الفصل الثالث

الأجساد

خطة الفصل

  • الأجساد ما بعد البشرية:

    • التجميل

    • التحويل الرقمي والمعلوماتي

    • فيزياء البرودة وفلسفة ما وراء البشرية

    • الأجساد التكنولوجية المُستهلكة

  • الأجساد المتصلة

  • التجسُّد، والتجرُّد، إعادة التجسُّد

  • الهُوية وسياسة السايبورج:

    • المواطنة

في رواية ويليام جيبسون، «نيوروماسنر» (١٩٨٤)، التي أصبحت بمنزلة المعتقَد، «يُفلِت البطل» المسمَّى كيس من جسده البشري بدخول الفضاء الإلكتروني. يستهلُّ جيبسون بهذه الصورة ما قد يكون أطول الموضوعات بقاءً في قصص السايبربنك التخيُّلية، وهو تجاوز الجسد المكوَّن من لحم ودم والهروب منه.

كانت للأجساد البشرية علاقة متغيرة بالتكنولوجيا. الجسد «مصدر» للتكنولوجيا بقدْر ما هو «موقع» للتكنولوجيا (شيلينج ٢٠٠٥)؛ إذ غيَّرت الأجهزة التعويضية شكل الجسد ووظيفته وقدْرته ومظهره. والواقع أنه منذ استخدام أولى الأدوات، العجلة والنار، أضحت التكنولوجيا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتجسُّد، والطرق التي استخدم بها البشر أجسادهم. ولذا، فليست الحيوية النانونية ولا الزرعات الإلكترونية القائمة اليوم تطوُّرات جذرية بالكامل، وإنما تُوسِّعان ما ظلَّت التكنولوجيا تفعله على الدوام من أجل الأجساد البشرية وبها.

إذا كانت الآلات خارجية؛ أي غريبة على الجسد البشري — باعتبارها أجهزة لتعزيز وظائفنا — فما الذي يَحدُث، إذًا، حينما تُدمَج الآلة داخل الجسد؟ ولو كان للجسد أن يُدخَل في الفضاء الإلكتروني أو الواقع الافتراضي، فهل سيكون «جسدنا» مُتميِّزًا من الآلة؟ أيصبح «الجسد» الغريب (الآلة) جزءًا من جسدنا «الطبيعي»؟

هذه المواقف الإشكالية التي تُثير تساؤلات فلسفية عن الأجساد والطبيعة والتكنولوجيا أكثر حدة في زمن الكمبيوترات.

  • ما وضع السايبورج من منظور علم الوجود؟

  • كيف يُعاد تكوين هُويات الأجساد وذاتياتها أو تُكسَب طابعًا إشكاليًّا من خلال عملية تحويلها إلى سايبورجات؟

  • كيف تُغيِّر عمليات تحويل الأجساد إلى سايبورجات، وإلى سجلات معلومات، التفاعلات الاجتماعية للسايبورج؟

  • ما التداعيات السياسية — من حيث المواطنة على سبيل المثال — لوجود السايبورج؟

  • كيف تتقاطَع الثقافة الاستهلاكية مع السايبورج؟

  • هل يَنطبِق تجاوز الجسد/الشكل البشري على كل الجماعات والأفراد الإثنيين؟

تشغل الأجساد البشرية الموصولة بالشبكات مناطق زمنية وفضاءات متعدِّدة، وهذه حالة «غير طبيعية». حينما يتصل الأفراد بعوالم الفضاء الإلكتروني «يُخلِّفون» أجسادهم وراءهم على المقعد بينما يستكشفون مناطق أخرى — وهي خبرة توسِّع خبرة «الاستغراق» في عالم رواية أو فيلم.

ترى دونا هاراواي (١٩٩١أ/١٩٨٥) السايبورج كائنًا ذا قدرة سياسية جبارة، يخترق الحواجز التصنيفية الفاصلة بين الإنسان والحيوان، وبين المادي وغير المادي، وبين الكائن الحي والآلة. وهو بذلك يقاوم أي تجميع يستند إلى تثبيت الهُويات والثقافات؛ فهذه الهُويات والثقافات تتعرَّض دائمًا للتغيير وللمضاعَفة، ومن ثَمَّ فهي ترمز إلى إمكانية إعادة تكوين الشأن الاجتماعي نفسه. حينما يكون السايبورج محرَّرًا من قيود الهُوية (الجسدية)، فهو يشير أيضًا إلى الطبيعة المَبنية للهُويات والحدود: «النساء»، و«السود»، و«الذين يَنجذِبون إلى الجنس الآخر».

ومع ذلك، فالجسد ليس «أي» جسد وحسب؛ فالأجساد لها خصائص متصلة بالعِرْق، والنوع، والطبقة، وهي موضوعة في سياقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مميَّزة. ومِن ثَمَّ فالحديث عن «الجسد» يعني إزالة اختلافات واقعية تمامًا «بين» الأجساد. هذه الاختلافات مادية وخطابية؛ حيث إن الظروف المادية من قبيل الاقتصاد واللباس والطعام والتدخُّلات الطبية تُنتِج وتبني وتُعزِّز الاختلافات بين الأجساد بقدْر ما تُنشئ خطابات القانون والدين والطِّباع اختلافات بين الأجساد بطريقة خطابية. ويُمكن أن تكون الأجساد المعاصرة المعزَّزة تكنولوجيًّا (١) أجسادًا «تُوصَّل» بالفضاءات الإلكترونية من خلال الشبكة العنكبوتية العالمية، أو الهاتف المحمول، أو البث المرئي، أو (٢) أجسادًا معدَّلة من خلال إضافة/إدماج مواد غير عضوية (إلكترونية، وكيميائية). الأجساد الإلكترونية أو التكنولوجية هي أجساد بشرية ذات واجهات تفاعلية مع الآلات، من خلال وصلات إلكترونية وشبكات كمبيوتر على الأغلب؛ حيث يُهيَّأ التفاعل مع الآلات بإجراء تعديلات جراحية أو طبية أو إلكترونية على المادة العضوية التي هي الجسد البشري. وثمة أجساد تُعدَّل لتمكينها من التغلُّب على الإعاقة، أو لتَحسين قدراتها. هذه هي «الأجساد إلكترونية».

الأجساد الإلكترونية هي أجساد معدَّلة تكنولوجيًّا، أو متصلة بالشبكات، يبدو أنها تَتجاوز، ولو لبُرهة، مواقعها الجغرافية المادية المباشرة، باقتدارها على أن «تكون» في أماكن أخرى، أو أن «تفعل» الأشياء بوسائل أخرى.

وكما أزعم، يُصبح هذا الأمر شكلًا من «التجرُّد من الجسد»، و«إعادة التجسُّد المتزامنة». هذه أجساد ما بعد بشرية، يندمج فيها «العتاد الرطب» (اللحم والدم) ويتفاعل مع العتاد الصلب (الكمبيوتر أو الآلة) والعتاد المرن (الشفرة).

يعمل السايبورج في اتجاهين في الوقت ذاته؛ يتمدَّد السايبورج «إلى الخارج»، وراء الحدود المادية المباشرة للجلد والعظم؛ كما يستطيع السايبورج أن يجلب العالم «إلى داخل» العقل مباشرة. في بيئات الواقع الافتراضي، تُزوَّد المحاكاة العصبية أو الاستثارة الحسية، التي قد نستوعبها في الحالات الأخرى بما تشتمل عليه أجسادنا من أعين أو جلد أو آذان أو أنوف، بالتكنولوجيات التي يُمكنها أن تُحسِّن الحواس أو تُعدِّلها لتناسب الفرد، خالقةً بذلك «واقعًا» جديدًا بالكامل (يكون واقعيًّا طوال بقاء المرء في الفضاء الإلكتروني أو الواقع الافتراضي)؛ ومِن ثَمَّ فالأحاسيس المختبَرة في فترات استراحة العقل «ليست» متصلة بالموقع الآني للجسد: يُمكِن أن تكون جالسًا في جوٍّ مُكيَّف، في مساحة مكتبية معقمة، ومع ذلك تشم رائحة الأحراج في الريف من خلال بيئات الواقع الافتراضي المحمَّلة مباشرة داخل جسدك ووعيك.

في كلتا هاتَين الحركتين — إلى الخارج وإلى الداخل — ما لدينا هو حالة «مجرَّدة من الجسد»، جرى فيها التغلُّب على الموقف المكاني للجسد، أو تمديده إلى فضاءٍ آخَر كليًّا، و«إعادة تجسُّد» بُنِي فيها نوع آخر من الجسد. إعادة التجسُّد هذه هي ما أسميها «النشوء الاندماجي الإلكتروني» e-mergence، وهو مصطلح منحوت يدل على «اندماج» العتاد الرطب (العضوي) والعتاد المرن (أو الإلكترونيات)، وكذلك «نشوء» نوع جديد من البشر.

ولذا فلا يكفي أنه قد حدث تجاوز للجسد، أو أن الثقافة الإلكترونية تُسهِّل التجرُّد من الجسد، بل نَحتاج إلى إعادة النظر في نوع الجسد المشكَّل محل ما درجنا على رؤيته باعتباره البشر.

تسمح لنا الثقافات الإلكترونية من قبيل تلك التي نعيش فيها بأن نخترع هُويات جديدة وتخيُّلية بالكامل، يُمكننا تغيير العمر، والنوع، والهيئات، والتفضيلات المتعلقة بالمأكل، واللغة، والأمة، والمكان. في «ماي سبيس» أو في «سكند لايف»، لا يَملك أحد أن يتحقَّق بأي درجة من اليقين من أنك مَن تُخبر نبذتُك الشخصية الكمبيوترية/الرقمية أنه أنت. وصف الشاعر تي إس إليوت الوضع الحديث من لعب الأدوار بأنه «إعداد الوجوه للقاء الوجوه التي نلقاها» (١٩٩٣ [١٩١٧]: ١٤). والأدوار الإلكترونية والهُويات على الإنترنت (الأفاتارات) تَمُد عملية «إعداد» الوجوه إلى بُعدٍ آخَر. ظلت العمليات الحضارية (كما بيَّن نوربرت إلياس ٢٠٠٠) عبْر التاريخ الإنساني، تُعنى بتهذيب المظاهر والسلوك. وآداب الإنترنت والتواصل الاجتماعي يطوران معاييرهما وأعرافهما السلوكية.

الجسد موجود وسط منظومات اجتماعية معيَّنة — حتى حينما يكون على الإنترنت — وخطابات. يستخدم الطب، والقانون، والدين، والأسرة، والدولة، جميعًا معاني معينة للجسد، وكلها يتعامل مع الجسد بطرق معينة.

  • ترى صناعة الأزياء الجسد مشروعًا يُمكن أن نبيع له ملابس ولوازم معيَّنة ويُدِر بذلك أرباحًا.

  • يرى الطب الجسد مجموعة من السمات التشريحية والفيزيائية يجب فك شفرات أعمالها الدقيقة — فالمعرفة لازمة — ومساعدتها على العمل بسلاسة.

  • أما رجل الصناعة فيرى أجساد العمال أدوات تساعد على التصنيع، ومن ثَمَّ مصادر للأرباح، ويصنِّف الأجساد حسب إنتاجيتها.

  • وغالبًا ما يرى الدين الجسد خطَّاءً ومحتاجًا إلى التحلُّل من الخطيئة بالصلاة والصوم (مع كون الصوم موجهًا مباشرة إلى الجسد من خلال الحرمان من الغذاء).

  • أما الأسرة فهي وحدة علاقات، لا تحتمل سوى أنواع معيَّنة من العلاقات — وخصوصًا الجنسية — بين الأجساد.

  • وأما القانون فيضبط حركات الأجساد، ويعاقب «المجرمين» بسجن أجسادهم في الزنازين.

الواضح أن الأجساد موضوع للمراقبة والضبط الاقتصاديَّيْن، والسياسيَّيْن، والمعرفيَّيْن، والأيديولوجيَّيْن، والعلميَّيْن-التكنولوجيَّيْن. ولا تشذُّ عن هذا الثقافةُ ما بعد البشرية للأجساد الموصولة والمعدَّلة إلكترونيًّا.

