الفصل السادس

الفضاءات العامة

خطة الفصل

  • الفضاء الإلكتروني:

    • الفضاءات الثقافية العالمية

    • إعادة التركيب العالمية

    • فضاءات الرقابة

  • رسم خريطة الفضاء الإلكتروني:

    • فضاءات البنية التحتية

    • فضاءات المعلومات

    • البيت والفضاء الإلكتروني:

      • البيوت المتصلة

      • الوطن وفضاء الجاليات

    • الحياة اليومية

    • الفضاء الحضري الجديد

    • المجتمع الشبكي، والمجتمع، والديمقراطية الشبكية

  • حكم الفضاء الإلكتروني

«الفضاء الإلكتروني» هو «فضاء قابل للملاحة» حرفيًّا، ويُلمِّح اللفظ إلى كلٍّ من الإقليم والاتجاه. وبما أن الفضاء، كما زعم الجغرافيون (لوفيبفر ٢٠٠٠؛ سوجا ١٩٩٣)، يُشكَّل بفعل الأفعال التي تحدث فيه، فما يَتبع ذلك هو أن الفضاء الإلكتروني هو أيضًا نتاج التفاعُلات والعلاقات الاجتماعية، مُنتِجًا أشكاله الخاصة من الهُوية والسياسة، ومتأصلًا في الثقافات/السياقات المحلية والتاريخية والعالَمية. نَلتَفِت في هذا الفصل إلى بناء المجال العام — فضاء للمجتمع والفعل الاجتماعي — في الفضاء الإلكتروني ومن خلاله. وقبل التقدُّم إلى مسائل المجتمع والحكم والترابُط الشبكي، نحتاج إلى وضع الفضاء الإلكتروني ذاته داخل الجغرافيات الأوسع التي تَرجِع إلى أواخر القرن العشرين.

الفضاء العام الإلكتروني هو تضخيم الفضاءات العامة القائمة، وتمدُّد في عالمٍ آخر من المجتمعات ومواقع الفعل السياسي، والفاعلية التي تُوجَد في المجال العام الواقعي. ويعني هذا أيضًا، كما تمَّ توضيحه في الفصل الرابع بشأن الثقافات الفرعية، أن الفضاء الإلكتروني هو منطقة مُتنازَع عليها بشراسة، تُدار فيها معارك أيديولوجية بين المصالح التجارية وحركات العدالة، والمحافظين الجدد والراديكاليين، والأعمال التجارية وأنصار البيئة، والدولة والمُجتمع المدني. حتى مع الحركات الراديكالية والحركات الهدامة في الفضاء الإلكتروني، تُمارَس السيطرة من قِبَل المصالح التجارية. وحتى بينما تحث هذه المصالح التجارية على حكم الدولة للإنترنت، تُفلت وسائل الإعلام البديلة من التشريع، ويُفسِد المُخترِقون الرواية الاستغلالية للرأسمالية التكنولوجية للتيار السائد.

يمكن تفكيك موضوع الفضاء العام الإلكتروني إلى أسئلة، مثل:
  • ما الصلة بين إعادة البناء العالمية، والجغرافيا السياسية العالَمية، والفضاء الإلكتروني؟

  • كيف يُمكن رسم خريطة الفضاء الإلكتروني؟

  • كيف يَتأثَّر فضاء البيت، والحياة اليومية، والعمل، والفضاء العام من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وتكنولوجيات الاتصالات الشخصية؟

  • هل تُغيِّر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، على نحوٍ ملموس، المقاوَمة، والمشارَكة السياسية، والديمقراطية، والحركات الاجتماعية؟

  • هل تتأثَّر «الأقاليم» الأوسع مثل الدولة والمنطقة بالروابط الإلكترونية العابرة للقوميات والعالَمية؟

  • أي أشكال السيطرة والرقابة توجد وتيسرها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات؟

(١) الفضاء الإلكتروني

الفضاء الإلكتروني هو نتاج تكنولوجيا الاتصالات العالمية — التي تَتراوح بين فضاء محادثة هاتفية، وبين بيئات الواقع الافتراضي لألعاب الكمبيوتر — ويُمكِن فهْم الفضاء الإلكتروني على «مستويات» متنوِّعة، من الموقع المكاني لنظام الواقع الافتراضي إلى فضاءاته الداخلية، ومن فضاءات الرقابة على الدوائر التليفزيونية المُغلَقة، إلى مدنٍ معلوماتية بأكملها.

وبينما يتحدث المتحمِّسون للتكنولوجيات الإلكترونية (مثل نيجروبونتي ١٩٩٥) بحماس عن تجاوز الفضاء من خلال خلق أكوان افتراضية وعوالم مُوازية، فمما يَجدُر ذكره (كما يفعل ستيفن جراهام ١٩٩٨) أن الفضاء الإلكتروني يتطوَّر بالمشاركة مع الفضاءات المادية التقليدية المحضة. ولذا، تُبنى المدن على نحوٍ متزايد لتناسب مد الكوابل، والأجزاء الموصَّلة سلكيًّا، وأبراج البث، والمواصلات التي تُنتِج بدورها الفضاءات الإلكترونية. وحتى بينما يتواصل الناس عبْر الفضاءات وبلا تفاعل جسدي وجهًا لوجه، فهم يستمرون في سُكنى مبانٍ ومؤسسات واقعية.

(١-١) الفضاءات الثقافية العالمية

تميَّزت العقود الأخيرة من القرن العشرين بشبكات الاتصال العالمية التي توحِّد الفضاءات الشاسعة، وتأتي بالمجهول إلى عالم المعلوم (أو على الأقل «ما يُمكن معرفته»)؛ إذ تجعل وسائل الإعلام والاتصالات العالَمية البعيد قريبًا.

تستطيع مجتمعات الجاليات الاتصال ﺑ «أوطانها»، وعائلاتها، ومجتمعاتها عبْر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وبذلك تبقى، ثقافيًّا وعاطفيًّا وفكريًّا، وفي وقت واحد، في ثقافاتها المتبناة، وفي تلك التي تركتْها وراءها. تسهل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات عمليتَين مُتزامنتَين، هما الفكاك من الإقليم (فقْد أوطانهم)، وإعادة التأقلم (البقاء على صلة بأوطانهم من خلال آليات مختلفة).

ومع ذلك، فالنسيج الثقافي للفضاء الإلكتروني هو أمريكي على نحوٍ مُتزايد، مع هيمنة اللغة الإنجليزية، وهيمنة البرامج والتوظيف والشركات المُزوِّدة بالخدمات التي تعتمد على استثمارات الشركات الأمريكية (مثل مايكروسوفت، وإيه أوه إل). وكما أوضح النقاد (مثل سردار ٢٠٠٢)، فالفضاء الإلكتروني مُؤمرَك.

ومن الأنماط الأخرى لمثل هذه العولمة للفضاءات الثقافية، الدين. أخذ الدين، في كل مكان، يتفاعَل مع التكنولوجيات الجديدة. حينما ظهرت الطباعة لأول مرة في أوروبا في أوائل العصر الحديث، استفادت المسيحية بقدْر هائل من خلال الطباعة الأرخص للكتاب المقدَّس (آيزنشتاين ١٩٧٩). وانتقلت الخطابات الدينية كما لم يَحدُث من قبل، مُغيِّرة طبيعة الإيمان ذاتها. وفي عصر شبكات الكمبيوتر والتكنولوجيا الرقمية — مع «المعلمين المُلهمين» للكمبيوتر، وشاماناته، وصوفيِّيه — يعود الإيمان بأشكال مختلفة. ابتكرت شركة «الكون» القائمة في دبي «هاتفًا إسلاميًّا»، وهو «آي ٨٠٠»، وتَعِد الشركة بأن تصل ما بين المؤمنين ومُعتقَداتهم أينما كانوا (www.ilkonetel.com). وتسمح معابد مُنتقاة في الهند للمؤمنين بإرسال الصلوات في صورة رسائل نصية قصيرة. أما بايلوت ييد (pilotyid.com) فهي خدمة قائمة على اليهودية، تُتيح للمستخدمين تنزيل الصلوات على أجهزتهم المحمولة؛ وتُسمَّى الخدمة على نحوٍ موفَّق «المزامير في راحة يده» (بيدلكومب ٢٠٠٤).

تستخدم الطوائف أيضًا شبكات الكمبيوتر لتقديم حُجَجها، مثلما ترغب الديانات السائدة في مد نطاقها. وتوجد تجمعات افتراضية في «غرف اجتماعات» مخصصة، لأديانٍ ومعتقداتٍ مختلفة. ويَزعم ستيفن أوليري (١٩٩٦) أن من الممكن اعتبار الطقوس الافتراضية «محاولات لتحقيق حاجات رُوحية أصيلة غير مُلبَّاة في الوقت الراهن من جانب المؤسسات الرئيسة في المذاهب الدينية» (ص٨٠٣). ويَستنتِج أنها تعيد التكامل بين عقول المشاركين وعواطفهم — وأن ذلك بُعْد جديد رئيسي للفضاء العام.

تَشمل «الفضاءات الثقافية» أيضًا فضاء التجارة. نما الإنترنت بوصفه وسيطَ إعلانات نموًّا مضاعفًا. اللافتات، والنوافذ المُنبثقة، وبث الصوت والصورة، والإعلانات المُتزايدة الحركية، كلها حوَّلت الإنترنت إلى «فضاء جديد للاستهلاك».١ وقد أظهرت الدراسات أن الإنترنت يُشكِّل نحو ٢ بالمائة من النفقات الدعائية في وسائل الإعلام في الولايات المتحدة (ليكنبي ٢٠٠٥: ١١). وهو يَنطوي أيضًا على تشكيل جديد للفضاء الثقافي؛ لأن الإعلان على الإنترنت (أو «الإعلان الشبكي») هو شكل جديد بالكامل من الاتصال الاستهلاكي.٢

يعني النموذج التفاعُلي للإعلان على الإنترنت أن المُستهلِك يَبحث، وينتقي، ويتابع (عبر سلسلة من النقرات). وهو يضع المُستهلِك في مركز عملية الاتصال؛ لأن المستهلك هو الذي يُقرِّر درجة التفاعل مع الإعلان، وهذا تحوُّل رئيسيٌّ في الفضاء الثقافي للاستهلاك، استحقَّ تخصيص دورية بكاملها («جورنال أوف إنتراكتيف أدفرتايزينج») لدراسة تطوُّره.

(١-٢) إعادة التركيب العالمية

الأمر الأكثر مكرًا بشأن الفضاء الإلكتروني هو الطرق التي يُعيد من خلالها تركيب العالم المادي. يوجد الفضاء الإلكتروني لأن المركَّبات من قبيل الهندسة، والعمل، والأسواق، والبِنى التكنولوجية تساعده على الوجود. لا ينبثق توسيع الفضاء الإلكتروني من طبيعته المتأصلة فيه فقط، ولكن من خلال انتشار هذه التراكيب. يُعاد تنظيم المدن لتساعد التكنولوجيات الجديدة والكيانات المؤسَّسية الجديدة على الظهور، وتُغيِّر الرواتب المختلفة الأنماط الاستهلاكية، والإيجارات، وسوق العقارات، والعلاقات الاجتماعية.

المدن الشبكية هي حواضر مُرتبطة بالعالم من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات. وتنشر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات إنتاج المُنتجات واستهلاكها عبْر العالم. ويشمل هذا «أبعاد» الفضاء الإلكتروني البرامجية، والاتصالية، والاستهلاكية، والثقافية وهي الأهم. يؤدِّي هذا النشر إلى نوعٍ من التجانس، تتشابه فيه معظم المدن المتصلة، ومن ثَمَّ تفقد تميزها المحلي (يسميها كاستلز وهول ١٩٩٤ «المدن المرنة»؛ لأنها فقدت إحساسها الفريد بالمكان).

