الفصل السابع

الثقافات الإلكترونية: التشكيلات الجديدة

خطة الفصل

  • العِرْق في الفضاء الإلكتروني/العِرْق والفضاء الإلكتروني

  • الثقافة الإلكترونية ما بعد الاستعمارية

  • الحقوق والفضاء الإلكتروني

  • مناصرة البيئة في عصر الإنترنت

إذا كانت الثقافة الإلكترونية، كما يَفترض بيير ليفي (٢٠٠١)، «منظومةً من التكنولوجيات … والممارسات، والتوجُّهات، وأنماط التفكير والقيم»، فما يترتب على ذلك أننا نحتاج إلى النظر إلى البِنية التحتية المادية، والأيديولوجيات السياسية، والاستجابات العاطفية، والتطويعات الهدامة، والإمكانية الاستغلالية للثقافة الإلكترونية. بيَّن هذا الكتاب الارتباط ما بين «الأعتدة» الثلاثة، واضعًا «الأجهزة» والعمليات التكنولوجية في إطار الأيديولوجيات، والسياسيات الاقتصادية، والسياسة، ومُبيِّنًا أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات سياسية مثل أي تكنولوجيا أخرى، إن لم تكن أكثر؛ لأن عولمتَها تعني أنها تؤثِّر مباشرة على كتلةٍ وتنويعةٍ من الناس أكبر مما تؤثِّر عليه التكنولوجيات الأخرى. سأُركِّز في هذا الفصل على مسائلَ محدَّدة تساعدنا على إعادة النظر في سياسة الثقافة الإلكترونية. وبصراحة، فهذا تسْييس حادٌّ للتكنولوجيا.

تُعنى الدراسات النقدية للثقافة الإلكترونية بتشكيلة كبيرة من المسائل، لمُعظمها أجندات وتبعات سياسية خطيرة. ومِن أبرز هذه المسائل: دراسات العِرْق، وحقوق الإنسان، ومناصَرة البيئة.

(١) العِرْق في الفضاء الإلكتروني/العِرْق والفضاء الإلكتروني

في أواسط تسعينيات القرن العشرين، أطلقت شركات أوروبية وأمريكية كثيرة عمليات خدمة العملاء وخدمات تسيير المعاملات في الهند، وبالأساس في مدن بانجالور، وشيناي، وحيدر آباد. وانطلاقًا من منطق خفْض التكلفة، ازداد العمل في مجال التعهيد والرد على العملاء زيادةً هائلةً منذئذٍ (أعلنت الشركات توفيرًا في النفقات بنسبة ٢٠–٣٠ بالمائة، وفقًا لناسكوم استراتيجيك ريفيو ٢٠٠٧). كما ساعدت على ذلك قدرة القوة العاملة الهندية على التحدُّث بالإنجليزية.

يشمل العمل ساعات متأخِّرة ليلًا (ومنها وردية ليلية متأخِّرة، تبدأ في الواحدة أو الثانية بعد منتصف الليل لتُناسِب التوقيت الأوروبي والأمريكي)، وتستمر الورديات حتى ثماني ساعات، وغالبًا ما يلزم الرد على أكثر من ١٥٠ مكالمة خلال هذه الفترة. تتَّسم المهنة باستنزاف العاملين وإنهاكهم بسبب ضغوط الحديث المكرَّر في المكالمات، والساعات المتأخِّرة، والانتقالات الطويلة إلى العمل ومنه. وكانت الصحة العليلة هي أول أعراض أنماط العمل هذه. تتضرَّر النساء، وخصوصًا أولئك اللائي يَتحمَّلنَ أيضًا مسئوليات منزلية وعائلية، بقدْر أكبر. يُدرَّب معظم الموظفين على التحدُّث بالإنجليزية الأمريكية، مع التركيز على التدريب على اللهجة، وكثيرًا ما يعمل موظفو خدمة الردِّ على العملاء الهنود أيضًا بأسماء مُستعارة — لا يُستخدم الاسم الهندي إطلاقًا تقريبًا، وتُستخدم بدلًا من ذلك أسماء من قبيل «سارة» أو «نيك». وهناك أيضًا ضغط مرتفع من أجل الأداء، يفضي في أغلب الأحوال إلى الإجهاد والقلق.

يُقدِّم العمل بالردِّ على العملاءِ والتعهيدُ مثالَيْن جيدَيْن للاقتصاد المعلوماتي، وانضغاط المكان-الزمان الذي تَشتمل عليه عملية العولمة، و«فضاءات التدفُّقات» الجديدة. ولكنهما يَسِمان أيضًا إخضاع أعداد هائلة من الهنود للحاجات الاقتصادية والصناعية الغربية. فالفارق في تَكلفة العمل في هذا المقام ربما يكون واعدًا للصناعة الغربية، وربما حتى يُوفِّر أجرًا أعلى للعاملين الهنود (بالمقارنة بهياكل الرواتب في الهند)، ولكنه يَستدمِج أيضًا عملًا جادًّا ومسائلَ تنظيمية مثل تلك المُشار إليها سابقًا. وتُقدِّم مسائل الهُوية — من خلال التدريب على اكتساب اللهجة واستخدام أسماء مُستعارة — أيضًا زاوية نفسية لمسألة الردِّ على العملاء. يُفاقم الضغط المكثَّف والمعنوي والمرتبط بإضفاء الطابع الغربي عليهم مُستويات إجهاد الموظَّفين. وكما أوضح فيل تيلور وبيتر بين (٢٠٠٥)، فهذه ممارسات إمبريالية جديدة وعنصرية بالفعل. ما تَنطوي عليه الثقافة الإلكترونية من ضغط المكان-الزمان وتدفُّقات هو عاقبة، بل بِنية، لهذه الشاكلة من ممارسات العمل ذات الطابع العنصري (شوم ٢٠٠٦). والجلي أن الثقافة الإلكترونية والتكنولوجيا اللتَين تَعتمدان اعتمادًا كثيفًا على الفاعلين البشريِّين العالَميِّين، منظمتان «على نحوٍ عِرقي». منذ عقد تقريبًا، في بداية ثقافة الردِّ على العملاء، أشار تيموثي ليوك مُتنبئًا إلى «بنية» الفضاء الإلكتروني هذه بقوله:

تسمح الموارد الفضائية الإلكترونية لشبكات الكمبيوتر العالمية بأن تُوظِّف المشروعاتُ الافتراضية آلاف النساء الفقيرات في جامايكا، وموريشيوس، والفلبين، بأجور زهيدة، في وظائف مملَّة لإدخال البيانات أو معالجة الكلمات لصالح الشركات في لندن أو باريس أو سان دييجو. ويُتيح الفضاء الإلكتروني لرواد أعمال الاقتصاد القائم على السرعة بأن يُضفُوا الطابع الافتراضي على شرائحَ من العمل الجوهري في هذه الأماكن الهامشية. (١٩٩٩: ٣٧؛ انظر داوني ٢٠٠٢)

يُشير ليوك في هذا الاقتباس إلى ما تنطوي عليه الثقافة الإلكترونية من انقسام بين المركز والهوامش — انقسام يرجع إلى بِنية القرن التاسع عشر الاستعمارية.

لا يَنبغي اعتبار هذا الانقسام ظرفًا اقتصاديًّا حصريًّا، بل هو ثقافي أيضًا؛ فالهُويات العِرْقية تُقرِّر لغة الثقافات الإلكترونية، والصياغات في الفضاء الإلكتروني، ونوع الأدوات التي تُشجِّعها وتروِّج لها الثقافات الإلكترونية؛ ولذا، فهيمنة اللغة الإنجليزية والثقافات الأورو-أمريكية البيضاء على الشبكة العنكبوتية العالَمية هي على حساب حضور كلٍّ من الثقافات الأخرى، مثل الشيكانو، أو اليوروبا، أو الداليت (الذين يُطلَق عليهم «مَن لا يجوز لمسهم»، أو الطبقات الطائفية الدنيا الخاضعة في الهند). ما ينبغي أن يكون واضحًا، كما أفترض، هو أن نرى الفضاء الإلكتروني بوصفه «قائمًا على أُسسٍ عِرقية، ماديًّا وثقافيًّا».