(١) الأجساد ما بعد البشرية

ليس ما بعد البشري وسمًا زمنيًّا محضًا (ما بعد)، ولكنه يشي أيضًا بتقدُّمٍ وتضخيمٍ للبشر من خلال وسائل تكنولوجية، وجراحية، وطبية، ورقمية. ما بعد البشري هو «نشوء اندماجي إلكتروني»، ونتاج للتلاقي بين التكنولوجيا والجسد العضوي، يتسبب في شكل وأداء بشريَّيْن، يبدوان تحسينًا للنموذج الأسبق.

لم تكن الأجساد «طبيعية» قط، بل ظلت الأجساد تُعدَّل باستمرار في كل الثقافات، بذراع تعويضية لجندي مصاب، أو بحاصرتَيْن لتقويم الأسنان، على سبيل المثال. الوشم، والحلي، والأزياء، والملابس، والتخريم، والجراحة، والأنظمة الغذائية، واليوجا، والزرعات، وتقويم الهيئة والمِشية، والترقيعات … عدد الأشياء التي فُعِلت «ﻟ» الجسد يُشكِّل قائمة مُرهِقة.

ما بعد البشري

مصطلح آخر لوصف السايبورج؛ حيث تُعدَّل الأجساد العضوية من خلال تدخلات جراحية وكيميائية وتكنولوجية، وتُوصَّل بالعتاد المرن والعتاد الصلب، من أجل استعادة أو تضخيم أو تعديل قدراتها وأوضاعها «الطبيعية». ما بعد البشري هو نشوء «اندماجي إلكتروني»، تجميع للعتاد الرطب (العضوي)، والعتاد المرن (شفرات الكمبيوتر)، والعتاد الصلب (الأجهزة التعويضية، والزرعات الإلكترونية، ورقاقات الكمبيوتر)، يكون تفاعُله مع العالم أو خبرته من خلال وساطة التكنولوجيا.

والطبيعة ذاتها لا يُمكن النظر إليها باعتبارها تضادًّا ثنائيًّا بين الثقافة والتكنولوجيا؛ فالطبيعة معدَّلة تكنولوجيًّا ومُعتمِدة على الوسائط، والخبرة بالطبيعة تَعتمِد على الوسائط، وتُتاح من خلال التكنولوجيا. انهارت الحدود ما بين الفاعل المُدرِك والبيئة المدرَكة.

يشتمل تعديل الجسد على إجراءات التجميل من خلال الوشم والتنديب، والتغيير المستحدث جراحيًّا وطبيًّا، والتدخُّل التكنولوجي في شكل الجسد ووظيفته. وفي حالة السايبربنك على سبيل المثال، يُصبح تعديل الجسد تكنولوجيا عالية، وتكون الأجساد دائمًا «أجسادًا تكنولوجية».

الأجساد التكنولوجية هي سايبورجات بمعنًى مختلف. مع الاستخدام المتزايد للهندسة الوراثية وزرع أعضاء الحيوانات، يكون السايبورج أيضًا شيئًا ما يشوش الحد الفاصل بين الإنسان والحيوان، وليس فقط الحد الفاصل بين الإنسان والآلة. يُوسِّع بحث دونا هاراواي (٢٠٠٦) بشأن «الأنواع القرينة» فكرةَ «الأنواع» ذاتها للحديث عن «الاحترام» و«الاستجابة» (الجذور الاشتقاقية لكلمة «أنواع»)، إلى جانب التطوُّر في الدراسات «ما بعد البشرية» (كيري وولف ٢٠٠٧، ٢٠٠٨)، باتجاه أشكال الحياة الأخرى؛ ولذا فإن فكرة السايبورج بوصفه إنسانًا-آلة ليست صورة دقيقة للأشكال الجديدة من الأجساد في الألفية الجديدة.

(١-١) التجميل

التلاعب التجميلي بالجسد قديم قِدَم الإنسانية. زرعات السليكون، وأنظمة الحد من السمنة، وتمرينات اللياقة البدنية، و«عمليات التجميل» المنوَّعة تُؤكِّد جميعها الحفاظ على شكلٍ معيَّن — شكل يسعى إلى التلاؤم مع الفكرة التي يُمكن قبولها اجتماعيًّا عن الجسد «الجميل». كان التعديل الجراحي للجسد موجهًا في أغلب الأحوال نحو تحسين نوعية حياة الناس، وخصوصًا أولئك الذين يُعانون إعاقةً حركيةً أو أيَّ نوع آخر. أما الزرعات والأجهزة التعويضية والأطراف الاصطناعية فهي وسائل مُساعِدة لتحسين بقاء الجسد. وأما الوشم وغيره من علامات تمييز الجسد فهي على الأغلب علامات للهُوية. قد تستخدم المجتمعات والقبائل والجماعات الاجتماعية علامات مُميِّزة للإشارة إلى عضويتها. ويُمكن أن يكون تعديل الجسد علامةً على التمرُّد في الجماعات الثقافية الفرعية — بما يجعله تحرُّكًا سياسيًّا على نحوٍ سافر.

تعديل الجسد فعل «سياسي اجتماعي»؛ لأنه ينشد تعريف دور الجسد البشري، وقدرته، وهُويته، و«فاعليته»، حتى وهو يُرسي الشأن السياسي في الجسد.

صارت نزعة تعديل الأجساد أكثر ذيوعًا في تسعينيات القرن العشرين، وأرجع بعض الباحثين جذورها إلى ثقافة الوشم التي كانت سائدة في حِقبة أسبق (دو ميلو ٢٠٠٠). وصار تعديل الجسد حركةً ثقافيةً فرعيةً مع نشأة جماعة «البانك» في سبعينيات القرن العشرين. وهي تزلزل فكرة الجسد المتماسك، وتُثير التساؤلات عن الأعراف الراسخة بشأن ما «ينبغي» أن يكون عليه الجسد. ومن الناحية السياسية، تُشكِّل جماعات الأجساد المعدَّلة ثقافةً فرعيةً راديكالية.

وفي حالة النساء، طالما كان تعديل الجسد محلَّ جدال كبير؛ فالجراحة التجميلية، كما يزعم أنصار النظريات النسوية (ديفيز ١٩٩٥؛ كي بي مورجان ١٩٩١) تزيد من تسليع المرأة باعتبارها جسمًا جنسيًّا. ومع ذلك، تدَّعي فنانات مثل أورلان أنها، بإقبالها بمحض إرادتها على تعديل جسدها، تقلب الأعراف السائدة بشأن جمال المرأة.

أما تعديل الجسد من قِبَل المثليِّين والمِثليات والمُتحوِّلين جنسيًّا فيجعل الجسد نفسه شاذًّا. ولأنهم أفراد تقع هُوياتهم على أيِّ حال على هوامش الثقافة «السائدة»، فإن مثل هذه المُمارسات تُبرِز سياسة جنسية راديكالية. وهم يُثيرون، باستعراض رغبات الجسد الموصومة (مثل الاستعباد والخضوع)، التساؤلات بشأن معايير السلوك الجنسي.

في الثقافة التكنولوجية، الواجهات التفاعلية بين الجسد والآلة — من جهاز غسل الكُلى ومنظِّم ضربات القلب إلى الرقاقات المزروعة — هي أمثلة للأجساد ما بعد البشرية.

ومن النماذج الشهيرة للفنون ما بعد البشرية التي تُعيد تشكيل الجسد من خلال الجراحة والتكنولوجيا، ما قدَّمه ستيلارك، وأورلان، وفريق السايمبيوت إيزا جوردون وجيس جاريل. فقد وصَّل الفنان الأسترالي ستيلارك جسده بالشبكة العنكبوتية العالَمية على نحوٍ مكَّن أناسًا، يُصدِرون أوامر باستخدام لوحة مفاتيح الكمبيوتر من أماكن أخرى، من تحريك جسده (www.stelarc.va.com.au). وأما الفنانة الأدائية أورلان فهي تخوض عمليات تجميلية متعددة لتغيير وجهها وجسدها — وتُبَث العمليات بثًّا مباشرًّا على الشبكة العنكبوتية العالمية (انظر www.orlan.net). وقد سمَّت المشروع «تقمُّص القديسة أورلان». وأما إيزا جوردون فترتدي سليكون ومطاطًا ودوائر كهربية تهدف منها إلى «تحويل الفنانة بالكامل إلى كائن حي هجين، عضوي ولكن غريب بالكامل على نحوٍ إغوائي، إلى مَسخٍ يجمع بين الإنسان والآلة مزوَّد بأجهزة تحكُّم مدمجة بالكامل» (www.psymbiote.org).

يقترح ستيلارك اندماجًا آليًّا-جسمانيًّا يُغيِّر تغييرًا جذريًّا حدود تحكُّم الجسد في نفسه، ويُمدِّد «آفاق حدود الجسد». أما أورلان فتطمس الحد الأول الذي نعيش داخله: جِلدنا. تضع أورلان هذا الحد موضع التساؤل بكشف طبيعته المبنية: يمكننا أن نكتسب الجمال والسحنات، ويُمكننا أن «نضبط» الجسد. بتغيير السحنات ولون الجلد، والشكل، نُغيِّر حدَّنا مع العالم، ومِن ثَمَّ تفاعلنا مع العالم واستقبالنا منه.

تَشمل المشروعات التجميلية الأخرى التي تَعتمِد على التكنولوجيا والطقوس البدائية مثل التنديب أو التعديل مُجتمع مجلة «بدي موديفكاشن إزين» (المجلة الإلكترونية لتعديل الجسد) (www.bmezine.com). يَعرض الأفراد في هذه المجلة صورًا لأعمالهم الفنية، ويُقدِّمون اقتراحات. وتجمع المجلة التي تصدر على الإنترنت أناسًا يؤدُّون هذا العمل مُتجاوِزين في كثير من الأحيان الحدود الجغرافية والسياسية ليُشكِّلوا مجتمع ثقافة فرعية.
من الجوانب الرئيسية لهذه الشاكلة من التجميل والتعديل، الفردية المُتطرفة التي يتَّسم بها «الفنانون». وكما تقول فيكتوريا بيتس:

هذا الخطاب … يُجرِّد الجسد من الطبيعة ويُعظِّم خُلُق الفردية: ينبغي ألا نكون مُجبرين على الامتثال لإملاءات ثقافتنا، وألا نقتصر على التعديلات الجسدية التي سبق اختراعها بالفعل. (٢٠٠٣: ١٦٩)

وكما تَقترح بيتس، فثمة تركيز ليبرالي على التخصيص، والفردية، والحرية الشخصية. ومع ذلك، فعلى غرار معظم الاستجابات لثقافات تعديل الجسد الفرعية، تَفترِض بيتس مسبقًا أيضًا وجود جسد «طبيعي» يُجرَّد فيما بعدُ من صفته الطبيعية. فالنظر إلى تعديل الجسد على أنه فعل جائر يستلزم أن يكون لدينا بعض المعايير بشأن «ماهية» الحدود (أو الشكل، أو الوظيفة، أو السحنات) التي جرى انتهاكها.

والمسألة الأهم في اعتقادي هي أن نرى كيف يعمل مثل هذا التضخيم أو التعديل الإبداعي ليتلاءم مثلًا مع الثقافات البدائية (معظم التعديلات مستلهَم مباشرة من طقوسٍ تنتمي إلى ثقافات غير غربية، كما نَشهدُه على موقع «المجلة الإلكترونية لتعديل الجسد»). وهاكُم تساؤلات من هذا النمط:
  • ما الذي يَعنيه ﻟ «تسليع» ثقافات العالم الثالث غير الغربية، حينما تُصبح الممارسات التي تحمل دلالة عاطفية أو دينية أو ميتافيزيقية هائلة (وفي كثير من الحالات كل هذه الدلالات الثلاث) جزءًا من صناعة عالمية لها ذوق إثني؟

  • هل تتضمَّن الفاعلية الشخصية حرية تسويق ذوق إثني ﻟ «أصله» مكافئ مختلف في ثقافة أخرى؟

  • هل يتطلب/يستلزم الجسد المُعدَّل رفاهًا أو هُوية تصويتية جديدين؟ ما الذي يَعنيه هذا للعلاج الطبي؟ وكيف يُؤثِّر التعديل في الأنواع الاجتماعية والأعراق؟

هذه الفردية وهذا السعي إلى تخصيص الهُويات — كما يتمثَّلان في كثير من التكنولوجيات الإلكترونية — يُنكران الموقع الاجتماعي لكل الأجساد، سواء أكانت معدَّلة أم لم تكن كذلك. تعيش الأجساد في سياقات اجتماعية، وتطالب بنصيب من اقتصاديات الطعام، والسياسة، والانتماء الجنسي. وهذه ليست مسائل متروكة للأفراد وحدهم، ولكنها مسائل «جمعية، ومجتمعية، واجتماعية». مسائل تخص الفاعلية، والقوة، والمنافع.

