الفصل الرابع

الثقافات الفرعية

خطة الفصل

  • المدوَّنات

  • كاميرات الويب والنساء

  • الجريمة الإلكترونية والاختراق

  • وسائل الإعلام التكتيكية، والنشاط الاختراقي، والإرهاب الإلكتروني:

    • وسائل الإعلام التكتيكية وحرب المعلومات

    • النشاط الاختراقي

    • الإرهاب الإلكتروني

  • المعجبون ومجتمعات المعجبين:

    • الفرد والمجتمع

    • الفضاء المعلوماتي

    • الخاص والعام

    • ظاهرة الإعجاب والسياسة:

      • النزعة الاستهلاكية

      • الهُوية

      • الفاعلية

  • الكراهية الإلكترونية

  • النسوية الإلكترونية:

    • السايبربنك النسوي

    • الفن النسوي الإلكتروني

تسعى الطبقات والجماعات المسيطرة، في كل عصر، إلى التحكُّم في التكنولوجيا من أجل تعزيز مصالحها. ومع ذلك، تُطوِّع الجماعات الخاضعة والمهمَّشة أيضًا التكنولوجيا لأغراض المقاومة السياسية والتخريب. لا يشذ الإنترنت وتكنولوجيات الاتصالات الجديدة عن ذلك؛ فقد ازدهرت ممارسات الثقافات الفرعية في الفضاء الإلكتروني.

الثقافة الفرعية، كما تُعرِّفها سارة ثورنتون، هي ثقافة «خاضعة، أو مرءوسة، أو مغمورة» (١٩٩٧: ١). في كثير من الأحيان تكون الثقافات الفرعية — ولكن ليس دائمًا؛ حيث يمكن أن يكون هناك تَشكيلٌ «داخل» مجتمع سائد (مثل الساحات الخاصة باتباع ثقافة القوط داخل ثقافة جماعة «البانك») — خاصة بالجماعات المهمَّشة، أو المقموعة، أو المحظورة التي تتشارك أيديولوجية أو ممارسات ثقافية مشتركة. جماعة «البانك»، كما بيَّن بحث ديك هيبديج (١٩٧٩)، هي أفضل مثال للثقافة الفرعية؛ حيث كانت ملابس جماعة «البانك» وموسيقاهم وتوجُّهاتهم في تناقض حاد مع ثقافات التيار السائد المتمثلة بالأوبرا، واللباس الرسمي، والفنون المَتحفية. وغالبًا ما تستفز الممارسات الثقافية الفرعية مخاوف أخلاقية وهواجس، وحتى إجراءات قمعية من جانب الثقافات السائدة والدولة؛ إذ يُنظَر إليها على أنها هدَّامة، ومعادية للمجتمع، وضارة. وأخيرًا فإن العضوية والاعتراف المتبادَل بين الأقران في الجماعات الثقافية الفرعية يُشكِّلان ضامنًا للهُوية.

الثقافات الفرعية هي جماعات اجتماعية تمتلك أو تنشر أشكالًا وسمات ثقافية محدَّدة؛ حيث تُستخدَم هذه الأشكال/السمات للأغراض السياسية لمعارضة الثقافة المُتفوقة أو المسيطرة.

الثقافة الفرعية

هي في العادة مجموعة من الممارسات التي تحدث على هوامش الثقافة السائدة، وفي مواجهتها، على نحوٍ مُتكرِّر. وقد تتخذ هذه الثقافات شكل أفكار سياسية، أو أزياء، أو أذواق موسيقية معينة. الثقافات الفرعية تشكيلات ثقافية غير رسمية، تسعى إلى الإفلات من قوة الدولة أو المؤسسة أو هدمها، عادة من خلال استخدام تكنولوجيات مماثلة. ومع مجيء تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، أخذت الثقافات الفرعية تعنى بالحيوات والمجتمعات على الإنترنت التي تعمل على كسر قبضة المؤسَّسة على المعلومات، وبرامج الكمبيوتر، والمعاني الثقافية.

يدعم الفضاء الإلكتروني وجود — بل انتشار — الثقافات الفرعية، والثقافات المضادة، والحركات الثقافية المُتطرفة سياسيًّا. والثقافات الإلكترونية هي استخدام مختلف لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة، لأغراض تدركها الدولة والمجتمع ويُصنفانها على أنها غير مشروعة أو معادية للمجتمع.

الثقافات الشبكية الإلكترونية هي من حيث الأساس مجموعة من المُمارسات «الاجتماعية» التي تستخدم الكمبيوترات والتكنولوجيا الرقمية؛ حيث تُصبح الشبكات والكمبيوترات والتكنولوجيات ما يفعله الناس بها — الأغراض التي يستخدمونها من أجلها، والعواقب وأنماط الاستخدام، وما إلى ذلك. ويعني هذا أننا نحتاج إلى إعادة النظر في التكنولوجيا بوصفِها تكنولوجيا في حالة فعل، تتخذ شكل استخدام الناس لها، وهيئته ووظيفته: «شرعي»، أو هدام، أو «إرهابي»، أو تحرُّري. علاوة على ذلك، فالتعامل مع تكنولوجيات المعلومات باعتبارها نظام ممارسات اجتماعية يساعدنا أيضًا على رؤية كيف أن تصنيفات من قبيل الاستخدام الإجرامي الإلكتروني، أو الاختراقي، أو «الهدام»، أو الاستخدام «الشرعي»، هي تصنيفات «مَبنية اجتماعيًّا». ويعني هذا أن ما هو «إجرامي» هو صِنف اجتماعي؛ حيث لا تكون الطبيعة الإجرامية لفعل اجتماعيٍّ ما كامنة في الفعل، ولكنَّها تُنسَب إليه بموجب الأعراف والقانون والثقافة.

غالبًا ما تكون الاستخدامات الثقافية الفرعية للتكنولوجيات خارج نطاق رؤية الشركات والحكومات، وغالبًا ما تكون مُفتقرة للتنظيم، ويكون موضعها على هامش استخدام التيار السائد لهذه التكنولوجيات. ما أُسمِّيه «ثقافات فرعية» يُوسِّع النطاق الدلالي للكلمة بقدْر مُهم ليشمل الممارسات الاجتماعية التي لا تكون مضادة للثقافة السائدة وحسب، ولكنها تُعَد أيضًا غير شرعية ومُهدِّدة. وقد تستخدم ما يُسمَّى «وسائل الإعلام البديلة»، وهي وسائط «منتجة خارج قوى اقتصاديات السوق والدولة»، من قبيل تلك التي تستخدمها جماعات الاحتجاج، والمنشقون السياسيون، وحتى المُعجَبون (أتون ٢٠٠٤: ٣). أو ربما تستخدم وسائط «التيار السائد» لأغراضها، ومن ثَمَّ تقلب أجندة هذا التيار الدولانية القائمة على السوق (ومع ذلك، فمِن الشائع أيضًا أن نرى تحوُّلَ ما كان ثقافيًّا فرعيًّا في وقتٍ ما إلى ظاهرة اعتيادية).

ومن ثَمَّ، تكون الجريمة الإلكترونية — التي تَتراوح بين خطاب الكراهية والاحتيال باستخدام البطاقات الائتمانية — هي أيضًا ممارسة ثقافية فرعية؛ حيث تُطوَّع التكنولوجيا السائدة لغايات تَعُدُّها الحكومات، والمجتمع، وبنى رأسمالية الشركات مَحظورةً. وبينما قد يبدو أن هذا التوسيع للمُصطلَح يُعامل الجريمة والممارسة «الثقافية» الهدامة وكأنهما مُتماثلتان، فأنا أعتقد أنه مُبرَّر؛ لأن كلًّا من «الجريمة» و«الممارسة الثقافية الهدامة» هما فئتان مَبنيتان اجتماعيًّا. فالمُمارَسات الثقافية في مناطق وثقافات مختلفة، غالبًا ما تبدو للآخرين محيرةً ومُثيرةً للاعتراض؛ ولذا تُعرِّض نفسها للتدخل السياسي — حملات حقوق الإنسان، وحركات الإصلاح الاجتماعي خلال التاريخ أمثلة لذلك — لأنَّ الاختلاف السياسي يُترجَم عادة إلى فعلٍ سياسي.

تَجتذب المجتمعات السرية والتنظيمات الهامشية التي تحظى بحضور على الإنترنت عضوية أكبر عبْر إقليم جغرافي أوسع؛ حيث يسهل بثُّ الدعاية وتبادلُ المعلومات اللذان تعتمد عليهما نظرياتها التآمرية، ومعتقداتها المذهبية، وممارساتها الثقافية بسهولة أكبر. من أمثلة ذلك أن المعسكر الكبير لفرسان المعبد في الولايات المتحدة (www.knightstemplar.org/) — وهي جماعة ثقافية فرعية ذاع صيتها بعد نشر رواية دان براون «شفرة دافنشي» (٢٠٠٣) — تتشاطر الفضاء مع الاستخبارات المركزية الأمريكية (بما أن الاستخبارات المركزية الأمريكية هي «خدمة سرية») على موقع (www.theinsider.org/resources/orgs/)، وهو موقع إلكتروني يُقدِّم معلومات عن المجتمعات السرية. وأُغلِق معهد التفاؤليِّين العِلميين في عام ٢٠٠٦، على الرغم من أن مواده ظلَّت متاحة على الإنترنت (www.extropy.org) وقت تأليف هذا الكتاب. وتمَّ تعريف إيمانه بفيزياء البرودة والحياة ما بعد البشرية بصراحة باعتبارها ثقافة فرعية على موقع project.cyberpunk.ru/idb/extropians.html.
تشمل أشكال الثقافات الفرعية الجمعية — خصوصًا في بلد تشرع فيه تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في تغيير الحياة الاجتماعية — الاحتجاجات المناهضة للدولة، وجماعات النشطاء. وتُشكِّل الحركة المناهضة للسدود في الهند، نارمادا باشاو أندولان، أحد أشكال هذه الثقافات الفرعية. تُعرِّف حركة أصدقاء نهر نارمادا (مستضافة على موقع www.narmada.org ولكنَّها ليست جزءًا من نارمادا باشاو أندولان) نفسها بأنها «ائتلاف دولي من منظَّمات وأفراد (من أصول هندية غالبًا)».

من الأمور الأساسية لهذا المشروع الثقافي الفرعي مجموعة أشكال التنمية البديلة. تُشكِّل التقارير، والدراسات العلمية، والآراء، والتعليقات الشخصية بشأن بدائل متلازمة السدود الضخمة، المحفوظة على هذا الموقع، مصدرًا ثريًّا لأولئك المعارضين لاتجاهات التنمية القائمة في الهند. هذا النوع مِن الارتباط بين الجماعات الثقافية الفرعية أو الثقافية المضادة سهَّلته تكنولوجيات المعلومات والاتصال، وهو لذلك ظاهرة مهمَّة في ثقافة الهند الإلكترونية.

ويُمكن أن تكون الائتلافات العالَمية المناهضة للحرب في العراق (مثل www.moveon.org; www.unitedforpeace.org) ثقافيةً فرعيةً بالمعنى الفني الخالص؛ لأنها ضد الدولة. ومع ذلك، وللمفارقة، تَشي شعبيتها، وعضوياتها الواسعة بأنها ليست على هوامش المجتمع السائد، ولكنَّها بقدْر كبير جزء من ثقافة سياسية عالَمية. وتهتم منظمة عالمية أخرى على الإنترنت، وهي «وَن ورلد» www.oneworld.org/ بالحركات المناهضة للعولَمة، وحملات حقوق الإنسان، وجهود تخفيف الفقر عبْر العالم (من ١٦٠٠ منظمة). يمكن أن تكون الأشكال الثقافية الفرعية استخدامات عادية وغير مقصودة للتكنولوجيا العالية. ويُمكن أن تكون ذات نزعة فردية، أو مجتمعية، أو عالَمية. ويُمكن أن تكون معنية بالحياة اليومية لفردٍ ما وحسب، أو أن تكون تهديدات كبرى للبِنى المؤسَّسية. وسنَنتقُل من الأشكال الثقافية الفرعية «البريئة» نسبيًّا إلى أشكال «أخطر» في النقاش التالي.

(١) المدوَّنات

ربما لم تَعُد المدوَّنات ثقافية فرعية، بالنظر إلى تبايُنها الواضح، وأعضائها، واستخدامها المُتزايد على الشبكة العنكبوتية العالَمية؛ حيث تُرجِّح شعبيتها وانتشارها الهائلان أنها صارَت أحد أشكال الثقافة الشعبية (بيرلز ٢٠٠٦، في بِل ٢٠٠٧: ٥).

المدوَّنات في جوهرها شكل من أشكال الكتابة عن شئون الحياة على الإنترنت. سِيَر الحياة، والمقالات الشخصية هي أشكال تقليدية من إعلان المرء عن ذاته، وبناء شخصية يَستهلكها العالم، وتقديم وجهٍ معيَّن للعامة. بِنيويًّا، تتكوَّن المدوَّنة من عناصر «نصية» (تدوينات يومية، وهوايات، واقتباسات، ومواقع إنترنت مفضلة)، وعناصر «رسومية بصرية» (صور، وأيقونات، وروابط إنترنت)، وعناصر «تفاعلية» (مناقشات على الإنترنت، وهُويات بريد إلكتروني). ويُمكن أن يكون اهتمام التدوينات منصبًّا على الذات أو على الآخر (هيفرن ٢٠٠٤).

إذا كان هناك منطق و«رُوح» للمدوَّنات، فهما منطق «التغيُّر الدائم» وروحه. يشير «التغيُّر الدائم» هنا إلى البناء وإعادة البناء اللانهائيَّيْن للذات الخاصة من أجل استهلاك عام قد يكون بلا حدود. علاوة على ذلك، تُمثِّل المدوَّنات أيضًا اتصالًا «مضخَّمًا» بسبب ما تتَّسم به من درجة عالية من التفاعلية والانتشار العالمي المحتمَل. هذه هي «رُوح» التدوين؛ إنها تؤكِّد كيف تُغيِّر برامج العرض (من أجل مزيد من الظهور والانتباه والجاذبية) الطريقةَ التي نكتب بها، والطريقةَ التي نحكم بها على مُدوَّنات الآخرين.

تُمثِّل المدوَّنات، بوصفها شكلًا عضويًّا نشطًا، كتابة عن الحياة لا تكتمل أبدًا. نتيجة لذلك، توجد للمُدوَّنة بنيةٌ ما، ناقصة ومبهمة. المدوَّنات وسيلةٌ لبناء الذات للاستهلاك العام. وفيما يخصُّ سِيَر الحياة، تكون المدوَّنة «احتفاءً بالفاعل الواعي بذاته» (كيتزمان ٢٠٠٣: ٥٢). يفترض التدوين، مثل الكتابة عن الحياة، أن الفاعل «واعٍ» بذاته، وأن ذلك الفاعل يَستحِقُّ أن يُعرف. لكن التدوين يَبني الذات، حتى وهو يُمكِّن هذا البناء من صنع رابطة مجتمعية؛ ومن ثَمَّ، فالتدوين هو تفاعل مهم للخاص والعام؛ حيث يعني إعلان المرء أفكاره، ومَخاوفه، ورغباته أو تسجيل الأحداث الدائرة في وطنه، وأنه جزء من المجتمع. والواقع أن المجتمع مبني من خلال هذا التشارُك في الفضاء الخاص.