إذا كان العِرْق فئةً بيولوجيةً بقدْر أقل من كونه بِنيةً اجتماعية، فما يترتَّب على ذلك هو أن البِنى الاجتماعية، ومنها التكنولوجيا، تُقرِّر وتُشكِّل وتُبدِّل الهُويات العِرقية. فوسوم العِرق تُشتَق من الثقافة — شاملةً التكنولوجيا — لا من البيولوجيا؛ ومن هنا يُصبح ضروريًّا أن نرى كيف أن الثقافات التكنولوجية تُحوِّل العِرق إلى نظام رمزي.

الإنترنت عنصر من عناصر تكنولوجيات المعلومات والاتصال، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات محورية لعملية العولمة المصطفة اصطفافًا وثيقًا إلى جانب الاستعمار الجديد، والأشكال الأحدث من الإمبريالية الاقتصادية والثقافية، وعلاقات القوة غير المُتساوية بين ما يُسمَّى العالم الأول والعالم الثالث. وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات التي تنتج الفضاءات الإلكترونية مدمجةً في العالم «الواقعي» من خلال الأدوات المادية (العتاد الصلب والمباني) ومن خلال العمل أو الأشخاص الفعليِّين (عمال البناء، ومهندسي البرامج)، وكثير منهم غيرُ بِيضٍ. ربما يُبنى الفضاء الإلكتروني من خلال جهود العمال غير البيض، لكن العوائد والسيطرة الإدارية نادِرًا ما يكونان بأيديهم؛ فوسائل الإعلام العالمية والشبكة العنكبوتية العالَمية تَملكهما وتديرهما شركات في بلدان العالم الأول. والأكثر من ذلك، أن كثيرًا من هذه التكتُّلات والشركات موقعها في دول لها تاريخ عنصري طويل.

السؤال الأساسي فيما يخصُّ العِرق في الفضاءات الإلكترونية هو: إذا كانت الهُويات على الإنترنت يمكن أن تكون مُتنكِّرة وخفية، أو إنها كذلك بالفعل، فكيف يُؤثِّر كون المرء أسود أم أبيض أم أسمر؟ أصبحت الإجابة عن هذا السؤال جلية في ثنايا هذا الكتاب: الفضاء الإلكتروني مُتجذِّر في الفضاء المادي، ومُرتبِط به على نحوٍ مُتكرِّر، ومُشكَّل بناءً عليه.

ومن ثَمَّ فإن هُوياتنا في الحياة الواقعية تُشكِّل توجُّهاتنا واستجاباتنا وخبراتنا بالفضاء الإلكتروني. وحضورنا على الإنترنت لا يُمكن «تنقيته من التلوُّث» — أستخدم هذا التعبير عن عمد، لأستثير محظورات التلويث العِرقي التي ترجع إلى حِقب استعمارية أسبق — الناجم عن هُوياتنا العِرقية في الحياة الواقعية؛ لأن «تعاملنا» مع الفضاء الإلكتروني مبني على القدرات الإدراكية، والخبرات، والمعرفة المُستمدَّة من العالم المادي المؤسَّس على النوع والعِرق. والأهم، أن امرأة سوداء، بعد وجودها على الإنترنت بصفتها رجلًا أبيض، تعود إلى العالم المادي، وتظلُّ تعيش فيه بوصفها «امرأة سوداء»، لا بوصفها الأفاتار الذي ظهرت به على الإنترنت.

بتعبيرٍ آخر، ما تُحدِثه الثقافة الإلكترونية هو طبيعة طيفية تَسِم الهُويات العِرقية: تحمل معك هُويتك العِرقية وكأنها شبح في «سكند لايف» أو أفاتارك، وتسترجع خبرتك كأنك أفاتار مجتَث في حياتك الواقعية. هذه هي طيفية العِرق في الفضاء الإلكتروني: الهُوية العِرقية في الفضاء الإلكتروني هي هُوية تبدأ بالعودة من العالم الواقعي، كأنها شبح.

تدخل الهُوية الواقعية (العِرقية، والإثنية، والنوعية الاجتماعية) فضاءات الإنترنت بوسائل متنوعة:

  • تكشف اللغة المستخدمة في الاتصال على الإنترنت، كما بيَّن الباحثون، عن الهُويات العِرقية (لوكارد ٢٠٠٠؛ فارشاور ٢٠٠٠).

  • تُسلَّع الهُويات العِرقية وتُروَّج في الفضاء الإلكتروني والتمثيلات الشعبية للفضاء الإلكتروني (في الأفلام مثلًا)، كما يحدث تمامًا في وسائل الإعلام الأخرى.

  • ترغب المواقع المخصَّصة للأفارقة، والشيكانو، والأقلية، في وضع العِرق والثقافات المعينة في الفضاء الإلكتروني، ساعية في حالات كثيرة إلى تشكيل مجتمع على الإنترنت (جماعات الجاليات، مثلًا، كما دُرِست من قِبَل فرانكلين ٢٠٠٤).

سكَّت ليزا ناكامورا (٢٠٠٢) مصطلح «الأنماط الإلكترونية» لوصف صور الهُوية العِرقية التي جعلتْها تكنولوجيا الاتصال الجديدة مُصطبغة بالنوع. يُروِّج الإنترنت ويُعزِّز أشكالًا قديمة من الصور النمطية العِرقية. ويشمل التنميط الإلكتروني أيضًا خطابة «ما بعد الجسد» (ناكامورا ٢٠٠٢: ٥)، التي يُحرَّر فيها الرجال والنساء والأقليات من أجسادهم المُستبدة الموسومة بالعِرق، أو المرض، أو النوع. ويبقى «النمط» الرائج في أغلب الأحيان بوضوح — الجسد «القياسي» للعوالم الافتراضية — هو الجسد الأبيض. يحفظ الإنترنت «عبق» ما هو محلي، فقط ما دام المحلي بقي محليًّا: أي مستندًا إلى العِرق. وحالما يبدأ الإنسان المحلي في تبنِّي هُويات بيضاء أو مائعة، فإنه يُرفَض باعتباره «غير أصيل» (ناكامورا ٢٠٠٢: ٦). وحتى الذوات المستقبلية، كما تُجسَّد في الأعمال الفنية الرقمية أو الافتراضية من قبيل «أندينا» كوستيا ميتينيف (digbody.atlant.ru/undina) التي تُساعدنا على تجميع الأجساد، تَستند إلى صور نمطية عن غرباء سود أو سمر وأبطال دمويِّين (تتجلَّى أيضًا في اللعبة باللغة العنصرية «كاونتر-سترايك»؛ حيث يُستدل على أن الإرهابيين مسلمون من أغطية رءوسهم). هذه الأنماط الإلكترونية أيضًا تُعامل الجسد المحدَّد العِرق على أنه مُنفصِل من البِنى الأخرى التي تحوي الأجساد (السوداء): اللغة، والاقتصاد، والطبقة. وكما تُوضِّح جنيفر جونزاليس (٢٠٠٠)، تُزال كل الوسوم من أجل خلق الجسد الهجين، وهو ««فاعل» مُستخلَص من مكوِّنات «الجسد» المجمَّعة» (التأكيد من المؤلفة).

ما يُثير الاهتمام هو أن الثقافات الإلكترونية تُشجِّع من جهةٍ الهُويات المتعددة والمائعة، ومن الجهة المقابلة يصبح ضروريًّا للشركات والمشروعات والمنظرين تعريف موظفيهم، وتمثيلاتهم، وموضوعاتهم بهُوياتهم العِرقية. والواقع، من ثَمَّ، أن الهُويات «ما بعد الجسدية» ليست للمحليِّين الذين يحتاجون إلى استعادة هُوياتهم وأجسادهم السوداء/السمراء. يتطلب السعي إلى التنوُّع في الثقافات الإلكترونية استبقاء الهُويات السوداء أو السمراء لبعض الفاعلين.