ومع ذلك، فليس «كل» جزء من العالم يصبح جزءًا من هذه الجغرافيا الجديدة ﻟ «المدن العالمية». تبقى أجزاء من العالم مُستبعَدة من الشبكات المعلوماتية بفعل النفاذ المتفاوت، والتكنولوجيا الرديئة، والعوامل الجيوسياسية؛ ولذا، فالاستخدام الأوروبي-الأمريكي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات لا يُقارَن بأي شكل من الأشكال بالاستخدام في أمريكا الجنوبية أو الداخل الأفريقي. ولا تضمن إعادة التركيب دائمًا نفاذًا أكبر أو أرخص إلى التكنولوجيات، كما لحظنا في الفصل الأول في الجزء المتعلِّق ﺑ «الانقسام الرقمي». دول مثل الهند هي جزء من إعادة تركيب العالم من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصال؛ لأنها تخدم غرض توفير مكتب خلفي للمساندة. وتُسحَب الهند في هذا الصدد إلى مجتمع المعلومات، ليس بصفتها لاعبًا مُساويًا يُقرِّر بشأن السياسة، ولكن بوصفها مُزوِّدًا بالعمالة الرخيصة، وربما الأقل مهارة. وفي عملية سلخ من العِرق، يُمنَح العاملون في مجال الرد على المكالمات أسماء «غربية»، ويكون عليهم أن يكتسبوا لُكنة أمريكية — لا بدَّ من تذكُّر أن فرض لغة الغازي-الأجنبي كانت جانبًا مهمًّا من الاستعمار — وأن يمرُّوا بدورة تدريبية صارمة على مدى ٦–٨ أسابيع في «الثقافة الأمريكية» (انظر شوم ٢٠٠٦). وغالبًا ما تُترجَم إعادة التركيب هنا باعتبارها وصلة استغلالية ذات اتجاه واحد إلى الاقتصاد المعلوماتي.

المدن العالمية

المدن العالمية مدنٌ متصلة بتدفُّقات المال والبيانات والأفكار، تعمل غالبًا بوصفها مراكز التقاء لانتقال هذه التدفُّقات، وتَمتلِك عمارة حضرية منزوعة الطابع المحلي، وتحتوي على مُركَّبات العتاد الصلب نفسها المصنوعة من الكروم/الزجاج مثل أي مدينة أخرى.

وكما يُشير مانويل كاستلز، فالمسألة العُمالية الرئيسية للمجتمع المعلوماتي ليست غاية العمل ولكنَّها «أوضاع العمال»؛ إذ تُدرَج حتى عمالة الأطفال ذات الأجر المنخفض في قوة العمل (كاستلز ٢٠٠٠: ١٥٣). إعادة تركيب العالم الاستغلالية هذه، وما يَرتَبِط بها من قوة عمل يتزايد عزلها واستبعادها اجتماعيًّا — «الثقوب السوداء في الرأسمالية المعلوماتية» (كاستلز ٢٠٠٠: ١٦٥) — لتوليد الأرباح لعدد قليل، هي مسألة تُؤخذ في الاعتبار عند قراءة عمل من أعمال نيجروبونتي. لا يُمكن فهْم إعادة التركيب العالمية بمعزل عن أنواع التغييرات التي تُحدِثها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات «داخل» مدن مُتنوِّعة؛ فالمدن في الهند وأمريكا الجنوبية التي ربحت كثيرًا من استعانة المجتمع المعلوماتي بالمصادر الخارجية تُبدي أنواعًا معينة من التوترات. كل شيء، من أنظمة النقل إلى الصيرفة والتمويل، وإقامة مجمَّعات الأعمال، والمجتمعات المسوَّرة، يُسخَّر لخدمة الاقتصاد المعلوماتي وليس أي نظام آخر. وتضمن التغيرات في الإيجارات وأساليب حياة المحترفين الشباب في مجال تكنولوجيا المعلومات، وبالمثل مناهج العمل والثقافات المختلفة، اضطراب المجال الاجتماعي لهذه المدن (حيث تكون اللغة الإنجليزية وهيمنتها هما السِّمة الأكثر بروزًا). وتُجمل دراسة جيمس هايتسمان لمدينة بانجالور الموقف المحزن؛ حيث تُبنى العوالم الافتراضية الجميلة على العالم «الواقعي» الفقير والمحطَّم بشدة، وإلى جواره:

ربما هنا في التباعُد المِسْخِي للجيوب الحضرية عن الأولاد الحفاة الذين يَغسِلون الأطباق وراء أكشاك الشاي، يُمكننا أن نرى علامة العالمي، ذلك الشبه بين بنجالور وغيرها من مدن العالم (٢٠٠٤: ٢٠٩).

هذه أيضًا «إعادة تركيب»، إعادة تركيب يكون فيها عالم الفضاءات الافتراضية والتمويل العالَمي الخفي، ولكن المؤثر بقوة، حالًّا في طبيعة العالم الواقعي لمثل هذه المدن، ومبدِّلًا لها.

ومع ذلك، فإعادة التركيب تنطوي أيضًا على اختلاق صلات جديدة بين الجماعات السياسية وجماعات المصالح، خالقة «طبقات وجماهير عابرة للقومية». ولذا، فالربط بين المنظمات غير الحكومية أو منظمات حقوق الإنسان على مستوى العالم، من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، يُشير إلى إنشاء فضاءات سياسية جديدة في الفضاء الإلكتروني. وتتيح إعادة التركيب هذه انتماءات سياسية واصطفافات ونطاقات فعل أحدث. فالحراك السياسي وإطلاق الحملات، وشبكات المعلومات، والدعاية النشاطية التي ينتشر كلٌّ منها عالميًّا في الوقت الراهن، تشير إلى أن السياسة لن تبقى رهينة بالمكان، ولكنها سوف تكتسب تركيبًا مُنتشِرًا، قد تكون له آثار محلية — تضخيم واضح للشأن السياسي.

المجتمع الشبكي

مصطلح يزداد استخدامًا لوصف الطبيعة الموصولة للمدن والمجتمعات عبْر العالم. المدن الشبكية مربوطة بالتدفُّقات العالمية للتجارة، والثقافة الاستهلاكية، وحتى السياسة. هذه مدن متَّصلة، أو فائقة الترابط، تُمارَس فيها النقاشات السياسية، والخدمات الأساسية، والفراغ، والحكم، والتجارة، كلها بوساطة التكنولوجيا، باستخدام البرامج والكمبيوترات والإنترنت.

(١-٣) فضاءات الرقابة

الدوائر التليفزيونية المغلقة، وكاميرات الويب، والتتبُّع الإلكتروني، وتتبُّع المسارات الرقمية، كلها تكنولوجيات رقابة. ويُمكن في الوقت الحالي تتبُّع التفصيلات الشخصية والحميمة، وتسجيلها، وتصنيفها في قواعد بيانات ليَنفُذ إليها شخص آخر. لم يَعُد الخاص خاصًّا بالكامل؛ فأرباب العمل يَنفُذون إلى البريد الإلكتروني للموظفين، والدوائر التليفزيونية المغلقة تتتبَّع حركة أجساد الأفراد في المراكز التجارية أو المتنزَّهات. ويرسم مشروع الجينوم البشري خرائط للحمض النووي لكل المجتمعات. هذا النوع من المراقبة اتجه إلى الداخل أيضًا، مع تثبيت المسابير داخل الأجساد البشرية، لقياس مستويات الأنسولين، والدواء، والتغيُّرات في أحوال الجسد المعينة. وهكذا تُمثِّل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات علامة على الأشكال الجديدة والدرجات الجديدة من الرقابة. وتخدم غرض «الضبط الاجتماعي الكثيف».

ويمكن الربط بين المخاوف بشأن «سرقة الهُوية» وبين هذه الرقابة المتزايدة. فكلمات المرور، وتتبُّع عناوين بروتوكولات الإنترنت، والشفرات الأمنية، والجدران النارية، كلها تدابير أمنية تسعى إلى حماية البيانات وهُوية المستخدِم. وتصبح عمليات البحث على الشبكة العنكبوتية العالمية أيضًا فضاءات للرقابة. يُحذِّرنا بحث مارتن زيمر بشأن جوجل، بصفته تكنولوجيا ﻟ «الرقابة على البيانات» (استخدام البيانات الشخصية في التحرِّي عن شخص أو أكثر أو مراقبتهم)، من إمكان إساءة استخدام عمليات البحث. يفترض زيمر (٢٠٠٨) أننا يجب أن نُوسِّع دراسة مشكلات الخصوصية المتعلقة بالبحث من «المخاوف بشأن المعلومات الشخصية التي يمكن العثور عليها عن الناس الآخرين من خلال محركات البحث، لتشمل الاستكشاف النقدي للبيانات الشخصية غير الرسمية التي تُجمع بطريقة اعتيادية، حينما يعتمد المستخدمون على محركات البحث من أجل أنشطة بحثهم عن المعلومات» (٢٠٠٨: ٨٣). جوجل من وجهة نظر زيمر هو جامع معلومات من مستخدميه أقرب إلى الكمال؛ فكل مستخدميه يُسحَبون إلى «بنية تحتية أوسع للرقابة على البيانات» (٢٠٠٨: ٩٣)، مُظهرًا بذلك كيف أن مجتمع الرقابة تمدَّد بطرق ماكرة.

عمليات الاحتيال من خلال البطاقات الائتمانية و«سرقات الهُوية» عنصران حاسمان في ثقافةٍ قوامها قلقٌ تكنولوجي وافتقار أعظم للأمن؛ ولذا، تُعنى الرقابة أيضًا بذات المرء: ما المعلومات التي تخرج من كمبيوتري/بيتي؟٣

(٢) رسم خريطة الفضاء الإلكتروني

ما دام الفضاء الإلكتروني مصاغًا باستخدام الفضاءات الاجتماعية والمادية، وداخلها، فلا يُمكن قراءته على اعتبار أنه جغرافيا جديدة دون ربطه بالفضاء المادي.

يُمكن أن «نقرأ» الفضاء الإلكتروني على اعتبار أنه مشكَّل بفعل الفضاءات الأخرى. ويمكن أن تكون هذه الفضاءات هي فضاءات البِنية التحتية للإنترنت (مثل النطاق العريض أو حركة المستخدمين)، أو فضاءات المعلومات (التي تشمل فضاءات تبادُل المعلومات من قبيل البريد الإلكتروني، أو الدردشة). وبالإضافة إلى هذه الفضاءات الموصولة بالفضاء المادي، تُنتِج تكنولوجيات المعلومات والاتصالات أشكالًا جديدة من الفضاءات داخل الفضاء المادي. فهي تُغيِّر معاني البيت والمجتمع على سبيل المثال، أو تُضخِّمها.

(٢-١) فضاءات البنية التحتية

أحد الأنماط المفيدة للتعامل مع الفضاء الإلكتروني اقترحه مارتن دودج وروب كيتشن (٢٠٠١). يتضمَّن هذا رسم خرائط لبِنية الإنترنت التحتية، العالمية أو الإقليمية أو المحلية. ترسم أطالس وسائل الإعلام العالمية التي أعدَّتها شركات مثل بريمتريكا (تليجيوجرافي على www.telegeography.com/products/map_internet/index.php) خرائط للتوزُّع وانتشار البنية التحتية للإنترنت وملامح الاستخدام، باستخدام معلومات إقليمية محدَّدة، عن سعة النطاق، وعناوين برتوكولات الإنترنت، وكثافة الاستضافة، وتدفُّق البيانات عبْر الإنترنت. ويشتمل موقع مارتن دودج للبحث الجغرافي الإلكتروني (١٩٩٧–٢٠٠٤) على أطلس للفضاء الإلكتروني يَرسُم خرائط للكوابل، والأقمار الاصطناعية، وخرائط لمواقع الويب، وخرائط لمسار المستخدم، والنطاقات المتعددة المستخدمين، والعوالم الافتراضية (www.cybergeography.org/atlas/atlas.html). ويمكن أن تكون هذه خرائط تفاعلية تمكِّن مستخدمًا ما من فحص تركيب العمود الفقري للإنترنت، وانتشاره، وتركزه، من خلال أداة رسم خرائط تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وهي «ماب نِت». وتُمكِّن أدوات رسم خرائط أنشطة الإنترنت، مثل «بالانتير»، مستخدمي الويب من مراقبة تدفُّق البيانات من مواقع متعددة أو عبْر فترة من الزمن.

