٍ من مثل هذه البيانات من أعداد كبيرة من المُستخدِمين، يكون لدى أقسام التسويق حينئذٍ توصيف لجموع بأكملها. ولذا، فليس المُستخدِم الفرد، ولكن الجمع أو المجموعة السكانية هي التي توصَّف، وتُستخدَم للتنبؤ بسلوك المستخدم وطلبه. هذا الجمع بين المراقبة، والبحث الشخصي، والتسويق هو في تحليل ثيو رول (٢٠٠٧) الدمج بين «البحث على الإنترنت والتسويق على الإنترنت في نظام فني واقتصادي واحد». يعني هذا ببساطة أن ما يُسمَّى خيار المُستهلِك وقوة الاختيار (سواء في الاستعراض أو البحث عن أشياء محدَّدة) هو وثيق الصلة ﺑ: (١) مسائل الخصوصية (وكالات التسويق التي تَتتبع تصفُّحك/مشترياتك لتصنف ذوقك، وتفضيلاتك). (٢) البيع الخفي للمنتجات عبْر الإعلانات الفقاعية، وتنظيم ملفات محدِّدات المصادر الموحدة (اليو آر إل) على محركات البحث. و(٣) سرقة البيانات التي تتَّخذ شكل سرقات بطاقات الائتمان. ويُمكن لمحرِّكات البحث المخصص أيضًا أن تكون بمنزلة آليات المراقبة الشخصية.

تعمل ألعاب الإنترنت أيضًا لوضع العوالم الافتراضية في العالم الواقعي، وخصوصًا بالمعايير الاستهلاكية-الاقتصادية. وكما عبَّر عن ذلك أحد المعلِّقين، فإن «اللعب افتراضي، والمكسب واقعي» (ووليس ٢٠٠٥). في عام ٢٠٠٣، منحت «سكند لايف» حقوق الملكية الفكرية لمنتجات مبتدَعة في المجال الافتراضي وفي المجال الواقعي. وبيَّن كلاين وزملاؤه (نقلًا عن هرمان وزملائه، ٢٠٠٦) كيف أنه بالإضافة إلى «العملية الثقافية» (اللاعبين، و«أدوارهم»، وفاعليتهم) و«العملية التكنولوجية» (التفاعل بين البرامج، واللاعبين، والكمبيوترات)، تُجسِّد الألعاب عملية ثالثة — وهي عملية «التسويق». يُنتِج استخدام لاعبٍ ما للبرامج وموقف اللعبة إشباعًا ومتعة، يضمنان في المقابل اللعب المتواصل، والاستهلاك، وتطوير المنتَج في علاقة تكرارية. حينما أحالت ليندن لابس (التي تشغِّل «سكند لايف») اللعب إلى عمل — حيث يعمل اللاعبون في إنتاج أدوات افتراضية أو «ابتداعها»، وتكون الأدوات «مِلكًا» فكريًّا لهم — كانوا يستغلون هذه العلاقة التكرارية. تُوضِّح «سكند لايف» أن التسويق والتجارة أمران مركزيان للعالم الافتراضي بقَدْر ما هما كذلك للعالم الواقعي:

تدعم السوق في الوقت الراهن ملايين الدولارات الأمريكية في المعامَلات الشهرية. وتُدار هذه التجارة باستخدام وحدة التجارة في هذا العالم، دولار ليندن، الذي يُمكن تحويله إلى دولارات أمريكية في مبادلات مزدهرة فورية عديدة لدولار ليندن تتمُّ على شبكة الإنترنت. («سكند لايف» ٢٠٠٧)

يعني هذا أن العالم الافتراضي من قبيل «سكند لايف» يُحدِث تغييرات ملموسة للغاية في العالم المادي. ومرةً أخرى، يُعيدنا هذا إلى الفرضية الأساسية لهذا الكتاب: أن الافتراضي ليس، على الإطلاق، افتراضيًّا معزولًا، ولكن له تأثيرات خطرة ومادية في العالم الواقعي.

(١-٤) التفاعلية

تُشير «التفاعلية» إلى الدور المُتغيِّر للجمهور والمستمعين والمشاهدين. لم تَعُد الجماهير مستهلكين سلبيِّين، ولكن غالبًا ما يكونون مشاركين على نحوٍ وثيق في تركيب الأداة الثقافية وشكلها وقصتها. يتجلَّى باطِّراد أن الجماهير تؤدي دور «المنتجين» للبرامج التليفزيونية التي تلتمس آراءهم، وأفكارهم، ومشاركتهم في الاستطلاعات، وحتى النصوص. يَندمج التليفزيون والشبكة العنكبوتية العالمية، وتليفزيون الإنترنت، وجماهير التليفزيون مَدعوُّون للمشاركة بوصفهم لاعبين، ومعلِّقين، ومصوِّتين.

يندمج التليفزيون مع الشبكة العنكبوتية العالَمية بطرقٍ لا حصر لها. يمكن أن يكون هذا من خلال مراجعات البرامج التليفزيونية المُعاد نشرها من الصحف، والقوائم التليفزيونية، والمواقع الرسمية للبرامج التليفزيونية (والأخيرة متصلة أيضًا بالثقافة الاستهلاكية بمعنًى حرفي؛ لأن الكثير من المواقع الرسمية تبيع سلع عن/من البرنامج أيضًا). كذلك، توجد أعداد كبيرة من مواقع الإنترنت غير الرسمية لهذه البرامج ومواقع المعجبين. وربما تُطوِّر هذه المواقع نُسَخها الخاصة من المسلسلات الاجتماعية المبتذلة، ومجلات المعجبين التي تلتمس القصص والأعمال الدرامية القائمة على نصوص لها طائفة من المعجبين؛ من قبيل «حرب النجوم» (ستار وورز) أو «بافي قاتلة مصاصي الدماء» (بَفي ذي فامباير سلاير)، وهي جزء لا يتجزأ من الثقافة الإلكترونية ونُموذَج على «إنتاج المعجَبين» (فيسك ١٩٩٢). وصلت العروض التليفزيونية الناجحة مثل «الأخ الأكبر» هي أيضًا إلى جماهير أوسع بفعل انتشار بثها على الإنترنت بلا انقطاع لجمهور محدَّد. مثل هذا الحضور والنشاط على الإنترنت يُمكن أن يدلَّ على علاقة «عمق» أو «امتداد» (ديري ٢٠٠٣: ١٦٦-١٦٧). وقد تكون التفاعُلية نفسها «عميقة» حينما يقرِّر الجمهور شكل العرض — من خلال التصويت مثلًا.

حَكْي القصص التفاعلي — الذي يشمل، حسبما تذكر المنظِّرة الرائدة للنصوص التشعبية ماري-لور ريان (٢٠٠٥)، أشياءَ وأنواعًا متنوعة بقدْر ألعاب الكمبيوتر، والتليفزيون التفاعلي، والأفلام التفاعلية، والدُّمى الذكية، ولَعِب الواقع المضخَّم، والرسوم المتحرِّكة التفاعلية، ونصوص السرد التخيُّلي التشعبية، والسرد التخيُّلي التفاعلي — هو رؤية أخرى من محترفي البرامج فيما يخصُّ متعة المستهلك. «مؤلف» القصة في مسلسل «اختر مغامرتك» هو القارئ-المُستخدِم الذي يستخدم مساعَدة البرنامج و«التلميحات» أو الموضوعات المحمَّلة سلفًا لتطوير قصته.

تفترض ماري-لور ريان أن درجة التفاعلية ومستواها يختلفان من طبقة إلى طبقة في القصة. في الطبقة الأولى، تدور التفاعُلية حول تقديم القصة؛ حيث توجد القصة قبل تشغيل البرنامج. وفي الطبقات المتوسِّطة تختص التفاعلية بمشاركة المستخدِم الشخصية في القصة، ولكن الحبكة لما تزل محكومة سلفًا. وأخيرًا، في الطبقات الأعمق تُخْلَق القصة ديناميكيًّا من خلال التفاعل بين المستخدم والنظام. تطلب «الواجهة» — وهي دراما تفاعُلية ابتدعها مايكل ماتيس وأندريو سترن (www.interactivestory.net) — من المُشاهد أن يساعد في تطوير الحبكة. زواج زوجَين في منتصف الثلاثينيات من عمريهما ينهار أثناء محادثة مسائية. يكتب المُستخدِم أسطرًا من الحوار يستجيب لها الزوجان مع تزايدٍ مُطردٍ للاستغلال، والافتراء، والاتهامات. وفي النهاية تخلو قاعدة البيانات من التوليفات الحوارية المُمكنة، ويكون على «الزائر» أن يغادر، مشيرًا بذلك إلى المستوى المَحدود من التفاعلية الممكنة، بالنظر إلى قاعدة البيانات.

ومع هذا يظلُّ تقيُّد هذه «التفاعلية» برواية عالم الألعاب أمرًا لا نزاع عليه؛ لأن التحكُّم الكلي بشكل اللعبة وسوقها وأرباحها يَبقى بيد الشركة أو المؤسسة.

هذه الملامح الأربعة: التلاقي، وإعادة الوساطة، والاستهلاك، والتفاعُلية، تتشكل بطرائق مُتباينة في «صنوف» الثقافات الرقمية الشعبية أو أشكالها. وبقية هذا الفصل تستعرض هذه الأشكال المتباينة.

(٢) السايبربنك

تُؤثِّر التكنولوجيا، إلى جانب غيرها من العوامل الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية في طريقة حياة «أغلب» الناس في المدن الكبرى عبْر العالم؛ أي تتوسَّطها. وبعبارة نايجل ثريفت، «غدَت برامج الكمبيوتر تتدخل في كل جوانب الحياة اليومية تقريبًا، وبدأت تغوص في خلفيَّتها المُسلَّم بها» (٢٠٠٥: ١٥٣). السايبربنك هو الجنس الأدبي الذي يتناول هذا النوع من الحيوات في قصص الخيال العلمي؛ حيث يقضي كثير من الناس أقسامًا كبيرة من حيواتهم متصلين بعالمٍ آخَر.

سايبربنك

صِنفٌ من أدب الخيال العلمي نشأ في ثمانينيات القرن العشرين، ويعالج في المقام الأول موضوعات التكنولوجيا الإلكترونية، على سبيل المثال الواقع الافتراضي، وغالبًا ما تُعرض ثقافات فرعية في سياق عالَم الشركات التكنولوجية الرأسمالي.

سك بروس بيثكي المصطلح بقصته القصيرة «سايبربنك» التي نشرتها في عام ١٩٨٣ مجلة «أميزينج ساينس فيكشن ستوريز» (المجلد السابع والخمسون، العدد الرابع، وهي متاحة على: project.cyberpunk.ru/lib/cyberpunk/) وحظيَ مُصطلَح بيثكي بمكانةٍ نوعية كبرى في الكتابة الشعبية بعد رواية ويليام جيبسون «نيورومانسر» التي نُشِرت عام ١٩٨٤. وبلغ صنف السايبربنك ذروته في عَقد التسعينيات مع أعمال بروس سترلينج، وويليام جيبسون، وبات كاديجان، ومليسا سكوت، ونيل ستيفنسون، وغيرهم. أجمل بروس سترلينج، محرِّر أول مجموعة من مُقتطفات السايبربنك بعنوان «نظارات عاكسة» (١٩٨٦)، الموضوعات الأساسية في السايبربنك فيما يأتي:
  • غزو الجسد من خلال الأطراف الاصطناعية (التكنولوجيا «في الأحشاء»: سترلينج ١٩٨٨أ).

  • التعديل و/أو التغيير الوراثي.

  • الدارات المزروعة.

  • الجراحات التجميلية.

افترض سترلينج أن السايبربنك وسَّع اهتمامات السرد التخيُّلي العلمي، مع إضافة عناصر ثقافية مضادَّة، مثل فيديوهات موسيقى الروك والاختراق الإلكتروني بوصفهما موضوعين، إلى المزيج (سترلينج ١٩٨٨أ). والسايبربنك هو التعبير الأدبي عن كلٍّ من ثقافة مضادة ذات فكْر (وتسيير) تكنولوجي، وخُلُق (أو فلسفة، إن كنت تفضِّل ذلك) لما بعد البشرية.

يُعامل السايبربنك التكنولوجيا على أنها مدمَجة في الحياة اليومية. ويرفض، عمليًّا، «النخبوية التكنولوجية»؛ ولذلك يُصبح حركة ثقافية مضادة.١ الموضوع الأساسي هو الطابع الشعبي والاستهلاك الجماهيري للتكنولوجيا العالية؛ حيث يمتلك المخترقون والبائعون برمجيات معقدة كانت حكرًا على الشركات العملاقة في وقتٍ ما، ويستخدمونها ويوزعونها.

يَمزج السايبربنك الأجناس الأدبية؛ السرد التخيُّلي العلمي الكلاسيكي، والقصة البوليسية، والخيال الجامح والرومانسية، مشوشًا بذلك الحدود بين الثقافتَين الراقية والجماهيرية.

السايبربنك هو التعبير الأدبي عن فلسفة ما بعد البشرية؛ لأنه يناصر الرؤية بأن قيود الجسد يمكن تجاوزها. ومثل عمل ستيلارك وهندسة التبريد، يرى السايبربنك أن مظاهر الحياة البشرية مثل الكبَر، أو الوهن، أو العجز تختفي باستخدام الوسائل التكنولوجية. يبدو بُطلان الجسد وشيكًا في كل أعمال السايبربنك.٢

ما بعد البشرية

ما بعد البشرية هي وجهة نظر، وأيديولوجيا واعتقاد بأن قيود الجسد البشري — السن، والمرض، والمظهر، والإعاقة — يمكن التغلُّب عليها، وأن بالإمكان تضخيم قدراته — المظهر، والذكاء، والقوة، ومقاومة المرض — من خلال التدخل التكنولوجي.

(٢-١) تشويش الحدود

يعمل السايبربنك على نشر تصنيف جديد للبشر، مقترِحًا وجود السايبورج إلى الأبد.

يقترح السايبربنك أنواعًا فرعية جديدة من البشر؛ حيث تسقط حدود البشر/الآلة/الحيوان؛ وحيث يُتجاوز الجسد (على الأقل أثناء الوجود في الفضاء الإلكتروني). أبطال السايبربنك الذين يُمثِّل النموذج الأوَّلي منهم شخصية كيس في رواية جيبسون «نيورومانسر» هم في الغالب رعاع متمرِّدون، ماهرون في التكنولوجيا، يرتدون الملابس الجلدية، مُندمجون بسهولة مع الدارات الإلكترونية، وموصلون الأسلاك، ولا يَكُفُّون عن تناول العقاقير في أغلب الأحوال.

يستلزم السايبورج إعادة تعريف مفاهيم من قبيل «الطبيعة» والصنعة؛ فغير الطبيعي — عالم الآلات والتكنولوجيا — مدمج الآن في الإطار البشري، بينما يؤكد الاستنساخ وزرع الأعضاء سقوط التمييز بين «الأصل» و«الصورة»، وبين «الطبيعي» وغير الطبيعي/الاصطناعي. في السايبربنك، كل البشر ذوو أعضاء اصطناعية بطريقةٍ أو بأخرى؛ ولذا، فالسايبورجات لها مغزًى واقعي، مادي فيما يخصُّ الأجساد المصابة والعاجزة، والوظائف العالية المخاطر (ومنها الجنود)، والتدابير الجراحية.

السايبورج

يعني السايبورج — وهو مُصطلَح نحَتَه مانفريد كلايْنس وناتان كلاين عام ١٩٦٠ — كائنًا حيًّا شبه آلي. ويُشير إلى نظام بشري-آلي يُجمَع فيه بين الجسد البشري، وأحيانًا العقل، وبين الأنظمة التكنولوجية (بما فيها الكمبيوتر).

وتتبع ظهور ما بعد البشري والسايبورج مسائل أخلاقية أخرى. على سبيل المثال، ما مصير حقوق الإنسان في حالة ما بعد البشر؟ هل يستأهلون الحقوق نفسها مثل البشر غير المعدَّلين؟ يقترح كتاب كريس هيبلز جراي، المعنون «ميثاق حقوق السايبورج» (٢٠٠١)، سلسلةً من التعديلات لمواءمة الخصائص المعدَّلة للأجساد ما بعد البشرية. أما بول لوريتزن، فيعتقد — إذ يكتب عن أبحاث الخلية الجذعية وحقوق الإنسان — أن «علم الأحياء الجديد يُهدِّد التزاماتنا الأخلاقية القائمة» (٢٠٠٥: ٢٨). ويُوضِّح أندي مِيَا وإما ريتش أن بيان جراي يَستعين بمفهوم السايبورج من أجل «مخاطبة اهتمامات الجماعات الهامشية التي لا يُعطى لبشريتها الاعتراف الأخلاقي أو القانوني الكامل» (٢٠٠٨: ١١٣). هذه جميعها مسائل متعلقة بالعدالة، والمسئولية السياسية، وحقوق الإنسان في عصر ما بعد البشرية. إذا كانت حقوق الإنسان تعتمد على تقليدٍ سرديٍّ الإنسان فيه مُعرَّف، فأنا أفترض أن مثل هذا التقليد مُطبَّق بالفعل حيث يطالب السايبورج وما بعد البشر بالحقوق، ويتمثَّل في اتجاه السايبربنك، والنصوص من قبيل رواية ماري شيلي بعنوان «فرانكنشتاين» (١٨١٨)، وأفلام السايبورج (نايار ٢٠٠٨إ).