والأهم في تنظير ناكامورا هو افتراضها أن العِرق الأسود دائمًا ما كان ما بعد حداثيًّا وافتراضيًّا. إذا كانت ما بعد الحداثة هي إلغاء مركزية الذات، وتجزئتها، فالعِرق الأسود، إذًا، كان دومًا خارج المركز، وهامشيًّا، ومجزَّأً. ويعني الانعطاف الإلكتروني في الثقافة أن موقعهم المجرَّد من المركزية يُنقل إلى داخل الفضاء الإلكتروني. وبعبارة ناكامورا:

بينما يكون كل شخص في الفضاء الإلكتروني مشتَّتًا، فالناس الملونون في الفضاء الإلكتروني يأتون إلى الوسيط بهذه الحالة، مهمَّشين بالفعل، ومتشظِّين، ومتراكبين، في أنظمة الدلالة التي تُشكِّلهم بطرق متعدِّدة، وكثيرًا ما تكون متناقضة. (٢٠٠٢)

ويستجمع نقدها للثقافة الإلكترونية قوة فيما بعدُ:

ينحو تمجيد «الذات السائلة» الذي يتغنَّى في الوقت نفسه بما بعد الحداثة بوصفها رؤية للعالم ذات طابع تحريري كامن، إلى غضِّ الطرف عن الجوانب الأكثر إزعاجًا في الذوات السائلة المهمَّشة التي توجد بالفعل خارج الإنترنت في صورة أناس مهمَّشين حقيقيِّين، وهي صيغة لا تصلُ إلى تلك الرومانسية. (٢٠٠٢)

من وجهة نظر الناس المهمَّشين في العالم الواقعي، لا تحتفظ هُويات الفضاء الإلكتروني السائلة بأي سحر. قد يُقدِّم «التحرُّر» في الفضاء الإلكتروني إثارة مؤقتة، ولكنه لا يُغيِّر وقائعهم المادية الهامشية.

الهُويات الافتراضية، كما يَراها كلٌّ من هوارد رينجولد (١٩٩٤) وشيري تركل (١٩٩٥)، تحريرية: لأن بإمكان المرء أن «يختار» هُوية. وفي الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والعُمالية عبْر العالم، تُفرَض الهُويات الافتراضية على العمال الإلكترونيين غير البيض. ولذا فإن «مسئولة» الرد على العملاء في بنجالور (الهند) التي تُعرِّف نفسها بأنها «سارة» أو «جين» تستمر في السقوط ضحية بِنية ذات طابع عنصري أقدم، كان فيها هدف السكان المحليين هو أن يكونوا بيضًا بقدْر الإمكان حتى يَحصُلوا على قبول السادة الاستعماريِّين. لا يفعل الغرام بهُوية جديدة سوى تعزيز التهميش الفعلي القديم للأعراق غير البيضاء؛ حيث يكون طموح العِرق المهمَّش هو أن يَصير أبيض أو أكثر بياضًا. وفي حالات أخرى، لا يكون الغرام بالفضاء الإلكتروني غرامًا مُتشارَكًا بين العاملين. فالانتقادات ذات النزعة المادية للاقتصاد المعلوماتي الجديد (مثل داوني ٢٠٠٢؛ تيرانوفا ٢٠٠٠) أظهرت كيف أن ما يُسمَّى «الافتراضي» يُخفي العمل الواقعي، لمن تبقَّى الهُوية لهم مُتجسِّدة وحالَّة ومندمجة في الأوضاع الملموسة.

لجأت الأقليات وغيرها من «الأنماط» العِرقية باطراد إلى الإنترنت. ونشأت الجماعات الثقافية الهامشية، وشُكِّلت مجتمعات الجاليات — وكلها تَنحو إلى تعقيد الإنترنت بصفتها ظاهرة بيضاء. منظَّمة «ريذم أوف لايف» (www.rolo.org) هي منظمة غير حكومية تلتمس الأموال لتُوفِّر كلًّا من مهارات الكمبيوتر والتدريب على الوظائف لفقراء العمال والطبقة العاملة من السود في منطقة خليج سان فرانسيسكو. وتُقدِّم جمعية ذي أفرو فيوتشريست (www.afrofuturism.net) مركز إيضاح لنقاش حول كيف أن عمل الفنانين والمُفكِّرين الأمريكيِّين من أصل أفريقي، والجاليات الأفريقية يُمكن أن يتقاطع — ويتقاطع بالفعل — مع أحدث الإنجازات في التكنولوجيا.

حتى بينما تكتسب هذه الأعراق درجةً من الإلمام بأساسيات الكمبيوتر والقوة، تَحتفي الثقافات الإلكترونية بنهاية الجسد. فقط حينما يرغب السود أو الهيسبانيون في حضور على الشبكة العنكبوتية العالَمية ويُؤسِّسوا له — بوصفهم أشخاصًا عِرقيين، مبرزين الهُوية العِرقية ولون البشرة — تُروِّج الثقافة الإلكترونية سياسة تجزيئية وغير قائمة على الهُوية. ويُواصل هذا استراتيجية الغربي/الأبيض في تهميش الهُويات غير البيضاء. إذا كان في وقتٍ ما (خلال الاستعمار) قد رفض «السكان الأصليين» (غير البيض) باعتبارهم همجًا، فهو الآن يرفض الشعوب الأصلية باعتبار أنهم بلا عِرق. وبما أن المعركة من أجل المساواة والديمقراطية ظلت تدور حول العِرق، وبما أن الاستغلال يحكمه في الأساس لون البشرة، فإزالة الهُوية العِرقية الآن تَعني رفض أي فرصة لفاعلية السود أو الهيسبانيين.

تسترجع المبالَغة بشأن حريات الفضاء الإلكتروني — ومن ضمنها تغييرات الهُوية، والتصفُّح، واللامحدودية — استعارات الحِقبة الاستعمارية، حينما كان الحِراك مقترنًا دائمًا بالرجل الأبيض. وتعني السرعات المختلفة في النفاذ إلى الويب، والمداخل الأسلس إلى النطاقات الإلكترونية، وبنية النفاذ المؤسَّسي ذاتها بين الأعراق (حتى في حواضر العالم الأول)، أن الانتقالات داخل العالم الافتراضي لها طابع عِرقي.

استعمار شبكات وسائل الإعلام العالَمية من جانب الشركات البيضاء في غالبيتها هو مثال للطبيعة العِرقية التي تتَّسم بها «ثورة المعلومات». والأكثر من ذلك، أن هذه الثورة مبنية على عمل أناس مُتعدِّدي الأعراق. وكما افترضت ناكامورا، تحاول صناعة التكنولوجيا خلق «تعددية ثقافية تجميلية» (٢٠٠٢: ٢١)؛ حيث تُستبعَد المشكلات العِرقية داخل أمريكا تمامًا لصالح تمثيل للديمقراطية التكنولوجية. ومع ذلك فالإحصائيات العمالية بشأن الأمريكيين من أصول أفريقية في المستويات العليا للمؤسسات الرأسمالية التكنولوجية تُخبرنا بقصة مختلفة.

(٢) الثقافة الإلكترونية ما بعد الاستعمارية

تدرس المؤلفات الحديثة عن المخيلة الإمبراطورية والاستعمارية للثقافة الإلكترونية (إيبو ٢٠٠١) أثرَ التكنولوجيا الإلكترونية المتفاوت في الدول النامية. ومع ذلك فهذا القلق من جانب النُّقاد من رؤية الثقافات الإلكترونية باعتبارها موجةً جديدة من التغريب، وإن كانت لا تخلو من بعض التبرير (سيطرة اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة الإنترنت وألعاب الكمبيوتر تُعزِّز مثل هذا القلق)، لا يفسح مجالًا واسعًا لإضفاء طابع محلي أو لغة محلية — أو ما أُسمِّيه «إضفاء طابع ما بعد استعماري» — على الثقافات الإلكترونية.