هذه بالأساس جهود في رسم خرائط البنية التحتية المادية للفضاء الإلكتروني واستخدامه. وغالبًا ما تكون خرائط «طوبولوجية»، وربما لا تتوافق الخريطة مع أي فضاء جغرافي محدَّد؛ أي أن هذه الخرائط تكشف عن نوع آخر من المعلومات، يتعلَّق بالاستخدام، والانتشار، والبِنية التحتية، قد لا تكون له علاقة بالفضاءات الجغرافية كما نعرفها.

(٢-٢) فضاءات المعلومات

فضاءات المعلومات هي فضاءات لتبادُل المعلومات. تُشكِّل قوائم التراسل، والبريد الإلكتروني، وجماعات الأخبار؛ فضاءات للمعلومات. حتى خرائط المواقع على المواقع الإلكترونية للشركات، التي تقودُك عبْر مسار محدَّد، أو تدعُك تبحث بطريقة عشوائية، هي فضاءات معلومات. وهذه فضاءات للعمليات الاجتماعية، ما دام الاتصال يدور حول التفاعُل الاجتماعي.

لا شكَّ أن البريد الإلكتروني هو أكثر جوانب التكنولوجيا الرقمية استخدامًا، وكان أول تطبيقاتها (بدأ استخدامه عام ١٩٧٠). والبريد الإلكتروني، مثل كل أشكال الاتصال، هو عملية اجتماعية، وأسلوب تفاعُل. ويُشكِّل البريد الإلكتروني اتصالًا لا تزامنيًّا؛ حيث لا يلزم أن يكون الناس حاضِرين على الإنترنت في الوقت نفسه، فيمكن الرد على الخطابات والرسائل بعد وقت طويل من إرسالها. غيَّر البريد الإلكتروني من الاتصال لأنه رخيص (بل مجَّاني)، وفعَّال، ويمكن حفظه، ويمكن أن يتجه إلى متلقِّين كثيرين بنقرة واحدة. ويستطيع الناس على نحوٍ متزايد التواصُل أثناء تحركاتهم، باستخدام هواتف آي فون، وتكنولوجيا الإنترنت على الأجهزة المحمولة. وغيَّر البريد الإلكتروني من المهارات اللغوية من خلال الوجوه التعبيرية وأشكال الصياغة الجديدة الناشئة مع الوسيط.

الوجوه التعبيرية

الوجوه التعبيرية هي رسوم وجوه، يُقصَد بها التعبير عن الحالات العاطفية. وإذ تَنبثق من الجمع بين الصورة والعاطفة، فهي تمثِّل لغة جديدة، تطوَّرت مع الثقافات الإلكترونية والاتصالات باستخدام الرسائل النصية القصيرة.

تُوسِّع قوائم التراسُل مجال اتصال البريد الإلكتروني؛ فهي أشكال من تبادُل المعلومات من الواحد إلى الكثرة. وتُقدِّم جماعات الأخبار المعلومات بشأن عناوين محدَّدة. وتحكم البروتوكولات استخدام هذا الفضاء، وعادة ما يُحدِّدها المستخدمون أنفسهم. قدَّم مشروع «نت سكان» في مؤسسة مايكروسوفت، الذي ظل يُحدَّث حتى ٣١ مايو ٢٠٠٧، إحصائيات عن عدد مرسلي الرسائل، والمقالات، في المجموعات الإخبارية المختلفة، وبنى بذلك قاعدة بيانات لجماعات الأخبار الشعبية. الجماعات الإخبارية فضاء اجتماعي، تجمع فيه عمومية الآراء والمصالح الناسَ على الإنترنت، بصرف النظر عن توزُّعهم الجغرافي.

أما «الدردشة المعتمدة على الإنترنت»، التي عادة ما تُختَصر ببساطة إلى «الدردشة»، فهي اتصال مُتزامن على الإنترنت. ويمكن أن تكون بين شخص وشخص، أو بين شخص وأشخاص، وتظهر ردود الناس في صورة نصٍّ على الشاشة. لا يُعرَّف المتراسلون إلا باسم المستخدِم، ولا يلزم على الإطلاق إعلان هُوياتهم في الحياة الواقعية أثناء الدردشة. ولذا، يُنظر إلى الدردشة على أنها فضاء حُرية رئيس، يُمكن فيه للمرء الإفصاح عن الرغبات والمَخاوف والفتيشات والغرائب، دون أن يجلب على نفسه خزي الحياة الواقعية. تستخدم دوائر الدردشة (alumni.media.mit.edu/~fviegas/projects/chatcircles/index.htm) التي طوَّرها فيرناندا فييجاس وجوديث دونانث عام ١٩٩٩، الواجهات التفاعلية الرسومية للدردشة، وتمنح دوائر ملوَّنة لكل المشاركين — وبقدْر ما «يتكلَّم» المشارك تصبح الدائرة أنصع! ويعني هذا أن المستخدمين يَستطيعون الانضمام إلى غرفة الدردشة، ويَعرفون من فورهم عددَ الناس هناك (وهو تقدُّم على أشكال الدردشة الأسبق التي لم يكن المُستخدِمون فيها على دراية بالمُندسِّين الذين كانوا يراقبون فقط ولا يُشاركون في الدردشة). أما مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، وأوركت، وماي سبيس، فتمُد الدردشة إلى بُعد جديد.٤
ومما يُوسِّع إمكانية فضاءات المعلومات الاجتماعية النطاقات المتعدِّدة المستخدمين. وهذه عوالم متوازية، ينهمك فيها اللاعبون في أداء الأدوار. النطاقات المتعددة المستخدمين هي فضاءات قابلة للملاحة، لها نوع مختلف من الغرف، ومسارات التجول، والطرق الرابطة. يتحرَّك المستخدمون، حرفيًّا، خلال عالَم النطاقات المتعددة المستخدمين. ولذا، فمِن المُثير للاهتمام رؤية فضاءات النطاقات المتعددة المستخدمين على الإنترنت تُنشَأ على امتداد خطوط الأعمال السردية التخيُّلية في الروايات. وتشمل الأمثلة الشهيرة لعبة الإنترنت «ديسكوورلد إم يو دي»، المَبنية على رواية تيري براتشيت (discworld.atuin.net/lpc/)، أو إم يو إم إي «المستخدمون المتعدِّدون في وسط الأرض» (www.lordotrings.com/artmedia/mume.asp)، و«لورد أوف ذي رينجز أونلاين» (lotro.turbine.com) المبنية على رواية جي آر تولكيين «ذي لورد أوف ذي رينجز».
والآن، لدينا ألعاب تأدية أدوار على الإنترنت، متعدِّدة اللاعبين، وذات طابع جماهيري، بمدن وحضارات (في لعبة «سيفيلايزيشنز») وعوالم كاملة. العوالم الافتراضية للألعاب مثل «سكند لايف» (www.secondlife.com) هي مشروعات تجارية، يستطيع الناس فيها إنشاء أفاتاراتهم، والتجمُّع، وشراء الممتلكات وبيعها، والتفاعل الاجتماعي. وما يَجدُر ذكره أن كل عوالم الواقع الافتراضي هذه هي عوالم «اجتماعية»، لا تُنشِئ فضاءات من خلال «وصلات» الغرف ومسارات التجول، ولكن أيضًا من خلال التفاعُل الاجتماعي. مسارات المحادَثات، وتكتُّلات النقاشات، وتبادُلات التفصيلات تُشكِّل فضاء معلومات اجتماعيًّا. يَبني المُستخدمون مجتمعات وغرفًا وفضاءات على الإنترنت من خلال مشاركة المعلومات، وإن كانوا يستخدمون القوالب المتاحة لفعل ذلك. وكما افترض مُنظِّرو الفضاء، مثل هنري ليفيبفر (٢٠٠٠)، يُصنع الفضاء «من خلال» التفاعُل الاجتماعي.

غير أن الفضاء الإلكتروني والعوالم الافتراضية، كما ذكرنا في الفصل الخامس، مُتأثِّران بالنوع. وهما يُمدِّدان النوع وتفاوتات القوة من العالم المادي إلى العالم الافتراضي. اقترحت ناقدات نِسَويات (مثل ترافيرس ٢٠٠٣) أن طبيعة الفضاء الإلكتروني المؤسَّسة على النوع يُمكن تعديلها تعديلًا جوهريًّا من قِبَل المستخدِمات. ومثلما استبعد الفضاء العام النساء تقليديًّا، تَستمر الفضاءات الإلكترونية في معاملة النساء على أنهنَّ هامشيات. ولا يستدعي إصلاح الفضاء الإلكتروني، ليكون فضاءً عامًّا، أرحب هروبًا من التجسُّد، ولكن عودة إلى التجسُّد.

الفضاء العام نفسه يحث على الحياد، والعقلانية، والموضوعية. تُوكل العواطف والقرابة إلى المجال الخاص بعض الشيء. ويستبعد هذا تلقائيًّا اهتمامات النساء (الأسرة، والأواصر، والعواطف)، باعتبار أنها غير ملائمة للفضاء العام. وبالمثل، يَستبعِد الفضاء الإلكتروني، بوصفه فضاءً اجتماعيًّا هذه الشاكلة من الجوانب «الأنثوية» حينما يعمل عمل الفضاء العام. وتُغيِّر أعداد المُستخدِمات المُتزايدة، وجَماعات المسانَدة على الإنترنت، والنشاط السياسي المُتنامي من طبيعة الفضاء العام، باعتباره فضاءً عامًّا مضادًّا نسويًّا (وهي حجة مضادَّة للمجال العام الهابرماسي، صاغتها مُنظِّرات مثل نانسي فريزر، ١٩٩٢). ويُمكن بالطبع تحسين هذا الأمر بقدْر أكبر، ليلائم النساء في جماعات وسياقات إقليمية وإثنية وعِرقية معينة.

يتركَّز الفضاء الإلكتروني أيضًا على «فضاءات» أخرى: البيت، وجماعات الجاليات، والمجتمعات. وتَنطوي مسألة الفضاء العام في الفضاء الإلكتروني، بالإضافة إلى مسائل جماعات الجاليات، والمجتمعات، على مسائل الديمقراطية الشبكية، والحكم الإلكتروني.

(٢-٣) البيت والفضاء الإلكتروني

(أ) البيوت المتصلة

يتعرَّض فضاء البيت للتغيير باطراد. فالكمبيوترات العملية تُساعِد المُستخدِمين على الارتباط بمكان العمل. ويُمكن التسوُّق من البيت، وتُناقَش المناظَرات حول الشأن المُجتمعي عبْر البريد الإلكتروني. وتُساعد الهواتف المحمولة المستخدمين على التواصُل مع أطفالهم من خارج البيت. ويستطيع الآباء والأمهات، من خلال أنظمة تحديد المواقع، ومراقبة هواتف أطفالهم المحمولة، الاطلاعَ على تحرُّكات فلذات أكبادهم في المدينة. ويَستخدم العاملون من المنزل الفضاء الذي يعتبر «شخصيًّا» أو «عائليًّا» لإعادة تشكيل هذا الفضاء. أما المنازل «الذكية»، المتصلة، المرتبطة من خلال الشبكات، الحاضرة دائمًا على الإنترنت، فتُمكِّن الأبناء من «مغادرة» البيت دون مغادرته في الواقع، تمامًا مثلما تستطيع المعلومات التي تخرج من البيت من خلال مواقع التواصُل الاجتماعي أن تتسبَّب في غزوٍ محتمَلٍ لفضاء البيت من جانب الغرباء. قد تدخل البيت معلومات غير مرغوبة، وقد تخرج منه معلومات خطيرة. تَستنِد برامج آي سي كيو (وتُنطَق «آي سيك يو» بمعنى «أريدك») للدردشة على الإنترنت على الإفصاح عن الذات، على أمل و/أو قصد أن مثل هذا الإفصاح من شأنه أن يُساعد على إنشاء علاقة (ليونج ٢٠٠٢)، لكن ثمَّة خطرًا من أن كشف معلومات أكثر مما يَنبغي يُمكن أن يُنتِج مخاطر في العالم الواقعي.