(٢-٢) الجسد

في رواية ويليام جيبسون «الحصيلة صفر» يُعاد صوغ الجسد البشري بهذه الطريقة:

استنسَخوا مربعًا من الجلد من أجله، ونَمَّوْه على شرائح من الكولاجين وسكريدات غضاريف القرش المتعددة. اشتروا العينين والأعضاء التناسلية من السوق المفتوحة. (١٩٨٦/  ١٩٩٤: ٩).

غالبًا ما يظهر الجسد وكأنه سجْنٌ في السايبربنك. ويُربط التركيز على العقل والوعي، اللذَين يمكن مدُّهما إلى عوالم ومناطق زمنية أخرى، بموضوع «الجسد المحدود». يجب أن يُرقَّى الجسد لكي يسمح للعقل بالأداء الكامل. ومن هنا يصبح الجسد بيولوجيًّا أو أصيلًا بقدْر أقل فأقل، وتخليقيًّا، وبلاستيكيًّا، وإلكترونيًّا بقدْر أكبر فأكبر.

(٢-٣) التناسل

بطبيعة الحال يَفترض التصنيف الجديد للبشرية — الذي يتضمن أنواعًا فرعية جديدة وناشئة — إمكانيةَ ظهور طريقة حياة جديدة بالكامل. دائمًا ما افتُتن أدب الخيال العلمي بموضوع التناسل، لكلٍّ من البشر والغرباء، ويكون تهديد الإنسانية ناجمًا مرارًا من استيلاد الغرباء (الذي استهلَّتْه رواية ماري شيلي «فرانكنشتاين»). مخاوف بروس سترلينج الأدبية الخيالية المُتواصلة المتعلِّقة بالشيخوخة والاستمرارية (كما في رواية «النار المقدسة» (١٩٩٧)، على سبيل المثال) هي امتداد لموضوع الموت، المتصل هو نفسه بمسألة التناسل.

تكاثر الغرباء في ثلاثية أوكتافيا بتلر التي تدور حول اختلاف النسل الأصل («الفجر» (١٩٨٧)؛ «طقوس المراهقة» (١٩٩٨)؛ «إيماجو» (١٩٨٩))؛ وكتاب مارجاريت أتوود بعنوان «أوريكس وكريك» (٢٠٠٣)؛ وموضوع السايبربنك نفسه عن الاستنساخ؛ كل ذلك يتعامل مع إمكانيات التغلُّب على الموت من خلال التناسل المعزَّز بالآلات.

يبدي السايبربنك قلقًا ثقافيًّا واضحًا، ليس فقط بشأن الأشكال الجديدة من البشر، الناشئة من خلال الأفعال التكنولوجية، ولكن أيضًا بشأن الانقراض المُمكن للأنواع البشرية كما نعرفها. هل ستَتناسل هذه السلالة من الوحوش وتحُل محل البشرية، محيلة البشر إلى عبيد أو إلى ما هو أسوأ؟

(٢-٤) الزمن والفضاء

يفكك السايبربنك الأفكار التقليدية عن الزمن والفضاء. ينزلق الزمن الحقيقي تحت الزمن الإلكتروني، مع إبطاءات، وحركات مسرَّعة، وطبيعة سريالية للتفاعل مع البث المسجَّل سلفًا المؤجل للرسائل/الصور/المحادثات. كايس في رواية جيبسون متحير في أغلب الوقت بعد إقامته المؤقتة في الفضاء الإلكتروني؛ بينما كان «جسده اللَّحمي» في الزمن والمكان الفعليَّين، كان وعيُه يجوب مكانًا آخر. يؤكد موضوع الزمن والفضاء السُّرياليَّيْن أن التمييز بين العالَمَين الواقعي وغير الواقعي يتهاوى. ويتشارك السايبربنك هذه السمة مع السرد التخيُّلي ما بعد الحداثي لويليام بوروز وتوماس بينشن، الذي يَندمِج فيه الواقع كما يُعرَّف ويُنَظَّم بزمن الساعة والمكان اندماجًا مرتبكًا مع «نسق» آخر للواقع.

(٢-٥) البيئة

الجو السُّريالي في السايبربنك والأفلام من قبيل «الراكض على حدِّ النصل» (بلايد رنَّر) أو «المصفوفة» (ذا ماتريكس) هو المسئول عن مناخ جديد بالكامل: مناخ ما بعد نهاية العالم بما يَنطوي عليه من انعدام القانون، ومصالح الشركات القوية، وسيطرة برامج الكمبيوتر، وشيء من المقاومة. يعني تلاشي الحدود بين العوالم الواقعية والإلكترونية أن مسألة الداخل/الخارج تَتهاوى أيضًا. البشر مندمج في بيئة، حتى بينما تدخل البيئة البشر من خلال الشبكات الإلكترونية. يشغل الجسد «كونًا أعلى» («ميتافرس»، وهو مُصطلَح يعود لنَيل ستيفنسون من رواية «انهيار ثلجي»، ١٩٩٣)، كونًا إلكترونيًّا سُرياليًّا، هذيانيًّا. يتضاعف هذا الكون ويتوسَّع توسُّعًا استثنائيًّا في اتجاهات كثيرة، مُظهرًا بذلك السمات التي يتميز بها كائن حي. يمزج السايبربنك البيانات الإلكترونية، والخرائط المنتَجة بالكمبيوتر، والمكانية البشرية بوصفها سمات تشغل عوالم لا هي هنا ولا هي هناك، بل هنا وهناك في آنٍ واحد.

(٢-٦) المعلومات

موضوع المعلومات بالغ الأهمية للسايبربنك كله؛ جمعها، والتحكُّم بها، ونشرها. ويبدو هذا الموضوع طبيعيًّا في عصر معلوماتي؛ حيث يكون النوع الصحيح من البيانات ثمينًا أو خطِرًا؛ فالمعلومات الشخصية، من قبيل تفاصيل بطاقة الائتمان أو الموقع المادي تتعرَّض باطِّراد للانتهاك والسرقة. تقع الأسرار الصناعية والعسكرية مع الأسرار المالية في مستوًى واحد، وكل شيء معرَّض بالطبع للاختراق المحتمَل؛ لأن المعلومات تخضع في لحظةٍ ما في تَرتيبها وبثِّها للحَوسَبة. هذا الارتباط بين حفظ المعلومات وبين إساءة استغلالها هو ما يُثير اهتمام السايبربنك.

لذا، تُعَدُّ الكمبيوترات أهم عناصر السايبربنك. والسيطرة على الكمبيوترات وبنوك بياناتها هي الموضوع الأساس في كثير من أدب السايبربنك؛ لأن المعلومات يُمكن التلاعب بها والإحساس بها في الزمن الواقعي «نتيجة» ذلك. وتعني إمكانية تغيير الهُويَّات التعريفية في الفضاء الإلكتروني أن الجسد البشري في العالم الواقعي يُمكِن أن يحس بواقع مختلف — حالَما تُبدَّل هُويته على الإنترنت أو في بنك البيانات أو تُسرَق، تتبدَّل هُوية حياته الواقعية. ويُثير التوسُّع في استخدام الكمبيوتر، كما يفترض السايبربنك، خطر تغيير الواقع من خلال تغيير البيانات.

(٢-٧) السايبورج

بين البشر والآلة، يكتشف السايبربنك فئة ثالثة، يبدو أنها تشترك في سمات الاثنين، وقادرة على تخطيهما؛ ألا وهي السايبورج.

السايبورج في السرد التخيُّلي للسايبربنك، وألعاب الكمبيوتر، والأفلام؛ محل افتتان وقلق معًا. (في الحقيقة، إذا كان السايبورج هو توليفة من الإنسان والآلة، فحتى لاعبو ألعاب الكمبيوتر هم بشر سايبورج، بما أنهم موصولون، من خلال دائرة تحكُّم آلي، بالآلة وبيئة اللعب.) أما الافتتان، فلأن جسد السايبورج تجاوز حدود الجسم البشري، سواء شوارزينجر المزود بعضلات حديدية في فيلم «المبيد» (تيرمناتر)، أو جسم لارا كروفت المبالَغ في إبراز ملامحه الجنسية في لعبة الكمبيوتر المسماة باسمها. وأما القلق، فيستثيره السايبورج لأن التحكُّم البشري بالرقاقة أو بالشبكة يبقى محل شك. وبينما تزداد السايبورجات شيوعًا، يقلق السايبربنك بشأن استحالة التمييز بين البشر والآلات.

يُؤكَّد هذا القلق في تصوير السايبورج على أنه آلة جافة قاسية، تفتقر للمَلَكات البشرية مثل «المشاعر». ومما يعزِّز هذا القلق أن السايبورج مقيَّد ببرمجته — فلا يستطيع على سبيل المثال أن يُحطِّم مُنشئه حتى لو أراد ذلك. تُحرِّك السايبورجات دوائرُهم الإلكترونية ورقاقاتهم ليؤدوا أجنداتهم، وبينما قد يستطيعون تقليد تعبيرات البشر العاطفية، ويَصُوغون رسائل «مسجلة» عاطفية، فهذه تعبيرات فارغة. يفترض السايبربنك أن افتقارهم للمشاعر هو ما يجعلهم غير بشريِّين. وإضافة إلى هذا، بالطبع، يحاول السايبربنك أن يُعرِّف البشر بأنه كائن عاطفي (يجدر تذكُّر الأنسنة المتزايدة للسايبورج في الجزأين الثاني والثالث من فيلم «المبيد»). وإجمالًا، يُعنى السايبربنك بالتكنولوجيا الراهنة من حيث السؤال الفلسفي الذي تُثيره: ما الذي يجعلنا بشرًا؟ التفكير؟ المشاعر؟ تبدو السايبورجات أجسادًا خالصة مع قليل من العقل (باستِثناء الرقاقة المبرمجة سلفًا)، وبلا «روح». والمفارقة أن هذا يهدم موضوع التجاوُز الجسدي (هولاند ١٩٩٨).

ومن علامات القلق الثقافي من الأزمنة أن معظم أفلام السايبورج ينتهي بانتصار «البشر». يجب إخضاع الآلة أو غير البشري أو «إقالتها» (اللفظ المُستخدَم في «الراكض على حدِّ النصل»). ولذا من المُثير للاهتمام ملاحظة التغيُّر من «المبيد ١» إلى «المبيد ٢». في الجزء الثاني يُؤمر تي ٢ من جانب قائده كونر (في عام ٢٠٢٩) بالعودة إلى عام ١٩٩١ حتى يستطيع «كونر» الاحتماء مِن الإبادة؛ فيُعهَد للسايبورج بواجب حماية البشر، على نحوٍ يَسِم السايبورج أو الآلة مرة أخرى بأنها خادمة للجنس البشري.

(٢-٨) الأبعاد السياسية للسايبربنك والاستجابة النسوية

يشي معظم نصوص السايبربنك برابطة ماكرة وشريرة بين الدولة، والتكنولوجيا، والرأسمالية. وتُربَط المعلومات ذاتها بالاقتصاد الرأسمالي للعصر الجديد في السايبربنك؛ ولذلك يَحظى الاختراق، الذي يُفسِد حلقة الوصل بين المعلومات وتكنولوجيا الكمبيوتر والرأسمالية، بأهمية بالغة لموضوع القوة في السايبربنك؛ ولذلك فالاختراق الذي يُمكِن ربطه أيضًا بحركة المصدر المفتوح التي تقاوم السيطرة على المعرفة أو برامج الكمبيوتر، هو موضوع سياسي رئيسي في السايبربنك.

ومع هذا، تَشي أبعاد أخرى للسايبربنك بسياسة أكثر محافَظة. التركيز على العلامات التجارية، والمنتجات الاستهلاكية — من لوحات المفاتيح إلى المظاهر — يوحي بأيديولوجية استهلاك «رأسمالي». أخيرًا، فإن عالم النوع هو ما يُصبِح فيه معظم الفكر المحافظ جليًّا.

يُنشئ السايبربنك سايبورج فحلًا. وتفترض الناقدات النسويات (مثل سينثيا فوكس ٢٠٠٣) أن السايبربنك يُجسِّد «هستريا ذكورية» معيَّنة حول قضايا التناسل البشري والهُوية الذكورية. غالبًا ما يُشكِّل الملوَّنون والأقليات والنساء الطبقةَ الدنيا في السايبربنك، المحرومةَ من التكنولوجيا. ومما يجدر ذكره أن اليابان وغرابتها التكنولوجية تَبْرُز على نحوٍ مهيمن في السايبربنك، غالبًا في هيئة ند خسيس للبطل الأورو-أمريكي. تَصير التكنولوجيا علامة مُميِّزة للاختلاف الاجتماعي وحتى العِرْقي، ويحتل السايبربنك النسوي موقفًا تنشد فيه النساء السيطرة على التكنولوجيا من أجل بقائهن. ويكشف النقد النسوي كون هذا الجنس الأدبي تعبيرًا أدبيًّا عن الظروف الاجتماعية الواقعية للتَحيُّز على أساس الجنس، والأبوية، والاستغلال، والظُّلم. يعتقد الكُتَّاب النسويون (كادورا ١٩٩٥؛ فلانجان ٢٠٠٢؛ هاراواي ١٩٨٥؛ هاربر ١٩٩٥) أن السايبربنك يُظهر الأحكام المسبقة الثقافية الاجتماعية القائمة والأيديولوجيات في صورة بِدَعٍ تكنولوجية جديدة.

يفترض السايبربنك النسوي أن النساء خبرن تاريخيًّا التكنولوجيا والرأسمالية والحرب بطريقةٍ جد مختلفة عن الرجال، وأن هذه الخبرة لم تَلقَ تعبيرًا في السايبربنك السائد «الذكوري». ويستلزم هذا جِنسًا أدبيًّا جديدًا يبرِز خبرة النساء بالتكنولوجيا العالية. يبدأ السايبربنك النسوي بافتراض أن السايبربنك يعزِّز التفاوتات القائمة المُستندة إلى النوع. ويبرز هذا الجنس الأدبي التكنولوجيا في الظروف المادية للعالم الواقعي الذي تتركَّز فيه السيطرة على التكنولوجيا في الأيدي الذكورية والرأسمالية، وتخدم أغراض الاستغلال القائم على أسسٍ عنصرية ونوعية اجتماعية. حينما لا يكون السايبربنك النسائي جزءًا من الطبقة الدنيا، يُصبح رمزًا ﻟ «الآخر» الغريب (سأعود إلى هذا الموضوع لاحقًا)؛ حيث تَبقى المرأة دومًا في الخارج بوصفها مصدرَ تهديد. يعكس السايبربنك النسوي هذه الثنائية، مفترضًا أن جعل المرأة «آخر» هو في الواقع نسخة من الهستريا الذكورية التي يُخشَى فيها من «الآخر» العِرقي. يَضع السايبربنك النسوي الروبوت أو السايبورج الأنثى في فئةٍ تقع خارج مثل هذه الثنائيات من قبيل المحلي/الأجنبي، والأبيض/غير الأبيض، والذكر/الأنثى.

تَقْلِب بات كاديجان، وماري روزنباوم، ومليسا سكوت على نحوٍ مثيرٍ للاهتمام، موضوعَ السايبربنك التقليدي المُتمثِّل بالتجرُّد من الجسد، وبالذاتية الموزَّعة (انظر الفصل الثالث عن الجسد). ويعيد السايبربنك النسوي تأكيد الجسد، انطلاقًا من افتراض أن التجزُّؤ والتجرُّد ينكران على المرأة جسدها، إلا بوصفه جسدًا هامشيًّا، وملونًا، وخاضعًا. نادِرًا ما يُعرِّف السايبربنك الذكوري «راعي البقر في منصات الألعاب» على أنه «ذكر أبيض»؛ لأنه يُفترَض أن الأجساد الذكرية البيضاء هي الأصل. أما السايبربنك النسوي فيضع جسد المرأة في المركز من أجل استِكشاف خبرة المرأة بالتكنولوجيا.

يُنكِر تشتُّت الذات — كما افترضه السايبربنك المحافظ وصبغه بصبغة خيالية — على المرأة «فاعليتها» بصفتها ذاتًا. لا يمكن للمرء أن يتجاوز لون بشرته أو جسمه المادي؛ لأنهما يظلان هما محلَّ الاستغلال والتمييز في العالم الواقعي. ما نحتاج إليه هو تكرار الجسد الأسود أو الأُنثوي، ولكنه تكرار يسعى إلى ذاتية وفاعلية مجسَّدتَين. وهو يستلزم علاقة مختلفة بالتكنولوجيا، تُطوِّع فيها المرأة التكنولوجيا لأغراضها.

(٣) الألعاب

من «سبيس وور» (١٩٦٢) إلى ألعاب تأدية الأدوار على الإنترنت للاعبين المُتعدِّدين ذات الطابع الجماهيري الحالية، لعبة الكمبيوتر هي أشهر تطبيق للتكنولوجيا الرقمية على الإطلاق، بل إن صناعة الألعاب تفوق صناعة الفيديو المنزلي التي تبلغ قيمتها ٢٠ مليار دولار. حينما أُطلِقت لعبة «هالو ٢» في نوفمبر ٢٠٠٤، حصدت ١٠٠ مليون دولار في اليوم الأول وحده (وحصدت لعبة «سبايدر مان ٢» ٤٠ مليون دولار) (نيكولاس وزملاؤه ٢٠٠٦: ٥). صناعة الألعاب واستخدامها الشعبي كبيران الآن بما يُبرِّر إقامة فعالية للألعاب الإلكترونية العالَمية يُشارك فيها مشاركون من أكثر من مائة دولة.

ما يأتي هو «أصناف» اللعب المقبولة:
  • الاستراتيجية («روم: توتال وور»، «باتل فور ميدل إيرث»، «رولر كوستر تايكون»).

  • التصويب من منظور اللاعب («هالو ٢»، «ريترن تو كاسل وولفنستاين»).