(١-٢) التحويل الرقمي والمعلوماتي

لعبت التكنولوجيا الطبية دورًا حاسمًا في بناء الأجساد الإلكترونية. وتثير الزرعات الجراحية والأجهزة التعويضية، والتعديلات الكيميائية، والأجساد المعدلة وراثيًّا، تساؤلاتٍ بشأن مفهوم الجسد «الطبيعي» نفسه.

تُساعد الأجساد الرقمية، من قبيل تلك التي نراها في «مشروع الإنسان المرئي» أو «أنثى ستانفورد المرئية»، على إجراء عمليات معقَّدة من إعادة بناء الجسد على شاشة الكمبيوتر. يُختزَل الجسد أو يُحوَّل إلى شرائح رقيقة، ثم تُصوَّر على أفلام، وتُحفظ في صورة رقمية. تمكَّن مركز المحاكاة البشرية في كلورادو أيضًا من ترجمة الجسد البشري إلى صيغة رقمية (www.uchsc.edu/sm/chs). وتكنولوجيا التصوير الطبي ومشروعات الإنسان الرقمي هي أساليب لإدراك الجسد وتمثيله؛ أي أنها تدور حول «الصور». وحينما تُحوَّل إلى صيغة رقمية، وتُبَث، ويُعاد بناؤها في مكانٍ آخر كي «تُنتِج» تشريحًا — حيث تُمثِّل الأرقام الأنسجة والخلايا — فإن خطوات تحويل الصور هذه تضيع.

هذه أمثلة ﻟ «التحويل الرمزي» (عملية تحويل شيء إلى صيغة أخرى؛ مانوفيتش ٢٠٠١: ٦٤؛ وانظر أيضًا ثاكر ٢٠٠٤أ). يُحوَّل الجسد رمزيًّا في هذه الحالة إلى رموز بلغة الوراثة والكمبيوترات، ويترتَّب على ذلك أن يكون لدينا بشَرٌ رقميون، وعلم معلومات حيوية، وبيولوجيا كمبيوترية، وليس آخِرًا، فن جينومي.

هذا الجسد المحوَّل رمزيًّا ينبغي فهْمه بطريقتين — بصفته جسدًا لكائن بيولوجي وجزيئي، «و» بصفته جسدًا مؤلَّفًا عبْر أشكال من التصوير، والنمذجة، وقواعد البيانات. إنه جسد خاضع لعملية انتزاع من السياق المكاني، فنية، وحتمية، وتمكينية، يَتشكَّل وفقًا لها؛ جسد يُدرَك تجسُّده «بصحبة الأساليب الفنية» (هانسن ٢٠٠٦). من هنا تَنبع أهمية الطب النانوي، والهندسة الوراثية، وتكنولوجيات التلقيح بالمساعَدة.

التحويل الرمزي

من الناحية المتخصِّصة، يعني التحويل الرمزي ببساطة تغيير الملف — من صور بامتداد “.GIF” إلى مقطع مرئي، أو ملفات صوتية، أو مطبوعة. ويُفهَم في النظرية الثقافية على أنه يُمثِّل الانتقال بين «الطبقة» الثقافية و«الطبقة» الكمبيوترية.

يقوم العلاج الوراثي على افتراض أنه ما دام الحمض النووي يتحكَّم في كثير من سلوكياتنا، واستعداداتنا، وملامحنا، وحتى تعرُّضنا للمرض، فسيكون تغيير الحمض النووي طريقةً فعَّالة ودائمة لمكافحة المرض. تُسجَّل العمليات الجسدية وتُبَث من خلال النُّظُم الكهروميكانيكية المايكروية البيولوجية، بحيث تكون سجلات نشاط الدماغ أو القلب متاحة بسهولة للمعالج ليطبعها في حالة الطوارئ.

التكنولوجيا النانوية والطب النانوي

«النانو» هو واحد على مليار من المتر، بعرض ست ذرات كربون تقريبًا. وتسعى التكنولوجيا النانوية إلى هندسة المادة والعمليات والتلاعب بها على مستوى الذرَّة. والطب النانوي هو التطبيق الطبي للتكنولوجيا النانوية. ويشتمل على إصلاح أعضاء الجسم على مستوى الخلايا، وحتى الجزيئات من قبيل البروتين.

هذه تدخُّلات طبية على مستوى الخلية والجزيء. وهي تحيل الجسد أقسامًا أصغر فأصغر لأغراض التحليل، وكذلك للتدخل والتعديل. وهذا الشكل من الطب الذي يربط ما بين تكنولوجيا المعلومات والبيولوجيا الطبية هو الطب المعلوماتي.

تمكِّن البرمجة الوراثية الجسد من الإحساس بالعالم بطريقة مختلفة، وخصوصًا حينما يكون ذلك الجسد قد عجز عن ذلك من قبلُ بسبب مشكلات أو أمراض جسدية. والأجهزة التعويضية والتعديل الوراثي ليسا سوى أسلوبَيْن جسديَّيْن يُضخِّمان إحساس الجسد بالعالم.

يعالج الاستنساخ، شأنه شأن العلاج الوراثي، الجسدَ باعتباره تجليًّا لشفرة الحياة؛ أي الحمض النووي. إلا أنه مثال آخر لتحويل الحياة إلى معلومات؛ حيث يُفهَم الحمض النووي والشفرة الوراثية باعتبارهما جوهر الحياة البشرية. ثمة تناقُض مثير بشأن تحويل الجسد إلى معلومات؛ إذ «يُترجَم» الجسد إلى شفرة حينما يصبح رقميًّا، ويَستعيرُه علماء البيولوجيا باعتباره «نصًّا» (الحامض النووي باعتباره «كتاب الحياة»). يُنظَر إلى الحمض النووي على أنه شفرة مصدرية. ويوجد أيضًا مقابل لهذا المعنى للجسد باعتباره شفرة. حيث يُشهَد الآن شكل آخر من الجسد المادي في الهندسة الوراثية؛ إذ تُساعِد قاعدة البيانات أو المعلومات («نص» الشفرة الوراثية) على إنتاج أجسام مادية فعلية — من النعجة دولي إلى البكتيريا إلى العقاقير. ومن ثَمَّ، لدينا من جهةٍ جسدٌ مُحوَّل إلى معلومات، ومن الجهة المقابلة معلوماتٌ تساعد على إنتاج أجساد مادية فعلية.

تتعامل البيولوجيا الجزيئية والتكنولوجيا البيولوجية مع البيولوجيا ومع الجسد على أنهما تكنولوجيا، يَكدح فيها الجسد. يعمل الجسد باعتباره جسدًا اقتصاديًّا، وباعتباره مِلكية (تسجيل براءة اكتشاف الجينوم هو تجسيد لهذه الفكرة عن الجسد بوصفه ملكية). ووفقًا لتعبير يوجين ثاكر، ثمة «تحويل» متواصِل للقيمة البيولوجية والطبية إلى قيمة اقتصادية؛ حيث يُعتقد أن الجسد يمتلك «جهدًا ماديًّا حيويًّا» (٢٠٠٥: ٤٧). يُساعد تنظيم المعلومات الوراثية على تصنيف الكائنات البشرية، أي أحماضهم النووية، في قواعد بيانات. وهذا النظام التصنيفي ليس طبيًّا أو بيولوجيًّا وحسب، ولكنه ثقافي كما افترض ثاكر (٢٠٠٥) على نحوٍ مُقنِع؛ حيث يكون لتحويل الجسد إلى معلومات تداعيات أخرى. طالما كانت الكائنات الحية المهندسة وراثيًّا مثار جدل بشأن براءات الاختراع: هل الكائنات الحية المخلَّقة معمليًّا «طبيعية» (ومن ثَمَّ فهي غير قابلة لمنْح براءات الاختراع وفقًا لقوانين البراءات الأمريكية)، أم «مخترَعة» (ومن ثَمَّ فهي قابلة لقواعد البراءات)؟ حينما حكمت المحكمة العليا في الولايات المتحدة في عام ١٩٨٠ بإمكان منح براءة اختراع عن بكتيريا أناند شاكرابارتي المربَّاة في المعمل، أطلقت جدالًا ونقاشًا كاملَين بشأن الجسد باعتباره «ملكية». وقضية جون مور لعام ١٩٧٦ مثال آخر — حينما ادَّعى مور أن الخط الخلوي (المسمَّى خط «مو» الخلوي) المنتَج من نخاع عظامه المُصاب بالسرطان مِلْك له. حكمَت المحكمة العليا في كالفورنيا بأن مور لم يكن يَملِك مواده البيولوجية. وفي حالة الصناعة البيوتكنولوجية يكتسب هذا النقاش أهمية أعظم؛ إذ يُمكن جمع المواد الوراثية لمجتمعات وقبائل وأعراق بأكملها، وعمل قواعد بيانات لها (كما في مشروع الجينوم البشري). تجعلنا الأجسام المُعاد تكوينها في المجال البيوتكنولوجي نسأل: أي الأجساد ذات قيمة (باون ٢٠٠٥)؟

(١-٣) فيزياء البرودة وفلسفة ما وراء البشرية

إحدى الحركات الثقافية الفرعية التي تؤمن بمدِّ الجسد البشري وتجاوزه هي حركة التفاؤليين العلميين (www.extropy.org). يمجد التفاؤليون العِلميون الواجهة التفاعُلية بين الإنسان والآلة، مُفترضين حالة «ما وراء بشرية» يعيش فيها الإنسان مُتجاوزًا الجسد والعمليات والزمن المعطَى بيولوجيًّا. تسعى حركة ما وراء البشرية، كما هو مبيَّن في إعلان الاتحاد العالمي ما وراء البشري (٢٠٠٢) إلى ««إعادة تصميم» الظرف البشري، شاملًا محدَّدات من قبيل حتمية الشيخوخة، والقيود المفروضة على المهارات الفكرية البشرية والاصطناعية، والسيكولوجيا المفروضة، والمُعاناة، وتقيُّدنا بكوكب الأرض.»

سياسة التفاؤليِّين العلميين مزعجة بالفعل، وليس بسبب أنهم يسعون لتغيير عملية «طبيعية» (نعلم أن البشر تدخَّلوا طَوال قرون في العمليات الطبيعية). يفتح تعريفهم ذاته لما وراء البشر النقاشَ بشأن سياستهم: «أشخاص من نوعية سيكولوجية وفكرية وجسدية غير مسبوقة، أفراد يتسمون ببرمجة ذاتية، وتعريف ذاتي، وقابلون للخلود، وغير محدودين.» يفترض التفاؤليون أن أنواعًا معينة من الأفراد فقط — أولئك الذين يمتلكون الخصائص المذكورة عاليًا — سيرغبون في الخلود أو التحرُّر من الأمراض والشيخوخة.

ستكون الأسئلة الأساسية هي:
  • هل ينطبق خيار الأجساد المتقدمة على كل الأعراق، والجماعات الإثنية، والأقليات، والنساء، وذوي القدرات المختلفة؟

  • ماذا عن الأعراف الاجتماعية والثقافية التي ربما تُملي، كما تُملي الآن، اختيار الأجساد والأشكال؟

  • هل من شأن القابليات المحسنة أن تكون هي العُرف الذي لا يستطيع الكثيرون (أن يتحمَّلوا) الانضمام إليه؟

يبدو حضور التفاؤليِّين وما وراء البشريين على الإنترنت قائمًا بالكامل تقريبًا على الأعراق القوقازية. هل يوحي هذا بانقسام الوجود ما وراء البشري وتعديل الجسد على أساسٍ عِرقي؟

(١-٤) الأجساد التكنولوجية المستهلِكة

«منصَّات» الفضاء الإلكتروني في ثقافة السايبربنك مصنوعة في اليابان. وغالبًا ما تكون «الفيروسات» في أعمال ويليام جيبسون صينية.١ الأجساد التكنولوجية هي دومًا أجساد «مُستهلِكة». حينما يبتلع ستيلارك كاميرا لكي يُصوِّر أحشاءه، أو ترتدي أيزا جوردون قفازين وسماعَتي رأس مصنوعة من التيتانيوم، فهما يبقيان راسخَين بقوة في الثقافة الاستهلاكية والصناعة التي تزوَّد بالمادة.