«الدراسات ما بعد الاستعمارية»، كما أراها، هي بالأساس نقدٌ للفكر والممارسة أوروبيَّي المركز — في الحقول: المعرفي، والأدبي-الثقافي، والسياسي، والاقتصادي. «ما بعد الاستعماري» هو مقاربة/أدب/ثقافة تَشتبِك اشتباكًا نقديًّا مع تاريخ القمع والاستعمار والعنصرية والظلم. ولذا، ينصبُّ اهتمام النقد على العِرق وتجلياته في الأشكال الهيمنية، والمُسيطِرة، والقمعية من الثقافة. ومنذ صدور نصِّها «التأسيسي»، وهو كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» (١٩٧٨)، تضمَّنت الدراسات ما بعد الاستعمارية، إلى جانب التصدي للتشكيلات أوروبية المركز والثقافية القائمة على العِرق، انتقادات للأبوية والمعيارية المُتغايرة الجنس، من خلال دراسات النساء والشواذ. وفي التسعينيات التفتَت إلى دراسات العولمة؛ إذ رأت أن العولمة امتداد للأشكال الأسبق من الاستعمار، والإمبريالية (لدراسات عن الصلة بين دراسات ما بعد الاستعمار ونظرية العولَمة، انظر برينان ٢٠٠٤). وتصدَّت لأسئلة بشأن القومية والهُويات القومية، وحقوق الإثنيات والأقليات، والهُويات الهجينة والمهاجرة، وسياسات التنمية، والثقافة الاستهلاكية العالَمية، على اعتبار أنها تُظهِر تماثُلات مُقلقة مع العصر الاستعماري.

ولأغراضي هنا، فأنا أرى أن على الدراسات ما بعد الاستعمارية بالضرورة أن تتصدَّى لأكثر أدوات العولَمة فاعلية (كاستلز ١٩٨٩، ١٩٩٦؛ جيدنز ١٩٩١): تكنولوجيا المعلومات وممارساتها. إنَّ إبقاء تركيز الدراسات ما بعد الاستعمارية منصبًّا على العِرق وعلى المركزية الأوروبية يُساعد دراسات الثقافة الإلكترونية على تناول الطبيعة العِرقية لعصر المعلومات، وللحياة الاجتماعية المُفتقرَة إلى المساواة (المَبنية على أساس العِرق والنوع) للمعلومات وتكنولوجياتها؛ حيث تتحكَّم «المواقع» الأورو-أمريكية في حيوات الأعراق غير البيضاء، وقواها العاملة، وهُوياتها، عبْر العالم، وحيث تزدهر «الأنماط الإلكترونية» في العوالم الافتراضية.

تَزدهر العولمة، كما رأينا في موضعٍ أسبق، على استغلال موارد العالم الثالث (العمل، والذكاء، والمواد الطبيعية، والأسواق) من قِبَل العالم الأول، وهو أحد ملامح استعمار القرن التاسع عشر. بنى العمال المهاجرون (وخصوصًا من الهند وآسيا) وادي السليكون، الذي أصبح في النهاية مقر الجوانب البحثية والتجارية لثورة الكمبيوتر. وتعتمد أعمال التعهيد لتسيير الأعمال التي تمكِّن الاتصال الشبكي على العمالة الآسيوية بالكامل تقريبًا.

تُشير «الثقافة ما بعد الاستعمارية» إلى عملية التفسير والتطويع (للفضاء الإلكتروني) المُتنبهة ليس فقط إلى الأوضاع الاستغلالية المحدَّدة عِرقيًّا لعمالة تكنولوجيات المعلومات والاتصالات المعولمة، ولكن أيضًا للإمكانية التحريرية للثقافات الإلكترونية. وتشتمل على ثقافات رقمية «مُعولمة محليًّا»؛ حيث تُخضَع التكنولوجيات العالَمية لخدمة أغراض التوثيق المحلي والأفعال الاجتماعية. وتتضمن تنمية الممارسات الرقمية المحلية للغاية من قبيل «السايبرموهالَّا» (المحلة الإلكترونية) في نيودلهي؛ حيث تهدم السجلات اللُّغوية هيمنة اللغة الإنجليزية، وتُسخَّر التكنولوجيا الرقمية لخدمة الاحتياجات والسياسة الموطَّنتَين جغرافيًّا. وهي تَشمل، كما افترضتُ (نايار ٢٠٠٨د)، وضع أهمية تكنولوجيات المعلومات والاتصالات وأثرها ودراسة ذلك في سياق الحياة اليومية، والثَّقافات المهمَّشة، ودراسات مجتمعات الجاليات.

تُناقِش المقاربات ما بعد الاستعمارية للثقافة الإلكترونية أيضًا التحوُّل الرقمي ووضع قواعد البيانات للمعلومات والمجتمعات السكانية في مشروعات من قبيل مشروع الجينوم البشري. سيُخزِّن مشروع الجينوم البشري البيانات من الجماعات السكانية الإثنية والعِرقية في العالم. ولكن ما مِن ذكرٍ للسلطة المُتحكِّمة من وراء تلك المعلومات: مَن سيَملِكُها؟ وهل سيكون للمجتمعات السكانية التي ظلَّت تُؤخذ عيناتها لصنع قواعد بيانات للحمض النووي لمجتمعاتهم/قبائلهم منفذٌ إليها؟ وهل سيُسمح لهم بالبتِّ في نشر المعلومات؟

طالما كانت دراسات الجماعات السكانية مُنبثقة من الحاجة إلى معرفة مواقع الناس المكانية، وحركاتهم، وسلوكهم. وظلَّت القبائل المرتحلة والبدوية «تُتتبَّع» لتمكين الدولة من أن تعرف موقعهم المحدَّد وتتنبَّأ بأي «اضطراب» (باير ١٩٨٥؛ هيجز ٢٠٠٤). أما المشروعات الجينومية فتنطوي على ما هو أكثر كثيرًا من أعداد الناس، أو مواقعهم؛ تَنطوي على الأنماط السلوكية والاستعدادات لأمراضٍ معيَّنةٍ لدى جسدٍ بشَريٍّ معيَّن. من حيث الأصل، «لم» يكن الأمريكيون من أصول أفريقية مُدرَجين في المسح الجينومي للجنس البشري. وبعد مطالبات ملحَّة، أُدرجت أيضًا عمليات أخذ العينات من الأمريكيِّين من أصول أفريقية. هذا الاستبعاد هو عودة إلى العصر الاستعماري، حينما لم يكن يُعتَد بالأفارقة فيما يُكتَب عن البشرية، إلا بوصفهم كائنات بدائية وأشبه بالحيوان. وكان من شأن ذلك عمليًّا أن يعني شفرة جينية بشرية معيارية، مُستمَدَّة من قِسمٍ ضئيل من السكان، باعتباره «ممثِّلًا» لكل البشر.

من المُهم بمكانٍ مسألة مَن الذين سيُستخدم تكوينهم الوراثي أساسًا أو معيارًا؛ لأن الطب والصحة وغيرهما من البحوث ستَستخدمه نموذجًا. وفي مجالات مثل العلوم الوراثية الصيدلانية (حيث ستُجهَّز الأدوية وفقًا للتكوين الجيني)، لن تُصمَّم أدوية من أجل البصمة الوراثية للأمريكيِّين من أصول أفريقية. تجمع المشروعات الجينومية موادَّ وراثيةً من الأقليات ومجتمعات العالم الثالث، ولكن من المحتمل أن تَستبعِد المصالح التجارية هذا «الوعاء الوراثي» الأضعف من الناحية الاقتصادية، من الحصول على العقاقير المناسبة لتكوينِهم الوراثي (انظر جاكسون ١٩٩٩، ٢٠٠١؛ نايار ٢٠٠٦أ). تُحدِّد أي مقاربة ما بعد استعمارية لمثل هذه المشروعات، الأيديولوجيات الحاملة، والآليات الاستغلالية المستخدمة في إطار العِلم التكنولوجي المعاصر، وتربط مثل هذه المشروعات بالمشروعات الاستعمارية الأقدم مثل صنْع الخرائط، والدراسات السكانية، والدراسات الإثنية.