التدوين

التدوين هو إنشاء يوميات على الإنترنت أو مدوَّنات تحتوي في الغالب على صفحات ويب شخصية، مُتاحة للعامة ليَقرءوها، ويستجيبوا لها. وأصبح التدوين يُعرَّف بأنه «كتابة تدوينات بتسلسل زمني معكوس عن موادَّ مؤلَّفة تأليفًا فرديًّا، تشتمل على إمكانية توفير روابط نصوص تشعبية، وتسمح في كثير من الأحيان بالاستجابة بالتعليق من جانب القراء» (برَنْز وجيكوب ٢٠٠٦: ٢-٣).

«تُمَدِّد» المدوَّنات الصفحات التعريفية الشخصية، داعيةً المُشاهد إلى لقاء الذات، التي تكون واجهتها العامة هي الصفحة التعريفية. تعلن عن الذات، أو بالأحرى عن تلك الجوانب من الذات التي يرغب الفرد في الإعلان عنها. (أظهرت الدراسات أن معظم الصفحات التعريفية لا تكشف بالضرورة عن شخصية المؤلِّف مطلقًا؛ انظر كيلوران ٢٠٠٣. ورجَّحت دراسات تجريبية، مثل دراسة شن وسكوت عام ٢٠٠٧، أن المُدوِّنين — وخصوصًا خارج الإنترنت — أكثر احتمالًا أن يَكشفوا عن أنفسهم في مدوَّناتهم.) ولذا، فقد لا تحمل المدوَّنات أي تمثيلات أو معلومات تخصُّ المؤلِّف (خفاء بصري)، وقد لا تعطي النصوص تفصيلات شخصية أكثر مما يظنُّ المؤلِّف أنها ضرورية (خفاء خطابي).

تنتج المدوَّنات «ذاتًا ذات روابط تشعبية»؛ حيث تكون كل ذات/مؤلِّف عقدة في شبكة جذورية مجزَّأة، غير خطية، ومُتسارعة الانتشار؛ كون كامل من المدوَّنات/الذوات الشخصية المترابطة.

اتجه الساسة باطراد إلى حيوات الإنترنت باعتبارها مكمِّلة لخُطَبهم وبياناتهم. ويستخدم الصحافيون المدوَّنات لينشروا تلك الأخبار التي لم تَنشرْها صحفهم أو لم تستطع نشرها. ربما لا تجد المناظرات والنقاشات الأكاديمية فرصة للطباعة، لكنها يُمكن أن تظهر بوضوح على الإنترنت في المدوَّنات. وربما كانت مدوَّنة خوان كول المُثيرة للجدل «التعليق الواعي» (www.juancole.com/) بآرائها المناهضة للحرب في العراق ذريعة لامتناع جامعة ييل من تعيينه — مُظهِرة بذلك التبعات السياسية العامة للكتابة عن شئون الحياة. تُشير المدوَّنات السياسية، مثل مدوَّنة كول، أو مدوَّنة سياسيٍّ ما، إلى أحد أبعاد التدوين، وهو تشجيع التحوُّل الديمقراطي، كما قال ستيفن جولمان (٢٠٠٥). أصبح هذا التحوُّل الديمقراطي ميسورًا من خلال ثلاثة ملامح أساسية للمدوَّنات. أولًا: تُشكِّل المدوَّنات جسرًا بين الفضاءَين الشخصي والمدني. ثانيًا: على خلاف الخطب والتصريحات الرسمية، تُتيح المدوَّنات صياغة أفكار ومعانٍ غير مُكتملة. وأخيرًا، تُتيح المدوَّنات للجميع — ما دام الكمبيوتر الشخصي متاحًا — الوصولَ إلى المناقَشات المحلية والوطنية والعالَمية. وخلافًا للنقاشات في البرلمانات أو المنتديات الخاصة، التي تتحكَّم في شرعية الحديث فيها المؤهلات، لا الآراء، تتيح المدوَّنات لأي أحد، ولكل أحد، اعتناق آراء سياسية وبلْوَرتها. والأهم، كما يرى كولمان، أن المدوَّنات تُمكِّن الساسة والأحزاب من «الاستماع» لتصاعد آراء ذاتية لكنها مهمة سياسيًّا.١ أما عن الأكاديميِّين، فتسمح لهم المدوَّنات بالتعليق على مجالات خبرة خارج مجالات خبرتهم المُباشرة، ولكنها مع ذلك تُثير نقاشات مُطَّلِعة وذائعة بشأن هذه المجالات (جلِن ٢٠٠٣).
مجال التعبير عن الذات من أجل الاستهلاك العام في التدوين مختلف بقدْر كبير عن أي نوع آخر من الاتصال. هذان هما المَنطق والروح الدافعان للتدوين: أنه يُمكن أن تكون هناك حرية بلا حدود لتعبير المرء عن ذاته، بقدْر ما يوجد عدد «يُحتمَل» أن يكون بلا حدود من القراء/المُستمِعين. كما تَسمح المُدوَّنات بنشر المعلومات التي تتخلَّى عنها وسائط التيار السائد. مثلًا، توفِّر المدوَّنات العسكرية من قبيل «ميلبلوجرز» روايات مفصَّلة لأنشطة الجيش الأمريكي في أجزاء مختلفة من العالم. وتُقدِّم «بلوجلِفْت» (www.gseis.ucla.edu/courses/ed253a/blogger.php) رؤًى نقدية لإدارة بوش السابقة، وخصوصًا «سياساتها» الحربية. وفي إيران، كان الصحافي سينا مُطَّلبي أحد المدوِّنين الأوائل الذين اعتُقلوا بتهم «تقويض الأمن القومي من خلال أنشطة أمنية» (كان وكلنر ٢٠٠٧: ٥٢٨). كما أصرت الصين على تسجيل المدوَّنات لدى الحكومة. وتُوضِّح هذه الأمثلة جميعًا قوة المدوَّنات باعتبارها وسائل إعلام اجتماعية، يتحاور فيها فرد مع العالم عن أمورٍ واقعيةٍ تحدث في العالم الواقعي، حتى لو كانت المحادثة بين أناس ربما لم يلتقوا قط.

«التدوين حواري بطبعه». فبخلاف كتابة سِيَر الحياة التقليدية، يتضمن التدوين آراءً واستجابات. هو محادثة مع العالم، يَستجيب ﻟ «الآخر»، ويكتب «استجابةً لاستجابة «الآخر»». المدوَّنات تصريحات خاصة مشبعة ﺑ «رُوح» التلقي/الاستماع العام (يتعلَّق الاستماع بحالة الهواتف المَحمولة). تُكتَب المدوَّنة وهي «تتوقَّع» استجابة، ويجعلها هذا حوارية. ومع ذلك، فمن الممكن أيضًا أن يُصبح التدوين مثالًا ﻟ «ثقافةٍ مجامِلة» تخدم فيها «المحادثات» غرض التواصل الاجتماعي، ولكن دون النية الإعلامية أو الحوارية (في ميلر ٢٠٠٨). بهذا المعنى، يُصبح التدوين حالات من حالات الثقافة الوسائطية، التي يُخضَع فيها محتوًى كبير لجهد ولغرض الحفاظ على الشبكة وحسب. ويُصبح غاية في ذاته، ولا يُشكِّل كامل نطاق «الاتصال».

ليست المدوَّنات «ثقافية فرعية» حقًّا بالضرورة؛ لأنها تُشكِّل الآن تيارًا سائدًا من استخدام الإنترنت وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات. ومع ذلك، تساعد المدوَّنات على توسيع التفاصيل الحميمية في صورة يوميات شخصية على الإنترنت — وهي تفاصيل لم تكن لتجد طريقها إلى الطباعة في كثير من الثقافات السائدة. تصلُ اليوميات الاعترافية التي تتيحها المدوَّنة إلى كثير من الناس؛ لأنَّها على الإنترنت ومجانية. وفي حالات معيَّنة، تشكِّل المدوَّنة الحميمية شكلًا ثقافيًّا فرعيًّا في الثقافة السائدة، حينما يُحجَب المجال الحميمي لأسباب دينية عن النظر العام. على سبيل المثال، كانت رواية «حسناء اليوم» (بِل دو جور) التي نُشرت دون اسم عام ١٩٩٩، مُقتبَسة، على ما يُفترَض، من مدوَّنة عاهرة لندنية، وأثارت ضجة في حينها. كما جعلت مدوَّنة نشرتها صحافية هندية حياتها الجنسية مادة للاستهلاك العام (thecompulsiveconfessor.blogspot.com). واجتذبَت اعترافاتها بممارساتها الجنسية المتعدِّدة أكثر من ٤٠٠ مشاهَدة في اليوم (أصبحت المدوَّنة مثار جدل وشهيرة بما يَكفي لكي تنشر عنها صحيفة «تليجراف» البريطانية تقريرًا مطوَّلًا؛ انظر ديلون ٢٠٠٧). في السياق الهندي، كانت هذه الشاكلة من المدوَّنات ثقافة فرعية (قدَّمت الإلهام لغيرها، مثل المدوِّن الثنائي الميل الجنسي، على مدوَّنة closetconfessions.wordpress.com) لأنها كانت تحاول فعل شيء رفضت فعله المطبوعات وثقافات التيار السائد في الهند: تحويل الحياة الحميمية إلى مستنَد عام.
ومن بين الأشكال الجديدة من الثقافات الإلكترونية، تُعَد المدوَّنات على الأجهزة المحمولة (الموبلوج)، تطبيقًا متزايد الشيوع من تطبيقات تكنولوجيات البرامج والاتصالات. ما يجعل هذا «البرنامج» الذي يَحظى بالشرعية الآن مذهلًا (تمتلك نوكيا برنامجها «لايفبلوج» على سبيل المثال، وهناك منصات مخصصة مثل www.rofay.com) هو أنه لم ينبثق من معامل التكنولوجيا أو البحوث والتطوير، ولكن أنشأه مجتمع برامج الكمبيوتر الاجتماعية والمُستخدِمون العاديُّون الموجودون على الشبكة العنكبوتية العالَمية؛ ومِن ثَمَّ فمجال التدوين هو عالَم مخلوق بالكامل تقريبًا من جانب مُستخدِمي التكنولوجيا.
تُسهم مدونات الأجهزة المحمولة في جعل الأخبار ديمقراطية، وتكسر بذلك احتكار شركات وسائل الإعلام والدولة؛ إذ يستطيع الأفراد أن يلتقطوا الصور ويصنعوا الأفلام، ويبثوا الأحداث عبْر الإنترنت من أي مكان في العالَم. ويُحوِّل الاتصال والتشابُك المتزايدان الجمهور والعوام إلى «غوغاء ذكية» (رينجولد ٢٠٠٢). في عام ٢٠٠٤، وزَّعت جامعة ساوث كارولينا هواتف مزوَّدة بكاميرات على صحافيِّين هواة، وعيَّنتهم مراقبين للانتخابات، مُزوِّدة إياهم بمنصَّة، هي «مدونات الأجهزة المحمولة لوصلة الانتخاب اللاسلكية» (www.wec-textamerica.com) مُغيِّرة بذلك طبيعة الانتخابات، ودور المجتمع الطلابي تغييرًا مُهمًّا. وحينما أبدى المُتحدِّث الرسمي الأمريكي ترِنت لوت بعض التعليقات العنصرية عام ٢٠٠٣، لم تنشر الصحف الرئيسية سوى النَّزر اليسير عنها. وكان مجتمع التدوين هو الذي نشر التفاصيل، وخلق حملة وعي عام أدَّت في النهاية إلى إزاحته.

وبذا فإن مدوَّنات الأجهزة المحمولة جزء من وسائل الإعلام «الاجتماعية»؛ حيث لا يُنتَج المحتوى دومًا من جانب شخص واحد، ولكنَّه يُصنَع من خلال الروابط، والمدوَّنات الأخرى، وتعليقات القراء. وفي هذا، فهي أيضًا بمَنزلة منصة مجتمعية، تبني جمهورًا من القراء والمُشاهِدين من خلال الاتصال «المضخَّم».

قد تكون مدوَّنات الأجهزة المحمولة موضوعية، أو شخصية، أو سياسية (انظر دورينج وجندولف ٢٠٠٦). وقد تكون بمنزلة أدوات للتواصُل الاجتماعي، أو طرقًا للتعبير عن آراء مهمة سياسيًّا وجادة. لكنها، في أغلب الحالات، سجلات للحيوات اليومية والشئون الاعتيادية. ولذا، من المهم أن نذكر أن واحدة من أشهر المدوَّنات اليومية الشخصية جاءت من العراق في يوليو ٢٠٠٤، وهي سجلات محدَّثة من جانب جنود أمريكيِّين نُشِرت هناك (ثم على موقع www.yafro.com و«كراشْذيسولْدْيَر» على موقع www.blueherenow.com). والسؤال هنا هو عن وسائل الإعلام الجماهيرية و«الفاعلية». يُمكن الآن أن يكون الأفراد مُنتبِهين للأوضاع الاجتماعية — لبيئتهم — وأن يُسجلوها بمساعدةٍ قليلة أو بلا مساعدة من دُور وسائل الإعلام المؤسَّسية.

مثال ذلك أن مراجعات الصحافيِّين للمنتَجات والأفلام لم تَعُد تشكل الكلمة الوحيدة عن الموضوع. فالمُدوِّنون يَكتبون في هذه الموضوعات باستجاباتهم التي قد تتعارَض بشدة مع ما طُبِع في المجال العام. ولذا يضيف التدوين بُعدًا جديدًا لموضوع «الحقيقة» نفسها بملء الفراغات، وتصويب الأخطاء في الوثائق والنقاشات المتعلقة بالمجال العام. ويجب أن يُعامَل التدوين على أنه امتداد للخطابات العامة السائدة وبديل منها، ومن ثَمَّ فهو يُشكِّل ثقافة فرعية.

تتشاطر مدوَّنات العمل المعلومات بشأن مِهَنٍ معيَّنة، ولقيت نجاحًا كبيرًا. والواقع أن هيئات الشركات تسعى في هذه المرحلة إلى تحويل المدوَّنات إلى الربح، مستخدمةً المُدوَّنات الشهيرة لبث معلومات عن المنتجات الجديدة (باور ٢٠٠٦).

(٢) كاميرات الويب والنساء

اشتُهرت كاميرات الويب بأنها وسيلة لبثِّ ذات المرء مع مرئيات مصاحِبة، تبث تليفزيونيًّا الحياة اليومية والمعتادة للأفراد العاديين، وتُوفِّر الفرصة ليكونوا «مرئيين». هذه تكنولوجيات ﻟ «تمثيل الذات من أجل الاستهلاك العام»، وهي شكل ثقافي إلكتروني يجمع بين عمل الهواة في تصوير مقاطع الفيديو (الفيديو المنزلي)، والمسرح، وسِيَر الحياة، والفرجة.

افترض المعلِّقون أن مثل هذا الشكل من التمثيل يُمدِّد دور المُشاهد ويوسِّعه، متسببًا في نزعة تطفلية مفرطة (جون دفوراك ٢٠٠٠، مقتبس في وايت ٢٠٠٣: ١٠). إن أكبر عوامل رواجه هي «حيويته»؛ إذ تستطيع كاميرات الويب البث التليفزيوني على مدار اليوم طوال الأسبوع. ولذا، تجعل كاميرات الويب المُشاهد قريبًا من الواقع بقدْر الإمكان دون تدخُّل أو وساطة ظاهرَيْن من التكنولوجيا.

تُربَط كاميرات الويب عمومًا بسِيَر الحياة، حتى بينما تُوازي واقعية كاميرا الويب الأفلام الوثائقية. فبرامج تليفزيون الواقع، من قبيل «الأخ الأكبر»، هي نسخ من الثقافات الفرعية لكاميرات الويب منقولة بواسطة وسائل الإعلام.