افترض منظِّرو علم الاجتماع أن استهلاك الشباب يُمثِّل أسلوب حياة ما بعد حداثيٍّ في المدن الغربية والمراكز الحضَرية لدى شعوب العالم الثالث (مايلز ٢٠٠٠). ويُشكِّل الشباب أيضًا واحدة من كبرى جماعات استهلاك تكنولوجيا الوسائط الجديدة (ليفينجستون ٢٠٠٣)، على الرغم من وجود اختلافات مُهمَّة بين الطبقات والأنواع الاجتماعية في الاستهلاك وفي المهارات (ويلسكا وبيدروزو ٢٠٠٧). من وجهة نظر مايلز، هذه اختيارات لأسلوب الحياة، تُحدِّد إلى مدًى بعيد هُوية الشباب. فالبضائع والسلع في الثقافة الاستهلاكية المعاصرة تُشكِّل الفرد. والتخصيص، وتعلُّق المرء العاطفي بأداته، وتبنِّي أسلوب معيَّن، هي عمليات لتطويع التكنولوجيا للظروف المحلية، وربطها بالفرد، بطرقٍ تجعلها تصير عنصرًا من عناصر هُوية المرء.

يُؤمن مُنظِّرو علم الاجتماع أن الهُويات الاستهلاكية تُصبح وسيلة للاستقرار في عالم متروك للتغيُّرات السريعة (مايلز ٢٠٠٠). أما دراسات الثقافة المادية (ملر ١٩٨٧) فتبيِّن كيف أن البضائع والسِّلَع ليست «إضافات» ملحقة بهُوية فردٍ ما، ولكنها، على خلاف ذلك، «تُشكِّل» هذه الهُوية في علاقة وثيقة. ليس الأمر تجزؤ الهُوية بقدْر ما هو «تشكيل» مختلف للهُوية.

ومِن طُرُق فهْم الثقافة الاستهلاكية والوسائط الجديدة تحديد موضع دور المستخدمين. باتباع قراءة ديفيد مارشال (٢٠٠٤) الإبداعية، أفترض أننا بحاجة إلى أن نرى المُستهلِكين باعتبارهم «مُنتِجِين» أو «مُنتجيم مستهلِكين». يقترح مارشال أن العامة منخرطون في جوهر «عملية» الإنتاج الثقافي. وموضوع الوسائط الجديدة الناشئ في استخدام أداةٍ ما هو نتاج سلسلة من الاختيارات والقرارات التي تحسم بدورها أيٌّ من صِيَغ الألعاب هو الشعبي. ومع ذلك، لا يرى مارشال تداعيات وجهة نظره. فحينما تُلهم آراء المستهلك أو استخدامه المتكرِّر تطويرًا إضافيًّا للواجهة التفاعلية أو للتكنولوجيا أو لصيغة اللعبة (في ألعاب الكمبيوتر، على شكل تنقيحات، مثلًا)، فما يجب أن نعترف به هو «البناء المشترك» للتكنولوجيا (حتى مع بقاء القوة والربح الشاملَين على نحوٍ لا يُمكن إنكاره بأيدي المُصنِّع الاحتكاري الرأسمالي). فما نراه في مثل هذا المجتمع الاستهلاكي التكنولوجي هو الطبيعة المتكرِّرة لكل ثقافات الوسائط الجديدة؛ حيث تكون الواجهة التفاعلية أو التكنولوجيا مرتبطة بالمستخدِم المادي ونمط الاستخدام.

(٢) الأجساد المتصلة

حينما تعمل على كمبيوترك بينما تستمع إلى موسيقاك المفضلة على جهاز الآي بود خاصتك، بينما يَجري تحديث معلومات رحلتك الجوية في الخفاء على هاتفك الذي يعمل أيضًا مساعدًا رقميًّا شخصيًّا، فأنت تجعل هذه الأجهزة خفية. يَنهمِك الناس في العملية (البريد الإلكتروني، والموسيقى، والمعلومات) حتى مع جعل الوسيط شفافًا. ويُصبح الجهاز امتدادًا لجسد المستخدِم (لبتون ١٩٩٨). تعمل الأجساد في العصر الرقمي على هذين المستويين: (١) من كونها قائمة على الوساطة لدرجة أن الجسد نفسه يكون هو الوسيط ويختفي الجهاز التكنولوجي، و(٢) يطور الجسد ارتباطًا شخصيًّا للغاية بالجهاز.

الأجساد الآن في استعارة ويليام ميتشل الموفقة هي أنا++. ثمة «قلب» بيولوجي (هو نفسه حُوِّل إلى معلومات، وحُفِظت بياناته في مكانٍ آخر) جُعِلت له واجهة تفاعلية مع الشبكات والمجتمعات والأنظمة، وتم توصيله بها. ويعني هذا أن تفاعل أجسادنا مع أي فضاء مادي متأثِّرٌ ومعدَّلٌ بشدة في العصر الرقمي. لم تَعُد هناك أجساد مغلقة، أو أحياء سكنية محدودة، وإنما توجد فضاءات موصولة في تفاعل نشط فيما بينها. تتغلغل المدينة في نظام الجسد الإدراكي كما لم يحدث من قبلُ، بقدْر ما تَمتزج مادية الجسد وتتشكَّل بالبيانات المتدفِّقة من أنظمة الاتصالات. وبالعكس، فالفضاء المحيط بالجسد يُعدَّل إلى حضور الجسد ويتأثَّر به. يغيِّر الجسد تدفُّق المعلومات، حين تتَّصل أجهزة الهاتف المحمول والآي بود والمساعد الرقمي الشخصي وغيرها من الأجهزة بالشبكات، وتستنزل معلومات الطقس والمواصلات، وتستكشف أماكن تناول الطعام والجغرافيات «الأخرى». هذا فكٌّ غير مسبوق لارتباط الأجساد والأماكن بالأقاليم؛ لأن المرء يمكن أن يكون في مكان معين وهو في مكان آخر أيضًا يتسوق على الإنترنت باستخدام الهاتف المحمول مثلًا، في مركز تجاري «واقع» في مدينة أخرى، أو مَتجر افتراضي. هذه هي خبرة الاتصال بأماكن متعدِّدة في وقت واحد.

يعمل فك الارتباط بالإقليم أيضًا بصفته نوعًا من المراقبة؛ فالأفراد الذين يتراسلون نصيًّا يُمكنهم أن ينسقوا تحركاتهم من أماكن مختلفة، ويمكن إرشادهم إلى نقاط التقائهم، من خلال الاتصال المستمر على الهاتف المحمول؛ ومن ثَمَّ فلا داعيَ لأن يكون أي مكان جديدًا بالكامل؛ لأن أصداء المعلومات تجعل المكان مألوفًا.

الإحساس بالمكان هو أيضًا إحساس بالزمن؛ إذ أثبت البحث المعاصر كيف غيَّرت الاتصالات باستخدام الأجهزة المحمولة إحساس الناس بكلٍّ من المكان والزمن (جرين ٢٠٠٢).

الهاتف المحمول، باعتباره جهازًا شخصيًّا، يستخدمه المرء «أينما ووقتما» يشأ، يغيِّر إيقاع العمل، والفراغ، ووقت العائلة — من تلقِّي رسالة عمل على مائدة العشاء إلى المحادثات الشخصية أثناء العمل. هذه هي التغييرات التي تحدث للتنظيم «الزمني» المعتاد. تستطيع الأجهزة المحمولة — الكمبيوتر المحمول، والمساعد الرقمي الشخصي، والكمبيوتر الكَفِّي — أن تضمن أن ساعات العمل تمتد إلى وقت الفراغ أو العائلة أو النشاط الاجتماعي. الاتصال الدائم هو إعادة ترتيب ودمج دائمان للفضاءات العديدة في هذا الجسد المعزَّز بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

يطلب منَّا مزودو الخدمة للهواتف المحمولة أن «نبقى متصلين» بأحبائنا وزملائنا من خلال الهاتف المحمول. والمُثير للمُفارقة بالتأكيد هو استعارة كلمة «متصلين» التي تستخدمها كل تكنولوجيات الاتصال: «الاتصال» هو إحساس «بالقرب»، ولا بد لحدوث «الاتصال» من «التشارك في فضاء مادي». ويَشي تكرار الاستعارة بهوس مستمر بإلغاء المسافة. ما تفعله التكنولوجيا هو ملاءمة «المعنى» المناسب ﻟ «الاتصال» ليعني التواصل، والتراسل، والقدرة على الاتصال.

تعني الأجساد والفضاءات المتصلة شبكيًّا أيضًا أن التمييز بين الفضاءات العامة والخاصة غُيِّر، وأن نوعًا جديدًا من الفضاء «الاجتماعي» يُغيِّر طبيعة التفاعل الاجتماعي نفسها قد شُكِّل.

يصف تيمو كوبوما الهاتف المحمول بأنه «فضاء ثالث» بين البيت الخاص وبين مكان العمل. الفضاء الافتراضي المُشتق من المجال العام أو الخاص حينما يكون المرء على الهاتف، هو «فضاء ثالث». يَنسحِب المرء إلى «فضائه الثالث» حينما يكون في العمل، وحينما يكون وسط أصدقاء آخرين، أو على مائدة الطعام (كوبوما، ٢٠٠٤).

وبما أن الأماكن هي فضاءات معاشة، وأن تلك التكنولوجيات تُغيِّر خبرة الجسد ﺑ «العيش»، فهي تُغيِّر أيضًا تدفُّقات ذلك الفضاء. العمارة والفضاء الخارجيان يَشهدان تغييرات وكأنهما حسَّاسان لحركات الزائرين والكاميرات التي تتتبَّع الأجساد والآلات المادية — جاعلة منهما لذلك فضاءي رؤية فائقة — وتُعيد المعلومات بدورها إلى قاعدة البيانات.

يَعني هذا أن الأجساد والفضاء الخارجي يَتغلغل كلاهما في الآخر، ويجعل كلٌّ منهما من نفسه جزءًا من الآخر. إذا كانت المعلومات الآتية تجعل الجسد المادي سايبورج، فحركة الجسد وأفعاله يُضفِيان على العمارة والمكان صِبغة إنسانية.

من الناحية الثقافية، لهذا الجسد الموصول تبعات مُثيرة للاهتمام. مثال ذلك حالة تكنولوجيات الاتصال الشخصي. بينما دفع التليفزيون وألعاب الكمبيوتر الأطفال للبقاء داخل البيت، تُتيح لهم الهواتف المحمولة وتكنولوجيات الاتصال الشخصي «القابلة للارتداء» أن يكونوا «في الخارج». وهي تُقدِّم للشباب الفرصة لاستكشاف فضاءات جديدة دون أن يكون آباؤهم وأمهاتهم قَلِقين بلا داعٍ — لأن بإمكان الآباء والأمهات الاتصال بهم و/أو تحديد مواقعهم من خلال أجهزة تحديد المواقع — أو حتى على دراية بخروجهم. فالأطفال الأكثر خضوعًا لتَقيُّد حركتهم — لأنهم لا يَستطيعون القيادة حتى يَكبروا بما يكفي — يجدون في الهاتف المحمول نوعًا جديدًا من الإيلاف الاجتماعي. وهكذا نجد جغرافيا جديدة للطفولة آخذة في الظهور (انظر جونز وآخرين، ٢٠٠٣).