  • ألعاب المنصَّات («ماريو»، «ريمان»).

  • الرياضة (فيفا).

  • المحاكاة (إف إس فلايت فنشرز).

  • القيادة (جراند ثيفت أوتو).

  • الحركة/المغامرة («لارا كروفت»: «تومب ريدر»).

  • ألعاب تأدية الأدوار (وورلد أوف ووركرافت).

  • الإدارة (ذي سيمز ٢).

  • الضرب الْمُبَرِّح (مورتال كومبات).

نشأت ألعاب فيديو في صور منصات ألعاب إلكترونية («أركيد» و«بارلور») (وخصَّصت مناطق مُنفصِلة في المساحات العامة؛ حيث كانت لوحات التحكُّم منصوبة، وكان اللاعبون «يُمارسون اللعب»). وغيَّرت منصتا الألعاب، «سيجا» و«نينتاندو»، ثقافة اللعبة جذريًّا في التسعينيات، حينما انتقل اللعب من الفضاء العام إلى البيت. سواء أكانت ألعاب المعارك بالمعايير الحالية، أم ألعاب «بي بي إس كيدز» المختارة من كتب الأطفال والمُسلسلات التليفزيونية «توم وجيري»؛ فاللعب جزء لا يتجزَّأ من الثقافة الرقمية اليوم. بالفعل، يمكن التعامل معه على أنه صنف فرعي من «المحاكاة»؛ ذلك الجزء الأساسي من الثقافة الإلكترونية، نفسها.

ألعاب محاكاة المعارك، وكرة القدم، والمطاردات المتنوعة، وتخطِّي العوائق، والأحجيات، وحتى الألعاب المقتبسة من روايات، أثبتت استمراريتها. وبالإضافة إلى ألعاب الفيديو (منصات الألعاب التي تُلعَب على شاشات التليفزيون)، وألعاب الكمبيوتر (الأسطوانات المدمجة أو المنزَّلة من الشبكة العالمية)، نجد أيضًا ألعاب الأركيد (المنصوبة في أقسام من المتاجر، والمجمَّعات السينمائية، وغيرها من الفضاءات العامة)، والألعاب المحمولة. وطالَما كان الشباب الذكور على وجه الخصوص هم الروَّاد في جعل اللعب واجهة مهمة للثقافات الإلكترونية (نيكولز وزملاؤه ٢٠٠٦).

ظاهرة اللعب راسخة تمامًا الآن باعتبارها مُكوِّنًا أساسيًّا من مكونات الثقافة الجماهيرية، حتى إن دارسي وسائل الإعلام التفَتُوا إلى دراسات الألعاب مع بدء الدوريات المتخصِّصة مثل «جيم ستاديز» في إسباغ مكانة العِلم عليها. والواقع أن الألعاب هي منتجات ذات ربحية استهلاكية تجارية فائقة (للحصول على إحصاءات، انظر جانز ومارتنز ٢٠٠٥؛ نيكولز وزملاؤه ٢٠٠٦).

غيَّرت ثقافة الألعاب هذه الكمبيوتر المكتبي، وجهاز التليفزيون، والهاتف المحمول؛ فالألعاب مُتاحة في كلٍّ من هذه «المحطات الطرفية» للمُستخدِم. ولذا، يمرُّ «الشكل الثقافي للتليفزيون» بتغيير ملموس، حينما يُصبِح التليفزيون واجهة تفاعُلية للعب أيضًا.

الألعاب اجتماعية. لا يُمكن نفي الألعاب إلى عالم منفصل عن عالم الحياة اليومية؛ الألعاب بالغة الأهمية في الحياة اليومية؛ لأنَّ لها تبعات «مادية، واجتماعية، وثقافية» خطرة (مالابي ٢٠٠٧). بالإضافة إلى ذلك، فهي تَمتلِك القيمة، وتَحظى باهتمام اللاعب لأنها تمثيلات لوقائع مألوفة بدرجة أو أخرى.

ترجع شعبية الثقافة الإلكترونية للطبيعة العالية التفاعُلية التي تتميَّز بها الألعاب؛ حيث يستلزم موقف اللعبة دورًا فعالًا من اللاعب. وعلى الرغم من أن هذه التفاعُلية مبنية وموزَّعة بإحكام (نيومان ٢٠٠٢)، وأن القواعد والنُّظُم مُدمَجة في اللعبة نفسها — في «كاونتر سترايك» يُمكِن للمرء إما أن يكون إرهابيًّا وإما عضوًا في القوات الخاصة — فالحرية التي تضمَّنها مثل هذه الألعاب تمُيزِّها باعتبارها تقدمًا على أدوار الجمهور السلبية في غيرها من الحالات.

لا يمكننا أن نتعامل مع الألعاب وثقافة الألعاب بمعايير واجهة التفاعلية أو التمثيل المرئي فقط؛ فالألعاب، كما يُوضِّح إسبن آرسث (٢٠٠٤)، تدور حول أنواعٍ أخرى من الخبرة؛ حركية، ووظيفية، وإدراكية. باستخدام جهاز آي توي، يُمكِن تحديد حركات اللاعب في الزمن الحقيقي استجابة لعالم الألعاب. وبهذه الطريقة ينسخ اللاعبون حركات على الشاشة (تجنُّب الأعداء، والاتِّقاء، والتفادي). وباستخدام سجادة الرقص — المصنوعة من تسعة مربعات حساسة للضغط وموصولة بجهاز ألعاب يعرض الحركات على الشاشة — يتبع الراقص العلامات بقدمه؛ وبذلك يتعلَّم خطوات الرقصة. وفي كل حالة، نرى أشكالًا جديدة من الأفعال الحركية والإدراكية استجابة لبيئة محاكاة. ولذا، على سبيل المثال، يكون «تحديقنا في اللعبة»، كما يسميه باري أتكينز (٢٠٠٦)، مختلفًا عن التحديق السينمائي؛ لأن ما نثبِّت عليه نظرنا هو شيء «لما يأتِ بعدُ»، ولن يظهر إلا حينما نتفاعل «على النحو الصحيح» مع الواجهة التفاعُلية. تُحرِّك رغبتنا المرئية تحديقنا، ولكنها تَنشُد دومًا شيئًا ينتظر دوره ليظهر على الشاشة؛ تحديق «مستحيل».

تنوعت الاستجابات للألعاب، من القلق بشأن انسحاب الأطفال إلى البيت (من الرياضة خارج المنزل أو في المتنزَّهات على سبيل المثال) من أجل اللعب الفردي، أو هجرهم القراءة لصالح الألعاب «المجنونة»، إلى الدراسات الأكثر أكاديميةً التي تفترض أن اللعب هو في أغلب الحالات بديل من عدم فعل أي شيء (فروم ٢٠٠٣). اعتمد الاتحاد الأوروبي، مُنزعجًا من مقدار العنف في الألعاب الموجهة للأطفال، نظام تصنيف من عام ٢٠٠٣ (رغم أنه كان يوجد بالفعل تصنيف عمري اختياري لألعاب الفيديو)، أشرف عليه اتحاد البرمجيات التفاعلية لأوروبا،٣ ألعابًا من قبيل «كولومبين ماساكار آر بي جي!» تُمثِّل ثقافة عنف على الشاشة، وأعطت مبررًا للقلق (جيورن ٢٠٠٧). مرة أخرى، يُبرِز هذا الأمر الصلةَ بين عوالم الإنترنت والعالم المادي؛ حيث تصير «شاشات» العنف «أحداث» عنف.

من وجهات النظر الثلاث التي عرَضها آرسث (٢٠٠٦) — لعب اللعبة، وبنية اللعبة، وعالم اللعبة — تبدو الأخيرة أكثر ملاءمة لمقاربة الدراسات الثقافية. تشتمل منهجية عالم اللعبة على النظر في الجماليات، والأشكال الفنية (الرسوميات)، والتاريخ، واستخدام الوسائط للألعاب.

(٣-١) التآلف الاجتماعي الجديد

تُشكِّل الألعاب المتعددة اللاعبين، مثل «كويك أرينا» أو «إفركويست»، فضاءً «اجتماعيًّا»، لا يختلف عن المسرح أو ملعب الرياضات. وعلى خلاف الأشكال الأخرى، فأعضاء الجمهور الكبير في الألعاب ذات المصدر المفتوح (المُتاحة على الإنترنت) هم أيضًا مشاركون «متواصلون».

تَشتمِل ألعاب تأدية الأدوار متعددة اللاعبين على الإنترنت (MMORPGs) وألعاب تأدية الأدوار القائمة على الحركة الحية (LARPs) على الفعل البدني بوساطة الأفاتار، والأعداد الكبيرة من اللاعبين، والتحكُّم السردي الأكثر تحرُّرًا، والتفاعُل الكثيف بين لاعب ولاعب (تيشسن وزملاؤه ٢٠٠٦). ما يجعل من اللعب نوعًا مُتميزًا من أنواع التفاعُل الاجتماعي؛ ومن ثَمَّ من المجتمع، والثقافة، والهُوية، أو ما يُسمِّيه مورتنسن (٢٠٠٦) «اللعب الاجتماعي». التفاعل في الزمن الواقعي ممكن عبْر المناطق الزمنية، ويُنتِج قابلية اجتماعية جديدة، وإن كان بعض المعلِّقين (مثل جول ٢٠٠١) المتأملين في السرد والزمن في الألعاب ذهبوا إلى أنه لا يسع المرء أن يحظى بكلٍّ من التفاعُلية (التي تَشتمل على الزمن التزامني) والسرد (الذي يَشتمِل على الحبكة وزمن الحكي).

أما داخل العائلات، فالجيل الأصغر الذي تَربَّى على استخدام الكمبيوترات والألعاب هم لاعبون ذوو مهارات عالية. وهذا الشكل من «الانقسام الرقمي»، كما أظهره البحث، يُشجِّع على التآلف الاجتماعي داخل عائلةٍ ما، حينما يُوضِّح المُراهِقون لآبائهم وأجدادهم ويُعلِّمونهم أساسيات اللعب (آرساند ٢٠٠٧)، خالقين بهذا تآلفًا اجتماعيًّا جديدًا وصِلات جديدة داخل العائلات.

ولذا، يَلزم أن نتعامل مع ألعاب الكمبيوتر بوصفها علامةً على ظهور شكل جديد من المجتمع والاتصال. يُبرز اللعب، وخصوصًا ألعاب تأدية الأدوار القائمة على الحركة الحية، ظهور شكل جديد من التآلف الاجتماعي، ومن «الثقافة الشعبية» معًا. ويَستدعي هذا إعادة تعريفٍ جذرية لمفهوم «الثقافة الشعبية»؛ حيث يُمكِن أن يكون «الشعبي» هو الناس الذين يَجلسون في حرم بيوتهم ولكن مُشتبكين مع مجتمعٍ من اللاعبين من أنحاء العالم في عالَم ألعاب.

هنا يَتجلَّى المدى الكامل لمصطلح «تفاعلي» الشائع. كانت كلمة «تفاعلي» في الأصل تعني «التأثير المتبادل»، وكانت توحي بنشاط جماعةٍ ما؛ أي «تفاعل» جمعي. لكن التفاعُلية هي أيضًا الاشتباك مع السياقات — بيئة المَوقف أو الحدث أو العمل الفني. تعمل ثقافة الألعاب مع كلٍّ من هذَين المفهومين للتفاعلية: (١) لعب أو عمل أو اتصال جمعي. و(٢) اشتباك مع سياقات الوسيط/الفن. ويَعتقِد المعلِّقون بأن «مجتمعات الاهتمامات المشتركة» المؤسَّسة على المصالح المشتركة؛ مثل السيارات أو الرياضة في البيئات الافتراضية، ستظهر، حتى لو كان المشاركون يَخوضون حيوات «واقعية» جد مختلفة خارج عالَم الألعاب (نيكولز وآخرين ٢٠٠٦: ٤٨).

(٣-٢) المهارات والمسئولية والألعاب

في ألعاب «التشييد» مثل «سيفيلايزيشن»، يبني اللاعبون إمبراطورية أو ثقافة بأكملها. والواقع أن أحد أنماط التعامُل مع ثقافة لعبة الفيديو والكمبيوتر هو رؤية كيف أن هذه الألعاب هي، في جوهرها، نماذج اللعب الأقدم مثل أداء الأدوار، والبناء، و«محاكاة حياة الأسرة»، والمطارَدة، وهكذا (لوويرت ٢٠٠٧).

أوضح أنصار الثقافة الشعبية (مثل جونسون ٢٠٠٦) أنه بينما قد تُرسِّخ القراءة التركيز والقدرة على قراءة تتابُع سردي؛ فحتى الثقافة الشعبية غير الأدبية (مثل اللعب) تشحذ مهارات ذهنية مختلفة، تشمل الذاكرة المرئية، والإتقان اليدوي. يفترض هنري جنكينز، وهو مُنَظِّر إعلامي بارز ومحقق رئيسي يعمل لصالح مشروع الإلمام بوسائل الإعلام الجديدة، أن اللعب يُساعِد الأطفال من خلال تنمية أربع مناطق أساسية: اللعب (من خلال الاستكشاف والتجريب)، والأداء (لهُويات مختلفة)، والتعبير (إبداع مُحتوى جديد يترجم فيه الأطفال محتوى منهج مدرسي إلى محتوى اللعبة)، والتآزر (داخل مجتمع اللعبة). ويدعو جنكينز (٢٠٠٦أ) إلى استخدامٍ أكبر لمثل هذه الأدوات في التعليم، مفترضًا أنه يُمكننا، من خلال مطالبة الأطفال بأن يتأمَّلوا و«يحكموا» كيف تُصوِّر الألعاب العالم، أن نغرس فيهم خلقًا يتعلَّق بصنع الاختيارات بوصفهم لاعبين للعبةٍ ما؛ ومِن ثَمَّ بوصفهم مواطنين. ويوحي مُعلِّق آخر بأن الألعاب تُعلِّم الأطفال عن المسائل الكبيرة مثل الموت والفناء؛ فنهاية اللعبة تُذكِّر المرء بأن «الحياة» المُعيَّنة «انتهت» (ليلاند ٢٠٠٦: ١٠٣).

وكما يُقال، فمثل هذا الهدف (إثارة التساؤلات عن الأخلاقيات، والمسئولية، والخيارات) فيما يخصُّ الألعاب واضح في ألعاب الحيوانات الأليفة الافتراضية؛ فالحيوانات الأليفة الافتراضية — التي بشَّرت بها لعبة تاماجوجو اليابانية عام ١٩٩٧ — تُمكِّن الأطفال من أن يكونوا متفرجين، يراقبون لعب حيواناتهم الأليفة الإلكترونية وأداءها وحياتها ﻟ «بضعة أيام»، وأن يكونوا كذلك لاعبين فعالين حينما يؤدون وظائف الآباء من قبيل العناية. وكما عبَّر عن ذلك موقع مارا بتس، وهو موقع للألعاب على الإنترنت:
ستحتاج إلى تغذية حيوانك الأليف بانتظام حينما يجوع، وتضعه في الفراش لينام حينما يَتعَب، وتُلاعبه حينما يشعر بالملل. يمكن أن تلتقط الحيوانات الأليفة الأمراض والاعتلالات وتحتاج إلى المعالجة. إذا أُهمِل الحيوان الأليف وتُرِك مريضًا أو جوعانَ فسيموت. (www.marapets.com/pets.php)

تستلزم تلك الألعاب تنميةَ حسٍّ بالمسئولية بفعل «موضوعها التربوي» (بلوش وليميش ١٩٩٩). وهي تُنمِّي إحساسًا بالحميمية (مع الحيوان الأليف الافتراضي) غير معهود في أنواع الألعاب الأخرى.

(٣-٣) السرد

لا يُمكن التعامل مع ألعاب الكمبيوتر بصفتها «سردًا» مثل الروايات والسينما (جول ٢٠٠١)؛ فالزمن يُحَس بطريقةٍ مختلفة في الألعاب، وعلاقة المشاهد القارئ بالموضوع مختلفة جذريًّا في حالة الألعاب؛ حيث يندمج الجمهور واللاعب.

غير أن كثيرًا من الألعاب يُقدِّم بِنْية حبكة متتابعة أساسية، ومهمة اللاعب هي جزء من السرد، وهنا تختلف اللعبة عن الفيلم؛ مهمة اللاعب (الذي يأخذ على عاتقه دور شخصيةٍ ما في هذه «القصة») أن يُصارع الغرباء، ويُعيد الكوكب إلى حالة السلامة والاتزان. إذا كان الجمهور، في حالة السينما أو الملعب، «متفرِّجًا» تقريبًا، فاللاعب في لعبة الفيديو هو شخصية في اللعبة التي تُلعَب؛ حيث تكون «الشخصية» مجموعة من السمات أو آلة تُستخدَم من خلال اللاعب المتحكِّم، الواقعي/المتجسِّد. يعني هذا أيضًا أن الخيارات التي يتَّخذها اللاعب «الواقعي» لشخصيته تقيِّد أو تحدِّد ما يمكن للشخصية-اللاعب فعله «في اللعبة». هذا الطابع «الإدماجي» للجمهور «بوصفه» لاعبًا يقودُ تيد فريدمان، متبعًا مسئول الفنون الإلكترونية، تريب هوكينز، إلى وصف ألعاب الكمبيوتر بأنها «هوليوود الجديدة» (فريدمان ١٩٩٥: ٧٧). تشكل ألعاب الكمبيوتر من وجهة نظر فريدمان «سينما تفاعلية» يؤدِّي فيها اللاعب دور البطل.٤

يتحكَّم اللاعب في «زمن» أحداث اللعبة التفاعلية ومواقفها. لا تُحدَّد الأحداث المستقبلية بالمنطق السردي (إلا إذا كان اللاعب لا يستطيع تنفيذ مناورة)، ولكن من خلال حركات اللاعب. ووَفقَ رأي ماركو إسكلينين (٢٠٠١)، ثمة حركة واحدة فقط ممكنة في لعبة الكمبيوتر؛ من البداية إلى الفوز، وإن كانت تتوقَّف بالكامل على أن يختار اللاعب التوليفات العديدة. التفاعلية هنا محكومة بشفرات تدير اللعبة. ولذلك، إذا كانت لعبة معركة تستلزم إصابة العدو في مقتل، فحينئذٍ لا يُشكِّل الانتصار إلا إصابة العدو في مقتل. يَنجح اللاعب حينما يتعلَّم كيف تعمل آليات اللعبة. باختصار، «الفوز» هو «كشف أسرار» (تي فريدمان ١٩٩٩) عمليات البرامج التي تبني اللعبة. يتعلَّم اللاعبون تَبعات كل حركة، ويتعلَّمون أن يتوقعوا استجابة الكمبيوتر؛ ويستجيبوا من ثَمَّ وفقًا لها (جارلتس ٢٠٠٥أ: ١٠-١١). والواقع أنه يُمكن افتراض أن إثارة اللعبة تستمر بقدْر جهل المرء نسبيًّا ﺑ «كيفية» عملها.