من الأمور المِحوَرية لمثل هذه المقاربة للثقافات الإلكترونية مسألة المعرفة. تُجمَع المعرفة من الهوامش، ويُنَظَّر عنها في الغرب (كما افترض النُّقاد ما بعد الاستعماريين ابتداءً من إدوارد سعيد)، ودائمًا ما كانت أنماط التفسير تُقرِّرها العلوم المعرفية الغربية. تشكِّل قواعد البيانات، من قبيل مشروع الجينوم البشري، لحظةً أخرى في تاريخ هذه الشاكلة من جمْع المعرفة؛ فالتحوُّل الرقمي، كما افترض كلٌّ من مايك فيذرستون وكوز فين (٢٠٠٦) يخاطر بترسيخ الانقسامات الأقدم بين «نظرية» العالم الأول وتفسيره، ومعلومات «العالم الثالث». ما أنماط جمْع المعرفة والشبكات الفكرية البديلة المتاحة للأكاديميين والمُنظِّرين غير الغربيِّين التي من شأنها أن تهزَّ استقرار المعرفة/التفسير في الغرب؟ يلحظ فيذرستون وفين، في مناقشتهما مشروع دائرة المعارف الجديدة (القائم منذ عام ٢٠٠١) أن أشكال المعرفة المحلية وتقاليدها أُهمِلت في حالة جنوب الهند، على الرغم من أن معظم خبراء المعرفة، للمفارقة، ينتمون إلى بنجالور في جنوب الهند (٢٠٠٦: ٤-٥). ويفترضان أنه لا بد لأي أرشيف عالمي للمعرفة من وضع قواعد بيانات عن التقاليد المعرفية الأخرى التي قد تُساعد حينئذٍ على زعزعة استقرار نظم التصنيف والتفسير الأورو-أمريكية. باختصار، يقترح فيذرستون وفين لغة محلية تزعج أنماط العمل المعرفي، وأنظمة التفكير، والأنساق الفكرية الغربية — وهي عملية مقرونة كما هو شائع بالنزعة المحلية داخل الدراسات ما بعد الاستعمارية.

ومع تمكينه بالتكنولوجيا الرقمية، فإن مشروع دائرة المعارف الجديدة «يَحمل إمكانية أن يكون أرشيفًا وأداة في الوقت ذاته لتصنيف معارف العالم وأشيائه وإزالتها من التصانيف» (فيذرستون وفين ٢٠٠٦: ٥).١ ليس الإنترنت «نظامًا محايدًا لتقديم المعرفة» (ص١٠)، ويعني هذا أن علينا أن نقلق بشأن طبيعة الوسيط، ومسألة النفاذ إليه، والنظام التصنيفي المستخدَم فيه، وتقاليد المعرفة التي أُدمجت في الأرشيف العالمي لمشروع دائرة المعارف الجديدة، وتسليع المعرفة. ما نحتاج إليه هو تحرير واعٍ وحذر للفضاء ما بين الأرشيف ودائرة المعارف. ولذلك يفترض فيذرستون وفين مصطلح «دائرة وسائل الإعلام» (إنسيكلوميديا): وهو مُصطلح يُحرِّر المشروع من العنصر المعرفي (الذي تدلُّ عليه لفظة «بيديا» في كلمة «إنسيكلوبيديا» أي «دائرة المعارف») بينما يشير إلى تركيب المعارف العالَمية الذي يتَّسم بصفات الدائرية والدوران والربط (ص١٥). تعني الأشكال الأحدث من الحفظ والبث (أجهزة الآي بود المستخدَمة في الإبداع والبث الرقميَّين في المؤسَّسات التعليمية) أنه يُمكن تشكيل وصلات جديدة أحدث وأكثر جذرية، تزعزع استقرار البِنى التراتبية لدوائر المعارف التقليدية. تدعونا «دائرة وسائل الإعلام» إلى الوعي بعملية تشكيل المعرفة.

المقاربات ما بعد الاستعمارية للتعاطي مع الثقافة الإلكترونية من الممكن أن تشمل مشروعات رقمية تتعامل عن عمد مع الأعراف المحلية للمعرفة وتقاوم الأساليب الغربية بالحالة التي تصورها بها الموسوعات التقليدية. والتعاطي ما بعد الاستعماري مع العولمة يمكن أن يشمل إضفاء الطابع المحلي على المعرفة ذاتها.‎‎

بدأت المقاربات ما بعد الاستعمارية للثقافة الإلكترونية في الظهور منذ عَقد التسعينيات من القرن العشرين. وشهدت الحقبة ما بعد الاستعمارية صعودَ المجتمع المدني العالمي. والآن تُؤكَّد الهُويات الإثنية واللغوية والأقلية على مواقع عالَمية متعدِّدة، دون أن يكون لها (بالضرورة) إقليم (مثل الدولة القومية). ويعيد التضامن المصنوع بين الهُويات الإثنية في آسيا وأمريكا (من قِبَل الأمريكيين من أصول آسيوية) تشكيل جوهر ملامح «آسيا» و«أمريكا»، والعلاقات بين الاثنتين. مثل هذه التضامنات تيسِّرها باطراد تكنولوجيات الاتصالات السلكية واللاسلكية العالمية. وتترابط المنظمات غير الحكومية، والمنظَّمات العابرة للحكومات، والنشطاء عبْر الكوكب من خلال هذه التكنولوجيات. في عالم ما بعد استعماري، يُمكِن لمثل هذه الشبكات أن تكون مصدرًا لمجتمع مدني ديمقراطي، وتدخلي، ومقاوم. فالمجتمعات المحلية التي تَبني التضامنات مع غيرها من المجتمعات الشبيهة لها في الفكر، تُصبح في حالات كثيرة ما بعد استعمارية، بمعنى أنها تقاوم الإمبريالية من داخل العواصم. وهكذا، يُمكن النظر إلى المسيرات المناهضة لمنظمة التجارة العالَمية في سياتل عام ١٩٩٩ باعتبارها انتقادات ومقاوَمة للعولمة.

يُمكن أن تكون مفاهيم الوطن والمحلية الثقافية بمنزلة أنماط من المقاومة والاستيعاب داخل الثقافات المُعولَمة. حينما أُطلقت بوابة للجاليات الهندية عام ٢٠٠٠ (تحت جماعات جوجل) وُصف الإطلاق بأنه «وطن إلكتروني للجاليات الهندية» (groups.google.co.in/group). يُومئ الوصف إلى إعادة تشكيل الفضاء الوطني، هذه المرة من دون التباينات الإقليمية واللغوية وحتى المادية بين جواهاتي وبنجالور على سبيل المثال؛ فالبوابة «تعمل بصفتها رابطًا لمجتمع الجاليات الهندية العالمي». وتستمر لتقرر أنها:

تتناوَل مسائل ذات صلة بالجاليات الهندية — من الحنين إلى الوطن، إلى رعاية الأطفال في الخارج، إلى التعامل مع الثقافات الجديدة. وأكثر من أي شيء آخر، تُقدِّم بوابة الجاليات الهندية على الإنترنت منصةً لاجتماع الجاليات الهندية؛ حيث يُمكنهم أن يُناقِشوا المسائل التي تُؤثِّر فيهم.

وتختتم بالقول إن بوابة «الجاليات الهندية على الإنترنت تهدف أيضًا إلى التأثير في الحكومة الهندية من أجل إحداث تغييرات، بالإضافة إلى الارتقاء بصورة الهند في الخارج.» ويشتمل الموقع الفعلي www.nriol.com على روابط لرُكن الشعر، والأمور الحصرية، والتقارير الإخبارية، ورابط «مجتمع»، مع روابط فرعية لتساؤلات الجاليات الهندية، ومُستجدات الجاليات الهندية، وأسماء المواليد الهندية، ونادٍ مطبخي، ومجموعة من المواقع عن وثائق الإقامة والتأمين. أما صفحاته الشعبية (شعبية حسب إعلانه) فتشمل: «اللغات الهندية، والآثار الهندية، والمعابد الهندية، والسياحة الهندية». ويوحي الخطاب بنزعة محلية، واستعادة للهُوية والوطنية والثقافية عبْر تكنولوجيات المعلومات والاتصال. وإذا كان ما بعد الاستعماري يَتميِّز بمحاولة إنقاذ العبيد/الثقافات الأصليين (بقدْر ما يكون هذا مرغوبًا وممكنًا)، فهذه «الأوطان» في الفضاء الإلكتروني تشكِّل ملاءمةً ما بعد استعمارية.