ما تُمثِّله كاميرات الويب هو شكل ثقافي فرعي مِن تحويل الشأن اليومي إلى فُرجة. وهي تمدُّ المرأة والرجل العاديَّيْن بالقدرة على وضع نفسَيهما على الإنترنت (وإن كانت لا تضمن لهما المشاهَدة). يكون الأفراد أحرارًا في تحقيق رغبتِهم في تسجيل ما قد لا يجده غيرهم جديرًا بالتسجيل. وعلى خلاف البرامج الحوارية في الشئون اليومية، والمسلسلات، والوثائقيات الفيلمية من مجمَل الوسائط، تَحظى كاميرات الويب بعلاقة مختلفة بالعالم المادي اليومي للفرد. تَصنع كاميرات الويب منَّا جميعًا أبطالًا. وتحوِّل التفاصيل المُعتادة لحيواتنا اليومية إلى موضوع للمسلسلات الاجتماعية المَعنية بالشئون اليومية، وتُخرجها للنور ليراها الناس. بعبارة أخرى، تَسمح لنا بتحويل حياتنا اليومية إلى مسرح، وتدعونا لأن نكون «مُؤدِّين»، وصِلَتها بالعالم الواقعي هي أنها تتقدَّم خطوة إضافية في عرض العالم من خلال الوسائط؛ فهي تحوِّل شأننا اليومي إلى دراما للاستهلاك العام (أو، كما افترضتُ في الفصل الثاني بشأن الثقافة الإلكترونية الشعبية، تُحوِّل فعلًا شخصيًّا مثل التسوق على الإنترنت أو التصفُّح إلى عرضٍ تُراقبه محرِّكات البحث، ومقدمو الخدمات، وغيرهم).

تُمثِّل مواقع كاميرات الويب التي تشغلها النساء شكلًا ثقافيًّا فرعيًّا، لقيَ شعبية واسعة في السنوات الأخيرة. تُقدِّم مواقع كاميرات ويب النساء تفاعلًا معقَّدًا بين الهُوية، وتَمثيل الذات، والنوع، والفُرجة. حينما تضع الكاميرا صورة المرأة موضع الشيء الجاهز للاستهلاك، فلا يكون ذلك مثلما تُحوِّلها السينما إلى شيء «خالص». لا تسمح كاميرات الويب بدخولٍ حرٍّ للمُتفرِّجين (الذكور) إلى مجال النساء الخاص.٢ الفرق هنا هو أنه في حالة مواقع كاميرات ويب النساء، تتحكَّم المرأة في تمثيلها.٣ مُعظَم مواقع كاميرات الويب التي تشغلها نساء واضحة في أنها، بصرف النظر عن النظرة المُهيمنة، وهي أن فتيات كاميرات الويب تُعرضْنَ موادَّ خلاعية و/أو إباحية، «لا» تقصد خدمة المشاهدين بهذه الطريقة (وايت ٢٠٠٣: ١٦). بهذه الطريقة، تدَّعي النساء تحكُّمهن في التكنولوجيا، وفي تمثيل ذواتهن، وفي المشاهدين وهذا هو الأهم. ولذا، يصير هذا الشكل الثقافي الفرعي نوعًا من تغيير معادلة القوة القائمة على النوع في العالم التكنولوجي وفي تَمكين المرأة.

(٣) الجريمة الإلكترونية والاختراق

إذا كانت المُدوَّنات وكاميرات الويب تُمثِّل استخدامًا ثقافيًّا فرعيًّا شبه آمن للتكنولوجيات الثقافية الإلكترونية؛ فالجريمة الإلكترونية والاختراق يمثلان شكلًا «أخطر» ولا شك. الكمبيوتر، والإنترنت، والشبكات الإلكترونية، وتكنولوجيات المعلومات الجديدة كلها أنتجت تهديدات مُستجدَّة للفرد، وللمؤسسات، وللدول القومية.

  • قد تُسرَق التفاصيل الشخصية من كمبيوترك الشخصي، وتُباع أو تُسلَّم إلى أطراف ثالثة.

  • قد تُسفِرُ رسائل البريد الإلكتروني عن تخريب قرصك الصلب من خلال النشر المتعمَّد للفيروسات.

  • قد تُوضع الرسائل والمعلومات المسيئة للسمعة على المواقع الإلكترونية للحكومات أو الشركات.

  • تَشمل جرائم تعطيل الخدمات إغراق مَصدرِ كمبيوترٍ ما (مثل خادم الويب) بطلَبات أكثر مما يستطيع التعامل معها. ويؤدِّي هذا إلى تعطُّل الخادم، ومن ثَمَّ حرمان المُستخدِمين الشرعيِّين من الخدمة التي يُقدِّمها.

  • التنكُّر ظاهرة مُتكرِّرة؛ حيث يُمكِن لشخصٍ ما، من خلال سرقة كلمة السر، أن يَسرِق هُوية بكاملها.

  • تحديد موقع معاملات مالية إلكترونية واعتراض سبيلها قد يؤدِّي إلى واقعة سرقة حقيقية.

  • أدَّى التحرُّش الإلكتروني إلى حالات شهيرة من الولع الجنسي بالأطفال؛ حيث «يُهيَّأ» الأطفال من خلال التفاعُل على الإنترنت، تَمهيدًا للقاءات على الأرض مع المُعتدين عليهم.

  • يُطلِق دعاة التفوُّق العنصري البِيض وجماعات الجناح اليميني المتطرف حملات الكراهية باستخدام الشبكة (عادة ما تُسمَّى «الكراهية الإلكترونية»).

هذه بعض أشكال الجريمة الإلكترونية الأكثر ذيوعًا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، التي يُعلَن عنها بتكرار مُثير للقلق في الصحف، وبيانات الحكومات، والدراسات المسحية (دولاند وآخرين، ١٩٩٩). مع تقدُّم «العصر المعلوماتي» (وبستر ٢٠٠٣)، بدأ الجانب الأكثر قتامة من الشبكات الإلكترونية والإنترنت يُكشَف خلال عَقد التسعينيات من القرن العشرين. توثِّق الشركات والحكومات تهديدات لأرباحها، وللأمن القومي، وللبِنى الاجتماعية. واكتسب الإرهاب الإلكتروني في فترة ما بعد ١١ سبتمبر دلالة جديدة مع اكتشاف أن الإرهابيِّين هم أيضًا في الوقت الراهن «مُحترفو إنترنت». إن التهديدات الموجَّهة إلى الأسرة، والأطفال، والأرباح، والدولة القومية، كلها مرتبطة باطِّراد بالثقافات الإلكترونية للعصر الرقمي، ومَصحوبة بدعوات لتشديد الأمن، وتنظيم الإنترنت، وصوغ القوانين المتعلِّقة بالجريمة الإلكترونية.

من المُهم هنا أن نلحظ التمييز بين «الجريمة» و«الانحراف»؛ لأنه ليس كل الأنشطة على الشبكة العنكبوتية العالَمية، أو استخدام الكمبيوترات، قابلًا للتصنيف بأي قدْر من اليقين، على أنه «إجرامي». تصف «الجريمة» مجموعة من الأفعال المحظورة بحكم «القانون»، وتُشكِّل بذلك انتهاكات يُمكِن تمييزها، وتستأهل العقوبات من جانب الدولة. أما «الانحراف» فيشمل أفعالًا تتنافى وتتعارض، أو تكون في علاقة عدائية مع الأعراف أو المعايير «الاجتماعية»، والقيم الأخلاقية الراسخة، والممارسات الثقافية غير الرسمية؛ أي التي لا يُنظمها القانون بالضرورة. مشكلة الجريمة الإلكترونية هي أنَّ لدى الأمم تعريفات ورؤًى مختلفة بشأنِ ما يُشكِّل جريمةً أو انحرافًا.

برز مع صعود تكنولوجيات المعلومات والاتصالات شكل جديد من المُجرمين. فالتكنولوجيات من قبيل الاتصال بوساطة الكمبيوتر والتواصُل الشبكي التي تُشكِّل التروس الحيوية في عجلات الشركات المتعدِّدة القوميات هي أيضًا، وللمفارقة، أساليب الجريمة الإلكترونية. تُتيح الطبيعة العالمية للإنترنت للجريمة أن تجتاز الحدود أيضًا؛ حيث لا يَلزم أن يتشارك الضحايا والمعتدون في الفضاء الجغرافي نفسه.

تُعرَّف الجريمة الإلكترونية بأنها «أنشطة بوساطة الكمبيوتر، إما غير مشروعة، أو تُعَد محظورة من قِبَل أطراف محدَّدة، ويُمكن أن تُمارَس من خلال الشبكات الإلكترونية العالمية» (توماس ولودر ٢٠٠٠: ٣). هذه الأفعال «المحظورة» تُصنَّف على أنها إجرامية بموجب «القانون» في ثقافات ودول مختلفة. ومن ثَمَّ فالثقافات الإلكترونية «تيسِّر» أنواعًا معينة من الجريمة؛ لأنها «تُمكِّن من أنواع معينة من التفاعل الاجتماعي» (التواصل الجماهيري، والحديث الجماعي، والتخفي، والاتصال الفوري، والموقعية اللامكانية، وتشتُّت «المستخدِمين»). وعلى الرغم من أن الأفعال — العنف، والسرقة، والتحرُّش — ليست بذاتها جرائم جديدة، أو ليست صادمة بقدْر أكبر مما تتَّسم به الأشكال الأسبق، فإنها اكتسبت أهمية جديدة بالتحديد بسبب الدور التيسيري الذي تلعبه تكنولوجيا الاتصالات في تنفيذها. معنى ذلك أنه بينما لا تكون السرقة أو العنف نفسيهما جديدَيْن، فالجديد هو أساليب ارتكابهما، والمدى الذي يبلغانه، ودرجة الضرر، وقابلية التحقيق المتزايدة التي تُسهلها التكنولوجيات الجديدة.

على المستوى الفردي، تشتمل الجريمة الإلكترونية على انتهاك الخصوصية، وإباحية الأطفال، والاحتيال باستخدام البطاقات المصرفية. الإباحية، والإغواء، والمواد الصريحة جنسيًّا، أو الدعوة إلى قتل الميئوس من شفائهم، لا تحتاج بالضرورة إلى حظرها قانونيًّا في ثقافات محدَّدة، ولكن هذه أفعال قد تُعَد مستنكرة اجتماعيًّا، ومن ثَمَّ فمن شأنها أن تُمثِّل «انحرافًا»، لا «جريمة».

وعلى المستويَيْن الأوسع، القومي والعالمي، تشتمل الجريمة الإلكترونية على اختراق بنوك المعلومات العسكرية والمصرفية، والتضليل، والأنشطة التي تعوق عمليات الدولة. بالفعل، بحلول عَقد التسعينيات من القرن العشرين، أضحت الجريمة الإلكترونية شائعةً بما يكفي لتفويض خلية منفصلة في المملكة المتحدة — الوحدة الوطنية المعنية بجرائم تكنولوجيا الكمبيوتر العالية — التي اندمجت فيما بعد مع الوكالة المعنية بالجريمة المنظمة الخطرة.

حدَّد «تقرير مشروع الدفاع الوطني الصادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في مايو ٢٠٠١ الأنماط التالية من التهديدات في «البيئة الجديدة» لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات المعولمة:
  • التهديد بإرباك تدفُّقات الاتصال، والمعاملات الاقتصادية، وشبكات الطاقة الكهربائية، والمفاوضات السياسية.

  • التهديد باستغلال المعلومات الحساسة، أو المملوكة، أو المصنَّفة.

  • التهديد بالتلاعب بالمعلومات لأغراض سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو تحريضية.

  • التهديد بإتلاف المعلومات، أو البِنى التحتية الحساسة (بورشجريف وآخرين ٢٠٠١).

ويقدِّم ديفيد وول تصنيفًا جيدًا للجريمة الإلكترونية.

  • (١)

    التعدِّي الإلكتروني: اقتحام ملكية/قاعدة بيانات أناس آخرين، والتسبُّب بالضرر (ومن ذلك الفيروسات، وطمس المواقع الإلكترونية، والاختراق).

  • (٢)

    المخادعات الإلكترونية والسرقات: سرقة الأموال أو الممتلكات وانتهاكات الملكية الفكرية (ومن ذلك احتيالات البطاقات الائتمانية).

  • (٣)

    الإباحية الإلكترونية: انتهاك الأعراف والقوانين المتعلِّقة بالإباحية.

  • (٤)

    العنف الإلكتروني: التسبُّب بالعنف — النفسي و/أو الجسدي — للشخص (ومن ذلك الاغتصاب الإلكتروني، والتحرُّش، ورسائل الكراهية) (٢٠٠١: ٣–٧).

ربما يكون تلميذ المدرسة الثانوية الدءوب أو المخترِق مهندس البرامج هو أشهر مجرمي العصر المعلوماتي. كما تستخدم الجماعات المتطرفة والمنشقون السياسيون الإنترنت لأغراضهم. لكن ربما يكون الاختراق هو أكثر أشكال الجريمة الإلكترونية «جاذبية».

الاختراق

الاختراق هو الدخول غير المصرَّح به لقاعدة بيانات كمبيوترٍ ما لأي غرض. وإذ يُعامَل في الوقت الراهن باعتباره شكلًا جديدًا من أشكال الجريمة، أدَّى الاختراق أيضًا إلى تمجيد المخترِق، على اعتبار أنه — يفترض دائمًا أنه ذكر — يكسر القواعد الأمنية حينما يَخترق أنظمة الكمبيوتر. أما «الناشط الاختراقي» فهو مُخترِق يستخدم مهاراته الكمبيوترية لغاياتٍ سياسيةٍ من أجل إحداث تغيير سياسي.

أثار الاختراق نوعَين جد مختلفَيْن من الاستجابات الثقافية. أحدهما يُعامِل المُخترِق باعتباره شاذًّا اجتماعيًّا، ومجرمًا، وسارق بيانات. والآخر يرى المُخترِق بطلًا قادرًا على تخريب وتعطيل أنظمة أمن الشركات الاستغلالية المتجبِّرة، التي تُبنى أرباحها على العمل الاستغلالي والسِّرِّية. وسنتفحَّص كلتا الرؤيتين هنا.

يؤكِّد تصنيف الاختراق على أنه جريمة، وشيطنة المُخترقين تضمن أن الدولة والشركة تتحكَّمان في تعريف «السواء» في الاتصالات بوساطة الكمبيوتر، مع تبرير السيطرة والمُراقبة والعقاب في الوقت ذاته أيضًا. وفي كثير من الحالات، كما يَفترض نيسنباوم (٢٠٠٤)، تكون الشيطنة والتجريم مُرتبطَيْن بمصالح راسخة (مؤسَّسية) في المعلومات والوسائط الرقمية. نشأ للجريمة الإلكترونية وجود اجتماعي في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته حينما عُرِّفت مجموعة متنوعة من المؤسَّسات الاجتماعية والفاعِلين الاجتماعيِّين — مديري الموقع، ومُتصفِّحي المواقع، ومزودي الخدمات، واختصاصيي الجريمة الإلكترونية. هذه أدوار «محدَّدة». ولكنَّ هناك أيضًا فاعلين، أدوارهم ليست ضمن هذه المجالات المعرَّفة ومن ثَمَّ المشروعة. مثل هؤلاء الفاعلين هم المخترقون. وهم يمثِّلون اللاسلطوية، ومجافاة القانون، والمقاوَمة — وخصوصًا تجاه «الملكية» الخاصة (البرامج المحمية بحقوق النسخ) — وتفكيك المركزية. تضع مقولة نيسنباوم المخترقين والاختراق في سياقاتهما الاجتماعية المتعلِّقة بالقوانين، والمؤسَّسات، والأرباح، والطبيعة الجرميَّة، وتُظهر بذلك كيف أن العمل على الإنترنت يتَّصل في نهاية الأمر بما هو واقعي ومادي ويستجيب لهما. ويصير هذا أوضح بالطبع حينما يُعتَقل المخترِق في تقارير إخبارية متلفزة على نطاق واسع: «جسد» المختِرق، الذي أمضى حياته كلها في عالَم افتراضي، يُنتَزع إلى المحاكم والسجون (بخصوص جسد المخترق، انظر دي توماس ٢٠٠٢).