في الألعاب ذات البيئات الدينامية مثل «سيفيلايزيشن» (١٩٩١)، يستطيع اللاعبون توسعة بِنية/فضاء اللعبة ذاته؛ ومن ثَمَّ تبديل العلاقات بين اللاعبين. تستلزم «سيفيلايزيشن»، مثلًا، قدْرًا معينًا من صنع القرار قبل التغيير في عالم اللعبة من جانب اللاعب. قد تكون هذه مفاوضات مع الخصوم، واختيار موقع المدينة (الذي يبنيه اللاعب بعد ذلك)، والزراعة أو البناء، وهكذا. وتُمَكِّن ألعاب مثل «سكند لايف» اللاعبين من أن يكونوا «بنائين» ليمنحوا أفاتاراتهم تكنولوجيا أو مسارًا أو لوازم للمهنة.

ثمة نمَطان أساسيان من الألعاب الإلكترونية؛ القصص المُرتكِزة على اللعبة، والألعاب المرتكزة على القصة (أنسورث ٢٠٠٦). في النمط الأول تشكِّل أنشطة اللعبة القصة. لعبة بي بي سي «سبايووتش» (متاحة حاليًّا للأغراض التعليمية) هي قصة مجموعة من الأطفال يُساعدون في التحرِّي عن جاسوس وتَتَبُّعه في بلدتهم. وفي لعبة ورنر بروس «أركين» (www2.warnerbros.com/web/arcane/home.jsp)، يَجب على اللاعبين أن يَجدُوا دلائل ويحلُّوا أُحجية «الدائرة الحجرية». وفي لعبة «كلوز» (www.boardgamecentral.com/games/clue.html)، يجب أن يتصفَّح اللاعبون روابط لإيجاد دلائل ستُساعِدُهم على التقدُّم، وحل اللغز. بؤرة التركيز الأساسية هنا هي على أنشطة اللعبة التي «تُنتِج» سرد القصة.
أما في النمط الآخر من الألعاب الإلكترونية، وهو اللعبة المُرتكِزَة إلى القصة، فتوجد قصة في مكانٍ آخر، وتكون اللعبة مبنية على هذه القصة. وهكذا، «هاري بوتر» (من ذي إلكترونيك آرت جروب، harrypotter.ea.com) أو «ذي لورد أوف ذي رينجز» (إلكترونيك آرتس) هما لعبتان تتبع مغامراتهما وسرداهما حبكة القصة المنشورة في العالم الواقعي. وهما عالَمان افتراضيان مؤسَّسان على عالَمين خياليَّين يَلعبُهما لاعبون واقعيون.

(٣-٤) تأدية الأدوار

يتجاهل الدارسون في كثير من الأحيان «الجانب المهني» في مثل هذه الألعاب، مفضلين التعامل معها باعتبارها مجرد «لعب». غالبًا ما تسمح لنا ألعاب تأدية الأدوار باختيار دور، ثم يجب علينا أن «نجتهد» فيه. في «ستار وورز جالاكسيز» (starwarsgalaxies.station.sony.com) توجد على سبيل المثال تشكيلة واسعة من المِهَن للاختيار من بينها — من تصميم الأزياء إلى التكنولوجيا الحيوية والتسويق الصيدلي. وفي «سكند لايف» يمكنك أن «تلعب» دور مالك أراضٍ، أو صاحب أعمال، أو أن تحوز أو تبيع أرضًا أو عقارات (في شهر يوليو ٢٠٠٦ وحده، جرى تداول ٣٨٠ ألف شيء في «سكند لايف»؛ ماير-تشونبرجر وكراولي ٢٠٠٦: ١٧٨٧). تُعلِّم هذه الألعاب التنافسية، والتخطيط، والإدارة، ومبادئ الاقتصاد. وفي ألعابٍ أخرى للَّاعب الفرد، مثل لعبة الأطفال «أليس جرينفينجرز» (www.alicegreenfingers.com)، يتعلَّم الطفل أن يزرع، ويجني أرباحًا، ويخطِّط لأنشطةٍ زراعية متنوعة، من الغرس إلى الحصاد وبيْع الإنتاج.٥ هذه الألعاب عوالم نلعَب فيها أدوارًا تنطلق من أدوارنا المادية وتُوسِّعها؛ وتستلزم «العمل»؛ وهي لذلك مُتطلِّبة، وتتسبب في الإنهاك في بعض الحالات (يي ٢٠٠٦). تُشجِّع «سكند لايف» اللاعبين على البيع والشراء، والبناء والتشغيل. وبحلول عام ٢٠٠١، كان الناس يَبيعون أسلحتهم الافتراضية وعملاتهم الافتراضية على موقعَيْ إيباي وياهو! مقابل نقود حقيقية. وكانت تُباع أفاتارات للعبة «إفركويست» بالمزايدة، مقابل أثمانٍ تراوحت بين ٥٠٠ دولار أمريكي و١٠٠٠ دولار أمريكي (كاسترونوفا ٢٠٠١). يعزِّز هذا فرضيتي بأن العالم الافتراضي يظل مرتبطًا ارتباطًا تكراريًّا بالعالم الواقعي. وكما أفترض، فكل عالم «موسَّع» و«مضخَّم» من قبل الآخر.

ولذلك، فالشخصية في اللعبة هي نتاج تفاعل اللاعب البشري «الواقعي» والرمز المتشكِّل بالكمبيوتر على الشاشة، وليست مُستقلَّة بالكامل.

(٣-٥) عوالم الألعاب وسياستها

تُصاغُ الألعاب بطريقة معيَّنة، من حيث إنتاجها واستهلاكها (الأخير في حيوات الناس اليومية). ويؤسَّس «التاريخ» في هذه الألعاب، كما افترض كيفين شط (٢٠٠٧) في حالة لعبة «روم: توتال وور»، في الغالب على الصور النمطية عن النوع، والعِرق، والقومية. لنأخذ، على سبيل المثال، لعبة «سيفيلايزيشن ٤: بيوند ذي سورد» (٢٠٠٥). حضارة «الهند» فيها «مميَّزة» لخدمة المستهلك/اللاعب بعناصر قليلة يُمكن إدراكها على أنها «هندية»: أحدها هو المهاتما غاندي، المعروف جيدًا عبْر العالم بأنه رسول السلام ونبذ العنف، والآخر هو الإمبراطور أسوكا الذي تخلَّى بعد معركة دامية بحقٍّ عن العنف، واعتنق البوذية. السرد «المُشكِّل» للعبة يتركز على لا عنف الهند — هذا هو ما يجدر الانتباه له واستهلاكه، وليس التنمية التكنولوجية الهندية، أو التحوُّل إلى دولة نووية. اللعب هنا هو ممارسة «ثقافية» بجلاء، مَبنيَّة على منظومة معتقدات، وخرافات رائجة؛ ومن ثَمَّ تكون قابلة للتعرُّف عليها، عن «حضارات» معيَّنة. أما «الإرهابي» ذو القَلَنْسُوَة في لعبة «كاونتر سترايك» فيَنتمِي إلى «صور» معروفة الآن من الإرهاب؛ أي أن اللعبة الشعبية تضع حضارةً ما في إطارٍ معيَّن، ليستمر الناس في تصديق هذه الخرافات نفسها (تُقدِّم «سيفيلايزيشن آي في» مسارَين داخل الهند: الروحانية والتعدين!) أما «أليس جرينفينجرز» فتعلِّم استراتيجية خلق الأرباح من خلال زيادة «الإنتاج». ولا تذكر الادخار. وبدلًا من ذلك، تغري «اللاعب» بشراء السلع — أي الإنفاق عليها — في المَتجر، وتشكل خطًّا مباشرًا من العمل الإنتاجي إلى الأرباح إلى الاستهلاك.

أما في حالة عوالم الألعاب الأخرى، فتَتجلَّى الثقافة الاستهلاكية غالبًا في صورة الإعلانات، والتأييدات، وصور خفية من الخطابة الترويجية. حينما أصبحَت لارا كروفت مقترنة بمشروب لوكوزيد عام ١٩٩٩ (على الرغم من أن عالَم الألعاب نفسه لم يُظهِر لارا كروفت أبدًا تَعُبُّ المشروب الغازي)، ظهرت شخصية اللعبة في إعلانات عن المنتَج (حتى إن المنتَج أصبح معروفًا لفترةٍ باسم لارازيد)، مقرِّبة ما بين الثقافة الاستهلاكية والثقافة الإلكترونية، ومعززة مبيعات لوكوزيد (انظر نيكولز وآخرين ٢٠٠٦: ٢٨–٣١). مرة أخرى، نشهد ظاهرة ثقافية إلكترونية تؤثِّر في العالم المادي — الأرباح في هذه الحالة — حتى مع تقدُّم البحث في حجم شريط الإعلان وسيميائيات الإعلانات على الإنترنت بسرعة (انظر موري-دنهام وجرين ٢٠٠٧؛ روبنسون وآخرين ٢٠٠٧).

عالم الألعاب

يشير عالم الألعاب إلى العوالم الافتراضية التي تُنشئها برامج الكمبيوتر. وهو يعمل بمجموعة قواعده وأعرافه السردية، سواء أكانت التخطيط الاستراتيجي لتشييد حضارة، أم لهدم وحدة معادية.

«الإعلان» في الألعاب هو استراتيجية جديدة تضع أنشطة الثقافة الإلكترونية من قبيل الألعاب في إطار الثقافة الترويجية. استخدمت شركة كرايسلر لعبةَ الإنترنت «جيب ٤ × ٤: تريل أوف لايف» لترويج سيارتها الجيب من طراز روبيكون، وكان ٥٠٠ مشترٍ من أول ١٥٠٠ مُشترٍ لجيب روبيكون قد أجرَوْا قيادة افتراضية لسيارة الجيب قبل الشراء (نيكولز وزملاؤه ٢٠٠٦: ٣٢). تتزايَد هيمنة الإعلان من داخل اللعبة. على سبيل المثال أظهرت لعبة «سيمز أونلاين» بوضوح علامة «مكدونالدز». ولذا، يخدم فضاء عالم الألعاب الترويج مثل أي فضاء آخر. هذا ما يراه ديفيد نيكولز وزملاؤه (٢٠٠٦) باعتباره مستقبل اللعب؛ العلامات التجارية في عوالم الألعاب.

تُعلِّم لعبة «سيمسيتي» اللاعبين أن القوة تأتي مع توسُّع المدن؛ ولذا إذا أردت أن تُصبح المحافظ، فيجب أن تُؤكِّد أن مدينتك تكبر. المُثير للاهتمام هو أن المدينة في «سيمسيتي» مصمَّمة وَفق نموذج المدن «الأمريكية» (تي فريدمان ١٩٩٩؛ لوويرت ٢٠٠٧: ١٩٨).

يُعطي برنامج «سيفيلايزيشن» الأساسي الفرصة للاعبين لكي «يُكبِّروا» مدائن مصرية أو هندية، بِناءً على أفكارٍ مُدرَكة سلفًا عن هذه الثقافات. ولا يُسمح بناطحات سحاب من النوع الأمريكي في المدينة المصرية أو الهندية. لذا، فما نراه هنا هو سياق «ثقافي» للمدن المحاكاة وتأدية الدور.

ومن حيث تحليل عالم الألعاب، تمتلك مثل هذه الأشكال الثقافية الشعبية من الثقافات الإلكترونية قيمةً تربوية مهمة أيضًا. لعبة مثل «سيفيلايزيشن»، أو «كولونايزيشن» الأقل نجاحًا، لا يُمكن استخدامها فقط لشرح و«ممارسة» حِقب تاريخية، ولكن أيضًا مواقف معيَّنة من الدبلوماسية، أو الحرب، أو التجارة، أو الإبحار، أو العمارة (سكواير ٢٠٠٢). في لعبة «ذي ويشينج كابورد» (www.libbyhathorn.com/lh/Washing/Default.htm)، ينتظر تان، وهو صبي فيتنامي، عودة أمه من فيتنام. ولِتُسلِّيه جدتُه، تفتح له خزانة التَّمني. مهمَّة لاعب اللعبة هي: فتح أبواب الخزانة واحدًا بعد الآخر، في خزانة شيء عِرْقي، فيتنامي. وتظهر بعد ذلك الجدة لتَشرح دلالة هذا الشيء. هكذا، تكشف إحدى الخزائن عن بوذا «أخضر يانع». وبعد ذلك، حينما يستمرُّ اللاعب، نجد استفسارَ تان: «ما ديننا يا جدتي؟» حينئذٍ تستمر الجدة في تعليم تان و«اللاعبين» البوذية. ويُصاحب هذا وصفٌ تفصيلي، وإن يكن بليغًا جدًّا، للهياكل الفيتنامية، والأساطير والموضوعات البوذية. في هذه اللعبة مقصد تربوي معيَّن؛ حيث تُظهَر الثقافات المختلفة، ويُتاح الوصول إليها، وفهْمها من جانب اللاعب. يُساعد الكثير من هذه الألعاب المبنية على القصة اللاعبَ الطفلَ على التفكير وعمل أنشطة منسَّقة. على سبيل المثال، في «أليس أدفنشرز إن وندرلاند» (جوريكو إنتراكتيف، ٢٠٠٠)، يجب إرشاد أليس، عبْر سلسلة من المواقف الخادعة، إلى السلامة والنجاح.

وفي الحقيقة يجب استحضار دور المحاكاة الحاسوبية في العلم التكنولوجي العسكري — الذي أوجَدَ الكمبيوتر الرقمي (كروجان ٢٠٠٦: ٧٦) — في الذهن حينما ننظر إلى إنتاج الألعاب الحربية والعسكرية على الكمبيوتر الشخصي.

أصبحت أيديولوجيات مُبدع اللعبة وتحيُّزاته الثقافية موضوعًا للدراسة النقدية في أواخر التسعينيات من القرن العشرين. أوضحت ناقدات نسويات مثل هيلين كينيدي (٢٠٠٢) أن لعبة مثل «لارا كروفت: تومب ريدر» ربما تدلُّ على تحوُّل عن ألعاب المعارك التقليدية، في وضع المرأة موضع الشخصية المركزية، لكن ما لا يُمكن إنكاره هو أن اللعبة تجمع بين قوة مادية ودرجة عالية من «الهُوية الجنسية» (المقارنة هنا مع «بطلات» أخريات، مثل بَفِي ذي فامباير سلاير). ومِن المُمكِن أن تكون اللعبة تُعزِّز كلًّا من الرغبة الذكورية في السيطرة على الجسد الأنثوي (كروفت هنا)، و«وعيًا مُزدوجًا» بالنوع للجسد الإلكتروني، والنوع للاعب (فلاناجان ٢٠٠٢). يَضمن جسد لارا كروفت القريب من الكمال إدراك اللاعبة لأنوثتها طوال الوقت، وجسد المرأة الإلكتروني هو وسيلة التلاعب، وأداتُه، وغرضه المصبوغ بالصبغة الجنسية.٦

أثمرت دراسات استخدام الألعاب التي تدور حول النساء والبنات وتأثيرها عليهن نتائج مهمَّة. وكان للتحوُّل من ألعاب الأركيد إلى الأجهزة التي أمكن تنصيبها في المنزل، آثار في استهلاك الألعاب، مُرتبِطة بالنوع؛ لأن ألعاب الأركيد كانت في أساسها مناطق ألعاب «الأولاد»، ومكَّنَت الأجهزة المنزلية المزيد من البنات من لعب الألعاب وهن ناعمات بالأمان والراحة في منازلهن/غرفهن (جوين ٢٠٠٤). ما إذا كان هذا علامة على تحوُّل من نمط عام نسبيًّا من الترفيه (مشاركة فضاء ألعاب الأركيد مع كثير من المراهقين الصارخين المتعرِّقين المنغمسين في اللعب) إلى نمط أكثر فردية (محاطات بأسباب الراحة في المنزل) هو نقطة جدلية؛ لأن ألعاب الإنترنت وألعاب تأدية الأدوار القائمة على الحركة الحية تُجسِّد خبرة اللعب الاجتماعية والجمعية بالفعل.