وإذ يُبرِز عملُ الباحثين الجدد أمورَ العِرق، وينحاز إلى المقاربات ما بعد الاستعمارية للهُويات الهجينة، والتضارب، والذاتيات، ومسألة الهُوية الجنسية/النوع، فقد أصبح عاملًا مساعدًا في إتاحة دراسات الثقافة الإلكترونية بطُرُق جديدة مذهلة.

افترض نقاد النصوص التشعبية من قبيل جيشري أودين (١٩٩٧) أنَّ الفضاء الإلكتروني، بما يتَّسم به من تعدُّد في الأصوات، و«ترتيب» غير خطي، هو ما بعد استعماري على نحوٍ مثالي؛ لأنه مثل ما بعد الاستعماري، يَرفُض الهيمنة. ويبدو الموقف ما بعد الاستعماري في مثل هذه الحالات إعادة كتابة للغات الفضاء الإلكتروني نفسه — وهي ظاهرة عرَّفها أشكروفت وزملاؤه (١٩٨٩) فيما يخصُّ الشعوب حديثة الاستقلال وحركاتها الأدبية-اللغوية في مواجهة مستعبديها الاستعماريين السابقين وثقافاتهم.

يُشكِّل كلٌّ من عمل الفنان الاستعراضي الأمريكي اللاتيني جوميس-بينا (www.pochanostra.com) والسايبرموهالَّا (www.sarai.net) محاولة لإضفاء طابع ما بعد استعماري على الثقافة الإلكترونية من خلال تطويع الفضاء الإلكتروني نفسه.٢ ويَمضي عمل كريتيكال آرت إنسامبل (www.critical-art.net/) خطوةً أبعد في استحضار النوع والميل الجنسي إلى «تشذيذهما» للتكنولوجيا، حتى على الرغم من أنه يَبقى أبيض في معظمه. وبناءً على ما يُسمِّيه جوميس-بينا «المخاوف الثقافية من الغرب» في أعقاب ١١ سبتمبر، يصوغ جوميس-بينا تعبيرات «الهمج الجدد»، والسايبورج الإثنيِّين. ويقترح جوميس-بينا باستخدام أعمال فنية فوتوغرافية مثل «فتاة الجيشا المُنذرة»، و«تقوى ما بعد استعمارية»، وغيرهما من صور الأجساد الهجينة التي تستخدم صور العنف والرعب والحرب، استخدامًا مختلفًا جذريًّا للإنترنت — ما يُسميه «التكنولوجيا العالية للأزتيك». يشير المزيج المتعمَّد للهُويات في عمله الهزلي مع الفنان الإيراني علي دادجار — حيث يجب أن يوائم «المشاهدون» ما بين الشخصية والاسم، بالاستعانة بوصفهم العرقي/الثقافي — إشارةً مباشرةً إلى التصنيف العِرقي في أعقاب ١١ سبتمبر. وينتقد عمله «الوصايا الأربع عشرة» البيوريتانية، والهيمنة، والمذاهب الجوهرية، ويدعو إلى التعدُّديات عبْر الحدود القومية والعِرقية؛ حيث يُشكِّل التابعون جمهورًا. أما السايبرموهالَّا، كما افترضتُ في موضع آخر، فيُقدِّم تحولًا شديد المحلية، وخلق فضاء ما بعد استعماري عبْر تكنولوجيات المعلومات والاتصالات (نايار ٢٠٠٧ب، ٢٠٠٨أ).

هذه الأعمال ما بعد استعمارية لأنها تقاوم الأنماط الإلكترونية، وتَحتفي بالهجنة، وتَنشُد التعدُّديات لا الهيمنة، ودائمًا ما تنتقد استراتيجيات الحرب والإمبريالية والسيطرة والتنميط التي تَنتمي إلى العالم الأول. ويُمكن أن تتمدَّد إلى أفعال مقاوَمة ما بعد استعمارية على نحوٍ راديكالي، حيث يُحوَّر الاختراق، وسرقة الصفحات، والحملات على الإنترنت، وغيرها من الأفعال (التي تُسمَّى في الغالب «الإرهاب الإلكتروني») على نحوٍ عِرقي، وتَستهدِف سياسات وسياسة العالم الأول، الأورو-أمريكية. والأهم، أنها، مثل المؤلَّفات ما بعد الاستعمارية عمومًا، تفسح المجال للتعبير عن الهُويات المحلية والهُويات البديلة. إنها «تُضفي لغة محلية» على الفضاء الإلكتروني، حتى وهي تَبني مجتمعات أوسع على الإنترنت تُثير الوعي بالسيطرة ومقاومتها. تمامًا مثلما طُوِّعت اللغة الإنجليزية والكتاب الإنجليزي من قِبَل الحركات المناهضة للاستعمار في القرن التاسع عشر، فلُغة الفضاء الإلكتروني وعمارته وتنظيمه يجري تطويعها من قِبَل الثقافات غير البيضاء.

ومع ذلك، فحتى مع اعترافنا بإمكانات مثل هذا العمل الفني والثقافي المقاوِم، لا بد أن نعترف أيضًا بأنه يبقى في مستوى التمثيل. صحيح أنه يكشف العيوب في أشكال التمثيل السائدة (المُستندة إلى العِرق والنوع)، ويقترح أشكالًا بديلة أكثر تحريرًا، لكن المدى الذي تبلُغه أفعال التمثيل هذه في التدخُّل في الظروف المادية للعمال والعمل في مجال تكنولوجيات المعلومات والاتصال، أو التحوُّلات الاقتصادية الأكبر يبقى (مع الأسف) محل نقاش. ظلت هذه الأعمال تُستخدَم للحصول على الدعم، لكن تدخلاتها «التكتيكية» لم تزل بحاجة إلى الترسيخ باعتبارها مضادًّا ﻟ «الاستراتيجيات» السائدة (باستخدام مصطلحات سيرتو ١٩٨٨). ويعني هذا أنه، بينما تُثيرنا رؤية مثل هذه الأعمال، من قبيل أعمال جوميس-بينا أو أعمال كريتيكال آرت إنسامبل، تمتلك «سياسة تمثيل» (كم كانت هذه العبارة شائعة في التسعينيات!) قوية، فإننا لما نرَ بعدُ قوتها التغييرية على المستوى الواقعي للسياسة. وهناك أيضًا خطر أن تصير أشكال الفن نفسها من هذه الشاكلة أيقونات ﻟ «الغريب ما بعد الاستعماري» (هاجان ٢٠٠١)، مُقدِّمة صورًا لاستهلاك جماهير العالم الأول.

ولذلك، فالثقافة الإلكترونية ما بعد الاستعمارية لم تزل موغلة في مستوى التمثيل، ولكنها (حتى نكون أكثر تفاؤلًا) تَفتح فضاء الشاشة للآخر — وهذا إنجاز لا يُستهان به. وبضمِّ مقولة روجر سيلفرستون إلى دراسة نيام ثورنتون (٢٠٠٧) لجييرمو جوميس-بينا، فمن شأن أي مقارَبة للثقافة الإلكترونية أن تشمل:
  • انتباهًا لترويج الأنماط الإلكترونية (مثل التمثيلات الثقافية) في الفضاءات الإلكترونية.

  • الأوضاع المادية القائمة على العِرق (العمل، وعمال المعرفة) التي تنتج الفضاء الإلكتروني.

  • تورط الدول القومية (ما بعد الاستعمارية) التي لها نزعات معلوماتية وتشكيل معرفي عالَميان ذوا أساس أورو-أمريكي.

  • أنماط التعبير البديلة الممكنة للعامِّي والمحلي.

  • فحص علاقات القوة غير المتكافئة بين الأعراق في الثقافة الإلكترونية التي تربطها تكنولوجيات البرامج والأعتدة (من حيث تعليم الكمبيوتر للأقليات، مثلًا، أو النفاذ بلُغاتها) بالنوع.

  • إتاحة الشاشة للاختلاف الثقافي؛ حيث تكون الشاشة حرفيًّا هي فضاء الآخر الذي يَحتاج إلى استجابة أخلاقية.