ما يُحرِّك المخترِق أكثر من الربح — رغم أنه قد يسعى للربح المالي من العملية — هو تعقيدات تكنولوجيا الكمبيوتر والإعدادات الأمنية. التكنولوجيا ذاتها هي التي تدفع المخترِق «البريء» أو المَهووس بالتكنولوجيا. ومع ذلك، يشرع المُخترقون «الأشرار» في نشر الضرر (انتزاع المعلومات وإفساد الشبكات). ويُصبح المُخترقون رموزًا للمقاومة الثقافية للتكنولوجيا لأنهم يَرمزون، كما يوحي التعريف، للدخول «غير المصرَّح به».

المُخترقون الذين يقتحمون الأنظمة والشبكات ليسرقوا البيانات من أجل بيع المعلومات يَنتمون إلى طبقةٍ مختلفة كليًّا. هذا النوع من الاختراق تجسُّسي، وخصوصًا، التجسُّس على الشركات؛ حيث تُترجَم المعلومات إلى أموال. سرقة الهُويات الإلكترونية، والتحويل المالي المحظور، و/أو بيع المعلومات للمُنافِسين التجاريِّين، كل هذا يُشكِّل عمل «مرتزقة المعلومات».

أخيرًا، هناك الجماعات السياسية والمتعاطفون معها، الذين يَستخدمون الكمبيوترات، والشبكات الإلكترونية، ومعالجة المعلومات لخدمة غاياتهم السياسية. الأنشطة السياسية المحظورة، وحملات الكراهية، وجمع الأموال من قِبَل الانفصاليِّين، والحركات الاجتماعية المشابهة التي تُخرِّب الدولة، بمصاحبة عمليات عسكرية في الزمن الفعلي، أو دون ذلك، تُيسِّر لها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات عملها. والتمرُّد الإلكتروني والإرهاب المعلوماتي — المعروف في الغالب باسم الإرهاب الإلكتروني، الذي تُعرِّفه دوروثي دينينج (٢٠٠٠) بأنه «التقاء الإرهاب والفضاء الإلكتروني» — كلاهما يُطوِّعان شبكات الدولة نفسها وبنياتها لتشجيع الغايات السياسية الهدامة.

غير أن المُخترِقين ليسوا محض مجرمين مهووسين بالتكنولوجيا. فالخوف المرضي من المُخترقين واحتقارهم، كما يُوضِّح دوجلاس توماس (٢٠٠٠) بدقة بالغة، يُخفيان خوفًا من التكنولوجيا ذاتها. فالتكنولوجيا المعاصرة مبنية على منطق السِّرِّية وثقافتها. تحكم مجال الفضاء الإلكتروني كلمات المرور، والشفرات. وكما يُبيِّن توماس، فكثيرًا ما يُمكن اعتقال المُخترِق لمجرد امتلاكه مثل هذه الكلمات المرورية والشفرات؛ حيث يعني امتلاك الشفرة أداء فعل الاختراق. كلمة المرور التي يُفترَض أن تكون سرًّا، التي تُعرِّف المستخدم باعتباره مستخدمًا شرعيًّا، تُسرَق وتُستخدَم لدخول الأنظمة بطريقة محظورة. وخلال عملية التحقُّق من الهُوية هذه، يُصبح أي شخص يمتلك كلمة المرور شرعيًّا؛ إذ يدخل المخترِق إلى النظام بصرف النظر عمَّن يكون في الواقع. بعبارة أخرى، يعني امتلاك كلمة المرور امتلاك هُوية افتراضية بالنسبة إلى الشبكة الإلكترونية أو قاعدة البيانات بصرف النظر عما تكونه هُوية المخترِق في الحياة الواقعية. والاختراق مبني على هذا الفصل للجسد من هُوية المخترِق. ويقودنا هذا إلى سِمتَيْن مُميزتَيْن للاختراق والجريمة الإلكترونية.

أولًا: فيما يخص هيئات إنفاذ القانون، تستلزم الجريمة جسدًا، ومكانًا محليًّا، وتحديدًا مكانيًّا. وكما يُوضِّح مجيد يار (٢٠٠٦: ١٨) فإن الجرائم الإلكترونية محلها «بيئة غير مكانية»: تعريف المواقع ذات السمات المُغرية بالجريمة وضبطها شُرَطيًّا — كما يُفعَل في الأشكال المعتادة من إنفاذ القانون — مُستحيل. وعلاوة على ذلك، فلا مجال لسؤال: «أين وقعت الجريمة؟» لأنه كما ذكرنا سابقًا، لا يلزم أن يشترك الجاني ومسرح الجريمة في الفضاء الجغرافي نفسه.

ثانيًا: على خلاف الأمر في الجريمة «التقليدية»؛ فالمعتدون هنا أناس مزودون بقدْر أكبر من القدرة على الاتصال، والدخل، والامتيازات، والتعليم، ويشغلون الطبقات المتوسطة أو حتى العليا من النظام الاجتماعي. أما الأنماط المُعتادة من السلوك الإجرامي — الخلفيات الاقتصادية الاجتماعية الأفقر، والحرمان، والافتقار للموارد، والتعليم الأدنى من المتوسط — فلا تَنطبق على المخترقين (يار ٢٠٠٦: ١٩).

يحظى المخترقون، كما تُقدِّمهم أفلام من قبيل «ألعاب الحرب» (وور جيمز ١٩٨٣) و«المخترقون» (هاكرز ١٩٩٥)، بِسِمات معينة: هم صغار جدًّا عادةً، من أواسط العقد الثاني إلى أواخر العقد الثالث من العمر، وذكور، وقليلو الإنجاز في المجالات الأخرى، ويَفتقرون للمهارات الاجتماعية ومهارات التعامل مع غيرهم من الأشخاص، ومفتونون بالتكنولوجيا. تُترجَم المخاوف بشأن الثقافات الفرعية، باعتبارها رمزًا ﻟ «تشظِّي المجال الاجتماعي» (على غرار العنوان الفرعي لمؤلَّف كريس جنْكْس ٢٠٠٥ عن الثقافة الفرعية)، إلى مخاوف بشأن أفرادٍ نابهين أذكياء، ولكنهم غير أخلاقيِّين، مسئوليتهم الاجتماعية واضحة بسبب غيابها. وهنا يُرى اختراق بنوك معلومات الشركات أو مقاومة سلطة الدولة باعتبارهما انهيارًا للمجال الاجتماعي أكثر منهما مقاوَمة لنظام متسلط واستغلالي. ربما تبدو البراعة في استخدام التكنولوجيا مصدر تهديد للكثيرين، لكن المُخترِق أيضًا يُثير استجابة معجِبة بسبب قدراته الفريدة (دولاند وآخرين ١٩٩٩: ٧٢٠).

يُمكن التعامل مع الاختراق بوصفه شكلًا من أشكال «المرور» و«التَّنكُّر»؛ ففي بيئة تتَّسم فيها الهُويات بالطفو الحر والغموض، يدَّعي المخترِق وجوهًا وهُويات عدة عن عمد. يُنظَر إلى الاختراق باعتباره معاديًا للمجتمع، وللمفارقة، في بيئة تُشجِّع على خلق الهُويات الزائفة و/أو التي لا يُمكن التحقُّق منها.

هذه القدرات لا تنحصر في مسألة القدرة على النفاذ إلى قواعد البيانات بطريقة غير مشروعة؛ فلطالما كان المخترقون في مقدمة ثورة الكمبيوتر؛ لأنهم يكتبون شفرات جيدة تمامًا بقدْر أي شفرة «مشروعة». ولذا فبرامج الكمبيوتر التي تُمكِّن الناس من دخول مواقع الحكومة أو الشركة هي أيضًا شفرات، تشبه برامج مايكروسوفت على سبيل المثال، لكن عواقب استخدام هذه البرامج جد مُختلفة عن تشغيل «إنترنت إكسبلورر». طوَّر المُخترقون برامج معقدة (BO2K, L0phtCrack, Floodnet; انظر فرنل ٢٠٠٢: ١١٩، ١٢٣، ١٧٨–١٨١) تُساعد هجمات «تعطيل الخدمة» وسرقة كلمات المرور (التي تُسمَّى فنيًّا «التصيُّد»). إذا كان كاتب البرنامج الشرعي يُطوِّر شفرات من أجل استخدامات/مستخدمين جديرين بالقبول اجتماعيًّا فالمُخترِق يُطوِّرها من أجل غرض مختلف ومحظور. لا ينتقص هذا من حقيقة أن المُخترقين، بصرف النظر عن استخدامهم المحظور، يدفعون تكنولوجيا الكمبيوتر أو البرامج قُدمًا؛ فالإدراك الاجتماعي لعملهم هو ما يجعل ابتكاراتهم «غير مشروعة».

مثَّلت جماعات المُخترِقين في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته (ليجن أوف دوم، وماسترز أوف ديسبشن، وكايوس كمبيوتر كلَبْ) «تشكيلًا اجتماعيًّا جديدًا» ومعزَّزًا بالتكنولوجيا. وهنا، بدلًا من نظرة المُخترِق المُنعزِل المعادي للمجتمع، نشهد شكلًا جديدًا؛ جماعة من المخترقين الذين يقاومون السلطة ويَنتهكون أنظمة الأمن. ومثل فِرَق «البانك» والثقافات الفرعية، تُشكِّل جماعات المُخترقين سياسةً دنيا على مستوى مستخدمي الكمبيوتر. تجمع مؤتمرات الاختراق هؤلاء الأفراد الموهوبين، مثل أي شكل «مشروع» من أشكال التآلف الاجتماعي.

يزعم المُخترِقون، على الأقل وفق «بيان المُخترقين» (الذي نُشر لأول مرة تحت عنوان «ضمير مخترِق»، عام ١٩٨٦) الذي كتبه لويد بلانكنشيب (متاح على www.phrack.org/archives/7/P07-03)، أن الشركات الرأسمالية الاحتكارية لا يَنبغي أن تتحكَّم في خدمات من قبيل الإنترنت والهاتف. ولا يُقدِّم البيانُ المُخترِقَ بوصفه مجرمًا، ولكن بوصفه مستكشفًا فكريًّا يتحدَّى النظام الذي يوجهه الرأسماليون المتربِّحون ويخترقه. يُصوِّر البيان المخترِقَ بأنه فرد موهوب يهدِّد «النظام» الذي يسعى إلى السيطرة على المعرفة والبيانات. وأخيرًا، يرى البيان أيضًا أن المخترقين يسهمون في القضايا الاجتماعية والعدالة العالمية؛ لأنهم في أغلب الأحوال جزء من الاحتجاجات المناهضة للعنصرية والمناهضة للحرب.
نال المخترِقون قدْرًا كبيرًا من انتباه المفكرين وباحثي البرمجيات لأسباب أخرى. فبرفضهم التعامل مع الاختراق ببساطة على أنه نفاذ إجرامي إلى بنوك البيانات، ابتدع باحثو معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا على سبيل المثال «خُلُق المخترِق» (وهو مصطلح اشتقَّه وروجه ستيفن ليفي في كتابه «المُخترِقون: أبطال ثورة الكمبيوتر»، ١٩٨٤). دافع «خُلق المخترِق» عن ستة مبادئ أساسية في الاختراق، وهي:
  • يجب أن يكون الوصول إلى الكمبيوترات مجانيًّا، وحرًّا، وشاملًا.

  • يجب أن تكون المعلومات مجانية.

  • يجب تفضيل اللامركزية على السلطوية.

  • لا يُمكن تعريف المخترِقين وفق مؤهلاتهم التعليمية أو مسارهم المهني.

  • يُمكن أن تكون الكمبيوترات مصدر جمال وفن عظيمَيْن.

  • تستطيع الكمبيوترات تحسين حياتكم.

هنا، يَصير الكمبيوتر نفسه مصدرًا لعالَم حياةٍ أفضل. يعيد هذا تشكيل إدراك التكنولوجيا؛ فالكمبيوتر والشبكة العنكبوتية العالمية هما مصدران للأمن والبهجة والإيلاف الاجتماعي على المستويَيْن الفردي والجمعي.

ويَفترض مُنظِّرو العلوم الاجتماعية، بناءً على أفكار تشكيلات الثقافات الفرعية، أن الاختراق، شأنه شأن أي شكل من جنوح الأحداث، موقعه في السياق الاجتماعي. فجماعات الأقران، وضغوط الجماعات، والحاجة إلى الاعتراف، والمُقايضات المتبادَلة بشأن البرامج، هي أشكال مُستدامة من التفاعُل والسلوك وسط ثقافة المُخترقين الفرعية (روجرز ٢٠٠٠). أما وصْف دوروثي دينينج للمُخترِق وثقافته (ضمير الغائب المذكر متعمَّد بالنظر إلى حقيقة أن الدراسات كشفت عن غلبة الرجال في ثقافات المخترِقين؛ انظر، مثلًا، يار ٢٠٠٦: ٣٥-٣٦) فيُصوِّر الأساس الاجتماعي للاختراق:

معظم المخترِقين يفعلونه [الاختراق] من أجل التحدِّي، والإثارة، والمتعة الاجتماعية. ورغم أن الصورة النمطية الشائعة للمُخترِق هي شخص غير متكيف اجتماعيًّا ويتحاشى الناس لصالح الكمبيوترات، فالأرجح أن المخترقين ينهمكون في ذلك من أجل الجوانب الاجتماعية. يودون التفاعل مع الآخرين على لوحات النشرات، ومن خلال البريد الإلكتروني، وبطريقة شخصية. يتشاركون القصص، والشائعات، والآراء، والمعلومات؛ ويعملون على مشروعات معًا؛ ويُعلِّمون المخترقين الأصغر سنًّا، ويلتقون في مؤتمرات ويتعرَّف بعضهم على بعض … وبتشاطُر الأسرار التي يعرفونها، يكتسب المخترقون أيضًا الاعتراف من أقرانهم، والمدخل إلى جماعات المخترِقين الحصرية (دينينج ١٩٩١).

وهكذا، يَنظُر المُخترِقون إلى أنفسهم على أنهم يساهمون في تشكيلٍ ثقافي، وإن يكن تشكيلًا غير مرخَّص أو غير مقبول. لهذا السبب، يمكن تصنيف ثقافة المُخترِقين على أنها ثقافة فرعية؛ لأنها تعيد تشكيل التكنولوجيا والعلاقات الاجتماعية، بهدم القواعد، والقوانين، والأعراف الاجتماعية فيما يخصُّ استخدام التكنولوجيا. إنها تعمل على الضد من التنظيم والإدراك الرسميَّيْن الرأسماليَّيْن الاحتكاريَّيْن للتكنولوجيات الجديدة.