وهكذا يُصبح تنظيم الفضاء المنزلي، والإحساس به، وحتى تركيبه، مختلفًا جوهريًّا نتيجة استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات.

في البيوت الموصولة، تتشكَّل جغرافيات الفضاء العائلي من مسائل مِن قبيل مشاركة وقت الكمبيوتر الشخصي. هل يَصير الكمبيوتر الشخصي، مثل التليفزيون، الذي غيَّر فضاء غرفة المعيشة في الجيل الأسبق تغييرًا جذريًّا، جزءًا من أسلوب حياة الأسرة؟ هي يَشغل الكمبيوتر الشخصي حيزًا مخصوصًا مثل غرفة المكتب أو المكتب؟ يتوقَّف هذا على طريقة «استئناس» الكمبيوتر الشخصي (باقتباس مُصطلَح سيلفرستون وهادون ١٩٩٦) من جانب أعضاء العائلة. وتتعدَّد أساليب الاستئناس المُمكنة، من إعداد الميزانيات، إلى مُمارسة الهُوايات، إلى إجراء الاتصالات (انظر فروليش وآخرين ٢٠٠٣: ٣٠١).

فيما يخصُّ النساء، غيَّر «تطفُّل» الإنترنت والكمبيوتر الشخصي الحياةَ اليوميةَ بطُرقٍ مهمَّة. «المكتب المنزلي» فضاء جديد يُفتَرَض أن تَشغله النساء؛ حيث يَقُمن بوظائف في عالمين — البيت ومكان العمل — بوساطة الكمبيوتر، مُعقِّدًا حيواتهن، حينما يَستدعي الأمر تحقيق الدورَين معًا (سي بيرك ٢٠٠١؛ ماكجيرتي ٢٠٠٠). ولا تزال التساؤلات بشأن التحكُّم القائم على النوع في التكنولوجيا، وبشأن الوقت، وبشأن القدرة على الاتصال كما هي بلا تَغيُّر في معظم الحالات. ويقودنا هذا إلى نقطة أيديولوجية حاسمة بشأن انتشار تكنولوجيات المعلومات والاتصال. لا بد من دراسة استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتِّصالات فيما يخصُّ تأثيراتها على الإنترنت وخارج الإنترنت. فالعوالم الافتراضية التي أنتجتها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تبقى مدمجةً بإحكام في العالم الاجتماعي والمادي. والاهتمامات والوجُود على الإنترنت هي تمديدات/تضخيمات للاهتمام والوجود «اللحميَّيْن» أو الواقعيَّيْن، ولكنهما لا يحُلَّان محلهما أبدًا. ولهذا، وما دام استخدام الإنترنت وخبرة الحياة على الإنترنت (بالنسبة إلى الرجال والنساء والأطفال) معتمدَيْن على الحياة خارج الإنترنت، فإن اعتبار العوالم الافتراضية للتكنولوجيا الإلكترونية شكلًا مُنفصلًا ومستقلًّا عن الظروف المادية يعني محو سياقات الاستخدام. كل العمل على الإنترنت موصول بدرجةٍ ما بالخبرات المعاشة خارج الإنترنت، تمامًا بقدْر ما قد تشكل الحياة على الإنترنت الحياة الواقعية. وفي حالة النساء، مثلًا، تتحكَّم أدوارهن، بوصفهن مقدِّمات للرعاية، أو أمهات، أو زوجات، في مقدار الوقت الذي يَقضينه على الإنترنت، وحتى طبيعة ما يفعلنه على الإنترنت؛ الواجبات المنزلية للأبناء أَم الهوايات الشخصية؟ الأمور الصحية أَم الاهتمامات الفنية؟

(ب) الوطن وفضاء الجاليات

يُعيد الإنترنت أيضًا تشكيلَ نوعٍ آخر من «البيت»، ألا وهو «الوطن» فيما يخص فرد/مجتمع الجالية.

تفترض مادهافي مالابراجادا (٢٠٠٦) أن دراسات الفضاء الإلكتروني تتشارك مجموعة الاهتمامات نفسها مثل دراسات جماعات الجاليات؛ الحدود واجتياز الحدود، الموقع المكاني، والتساؤلات عن الوطن. ولذا فمِن الأهمية بمكان أن نرى كيف يُعيد الأفراد والمجتمعات تشكيلَ المجال الخاص والوطن في الفضاء الإلكتروني. يفضي بنا هذا، كما أفترض، إلى مجموعة من الأسئلة:
  • كيف يُتخيَّل المجتمع أو الوطن في الفضاء الإلكتروني؟ (دراسة أماندا ميترا المفيدة الصادرة عام ٢٠٠٠ مهمة هنا على وجه الخصوص.)

  • ما الرابط بين الخاص (البيت/الصفحة التعريفية/المدوَّنة) والعام؟

  • كيف يُعاد إنتاج العلاقات أو تُبَدَّل (وخصوصًا النوع) داخل البيت أو المجتمع في أوطان الفضاء الإلكتروني؟

  • هل بناء وطن في فضاء افتراضي في بيئات الواقع الافتراضي هو نقل للوطن أَم امتدادٌ له؟

تجتاز صور «الوطن» الآن الحدود القومية من خلال وسيط الإنترنت؟ ويعني هذا أن الانفكاك من إقليم الوطن، بمعايير النزوح الفعلي المادي (من الوطن/الأرض)، يَصحبُه عمليتان مُتزامنتان من إلحاح الوطن وإعادة أقلمته في الفضاء الإلكتروني. كيف يُعرِّف مجتمع نازح فضاء «الوطن» في بيئة، هي من حيث الأصل، بلا حدود، وتفتقر إلى «شكل» محدَّد؟

أثبت الباحثون العاملون مع مجتمعات الجاليات على الشبكة العنكبوتية العالمية أن المجتمعات الإثنية تدَّعي هُويتها في الفضاء الإلكتروني من خلال إحساس مُشتَرك بالمجتمع والتاريخ (فرانكلين ٢٠٠٤؛ إجناسيو ٢٠٠٦). تعلن جماعات الجاليات هذه عن هُوياتها الإثنية وإحساسها ﺑ «الوطن»، وتجلب أيضًا إلى النقاش طرقًا جديدة لرُؤية النظام العالمي الجديد.

من حيث السياسة والفضاء الإلكتروني، الأقاليم الجديدة المفتوحة للمُهاجرين هي موقع يمكن أن يجد فيه المهمَّشون فضاءات للتعبير. وبينما يبدو أن هذه الثقافات غير النُّخبوية في العولمة الرقمية تتحدَّث «بعضها إلى بعض»، بدلًا من «الرد» على الثقافات البيضاء السائدة، فإن هذا يَبقى مع ذلك وسيلة مهمة لإبقاء الثقافة ظاهرة. وفي حالات كثيرة، تكون مجتمعات الجاليات في صدارة العصيان والاحتجاج على الإنترنت (فرانكلين ٢٠٠٤: ١٠٦–١٣٥؛ ليبرمان ٢٠٠٣). التفاعُل على الإنترنت، كما يُوضِّح ليبرمان (٢٠٠٣: ٧٥) هو ما يُكوِّن هُويتهم الوطنية وخبرتهم الجالياتية؛ حيث «تُحيا» ثقافة الوطن، و«تُناقَش مجددًا»، و«تُعزَّز». والواقع، كما بيَّن فيناي لال (٢٠٠٣)، أن الإنترنت وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة أسهمت في تيسير الدعاية الدينية الرجعية (انظر أيضًا فارغيز ٢٠٠٣ بخصوص الزاوية النوعية الاجتماعية لهذا الموضوع). وباختصار، تُضخَّم الثقافة الوطنية من خلال وجودها باعتبارها موضوع المحادثات، بينما تُنتِج المحادثات مجتمعًا موصولًا بالمصالح المشتركة في «وطنها» (فرانكلين ٢٠٠٤؛ لو ٢٠٠٣؛ ميترا ٢٠٠٠). وتُشكَّل جماهير المهاجرين الإلكترونية العابرة للقومية من خلال هذه الشاكلة من ممارسات الاتصال على الإنترنت، وتوجد هذه الجماهير الإلكترونية في علاقة تكافلية مع الفضاءات الواقعية.

(٢-٤) الحياة اليومية

«يُستأنَس» الإنترنت في الحياة اليومية حينما يَتصفَّحه الناس طلبًا للمعلومات، أو يستخدمونه في الألعاب وتزجية الفراغ، أو يستخدمونه للتواصل. وليست الممارسات اليومية، كما أوضح ميشال دو سيرتو (١٩٨٨)، هي دائمًا ما كان يقصده مُزوِّد البرامج المؤسَّسي، حتى وإن كان البرنامج يتحكَّم في إمكانيات ما يمكن فعله به. فالحياة اليومية ظرفية، وتُخترَع من خلال استخدامات الناس العاديين وعاداتهم. والحياة اليومية، بطبيعتها المتأصِّلة، مُتغايرة، ومُتعدِّدة، ومحلية بدرجة عالية. وفيما يتعلق بالاتصال والتفاعل الاجتماعي اليوميَّيْن، يُستخدَم الإنترنت بوصفه وسيلةً للتفاعل الاجتماعي. يظل الناس متصلين بأُسَرِهم وأقاربهم وأصدقائهم عبْر البريد الإلكتروني (الذي يُقال إنه أكثر مكوِّنات تكنولوجيات المعلومات والاتصالات استخدامًا).

وأنتجت الدراسات الإثنوجرافية المفصَّلة (مثل هوارد وآخرين ٢٠٠٢ في الولايات المتحدة) عن أنماط المستخدمين تصنيفًا للمستخدمين: «مواطني الإنترنت» (الذين ظلوا موجودين على الإنترنت بضع سنوات، ويدخلون الشبكة كل يوم ليُديروا أموالهم وبريدهم الإلكتروني، أو ليُطوِّروا علاقاتهم الاجتماعية)، و«النفعيِّين» (الذين هم مُستخدِمون أقل تحمُّسًا، ويرون الإنترنت باعتباره مجرَّد أداة)، و«التجريبيِّين» (الذين يستخدمون الإنترنت في أغلب الأحوال لاستخراج المعلومات أو للمتعة)، و«المستجدين» (الذين ما زالوا يتعلَّمون كيف يُبحرون في الفضاءات الشاسعة للإنترنت، و«يتمعَّنون» في الأشياء المختلفة التي تَعرضها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات).٥ وفي معظم الحالات التي تَشتمِل على مواطني الشبكة وحتى المستجدِّين، وجدت الدراسة أن الإنترنت غيَّر «بشدة» علاقاتهم الاجتماعية بسبب اليُسر (والتكلفة المنخفضة) الذي يُتاح به نمط الاتصال. وتعني الإمكانية المُتزايدة للاتصال من البيت نوعًا آخر من «المشكلات» والهواجس — من قبيل الأمان والخصوصية. فإدمان الإنترنت، والمقامرة، على سبيل المثال، ارتفعا بصورة فلكية. ووجدت دراسة معهد أننبيرج المسحية للمخاطر فيما يخص الشباب (٢٠٠٦) أن المقامرة على الإنترنت بين الذكور في الفئة العمرية ١٨–٢٢ سنة تضاعفَت من عام ٢٠٠٥ (مركز أننبيرج للسياسة العامة ٢٠٠٦ب). ووجَد مسح آخر للمركز نفسه أن نسبة ٤٠ بالمائة على الأقل من المُستخدِمين المراهقين لمواقع التواصُل الاجتماعي، مثل ماي سبيس، اتصل بها غرباء (مركز أننبيرج للسياسة العامة ٢٠٠٦أ). ويرافق هذه النتائج قلق اجتماعي أكبر. تقلق الأُسر الآن بشأن «ما» يفعله أطفالها على الإنترنت، وخصوصية المعلومات هي الآن أحد الهواجس الرئيسية (تورو ونير ٢٠٠٢).