وتشمل أيضًا المزيد من العمل على الأرض من خلال استخدام الإنترنت وأنظمة الاتصال. يفترض بهارات مِهرا على نحوٍ مقنع أن أبحاث الثقافة الإلكترونية لم تزل بعيدة عن تناول أسئلة «التغيير الاجتماعي الديمقراطي» وخلق «معرفة اجتماعية صالحة» (٢٠٠٦: ٢٠٦). ولذا فهو يَدعو إلى «بحوث الفعل» في مجال القوة الإلكترونية، لإفادة الجماعات المهمَّشة. هذا النوع من بحوث الفعل، يشتمل على تحالفات أكثر تشارُكًا وسط النساء، والأقليات، وغيرها من الجماعات المحرومة من الامتيازات. ويَسعى إلى العمل مع الخبراء على المستويات «المحلية». مثل هذه المجتمعات على الإنترنت تُنظِّم الأفكار وبرامج التدخُّل باستخدام المعرفة المحلية، وإبقاء المصالح والحاجات المحلية في الحسبان. ولا يُؤدِّي هذا إلى نزع الطابع المركزي عن المعرفة وحدها، ولكن عن الإدارة أيضًا، وهو تدخُّل سياسي فعَّال في التراكيب الاجتماعية.

يُمكن بناء التضامنات الاجتماعية في الدول النامية من خلال تكنولوجيات المعلومات والاتصال. على سبيل المثال، خلال تظاهُرات سياتل ضد منظمة التجارة العالمية، سجَّل مركز وسائل الإعلام المستقلة مليونًا ونصف مليون زيارة لمواقعه، مُتفوِّقًا على شبكة «سي إن إن». وجرى تنظيم مسيرات السلام الدولية عام ٢٠٠٣ باستخدام البريد الإلكتروني. وتُسهَّل روابط الأسر والمجتمع العام/المدني بوضوح من خلال التكنولوجيات الجديدة، ويُمكن أن تساعد على توليد شكل من المجال العام أحدث وأكثر ديمقراطية.

تُسهِّل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات حالة «مثاقَفة» إشارة إلى التبادلات التي تُمكِّنها العولَمة. وتشير المثاقَفة إلى التبادلات بين الثقافات، التي يؤديها الأفراد أو الجماعات غير الرسمية، دون الخضوع للحدود القومية (بهاروشا ٢٠٠١: ٥) والشبكة العنكبوتية العالمية وسيط مهم لهذه التبادلات، ويمكن أن تساعد على بناء التضامُنات بين المجتمعات الخاضعة والمهمَّشة (مثلًا، الرابطة بين الداليت [في الهند]، والأبوريجينيين [في أستراليا]، والسود [في الولايات المتحدة]).

ما تدعو إليه أي مقاربة ما بعد استعمارية هو إعادة تصوُّر الفضاء الإلكتروني نفسه، كما رأيناه أعلاه. تنبهنا لاستعارات الفضاء الإلكتروني (بوصفه جبهة، وبوصفه فضاءات سفر — كما يظهر في مصطلحات «التجوُّل»، «طريق الإنترنت السريع» — مقترنة تقليديًّا بالثقافات الأوروبية ثم الأمريكية)، حتى وهي تُقدِّم عبارات مجازية جديدة (مثل السايبرموهالَّا). ويمكن للمقاربة والملاءمة ما بعد الاستعماريتين، كما تفترض كلير تيلور وثي بيتمان أن «ترفضا تقديم ثقافة إلكترونية أو مدوَّنات مصمَّمة للذوق الإمبريالي» (٢٠٠٧أ: ٢٦٥).

(٣) الحقوق والفضاء الإلكتروني

تعني السياقات الجديدة للعولمة التكنولوجية أن هناك سياقات جديدة يجب أن تُعرَّف فيها حقوق الإنسان، وتُحدَّد، وتُضمن، وتُحمى.

  • كيف يُناقش خطاب حقوق الإنسان الفضاءات الجديدة للافتراضيات، والاتصالات الإلكترونية؟

  • أَمِن الصواب مناقشة حق إنساني؟

  • هل حقوق النفاذ حقوق إنسان؟

غالبًا ما ركَّزت المناقشات بشأن النظام المعلوماتي الجديد على استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصالات لزيادة الوعي العالَمي بانتهاكات حقوق الإنسان، ومحاولات الدول والحكومات لتنظيم الإنترنت (دريك ويورجنسن ٢٠٠٦: ٥-٦). لكن هناك ما هو أكثر كثيرًا من هاتين المسألتين فيما يتعلَّق بحقوق الإنسان في العصر المعلوماتي.

أنشأت القمة العالَمية لمجتمع المعلومات مؤتمرًا لحقوق الإنسان عام ٢٠٠٢. ودعت الحكومات إلى حصر كل الحقوق التي حظيَت بالموافقة على المستوى الدولي، مع التأكُّد أيضًا من كون البنود الأخرى، مثل إدارة موجات البث، وتنظيم تكنولوجيات المعلومات والاتصال، وحقوق العمال، متَّسقة تمامًا مع اتفاقيات حقوق الإنسان العالمية. وفي عام ٢٠٠٣، دعا إعلان المجتمع المدني الصادر عن القمة العالمية لمجتمع المعلومات إلى تشكيل مجتمعات معلومات من أجل الحاجات الإنسانية، مقترحًا أن تجتمع الدول لكي «تبني مجتمع معلومات يُركِّز على الشعوب، إدراجيًّا، وموجَّهًا نحو التنمية، ويستطيع فيه كل شخص أن ينشئ المعلومات والمعرفة، ويصل إليهما، ويستفيد منهما، ويتشاركهما» (www.itu.int/wsis). أطلق هذا الإعلان حقوق الاتصال والمعلومات باعتبارها مركزية لكلٍّ من حقوق الإنسان، ومجتمع المعلومات. أما فريق عمل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فدعا إلى تجسير «الانقسام الرقمي» بتعزيز «الفرصة الرقمية» التي من شأنها أن تضمن «التنمية للجميع». وركَّزت هذه الدعوة على الأمور العملية، مثل التعليم، وبناء القدرات، والقدرة الاتصالية (www.itu.int/wsis/docs/geneva/official/dop.html). وفي عام ٢٠٠٢، ربط بيان «أهداف التنمية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الألفية» الصادر عن لجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والمُقرِّرَيْن الخاصَّيْن المعنيَّيْن بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التابعَيْن لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ما بين حقوق التنمية وحقوق الإنسان.
وتُعَد المنظمات من قبيل منظمة حقوق الإنترنت (www.internetrights.org.uk/) فواعل أساسية في هذا المجال؛ لأنها تُوفِّر صحائف حقائق للحقوق، والتدابير القانونية في حالة المخالفات المدركة، وأنماط الضبط والمراقبة القانونيَّيْن. ويبرز الملخص العملي لمشروع حقوق الإنترنت للمجتمع المدني التابع لمنظمة جرين نت (متاح على الموقع الإلكتروني لمنظمة حقوق الإنترنت) المشكلات الأكثر تحديدًا من قبيل «الحقوق الإلكترونية في مكان العمل» (موبس ٢٠٠٢).

الافتقار إلى المنفذ في مناطق مثل الأجزاء الريفية من الهند، أو المناطق الداخلية في أفريقيا، وكذلك داخل المناطق المعزولة المعوزة (ومعظمها للأقليات) في مدن العالم الأول، والخصخصة، والرقابة المقيِّدة للمحتوى على الإنترنت، وتنظيم مقدمي خدمة الإنترنت؛ كل ذلك يمنع من النفاذ والاستخدام الأكمل لتكنولوجيات المعلومات والاتصال. درست بِث كولكو (٢٠٠٦) السياسات الحاكمة لبِنية الإنترنت التحتية وتطويرها في آسيا الوسطى. وعملها بالغ الأهمية؛ لأنه يربط ما بين الحقوق في النفاذ والمسائل الأكبر المتعلِّقة برقابة الدولة، وبالتمويل، وسياسات التنمية، والبنية التحتية، ومرة أخرى يضع الفضاء الإلكتروني داخل الفضاء المادي والاقتصادي.