(٤) وسائل الإعلام التكتيكية، والنشاط الاختراقي، والإرهاب الإلكتروني

يُمكن وصف الإرهاب الإلكتروني بأنه صورة متطرِّفة من الاختراق السياسي؛ حيث يُطوِّع المتطرفون والإرهابيون والنشطاء الكمبيوتر وتكنولوجيات المعلومات لأغراض العنف أو التخريب أو الاحتجاج، الموجَّهة ضد أشخاص ومنظمات وجماعات مسيطرة أو دول معيَّنة. ولكي نرى الإرهاب الإلكتروني شكلًا من الاختراق السياسي، نحتاج إلى أن نَعُدَّه «نشاطًا اختراقيًّا» hactivism (أو اختراقًا يقترفه النشطاء، انظر ما سيأتي).

ليست أشكال النشاط التكنولوجي الأخرى «إجرامية»، ولكنَّها تُشكِّل مُكوِّنًا مهمًّا من مكوِّنات العالم السياسي للثقافات الإلكترونية. والنشاط الشبكي هو استخدام البرمجيات والإنترنت لنشر الدعاية، والحملات، والاحتجاج.

(٤-١) وسائل الإعلام التكتيكية وحرب المعلومات

يستند مصطلح «وسائل الإعلام التكتيكية» إلى مصطلحٍ أسبق منه، وهو «التليفزيون التكتيكي»، وهو مصطلح سُكَّ خلال مؤتمر «الدقائق الخمس القادمة» في أمستردام عام ١٩٩٣. كانت الفكرة هي استكشاف الإمكانية التكتيكية للأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية، وخصوصًا كاميرات تسجيل الفيديو، بوصفها وسيلة للتعبئة الاجتماعية. وفي عام ١٩٩٦ شكَّلت جماعة من نشطاء وسائل الإعلام في روما «طاقم الوسائط الإعلامية التكتيكية» (www.tmcrew.org) لمتابعة أخبار التشياباس والساباتيستا، ونعوم تشومسكي، والحركة النسوية، والإذاعة الحرة.

وسائل الإعلام التكتيكية

تُبنى وسائل الإعلام التكتيكية على تحالُفات مؤقتة تُثيرها مسألة آنيَّة أو حدثٌ آني يستخدم أشكال وسائل الإعلام من أجل الاحتجاج، والحملات، وتنظيم الآراء من أجل أغراض مناهضة للحكومة أو مناهضة للشركة.

وسائل الإعلام التكتيكية، كما يكتب جيرت لوفينك، هي بالأساس «وسائل إعلام الحملات، لا الحركات الاجتماعية ذات الأساس العريض» (٢٠٠٢: ٢٥٥). ووسائل الإعلام التكتيكية، كما تُعرِّفها كريتيكال آرت إنسامبل، هي:

استخدام نقدي وتنظيري لممارسات وسائل الإعلام، يوظف كلَّ أشكال وسائل الإعلام القديمة والجديدة، البسيطة والمعقدة، من أجل إنجاز مجموعة متنوعة من الأهداف غير التجارية المحدَّدة، وتشجيع كل أنواع المسائل السياسية التي يُحتمَل أن تكون هدامة (٢٠٠١: ٥).

وهي تشتمل على التكتيكات التضليلية، والدعاية الزائفة، والتشريعات التنظيمية المعادية لحقوق النشر أو الخالية منها (يَحمل كتاب «المقاومة الرقمية»، الذي أصدرته كريتيكال آرت إنسامبل، على صفحته التي تتضمَّن حقوق النسخ، عبارة «ضد حقوق النسخ، كريتيكال آرت إنسامبل»). يُحصي لوفنيك النماذج الآتية من وسائل الإعلام التكتيكية: الوصول إلى المباني، والشبكات، والموارد، واختراق [شبكات] الكهرباء، و«الاختفاء في الوقت المناسب» (٢٠٠٢: ٢٦٠). وسائل الإعلام التكتيكية مؤقتة، ومتحوِّلة، وغير منظَّمة. ومن الأمثلة الجيدة الاحتجاجات المناهضة لمنظمة التجارة العالمية في سياتل عام ١٩٩٩. التقَت وسائل الإعلام المستقلة من أجل تلك المناسبة، وبدأت حملتها، ثم انصرفت (وإن استمرت أعمال المناشَدة من بعدها؛ انظر www.indymedia.org.uk). ابتكَرت جمعية الهيبي الإلكترونية (إيهيبيز) برنامجًا متضمَّنًا في صفحة ويب. وكان بإمكان كلِّ مَن يزور الصفحة تنزيل هذا البرنامج — الذي كان يُنزِّل تكرارًا صفحات من الشبكة الرسمية لمنظمة التجارة العالمية. وهكذا، حينما نزَّل عددٌ كافٍ من الناس البرنامج، كان من شأن ذلك إغراق شبكة منظمة التجارة العالمية بالطلبات، فتتعطل ببساطة. ظهر النشطاء ضد ماكدونالد (www.mcspotlight.org)، ولوفتهانزا (حاليًّا على مواقع www.noborder.org/archive/www.deportation-alliance.com) ونشأت مواقع وسائل إعلام مستقلة مثل www.indymedia.org (مع نسخ محلية عبْر العالم).
في كثير من الحالات لا تكون هذه الاحتجاجات الافتراضية منعزلة أو عمليات محاكاة. تصاحب هذه التوليفات من «الفعل المباشر الافتراضي الجماهيري» الاحتجاجات في الشوارع، دالةً بذلك على الدمج بين المجالين الافتراضي والمادي. إنها المُكافِئات الإلكترونية للأجساد المحتجة في الشوارع. وحسب تعبير حركة نتسترايك فور بالستين، فهدفها هو «إضافة أجسادنا الافتراضية إلى حضور الأجساد المادية للناس المُتوجِّهين إلى الشوارع عبْر العالم لإدانة الاحتلال الإسرائيلي» (www.geocities.com/netstrike4palestine).

يؤدِّي تعطُّل الإطار الرئيس للشبكة (كما في حالة منظمة التجارة العالمية المذكورة أعلاه) إلى خسائر مالية جسيمة، ويُمكن التعامل معه بوصفه حالةً من الربط بين الافتراضي والمادي.

سكَّت جماعة كريتيكال آرت إنسامبل مصطلح «العصيان المدني الإلكتروني» لوصف استخدامها لوسائل الإعلام التكتيكية في العصر الإلكتروني. ولا بد من رؤية دعاية وسائل الإعلام باعتبارها امتلاك القوة لتغيير الظروف المادية (استشهدت كريتيكال آرت إنسامبل بمثال المعالجة الدرامية الإذاعية التي قام بها «أورسن ويلز» لقصة إتش جي ويلز «حرب العوالم» التي أثارت هلعًا اجتماعيًّا حقيقيًّا؛ كريتيكال آرت إنسامبل ٢٠٠١: ١٩). يشتمل العصيان المدني الإلكتروني عادةً على ما يُسمَّى حاليًّا «حرب المعلومات».

الدعاية الزائفة في وقت الحرب هي تكتيك قديم للغاية يهدف للحط من معنويات العدو. أما تكنولوجيات المعلومات والاتصالات فتأخذ التضليل إلى عالم جديد؛ الفضاء الإلكتروني والاتصالات الإلكترونية. يُشير جريت لوفينك (٢٠٠٢: ٣٠٨) مُصيبًا إلى صعود «المجمع الإلكتروني العسكري» خلال حرب الخليج الأولى (عام ١٩٩١)، بدعايته «الفيروسية» (التكتيكية) المقاوِمة داخل وسائل الإعلام العالمية. تشمل حرب المعلومات استخدام برامج مفتوحة المصدر (على خلاف البرامج الاحتكارية المحمية بحقوق النسخ)، والنفاذ العام، والأنظمة اللامركزية. ويُدرج لوفينك لينوكس باعتبارها «استراتيجية حرب معلومات إيجابية» ضد مايكروسوفت (٢٠٠٢: ٣٠٩). ويُمكن لموقع مثل www.disinfo.com يحمل نصوصًا من قبيل «أنت تتعرَّض للكذب عليك» أن يكون مثالًا ممتازًا لحرب المعلومات. طلبت إيتاليان نتسترايك (التي أُنشئت عام ١٩٩٥) من المُستخدمين أن يُدرجوا عنوان الإنترنت الذي يَستهدفونه، ويضغطوا باستمرار على رمز إعادة التحميل، وهو ما يتسبَّب في اختناق العنوان بالمطالب. والآن تشن نتسترايك حملات ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بإرسال مطالب للحكومة الإسرائيلية لتعطيل الخوادم، وضد مؤتمر السياسة الأمنية الذي يعقده الناتو (www.india.indymedia.org/en/2004/02/209036.shtml). والحملات المضادة للرقابة، وهجمات «تعطيل الخدمة» التي تَنشُر برامج مجانية، والواجهات التفاعُلية البديلة، وبناء المجتمعات على أساس قضايا سياسية، ومحركات البحث البديلة، وشبكات الأقران، والقوائم البريدية، و«الإعلانات الهدامة»، والحركات ذات المصادر المفتوحة، كلها جزء من حرب المعلومات، وتُمثِّل، إلى جانب النشاط الاختراقي، المُعوِّقات الرئيسية في حركة الرأسمالية التكنولوجية العالمية، الطغيانية والمُهيمنة. يُرجِّح النشاط الشبكي ووسائل الإعلام التكتيكية أن الثقافات الإلكترونية هي منطقة متنازَع عليها، تُعرَض فيها ممارسات وتطبيقات مختلفة متجذِّرة في أيديولوجيات وأولويات سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة في الحياة الواقعية.

(٤-٢) النشاط الاختراقي

النشاط الاختراقي هو شكل من أشكال النشاط الهادف إلى إحداث تغيير اجتماعي، يُطوِّع الكمبيوترات والشبكات الإلكترونية لهذا الغرض. وإذ يُسمَّى أيضًا العصيان المدني الإلكتروني، فالنشاط الاختراقي يُعزى إلى الغايات السياسية.

جاء أحد الأمثلة المبكِّرة للنشاط الاختراقي والاختراق السياسي عام ١٩٩٨ من فرقة «مسرح الاضطراب الإلكتروني». باستخدام برنامجها المُسمَّى «فلَدْ نت»، دعت الفنانين، والأفراد العاديِّين، والمُفكِّرين للاجتماع في فضاء إلكتروني من أجل مساندة الساباتيستيين المكسيكيِّين. كان ما فعلوه اعتصامًا افتراضيًّا، مغرقين الحكومة والمواقع الرسمية المكسيكية، ومحمَّلين الخوادم من ثَمَّ بأكثر من طاقتها، إلى حد التعطُّل. في العام نفسه، أرسل الانفصاليون التاميل ما بين ٨٠٠ رسالة إلكترونية و١٠٠٠ رسالة يوميًّا على مدى بضعة أسابيع إلى مكاتب الحكومة السريلانكية ومواقعها الإلكترونية. كما كانت الاحتجاجات ضد الحرب في العراق تُصنَع على الإنترنت على نحوٍ مستمرٍّ منذ عام ٢٠٠٣، وما زالت هناك معارضة على الإنترنت لحرب محتملة على إيران (www.stopwaroniran.org/petition.shtml)، ومن الواضح أن النشاط الاختراقي سيستمر.

النشاط الاختراقي

النشاط الاختراقي هو نشاط إلكتروني يُفكِّك قواعد البيانات، ويخترق الأطر الرئيسية، ويتسبَّب في الاضطراب من أجل أغراض سياسية.

النشاط الاختراقي فعلٌ سياسي واقع بين الاحتجاج العام (المسيرات، والإضرابات، وغيرها من الأفعال المُماثلة في المجال العام) والاتصال بوساطة الكمبيوتر. وبمزيد من الدقة، هو ينتج مجالًا عامًّا في الفضاء الإلكتروني من خلال استخدام الاتصال بوساطة الكمبيوتر. إذا كانت الحكومات والأجهزة الإدارية تستخدم كلًّا من الاتصالات بوساطة الكمبيوتر والفضاء الإلكتروني لكي تَستثير استجابات المواطنين، أو للإعلان عن نفسها (انظر الفصل السادس)؛ فالنشطاء يستخدمونهما للاحتجاج. تَقدَّم النشاط الاختراقي على المرحلة الأسبق حينما اقتحم المخترقون الأنظمة والشبكات على سبيل التحدي. ولم يبدأ استغلال التداعيات الاجتماعية والثقافية والسياسية لمثل هذه القدرات أو الأفعال إلا في ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته.

وتشتمل المقاربات ما بعد الاستعمارية للثقافة الإلكترونية على المشروعات الرقمية التي تتعامل بحرصٍ شديد مع التقاليد المحلية للمعرفة وتُقاوم الأساليب الغربية كما هي الحال في الموسوعات التقليدية. ويشتمل التعامُل ما بعد الاستعماري مع العولمة على فكرة إضفاء الطابع المحلي على المعرفة ذاتها.‎

في البلدان الديمقراطية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ينطوي النشاط الاختراقي والنقاش القائم على الاتصال بوساطة الكمبيوتر على توسعة المجال العام، وهو ما يؤدي إلى المزيد من انتشار الديمقراطية؛ حيث يُمكن أن يستجيب المزيد من المواطنين للحكومة، أو يطالبوها، أو حتى يستجوبوها. ويمكن النظر إلى هذه الأفعال باعتبارها وسيلة لتحقيق بيئة سياسية تشاركية بقدْر أكبر، يُسهِّل فيها العمل على الإنترنت حدوثَ عملية تواصلية بين المواطنين والدولة.

بالمعايير العالمية، تحتجُّ الجماعات الأصلية، والنشطاء المناهضون للعولمة، ونشطاء السلام، «بوصفهم» نشطاء اختراقيِّين، على الإمبريالية الجديدة، والجهود الحربية، والسياسات الاقتصادية للولايات المتحدة. وتستخدم الجماعات البيئية التكنولوجيا نفسها لجذب الانتباه لأخطار التعدين، والصيد في أعماق البحار، ومنتجات الكلوروفلوروكربون، وغيرها من أساليب الحياة السائدة في العالم الأول. وفي مثل هذه الحالات، يكون النشاط الاختراقي مصطفًّا إلى جانب الحركات الاجتماعية الجديدة التي ظهرت في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

إحدى أعظم المزايا التي يَسَّرتها تكنولوجيات الاتصال الجديدة هي أن النشطاء الموزَّعين عبْر الفضاءات يمكنهم أن يلتقوا من أجل قضيةٍ ما، ويمكن أداء اعتصام افتراضي مهما يكن موقع المرء. وعلى خلاف أشكال النشاط الأسبق التي كانت تستلزم فضاءات معينة — مع تفضيل الفضاءات العامة في المدن — لتجمع النشطاء، لا يمنع النشاط في الفضاء الإلكتروني أحدًا من الاحتجاج لمجرد أنه في موقع بعيد من ثقافة/فضاء الاحتجاج.