غير أنه، من حيث الحياة اليومية، هناك ما هو أكثر من مجرَّد تشارك المعلومات، والتعليم، والتواصل العائلي. فغالبًا ما يطلب الناس داخل العائلات (أو أولئك الذين ليست لهم عائلات) فضاءً للتعبير عن العواطف، وقد ينشدون الدعم خلال الأوقات المضنية خصوصًا. يُقدِّم الإنترنت أيضًا فضاءً ووسيطًا للتشارُك في الصدمة، والنصح بشأن التعامل معها. يُشير مُصطَلح «المواساة الإلكترونية» الذي صاغه في عام ١٩٩٩ كليم وزملاؤه (بدر ٢٠٠٥) إلى مثل هذه المواساة، والعناية، والمساندة العاطفية. يُقدِّم الإنترنت إمكانية الدعم التفاعُلي لأنواع متنوعة من المواقف المضنية، والضاغطة، والمفجعة. ويدل صعود جماعات المساندة الاجتماعية المختلفة على ظهور نوع جديد من المجال العام.

تَستخدِم مشروعات رسم خرائط العاطفة، من قبيل «خريطة جرينتش العاطفية» التي أعدَّها كريستيان نولد (٢٠٠٥)، وعمل ليزا باركس (٢٠٠١)، تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لإعادة رسم فضاءات الحياة اليومية باعتبارها فضاءات عاطفية. ومرةً أخرى، تؤكِّد الجغرافيات الوجدانية لهذا النوع الفرضية الأساسية لهذا الكتاب: أنَّ الفضاء الإلكتروني مُرتبط على نحوٍ تكراري بالفضاء المادي-الواقعي. العواطف محورية لمناقشاتنا بشأن الفضاء، كما أثبت علماء الجغرافيا (كوان ٢٠٠٧؛ ثيين ٢٠٠٥؛ ثريفت ٢٠٠٤). وتُمكِّننا التكنولوجيات الثقافية الإلكترونية من أن نرى ونسجل كيف يعمل الناس والمؤسَّسات عبْر المدينة، وأن نرسم خرائط لجغرافيا بديلة. لحظت ليزا باركس، مثلًا، تتبُّع نظام تحديد المواقع لحركاتها. وفيما بعدُ، وبالنظر إلى خريطة انتقالاتها، استرجعت مشاعرَها تجاه مواضعَ محدَّدة؛ ومِن ثَمَّ أنتجت خريطة ذاتية للمنطقة. هذا السجل لتحركاتها الشخصية غير مصوَّر في الفضاء الخرائطي التقليدي، ولكن في رسمٍ جديد للخرائط — ما يُمكن أن نُسمِّيَه «الجغرافيا الوجدانية».

(٢-٥) الفضاء الحضري الجديد

غيَّرت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، شأنها شأن نظام المعلومات الجغرافية، والهواتف المحمولة، والإنترنت اللاسلكي، من العمليات والخبرات الاجتماعية للفضاء الحضري، وخصوصًا في المدن الكبرى عبْر العالم.

يُشِعُّ الاتصال العالمي والشبكات المالية إلى الخارج من المراكز الحضرية الرئيسة، مُتيحًا لمدنٍ بعينها أن يكون لها امتداد عالمي. وفي «داخل» المدن، يمتلك تركُّز عالٍ للشركات المتعددة الجنسيات، ومراكز الأبحاث، ومكاتب التعهيد لتسيير الأعمال، وقدْر كبير من السكان الرئيسيِّين والمتعدِّدي الثقافات تأثيرًا لا مراءَ فيه في «الفضاءات الاجتماعية» للمدينة. بيد أن ما يُهمنا فهْمه هو أن هذه الشاكلة من تكنولوجيات خلْق الفضاءات لا تحدُث في فراغ؛ فالإنترنت يعتمد على بنية تحتية «صلبة» ومادية (كما ذكرنا)، وهي البنية التحتية الجغرافية والمكانية، من أجل إنتاج فضاء بلا حدود. ومع ذلك، فما يمكننا افتراضه، هو أن التعامل مع الفضاءات المادية لمدينةٍ ما والخبرة بها يعتمدان باطراد على الوسائط، من خلال الهواتف المحمولة، والشبكات اللاسلكية والإلكترونية. ويُستخدم مصطلح «المدينة الإلكترونية» لوصف هذا النوع من المدينة الموصولة التي تتشابَك فيها العلاقات الاجتماعية، والحركات الإنسانية، والتكنولوجيا معًا (بوير ١٩٩٦).

ليست المدينة الإلكترونية كونًا موازيًا من الفضاء الإلكتروني والكيانات غير المادية. على العكس، المدينة الإلكترونية مدينة «هجينة» تكون فيها التكنولوجيا الإلكترونية، ووسائل الإعلام الجديدة، والبنية التحتية للبيئات الافتراضية متصلة بالحياة المادية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لتلك المدينة، ولا يُمكن فصلُها عنها. وبينما تتوسَّط وسائل الإعلام الجديدة والتكنولوجيا الرقمية خبرة الفرد بالمدينة (وخصوصًا بالزمن والفضاء بفعل الاتصال الدائم والحراك المضخَّم)، فهي بدورها تتمُّ وتَتشكَّل من خلال وساطة أجسام المستخدمين والملامح الثقافية للمكان أو المجتمع. فالمدن الإلكترونية «تقاطعات» من المادي وغير المادي، من الواقعي والافتراضي، الاجتماعي والتكنولوجي، بطرقٍ غير مسبوقة. قائمة التراسل أو الشبكة الداخلية في حرمٍ جامعيٍّ ما، هي مثال للطريقة التي يُغطَّى بها المكان المادي بالفضاءات الإلكترونية، ويتصل بها شبكيًّا. والإحساس بالمدينة الإلكترونية هو إحساس ذو طبيعة «جدَلية» ما بين المادي والافتراضي.٦

يستخدم الناس الفضاءات الافتراضية، والهواتف المحمولة — مع ما تشمله من بيان افتتاحي «مُحدِّد المكان»، أو سؤال عن «أين أنت؟» أو «أنا في» — أو نظام تحديد المواقع من أجل التجوُّل في الفضاءات الواقعية. وتحكم أنظمة الملاحة باستخدام الأقمار الاصطناعية خبراتنا في القيادة؛ حيث نفقد باطراد القدرة على تسجيل الدلائل المرئية على المواقع، مُعتمِدين كليًّا على الشاشة لتخبرنا عنها. لم يَعُد ممكنًا الفصل بين الخبرة بما هو واقعي وما هو افتراضي في عالمَيْن مُتمايزَيْن؛ لأنهما متداخلان. وكما يوضح دبليو جيه ميتشل (٢٠٠٣: ١٢٠)، فمع نظام تحديد المواقع، والتتبُّع، تغيَّرت الأنماط الأساسية للمرجعية لدينا. نعتمد على الشاشات أكثر مما نعتمد على مهاراتنا المعرفية، للملاحة في الفضاءات والمباني والمدن والشوارع، التي هي جميعًا «مُرمَّزة جغرافيًّا». ولذلك، فإن الملاحة في فضاءات المدينة المتصلة شبكيًّا تصل ما بين المجالات الرقمية والمادية؛ حيث تُستخدَم شاشة نظام تحديد المواقع أو الكاميرا لتحديد مكان كل شيء، من ماكينة المشروبات الغازية إلى مَخرج الطريق السريع. وكما أعتقد، فهذا يساعد «الفضاءات المضخَّمة»: ليست مضخَّمة بمعيار كونها أكثر تعقيدًا فقط (متصلة، مصورة، ومسجلة تسجيلًا مرئيًّا، ومرمَّزة، ومرقمة)، ولكن أيضًا بمعيار خبرتنا الذاتية بالفضاء. ليست الفضاءات المضخَّمة بدائل من الفضاء الصلب الواقعي، ولكنها طريقة أخرى للإحساس به؛ فنحن «نحس» أولًا بالمبنى أو بالطريق من خلال شاشة نظام تحديد المواقع، أو الخريطة التفاعلية قبل مواجهته ماديًّا.

تُشكِّل المدن الإلكترونية نموذجًا معرفيًّا جديدًا في الفضاء الحضري. إذا كانت المدينة في القرن التاسع عشر قد اتَّسمت بجغرافيات «السرعة»، و«الضوء»، و«القوة»، فبإمكان المدينة الإلكترونية في القرن الحادي والعشرين، كما ذكر نايجل ثريفت (١٩٩٦) بدقة، أن تضيف «الاتصال»، بوصفه عنصرًا مُحدِّدًا في الجغرافيا الجديدة.٧ يَشمل «التعقيد الآلي» الذي يُحدِّده ثريفت في ظرف الحضري في القرن الحادي والعشرين «الاتصال الدائم» الذي يُغيِّر خبرتنا بالفضاء — سواء أكان الاتصال بمكان العمل من البيت، أو مُهاتَفة البيت من مكان العمل.

ويمكن أن تكون المدن المتصلة شبكيًّا إما مراكز مسيطِرة أو مراكز قيادة (بي جيه تيلور ٢٠٠٤). أما المراكز المسيطرة فهي مدن ذات قيمة خدمية أعلى من غيرها: وتبرز في هذا الجانب لندن ونيويورك. وأما مراكز القيادة فهي المدن التي تستضيف مقرات شركات الخدمات العالمية. ويلحظ تيلور أن ٢١ مدينة تستضيف مقرات ١٠٠ شركة خدمات عالمية، وعلى رأسها لندن ونيويورك مرة أخرى. ومع ذلك، فمراكز القيادة الإقليمية لهذه الأعمال الضخمة موزَّعة على نحوٍ عبْر قومي. ويُظهر تحليل تيلور أن العولمة عبْر المدن المتصلة شبكيًّا لا تزال غربية تمامًا.

الفضاءات الحضرية الجديدة أيضًا فضاءات رقابة. كاميرات المراقبة (الدوائر التليفزيونية المغلقة)، والتتبُّع الإلكتروني للأشخاص والأشياء (من خلال استخدام الهاتف المحمول، والوسم)، ومستشعرات الحركة، وأنظمة الاتصال عن بُعد، هي ملامح شائعة في الوقت الراهن للمراكز التجارية، ومجمَّعات دُور العرض، والملاعب، والفضاءات العامة. وبينما كان الناس والأماكن المراد مراقبتهم في العصور الأقدم مَحصُورين ومُراقَبين غالبًا بالنظر «الجسدي» (الذي يَفترض مسبقًا جسدًا بشريًّا يتولَّى المراقبة)، فالرقابة الراهنة تَجُبُّ فكرة الحصر: كل الفضاءات، ومنها الفضاءات الواسعة المفتوحة؛ مثل الطرق، والتقاطعات المرورية، والمتنزهات، ومناطق الألعاب، يُمكن أن تخضع ﻟ «العين» الإلكترونية، للكاميرا، التي تعيد إرسال المادة البصرية إلى بنك البيانات. الرقابة المُتنكِّرة في صورة أمن، هي صورة مقنَّعة من صور «القوة» المتجذِّرة في بِنية معقَّدة من رأس المال (الأرباح)، والمِلكية وحمايتها، والسلوك الاجتماعي، صورة تُحدِّد الحركات (الفاعلية) الخاصة بمستخدم ذلك الفضاء، مُحوِّلة المجتمعات الحضرية إلى «مجتمعات رقابة» (ديلوز ٢٠٠٤).

يؤدي الجدل بين الواقعي والافتراضي، الذي يَرُدُّ فيه كل طرف على الآخر ويُشكِّله، إلى ما يسميه ميترا وشفارتس (٢٠٠١) «فضاء التحكُّم الإلكتروني». وفضاء التحكُّم الإلكتروني هو الأثر الناتج من آلية الاستجابة المتبادَلة «بين» الفضاءين، أو ما عرَّفتُه أنا ﺑ «الجدل». «فضاء التحكُّم الإلكتروني» هو «تشكيل رقمي» تُكوِّنه العوامل الاجتماعية والعوامل التكنولوجية بالقدْر ذاته. إذا كان الفضاء الإلكتروني (سايبرسبيس) يَعني حرفيًّا «فضاء قابلًا للملاحة» (كلمة «سايبر» cyber كلمة يونانية تعني «الملاح»)، فالتكنولوجيا الإلكترونية تُمكِّننا من الملاحة في الفضاء الواقعي.