وتظهر الدراسات التجريبية أن ألعاب الفيديو نفسها حلَّت محل أشكالٍ أخرى من الترفيه للرجال (سلوكومب ٢٠٠٥). ركَّزت هذه الدراسات على «تمثيلات» النساء في هذه الألعاب (كما رأينا أعلاه) أو على «اللاعبات». وفيما يخصُّ النساء البالغات، قدَّم اللعب أنواعًا أخرى من الفرص. أدمجت النساء الألعاب في حيواتهنَّ اليومية؛ إذ وظَّفْنها بوصفها أساليبَ لتعريف أنفسهن. وأسهمت المخاطر المخاضة، والمنافَسات الخائبة، والانتصارات المكتسبة إسهامًا كبيرًا في إحساسهن بالذات. وهكذا تستمتع «لاعبات القوة» — فئة من النساء اللاتي هن لاعبات مُنتظِمات ومُتمكِّنات — بالمهارات المضافة، والمنافَسة، و«اقتحام» مناطق (لعبة) الذكر. وكما يُبيِّن رويز وزملاؤه (٢٠٠٧)؛ فالألعاب هي، بوضوح، «تكنولوجيات للذات القائمة على النوع»؛ حيث يُظهِر انهماكِهن في ثقافة الألعاب أيضًا تأثيرات على حيواتهنَّ «الواقعية» بطرقٍ مهمة؛ فالانتصارات في ساحة الألعاب ومُغامرتها تُغيِّر إحساس اللاعبة بذاتها وبقيمة ذاتها، ويُحدِث هذا اختلافًا في هُويتها في العالم الواقعي ومساوماتها معه. اجتاحت سياسة عنصرية مجال اللعب — من حيث كلٍّ من اللاعبين وعالم الألعاب الافتراضي. بيَّنت دراسات السوق المعاصرة — من قبيل مسح نيلسن إنترتينمنت عام ٢٠٠٥ عن اللاعِبين النَّشِطين — أن اللاعبين السود واللاتينيِّين يُعَدُّون سوقًا ناشئة للألعاب (بي آر نيوزواير ٢٠٠٥). وحينما أُقيم معسكر تدريب للاعبي الفيديو (الأكاديمية الحضرية للألعاب الفيديو) في مدرسة بواشنطن العاصمة، كانت الإحصائيات مُثيرة للاهتمام، كانت الأغلبية من الأمريكيِّين ذوي الأصول الأفريقية، والبقية من اللاتينيين، وكان الثلث تقريبًا من البنات (فارجاس ٢٠٠٥).

لوقتٍ طويل، ظلَّت الشخصيات السوداء قليلة في الألعاب. وحينما بدأت في الظهور، كانت في أغلب الحالات تُمثِّل «الأشرار» الذين كان يجب اعتقالُهم وإبعادهم من أجل سلامة النظام الاجتماعي. وكشفت الدراسات أن طبيعة الشخصيات السوداء في الألعاب الموجَّهة إلى الأطفال شُوِّهت؛ كانت الإناث الأمريكيات من أصول أفريقية أكثر تعرُّضًا للعنف، ونادرًا ما كنَّ يَمِلن إلى الأنين في ألمٍ، موحيات بذلك بمزيد من التسامح مع العنف (تشيلدرن ناو ٢٠٠١؛ كيلمان ٢٠٠٥). وحتى الخطابة النَّقدية عن ألعاب الفيديو تتحدَّث عن «الجبهات النهائية»، والغزوات الجديدة، والحدود في خطاب الاستعمار (الذي كان له أساس عِرقي بالتأكيد) (انظر على سبيل المثال جنكينز ١٩٩٨).

كانت الشخصيات السوداء غائبة في ألعاب الرياضات المتطرِّفة مثل «ديف ميرا» أو «آمبد»، وفي ألعابٍ أخرى، مثل «إس إس إكس» و«بي إم إكس»، نُمِّطت الشخصيات الملوَّنة: راقص الهيب هوب الأسود، المرأة الآسيوية الفاتنة، والمرأة اللاتينية التي تضع وشومًا حربية. تلقَّت ألعاب مثل «شادو وورير» (١٩٩٧) لأسباب مُماثلة انتقادات على «إضفائها صبغة إرهابية على الشخص الآسيوي» (أو ٢٠٠٠: ٥٤)؛ إذ تتَّفق الذكورية الطافحة للشخصيات الذكرية، وانحرافها عن القواعد الاجتماعية، واختيالها في مثل هذه الألعاب مع الصورة الشائعة (ليونارد ٢٠٠٥). وعلاوة على ذلك، فحتى فضاءات السود — المَعازل — مكرَّسة في كثير من هذه الألعاب (ليونارد ٢٠٠٥: ١١٨).

(٤) فن الوسائط الجديدة

الأفلام على الهواتف المحمولة، والمرئيات على الكمبيوترات المكتبية، والموسيقى على الإنترنت، وهاتف الإنترنت، والنصوص الأدبية بصِيَغ الرسائل النصية القصيرة؛ كلها صور جديدة من المرئية والسمعية والنَّصية واللَّمسية تُشكِّل التحوُّل الثقافي الإلكتروني. وهذه هي أيضًا أشكال «يُنتجها المُستخدِم» في الغالب. تَمنح «ثقافة التلاقي»، كما يُسمِّيها هنري جنكينز (٢٠٠٦ب)، داخل الثقافات الإلكترونية قدْرًا هائلًا من القدرة للمُستخدِم ليصمم الواجهات التفاعلية، والجماليات، والتعديلات داخل عالم الكمبيوتر.

أصبح فن وسائل الإعلام الجديدة تَجليًا مهمًّا لمثل هذه الأدوات التي ينتجها المستخدِم، وتُشكِّلها التكنولوجيا.

يُبدِّل فن وسائل الإعلام الجديدة جوهر الجمهور و«النص». يمكننا أن نشعر في النصوص التشعبية بلغة شاملة؛ تتمثَّل في عروض الواقع الافتراضي مع المَشهد المرئي، والموسيقى، والأُغنية، والنص، والرقصة. ويَستغلُّ الشِّعر المرئي، مثل ذلك الذي كتبه جون كايلي، الترتيبات المكانية والجغرافية للكلمات على الشاشة؛ ومن ثَمَّ يؤثِّر في خبرتنا ﺑ «القراءة». وتَمنح برامج الكمبيوتر المتعلِّقة بالفن — مثل «ذي إمبرناننس إيجنت» الذي راقب تصفُّح المستخدم للويب ليُنشئ أعمالًا فنية مخصصة — بُعدًا جديدًا كاملًا لفكرة النص والتأليف. سرعة الزوال، وحرية القارئ، والنص المَنزوع المركز، وحس اللعب والعشوائية، والقراءة السائلة، والحركة المتقطعة للنص التشعبي (ريان ١٩٩٩: ١٠١-١٠٢) كل ذلك يُشكِّك في التصوُّر الأساسي للأدب باعتباره عملًا نابعًا من المؤلِّف. وكما بيَّن عمل ليف مانوفيتش (٢٠٠١) المبدع، فلغة الوسائط الجديدة مبنية على قواعد البيانات أكثر منها على السرد (وهو ما يُوحي بترتيب قائم على علاقة السبب-الأثر)، وتنقُّلات المستخدِم من صيغة إلى أخرى.

(٤-١) النصية الرقمية

تُشير «النصية الرقمية» إلى مُجمَل الصيغ، والسجلات، والنُّظم الدلالية المرئية في الوسائط الجديدة. تَبني تكنولوجيات وسائل الإعلام الجديدة نصًّا جديدًا، ليس فقط من خلال «الاستيعاب والتحويل للنصوص الأخرى، ولكن أيضًا من خلال دمج كلية النصوص الأخرى (التناظُرية والرقمية) بسهولة فيما هو جديد» (إفريت ٢٠٠٣: ٧). تُعامِل النصية الرقمية كلَّ نصٍّ بوصفه واجهة تفاعلية لكثير من «أشكال» النصوص؛ المرئية، والسمعية، والمتحرِّكة. كانت واجهة المُستخدِم التفاعلية الرسومية نقلةً نحو نوعٍ من الواجهة تُقسَّم فيه شاشات الكمبيوتر إلى نوافذ عدَّة، كلٌّ منها مصدر مُمكن للتفاعل المستقل. والآن، مع كون مدخل الصوت وبث الفيديو مُتاحَيْن أيضًا على سطح المكتب، مرة أخرى في شكل نوافذ، تكون واجهة المستخدِم التفاعلية أكثر من مجرد «رسم».

يُمكن أن يتخذ فن الوسائط الرقمية أو الجديدة أشكالًا عدة؛ حيث يجمع كل «موضوع فني» بعينه أشكالًا عدة من الوسائط.

النصية الرقمية

تُشير النصية الرقمية إلى تلاقي أشكال عديدة من الوسائط في العصر الرقمي؛ حيث يُمكن النفاذ في وقتٍ واحد إلى المطبوعات، والصوت، والفيديو، والرسوم، وتشغيلها من خلال برنامج كمبيوتر واحد مشترك.

والنصية الرقمية هي مثال للتلاقي الذي يَعني، كما رأينا، اجتماع أنواع كثيرة من الوسائط على منصَّة مشتركة. ومع ذلك، كما يُشير بولتر وجرومالا (٢٠٠٣: ١٠٠)، فما لدينا ليس تلاقيًا واحدًا ولكنه مجموعة من التلاقيات؛ حيث تترافق التكنولوجيات ترافقًا مؤقتًا (الكمبيوتر المحمول الذي يُشغِّل الأقراص المرئية الرقمية، والكمبيوترات الكَفِّية التي بها مفكرات، وآلات حاسبة، وساعات، وأجهزة الآي بود التي تعمل عمل الراديو، والهواتف المحمولة التي تعمل عمل أجهزة عرض الأفلام). ما نراه في التلاقي هو نزعة للتصغير؛ حيث تصبح أشكال تكنولوجية كثيرة أصغرَ لدرجة أن تتمكَّن الواجهة التفاعلية/الكمبيوتر الشخصي من استيعاب وظائف أكثر فأكثر.

من النقاط التي أغفَلَها بولتر وجرومالا في مناقشتهما المُتبصِّرة في مواضع أخرى، أن التلاقي يشتمل أيضًا على تلاقي التكنولوجيا «داخل الجسد البشري». فجسد الزائر/المشاهد هو محلُّ تأثير التكنولوجيا. يبني المشاهدون الفن من خلال تفاعلهم مع التكنولوجيا. وتتمدَّد حدود الموضوع الفني إلى الخارج وتَنتقِل إلى داخل جسد المشاهد. ويتصدَّع الخط الفاصل بين الموضوع والمُشاهد، حينما تقرِّر أفعال المشاهد وسلوكه طبيعة الموضوع.

(٤-٢) فن الجمهور النشط

في الأشكال الفنية المعاصرة، تضمن الكمبيوترات، والمُستشعرات، والتكنولوجيا الرقمية علاقة إسهامية بين الموضوع الفني وبين المُشاهِد. تُقدِّم مثل هذه الأشكال نسقًا مختلفًا من المجتمع ومن التفاعل الاجتماعي في عوالم مُتزايدة التشظِّي. في عصر الفردية، والأعمال الانفرادية، تُقدِّم مثل هذه الأشكال الفنية تفاعلًا اجتماعيًّا مثيرًا للاهتمام مع الفن والفنان.

في العمل الفني المركَّب «ذي ليجيبل سيتي» (١٩٨٨–١٩٩١) كانت الأحرف الثلاثية الأبعاد تُشكِّل الكلمات والجمل، بينما يجوب المستخدِم مدينةً افتراضيةً على دراجة ثابتة. وفي «المعمار الرشيد» لرفائيل لوزانو-هيمر، ضُخِّم المعمار المادي باستخدام معمار افتراضي، بينما ركَّب عمله المُعنوَن «ديسبليسد إمبرورز» (١٩٩٧)، المصمَّم لإعادة تشكيل لينتس كاسل، إمبراطوريةَ الأزتيك (التي حُفظ تاجها المصنوع من ريش الكويتزل في المتحف الإثنولوجي في فيينا) على الإمبراطورية المكسيكية. وبدا أن تحرُّكات الزوار، المتتبَّعة باستخدام مُستشعرات الحركة، تغلغلت في الأجزاء الداخلية التي كانت منعكسة حينئذٍ على بناء القلعة. وتمكَّن الجمهور أيضًا من استحضار غطاء الرأس المريش من خلال أزرارٍ موضوعة على منصات البناء المختلفة. أما عمل «أدريفت» (١٩٩٧–٢٠٠١) لجيس جلبرت، وهيلين ثورينجتون، ومارك ولتشاك، وغيرهم، فمزج فضاءات واقعية وافتراضية. مثل هذه الأشكال الفنية تُنعِش الجمهور؛ ومن ثَمَّ أمكن وصفها بأنها «فن الجمهور النشط».

في أنواعٍ معينةٍ من فن التركيب تُثير الكمبيوترات استجابات من الأجسام الجامدة، استجابات محكومة بحضور الجمهور أو تحرُّكاته. في تركيب «أوتوبويسيس» (٢٠٠٠) لكينيث رينالدو، أُدْلِيَتْ ١٥ منحوتة ذات هياكل شبيهة بالأذرع من السقف. راقبت المُستشعراتُ داخل الأذرع حركةَ الزائرين، واستجابت وفقًا لها. كما تواصلَت الهياكل أيضًا فيما بينها من خلال كمبيوتر موضوع في المركز حتى إنَّ الهيكل بأكمله عمل مثل كائن حي، مُستجيبًا للبيئة.

أما عمل «تكست رين» الفني فقد بَنى (٢٠٠٠) على التفاعل بين جسد المُشاهد والمعروض. تقف الزائرة أمام الشاشة، بينما تَلتقِط كاميرات الفيديو وجهَها وصورتها الظلية وتُسقَط على الشاشة البيضاء والسوداء. ويَصحب هذا دفْق من الحروف الملوَّنة، تسقط كالمطر من أعلى الشاشة. وكلما لمَست الحروف صورة المشاهدة، توقفت عن السقوط، ولم تتحرَّك إلا حينما تتحرَّك المُشاهدة. يدعو المعروض المشاهدين إلى تشكيل أشكال من الحروف من خلال الحركة.

لم يَعُد الجمهور أو المُشاهِد سلبيًّا؛ فهو «مُستخدِم» يخلق العمل الفني من خلال الاستخدام. وكما يفترض ديفيد مارشال (٢٠٠٤)، فنحن بحاجة إلى مقارَبة ﻟ «الجمهور النشط» لكي نميِّز السمات الإنتاجية لاستهلاك الوسائط. وكما لحظنا بالفعل، فالمقارَبة التفاعلية في فن الوسائط الجديدة المعاصر تعني أن شكل الموضوع الفني ومحتواه يُحدِّدهما المستخدِم الذي يكون بذلك منتجًا نشطًا أكثر منه مستهلكًا سلبيًّا. كل الوسائط الجديدة تفاعلية، على معنى أن الموضوع الفني حساس لوجود الجمهور (اشتباك مع السياق)، حتى بينما يبني الجمهور شكلًا معينًا من الموضوع الفني.

ولذا، ففن الوسائط الجديدة كله «شخصي» كما أفترض؛ داخل حدود نظام البرنامج، كل مُستخدِم هو على الأقل منتج-فنان ولو جزئيًّا. وهنا يسقط التمييز بين الهواتف المحمولة، أو نغمات الرنَّات الشخصية، وأي موضوع فني «متاح»؛ فكلها «قابلة لاكتساب الطابع الشخصي» على السواء.

(٤-٣) إعادة الوساطة

الأعمال الفنية الراهنة من قبيل «تكست رين» أمثلة جيدة لإعادة الوساطة (بولتر وجرومالا ٢٠٠٣)؛ حيث تَنبثِق، كما رأينا، الوسائط الجديدة من القديمة. يمزج «تكست رين» بين الافتراضي والمادي. وفي فن التركيب الذي ناقَشناه أعلاه، نرى الفيديو يرافق الصور والصوت المسجَّلَيْن، ويُفعَّل كلٌّ منها ويُعدَّل من خلال حركات الجمهور. لا تُغيِّر نقرةٌ على فأرة أو حركة يد الزائر المحتوى فقط، ولكن أيضًا «شكل» الموضوع نفسه. سيولة الشكل في الفن المعاصر هي إعادة وساطة أيضًا، ولكنها إعادة وساطة نابعة من «الجمهور»؛ لأنها تُحيي أشكالًا أقدَم من تفاعل الجمهور-المؤدي (كما في حالة المغني الذي يصل إلى الجمع، أو متاحف الأشياء التي يصنعها المرء بنفسه، وخصوصًا للأغراض التربوية، وفي متاحف الأطفال).

(٤-٤) الحيوية

تخضع طبيعة العرض «الحي» نفسها للتساؤل مع أعمال فنية مثل فيلم «إمباير ٧ / ٢٤» (٢٠٠١) لوولفجانج ستيل. وهو عبارة عن صورة فوتوغرافية لمبنى الأمباير ستيت تلتقط ما يطرأ عليه من تغييرات في الضوء والظل على مَدار اليوم. وكما تُوضِّح كريستين بول، الصورة التي يُقدِّمها الفيلم هي من ناحية «حية»، ومن الناحية الأخرى منقولة (بوساطة الكاميرات). وكلٌّ من المعالجة وإضفاء الصبغة الجمالية والوساطة هي أمور مركزية في المشهد الذي نراه للمَبنى. ولكن المشهد يظل مع هذا حيًّا؛ لأننا لا يمكننا أبدًا أن نراه مرة أخرى إلا في هيئة تسجيل (بول ٢٠٠٣: ١٠٢–١٠٤).