(٤-٣) الإرهاب الإلكتروني

يُمكن للفعل المنسَّق ضد شبكات الكمبيوتر والاتصالات أن يشلَّ الحكومات، لا سيما وأن الكثير من المعاملات المالية يعتمد الآن على البث الإلكتروني للبيانات. وعلى الرغم من أن مُصطلَح «الإرهاب» نفسه لم يُعرَّف تعريفًا شافيًا، فهو يُستخدم في الغالب لوصف النشاط الإجرامي العنيف الذي يستهدف الأشخاص، والأمم، والفضاءات. والإرهاب الإلكتروني هو الفعل الذي تَفعله جماعة من الناس باستخدام شبكات الكمبيوتر لتخريب وتدمير البِنية التحتية الإلكترونية والمالية والمادية لدولةٍ أو جماعةٍ ما، من أجل غرض سياسي. تقدِّم دوروثي دينينج، وهي خبيرة رائدة في الموضوع، تعريفًا مفصَّلًا للإرهاب الإلكتروني بأنه:

الهجمات والتهديدات بالهجمات، غير القانونية ضد الكمبيوترات والشبكات والمعلومات المحفوظة فيها حينما تُفعَل من أجل تخويف أو إجبار حكومةٍ ما أو شعبها، تأييدًا لأهداف سياسية أو اجتماعية. (دينينج ٢٠٠٠)

ويُمكن أن تتسبَّب الهجمات الإرهابية الإلكترونية في:
  • انهيار شبكات الطاقة الكهربائية، والمواصلات، وشبكات إدارة الكوارث.

  • انهيار المعاملات المالية بما يؤدي إلى أزمات في سوق الأوراق المالية، وانهيار اقتصادي.

  • اختراق أجهزة الدفاع والأمن القومي.

أدركت حكومة الولايات المتحدة التهديد الناجم عن الإرهاب الإلكتروني، فأعدَّت خطة شاملة في عام ٢٠٠٠ بعنوان «الدفاع عن الفضاء الإلكتروني لأمريكا: الخطة القومية لحماية أنظمة المعلومات». وزادت أغلب ميزانيات دول العالم الأول المخصَّصة لتأمين أنظمة المعلومات زيادات فلَكية منذ ١١ سبتمبر.

بِنية الشبكات الإلكترونية للدولة أو الشركة اليوم — كونها مُنتشِرة ومُعتمدة على وصلات ونقاط اتصال ممتدة على نطاق واسع — تجعلها منكشفة أمام الإرهاب الإلكتروني. وأي منها يُمكن تعريضه للخطر أو مهاجمته ببساطة؛ لأن إبقاء شبكة واسعة تحت المراقبة هو أثقل وطأة من تأمين مبنًى أو غرفة حصينة ممركزة. وهكذا، فالتكنولوجيات نفسها التي زادت الاتصالات والحكم والمعاملات المالية سعةً وسرعة، تُوهن أمنَها وتجعلها عرضة للهجمات الممكنة.

يستطيع الإرهابيون أن يعملوا من بُعد، وأن يَزيدوا بذلك من صعوبة تحديدهم واعتقالهم. وتكون المراقبة بالاستعانة بالوكالات الأمنية أشد إشكالية حينما لا يكون الجُناة على مسافة قريبة. فالخفاء الكامل الذي تقدِّمه تكنولوجيات المعلومات والاتصالات يقوي موقف الإرهابي، ويُصبح تحقُّق الوكالات الأمنية من الهُوية أشد تعقيدًا. ويُساعد الإنترنت أيضًا الجماعات والأفرع الإرهابية على تنسيق أنشطتها، مع تقليل فرص ضبطها متلبِّسة بتبادُل الرسائل أو الخطط. وتساعد تكنولوجيا التشفير على إفلات الرسائل المرمَّزة بين المارقين من المراقبة، ويجعل حجم التبادل الهائل المهمَّة مستحيلة على أي حكومة أو وكالة.

ويكون جمْع الأموال أو الدعاية أسهل إنجازًا من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات؛ فتستطيع الجماعات الإرهابية الوصول إلى عدد أكبر من الناس في مناطق جغرافية متنوعة من خلال النفاذ إلى القوائم البريدية وغيرها من قواعد البيانات، دون ضرورة الظهور أو الالتماس الشخصي (وما يَصحبه من مخاطرة). والواقع، كما رأينا سابقًا، أن كثيرًا من النشاط على الإنترنت يُمارس من خلال إخفاء الهُوية، حتى في المجال العام؛ لأن النشطاء الزملاء لا يلتقون أبدًا.

تساعد تكنولوجيات المعلومات والاتصالات حتى جماعة صغيرة من الإرهابيين على تحقيق أقصى ضرر؛ فباستخدام الكمبيوترات وتكنولوجيا الشبكات المناسبة، يُمكن لبضعة أفراد تحقيق دمار — على الضد من الإرهاب التقليدي، الذي يستلزم بِنيةً تحتية ومجنَّدين. كذلك، فإن طبيعة الشبكات بحد ذاتها — كونها مُترابطة ومعتمدة بعضها على بعض — تؤدي إلى أثر تراكمي أو مُتواتر؛ فاختراق شبكةٍ ما أو تدميرها يساعد الإرهابي الإلكتروني على توليد مستوًى مضاعَف من الضرر.

بيئة الفضاء الإلكتروني غير منظَّمة بالكامل تقريبًا. وبينما تستطيع الحكومات الإبقاء على المصادر المادية والمالية للجماعات الإرهابية تحت المراقبة، تُصبح المراقبة الإلكترونية لمثل هذه الجماعات أصعب كثيرًا؛ لأنه يستحيل حكم الفضاء الإلكتروني. فالشبكات اللامركزية، والمواقع المتعدِّدة للمُنحرفين الإرهابيين في الفضاء الإلكتروني لا يمكن إبقاؤها تحت المراقبة من قِبَل أي منظمة أو حكومة واحدة، وتستلزم مراقبتها جهدًا تعاونيًّا شاملًا من أطرف كثيرة.

إحدى العواقب العديدة للتهديد الناجم عن الإرهاب الإلكتروني هي المزيد من تحكُّم الدولة وتنظيمها للإنترنت. اقتُرِحت تشريعات تنظيمية للرقابة على البريد الإلكتروني والشبكات الخاصة، بل حتى أُصدِرت قوانين بذريعة «الأمن القومي» (انظر فيغ ٢٠٠٢).

(٥) المعجبون ومجتمعات المعجبين

يُشكِّل المعجبون مجتمعًا، ثقافة فرعية تقوم على إعجابهم الجمعي بنجمٍ ما. المعجبون هم استجابة للنظام المُعتمِد على وسائل الإعلام الذي يصنع «النجوم». وتُشكِّل ثقافة المعجبين ثقافة فرعية بفضل كونها عملية إنتاج للمعنى الذي قد يكون «شرعيًّا» أو لا يكون.

يُنتِج المُعجَبون معانيهم الخاصة للنص-النجم. هذا هو النص-المعجب، شيءٌ يمكن أن يكون مُشتقًّا من شخصية النجم، أو دوره أو إنجازه، لكنه ليس بالضرورة بِنْية صناعة وسائل الإعلام المحيطة بالنجم. كانت كلمة «معجب» fan، التي ترتبط كذلك بكلمتي «متعصب» fanatic، و«ولع» fancy، تشير في الأصل إلى رجل مُفرط الحماسة في المعبد. واستُخدمت كلمة «ولع» للإشارة إلى رعاة القتال على الجوائز. ومن ثَمَّ، يشي المصطلح بكلٍّ من تعلُّق عاطفي برموز أو مُعتقَدات معينة، وشعور بالجمعية. وقبل أن يُصبح الويب جزءًا من الحياة اليومية بزمن طويل، تواصَل المعجبون باستخدام المطبوعات، واجتمعت نوادي المُعجَبين على نحوٍ منتظم، وتبادلت الملحوظات عن نجومها. وما فعلته الشبكة العنكبوتية العالَمية هو جعل توزيع المعجبين مستقلًّا عن الجغرافيا. فالتواصل الاجتماعي عبْر الشبكة فيما بين المعجبين هو الآن عالَمي بحق؛ حيث قد «يتصل» معجب مقيم في الهند بآخر في كندا.
مواقع المعجبين شكل من أشكال الثقافات الفرعية؛ لأنها تعمل في ظلِّ علاقة متمايزة عن الثقافة السائدة أو حتى متعارضة معها. فالمعجبون بإكس-مِين أو بَفِي (قاتلة مصاصي الدماء) ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم أناسًا هُوياتهم وثيقة الارتباط بالمسلسل التليفزيوني أو بالشخصيات. وحبُّهم المشترك للمسلسل هو ما يُوحِّدهم، حتى وإن كانت هذه العلاقة تبدو مفرطة أو مصطنعة. يُنتج المعجبون معناهم الخاص من النصوص التي ينتجونها. ومن ثَمَّ فروايات المعجبين، ومجلاتهم التي يبدعون فيها حبكاتهم القائمة على روايات هاري بوتر (انظر السرد التخيُّلي للمُعجَبين في fanfiction.mugglenet.com) أو مسلسل «رحلة إلى النجوم» (ستار ترك) الذي حقَّق معجبوه بأنفسهم مكانةَ الطائفة وأطلقوا على أنفسهم اسم «التِّرِكِيِّين»، وتَشتمِل نصوصهم أيضًا على محاكاة أفلامٍ أقل شهرة مثل «حطام النجوم» (ستار فرِك) الفنلندي (١٩٩٢–٢٠٠٥)، و«رحلة إلى النجوم: جيل البيبسي» (ستار تريك: بيبسي جينريشن) (١٩٨٩)؛ تُشكِّل مجتمعًا ثقافيًّا فرعيًّا، يُساعد فيه نص الطائفة الناس على الالتقاء لإنتاج معانيهم الخاصة التي قد تَكتسب الشرعية من المعنى «الأصلي» أو لا تكتسبها. وهي ثقافية فرعية لأن السرد التخيُّلي للمعجبين قد لا يحقق النوع نفسه من رأس المال المالي أو الثقافي أو الاجتماعي باعتباره نص الطائفة.
في حالة السَّرد التخيُّلي المثلي (صنف من السَّرد التخيُّلي للمعجبين، مؤسَّس على العلاقات الجنسية المثلية بين شخصيات من الذكور)، نجد مساحة أخرى تُشكَّل بَعدُ في ثقافات المعجبين الفرعية. وبينما يوجد نزوع مستقل للانزلاق في الإباحية المثلية، نجد أن السَّرد التخيُّلي المثلي — ومن أمثلة ذلك أن السَّرد التخيُّلي المثلي لمسلسل «ستار ترك» يدور حول علاقة ممكنة بين سبوك وكيرك — يَهدِم نهج القصة «الأصلي»، ويُضيف عناصر من الشأن الجنسي (لمطالعة أرشيف للموضوع انظر www.fanfiction.net أو slashfiction.com).٤ بيَّن هنري جنكينز (١٩٩٢) كيف تُسهم إبداعات المعجَبين في هُويات المشاهير ويمكن النظر إليها على أنها نمط من أنماط بناء المجتمع.

(٥-١) الفرد والمجتمع

مواقع المعجبين هي مجتمعات يَربِطها رمز شهير، وهي لذلك نمط من أنماط التفاعل الاجتماعي. وتُساعِد مجتمعات المعجبين على الإنترنت المعجبين في التغلُّب على قيودهم المكانية والزمانية، والتفاعل مع المعجبين الزملاء أو حتى مع المشاهير أنفسهم. وهي لذلك تجود عليهم بقدْر معيَّن من العضوية الاجتماعية؛ أي الشعور الجمعي بالهُوية.

مجتمعات المعجبين على الإنترنت هي مثال ﻟ «أُلفة ثقافية» بصرف النظر عن التباعُد الجغرافي والزمني.

أما المعجبات على وجه الخصوص، فتسمح لهن الشبكة العنكبوتية العالمية بحريةٍ أكبر للاتصال وتأسيس صلات مع غيرهن من المعجبات. تُوضِّح سوزان كليرك (٢٠٠٢) أن معظم سرد المعجبين التخيُّلي كتبتْه نساء، وأن هذا يُوحي بأن النساء هن اللاتي يقمن بجهد التواصل من أجل تشكيل المجتمع واستدامته. هنا، تُمكِّن التكنولوجيا المعاصرة النساء، حيث بما أن معظم النساء رهينات بالمجال المنزلي، فقلما يوجد حافز لكسب المعرفة باستخدام الموادم أو روابط الويب، ما لم تُساعدهنَّ على «لقاء» صديقاتهن. ولذا فمواقع المعجبين تساعد النساء على التواصل فيما بينهن، وتُشكِّل علامة على إنشاء مجتمعات من النساء.

تفتح مجتمعات المعجبين على الإنترنت فضاء الاتصال بين المعجبين، خالقةً محادثات وتبادُلات تدور حول شخصيتهم الشهيرة المختارة (بولين ٢٠٠٠). وبينما كان المعجبون يَتبادلون الأخبار والصور والشائعات عن شخصيتهم الشهيرة المختارة طوال الوقت؛ أتاح الفضاء الإلكتروني مدًى أكبر للنشر. ونطاق الإنترنت الهائل هو الذي يتيح خلق مجتمعات معجبين على الإنترنت (تُقدِّر بولين أنه يوجد على الأقل ١٢٠٠ موقع لمعجبي «ستار ترك»).

(٥-٢) الفضاء المعلوماتي

تُقدِّم مواقع المعجبين كميات كبيرة من المعلومات الشخصية عن المشاهير، وهي مصدر معلومات موازٍ عنهم، حتى وإن كانت غير رسمية؛ حيث تكون المعلومات الخاصة والشخصية عن الشخص المشهور عنصرًا «ضروريًّا» للمعجبين. هذه «معلومات من المرتبة الثانية»، ليس لأنها غير مهمَّة، ولكن لأن هذه المعلومات لا تحظى بإقرار رسمي، ولا تلقى تأكيدًا ولا نفيًا. بعبارة أخرى هي معلومات من المفترض أن تكون حقيقية في غياب أي دليل على موقع المعجبين.

يُسلِّع المعجبون في كل مكان موضوعَ انجذابهم، بانين أيقوناتهم (الشخصيات التي يبجِّلونها) دائمًا باعتبارها ذات أسلوب راقٍ لكن واقعية، غامضة لكن قابلة للمعرفة، بعيدة لكن حميمة. وتشغل الأيقونة مواقع متعدِّدة في مجتمعات المعجبين على الإنترنت.

قد يُنظَر إلى مواقع المعجبين، من قبيل موقع الارتجال الحر الأوروبي (www.efi.group.shef.ac.uk) أو «موسوعة جبل طارق الجديدة لموسيقى الروك التقدُّمية» (www.gepr.net)، على أنها موسوعات تتضمَّن معلومات خارج نطاق الأعمال المرجعية التجارية «المعيارية» أو مهمَّشة من جانبها (أتون ٢٠٠٤: ١٤٩-١٥٠). لذا، فهي تمثِّل مخزن معرفة بديلًا، ومن هنا، فهي تهدم مواقع المعرفة وفضاءاتها القائمة على اقتصاد السوق. هذا الشكل مدين بوضوح لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات فيما يخص جمع المعلومات، وتصنيفها، ونشرها.

ولذا، فإن مواقع المعجبين فضاءات معلوماتية، رسمية كانت أم دارجة (أي غير رسمية)، مؤسَّسة على شخصية شهيرة معينة.

(٥-٣) الخاص والعام

ومن ثَمَّ فإن مجتمع المعجبين على الإنترنت خليط عجيب من الخاص والعام. فهو يعزِّز المعجب من خلال بناء هُوية جمعية، وينشئ فضاءً يمكنه أن يصوغ فيه التطلُّعات والرغبات والمشاعر الشخصية عن النجم. ومما يُسهِّل العامل الأخير على وجه الخصوص درجة الخفاء التي تمنحها بنية أفاتارٍ ما على الإنترنت. يستطيع الأفراد أن يكونوا معجبين مولَهين دون أن يعلنوا عن هُوياتهم الحقيقية.