وهكذا، يشمل التساؤل عن طبيعة «فضاء التحكُّم الإلكتروني» طرح أسئلة أخرى عن العوامل الاجتماعية والمالية والثقافية التي تُحدِّد الموقع الإلكتروني، والشبكة، وسرعة النطاق العريض، والنسق التنظيمي. من وجهة نظر الدراسات الثقافية، يُبرِز التعامل مع الفضاء الإلكتروني على أنه «فضاء تحكُّم إلكتروني» مسائل القوة، والرقابة، ومن ثَمَّ الفاعلية. فالركائز المادية، والثقافية، والتكنولوجية لفضاء التحكُّم الإلكتروني متصلة فيما بينها داخل بنى القوة والتنظيم، التي يُمكن هدمها، مع ذلك، من جانب الثقافات الفرعية وأشكال الفاعلية.

بدأ نموذج جديد للجغرافيا الحضرية في الظهور في عمل كريستيان نولد. وبدأ علماء جغرافيا المُعاصِرون، مثل نايجل ثريفت (٢٠٠٤)، وديبورا ثيين (٢٠٠٥)، ومي بو كوان (٢٠٠٧) يُنظِّرون عن «جغرافيات الوجدان» (ثيين ٢٠٠٥: ٤٥١)، مُركِّزين على استجابات الناس لأحوال الطرق، ومناطق التسوُّق، وأفعال التعامل مع الفضاء العام. والنتيجة هي نوع جديد من الجغرافيا يُرسي خرائط العالم الافتراضي على العالم الواقعي، والعكس صحيح. ترجعنا خرائط العاطفة إلى الفرضية الأساسية في هذا الكتاب: أن الفضاء الإلكتروني يجب أن يَرجع دائمًا إلى الفضاء الواقعي؛ لأنه مُتجذِّر في الفضاء الواقعي. إذا كانت العاطفة شكلًا من أشكال الخبرة ومنظومة من الممارسات المجسدة التي تُنتج سلوكًا ظاهرًا؛ فالجغرافيات العاطفية تتسبب في عواقب مُثيرة للاهتمام للفضاء الإلكتروني.

مواقع الكوارث المكرَّسة لتسونامي عام ٢٠٠٤ أو إعصار كاترينا، هي أيضًا جغرافيات عاطفية من/في الفضاء الإلكتروني، تُبنى على أحداث واقعية عاطفية بدرجة عالية. تُعيد هذه النوعية من المواقع تشكيل جغرافيا العالم في الفضاء الإلكتروني برسم خرائط للأقاليم بمعايير الشحنات العاطفية العالية — الكوارث — وتنتج أفعال استجابة. ويُمكن أن تعمل الثقافة الإلكترونية هنا باتجاه التدخُّلات النشطة المبنية على مثل هذه الاستجابة للخرائط العاطفية.

(٢-٦) المجتمع الشبكي، والمجتمع، والديمقراطية الشبكية

الفضاء الإلكتروني، والعوالم الافتراضية مُرتبطان في «تفاعل تكراري» (جرهام ١٩٩٨) مع العالم المادي. ودائمًا ما يكون التحوُّل إلى الصِّيَغ الرقمية «تحولًا رقميًّا اجتماعيًّا». إذا كانت العوالم الافتراضية موصولة بالعالم «الواقعي» ومُتجذِّرة فيه، فما العواقب المُمكنة حينئذٍ على المجال العام، والسياسة، والفعل السياسي (المجتمع)؟ يمكن صوغ العواقب في صورة أسئلة محددة:
  • هل «يُضخِّم» وجود جماعات المسانَدة على الإنترنت عملية بناء المجتمع، وفعل المجتمع؛ ومِن ثَمَّ «فاعلية» المجتمع؟

  • هل يدفع القضيةَ الديمقراطية؟

  • هل يُمدِّد نطاق الشأن السياسي؟

يُؤسَّس الوعي بالمجتمع والتفاعل الاجتماعي على تزايُد المعلومات عن «الآخر». ومن ثَمَّ، فمع المزيد من المعلومات عن العالم، بل عن أي شيء، هل يزداد الوعي العام والمشاركة الاجتماعية باستخدام الإنترنت ووسائل الإعلام الجديدة؟٨

زعم جون طومسون في دراسته الشهيرة بعنوان «وسائل الإعلام والحداثة» (١٩٩٥)، أن «استخدام وسائط الاتصال يشمل خلق أشكال جديدة من الفعل، والتفاعل في العالم الاجتماعي، وأنواع جديدة من العلاقات الاجتماعية، وطرق جديدة من الارتباط بالآخرين وبالذات» (ص٤). إذا كان المزيد من الاتصال، كما يفترض طومسون، يخلق تفاعلًا أكبر مع «الآخر»، وإذا كان المجتمع مبنيًّا من خلال «الاتصال»، ومن خلال المصالح المشتركة والتبادل، فقد سهَّلت هذا ثورة تكنولوجيات المعلومات والاتصالات في عقدي ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته. والواقع، كما بيَّن ولمان وجَليا (١٩٩٩)، أن أشكالًا أحدث من الاتصال تُشجِّع الإحساس بالقرب من خلال التشارك في المصالح عبْر (حتى) فضاءات منفصلة انفصالًا شاسعًا، وتُغذِّي إرادة التواصل مع الغرباء.

دائمًا ما ركَّزت مبادرات تكنولوجيا المجتمع — مثل نظام لوحة بيانات الكمبيوتر، في سانتا كروز وشيكاجو (١٩٧٨)؛ ومشروع ذاكرة المجتمع في مدينة بيركلي (١٩٧٩)؛ والشبكة الإلكترونية الشعبية، في سانتا مونيكا (١٩٨٩) — على الفضاء العام، والمجتمع المدني. ويدلُّ كلٌّ من هذه الأمثلة على إعادة تشكيل المجال العام من خلال أنظمة الاتصال المحسَّنة. ومراكز تكنولوجيا المجتمع، وشبكات الاعتماد على الكمبيوتر في إدارة شئون المجتمع، هي أمثلة شعبية جدًّا للمجال العام الجديد في المجتمعات والمدن المتصلة إلكترونيًّا. وهي تُوفِّر المعرفة بالأساسيات، والتدريب، وتجمع البيانات المحلية، وتسعى إلى توسيع مشاركة المواطن (المواطن الشبكي). وقد تكون محلية للغاية، في صورة مبادرات على مستوى الحي، ولكنها تُمثِّل مجالًا عامًّا يُمكن فيه النفاذ إلى التكنولوجيات الجديدة، وخصوصًا من قِبَل مجتمعات سكانية لا تستطيع الوصول إلى الكمبيوترات في البيت أو العمل (سفرون ٢٠٠٢: ٦٨). ولهذا السبب تسعى المنظمات غير الحكومية إلى تمتُّع المواطنين بقدرة اتصالية أكبر، ودور أعظم في صنع القرار؛ حيث قد يكون عدد كافٍ من المواطنين قادِرًا على تغيير السياسة العامة (بالطبع، من المسائل المُختلِف عليها ما إذا كانت القدرة الاتصالية الأكبر تضمن مشاركة أكبر).

تُنتِج المجتمعات الشبكية نظامًا جديدًا من الفضاء العام والمجال العام. إذا كان المجال العام، كما نظَّر له هابرماس (١٩٦٢ / ١٩٨٩)، يُبنى على التواصُل بين كل أقسام الجمهور (مثل امتلاك كل أقسام الجمهور منفذًا إلى وسائل الاتصال)، ويتوسَّط ما بين الناس والمؤسسات، فلا بد أن يُنتِج المزيد من التواصل والربط، كما ينشأ في المجتمع الشبكي، مجالًا عامًّا أكثر حيوية. وتخضع مسألة ما إذا كانت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تُسهِّل هذا النشوء، ودرجة «عمومية» المجال العام، حتى مع الإنترنت، لنقاش كثير.

يرى المتحمِّسون للثقافة الإلكترونية (مثل رينجولد ١٩٩٤) المجتمعات الافتراضية ردًّا على ما يُدرَك على أنه اضمحلال الشأن العام في العصر الحديث. وربما يُمكن الرجوع إلى التشارك، والقيم المشتركة، والمخالَطة الاجتماعية في فضاءات المجال الافتراضي، وفي النهاية مساعدة (إعادة) بناء المجتمع المدني العالَمي. ومع ذلك، فلا بد من الاعتراف ببقاء شكوكٍ قوية بشأن ما إذا كانت مناقشات الإنترنت، ومقولاتها، والتزاماتها تُترجَم إلى تغييرات على الأرض. مثال ذلك — كما استشهدنا به في الفصل الثاني بخصوص الثقافة الشعبية — أن دراسات المواقع الإثنية ومواقع التواصل الاجتماعي كشفت عن أن مثل هذه المشاركة المدنية أو المجتمعية نادرًا ما تتجاوَز المستوى الخطابي. وبعبارة أخرى، فهي لا تنتقل من الحديث إلى الفعل (انظر بيرن ٢٠٠٧)!

تفترض دراسات المجتمع الشبكي في الولايات المتحدة الأمريكية من قبيل دراستي أوليفر بويد-باريت (٢٠٠٤) وديفيد سيلفر (٢٠٠٤) أنه بينما يُيَسَّر الحراك على المستوى الجماهيري بفعل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، فإنه لا يُغيِّر الطابع الإقصائي الذي يتَّسم به الفضاء الإلكتروني. وكما سنرى، فضوابط البروتوكول والاحتكارات الشركاتية تتحكَّم في مجال الفضاء الإلكتروني، ونصوصه، واستخدامه، ومن ثَمَّ تتحكَّم في الاتصال. ويرى آخرون، مثل جراي شابمان (٢٠٠٤)، ولوفينك (٢٠٠٢)، بالنظر إلى الحركات الثقافية، ووسائل الإعلام التكتيكية، والحركات المضادة، أن أي مُقاومة على المستوى المحلي ﻟ «العولمة التكنولوجية» تُعَد عنصرًا مهمًّا في شبكات المقاومة العابرة للقومية من خلال التسخير الفعَّال لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات. ويُلخِّص دوجلاس شولر وبيتر داي (٢٠٠٤) الرؤية كما يأتي: «تسخَّر المعلومات والمعرفة [في مجتمعات المعلومات] باعتبارها مصادر رئيسة للفعل التواصلي الذي يُمكن من خلاله تحقيق الأهداف الاجتماعية» (ص٣٥٤). تبني شبكات المناصرة، والفعل، والفاعلية على مستوى المجتمع، على شبكاتٍ أوسع، وتغذِّيها على المُستويَيْن القومي والعالَمي، خالقةً بذلك مجتمعًا مدنيًّا عبْر الحدود الجغرافية والثقافية.

تتطلَّع مراكز وسائل الإعلام المستقلة (أو الإنديميديا) إلى الناس الذين لا يَحظَون بتمثيل كافٍ، وتَمنحهم فضاءً على قنوات الأخبار، والنشر المفتوح، مُوسِّعة بذلك من المجتمع المدني ومُضفِيَة عليه صِبغة ديمقراطية. وبالتوازي على نحوٍ قريب مع حركات العدالة العالَمية، والنشاط الإعلامي، والديمقراطية الراديكالية، وبرامج الكمبيوتر المجانية، يُشكِّل تنوُّع مراكز وسائل الإعلام المستقلة وديمقراطيتها عنصرين أساسيَّيْن في إعادة تشكيل المجتمع المدني في العصر الرقمي (انظر موريس ٢٠٠٤).

وعلى الرغم من ذلك، تتوقَّف مسألة مساندة المجتمع المدني والمجال العام من خلال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على:
  • المنفذ (التكاليف، والإتاحة، والسرعة).

  • الاستجابات (من المؤسَّسات تجاه رسائل الجمهور الإلكترونية وتقويماته).