الحيوية هي أيضًا أداء يتَّسم بقدْر معيَّن من غياب القدرة على التنبؤ؛ كما في تليفزيون الواقع الهَجين الذي يجمع بين المغامَرة والدراما، من قبيل برنامج «الناجي» (سرفيفور). وحينما تُصوِّت الجماهير لإخراج لاعب في برنامج «الأخ الأكبر»، فهم يشاركون في الطبيعة الحية للبرنامج. وفي حالة «تكست رين»، يحرِّك الجمهور الأداة، بقدْر ما تُحرِّك الأداة الجمهور. إنه فن «حي» تُيسِّره التكنولوجيا.

تُصبح مُتصفحات الإنترنت نفسها أكثر جمالية، بتغيير الطريقة التي تعمل بها الواجهة التفاعُلية. وتلك ظاهرة تُجسِّد أيضًا مفهوم «الحيوية» من ناحية التواؤم مع حركات المستخدِم وتفضيلاته من أجل التطوُّر. يتيح فن المتصفح، باستخدام برنامج «وبستوكر»، على سبيل المثال، للمستخدم بناء تشكيلة من المصادر أو المواقع المختلفة على الإنترنت. ويتجاهل برنامج «نتومات» صفحة المتصفح التقليدي وتنسيقه وحتى مصدر المادة، فيستجب لسؤالٍ ما عبْر البحث عن المحتوى في الشبكة العالمية، ثم تُقدَّم النص، والصور، والصوت بالتزامن على شاشة المستخدم، دون اعتبار لتنسيق مصدر المادة.

يُبرِز فن الوسائط الجديدة «تكرارية» الأداة؛ أي أنها موصولة اتصالًا وثيقًا بالعالَم الواقعي عبْر أجساد الجمهور، وإدراكاتهم، وحواسِّهم، وأفعالهم. ويَرفُض فن الوسائط الجديدة المعاصر فصل الأداة عن الجمهور الذي يُشاهِدها. والواقع أن ما يفعله فن الوسائط الجديدة هو نقل الأداة من كونها مجرد مشهد أو منظر إلى جعلها «بيئة».

الأداة هي البيئة التي يتحرَّك الجمهور من خلالها، وتتشكَّل الأداة-البيئة بفعل حركة الجمهور. و«التفاعُلية» هي هذه الرابطة المتبادَلة؛ تَجذُّر الأداة في الجمهور، وتَشكُّل خبرة الجمهور بفعل الأداة. وتُبرِز أشكال الفن التي تعتمد على الثقافات الإلكترونية مرةً أخرى حقيقة أنه لا يمكن دراسة الثقافة الإلكترونية بمعزل عن الواقعي والمادي.

(٥) تكنولوجيات الاتصالات الشخصية، والآي بود، والتسجيل والبث عبْر الإنترنت

بشَّرَتْ أجهزة ووكمان من شركة سوني بتخصيص وسائط الإعلام وإضفاء الطابع الفردي عليها بطريقة جديدة جذرية (انظر دو جاي وزملاءه ١٩٩٧). وبمعايير الثقافة الشعبية، أثبتت الموسيقى المخصَّصة المحمولة أنها أكثر المنتجات الاستهلاكية دومًا. وتُميِّز القابلية للنسخ، والقابلية للنقل، وإضفاء الطابع الفردي أجهزة الآي بود وأنظمة الموسيقى المحمولة.

ويتصل بذلك ظاهرة التسجيل والبث عبْر الإنترنت. يُتيح التسجيل والبث عبْر الإنترنت لأي فرد أن يُوزِّع الموسيقى أو أي ملفات ترفيهية/معلوماتية أخرى. وتستخدمه المؤسسات التعليمية والعامة بكثافة، وحتى الكنائس وأماكن العبادة لتوزيع الصلوات والخدمات. ويمكن تخصيص المواد المذاعة حسب ذوق الفرد أو المؤسسة أو احتياجاتهما.

السمات الأساسية لأجهزة الآي بود والتسجيل والبث عبْر الإنترنت هي «التخصيص»، و«التضخيم»، و«التوزيع». وعلى خلاف أجهزة الووكمان أو الديسكام، اللذَين عامَلا المستمِعَ على أنه مجرد مستهلك سلبي، يُحوِّل التسجيل والبث عبْر الإنترنت المستهلك إلى منتج. تتيح التكنولوجيا لأي فرد أو مؤسسة البرنامج المناسب لتوزيع ملفات الوسائط الإعلامية، وجعلهم من ثَمَّ جزءًا من جانب الإنتاج، لا محض مُستهلكين. كان دورها الأكبر في التعليم؛ إذ استخدم الطلاب التسجيلات الصوتية على الإنترنت في البداية ليُسجِّلوا المحاضرات والمواد التوجيهية فقط (لي وآخرون ٢٠٠٧). لكنهم سرعان ما بدءوا يُنتِجون موادَّهم للنشر بين الأقران. وما يشي به هذا هو أن تكنولوجيا التسجيل والبث عبْر الإنترنت تصير طريقة لإنشاء «نمط جديد من خلق المعرفة وبثها»، نمط غير مُعتمِد على المؤسَّسات.

يَنتقِل التسجيل والبث عبْر الإنترنت من نموذج التعليم القائم على الاستحواذ إلى نموذج المشاركة؛ حيث يُنتِج المستخدمون موادهم (لي وزملاؤه ٢٠٠٧: ٩-١٠)، ويُمحِّصون النصوص التوجيهية تمحيصًا نقديًّا، ويُقدِّمون توضيحاتهم و«مساعدتهم» للأقران. ويعني المزيد من تحكم الطلاب في التكنولوجيا، وخبرتهم بالمؤسسات المتنوعة أنه سيكون لهم دور أهم في إنتاج المعرفة.

أما اختصاصيو الرعاية الصحية والطبية فيحظَوْن بتسجيلات صوتية خاصة بمجالهم، تُمكِّنهم من الاستماع إلى مقالات الدوريات ومواد البحث أثناء تحرُّكهم. وتَستخدِم دورياتٌ مرموقة مثل «نيو إنجلاند جورنال أوف مديسين» (content.nejm.org/misc/podcast.shtml) وجماعاتٌ من قبيل مديسين. نت www.medicine.net هذه التكنولوجيا بكثافة لبث الأخبار الصحية، والبحوث، والتوجُّهات في الطب.

(٦) الفنون الجينومية والبيومديا

طوَّعت أشكال الفن في التسعينيات التطورات المعاصرة لها في الثقافة التكنولوجية وجمَّلتها، وخصوصًا في مجالات البيولوجيا، والطب، والوراثيات. وأفضل مثال لتكامل البيولوجيا والكمبيوترات والإلكترونيات — حتى قبل أن تدخل الفنون الوراثية المشهد — هو عمل ستيلارك. تكشف هذه الأشكال من الفن، كما أفترض، عن «كلٍّ من» الخوف «و» الافتتان ﺑ:
  • إمكانات الهندسة الوراثية.

  • التحكُّم الإلكتروني بالأجساد.

  • المزيج «الوحشي» من الحيوان، والإنسان، والآلة.

يتفاعل ستيلارك (ستيليوس أركاديو) بجسده مع الآلات والإنترنت (انظر الفصل الثالث للاطلاع على مناقشة لهذا الموضوع). كما سمحت تجربة «إبيزو» (١٩٩٤) التفاعُلية لمارسيللي أنتونيس روكا أيضًا للجماهير بالتلاعب بجسد الفنان. «الجسد باطل»، هذا ما يعلنه ستيلارك على موقعه (www.stelarc.va.com.au/).
يجمع الفن ما بعد البشري ما بين تكنولوجيا الكمبيوتر والجسد، ويطوِّع الهندسة الوراثية ومفاهيمها للفن. تُنقَل الوراثيات عبْر الوسائط للاستهلاك الشعبي، على الأقل في الغرب، باستخدام الأساليب المتقدمة في صنع المرئيات، ومن خلال عملية إضفاء طابع جمالي. نظَّم صندوق ويلكم — وهو مؤسسة تمويل علمية — برنامجًا «فنيًّا علميًّا» لتشجيع العمل التشارُكي بين الفنانين والعلماء. وأُسِّسَت مشروعات الفن الجيونمي ذات التوجُّه المُستقبَلي من قبيل «سيمبيوتيك إيه» وثقافة الأنسجة وفنها (تيشو كالتشر آند آرت) في مدرسة التشريح والبيولوجيا البشرية التابعة لجامعة غرب أستراليا بفضل عالِمة البيولوجيا الخلوية، ميراندا جراوندز، وعالِم الأعصاب، ستيوارت بَنت، والفنان أورون كاتس (www.symbiotica.uwa.edu.au).

وقد استخدم فنانون مثل كارل سيمز («الصور الوراثية»، ١٩٩١)، وكريستا سومرر، ولورنت ميجنناو («إيه-فولف»، ١٩٩٤؛ انظر ميجنُناو وسومرر ٢٠٠١)، وستيف جراند («المخلوقات»، ١٩٩٦) أشكالًا اصطناعية أو حياة افتراضية في فنونهم التركيبية. وفي عام ١٩٩٧، أَطلقت سوني كوميونيكيشن نتورك كوربوريشن برنامج البريد الإلكتروني القائم على الحياة الاصطناعية «بوستبيت» الذي سمح للمُستخدِمين بامتلاك حيوانات أليفة رقمية كانت تُوصِّل رسائلهم. وابتكر سومرر وميجنناو أيضًا «لايف سباسيز» عام ١٩٩٧، وهو برنامج كان يسمح لزائري معرض تركيبهم بكتابة بضعة أسطر. وبعد ذلك يُنتَج هذا النص في «صورة حياة» في العالم الافتراضي، وكان بوسع الزائر أن يَرعى «الحيوان الأليف» (من الإطعام إلى التزاوُج). والنص المُدخَل في هذا المقام هو الشَّفرة الوراثية للمخلوق/صيغة الحياة الاصطناعية.

في عام ٢٠٠٠، أبرز إجزيت آرت جاليري في نيويورك الإمكانات الفنية لعلم التحكُّم الإلكتروني البيولوجي (الجمع بين تكنولوجيا الكمبيوتر والعلوم البيولوجية). صور عمل «المزرعة» (٢٠٠٠) لأليكسيس روكمان حقل فول صويا يضمُّ نباتات وحيوانات يُمكن تمييزها، وتوقَّع كيف يُمكن أن تبدو في المستقبل؛ إذ كانت الأشكال الفنية «محوَّرة وراثيًّا»، تمحو الحدود بين الإنسان، والحيوان، والخضروات، ناقلة شفرات هذه الأجساد إلى شيء آخر كليًّا. لقد تحوَّلوا إلى خيامر — كائنات مصنوعة من خلايا وأنسجة من كائنَين أو أكثر (استُخدم المصطلح لأول مرة لوصف تعابُر الأنواع في ظروف المعمل عام ١٩٦٨). ومن المهم أن نلحظ أن الخيامر اعتُبرت تقليديًّا وحشية؛ لأنها تمحو الحدود بين الكائنات والتصنيفات. ويرمز «الأنكوماوس» لبرايان كروكيت إلى أول فأر معمل محوَّر وراثيًّا، ومسجَّل ببراءة اختراع. في عام ١٩٨٦ جمع عالم الوراثيات ديفيد أو بين جينات التبغ والخنافِس المضيئة لإنتاج نباتات تتوهَّج في الظلام. وفي عام ٢٠٠٠ خلَّق مركز أريجون الإقليمي للرئيسيات قرد ريسوس حاملًا لبروتين جي إف بي (البروتين الفلورسينتي الأخضر)؛ وكان مِن ثَمَّ قردًا مُتوهِّجًا حيويًّا. ويُوصَف تركيب «جنيسيس ١٩٩٩» الذي أنشأه إدواردو كاك بأنه «فن مُتحوِّر وراثيًّا مُرتبِط بالإنترنت»، يُبرِز التحوُّل الوراثي من نوع إلى آخر بما يُنتِج كائنات حية فريدة. أرنب كاك المُسمَّى «ألبا» مُتوهِّج. ويوحي عمل «الطماطم الباسمة» للورا شتاين بأننا قد نُنتج فواكه وخضروات ذات أوجه مُبتسمة. ويُعنى نحت رونالد جونز بالحجم الطبيعي للهيكل الوراثي للسرطان بالنمذجة والمحاكاة في الطب. وتصف منظمة آرت تو ذي إنث باور (على www.artn.com) مثل هذه الأشكال المتنوعة من الفن. ركَّب لاري ميلر، من باب شهرة الترخيص الجينومي، صور ١١ فنانًا حيًّا في ترتيب خطي إلى جانب عينات من أحماضهم النووية.

(٦-١) العرض

الصورة الطبية لجسدٍ ما (في شريحة أقل من ملِّيمتر سُمكًا، مصوَّرة، ومحفوظة بصيغة رقمية) هي معرض للجسد الداخلي. وهي تقلب الجسد من الداخل إلى الخارج — حرفيًّا، كما في معرض جونتر فون هاجنز «عوالم الجسد» (www.bodyworlds.com). فيما يتعلَّق بالجينات والكروموسومات، يُضخَّم أصغر مكوِّنات الإنسان في مُتعةٍ مرئية. أما الحيوانات والنباتات المعدَّلة، فهي، في حالة الفن الجينومي، عروض وخلاصات لعمليات التطور والنمو والاضمحلال «الطبيعية». ولا يُقارن بصنع هذه الصور إلا صُنْع صور الفضاء المنشورة في الصحف. هذه الصور للنباتات أو الظواهر الفلَكية غالبًا ما يَصحبُها تعليق أسفلها يقول «انطباع الفنان»؛ حيث استخدم الفنان البيانات الرقمية المبثوثة ليُقدِّم صورة.

يُعنى الفن الجينومي بإضفاء لمسة جمالية على عمليات الجسد البشري الخفية تمامًا. ويُمثِّل التشويه أو الأشكال المُتقَنة المقدَّمة في الفن الجينومي محاولات لعرض الاحتمالات. إنه فنٌّ ثقافي إلكتروني يتعامل بجدية شديدة مع الشكل والمُستقبَل البشريَّيْن في سياق البيئات المُعتمِدة بشدة على التكنولوجيا. ويلجأ إلى أشكال جمالية معيَّنة من أجل إبراز التحوُّل المُمكن للواقعي/الجسدي من خلال التكنولوجيات.

(٦-٢) الوحشي والمسخي

من الأوصاف التي تُطلق على جماليات مثل هذا الفن الجينومي والفن الحيوي هو «الوحشي الجديد» (نايار ٢٠٠٧أ). وهما «وحشيان» بمعنى أنهما يَشغلان المساحة بين الأصناف (الفاعل/الشيء، الفن/البيولوجيا/العضوي/المنتَج بالكمبيوتر) التي قد تكون مُستقبلية تمامًا.

ترتبط كلمة «الوحشي» من ناحية أصل الكلمة بلفظ «مونسترم» اللاتيني، الذي يعني الفأل أو النذير أو العلامة، ولفظ «مونير» الذي يَعني «يُنذر». ومع ذلك، فهي تُشير أيضًا إلى المُشوَّه، وإلى المسخ (كانت ولادة حيوان أو إنسان مشوَّه تُعَد نذيرًا في أوروبا في بدايات العصر الحديث حينما بدأ استخدام الكلمة). ولذا، ثمة حتمية «كاشفة» و«مستقبلية» في الكلمة ذاتها.

ما تُخبِرنا به الصور أو العروض أو التركيبات في أعمال روكمان أو ستيلارك — وخصوصًا بعد أن يشرحها لنا الطبيب — هو المسار الذي قد تتَّخذه حياتنا «المُستقبلية». يسترعي مشروع «ذي بيج وينجز» الانتباه إلى هذا الجانب.

تجعلنا الخطابة المُحيطة بتطور التكنولوجيات البيولوجية الجديدة نتساءل عما إن كانت الخنازير ستَتمكَّن من أن تَطير يومًا ما. لو تمكَّنت الخنازير من الطيران، فما الشكل الذي ستتَّخذه أجنحتها؟ يُقدِّم مشروع أجنحة الخنازير أول استخدام لأنسجة الخنازير الحية لإنشاء أشياء شبه حية، مجنَّحة الشكل، وتطويرها. (www.tca.uwa.edu.au/pig/pig_main.html)

الحيوانات المعدَّلة في أعمال بريان كروكيت، وإدواردو كاك، وألكسيس روكمان وحشية، على معنى أنها أشكال «مُحتمَلة» (تعني كلمة افتراضية في الواقع أنها محتملة، بانتظار التحقُّق؛ ومِن ثَمَّ فالحياة الافتراضية هي حياة بانتظار «التحقُّق» الجسماني). وهي ذات توجُّه مُستقبلي، على معنى أنها تُنبئ بما هو مُمكن من خلال الاستنساخ والتلاعب الوراثي.

«الوحشي» في التصوير الطبي والفن الجينومي هو رمز يُوجِّه انتباهنا نحو المستقبل، وهو يكشف للعين العمليات الداخلية التي «يُمكن» أن تُفضيَ إلى هذه الأشكال. لا بأس بهذا بالضرورة، وإن كان يجمع بين الموت والحياة بطريقة ملتبسة، على نحوٍ دفع كاثرين وولدبي (١٩٩٧) لتسميتِه «الخارق الرقمي». ثمة إحساس بالشبحية فيما نَشهده من أدوات فنية، شيء يُمكننا إدراكه، وعناصر أخرى لا يُمكننا إدراكها. ويعني هذا أن الوحشي في الفن المعاصر هو مُحاوَلة لخلق عقلانية جديدة، تَعكِس تصدُّع العقلانية الأقدم؛ حيث تفقد مسائل الحدود والهُويات أهميَّتها. كما يمثِّل — في التراث الحقيقي للوحشي — قلقًا ثقافيًّا بشأن ما هو «البشر». الوحشي هو جمالية التوسُّع-التمدُّد، عرض شيء ما مُنذر، نذير بشكل الأشياء القادمة، كما يُوحي به غلاف لمجلة «تايم» يرجع إلى عام ١٩٩٣، يُظهِر «وجه أمريكا الجديد» — وهو عبارة عن صورة منتَجة بالكمبيوتر منتَخبة من أنواع عِرقية كثيرة. إنه التصوير الحي لعالَمٍ ما مِن خلال النسخ الدائم التحسُّن لأشكال الحياة.