تُنتِج الهواتف المحمولة والأجهزة «القابلة للارتداء» عِلمَ مسافاتٍ جديدًا؛ حيث إن الجسد الحامل للأجهزة المحمولة يُنظم الفضاء بطريقة مختلفة. يفترض جيمس كاتز (٢٠٠٦أ) أن الهاتف المحمول يتطلَّب ويخلق «حركات» جسد جديدة بالكامل (الرأس المُمالة من أجل الاستماع بطريقة أفضل، وأوضاع الجسد). تعني هذه الشاكلة من الأجساد الموصولة تَغيُّر تداول الفضاءات من قِبَل جماعة اجتماعيةٍ ما. تتغير الجماعة الاجتماعية التي فيها «الأجساد» تكون «مُتزامنة» عادةً — يَمشون معًا، ويجلسون معًا، ويتحدَّث أحدهم إلى الآخر — حينما ينهض أحدهم ويذهب للردِّ على مكالمة على الهاتف المحمول، أو حينما يشارك شخص رسالة. وتُغيِّر الموسيقى أو المواد المذاعة التي يتشارَكها الناس عبْر سماعة أو مكبر صوت ترتيبَ الأجساد؛ ومن ثَمَّ تداول الفضاء.

من الواضح أن الأجساد الموصولة تُضخِّم الفضاءات، وأن الفضاءات تضخِّم الأجساد التي تتداولها.

تُشكَّل أجسام السايبورج من الاتصال ومن خلاله. يفترض ديفيد جَنْكل في قراءة إبداعية أن السايبورج يُنبِّه أفكارنا عن الذاتية؛ لأنه ليس ذاتًا مستقلة في حركتها، مُنْشأةً سلفًا تشترك في الاتصال. وربما تكون دورة التحكُّم الإلكتروني التي من خلالها تتدفق المعلومات من جديد إلى داخل النظام وتَخلُق الاستجابات هي أيسر طريقة للتفكير بشأن السايبورج باعتباره ذاتًا في حالة اتصال. يقع جسد السايبورج في مكانٍ ما بين الجسد البيولوجي والفرد المبني من خلال تدفقات المعلومات. ليست التكنولوجيا هنا جهازًا تعويضيًّا عن الجسد «الأصلي»، ولكنها تساعد على إنشاء الفاعل. هذا هو الجسد المضخَّم، الجسد الموصول في مرحلةِ ما بعد البشرية. مهمة الثقافة الإلكترونية، إذًا، هي أن تنقل بؤرة الاهتمام من الفرد الذي يُبادر بالمحادثات إلى «الظروف الاجتماعية والمادية التي تُصبح فيها الأوضاع المختلفة للفرد مرئية وممكنة».

(٣) التجسُّد، والتجرُّد من الجسد، وإعادة التجسُّد

طالما كانت الخبرة ما بعد البشرية تُرى باعتبارها خبرة ديكارتية جديدة، الحالة المثالية التي يوجد فيها عقل خالص وما مِن جسد. الجسد، ومن ثَمَّ التجرُّد من الجسد، تم تجاوُزهما.

يعني «التجسُّد» وضع الجسد في المركز باعتباره محلَّ الذاتية، والهُوية، والنفسية. وتُجسَّد هُويةٍ ما أو خبرةٍ ما لأنها تَنطلِق من تفاعُل الجسد مع العالم. وخبرة التفاعل هذه هي التي تتوسَّطها التكنولوجيات الرقمية الراهنة وتعدِّلها.

أما «التجرُّد من الجسد» فهو الجسد البشري الذي صار رقميًّا، الاختزال أو إعادة التكوين لشخصية البشر، وشكلِه، ووظيفته، وسلوكه ليصبح مجموعة من الشفرات المدخلة إلى قاعدة بيانات. يُحوِّل «مشروع الإنسان المرئي» جسدًا بشريًّا إلى سلسلة من الصور القابلة للتنزيل، والبحث، والانتقال بينها من أجل الاستهلاك العام. عملية اختزال الجسد البشري إلى صيغة رقمية في هذا المَشروع تُحوِّل الجسد إلى صيغةٍ يمكن وضعها على سطح المكتب، وبثِّها عبْر الإنترنت، أو إضافتها إلى ملفات أخرى. البشر «الحقيقيون» المصنوعون من لحم ودم، يُمكن تحويلهم إلى مجموعة من الأرقام التي يُمكن تخزينُها، وبثُّها، ثم إعادة «تجميعها» في مكانٍ آخر لتُصبح صورة أو شيئًا يُمكن البحث عنه على شاشة. وهكذا يُعَد مشروع الجينوم البشري والمعلومات البيولوجية مثالَيْن لجعل الجسد البشري رقميًّا.

يُتيح لنا التجرُّد من الجسد «استحضار» شخصية الآخر، ليس بالضرورة بلقائه وجهًا لوجه، ولكن من خلال قاعدة البيانات. والتجرُّد من الجسد هو أيضًا خبرة الجسد الحسية الممددة — المضخَّمة — من خلال التكنولوجيات الموصولة (ولكنها، كما سنرى، ليست تفسيرًا كافيًا لما يَحدُث مع الخبرة بالفضاء الإلكتروني).

ترى كاثرين هيالز أن الثقافة ما بعد البشرية ليست متعلِّقة بتخلي المرء عن جسده، ولكن «مد الوعي المجسَّد بطرق محدَّدة، وموضعية، ومادية بدرجة عالية، لم تكن لتُتاح لولا الأجهزة التعويضية الإلكترونية» (١٩٩٩: ٢٩٠-٢٩١). وهذا ما أراه صورة جديدة من «إعادة التجسُّد». من جهةٍ، تَقترح هيلز أن الجسد «اللحمي» يُقيِّد قدراتنا الحسية وغيرها، وأننا نَحتاج إلى «تجاوز» هذا القيد (أي «التجرُّد من الجسد»). ومن الجهة الأخرى، تفترض أن قدرات الجسد من خلال عمليات إلكترونية وغيرها تُبقي على التجسُّد مع فارق (سيكون هذا «إعادة تجسُّد»). إعادة التجسُّد هي تلاقٍ بين التكنولوجيا والجسد يُسهِّل تمدُّد الجسد في أبعاد أخرى، حتى وهو لا يزال لحمًا. سَمَّيتُ «إعادة تجسُّد» الجسماني هذه في التكنولوجيا «النشوء الاندماجي الإلكتروني»: اندماج الجسد والتكنولوجيات الإلكترونية، وظهور شكل بشري جديد موصول بالشبكة.

الهُوية ما بعد البشرية «ليست» بالضرورة هروبًا من الجسد، ولكنها إبراز للجسد داخل الشروط الجديدة للتكنولوجيا. بتعبير آخر، ما بعد البشري هو النشوء الاندماجي الإلكتروني للبشر، الذي يمرُّ فيه إحساسه بالعالم وتفاعله معه عبْر التكنولوجيا. ويعني هذا أنه لا بد من إعادة صوغ مفهوم البشر باعتباره جسدًا، وذاتًا، وهُوية توجد في حالة تحالف وثيق مع الماكينات وغيرها من أشكال التكنولوجيا، وقد أُدمج بعضها داخل الجسم البشري. لا بد أن نرى البشر على أنه «تجميع» من العتاد الرطب (المواد العضوية)، ومن العتاد المرن، ومن العتاد الصلب.

في الحالة ما بعد البشرية، يكون الإنسان مُدمجًا ومتصلًا بالجهاز في علاقة دائرية مُتبادَلة. فالإنسان «يستجيب» للآلة، والآلة «تستجيب» للإنسان وفقًا لآلية للتغذية الراجعة؛ حيث يكون العُضوي وغير العضوي في «اتصال» مستمر فيما بينهما. ومن ثَمَّ فما بعد البشري هو نظام اتصال.

يوجد ما بعد البشري في علاقة تكافلية مع التكنولوجيا؛ حيث لا تكون التكنولوجيا محض جهاز وظيفي/ذرائعي ولكن مكوِّنًا من مكونات الهُوية ما بعد البشرية نفسها. ما بعد البشري هو «تركيبة» من العتاد المرن، والعتاد الصلب، والعتاد الرطب (الجسد العضوي). ما بعد البشري هو الجسد البشري المضخَّم. ومع ذلك، فمثل هذا البشر المضخم «ليس» صِنفًا عامًّا كما سنرى.

يشي الخطاب المثالي عن الفضاء الإلكتروني (رينجولد ١٩٩٤؛ توركل ١٩٩٥) بأن تجاوز الجسد هو أمر يُبتغَى بشدة. وهذا التجاوز — تأليه أيديولوجية التنوير الأوروبية المتصلة بفصل الجسد الدنيوي المادي من العقل الرشيد المفكر المجرَّد، كما يبيِّن لبتون (١٩٩٨) — ربما لا يكون (١) ضروريًّا، أو (٢) محبَّذًا لكل الأجساد. أي أن تجاوز الجسد من وجهة نظر العِرق الأبيض ليس هو نفسه من وجهة نظر الجسد الأفريقي أو الآسيوي الذي تَعتمِد حقوقه وامتيازاته ورفاهه على الجسد. وبالمثل، لا يعني تجاوز الجسد الأشياء نفسها للنساء وللرجال.

يَشي كلٌّ من الأمثلة المُشار إليها عاليًا بأن الجسد المادي للأقلية، وللغرباء، أو ذوي القُدرات المختلفة، سيبقى في مكان واحد، ويحتفظ بالوسوم «الجسمانية» للهُوية بينما يكون قادرًا على الإحساس بنظام مختلف من الواقع عبْر التكنولوجيا. وهذا «إعادة تشكيل» للبشري أكثر منه تجاوزًا له.

إعادة تشكيل الجسد هذه هي ما بعد البشر، السايبورج. ومع دورة الثقافة الإلكترونية، يُمكننا التخزين والاسترجاع والتعديل لشكل الإنسان وبنيَّته وتفاعُله (من ذلك الاتصالات المتزامنة من قبيل البريد الإلكتروني التي تُتيح لنا أن نكون «متصلين» بالشخص الآخر، لكن ليس وجهًا لوجه، ومُعَبَّرًا عنا من خلال النص) كما لم يحدث من قبل. ولذا فإن تحويل الجسد إلى سايبورج ليست سوى ذروة عملية التفاعُل العضوي-التكنولوجي. إن الجسد «الناشئ الاندماجي الإلكتروني» هو نفسه وسيط لتكنولوجيات متنوعة:
  • جسد بيولوجي.

  • جسد مركَّب بالتصوير (الأشعة السينية، وعمليات الفحص بالأشعة).

  • جسد مركَّب من خلال المحاكاة والنمذجة (مركز المحاكاة البشرية، أو مشروع الإنسان المرئي).

  • جسد مركَّب من خلال الإدراج في قواعد البيانات (مشروع الجينوم البشري).

جسد ما بعد البشرية — محل التفاعل العضوي-التكنولوجي — هو ما يُسمِّيه مارك هانسن (٢٠٠٦) «جسدًا مشفَّرًا». وليس هذا هو نفسه «اللحم والدم المصنوع من البيانات» الشهير في رواية جيبسون (١٩٨٤: ١٦)، أو جسدًا معلوماتيًّا. ولكنه يَشي بجسد يَتشكَّل جوهر تجسُّده من اتصاله بالتكنولوجيات. قوة الجسد البناءة والإبداعية الأساسية ممدَّدة من خلال الإمكانات التفاعُلية الجديدة التي تُتيحها وسائل الإعلام الرقمية والواقع الاصطناعي. في هذه الرؤية، لا تكون فضاءات الواقع الافتراضي محض محاكاوات فنية مهندسة بفضل التكنولوجيا، ولكنها «واقع مزيج»؛ حيث يكون العالم الافتراضي «مجرَّد عالم إضافي من بين عوالم أخرى يُمكن النفاذ إليها من خلال الإدراك المجسَّد.»

الواقع المزيج

يَرفُض النموذج المعرفي ﻟ «الواقع المزيج» كما عرَّفه مارك هانسن (نحتَ المصطلحَ الفنانان مونيكا فلايشمان وولفجانج شتراوس) التجاوز الجسدي في الواقعات الافتراضية. يَفترض هذا النموذج أن الجسد هو الواجهة التفاعُلية للافتراضي، لاعبًا دورًا حاسمًا في تقاطُعات العالَمَيْن الافتراضي والمادي. وهو بذلك يُعيد وضع الجسد في المركز.