  • نوعيات (الاتصال).

لا تضمَن إتاحة وسيط التواصُل في حد ذاتها «مجالًا عامًّا» «عامًّا» بحق. فالتفاوتات العِرقية، والاقتصادية، والنوعية الاجتماعية، والإقليمية في القدرة على الاتصال تَعني أن المجال العام في الفضاء الإلكتروني هو مجال مبني من قِبَل النخبة (التكنولوجية)، بقدْر أكبر، بينما يبقى المهمَّشون (الذين غالبًا ما يكونون من الأقليات العِرقية/الإثنية أو النساء) على الهامش. ساعدت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الفئات المُتمكِّنة بالفعل على كسب مزيد من القوة، بينما لا يزال المحرومون على الهوامش.

تفترض آيريس ماريون ينج (١٩٩٠) في نقدها للمجتمع، أن تمجيد المجتمع هو نفي للاختلاف؛ فلا يمكن تشكيل المجتمعات إلا حينما يحدث تجانس يفضي إلى محوٍ للاختلاف (١٩٩٠: ٢٢٩). وبمد مخاوف ينج، تكون الهُويات في الفضاء الإلكتروني سائلة، واعتباطية، وحتى غير مُرتبطة بالهُويات «الواقعية». ويعني هذا أن الفضاء الإلكتروني يُشجِّع ويُسهِّل شعورًا زائفًا بالوحدة وبالمجتمع بين الأفراد، حتى حينما لا توجد وحدة كهذه في العالم الواقعي. ومع ذلك، فالاختلاف، والفوضى، وغياب التماثل، كل ذلك ملامح ثابتة للعالم الواقعي الذي نسكنه. ويَعني إغفال هذا الجانب من العالم الواقعي، عالم اللحم والدم الذي نشغله، لصالح مجتمع وهمي موسوم بالتجانس في الفضاء الإلكتروني أننا نَخلُق فضاء عامًّا غير مرتبط بالفضاء الواقعي.

تعني رؤية المجال العام على أنه مكوَّن «فقط» من خلال الخطاب الرشيد أو النقاش العقلاني (كما يفترض هابرماس) إعداد منظومة معايير تبني طبيعة المجال العام والنفاذ إليه. لماذا يجب أن يكون المجال العام على سبيل المثال مُشكَّلًا فقط من النقاش العقلاني؟ إذا كانت الحياة الإنسانية تتضمَّن أبعادًا أخرى، مثل العواطف، والشعور، والإحساس، فلماذا يجب أن يكون النقاش منصبًّا في أطر العمل القانونية والرشيدة وحدها؟ هل يعني هذا أن الأفراد والمجتمعات الساعين إلى العدالة أو تدارُك فواجعهم، على سبيل المثال، يجب أن يلجئوا إلى لغة القانون أو النقاش العقلاني لكي يُسمَعوا في «المجال العام»؟ هل التعبيرات عن المشاعر «الخاصة» عنصر مُنتقِص من الأهلية في هذا المجال العام؟

لهذا، نوعية المجال العام المُشكَّل من خلال الشبكات مهمة بقدْر أهمية فعل تشكيله. سيَشمل هذا التصدِّي للأسئلة والهواجس الحاسمة، من قبيل طبيعة المحتوى على الإنترنت، و«ضوابط» هذا المحتوى، وكيف يُمكن تدريب الناس المَحرومين على إيجاد الوظائف في اقتصاد المعرفة، وكيفية تطوير منهج دراسي لمساعدة الأطفال على كسب المهارات التي يَحتاجون إليها لعصر المعلومات. ولذلك، ترجع طبيعة المجال العام في الفضاء الإلكتروني مرة أخرى إلى طبيعة المجال العام في الفضاء المادي.

مواقع الويكي مثال ممتاز للفضاء الإلكتروني العام وتنظيم المحتوى. تُشكِّل مواقع الويكي، بطبيعتها «المفتوحة» (كل شخص حر في أن يُحرِّر أو يحذف أو يُعدِّل تنظيمها بما يشمله ذلك من روابط إلكترونية)، نظامًا مختلفًا بالكامل من عمل قواعد البيانات المعرفية، والفضاء العام. وربما تكون مواقع الويكي، بقليل من البرمجة المُسبَقة، هي النقلة التالية في جعل المعرفة نفسها ديمقراطية. وربما تكون «ويكيبيديا»، التي أُنشئت عام ٢٠٠١، أكبر قواعد البيانات وأسرعها نموًّا على الإطلاق. وربما يتسبَّب غياب السيطرة الاحتكارية على المادة المنشورة على «ويكيبيديا» في اضطراب العمل الأكاديمي، ولكنها تُمثِّل الخطوة التالية في تحرير المعلومات من أيدي العاملين بالمعرفة المُحترفين المؤسَّساتيين، ومن المصالح التجارية. لو قبِلنا حجة هابرماس بأن المجال العام مَبني على التواصُل المستنير، وعلى الجدال الرشيد، فلا بد حينئذٍ من الحفاظ على حرية وصول كل شخص إلى مصادر الجدل «المُستنير». ويعني هذا أن مواقع الويكي، والمصدر المفتوح، وتَشاطُر المعرفة هي كل سمات رئيسية لضمان الوصول الملائم والكامل إلى المعلومات الموثوق بها، لتشكيل مجال عام متميِّز. ولذا فشبكات الأقران، ومواقع الويكي، وحركات المصدر المفتوح داخل الثقافات الإلكترونية هي كلها عوامل حاسمة هذا الإنشاء للمجال العام وتوسيعه.

ولما كانت الثقافة الرقمية كامنة في نهاية الأمر في الشأن المادي، فمن الأرجح أن تُشكِّل طبيعةَ المجال العام الرقمي، أو حتى تتحكَّم بها العوامل (المتفاوتة) ذاتها التي تُشكِّل الوقائع المادية. ومن المثالي أن نرى مجالًا عامًّا أو مجتمعًا مدنيًّا في الفضاء الإلكتروني على أنه غاية بذاته. إلا أن ما يُمكننا هو رؤية هذه الشاكلة من التواصُل الشبكي الهادف بوصفها تضخيمًا للتحرُّكات من أجل العدلة الاجتماعية في العالم المادي، ومجالًا عامًّا رقميًّا يُعدِّل نسيج المجال العام المادي، وفضاءً من تدفُّقات المعلومات يؤثِّر في الوقائع المادية لكي يُؤسِّس عالَمًا أكثر عدالة. وإلى أن يؤثِّر، أو ما لم يؤثر، هذا المجال العام المتصل شبكيًّا في الوقائع المادية لعدد أكبر من الناس — وقد يعني هذا تحرير الضوابط التي تعمل في ظلِّها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات — فهو يظلُّ «افتراضيًّا» (بالمعنى الكامن وليس الفعلي).

شكَّلت المنظَّمات مناطق محددة يمكن فيها تقوية الاتصال وتمكينه عبْر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، وتَقترِح منظمة بوليسي لينك (٢٠٠٧):
  • نظم معلومات عن الأحياء، تُساعد على جمع المعلومات.

  • مناصرة إلكترونية من أجل صنْع السياسة.

  • مساندة للمشروعات الصغيرة على الإنترنت.

  • مبادرات إدماج رقمي للتدريب.

هذه كلها مبادرات مدنية قد تَشمل — أو لا تشمل — الدولة، ولكنها تُساعد المواطنين على استخدام الاقتصاد المعلوماتي لتحقيق منافعهم المحلية الخاصة.

في عام ١٩٩٩ أُطلِق احتجاج على الإنترنت لشن حملة ضد فرض نظام جديد للأرقام الهاتفية (يفترض فيه الضغط على ١١ رقمًا لإجراء مكالمة محلية) في المناطق الغربية من لوس أنجلوس. وإذ وصفتها وسائل الإعلام الإخبارية بأنها «انتفاضة شعبية»، استخدمت حملة «ستوب أُوفَرلِاي» تكنولوجيات المعلومات والاتصالات والإنترنت استخدامًا مكثَّفًا — في حالة تُمثِّل، وفق رأي ويليام دتون وون-يينج (٢٠٠٢)، الديمقراطية الإلكترونية والمناصَرة الإلكترونية. في الديمقراطية الإلكترونية، يُكمِّل الويب كل القنوات الإعلامية الأخرى. ويَتخطَّى كل «حراس البوابات» التقليديين ويجمع (كما في حالة احتجاجات سياتل ضد منظمة التجارة العالَمية في عام ١٩٩٩) بين المُنظِّمين المشتَّتين جغرافيًّا، ليركزوا على المسائل المحلية. كما تلعب تكنولوجيات المعلومات والاتصالات دورًا مهمًّا في مسيرة تنظيم المسانَدة الشعبية وتعبئتها. والأهم أنها تُعيد تشكيل شبكات الاتصال من خلال التأثير في مَن يتحدَّث، وعن ماذا، وإلى مَن. وهي تربط (بتَكلفة نفاذ أرخص) ما بين المُفكِّرين، وربات البيوت، والطلاب، والباعة، مُساعِدة كلًّا منهم على التحدُّث إلى صانعي السياسة أو المسئولين المحليِّين.

حتى نرى كيف يُمكن أن يكون المجتمع المدني والديمقراطية الشبكية أكثر من مجرد أمر مثالي، دعونا نتأمل طبيعتها المستندة إلى النوع. كيف تُمكِّن الديمقراطية في عصر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات النساء؟ هل «تُضخِّم» دور النساء في صنع القرار، ومشاركتهن في المجال العام، ونوعية حياتهن في المجال الخاص؟ يُحدِّد البنك الدولي مجموعة من المعايير التي تشمل النفاذ والاستخدام، والمحتوى، والتوظيف، والتعليم، والسياسة، والمشاركة في صنْع القرار، من بين معايير أخرى لقياس الاستخدام المُعتمِد على النوع لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات (البنك الدولي، بلا تاريخ).

ركَّزت الدراسات المتعلِّقة بالطبيعة والاستخدام القائمَيْن على النوع للتكنولوجيات الإلكترونية على مناطق معيَّنة عبْر العالم. تستخدم النساء في الهند الإنترنت للنشاط الشخصي، لا للعمل الاحترافي، ويعتمد استخدامهن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات على المسئوليات العائلية والترتيبات المنزلية. ويشي هذا، ولا عجب، بأن استخدام النساء للإنترنت وعملهن عليها مدمجان في سياقهن (اتحاد الإنترنت والأجهزة المحمولة في الهند ٢٠٠٦). وفي كثير من الأماكن، اعتمدت المنظمات غير الحكومية والمنظمات التطوعية على تكنولوجيات المعلومات والاتصالات بقدْر كبير. نمت المشروعات التجارية الإلكترونية التي تمتلكها أو تُديرها نساء منذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين (ساسن ٢٠٠٢: ١١٤). وتجمع جماعات الأخبار النسائية، من قبيل موقع «وِمِنز إينيوز» (www.womensenews.org)، كميات هائلة من الأخبار وتَنشُرها كل يوم.

إذا كان «الابتكار» الذي تُمثِّله تكنولوجيات المعلومات والاتصالات هو الاتصال والتضخيم الدائمان، فيبدو كما لو أن التكنولوجيات الإلكترونية ظلَّت تُمكِّن النساء في شرائح معيَّنة من المجتمع منذ أواخر عقد التسعينيات من القرن العشرين على الأقل. بينما لا النَّفاذ إلى وسائط الاتصال هو المجال الرئيس الذي يُمكن أن يحدث فيه التوسُّع (من حيث البِنية التحتية والنفقات)، يبدو بالتأكيد أن هناك درجة أعظم من مشاركة النساء. في حالة الدول النامية، هذا التضخيم حضري بالطبع أكثر منه ريفيًّا، ولكنه يدلُّ على تحسُّن محسوم يفوق قدرة الجيل السابق على الوصول إلى المعلومات.

(٣) حكم الفضاء الإلكتروني

الخرافة الأوسع انتشارًا عن الفضاءات الإلكترونية هي أنها حرة ولا يُمكن حكمها حقًّا. وإنها، بهذه الصفة، تُمثِّل أكثر المجالات العامة ديمقراطية على الإطلاق.