وفي حالة المجتمعات المهمَّشة، من قبيل المثليِّين، يكون مجتمع المعجبين بمنزلة فضاء خاص وعام في الوقت ذاته (باعتباره جزءًا من فضاء لأصحاب الفكر المتشابه). تشير جوديث فرانكو (٢٠٠٦)، في دراستها لمُجتمَع المُعجَبات المثليات، إلى وجود درجة عالية من الحميمية والانهماك في المراحل المُبكِّرة من بناء المجتمع؛ حيث تتبادل المعجبات المعلومات الشخصية في هيئة مجموعة صور، أو هُوية ثقافية، وتفصيلات شخصية. وتُمكِّن ظاهرة الإعجاب على الإنترنت كثيرًا من الأفراد من تجاوز خلفياتهم السياسية والاجتماعية والثقافية أيضًا، ليَلتقوا باعتبارهم مجتمعًا موحدًا، من خلال تركيز مشترك على العشق الذي قد لا يَمُتُّ بصِلةٍ إلى مجتمعهم «الحقيقي».

طالما نُظر إلى مجتمعات المعجبين على أنها «مجتمعات بديلة»؛ لأنها تتمرَّد على الثقافة والمعايير السائدتَيْن (بل ٢٠٠١؛ بولين ٢٠٠٠). الشائعات، والأعمال المناهضة للمعجبين، والمعلومات الشخصية الزائدة وأحيانًا المحرجة، كل ذلك يُشكِّل «عمل» المعجبين — الذي قد لا تُقرُّه رسميًّا الشخصية الشهيرة التي يدور من حولها مجتمع المعجبين.

(٥-٤) ظاهرة المعجبين والسياسة

لثقافة المعجبين أبعادٌ سياسيةٌ محدَّدة، ولا سيما أنها تتضمَّن، مثل كل الثقافات السياسية، صنع الهُويات الجمعية وعملها.

(أ) النزعة الاستهلاكية

مجتمعات المعجبين «تَبسُط» الثقافة الاستهلاكية للمشاهير إلى عالم جديد (الفضاء الإلكتروني). وبفعلها هذا، تُمثِّل مجتمعات المعجبين على الإنترنت أشكالًا جديدة من الأنشطة القديمة. في الفضاء الإلكتروني، يُنجَز فعل إنتاج المعنى من خلال وسائل الإعلام الجديدة، ولكنه لا يكون مختلفًا في أساسه عن عمل المعجبين «الاعتيادي» على الأرض.

(ب) الهُوية

تضمن سيولة الهُوية وخيار إخفائها حريةً أكبر للخجولين والمهمَّشين والمتردِّدين ليكونوا جزءًا من مجتمع المعجبين، وليعشقوا أيقونتهم المختارة، وليُعبِّروا عن مشاعرهم. فالمعجبات اللاتي ربما يجدن صعوبة في قبولهن أو في التعبير عن آرائهن/رغباتهن علانية تجاه نص الشخصية الشهيرة يُمكنهم فعل ذلك في الفضاء الإلكتروني. ولذا، تفتح ثقافة الإعجاب الإلكتروني أمام المعجبات الفضاء العام للإفصاح، وربما تؤدِّي في النهاية إلى شبكات شخصية أصغر، يمكن حينئذٍ أن تقوم بطريقة جيدة جدًّا بدور جماعات المساندة من أجل النساء (كليرك ٢٠٠٢).

(ﺟ) الفاعلية

تُنظِّم مواقع المعجبين ما يُمكن أن يُكتَب أو يُنشَر على الموقع. يصف المعجبون كيف التقوا معبودهم، وبذلك يَسْعَون إلى تحسين سمعتهم/مكانتهم «بوصفهم مُعجبين». ويمكن التعامل مع مثل هذا الإنتاج من جانب المعجبين باعتباره فاعلية الفرد. وهو يُشكِّل فاعلية ثقافية فرعية حينما تتجاوَز كتابة المعجبين ما هو مُجاز أو مسموح به. من الواضح أن مجلات المعجبين تبني على نحو تعاوني روايات (الحبكات، وبناء الشخصيات) في سردها التخيُّلي؛ ومن ثَمَّ فهي تجود على المعجب بشيء أكثر من مجرَّد دور مستهلك سلبي. تبني مجتمعات المعجبين (مثل www.tintinologist.com) روايات موازية عن شخصيات قصصها الأثيرة، وبذلك تُغيِّر على نحوٍ ملموس النموذج المعرفي عن «الأصلي مقابل المشتق»؛ لأنه إن كان المعجبون يستطيعون إنتاج حبكات أصلية مؤسَّسة على شخصيات «أصلية» فما الذي يجعل هذه الحبكات ثانوية؟

تشمل المنشورات الشخصية على الإنترنت إنتاجات معجبين مثل الشِّعر أو سرد المعجبين التخيُّلي (ما يسميه جون فيسك ١٩٩٢ إنتاج المعجبين «التصريحي»). وفي بعض الأحيان، كما بينت جوديث فرانكو (٢٠٠٦)، يَخرج المُعجَبُون من عالم الإنترنت إلى العالم الواقعي، حينما يشترون أفضل المقاعد في العرض الذي تُؤدِّيه شخصيتهم الشهيرة. وهنا تكون الصلات والقوة المُرتكزة على مجتمع المعجبين الافتراضي بمنزلة أداة لتعديل الترتيبات الاجتماعية-العامة في العالم المادي، على نحوٍ يُثبِت الصلة بين العالَمين مرة أخرى.

(٦) الكراهية الإلكترونية

اكتسب دعاة التفوُّق العِرقي، والجناح اليميني المتطرف، والجماعات الراديكالية من البيض ظهورًا أكبر لأيديولوجياتهم وحملات كراهيتهم بوسائل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات. يبني كلٌّ من النازيين الجدد، والكو كلكس كلان (الذين توجد منهم ٤٠ جماعة على الأقل في الوقت الراهن)، والجماعات العِرقية، ورُهابيِّي المثلية الجنسية، مجتمعات بمزيد من السهولة على الشبكة العنكبوتية العالمية. يستطيع الأفراد حاليًّا تشاطُر معتقداتهم بقدْر أقل أو أكبر من الأمان من خلال القوائم البريدية، وجماعات التراسل، دون الذهاب بالضرورة إلى «الأماكن العامة». صار النفاذ إلى مثل هذه المواد — أساس بناء المجتمع من خلال الاتصال — أسهل، ومن خصوصية المنزل ورفاهيته.

أعلن التحالف القومي، وهو منظمة مقرُّها الولايات المتحدة معتقدَه الأساس كما يأتي:

عالمنا تراتبي. كل واحد منَّا عضو في العِرق الآري (أو الأوروبي) … ولدينا التزام تجاه عِرقنا باعتباره عاملًا جمعيًّا من عوامل التقدُّم. وقد هذَّبت الطبيعة الملكات الخاصة المتأصلة في العِرق الآري وشحذَتْها، بحيث نكون أفضل قدرة على إنجاز المهمَّة الملقاة علينا … (التحالف القومي ٢٠٠٧)

يرغب التحالف، في اللحظة التي أكتب فيها، في نشر القوات الموجودة في العراق على الحدود المكسيكية. ويفترض منشورهم التعريفي (غير المؤرَّخ) المسمَّى على نحوٍ متناقض «العفو» أن التهديد الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية يأتي من المكسيكيين، لا من السود (التحالف القومي، بلا تاريخ).

يُيسر الموقع ترويج الصور العنيفة — ذات الطابع العرقي — وفيما يخص معظم هذه التنظيمات والجماعات، يُظهِر نوعًا من الولع بالحرب (زيكموند ٢٠٠٢: ٢٤٠-٢٤١). اللجوء إلى الخرافة والتاريخ القابل للجدل — من قبيل رواية التحالُف القومي المشار إليها عن تقدُّم العِرق الآري وتطوُّره — يُوفِّر الأيقنة اللازمة لتكتُّل المجتمع من حول الخرافة.

في خطابات الكراهية الإلكترونية من هذه الشاكلة، يُصبح اليهود، والأعراق الملونة، والمثليون «الآخر». ويَرتبط هذا الأمر بالشعور المعادي للمهاجرين الذي أضحى مَعْلمًا مميَّزًا للمجتمعات الأورو-أمريكية (خطابة التحالُف القومي واحدة من كثير غيرها). ويُنزَل «الآخر» أيضًا منزلة مصدر التلوث والتآمُر، ومصدر تعاسة العِرق الأبيض.

وفقًا لتقرير واحد على الأقل، فإن نشاط الكو كلكس كلان «زاد زيادة ملحوظة في عام ٢٠٠٦؛ إذ حاولت جماعات الكلان استغلال المخاوف في أمريكا من زواج المثليِّين، و«الاعتداءات» المُتصوَّرة على المسيحية، والجريمة، وخصوصًا الهجرة» (رابطة مناهضة تشويه السمعة، بلا تاريخ). ويدرج هذا التقرير بوضوح في روايته المصادر الآتية باعتبارها عنصر «وسائل الإعلام» للمنظمة: «المراسلات الجماهيرية، والمنشورات المطبوعة، والإنترنت».

وبينما تتيح التكنولوجيات الثقافية الإلكترونية فضاءات للنشاط، فهي تفسح أيضًا فضاءات لجريمة الكراهية والاعتداءات المرتبطة بالعِرق. وفي كثير من الحالات المؤسفة، تكون الجريمة الإلكترونية أيضًا عاكسة لمشكلات وتوتُّرات اجتماعية أصيلة — من بينها العنصرية، والتحيُّز على أساس الجنس، والاستغلال، والولع الجنسي بالأطفال. ولذا، فخطابات الكراهية الإلكترونية يُمكن أن تكون لها عواقب مادية وجسدية وخيمة على ضحاياها.

(٧) النسوية الإلكترونية

إن خطابات الثقافة الإلكترونية «تُشَكِّل» النساء بطُرُقٍ محدَّدة (سأناقش مسائل النوع والشأن الجنسي في الثقافة الإلكترونية بمزيد من التفصيل في الفصل التالي). تُنَظِّر الدراسات النقدية النِّسَوية للثقافة الإلكترونية، وهي أحد عناصر النقد النِّسوي للتكنولوجيا ذاتها، لدور مختلف للنساء في عصر التكنولوجيا الإلكترونية.

للنسوية الإلكترونية ثلاثة جوانب أساسية، هي: «النظرية» (إعادة النظر في علاقة النساء وثقافات التحكُّم الإلكتروني/الرقمية)، و«العمل الفني» (الفنانون ذوو الأجندات النسوية الواضحة الذين يستخدمون تكنولوجيات المعلومات والاتصالات)، و«العمل النشاطي» (الفعل الاجتماعي والسياسي، والدعاية، والحركات). سأناقش الجانب النظري للنسوية الإلكترونية في الفصل الخامس. أما في هذا الفصل فأنا مُهتمٌّ بالطُّرق التي تُطوِّع بها الأشكال الثقافية الإلكترونية التي تَمتلِك سياسة نسوية الثقافةَ الإلكترونية وتعيد نشرها.

تُقدِّم صيغة سادي بلانت، التي صارت كلاسيكيَّةً الآن، للويب باعتباره نسيجًا ملاءمةً وتمثيلًا مختلفَيْن للعصر الرقمي. بناءً على العمل النسوي الأسبق الذي أعدته ماري دالي (١٩٩٠ / ١٩٧٨)، تفترض بلانت في مقالها المعنون «الأنوال المستقبلية» (١٩٩٥) أن الكمبيوتر محاكاة للنسج، «يصل ما بين النساء عند الواجهة التفاعلية بين الإنسان والمادة، الهُوية والاختلاف، الواحد والصفر، الثقافي والافتراضي» (ص٦٣). ومن وجهة نظر بلانت، البرمجة نسج نسائي. أما دونا هاراواي التي كانت تكتب قبل بلانت بسنوات قليلة، فترى أن النسج استراتيجية من أجل «السايبورج المعارِض»، فعل مقاوَمة في مواجهة التواصل الشبكي الذي تقوم به الهيئات المؤسسية الرأسمالية (١٩٩١أ/١٩٨٥: ١٧٠). النسج في مثل هذه التأويلات هو نظام رمزي للإبداع النسائي.

من بين الأشكال العديدة للثقافات الإلكترونية، العمل الثقافي النسوي الإلكتروني هو الأروع، كما يُقال. وثمة شكلان من الثقافات النسوية الإلكترونية مُهيمِنان، هما: السايبربنك النسوي، والفن النسوي الإلكتروني.

(٧-١) السايبربنك النسوي

كما لحظنا بالفعل في الفصل الثاني، يُمثِّل السايبربنك تطويعًا للتكنولوجيات الإلكترونية يتَّسم بطابع ثقافي مضاد. غير أن التيار السائد من السايبربنك، بصرف النظر عن طبيعته المعارضة، يحتفظ بالتحيزات المتصلة بالنوع، وبالأيديولوجيات الأبوية للسَّرد التخيُّلي العلمي والتكنولوجيات. ولذا تعيد الكاتبات النسويات مثل بات كاديجان ومارج بييرسي كتابة السايبربنك من زاوية نسوية.

ومن الملامح الرئيسية لإعادة الكتابة هذه، رفض معاملة عصر الكمبيوتر وتكنولوجياته على أنهما تحريريَّيْن فحسب. يرى السايبربنك النسوي رابطة أصيلة بين الثقافة الإلكترونية، والتكنولوجيا، والرأسمالية، والأبوية. ويعني هذا أن الثقافة الإلكترونية من وجهة نظر السايبربنك النسوي هي نتاج نظام تمويلٍ، وتكنولوجيا، وعمل، وتنميط ثقافي يتسم بالتفاوت؛ حيث:
  • تُتجاهل إسهامات النساء أو تُبخس قيمتها.

  • يَتجاهل التركيز على العقل والطابع العلمي الاستجابات العاطفية للتكنولوجيا والعلاقات بها.

  • ما زال الجسد الأنثوي يُصوَّر على أنه موضوع جنسي للاستهلاك الذكري.

  • لا تُرى علاقة النساء بالتكنولوجيا على أنها علاقة رئيسية أبدًا.

وكما يعتقدن؛ فالتيار السائد من السايبربنك يتجاهل هذه الجوانب الحاسمة من تكنولوجيات المعلومات والاتصالات. ويفترضن أن التركيز المفرط على الاختراق وترْك العمل يُمثِّل الرغبة الذكرية في القوة والسيطرة، وهذه المرة من خلال الدوائر الإلكترونية والكمبيوترات. ولذا، يَنشُد السايبربنك النسوي تهيئة إسهامات النساء وتطويعها لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات.

أولًا: يرغب السايبربنك النسوي في أن يكون أكثر شمولًا من حيث أبعاده السكانية. ولذلك، فهناك المزيد من الملونين، والمزيد من ذوي القدرات المختلفة، والمزيد من الشواذ — وهي فئات، كما يَقُلن، ظلَّت تُهمَّش في تيار السايبربنك السائد. ثانيًا: يرى السايبربنك النسوي التكنولوجيا متجذِّرة في سياق اجتماعي وثقافي محدَّد. تنشأ تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في عصر العولمة، والعمل العابر للقوميات، والتدفُّقات المالية. فالعالم «المتصل بالشبكات» هو، على الأغلب، «العالم الأول». ويبقى وصول الملوَّنين إلى مثل هذه التكنولوجيات مُنخفِضًا، حتى في العالم الأول.