يُمكِن باستخدام العلوم الوراثية هدم التصنيفات. يجبُ تذكُّر أن الأنظمة والفئات التصنيفية لا غِنى عنها للجماليات (يَزدهر المسخ، على سبيل المثال، بفعل «اختلاط الأنواع» وانهيار التصنيفات، كما أوضح جيفري جالت هارفام عام ١٩٨٢). تحلُّل الأجساد/الحدود في أعمال «الأنكوماوس»، أو «المزرعة»، أو «كريماستر ٤» (ماثيو بارني) يُميِّز الجسد بطريقة مختلفة. في الفن الجينومي، تُصبِح الحدود بين الحيوان والنبات والإنسان عرضة للاختراق؛ بوسع كلٍّ منهم أن يتخذ حتى شكل «الآخر» الغريب كليًّا، أو وظيفته، أو ملمحه. يُعيد الوحشي في الفن الجينومي، شأنه شأن السايبورج، تعريف الحدود والتصنيفات، مُنشئًا رُؤًى عن أشكالٍ واحتمالاتٍ بايوموروفية جديدة. غير أنه يُوحي أيضًا بقلق ثقافي بشأن «نقاء» الجنس البشري، وبشأن التجريب المعملي والجيني (أنكر ونيلكين ٢٠٠٤: ١٠٩).

(٦-٣) الأجساد المعلوماتية

افترض إدواردو كاك أن الفن الجينومي يُمثِّل نقلة ثقافية؛ أي تحوُّل البيولوجيا إلى علم معلومات (كاك ٢٠٠٥أ: ٢١٨). تكوَّن تركيب كاك المسمَّى «نقل حالة مجهولة» (١٩٩٤–١٩٩٦) من بذرة واحدة على قاعِدة فيها طين، في غرفة حالكة الظلام. ويستطيع الأفراد، باستخدام عارض فيديو مُعلَّق من أعلى ومواجه للبذرة، أن يُرسلوا الضوء من خلال الإنترنت؛ ليُمكِّنوا البذرة من التمثيل الضوئي والنمو.

يصفُ يوجين ثاكر أشكال الجسد الجديدة في علوم البيولوجيا والمعلومات بأنها «بيوميديا» — مُصطلَح يبدو أنه يَصف على النحو الأمثل «أجساد» كاك (ثاكر ٢٠٠٤أ: ١٣). الجسد في البيوميديا هو وسيط، والوسائط نفسها لا يُمكن تمييزها من الجسد البيولوجي. ويُدرك المصطلح أيضًا نوع الفن الذي شهدناه في عمل سومرر وميجنُناو «لايف سباسيز»؛ جسد المخلوق الافتراضي «مُجسَّد» بناءً على شفرة؛ ينبغي فهْم الجسد العابر للشفرات هنا بطريقتَين؛ بصفته جسد كائن بيولوجي وجزيئي، «و» بصفته جسدًا مُؤلَّفًا من خلال أنماط من التخيُّل، والنمذجة، ومنظومات البيانات. تطويع كاك لتكنولوجيا المعلومات، والعمليات البيولوجية، والأجهزة الميكانيكية لإنتاج الفن هو استخدام جمالي لكلٍّ من البيولوجيا والثقافة الإلكترونية، يَهدم الحدود بين الفن والطبيعة، بينما يستكشف عواقب اختزال الجسد إلى قاعدة بيانات تَفتقِر إلى السياقات، ويُنتِج فيها الحمض النووي أشكالًا معيَّنة من سلوك الجسد. وكما يَفترض ستيف توماسولا (٢٠٠٢)، يتصدَّى الفن الجينومي لمسائل التغيُّر في المجتمع، بينما يُناقِش أبعاده الأخلاقية بكشف الاحتمالات داخل التغيُّر الاصطناعي (لا الطبيعي).

(٦-٤) التحكُّم

يستكشف فن التحكُّم الإلكتروني قيود الشكل والوعي البشريَّيْن. ويُوسِّع حدود الواجهة التفاعُلية بين البشر والتكنولوجيا، ولو مع بعض القلق. ويطرح أشكالًا وأصنافًا جديدة بينما يكشف كيف تَعتمِد العلوم على السياقات الثقافية فيما يخصُّ عملها وانتشارها. ويُعلِّم المسئولية بطرح أسئلة مُزعجة عن مواءمة المعلومات (في مشروع الجينوم البشري، مثلًا)، والهندسة الوراثية (مثل خلق أنواع جديدة في المعمل). يفيد الفن هنا الغرض المزدوج لترويج التكنولوجيا الحديثة، وإثارة التساؤلات بشأنها بكشف آثارها الجانبية غير المرغوبة.

كما يُشير الفنانون المشار إليهم هنا إلى رغبةٍ أخرى في العلم التكنولوجي الراهن؛ الرغبة في التحكُّم في المستقبل. فبدلًا من ترْك الارتقاء والتكيُّف للعمليات «الطبيعية»، يَرغب العلم في الاضطلاع بذلك، حتى بينما يتصوَّر الفنانون هذا المستقبل (انظر نايار ٢٠٠٧أ).

ما بعد البشَري كما يظهر في أشكال الفن الحالية هو ذروة النزوع البشري إلى الاضطلاع بمهمَّة القَدَر نفسه.

الكلمات الأخيرة التي نُوردها ها هنا عن إمكانيات النزعة ما بعد البشرية وأشكالها الفنية هي للفنانَيْن ستيلارك، وإدواردو كاك:

شكل الجسد محسَّن، ووظائفه ممدَّدة … يُعيد الفضاء الإلكتروني بناء معمار الجسد ويُضاعف إمكاناته العملية. (ستيلارك ١٩٩١)

يشيد فن التحوير الوراثي [يُشير كاك إلى الأرنب ذي البروتين الأخضر المفلوَر] بالدور البشري في تطور الأرانب بوصفه عنصرًا طبيعيًّا، بوصفه فصلًا في التاريخ الطبيعي لكلٍّ من البشر والأرانب؛ لأن الاستئناس هو دائمًا خبرة ذات اتجاهَين … [وهو] يُساعد العلم على إدراك دور المسائل العلاقية والاتصالية في تطوُّر الكائنات الحية. ويُمكن أن يساعد الثقافة بكشف قناع الاعتقاد الشائع بأن الحمض النووي هو «الجزيء المهيمن»، من خلال تسليط الضوء على الكائن الحي كله والبيئة (السياق). وأخيرًا، يمكن أن يسهم فن التحوير الوراثي في حقل الجماليات بكشف البُعد النفعي والرمزي الجديد للفن، بوصفه إبداع الحياة والمسئولية عنها حرفيًّا. (كاك ٢٠٠٥ب: ٢٧٢، ٢٧٦)

(٧) التواصل الاجتماعي

الإرسال الفوري، وخدمات الرسائل القصيرة، والبريد الإلكتروني، والهواتف المحمولة، والتواصُل الاجتماعي الآن هي كلها أساليب لصنع العلاقات وبناء العلاقات. وهي كذلك للشباب، خصوصًا الذين برزوا بجلاء في دراسات وسائل الإعلام الجديدة (كيم وزملاؤه ٢٠٠٧؛ ليفينجستون ٢٠٠٣). مواقع التواصل الاجتماعي، مثل ماي سبيس، وبيبو، وفيسبوك، وأوركت، وساورلد، هي الفضاءات الاجتماعية الجديدة لتَمضِيَة الوقت فيها.

من الأمثلة المبكِّرة لمواقع التواصل الاجتماعي سيكسدِجْريز دوت كوم الذي أُطلق عام ١٩٩٧، ولكن انطلاقة مواقع التواصل الاجتماعي واقعيًّا كانت منذ عام ٢٠٠٣ تقريبًا. تُعرَّف مواقع التواصل الاجتماعي بأنها «خدمات على الإنترنت تُتيح للأفراد (١) أن يُنشئوا نبذة شخصية عامة أو شبه عامة داخل نظام محدد. (٢) أن يُكوِّنوا قائمة من المستخدِمين الآخرين يتشاركون صلة معهم. (٣) أن يشاهدوا ويستعرضوا قائمة اتصالاتهم وقوائم اتصالات الآخرين داخل النظام» (بويد وإليسون ٢٠٠٧). وغالبًا ما تتسم مواقع التواصل الاجتماعي بتكنولوجيا سهلة الاستخدام، وبإنشاء الأعضاء نبذًا شخصية، وبتفاعل منتظم خلال «المعلومات الموجزة» والردود.٧ تُقدِّم مواقع التواصل الاجتماعي التشارك في الصور أو الفيديو، وإمكانية الاتصال بالهاتف المحمول، وهي فضاءات اتصال وتبادُل. كما وسَّعت خدمات التدوين باستخدام مزايا مواقع التواصل الاجتماعي في زيونجا، ولايفجورنال، وفوكس من قاعدة مُستخدميها.

مواقع التواصل الاجتماعي

خدمات على الإنترنت يُمكن للأفراد فيها إضافة النُّبَذ الشخصية، والدردشة، والتواصل. ومواقع التواصل الاجتماعي نوع من الفضاء العام الاجتماعي.

ومع ذلك، يُميِّز بويد وإليسون بين التواصل الاجتماعي وبين مواقع الشبكة الاجتماعية. يوحي «التواصل»، وفقًا لبويد وإليسون، بإنشاء علاقة بين غرباء. وفي حالة مواقع التواصل الاجتماعي، بينما يكون التواصل مُمكنًا، لكنه «ليس» الممارسة الرئيسة على كثير منها (يُفضِّل بير ٢٠٠٨ مصطلح «التواصل الشبكي» الاجتماعي، على الرغم من أنه يُقدِّم الويب ٢٫٠ باعتباره مُصطلَحًا واسعًا لوصف هذه الأشكال الجديدة من الثقافات على الإنترنت).

طالَما كان من المزايا المهمة لمواقع التواصل الاجتماعي المحتوى «الذي يُنتجه المستخدم». سارعت مواقع الويب في استثمار هذا المحتوى، وصارت وسائل الإعلام اجتماعية. ومن أمثلة هذا فليكر (تُشارك الصور)، ويوتيوب (تشارك الفيديو)، ولاست. إف إم (تشارك الموسيقى). وتمكَّن ماي سبيس من التغلغل في العلاقة بين الفِرَق الموسيقية والمعجَبين من خلال إنشاء فضاء يلتقون فيه، أو يعلنون من خلاله عن الألبومات القادمة، أو يظهرون إعجابهم ويُعزِّزوه.

تمحو مواقع التواصل الاجتماعي التمييز بين العام والخاص؛ لأن كلًّا منهما يصب في الآخر. تتأثَّر علاقة اجتماعية قائمة، وتُبدَّل، وتُعزَّز من خلال «التصادق» على الإنترنت. والعكس صحيح بالقدْر نفسه؛ حيث يقود التفاعل على الإنترنت إلى لقاءات وعلاقات خارج الإنترنت، مثلما كشفت عنه خدمات المواعدة. ومن ثَمَّ، فمواقع التواصل الاجتماعي تُشكِّل «فضاءً ثالثًا» بين العام والخاص، تَمتزج فيه الهُويات والعلاقات على الإنترنت وخارجها؛ فمشاركة فيديو منزلي على يوتيوب، ووصف فيلم أو كتاب مفضَّل شخصي، يعني بناء نبذة للاستخدام العام، يمكن أن تؤدي إلى علاقة اجتماعية.

(٧-١) مسائل الخصوصية والنبذات التعريفية

كان لشعبية مواقع التواصل الاجتماعي بين الشباب وحتى الأطفال تبعات أخرى. استحث دور ماي سبيس في التحرُّش الجنسي، والملاحَقة، وغيرهما من السلوك الضاري، تحرُّكًا قانونيًّا، وأثار ذعرًا معنويًّا (كونسيومر أفيرز ٢٠٠٦). ومرةً أخرى نشهد أشكال الثقافة الإلكترونية تُؤثِّر في العالم «المادي».٨

من العوامل الحاسمة في التواصل الاجتماعي ما إذا كان الأفراد في قائمة «الأصدقاء» على مواقع التواصل الاجتماعي يَتشاركون الإحساس ذاته بالخصوصية أم لا. فالمعلومات الشخصية المتضمنة في التعليقات القصيرة والنبذ الشخصية يمكن أن «تُسرَّب» أو يراها الغرباء. والواقع أن مسائل الخصوصية، ولا سيما ما يتعلق بالعناوين المادية، والأمور المالية، وحتى المظهر الجسماني هي مسائل متعلِّقة بالسلامة. ما نشهده هنا هو ارتباط وثيق بين التفاصيل والتواصُل على الإنترنت، وبين مسائل السلامة الحقيقية خارج الإنترنت.

سرقات الهُوية على الإنترنت هي تهديد دائم، حينما يكشف المستخدمون هُوياتهم، أو ينشئون نبذات شخصية. في حالة حديثة، كان على المؤلِّف الشهير، فيليب بولمان، أن يُرسل رسالة إلكترونية تحذيرية إلى قائمة تراسل، بعد أن اكتشف أن شَخصًا سبق أن أنشأ نبذة له على فيسبوك. كتب بولمان: «أودُّ لو أذهب شخصيًّا وأخنق الشقي» (مقتبَس على موقع BridgeToTheStars.Net2008، وهو موقع للمُعجَبين بثلاثية بولمان بعنوان «مواده القاتمة»).٩ التصيُّد وسرقات الهُوية هما أمران ينتميان إلى كلتا الحياتَين على الإنترنت وخارجه. والواقع، كما يُوضِّح فوجت ونابمان (٢٠٠٨)، أن الطبيعة العلنية ذاتها التي تتَّسم بها فضاءات الويب الشخصية هذه هي التي أفضت إلى مثل هذه التعقيدات.

ترتدُّ الحصرية والخصوصية بوَصفِهما سِمَتين أساسيتَين لمَواقع التواصُل الاجتماعي، وتُقدِّم مواقع من قبيل لايف سبيسز التابع لمايكروسوفت، وإيه سمول ورلد تواصُلًا خصوصيًّا، مفتوحًا فقط من خلال الدعوة، ومحميًّا، كما يشير أحد التقارير (فوجت ونابمان ٢٠٠٨)، من قِبَل أناس أثرياء في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة. لكن المُثير للسخرية أن يَستنسخ الانفتاح الشبكي شروط المعازل، من حصرية، وخصوصية، وحراسة في الحياة الواقعية.

(٧-٢) تضخيم العلاقات

يمكن لمواقع التواصُل الاجتماعي أن تكون امتدادًا (تضخيمًا) للعلاقات الاجتماعية القائمة حينما يَتلاقى الأصدقاء في الفضاء الافتراضي، أو يُمكنها تسهيل إنشاء علاقات جديدة حينما يَتجمَّع الغرباء بناءً على اهتمامات مشتركة. كما أن «إعلان» فردٍ ما عن «أصدقاء» على صفحته التعريفية يُمكِّن المشاهدين من استعراض شبكة ذلك الفرد بعينه.

«التصادق» على الإنترنت هو التقاء علاقات من خارج الإنترنت ومن داخله. أو بعبارة مختلفة، تكتسب الصداقات باطراد صبغة وسائطية، وتكنولوجية من خلال التفاعلات على الإنترنت (أتفق مع ديفيد بير — ولا أتفق مع بويد وإليسون — في أنه لا يُمكن للمرء أن يتخيَّل بِنية أو موقفًا اجتماعيَّيْن «لا» يَمُران عبْر الوسائط؛ بير ٢٠٠٨: ٥٢١). ثمة علاقة «تكرارية» بين العلاقات على الإنترنت وخارجه. تُشكِّل العلاقات خارج الإنترنت العلاقات على الإنترنت، والعكس صحيح؛ لأن التكنولوجيا تصنع الفارق بين «كون المرء مع شخصٍ ما في مكانٍ ما» أو «كونه ليس مع شخصٍ ما» حينما يكون المرء لا يزال متصلًا (إلكترونيًّا).

وبناءً على ذلك، تعزِّز مواقع التواصل الاجتماعي فعليًّا فرضيَّتَين؛ فهي راسخة في العالم «المادي»؛ لأنها تساعد الناس الذين يعرف بعضُهم بعضًا بالفعل في العالم الواقعي على أن يَتواصَلُوا باستمرار تقريبًا. وإلى جانب «الاتصال الدائم» الذي يُشكِّل الحياة اليومية للعلاقات في الوقت الراهن، «التضخيم» هو منطق مَواقع التواصل الاجتماعي؛ حيث نستمر في «كوننا» مع شخصٍ ما حتى لو كنا مُنفصلين ماديًّا.