النموذج المعرفي ﻟ «الواقع المزيج» جذاب لأنه يَرفض ثنائية التجسُّد/التجرُّد. إنه يرفض التضاد بين المجسَّد-الواقعي، وبين المُتجرِّد-المحاكاة، بمعاملة وسيلة النفاذ إلى العوالم الأخرى (الافتراضية) على أنها جوهرية في إعادة التفكير في الجسد. نحتاج إلى رُؤية التشكيل الحالي للجسد البشري؛ جسد يجب أن «يَبني نظامًا تشغيليًّا ممدَّدًا، يؤدي وظائفه وراء بيولوجيا الجسد، ووراء الفضاء الموضعي الذي يَسكُنه» (ستيلارك ٢٠٠٢: ١٢٢).

ما أدعوه إعادة التجسُّد هو ببساطة «نظام تشغيلي ممدَّد»، نموذج معرفي ﻟ «واقع مزيج»؛ حيث تكون أنماط الإدراك ووسائله (المجسَّدة) — التي لا بد من تأكيد أنها مُشَكَّلة أيضًا على أساس اجتماعي — أهم من محتويات الفضاءات الإلكترونية وبيئات الواقع الافتراضي. يُعيدنا كلٌّ من إعادة التجسُّد والنشوء الاندماجي الإلكتروني إلى الجسد، ولكن الجسد المزود بالتكنولوجيات، الذي يُسهِّل تلاقيه مع التكنولوجيا الإدراك المضخَّم، ولكنه لا يرفض الجسد. نموذج إعادة التجسُّد أو «الواقع المزيج» لا يشطر الجسد والهُوية ما بين ذاتٍ مادية واقعية وذات افتراضية. ولكنه بدلًا من ذلك يختبر الافتراضي من خلال الواقعي، بقدْر ما يُعبِّر عن الواقعي-المادي من خلال الافتراضي. هذا هو التشكيل «التكراري» لهُوية الثقافات الإلكترونية.

أرى أن هذه الرؤية تعالج النموذج المعرفي القائم على تجاوز الجسد، وتميل به نحو الحفاظ على الجسد الشهواني، الاقتصادي، الثقافي الاجتماعي، حتى في الفضاء الإلكتروني. ولتوضيح هذا الموقع التكراري للجسد الذي جُعِل رقميًّا، تأمل مشروع الجينوم البشري؛ مشروع رسم خريطة للجينوم البشري بأكمله.

تُموِّل مشروع الجينوم البشري وزارةُ الطاقة في الحكومة الأمريكية. وأهدافه المعلنة هي تعريف الجينات التي تتراوح بين ٢٠ ألفًا و٢٥ ألفًا في الحمض النووي البشري، من أجل تحديد تسلسلات ثلاثة مليارات زوج من القواعد الكيميائية التي تشكِّل الحمض النووي البشري، وحفظ هذه المعلومات في قواعد بيانات.

الجسد هو هذا الالتقاء بين البشر وغير البشر/الآلة، بين المادي وغير المادي، في صورة مشخَّصة. ومع ذلك، فهذا التخزين في قواعد البيانات ليس الترجمة الصرف لجسد عضوي إلى أرقام وشفرة. فمِن الضروري الأخذ في الحسبان أن الأجساد ليست جذاذات معلومات محايدة: فهي تُصنَّف و«تُرمَّز» ثقافيًّا من حيث العِرق والطبقة والنوع. ولذا، فمشروع من قبيل مشروع الجينوم البشري، كما أشرت في موضع آخر (نايار ٢٠٠٦أ)، هو بمنزلة نوع من الاحتلال — الواقع أن خطاب مشروع الجينوم البشري (www.ornl.gov/sci/techresources/Human_Genome) يَستخدم تعبيرات البحث والاستكشاف والغزو المَجازية التي شكَّلت كلها لغة الاستعمار فيما مضى. «لم» يكن الأمريكيون من أصل أفريقي مشمولين في المسح الجينومي للأعراق البشرية. ولم يحدث إلا بعد مطالب مُلِحَّة أن شُمِلت عينات من الحمض النَّووي من الأمريكيين الأفارقة أيضًا ضمن الجينوم «البشري» (وما زال السؤال هو: هل يدلُّ الاستبعاد الأوَّلي على اعتقاد بأن الأعراق الأفريقية «ليست» جزءًا من البشرية؟) إن مسألة التكوين الوراثي لمَن هو ما سيُستخدَم أساسًا أو معيارًا، مسألة حاسمة؛ لأن الأبحاث الصحية والطبية ستتخذه نموذجًا. في مجالات مثل الصيدلة الوراثية (حيث ستُعَد الأدوية وفقًا للتكوين الوراثي)، لن تكون هناك أدوية مصمَّمة للبصمة الوراثية للأمريكيِّين من أصول أفريقية. ولذا، فالعقاقير التجارية المَبنية على أساس البصمات الوراثية لن تكون مصمَّمة من أجل الأمريكيِّين من أصل أفريقي، أو الأمريكيِّين من أصل مكسيكي. ذكر نورتون زيندر الذي رأس اللجنة الاستشارية لمشروع الجينوم البشري مَخاوف اجتماعية، مفادها أن «امتلاك نسخة من الجينوم البشري ربما يُوفِّر أسبابًا جديدة لا حصر لها للتمييز الوراثي من قِبَل أرباب العمل، وشركات التأمين؛ بل ربما يُوحي بإجراءات عنصرية شبيهة بالنازية» (موثَّق في ويلكي ١٩٩٣: ٧٧؛ وللاطلاع على نقد لمشروع الجينوم البشري، انظر أماني وكومب ٢٠٠٥؛ كروس ٢٠٠١؛ إف جاكسون ١٩٩٩، ٢٠٠١). ليست الأجسام المُخزَّنة في قواعد البيانات محض أرقام: إنها تمتلك «خصائص» يُمكن أن تؤدِّي في حال تجاهلها إلى تأثيرات مزعجة، بمعايير المجالات الأخلاقية والصحية والطبية. قد تختار الشركة التي تتحكَّم في قاعدة البيانات ألا تُدرَج فيها أجسادًا «أخرى» (أقلية، أو أمريكيِّين من أصل أفريقي). ولهذا فمن الأهمية بمكان وضع الجسد ضمن الشروط الإثنية والعِرقية والثقافية والمادية المحدَّدة حتى في الفضاء الإلكتروني.

(٤) هوية السايبورج والسياسات المتعلقة به

السؤال الرئيس في نظرية ما بعد البشرية (للاطلاع على نقد نموذجي، انظر بادمينجتون ٢٠٠٤) هو: هل نحن «جسد» أم «عقل»؟ الفاعل الديكارتي — المقسوم بين العقل والمادة — زادته تعقيدًا تكنولوجيات الواجهة التفاعلية الراهنة؛ التي يتصل فيها كلٌّ من المادة والعقل في كِيان «خارجي» يُمارس التفكير بمُفرَدِه (الكمبيوتر). إذا كان الجسد والعقل كلاهما يُعاد تشكيلهما بفعل التكنولوجيا، فأين «جوهر» البشر؟ أين البشر «الواقعي» في هذا العقل-الجسد المعدَّل، الذي صار رقميًّا، الموصول شبكيًّا؟ يُمكن إبداء ثلاث ملحوظات هنا.

أولًا: الرابطة البشرية-الآلية في حالة الفضاء الإلكتروني أو الكمبيوتر الشخصي «ليست» ثنائية بشري/غير بشري بسيطة. تنشأ «هُوية السايبورج» بالتحديد لأننا لا نحسُّ بهاتفنا المحمول أو الكمبيوتر الشخصي باعتباره كِيانًا مختلفًا. غير أننا نحسُّ بالكمبيوتر الشخصي، وبالفضاء الإلكتروني، وبفعل اتصالنا من خلال هاتف، على أنه امتداد لأجسادنا وذواتنا (هذا «أنا» أتحدَّث على الهاتف). ولذا فما لدينا هو سياق «واقع مزيج»، تندمج فيه الأجساد والفضاءات الافتراضية في كِيان مركَّب، يُكمِّل فيه كلٌّ منهما الآخر في علاقة تكافلية. هذه هي «الطوبوغرافيا النفسية» الجديدة (لبتون ١٩٩٨: ٩٨-٩٩؛ سللتزر ١٩٩٢: ١٩) للأجساد البشرية؛ حيث تجتاز الفضاءات النفسية والجغرافية الحدود الطبيعية والتكنولوجية، وحيث تَندمج الحالتان الداخلية والخارجية. هذه نفس، وجسد، وخبرة مضخَّمات، شُوِّشت فيها الحدود بين الفضاء الإلكتروني و«نفسي»، بين فضاء الاتصال والترفيه الناتج من هاتفي المحمول وبين حواسِّي.

ثانيًا، تبعًا لما سبق، تستند الهُوية في العصر ما بعد البشري أو تتحدَّد أبعادها «عبْر» أجساد عضوية وآلات غير عضوية، أجساد وأدوات، ذوات وكيانات إلكترونية. يفترض النموذج المعرفي ﻟ «الواقع المزيج» والنشوء الاندماجي الإلكتروني لما بعد البشر أن الهُوية لم تَعُد قارَّة في الجسد أو مقيدة به.

وأخيرًا، في اللحظة ذاتها التي تنسحب فيها الأجساد إلى الفضاء الإلكتروني وتَنعزِل عن المجتمعات وعن التفاعُل الاجتماعي (إلا من خلال الاتصالات الإلكترونية)، يُصبح الجسد الخاص أيضًا موصولًا أكثر من أي وقتٍ مضى. هذا التحرُّك المزدوج من التخصيص/الاختفاء والتعميم/الاتصال هو مَلمَح مُميِّز للعصر الرقمي.

الهُويات الإلكترونية — عودة إلى الفرضية الأساسية لهذا الكتاب — مُرتبطة ارتباطًا تكراريًّا بما هو واقعي. ولا يحبذ نموذج «الواقع المزيج» واقعًا على آخر، ولكنه يفترض أن النفاذ إلى أحد أشكال الواقع دائمًا ما يمرُّ عبْر وساطة الآخر.

لا تضمن الذاتية الإلكترونية زوال الهُويات المستندة إلى العِرق أو الجنس أو النوع في العالَم المادي، فالحركات الرجعية، مثل النازية الجديدة، أو التنظيمات العنصرية، مثل التحالف القومي، تنقل أيديولوجياتها من العالَم المادي إلى الفضاء الإلكتروني. وجدت كارين باسيت (١٩٩٧) مثلًا أنه حتى في المدن الافتراضية، بقي أداء النوع على الإنترنت وفيًّا لمعايير النوع، وأظهر درجة ملموسة من الامتثال للأفكار السائدة بشأن الجسد. من وجهة نظر النساء والأقليات التي سعت إلى حقوق وامتيازات على أساس أجسادها، تجاوُز الجسد نقمة أكثر منه نعمة، للسبب البسيط الذي هو أن الجسد المادي من وجهة نظر هؤلاء هو جسد «سياسي»؛ حيث يُبنى على أساس اللون، والقدرة، والهُوية المميزة، والهُوية الإثنية للجسد المادي، ما يُتاح للفرد من رفاه اجتماعية وتوظيف وخدمات طبية وحقوق تصويت ومواطَنة. فلا تكون «المواطَنة الافتراضية» مُمكنة من دون جسد مادي.

كذلك، ربما يَتجاوز التفاعل على الإنترنت مؤقتًا الهُويات «الواقعية» والأجساد، لكن، كما أظهرت دراسات الاتصالات التي تتمُّ بوساطة الكمبيوتر، وشبكة يوزنت (بولدر ٢٠٠٧؛ بوركالتر ١٩٩٩)، «يستخدم الناس خبرات حياتهم الواقعية لفهْم خبراتهم على الإنترنت وتقييمها والاستجابة لها.» يعمل التفاعل على الإنترنت — الذي يَتنكَّر فيه الناس من حيث هُوياتهم القائمة على النوع، أو العِرق، أو الجنس — في أغلب الأحيان بطريقة يشعر معها المُستخدِمون بالخديعة حينما يكتشفون التنكُّر، أن الناس ليسوا كما كانوا يدَّعون.