ثالثًا: يُعيد السايبربنك النسوي تعريف التكنولوجيا حسب «استخدامها». وهي تَشمل السحر، والرُّوحانية، والعواطف باعتبارها استجابات وصورًا لتطويع التكنولوجيا تحظى بقَدْر مُتساوٍ من الأهمية. سرد بات كاديجان التخيُّلي، على سبيل المثال، يترجم الفضاء الإلكتروني وملامحه الملازمة له إلى فضاء سِحري شبه صوفي.

رابعًا: يُضفي السايبربنك النسوي طابعًا إشكاليًّا على موضوع «الغريب» الشائع للغاية في السرد التخيُّلي العلمي وتيار السايبربنك السائد. بناءً على عمل النظرية النِّسوية، يرى السايبربنك النسوي المرأة، والمُلوَّن، والشاذ باعتبارهم دائمًا «الآخر» الغريب. ويَنطبِق خطاب الغريب والأجنبي في السايبربنك السائد، كما يفترضن، في المجال الأدبي وفي الفضاء الإلكتروني مثل «حقائق» الحياة اليومية؛ حيث تكون هذه الفئات غريبة دومًا على الثقافات البيضاء أو من وجهة نظرها. ينبه السايبورج في السايبربنك النسوي إلى الطبيعة المَبنية التي تتَّسم بها فئات البشر، والحيوان، والآلات. ويُفترض أن الخطابات والحقائق الاجتماعية والثقافية تبني وتعزِّز فئات معينة باعتبارها التيار السائد والمُهيمن، وتبني الفئات الأخرى باعتبارها سلبية وخاضعة. ولذا، تُعامَل هُوية السايبورج من الشخصيات العابرة للنوع الاجتماعي، أو للعِرق، أو للإثنية، باعتبارها مصدرًا للتحرُّر من التصنيفات.

خامسًا: تُعتبر كاتبات مثل كاديجان، وبييرسي، وميليسا سكوت موضوعَ التجاوز الجسدي المِحوَري تمامًا في السايبربنك مهربًا. فمن وجهة نظر المرأة (البيضاء «أو» الملونة)، يبقى الجسد مركزيًّا لبنى الاستغلال والحرية. ومرة أخرى، يُميِّز تجاوز الجسد العقل على المادة — وهو تصوُّر نمطي، مؤسَّس على النوع منذ بدايات العصر الحديث (الذكر باعتباره العقل، والأنثى باعتبارها المادة). ومِن ثَمَّ، فالفرار من الجسد هو خيال «ذكري»، البحث عن عالم الوعي «الخالص»، بينما يكون الجسد من وجهة نظر المرأة هو مركز البحث عن الهُوية والانعتاق. ومن هنا، يرى السايبربنك النسوي الكمبيوترات، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وتكنولوجيات تعديل الجسد، والفضاء الإلكتروني ليس كوسيلة للهروب من التجسُّد بقدْر ما هي تضخيم وإعادة إرساء للجسد. لا بد للانعتاق أن يتقدَّم من الجسد، لا بد من أخذ الجسد في الاعتبار. أما إنكار الجسد لصالح العقل فيَعني التجاهل المتعمَّد لكون الحيوات المادية تحيا من خلال الجسد. والأمر هكذا على وجه الخصوص في حالة النساء الملوَّنات؛ حيث يكسب الجسد طابعًا عرقيًّا ونوعيًّا اجتماعيًّا، وتَنبثق الذاتية كلها «من» الجسد. ومن ثم ففيما يخص المرأة السوداء، «يرسي الفضاء الإلكتروني ذاتية الجسد الأسود في التكنولوجيا». ولا بد من الإحساس بالتكنولوجيا نفسها، باعتبارها جسدًا أنثويًّا أسود، أو من خلال جسد أنثوي أسود.

(٧-٢) الفن النسوي الإلكتروني

بدأ تَجلِّي الفن الإلكتروني النسوي والرقمي المعاصر، المُتأثِّر بالنظرية النسوية — وخصوصًا لوسي إريجاري وهيلين سيزو — على الإنترنت في صورة جماعة في‎‎ إن إس ماتريكس، وهي جماعة من أربع فنانات مقيمات في أستراليا، هم: جوزفين ستارز، وفرانسيسكا دو ريميني، وجوليان بييرس، وفيرجينيا بارات. وكانت أجندة اﻟ «في‎ إن إس ماتريكس وسياستها وشعارها» كما يأتي:
نحن الفَرْج الحديث،
مناهضات للعقل إيجابيات،
غير محدودات، غير مقيَّدات، غير متسامحات،
نرى الفن بفَرْجنا، ونصنع الفن بفَرْجنا،
نؤمن بالمتعة، والجنون، والقداسة، والشِّعر.
نحن فيروس اللانظام العالمي الجديد،
نكسر الرمزي من الداخل،
مخرِّبات الإطار الأبوي.
البظر طريق مباشر إلى المصفوفة
في إن إس ماتريكس،
مُنهِيات النُّظُم الأخلاقية،
مرتزقة النجاسة،
ننزل على حواجز هيكل الحقارة،
وإذ نسبر المعبد السحيق، نتحدَّث بالألسن،
متسللات، مُربِكات، مُنتشِرات،
مُفسِدات للخطاب،
نحن الفَرْج المُستقبلي.
(في إن إس ماتريكس ١٩٩١)

كانت الفكرة هي إحداث صدمة، حتى مع الدعم الحماسي الذي لقيَه تطويعهم النسوي للتكنولوجيا من مُنظِّرين مثل سادي بلانت (التي استخدمت سطر في إن إس ماتريكس «البظر طريق مباشر إلى المصفوفة» على سبيل الاقتباس الذي استهلَّت به مقالتها عام ١٩٩٦ «النَّسْونة: تأملات عن النساء والواقع الافتراضي»). الاختلاف الجنسي، والهُوية، والتساؤل عن «نسجات» النساء، وشبكاتهن، كل ذلك أُشيع في أشكال الفن التكنولوجي هنا من جانب في إن إس ماتريكس، ولذا فقد مثَّل علامة على الارتحال من التكنولوجيا الرأسمالية الذكورية.

وبناءً على هذه الملاءمة النسوية للفضاء الإلكتروني، ظهر مزيد من الأشكال الثقافية الفرعية خلال تسعينيات القرن العشرين. على سبيل المثال، نشرت «الكلبة الطموح» (أمبيشس بِتش) — وهي عملٌ فني على أسطوانة مدمجة أبدعته ماريتا ليوليا (١٩٩٦) — صورة الكلبة باعتبارها الصورة المركزية (وضع عمل دونا هاراواي الأحدث بعنوان «بيان الأنواع المتصاحبة»، ٢٠٠٣، الكلب محل السايبور). وفي عام ١٩٩٤، عادت في إن إس ماتريكس بأسطوانة مدمجة، بعنوان «جيل/نوع اجتماعي جديد كليًّا» (أول نيو جن) مازجة لعبة الفيديو بالسَّرد التخيُّلي العلمي، وركَّزت هذه المحاكاة الساخرة مرة جديدة على العاهرة (تُسمَّى حاليًّا «العاهرات الإلكترونيات»)، مع تلاعب بكلمة «جن» (التي يُفهَم منها كلٌّ من «جنيريشن» أي جيل، و«جندرز» أي أنواع اجتماعية)، واستخدمت صورًا مكثَّفة للأعضاء الأنثوية. كان من شأن هذه الفكرة أن تحُلَّ محل — أو على الأقل أن تُقدِّم بديلًا ﻟ — ألعاب الكمبيوتر التي كانت ذكورية محضة (جنود يغزون الفضاء، ومُستكشفين رجال، وبناة مدن، وصور للغزو والاختراق الذكوريِّين).

كان من الأمور الجوهرية في «الالتفات» النِّسوي إلى الثقافة الإلكترونية دور المصطلحات، والأدوار التي كتبت عنها النساء في الفضاء الإلكتروني (على مواقعهنَّ الإلكترونية، في مجموعات). وضَمِن كلٌّ من التركيز على كونهن «عاهرات» أو «كلبات» (مصطلح اعتيادي في تقاليد الكتابة النسوية الإلكترونية)، والطبيعة الجنسية والتشريحية المباشرة أن أشكال الأدبية كانت ذات طبيعة نسائية واضحة. ولذا، بدلًا من أن تُختزَل إلى شيء جنسي معرَّف وموصوف مِن قِبَل مستخدِم التكنولوجيا الذكر، أحالت النسويات الإلكترونيات الفضاء الإلكتروني عالَمًا للأنثى الحاسمة غير المتردِّدة. وبينما كانت الألفاظ النابية من قبيل «عاهرات» تُستخدم من جانب الرجال باعتبارها تصنيفات للاحتقار والتهميش، استردَّت كاتبات الأدب النسوي الإلكتروني هذه المُصطَلحات وحوَّلتها إلى تصنيفات هُوية «إيجابية» لوصف النساء السايبورجات/المتصلات بالشبكة: تُصبح «الكلبة» أو «العاهرة» كلمة «تعريف ذاتي». وتُبرز مواقع «الكلبات» الشكل الأنثوي والهُوية الجنسية: تتعامل هذه الممارسات مع مثل هذه المصطلحات باعتبارها علامات على التمكين. وفي بعض الحالات، تُثير مواقع الأديبات النسويات وجماعاتهن حتى روحًا صوفية أو شبه خرافية. على سبيل المثال، يستخدم موقع «كلبة من جهنم» (www.yoni.com/bitch.shtml) إلهات مثل كالي وهيكيت، وليليث، وموريجان، وإريشيكجال باعتبارها رموزًا للنسوية. ويُعلن الموقع، متمِّمًا الصورة النمطية للمرأة بوصفها شكَّاءة وكلبة:
في طاقة الإلهات المُعتمات يقع المخزن الهائل للقوة الأنثوية. ومع أنها تُقمَع في أغلب الأحيان أو تُنكر فستتسرَّب في النهاية في عداوة وسخرية، بانتقادات قاسية، وشكاية، ونميمة، واستهانات ماكرة. (www.yoni.com/bitch.shtml)
ويسأل مشروع نسوي إلكتروني آخر على الإنترنت مجموعة من الأسئلة، منها:
هل تُجمِّد الكلمات: «لو أنك أحببتني حقًّا …» قلبك؟ …
هل تُريدين أن «تُصفعي» النساء اللاتي يلعبن دور «العاجزات» فقط ليَجذبن انتباه الذكور ويُدغدغن الأنوات الذكورية؟ …
هل سئمت الناس الذين يُخبرونك بأنك «عالية الصوت أكثر مما ينبغي»، و«حازمة أكثر مما ينبغي»، أو«مُعتدَّة برأيك أكثر مما ينبغي»؟ (www.heartlessbitches.com)

مثل المَوجة الثانية من النسوية والنظرية الفرنسية (إريجاري، وسيزو) التي بنَت لغة كاملة لجسد المرأة — ما يُسمَّى «الكتابة النسوية» — ونفسيَّتها، طوَّع الفن النسوي الإلكتروني الجسد واستعاراته، بوصفهما نقطة انطلاقه.

ومع ذلك، فالعمل النسوي الإلكتروني في ذاته، ومن ذاته، لم يكن جديدًا على نحوٍ مُثيرٍ للدهشة في أيديولوجيته أو أجندته. فالأفلام وأشكال الفنون المرئية النسوية طالما كانت جزءًا من الحركات المضادة والثقافية الفرعية منذ سبعينيات القرن الماضي. أنشأت فرقتا: رَيوت جرل، والبَنك الأنثوي بيئة نسوية ملائمة، حتى في الأشكال الثقافية الفرعية، باحتجاجهما ضد الصورة النمطية للمرأة «الوديعة» في التمثيل الشعبي. ولسوء الحظ، فإن الشكل الأدبي يميِّز الجسد أيضًا، ومن ثَمَّ فهو يغامر بتعزيز النموذج المعرفي القديم: المرأة = المادة/الجسد.

وضع النظرية والمقاومة داخل الجسد وحده لا يُحرِّر النساء من النموذج الأسبق. فبينما يخدم تطويع الرموز الصوفية والروحانية غرض جعل المشروع النسوي أكثر انفتاحًا، غالبًا ما يؤدِّي وضع النسوية داخل ما بعد البنيوية أو الماركسية إلى اتجاه مقلق لأولئك الميالين إلى الروحانية. وأخيرًا، فإن الطابع العنصري لكثير من هذه المَشروعات يُثير التساؤل بشأن الانقسام العِرقي داخل الفضاء الإلكتروني. وبينما تقف مشروعات معينة (رَيوت جرل إز، ٢٠٠٢) موقفًا مناهضًا للعنصرية حاسمًا (إلى جانب موقفها المناهض للتحيُّز على أساس الجنس)، فكثير مِن المشروعات النسوية يدور حول البِيض.

يصلُ الفن النسوي الإلكتروني ما بين التكنولوجيا العالية والعالم المادي بإظهار كيف أن التكنولوجيا تُقرِّر مُسبقًا أدوار النساء، وإمكانات هدمها. ومثل كاميرات ويب النساء التي تستخدم التكنولوجيا لتُمثِّل النساء بلا تدخُّل من مؤسسات «أبوية»، يؤكد الفن النسوي الإلكتروني كيف أن التكنولوجيا يمكن تطويعها من قِبَل النساء لتمكين أنفسهن. ويشي الفن النسوي الإلكتروني بأنه من أجل عكس نموذج التكنولوجيا الذكرية مقابل المرأة غير التكنولوجية، تحتاج النساء إلى تشكيل تصميم التكنولوجيا واستعمالها.

ليست الثقافات الفرعية الإلكترونية جديدة جذريًّا، فهي تمتد إلى مجالٍ آخر، وبدرجة أعلى من التواصُل، والتجمُّع، والظهور، وأنظمة التفكير، والمعتقدات، والمُمارسات التي وُجدت لزمن طويل. وتُشكِّل الأنواع الثقافية الفرعية من قبيل سرد المُعجبين التخيُّلي، أو الجريمة الإلكترونية، نوعًا من الاستحواذ، أو الانحراف، أو الإجرام، في تطويعها للتكنولوجيا. ومع ذلك، فلكي نفهم الأهمية الحقيقية لهذه الأنواع فلا تزال هناك حاجة لإجراء دراسات إثنوجرافية مفصَّلة.

هوامش

(١) ومع ذلك، ليست المدوَّنات السياسية ومدوَّنات الساسة وحملات التدوين ديمقراطيةً بالكامل. أظهرت الدراسات كيف أن المراقبة تَبقى حتى في مثل تلك الحملات المزعومة حتى تُلائم النقاشات أجندة الحملة (انظر جاناك ٢٠٠٦).
(٢) مع ذلك، تزدهر إباحية كاميرات الويب على هذا الجانب. فالكاميرات «الخفية» التي تتبع امرأة في حياتها اليومية تُتيح للمشاهدين «النفاذ» إليها من خلال عين الكاميرا، ويظهر أنها تتيح المرأة للاستهلاك.
(٣) يُنسَب إلى جنيفر رينجلي إطلاقها اتجاه كاميرا الحياة عام ١٩٩٦، من خلال مشروعها جنيكام، الذي استمر حتى عام ٢٠٠٣ (موثَّق في www.arttech.ab.ca/pbrown/jenni/jenni.html).
(٤) لدراسات للسَّرد المثلي الجنس، انظر يونج (٢٠٠٤)، وشيف (٢٠٠٤)، وثروبكايو (٢٠٠٣)، وووليدج (٢٠٠٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