مدى التواصُل على الإنترنت رهينٌ بالعلاقة خارج الإنترنت ويتشكَّل على أساسه. إذا كان موقع ماي سبيس يُتيح «اتصالًا دائمًا»، فهو أيضًا قائم على أساس الروح أو المنطق المصاحب للثقافات الإلكترونية الذي اقترحتُه في الفصل التمهيدي؛ ألا وهو التضخيم. ونرى هذا المنطق فعالًا في حالة العلاقة بين المُعجَب والفرقة على موقع ماي سبيس، التي سبَق ذكْرها. على ماي سبيس، تُعلن المتاجر المحلية للموسيقى عن عروضٍ لفرقٍ موسيقية وعن تذاكِر مجانية كي يحوزها المعجبون. أما المعجبون فيُضفون من جانبهم صفةً شعبية على انتماءاتهم. والنتيجة أن ما يتمُّ تضخيمه في مواقع التواصُل الاجتماعي في الفضاء الإلكتروني هو تعزيز علاقة «واقعية» قوية جدًّا بين المعجب والفرقة الموسيقية. لا يُنتج ماي سبيس دائمًا مُعجَبين، ولكنه «يساعد المعجبين الموجودين بالفعل على التواصُل على نحوٍ أفضل».

وبهذا المعنى؛ فمواقع التواصل الاجتماعي تُسهم في «رأس المال الاجتماعي» للفرد. وأثبت البحث أن الأفراد المتواصلين عبْر الشبكات هم أكثر احتمالًا لتلقِّي العون من أحد الأعضاء في «دائرتهم» على الإنترنت (بوز وآخرون، ٢٠٠٦). وتُبرِز دراسات أخرى كيف أنه حتى بعد رحيل أناس من موقعهم الجغرافي الذي كانت لهم فيه علاقات وطيدة (أيْ رأس مال اجتماعي)، مكَّنتهم مواقع التواصل الاجتماعي من الحصول على الدعم من مجتمعهم «السابق». ويعني هذا أن الناس كانوا قادرين على البقاء على صلةٍ بمجتمع أسبق، حتى بعد انفصالهم عنه جسديًّا (إليسون وآخرون، ٢٠٠٧). ما لا تَلحظه أيٌّ من هذه الدراسات هو أن رأس المال الاجتماعي هذا، القائم على مواقع التواصل الاجتماعي، هو تضخيم لرأسمال اجتماعي أسبق وجودًا. والأهم من ذلك أن لرأس المال الاجتماعي هذا عواقبَ «مادية» تمامًا على الأفراد.

قد يرتبط هذا «التضخيم» لرأس المال الاجتماعي والثقافي بعلاقات إثنية وثقافية معيَّنة؛ فمواقع المجتمعات الأسبق من قبيل آشيان أفنيو، ومي جِنت، وبلاك بلانِت ارتقت إلى مواقع تواصل اجتماعي بين عامَي ٢٠٠٥ و٢٠٠٦، منمِّية بذلك من قابليتها للتوظيف والاستخدام من قِبَل مجتمعاتها المعنية.١٠ وفي هذه الحالة، «تُضاعِف» مواقع التواصل الاجتماعي من شروط التفاعل الاجتماعي الموجودة في العالم الواقعي. ويظلُّ خلق الروابط المجتمعية أساسيًّا للتفاعل الافتراضي أيضًا. ظلَّت الحملات التي تستخدم فيسبوك وماي سبيس تُجرى في جامعاتٍ معينة (تشير دراسة إلى أن الحملات الرامية لتخفيض السن القانونية لشرب الخمر والرامية إلى سنِّ تشريعٍ يُبيح الزواج من الجنس نفسه كانت هي الأكثر شيوعًا بين مُستخدمي فيسبوك؛ شارنيجو وبارنِت-إليس ٢٠٠٧). تخلق مواقع التواصُل الاجتماعي من هذ القبيل إحساسًا بمجتمعٍ «بلا» مكانٍ (إحساس نفسي بالمجتمع)، وإن كان من المُمكن أن تستخدم استعارات ومفردات مكانية للتعبير عن «اللقاء» في الفضاء الإلكتروني (لدراسة بشأن الإحساس بالمجتمع في مواقع التواصل الاجتماعي، انظر جودينجز وآخرين، ٢٠٠٧). وهكذا، يوجد منطق لوصف شون راباكي لماي سبيس وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي بأنها «مشاعات افتراضية» (٢٠٠٧: ٢٩). لقد صارت وسائل كما يقول شارنيجو وبارنِت-إليس لإشراك الطلاب في فعاليات المكتبة وخدماتها؛ لأنها تمكِّن أمناء المكتبات من الاتصال على نحوٍ أفضل بفئات عدة من السكان الشباب في منطقتهم (للاطلاع على وجهة نظر مختلفة عن تشكيلات هذا «المجتمع»، انظر بيرن ٢٠٠٧).

(٧-٣) ثقافة الشباب ومواقع التواصل الاجتماعي

كانت مواقع التواصل الاجتماعي أكثر تناغُمًا مع الشباب، وهي الآن مُكوِّن أساسي في ثقافات الشباب عبْر العالم، وإن كان هذا التوجُّه يَتغيَّر في المملكة المتحدة، وفقًا لدراسة مَسحية أجرتها هيئة أفكوم بشأن التواصل الاجتماعي في أبريل ٢٠٠٨ (٤٠ بالمائة من البالغين في المملكة المتحدة يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي بانتظام، وهي نسبة إجمالية أعلى من نظيرتها في الولايات المتحدة الأمريكية أو اليابان، و٦٢ بالمائة مسجَّلون في فيسبوك) (وايتسايد ٢٠٠٨) توافَد المراهقون على ماي سبيس منذ عام ٢٠٠٤ تقريبًا، ثم غيَّرت مواقع التواصل الاجتماعي سياستها لتسمح للصغار أيضًا بالانضمام. وفي عام ٢٠٠٥ بدأ فيسبوك يسمح بانضمام تلاميذ المدارس الثانوية. ووفقًا لبويد وإليسون (٢٠٠٧) لدى ماي سبيس (الذي يُفترَض أنه أكثر مواقع التواصل الاجتماعي شيوعًا) ثلاثة «مجتمعات» متمايزة: الموسيقيين/الفنانين، والمراهقين، والجمهور الاجتماعي الحضري من خريجي الكليات.

أما المستخدمون الشباب (وغيرهم)، فالتواصُل الاجتماعي يُصبح من وجهة نظرهم نوعًا من تمثيل الذات والظهور. وهو يُوسِّع مجتمع «مُشاهدي» نبذاتهم الشخصية، ويمكن النظر إليه باعتباره نوعًا مهمًّا من أنواع التفاعل الاجتماعي، وكذلك «احتياجات الهُوية» لديهم على حدِّ تعبير سونيا ليفينجستون (٢٠٠٨: ٤٠٠) مؤخرًا. فالتفاعل والسلوك الاجتماعيان يُبنَيان على تمثيل الذات، وإدارتها، والترويج لها. وتصبح النبذة الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وسيلةَ فعلِ ذلك. باستخدام خاصية التحديث الفوري على تويتر يُروَّج للذات على الدوام، وتكون دائمًا متصلة، حتى لو كانت الصلة (كما افترض مؤخرًا فينسنت ميلر ٢٠٠٨) ذات طابع مجامل محض — تدلُّ على اتصال فارغ وغير محدَّد، وخالٍ من أي تبادُل حقيقي للمعلومات — وليست واقعية.

إدارة النبذة الشخصية وتمثيل الذات على مواقع التواصل الاجتماعي هما مُكوِّنان للهُوية الاجتماعية، وإن تكن هذه الهُوية على الإنترنت فقط. اصطلح على تسمية هذه الشاكلة من التمثيلات «استعراضًا نصيًّا للذات على الإنترنت» (إتش ليو ٢٠٠٧). وتصبح النبذات الشخصية مؤشِّرات إلى الذائقة، حينما يُفصِّل الأفراد تفضيلاتهم في الموسيقى، والملابس، والألعاب، والكتب. هذه «علامات ثقافية» و«بيانات عن الذائقة» (ليو ٢٠٠٧). تُشكِّل بيانات الذائقة من هذه الشاكلة حياة الفرد الاجتماعية على الإنترنت. ولهذا السبب، يُصبح من الواجب من وجهة نظر الأفراد أن يُطوِّروا ويتعهَّدوا نوعًا من النبذات الشخصية على الإنترنت يتَّسق وما يفعلونه في الحياة الواقعية، حتى يضمنوا كلًّا من الصدقية والشعبية المستدامة. وكما أثبت الدارسون (مثل دواير وآخرون ٢٠٠٧) فمسألة الثقة بالغة الأهمية في التفاعلات الاجتماعية على الإنترنت.

ويُمكن أن تصبح هذه البيانات هي أداة كسب رأس المال الاجتماعي حينما تُوسَّع شبكة المرء على الإنترنت. المُهم هو أن حياةً على الإنترنت، مُعتمدةً على بيانات الذائقة وإدارة النبذة الشخصية، تفيض على العالم الواقعي، تمامًا كما يُوجِّه السلوك والأذواق في الحياة الواقعية عمليات البحث على الإنترنت عن الأشخاص المُشابِهين فكريًّا (من خلال علامات الاهتمام على مواقع التواصُل الاجتماعي)، وعن الصداقات، والعلاقات. ولذا، كشفت دراسة عن أن اختيار مشاركة الفيديو على يوتيوب يعكس علاقات اجتماعية قائمة (لانج ٢٠٠٧). وهكذا يُمكِن القول إن إدارة النبذة الشخصية على الإنترنت هي الآن عنصر أساسي في هُويات الحياة الواقعية أيضًا؛ لأن الناس يَلتقون باطراد على الشبكة وخارج الشبكة على السواء، وتَعكس ممارسات وسائل الإعلام ما هو قائم من سلوك وتفاعل وعلاقات اجتماعية، وتُؤثِّر فيه.

تصير النبذات الشخصية لمستخدمي فيسبوك وغيره من فضاءات مواقع التواصل الاجتماعي مادة قابلة للاستخدام تجاريًّا، فمواقع التواصُل الاجتماعي تلائم تمامًا «رأسمالية المعرفة» (ثريفت ٢٠٠٥) في القرن الحادي والعشرين. تستخدم «رأسمالية المعرفة» المعلومات (يَدرُس ثريفت مثال أحاديث المجاملات والثرثرة) التي لولا مواقع التواصل الاجتماعي لما كانت متاحة — ولما اعتُبرت مهمة — لقطاع الأعمال التجارية لأجل ترويج أجندته. يُبرِز ديفيد بير، بناءً على بحث ثريفت، فكرةً حاسمة بشأن مواقع التواصُل الاجتماعي حينما يفترض أن أحاديث المجاملات والكم الهائل من المعلومات الباهتة ظاهريًّا يُمكن أن تُصبح في حقيقة الأمر مصادرَ قيمةً للأعمال التجارية (بير ٢٠٠٨: ٥٢٢-٥٢٣). ما هو متاح، باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، هو سجل كامل لتفضيلات المستهلك التي تستطيع الشركات النفاذ إليها. تستطيع «رأسمالية المعرفة»، مقترنة بالأشكال الجديدة من جمع المعلومات — التي أُدرِج مواقع التواصل الاجتماعي ضمنها، والمعلومات الموجزة، والنبذات الشخصية — أن تبني على ما يقوله الناس عن العلامات التجارية، والأساليب، والتفضيلات لكي تعلن وتروِّج وتستهدف المستخدمين على مواقع التواصُل الاجتماعي.

واضح أن لمواقع التواصل الاجتماعي قيمةً تجارية هائلة إذا قَبِل المرء حججَ بير (مثلما أفعل). لا شكَّ أن ثروة المعلومات عن أذواق المُستهلِكين المتاحة على ماي سبيس أو فيسبوك تخدم غرض البيع بقدْر ما تُفيد في نصح المُشترين المُستقبليِّين.

التفتَت الشركات في الوقت الراهن إلى مواقع التواصُل الاجتماعي لتوليد الشهرة، وتطوير العلاقات بالمُستهلكين (نيوبورن ٢٠٠٧). إن التدوين، ومواقع التواصل الاجتماعي، والتمتُّع ﺑ «حياة ثانية» في لعبة «سكند لايف» هي أساليب لتوسيع القاعدة الاستهلاكية. والمُجتمَعات الشبكية هي المجال الجديد لأبحاث السوق وللدعاية.

واضح أن أشكال الثقافة الإلكترونية الشعبية وثقافات وسائل الإعلام الجديدة تتضاعَف، وتصل إلى شرائح جديدة من السكان. وهي تَحمل حمولاتها الأيديولوجية والسياسية مثلما بيَّن هذا الفصل. وفي كل حالة تظل هذه التشكيلات الثقافية الإلكترونية ذات صلة، مهما كانت عرضية، بالسياقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في الحياة الواقعية. ولا يتَّضح فقط اندماج الأشكال الثقافية الإلكترونية فيما هو يومي ومادي، ولكن يتَّضح أيضًا الطابع الوسائطي المُتزايد الذي يُضفى على الشأن اليومي عبْر هذه التكنولوجيات وباستخدامها.

هوامش

(١) تُشكك الثقافة المضادة — مصطلحٌ سُكَّ في عَقد الستينيات من القرن العشرين لوصف حركة الهيبي — في قيم الثقافات السائدة وأعرافها. ولذا، تصبح الأوبرا، أو سياسة الحرب والشأن العسكري، هي موضوع ثقافة جماعة «البانك» التي تستخدم موضوعات مناهضة الحرب، والشارع، والأساليب المتحرِّرة.
(٢) ليس هذا خيالًا بأكمله، إذا نظرنا إلى طبيعة ودرجة التدخُّلات الجراحية، والتعديلات الوراثية، وتحويل الجسد البشري إلى كمبيوتر من أجل العلاج من الأمراض المُؤلِمة والمُوهِنة. ونشهد تغيير الحياة اليومية للمواطنين كبار السن، وذوي القدرات المختلفة، والمرضى من خلال التدخلات التكنولوجية التي تتراوح بين الأطراف الاصطناعية وزراعة رقاقات الكمبيوتر.
(٣) أصبح القمار أيضًا من الأشكال المهمَّة للعب على الإنترنت. دخلت شبكة بارتي جيمينج (التي تملك موقع بارتي بوكر في المملكة المتحدة) سوق لندن للأوراق المالية في منتصف عام ٢٠٠٥، بقيمة مبدئية مُذهلة، وهي ٥ مليارات جنيه إسترليني — وهي قيمة تزيد عن شركتَيْ بريتيش إيرويز، وإي إم آي معًا!
(٤) أثبتَت الدراسات التجريبية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ارتباط لعْب الألعاب بالنوع (جانز ومارتنز ٢٠٠٥). وكانت أبرز ثلاثة أصناف من الألعاب التي يُمارسها الرجال هي الرياضة، والحركة/المغامرة، والمحاكاة. أما النساء فاخترنَ أصناف ألعاب حلِّ الأحجيات، والمنصات، والرياضة (كونسالفو وتريت ٢٠٠٢، مقتبس في رويز وآخرين ٢٠٠٧: ٥٥٧).
(٥) إنني ممتنٌّ لآنا كوريان لجذب انتباهي إلى هذه اللعبة ومشاركتها معي خبرة ابنها بها.
(٦) مع ذلك، فهي تُتيح للاعبين الذكور الشباب أن يجرِّبوا «شكلًا» أنثويًّا في الفضاء الإلكتروني، مُعقِّدين بذلك من طابع اللعبة المستنِد إلى النوع (انظر شلاينر ٢٠٠١).
(٧) تتفاوت درجات ظهور النُّبَذ الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، بناءً على كلٍّ من هذه المواقع. فالنُّبَذ الشخصية على موقعَيْ فريندستر، وترايب. نت مرئية لأي أحد من خلال محركات البحث، بينما تتحكَّم لينكدإن فيما قد يراه المُشاهِدون بناءً على ما إن كانوا يملكون حسابًا بمقابل مادي أم لا، ويسمح ماي سبيس للمستخدمين باختيار ما إن كانوا يرغبون في أن تظهر نبذاتهم الشخصية للعامة أم «للأصدقاء فقط»، وفي فيسبوك يستطيع المستخدمون الذين يَنتمون إلى «الشبكة» نفسها رؤية النبذة التعريفية لكلٍّ منهم، ما لم يُقرِّر صاحب النبذة رفض التصريح لهم بذلك.
(٨) كان لأرباب العمل وللحكومات دور في محاولة تنظيم النشاط المتنامي لمواقع التواصل الاجتماعي. ولذا حظرت المؤسسة العسكرية الأمريكية على الجنود استخدام ماي سبيس (فروش ٢٠٠٧)، وحظرت الحكومة الكندية على الموظفين استخدام فيسبوك (بنزي ٢٠٠٧). وفحصَ أرباب العمل النُّبَذَ الشخصية للطلاب على مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن يعرضوا عليهم وظائف، وأُلغيت عروض عمل بناءً على محتوى الرسائل على فيسبوك (انظر بيلوشيت وكارل ٢٠٠٨).
(٩) أنا ممتنٌّ لآنا كوريان لتنبيهي لهذه الحادثة.
(١٠) طالما كان هناك تباين إقليمي في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا. ميكسي هو موقع التواصل الاجتماعي المفضَّل في اليابان، أما هايفز فهو المفضَّل في هولندا. وأصبحت خدمة التراسل الفوري في الصين، كيوكيو، من أكبر مواقع التواصل الاجتماعي في العالم. وعلى الرغم من كون أوركت من مواقع التواصل الاجتماعي التابعة لجوجل، فلم يُحقِّق رواجًا في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه أصبح موقع التواصل الاجتماعي المفضَّل في البرازيل (٨٩ بالمائة من مستخدمي الإنترنت البالغين من الفئة العمرية ١٤–٤٥ عامًا مسجلون على أوركت، وفقًا لفوجت ونابمان ٢٠٠٨) وفي الهند في الوقت الراهن (مادهافان ٢٠٠٧). أما لايف سبيسز التابع لمايكروسوفت فهو أكثر رواجًا خارج الولايات المتَّحدة مما هو داخلها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