بما أنه يُمكننا الآن أن نخلص إلى أنه (١) لا يمكن التعامل مع الثقافة الإلكترونية على أنها كِيان مستقل، مجرَّد من أي صلة بما هو «واقعي». (٢) أننا نعيش في مجتمع سايبورجي، يبدو منطقيًّا أن تكون بنا حاجة إلى رؤية كيف يُؤثِّر التحوُّل إلى سايبورجات في الهُويات وفي السياسة في العالَم الاجتماعي المادي. وذلك أن علاقتنا بنوع أو بآخر من الآلات — من التليفزيون إلى الكمبيوتر — تُغيِّر أداءنا في المجتمع. كثير من الأفراد، يُؤثِّر تعديل الجسد والأجهزة التعويضية والتدخلات الجراحية على نوعية أدائهم، ويُقرِّر أمور توظيفهم، ومكان سكناهم، وحياتهم الاجتماعية.

إن موضوع السياسة هو الهُويات «المجسَّدة» في المقام الأول. والهُويات ليست متأصلة، ولكنها اجتماعية. ليست الهُويات كِيانات مستقرة، ولكنها متنقِّلة ومتغيرة وقابلة لإعادة الاصطفاف بانتظام، ويُحدَّد موقعها في السياقات المتعددة للنوع الاجتماعي والعِرْق والإثنية والانتماء الجنسي. الهُوية دائمًا ممارسة اجتماعية، تُشكِّلها الممارسات الاجتماعية الأخرى. ولذا، فطبيعة الهُويات المستمدة من خلال التحوُّل إلى سايبورجات هي عامل حاسم في تحديد (أو توقُّع) نوع السياسة الممكنة. في هذا الجزء الأخير، سأفحص مجموعة منتقاة من الهُويات الجسدية في العصر ما بعد البشري.

غالبًا ما يؤدي التقدُّم في السن إلى اختلاف في إيقاع الحياة، والاتصالات، والقابلية للاجتماع، والتفاعُل المجتمعي. ويشيع الوهن، والمرض، والإعاقة بين الأجساد المسنَّة. ومع الأشكال الجديدة من الكمبيوترات والاتصالية بالفضاء الإلكتروني، يستطيع الأفراد بالحد الأدنى من الحراك الحسي أن يتواصَلوا. تستطيع الحواس والأطراف المُضخَّمة مثلًا، أن تُحسِّن قدرات الفرد على الحركة والاتصال؛ حيث يتوسَّط الكمبيوتر، والبرامج، والشبكات ما بين الجسد (الأبطأ والأضعف) وبين العالَم. تُمكِّن التكنولوجيا الأجساد المعاقة من الاضطلاع بالمَهام المعتادة، «وكذلك» تساعدهم على الإفلات من الجسد (في عوالم افتراضية). ولذا، ففي حالة الشيخوخة والهُوية، نحتاج أن نرى السايبورجات باعتبار أنها تعمل على مستويَين: «استرجاعي» حيث يُمكن تسهيل الوظائف والأفعال الأساسية، و«امتدادي» حيث يمكن الإفلات من الجسد المُسِن الأبطأ في عوالم افتراضية. في حالة المسنين، يتيح التحوُّل إلى سايبورجات منزلة مختلفة من الهُوية نفسها.

«جُرِّمت» أنواع معينة من السايبورجات في عصر الثقافة الإلكترونية. يُصوَّر جسد مخترق الكمبيوتر، مثلًا، على أنه مترهل، ونهم للخمول والأغذية القليلة الفائدة، ويُعامَل على أنه محاكاة ساخرة للشكل البشري في الثقافة الشعبية (انظر دي توماس ٢٠٠٢). وغالبًا ما تشي هذه الشاكلة من تمثيلات الطلاب الدءوبين أو مخترقي الكمبيوتر بأن سماتهم الجسدية يمكن عزوها لهوسهم بالفضاء الإلكتروني، بدلًا من المجتمع البشري؛ لهيئتهم الهامدة (مسترخين في المقعد أمام كمبيوتراتهم الشخصية) بدلًا من النشاط الجسدي الحاد؛ والاتصال من خلال البريد الإلكتروني والنصوص فقط، بدلًا من التواصُل وجهًا لوجه. إنهم أفراد يفتقرون للسيطرة على أجسادهم (لبتون ١٩٩٨: ١٠٢-١٠٣).

تسبَّبت الأدوار المتغيرة للرجال والنساء في الأُسَر، واستخدام وسائل الإعلام بقدْر مُتزايد في الحياة المنزلية، في تشكيلات جديدة للفضاء المنزلي. فالبشر المعدَّلون الذين اكتسبوا هُويات جديدة كاملة من خلال جراحة جنسية على سبيل المثال (الرجال والنساء الذين أُجريت لهم عمليات جراحية للتحوُّل إلى النوع المقابل) يُشكِّلون سايبورجات. ومع تكنولوجيات التلقيح بالمساعدة، والاستنساخ، والتبنِّي العابر للقوميات، أصبح مفهوم الأسرة ذاته، باعتبارها تفرُّعًا من شجرة عائلة من خلال الإنجاب الجنسي، بحاجة إلى إعادة نظر. وكما أوضح كريس جراي، تُثير مثل هذه التكنولوجيات التساؤل بشأن العلاقات (الجنسية) الزواجية، والقرابية (القائمة على الدم) التي طالَما عرَّفت الأسر تقليديًّا (٢٠٠١: ١٤٤).

تُثير هذه التكنولوجيات أسئلة مهمة بشأن الأطفال والأبوة والأمومة؛ ومِن ثَمَّ بشأن الأُسَر:
  • هل يَملك «أخ» مُستنسخ أو طفل «مخلَّق» لغرض حصد الخلايا الجذعية دورًا أو مركزًا مختلفًا في الأسرة؟

  • هل يكتسب طفل مصنوع في المعمل لأبٍ مثليٍّ أو أم مِثلية أو زوج من المتحوِّلين جنسيًّا تكافؤًا مختلفًا؟

  • هل يُشكِّل «أسرةً» زوجان مثليان أو مثليتان، «وظيفتهما» الإنجابية رهينة بالتكنولوجيا وتُؤدَّى بوساطتها؟

  • هل تكون العلاقة الأسرية دائمًا علاقة جنسَين مُتغايرين فقط (بتلر ٢٠٠٢)؟

من الواضح أن الأُسَر تعتمد على وساطة التكنولوجيا باطراد، سواء في ذلك الفضاء الداخلي للبيت، أو الاتصالات بين أعضاء الأسرة، أو الوظائف الإنجابية.

يُنتِج الفضاءَ الإلكتروني آلافُ العمال عبْر العالم، الذين غالبًا ما يكونون من ذوي الأجور المُنخفضة، والفرص القليلة للتمتُّع بالحريات أو الانتفاع بالهُويات السائلة التي يُوفِّرها الفضاء الإلكتروني. وقد أدَّى العمل في مجال الرد على العُملاء أو التعهيد، الذي يعتمد على كثير من المعاملات الاقتصادية الإلكترونية وغيرها ويُوجِّهها، إلى تغيير الساعات البيولوجية للأجساد العاملة في آسيا، وجداولهما الزمنية. وأخيرًا، يكتسب العمل المعلوماتي قيمة أعلى من قيمة العمل اليدوي في اقتصاد المعرفة. الانقسام الرقمي هو انقسام حقيقي، وكما يُشير كاستلز (١٩٨٩، ٢٠٠٠) في بحثه بشأن المجتمع المعلوماتي، فإن الثقافات المعلوماتية القائمة على التكنولوجيا تؤثِّر الآن في طريقة تداول السلطة الاقتصادية والسياسية.

بتعبير جريج داوني (٢٠٠٢)، العاملون في مجال الإنترنت هم مُخلِّقو التكنولوجيا (الرقمية)، ولكنهم هم أنفسهم تكنولوجيات. و«الاقتصاد الرقمي» مؤسَّس على عمل التكنولوجيات الجديدة، و«العمال الرقميِّين» (باربروك ١٩٩٧). حتى المُستهلكون الذين يُسهمون في توسُّع الاقتصاد الرقمي وتطوُّره يؤدُّون «عملًا ثقافيًّا»، مثالًا لما تُسمِّيه تيزيانا تيرانوفا «الجهد المجاني»، «استهلاك الثقافة الواعي [الذي] يُترجَم إلى أنشطة إنتاجية تُمارَس عن طيب خاطر، وتُستَغل بلا خجل في الوقت ذاته» (٢٠٠٠: ٣٧). حتى المُمارسات الثقافية الفرعية — «نابتسر»، والتنقيحات التي يُطوِّرها اللاعبون — تُستوعَب داخل ممارسات الأعمال التجارية الرأسمالية، مبيِّنة بذلك كيف يرتبط «العمل» الثقافي المتولَّى، باعتباره استهلاكًا أو أنشطة تطوعية، مع «الاقتصاد الرقمي». تُشكِّل الأنشطة من قبيل الرأي العام، وتثبيت المعايير الفنية الثقافية، والأزياء، والذوق التي تُساعد «الاقتصاد الرقمي» «جهدًا غير مادي» (موريتسيو لازاراتو ١٩٩٦، في يتيرانوفا ٢٠٠٠: ٤٠-٤١)، لكنها مع ذلك هي جهد الأجساد والناس الواقعيين.

تعيد خرافة التجاوز الجسدي تأسيس الأيديولوجية الأقدم التي تُصَوَّر فيها الطبقة الغربية/العليا على أنها عقلٌ خالص، والطبقة العاملة/المهاجرون من العالم الثالث على أنها مادة. والنموذج المعرفي للواقع الافتراضي، أو التجاوز الجسدي، هو خليط من الافتراضي والمادي، ولا يُمكن نقد الفضاء الإلكتروني دون فهْم هذا البعد. فالعوالم الافتراضية للمال، والتكنولوجيا العالية، والحكم الإلكتروني، والأسلحة المُعقَّدة العالَمية، راسخة في المواد، والعمل، والأجساد، ومُستمَدة منها، ومصانة من قبلها، ومعتمدة عليها، في علاقة تكافُلية. حتى مع الأجساد الناشئة المندمجة الإلكترونية، ستَستلزم السياسة والرفاه والحقوق جسدًا ماديًّا.

وبذا، تتداخَل الصناعة الثقافية مع صناعة برامج الكمبيوتر وغيرها من الصناعات، ولو لم يُعترَف ﺑ «عمل» العامِلين في مجال الثقافة والمعرفة. تضع هذه الرابطة الثقافة الإلكترونية في السياق الواقعي والمادي مرة أخرى. هل يسهم مثل هؤلاء العمال الثقافيون في «العمل»؟ وهل يَملكون السيطرة على ما «يُنتجون» في فعلهم الاستهلاكي المحض؟

كانت للثقافة الإلكترونية، مثل التطوُّر التكنولوجي كله، صلةٌ بالحرب. الإنترنت نفسه بدأ حياته، باعتباره نوعًا من النجاة مُصمَّمًا من قِبَل وزارة الدفاع الأمريكية في حال وقوع حرب. بدأت خبرة مُشاهَدة الحرب عبْر أعيُن الكاميرات «في الموقع» مع حرب الخليج. وتسعى تطورات التكنولوجيات النانوية إلى «تحسين» جسد الجندي بأجهزة محاكاة الطيران (واقع افتراضي بالأساس)، لقياس إجهاد الطيار، وتقديم النصح من خلال الشاشات على الطائرة، ولضبط السلوك وتحسين الكفاءة من خلال الزرعات. والمحارب اليوم «محارب سايبورجي» (جراي ١٩٩٧). تستطيع الأسلحة النانوية الذكية الموجهة من بُعد، والمحاربون الروبوتيون أن تكون آلات قتل ممتازة؛ لأنها لا تشتمل على أجساد بشرية على جانب القوات المهاجِمة. وثمة نوع من الصراع ظاهر الآن: حرب المعلومات. وحرب المعلومات عادة صراع خالٍ من الدماء، يَشتمِل على الاختراق وشن الهجمات على الشبكات وقواعد البيانات الحيوية. ومع ذلك فقد تجاوز الاختراق اختراق الدعاية إلى عالَم «الإرهاب» الإلكتروني (انظر الفصل الرابع)؛ حيث يمكن لهجوم يبدأ بوصفه حرب معلومات أن يتسبب في ضرر واقعي/مادي بالغ وفي الموت (الأساس الذي قام عليه أحدث فيلم من سلسلة «موتٌ قاسٍ» (داي هارد) للممثل بروس ويليز، وهو «موتٌ قاسٍ الجزء الرابع» (داي هارد ٤)).