يؤمن أكاديميون أمثال مارك بوستر (٢٠٠٦) بأن الإنترنت يُساعد على إنشاء ثقافات وشبكات سياسية جديدة (يكتب بوستر خصوصًا عن الصين وسنغافورة). من جهة، بوستر مُحقٌّ في إشارته إلى الحريات التي يُقدِّمها الإنترنت فيما يخص المشاركة السياسية. ومع ذلك، فهو يتجاهَل، من جهة أخرى، الأشكال الأوسع من الضبط الذي تُمارسه حكومات هذه الدول نفسها على استخدام الإنترنت (انظر كالاثيل ٢٠٠٣ لدراسة عن الصين والإنترنت، وتران ٢٠٠٧ بخصوص السياق البورمي). تعمل الاتصالات الشخصية بين الناس من خلال بروتوكولات مُشتركة هي جزء من شبكة، مثيرةً بذلك التساؤل عن فكرة «التواصل الشخصي» في جوهرها. وعلى نطاق أصغر، ولكنه ليس أقل أهمية، يُراقب أرباب العمل استخدام الإنترنت واتصالات البريد الإلكتروني لموظفيهم — مُثْبتين مرة أخرى أن الإنترنت ليس الفضاء الحرَّ المتخيَّل.

كما درست وكشَفت الأعمال الحديثة لكلٍّ من ملتون مولر (٢٠٠٢)، وشانسي كالاثيل وتيلور سي بواس (٢٠٠٣)، وألكسندر جالوي (٢٠٠٤) خرافة أن الإنترنت حريَّة. يُركز مولر على محاولات مراقبة جذر نظام أسماء النطاقات، وعناوين بروتوكول الإنترنت. ويُسمِّي مؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصَّصة نظامًا دوليًّا ناشئًا يُشكِّل قواعد إدارة الحكم والمشكلات التنظيمية لمصدر عالَمي عبْر الحدود القومية (مولر ٢٠٠٢: ٢١٢، ٢١٧).

تُسمَّى منظومة القواعد التي تُحدِّد معيارًا فنيًّا، وتوجِّه فضاء الشبكة، وتنظِّم التدفُّقات «بروتوكولًا» (جالوي ٢٠٠٤: ٧٤). وهو نظام للإدارة الموزَّعة، يتَّسم بكونه مضادًّا للسلطة، ومجرَّدًا من المركز، ومرنًا، ويُمكن أن يتلاءم مع الطوارئ. هو نوع من ضبط التشغيل المنطقي خارج سلطة المؤسسة، والحكومة، والشركة (٢٠٠٤: ١٢٢). وكما يُشير جالوي، حتى مع كون الإنترنت شبكة موزَّعة ومجرَّدة من المركز، فالبروتوكول، بوضعه من قِبَل المؤسسات أو أجهزة الشركات، يَعمل عمل آلية للضبط؛ لأن تكلفة تجنُّب الدخول في «المجتمع البروتوكولي» لا تُطاق (جالوي ٢٠٠٤: ١٤٧).

ومع ذلك، فالمُخترِقون، ووسائل الإعلام المستقلة والتكتيكية، وبعض أشكال الفن على الإنترنت (مثل الفن النسوي الإلكتروني من كريتيكال آرت إنسامبل) يُشكِّلون هدمًا للأعراف. وهم يعملون من داخل المجتمع، راغبين في تحرير البيانات (ومنها البرامج) من التنظيم مهما يكن نوعه. يزعج المخترقون ووسائل الإعلام التكتيكية نظام البروتوكول من خلال الفيروسات والتعطيلات التي تُحدِث أثرها الكارثي باستغلال التدفُّقات «داخل» نظام الكمبيوتر نفسه.

أزعجت مسائل حقوق النسخ المُفكِّرين القانونيِّين في العصر الرقمي. وحينما سُنَّ «قانون حقوق نسخ الوسائط الرقمية» في عام ١٩٩٨، كان محاولة لضمان حماية حقوق النسخ فيما يخص البرامج والمنتجات الرقمية.٩ وكانت المجادَلات بشأن نابستر وتكنولوجيات نسخ الموسيقى نقاشات ثقافية: مَن الذي يُمكِن أن يَمتلِك حق النسخ، وتحرير المعرفة والتكنولوجيا من التحكُّم الاحتكاري، وحق الحكومة في مراقبة الاستخدام، وغير ذلك.

إم بي ثري

«إم بي ثري»، تكنولوجيا لِتَشارُك الموسيقى، تساعد على ضغط الملفات الموسيقية إلى عُشر حجمها الفعلي حتى يمكن نقلها بمزيد من السهولة. وجُعلت هذه التكنولوجية مفتوحة المصدر في عام ١٩٨٩ على يد معهد فراونهوفر للدوائر المتكاملة (إف آي إس-إيه). ومنذ التسعينيات من القرن العشرين، مكَّنت التكنولوجيا المستخدمين من «نسخ» الملفات الموسيقية، وأصبحت نتيجة لذلك مرادفة لقَرصنة الموسيقى (فيذرلي ٢٠٠٧ب).

وتأتي حجة مفيدة عن مسألة حق النسخ — ومن ثَمَّ مسألة تَشارُك المعرفة — من رؤيةٍ لا تَنتمي إلى حقل القانون في النظرية الثقافية. يَقترح مارك بوستر (٢٠٠٦) أن الأشياء الرقمية لا تَحكمها السوق؛ لأنها تُنسَخ وتوزَّع بلا تكلفة تقريبًا. يسعى حق النسخ إلى ضبط مُمارسات التكنولوجيا الرقمية، ولكن الممارسات مُرتبِطة بإحكام بالتكنولوجيات نفسها.

ومِن الصواب في الخلاصة أن نتساءل عما إذا كانت مُهمَّة ضمان الأمن والسلامة والخصوصية والمساواة (في إمكانية الاتصال) في الوقت الراهن امتيازًا للتكتُّلات والشركات، لا للدولة. في عصر التكنولوجيات المعولمة، تُقرِّر مؤسَّسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة وما شاكلها من «الهيئات» الأخرى استخدام الإنترنت والاتصالات باستخدام الأجهزة المحمولة. والغالب أن مثل هذه الكيانات لا تخضع لسيطرة الدولة ولكنها تكون خارج الدولة القومية وأجهزتها. ما دور الدولة في ضمان المساواة في إمكانية الاتصال في مثل هذه الحالات؟ أعتقد أن هذا السؤال مِحوَري في فهْم تكنولوجيات المعلومات والاتصالات والثقافات الإلكترونية.

انبثق هذا الفصل من افتراض أن الفضاءات الإلكترونية تُمثِّل تضخيمًا للفضاءات العامة القائمة، وتُمدِّد مجتمعات ومواقع الفعل السياسي والفاعلية التي توجد في المجال العام الواقعي إلى عالَم آخر. واستكشف تشكيل الفضاءات العامة الجديدة، وتغيير الفضاءات الحضرية بفعل التكنولوجيات الثقافية الإلكترونية، متعاملًا مع الفضاء الإلكتروني على أنه عالَم من الممارسات الاجتماعية والسياسة. ورسَم خريطة الطبيعة المتغيرة لمكان العمل، والمدينة، والبيت، والوطن. كما استكشف ظهور الأشكال الجديدة من مشاركة المجتمع المدني (الديمقراطية الشبكية)، ودور المؤسسات في تحرير/تقييد طبيعة الفضاء الإلكتروني ومحتواه. وافترض أن الفضاءات الافتراضية تعود دومًا إلى الفضاءات الواقعية؛ لأنَّ أثرها (أو خلوها من التأثير) لا يُمكن قياسه إلا بالطرق التي تؤثِّر بها في حيوات الناس المادية. ولذا درس الجوانب الإعتاقية، والتنظيمية، والتنموية المجتمعية، والتتجيرية للثقافات الإلكترونية.

هوامش

(١) بدأ مكتب الإعلان على الإنترنت الذي أُسِّس عام ١٩٩٤ يصدر إرشادات بخصوص أحجام اللافتات الإعلانية عام ١٩٩٦.
(٢) بخصوص دراسات الصورة في الإعلان على الإنترنت، انظر باربارا شترين وآخرين (٢٠٠٥)؛ وبخصوص الإعلان على الأجهزة المحمولة، انظر بيرلادو وباروايز (٢٠٠٥)؛ وبخصوص الماركات والإعلان في ألعاب الكمبيوتر، انظر نيكولاس وآخرين (٢٠٠٦).
(٣) افترض مارك بوستر أن فكرة «سرقة الهُوية» تدل بحد ذاتها على تحوُّل عن حِقبة سابقة. كانت السرقة أمرًا مقترنًا بالأشياء «المادية» التي تُمْكن سرقتها. وحسب تعبير بوستر، فإن «الشبكات الرقمية، لهذا السبب، تُمدِّد نطاق فقدان الأمن إلى أشياء ظلَّت آمنة نسبيًّا فيما مضى» (٢٠٠٦: ١٠١). وبهذا، تكون الهُوية شيئًا يُمكِن سرقته.
(٤) مسألة ما إن كانت هذه الشاكلة من التواصُل الاجتماعي والتفاعُل الاجتماعي الافتراضي وسائل للتغلب على الفروقات محل جدل. في حالة تفاعل الهنود الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية الدولية، مثلًا، أعلن موقع ياهو! كيف أن التواصل الاجتماعي كان مؤسَّسًا أيضًا على الطبقة الطائفية. ومن الواضِح، أن مجموعات أوركت تتجمَّع على أساس الطبقة الطائفية، وتكتب ياهو: «إن انفجار الوعي الطبقي الطائفي في الفضاء الشبكي غير مسبوق» (أنون ٢٠٠٨).
(٥) أُنجِزت دراسات مماثلة عن المملكة المتحدة: انظر أندرسون وتريسي (٢٠٠٢).
(٦) لا تخلو المدينة الإلكترونية من مفارقاتها. ينجذب الناس نحو النوافذ التي تُمكِّنهم من الاستماع على نحوٍ أفضل إلى هواتفهم المحمولة، ويبحثون عن الشواحن لشحن بطاريات هواتفهم المحمولة، ويبحثون عن النقاط الكهربائية من أجل كمبيوتراتهم المحمولة، أو يبحثون عن فضاءات تعمل فيها الوصلات اللاسلكية على نحوٍ أفضل. وكما يُوضِّح ميترا وشفارتس (٢٠٠١)، يبحث الناس عن بِنى وفضاءات مادية محدَّدة لكي «يدخلوا» الفضاءات الافتراضية!
(٧) ومع ذلك، فالاتصال ذاته يمكن أن يكون «تزامنيًّا» (كما هو الحال في مكالمة هاتفية) أو «لا تزامنيًّا» (كالحال في رسالة بالبريد الإلكتروني أو على الهاتف). يُقلِّل التواصل اللاتزامُني الحاجة إلى الحضور (بما أن الرسالة يُمكن نقلها، واسترجاعها، والرد عليها لاحقًا)، ويُخفِّض نفقات النقل، ويُسهِّل الأنشطة المتعددة.
(٨) وجدت دراسات مسحية أن معرفة الأمريكي العادي بالشئون العامة لم تتحسَّن تحسنًا واضحًا مع تدفُّق الأخبار من القنوات التليفزيونية العاملة بالكوابل على مدار اليوم، ومع انتشار الإنترنت. ووجدت دراسة مسحية أن «مواطني اليوم يعرفون بالكاد أسماء قادتهم، ويَدرُون بالكاد بأبرز أحداث الأخبار، كما كان الجمهور تقريبًا منذ عشرين عامًا» (مركز بيو للأبحاث، ٢٠٠٧).
(٩) جرَّم «قانون حقوق نسخ الوسائط الرقمية» كسر شفرات البرامج ومحاولات التحايل على برامج مكافحة القرصنة. واستثار القانون غضب نشطاء الحقوق المدنية ومُناصِري مبدأ الاستخدام العادل (فيذرلي ٢٠٠٧أ).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