(٤-١) المواطَنة

تؤسَّس المواطنة على موافَقة الفرد على أن يُحكَم. ويتضمن هذا أن أي فردٍ يجب أن يكون «قادرًا» على صنع قرارات رشيدة؛ حيث يعتمد القرار الرشيد على «المعرفة» المؤدية إلى الموافقة «الواعية». وتدور مسألة المواطَنة أو الحقوق السياسية حول الأفراد «المُتجسِّدين».٢ فالحقوق، والامتيازات، والواجبات مرتكزة دائمًا على الجسد؛ تمامًا كالعنصرية، والتحيُّز على أساس الجنس، وغيرها من تلك الخطابات التي تنتهك، أول ما تنتهك، الجسد.

تخسر الدولة، الضامن للمواطنة، سلطاتها باضطراد لصالح الشركات والوكالات والقرارات عابرة القومية. لكن المواطَنة تُمنَح بسلطان الدولة، وغياب الدولة يدلُّ على خلل معيَّن في الآلة السياسية.

فيما يخص الفرد، هل تُمثله قاعدة بيانات عن حياته، وشخصيته، وأحبته؟ هل يكون السايبورج، الذي يُشغِّل عقلَه، ولو جزئيًّا، برنامج كمبيوتر، فردًا بالمعنى الكامل للكلمة؟ هل يُشكِّل ذكاءٌ مجرَّد من الجسد على غرار ما يرى في السايبربنك فردًا؟

وأخيرًا، إذا كانت الديمقراطية والحكم مؤسَّسيْن على الموافقة الواعية من قِبَل الأفراد، فلا بد أن تكون قاعدة البيانات والمعلومات التي تحتوي عليها متاحتَيْن للجميع. مَن يتحكَّم في قاعدة البيانات هذه: الدولة، أم شركة؟ هل الوصول إلى التكنولوجيا الجديدة والمعرفة بها أو التحكُّم بها أصبح على المشاع عبْر الطبقات الاجتماعية؟ أم إنها تَبقى تحت سيطرة قلة؟ هل تُنتِج العلوم التكنولوجية المعاصرة أشكالًا جديدة من العنصرية أو لحظات التمييز التي يَفقد فيها المواطنون الأمريكيون من أصل أفريقي أو الأقليات السيطرة على قاعدة البيانات التي تُحوِّل أجسادهم إلى معلومات لصالح الشركات الخاصة (نايار ٢٠٠٦أ)؟

إذا كان «الفرد» يُعرَّف ويُحدَّد بامتلاك الفاعلية (قدرة المرء على تحديد مسار أفعاله) فإن جزءًا من فاعليتنا، تُسهِّله، بل تؤثِّر فيه الآلات غير العضوية في هذا الزمن.

كيف يُفترَض تعريف المواطَنة وحسْمها في حالة السايبورج وفي حالات تتكرَّر كثيرًا وتستقر فيها السلطة في منظمات خارج الدولة القومية؟

المطلوب الآن هو تعريف جديد للفرد وللمواطَنة.

في عصر الفضاءات المتحوِّلة والمواقع المكانية المتعدِّدة والمتغيرات، يصبح جوهر فكرة المواطَنة، باعتبارها مرتبطة بالدولة الإقليمية، بلا دلالة. وبناءً على فرضية أن الفضاء الإلكتروني مرتبط ارتباطًا تكراريًّا بالأوضاع المادية، والممارسات السياسية، والأجساد الجسمانية، يُمكننا أن نعيد النظر في مفهوم المواطَنة.

وبالتزامن مع ذلك، فإن الحقوق ذات الطابع المحلي مُتضمَّنة في خطابات أوسع وحركات عالَمية من أجل حقوق الإنسان. فالمطالب والاستحقاقات التي كانت فيما مضى من سمات المواطَنة تُصنَع الآن فيما وراء الدولة. تشارك الجماعات السكانية المهاجرة في هذه المطالب بالحقوق (التي يُرمَز لها الآن بمطالب من أجل حقوق «الإنسان»). برامج للعمال المهاجرين لا حدود لها، وأوضاع السوق التي لا حدود لها، وتدفُّقات رأس المال كلها تَمنح العمال مكانةً مختلفةً — الذين يَزعم النُّقَّاد أنهم يملكون حقوقًا مدنية محدودة حتى إن لم يكونوا مواطنين (سويسال ١٩٩٤). في مقولة إيوا أونج (١٩٩٩) الشهيرة، المُرونة والهجرة وتغييرات المكان هي سمات مفضَّلة على الاستقرار، وتؤدِّي إلى ما يُسمَّى «المواطنة المرنة». وبناءً على مفهوم «المواطنة المرنة» هذا، يَقترح أونج (٢٠٠٦) أنه في نظريات الحكم النيوليبرالية التي ظهرت في سياق الرأسمالية العالَمية والثقافة التي تُهيمِن عليها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، لم تَعُد الحكومات مُهتمَّةً بحكم كل فرد. تلقي هذه النظرية النيوليبرالية عبء التنمية والأمن والفاعلية على الفرد، فالأفراد المُبادِرون ذاتيًّا، والمسئولون ذاتيًّا — الذين يتَّسمُون أيضًا بالمرونة والحركة والإنتاجية الاقتصادية — هم المُواطِنون الحقيقيون. وكان انسحاب الدولة المُتزايد من آليات الرفاه المصمَّمة كي تَفي باحتياجات جميع الأفراد يُوحي بأن نظرية أونج صحيحة (أونج ٢٠٠٦: ٥٠٢). في سياق كهذا، يصبح الفضاء الإلكتروني، كما يفترض أونج، هو الفضاء الذي يُمارَس فيه النشاط السياسي ونشاط المواطنة.

يُسهِّل الإنترنت شكلًا معينًا من أشكال «المواطنة المرنة»: «مواطَنة ثقافية». تَعني المواطنة الثقافية استخدام الأدوات والممارسات الثقافية لتعريف وتنظيم العلاقة بالدولة. ومن وجهة نظر بعض المفكِّرين، هذه العلاقة هي علاقة إخضاع (تي ميلر ١٩٩٣). ومع ذلك، فالعلاقة بين المواطن والدولة، حتى وهي خاضعة للتنظيم، ليست شمولية بالكامل أبدًا، وليسَت كذلك على وجه الخصوص في المَجالات الثقافية (فيسك ١٩٨٩؛ هيرمس ٢٠٠٦: ٣٠٢). وانتشار وسائل الإعلام الجماهيرية واستهلاكها هما المجال الذي يُحَس فيه العصر الرقمي بطرق فعالة للغاية.

تُساعد وسائل الإعلام الجماهيرية، ومنها صنوف المسلسلات الاجتماعية المبتذلة، والتقارير الإخبارية، في نشر الأفكار وبناء المجتمعات؛ فهي تبني الهُويات، وتخلق الاختلافات وتُزيلها، وتُساعد الروابط العاطفية. في عصر الترفيه الشعبي على الإنترنت، تحدث «الموافقة الواعية» من المواطنين على مُستوًى مختلف كليًّا. يُمكن الآن الحصول على معرفة أكبر بالأنشطة والخبرات والهُويات والاختلافات. والشاشة هي «فضاء الظهور» (سيلفرستون ٢٠٠٧)، الذي يُصبح فيه «الآخر» مرئيًّا لنا. ولذا، فالوسائط تبني وتوسِّع مخيلتنا؛ حيث يُصبِح المكان الآخر والشخص الآخر أيضًا «هنا». يُتيح هذا مواطَنة ثقافية يزداد فيها نشر الهُويات والخبرات سهولة.

ما يمكننا افتراضه، متبعين هيرمس، هو أننا ربما لا نكون بصدد خلق مواطنين جدد، بقدْر ما أننا نصنع «أشكالًا جديدة من ممارسة المواطنة» من خلال مشاركة أكبر في «المواجهات» والممارسات الثقافية. يتلقَّى المواطنون الذين أصبحوا سايبورجات — أولئك المُتميزون بالقدرة على الاتصال — الأخبار، والترفيه، والمعلومات على مدار اليوم، وأثناء تنقُّلهم، في أي مكان في العالم. الشبكات والمجتمعات منثورة عبْر العالم، وأنشطتها متاحة لأعضائها طوال الوقت عبْر الشبكة العنكبوتية العالمية. ويؤدِّي هذا إلى مرتبة ونوعية مُختلفتَيْن من «الموافقة الواعية» من جانب مواطنيها. وبهذا المعنى ﻟ «المدينة الوسائطية» الجديدة، التي يستطيع فيها «الآخر» في أبو غريب أو في البوسنة استمالة الشعوب والمجتمعات عبْر العالم، تُشكَّل مواطَنة ثقافية.

هذه الشاكلة من المواطَنة الثقافية تدور أيضًا حول مجتمعات سكانية عابرة القومية ومُعتمدة على الوسائط على نحوٍ مُتزايد. فمجتمعات الجاليات أو المهاجرين تستبقي «ارتباطاتها» المزدوجة عبْر الإنترنت، والبريد الإلكتروني، والبِنية التحتية لوسائل الاتصالات. ما يحدث أيضًا هو ترتيب تعدُّدي لمواقع الهُوية الوطنية والثقافية عبْر العالم؛ حيث يتصل المهاجرون من دولة مثل الهند بالهنود في أرجاء العالَم الأول، ومن ثَمَّ يَنشرون نوعًا من «الهَنْوَدة» عالميًّا (لدراسة عن هذا الشأن انظر مجلة «جلوبال نتوركس»، المجلد السادس، العدد الثاني (٢٠٠٦)).

ومع ذلك، حتى ونحن نُقدِّر الاحتمالات التي تخص المواطنين الذين أضحوا سايبورجات، فلا بد من أن ننتبه للجانب الآخر من المواطَنة الإلكترونية. هل ينطبق التحوُّل إلى سايبورجات على كل فئات المجتمعات السكانية في العالم؟ كشفت دراسات «الإنترنت العربية» على سبيل المثال عن الانقسامات المتأصلة داخل ثقافات الإنترنت (انظر وورف وفينسنت ٢٠٠٧). هل سيعطي العالم ثماره للمحظوظين تكنولوجيًّا ويهمل المحرومين تكنولوجيًّا؟ هل ستكسب الأقليات الإثنية أيضًا — أو تستلزم — مواطَنة سايبورجية؟ ليس هذان السؤالان بخصوص التكنولوجيا، ولكنهما معنيَّان، على خلاف ذلك، بالاقتصاد السياسي والثقافة.

يُمكن أن تصبح التكنولوجيات المتقدمة «تمييزية»، باستبعادها أقسامًا كبيرة من الناس من منافع الدواء والرفاه والحقوق السياسية. قد تختار الهيئات والمنظمات التي تتحكَّم في قواعد البيانات أن تنحاز إلى أجساد الأقلية، كما سبقت مناقشته. أما الأجساد ما بعد البشرية، التي لا يقدر على اكتسابها إلا الأثرياء، فتُثير خطر خلق نوع جديد من العزل. ليست الأجساد الإلكترونية محض أجساد معلوماتية (عودة إلى مقولة يوجين ثاكر المقتبسة فيما سبق): فهم يحتفظون بمُكوِّن كبير من المادة العضوية. ولذا فالتحوُّل إلى سايبورج، والتلاعب الوراثي لا يختصان فقط بترجمة الأجساد إلى معلومات، ولكن لهما تداعيات قاسية على الأجساد المادية. نحتاج إلى التمسُّك بهذا الفكر باعتباره تصحيحًا ضروريًّا للروايات المتحمسة للثقافات الإلكترونية.

هوامش

(١) فصَّلتُ، في موضع سابق، الأشكالَ المتنوعة من الأجسام ما بعد البشرية في سرد ويليام جيبسون التخيُّلي (ناريار ٢٠٠٨ب).
(٢) يقترح كريس هابلز جراي لهذا «ميثاق حقوق» جديدًا للولايات المتحدة؛ حيث إن «الشركات التجارية والبيروقراطيات الأخرى ليست مواطنين أو أفرادًا، ولن تكون كذلك أبدًا» (٢٠٠١: ٢٧).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