أما ريكه يورجنسن (٢٠٠٦) فتقترح تدابير لضمان امتثال التنظيمات الوطنية لمعايير حرية التعبير، ونشر الوعي بتكنولوجيات المعلومات والاتصالات من خلال المقررات المدرسية، وإنشاء منافذ إنترنت منخفضة التكلفة وآليات ملائمة لضمان التنمية المستمرة لمجال معلومات عام. ستخلق هذه التدابير كما تفترض يورجنسن سياقًا مواتيًا لتعبير واتصال أكثر حرية.

تتضمَّن حقوق الإنسان و«إنفاذها» الفعَّال في مجتمع المعلومات العالمي مسائل اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، وثقافية. وتشمل هذه ما سمَّاه روبين جروس (٢٠٠٦) «حقوق الاتصال»، التي تصوَّر أنها عنصر مهمٌّ من عناصر حقوق الإنسان. والمبادئ الشاملة لحقوق الاتصال هي:
  • السيادة الوطنية على سياسات المعلومات الداخلية.

  • حماية «المشتركات» الفكرية.

  • حقوق الملكية الفكرية التي يَنبغي أن تُعزِّز الإبداع.

  • تعزيز البرامج ذات المصدر المفتوح.

  • الحرية الفكرية.

تتعارض حقوق مثل الحق في الخصوصية، وحقوق الملكية الفكرية، كما يلحظ كثير من المفكرين (مثل جروس ٢٠٠٦؛ هوزين ٢٠٠٦)، في أغلب الأحوال مع هذه الشاكلة من حقوق الاتصال.

إن «الاتصال» مرتبط بالطبع بالمجتمع على نحوٍ متأصِّل (وعلى نحوٍ اشتقاقي؛ حيث تشترك كلمة «اتصال» communication وكلمة «مجتمع» community في نفس الجذر). وقد استُخدم الحق في الاتصال، وخصوصًا عبْر التراسُل الجماهيري بالبريد الإلكتروني وقوائم البريد على الإنترنت، منذ التسعينيات لتنظيم المساندة، والحملات، والمقاومة. وفي أعقاب تسونامي ٢٠٠٤، وإعصار كاترينا (٢٠٠٥) جنَّدت مواقع الإنترنت والحملات على الإنترنت الدعم السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ إذ استخدمت وكالات المساعَدة الإنترنت بوصفه أسرع أساليب الاتصال الجماهيري. وكما يُقال، فقد أبدلت تكنولوجيات المعلومات والاتصالات فضاءات التجمُّع فيما يخص الأفراد والمنظمات. ويعني هذا أن حملات حقوق الإنسان تجد في الوقت الراهن فضاءات تجمُّع جديدة.
افترضت هايكه ينسن (٢٠٠٦) أن بالإمكان تقوية حقوق الإنسان المتعلقة بالنساء من خلال استخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصال. وبالنظر إلى نساء الجنوب، تلحظ ينسن ما تنطوي عليه تكنولوجيات المعلومات والاتصالات من إمكانات من حيث بناء المجتمع، وفرص التوظيف، ونشر المعلومات. وبأسلوب قريب من ذلك، تَنظُر بريجيت كوفود أولسن (٢٠٠٦) إلى التفاعُل بين حقوق الأقليات ومجتمع المعلومات العالَمي. تتقدَّم بريجيت من البِنى التقليدية (القانونية والمُنبثِقَة من الدولة عادة)، لحماية الأقلية، وتدعو بقوة إلى آليات تنظيمية تضمن:
  • حقوق النفاذ.

  • الشفافية في جمع المعلومات عن الأقليات الإثنية.

  • الحقوق الثقافية للأقليات في الفضاء الإلكتروني (موضوع عالجناه فيما سبق في مناقشة ما بعد الاستعمار والفضاء الإلكتروني).

تسرَّب الحق في التجمُّع بالفعل إلى الحق في الاتصال هنا، ولكنه اجتذب أيضًا ضبطًا ومراقبة هائلَيْن من جانب الدولة (مثل جهود الحكومة الإيرانية لرصد أنشطة الإنترنت، ومراقبة الصين للمدوَّنات، وقانون «باتريوت آكت» في الولايات المتحدة).

تُقاس التنمية السياسية كما درستها هذه النصوص وهؤلاء المُفكِّرون من خلال مؤشرات مثل حرية التعبير، والنفاذ إلى المعلومات، وحماية الخصوصية، والشفافية والمشاركة في صنع القرار. ولذا فجماعات من قبيل سوشال ووتش (www.socialwatch.org) بالغة الأهمية لرصد الانتهاكات في هذه المجالات.

ومع ذلك، فحتى ذلك الوقت الذي تُطبَّق فيه هذه الإعلانات والتوصيات وتُرسَى قانونيًّا، قد تظل محض نقلات خطابية. المهم (بصرف النظر عن التنبؤات الضبابية) أن هناك طرقًا للعثور على المعلومات والمعالجات القانونية أسرع مما كان في أي وقتٍ مضى. والشفافية والنفاذ إلى الهيئات (أو الأفراد) المسئولة هما إنجازان قد يخوضان مسارًا طويلًا مع ذلك في مبادرات حقوق الإنسان.

ومن التطوُّرات الأساسية في اتجاه خطابات عولمة الحقوق، مبادرة مثل مشروع التكنولوجيات المكانية وحقوق الإنسان، التابع لبرنامج العلوم وحقوق الإنسان، في الرابطة الأمريكية لتقدُّم العلوم (إيه إس ٢٠٠٧). يُستخدَم نظام المعلومات الجغرافية، ونظام تحديد المواقع، وغيرهما من الأساليب لإعداد قواعد بيانات وتوزيع جغرافي للكوارث البيئية، والأمراض. وبعد نَشرِها لأول مرة بفعالية في عام ٢٠٠٤، أكَّدت صور الأقمار الاصطناعية التجارية عالية الدقة من جانب وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية ووزارة الخارجية الأمريكية التطهير العرقي في دارفور (www.usaid.gov/locations/sub-saharan_africa/sudan/satelliteimages.html). وخلال جلسات الاستماع في لاهاي في لجنة المزاعم الإريترية-الإثيوبية، قدَّمت إريتريا دليلًا على سوء السلوك الإثيوبي باستخدام صور عالية الدقة وصور ضوئية أثبتت الدمار الشديد للمنازل، والمباني العامة، والحقول (انظر سجلات المحكمة الدائمة للتحكيم على الرابط www.pca-cpa.org/showpage.asp?pag_id=1151). واستخدمت هيومان رايتس ووتش صورًا عالية الدقة وبيانات جغرافية مكانية أخرى لتوثيق وفيات المدنيِّين خلال «عملية حرية العراق» (هيومان رايتس ووتش ٢٠٠٣). وفي أبريل ٢٠٠٧، باستخدام برنامج «جوجل إيرث»، قدَّم المتحف الأمريكي التذكاري للهولوكوست قاعدة بيانات «الأزمة في دارفور» لتوثيق ونشر انتهاكات حقوق الإنسان من المنطقة (انظر www.ushmm.org/conscience).

(٤) مناصَرة البيئة في عصر الإنترنت

كيف تؤثِّر شبكات الاتصالات والنقل الجديدة في المجتمع والمشهد الطبيعي؟ بديهي أن التكنولوجيات الجديدة يمكن أن يكون لها تأثير إفسادي في البيئة. ومع ذلك، فبإمكانها أيضًا أن تُغيِّر العلاقات الفردية والمجتمعية بالبيئة.

قد يكون الاستخدام الواضح لتكنولوجيات المعلومات والاتصال، كما يُمكن تخيُّله من المناقشات السابقة، هو الحملات المناصرة للبيئة. المناصَرة، والدعاية، ونشر المعلومات من خلال توافُر قواعد بيانات التنوُّع الأحيائي، هي أمور سهَّلتها كثيرًا تكنولوجيات المعلومات والاتصال. وحتى المعلومات عن الأماكن البعيدة يُمكن النفاذ إليها في الوقت الراهن، ومِن ثَمَّ فهي تخلق اهتمامًا وسط النشطاء وجماعات الضغط. حينما لجأت الحملة المطالِبة بمنع منشأة لمعالجة الملح (من صنْع متسوبيشي) في سان إجناسيو لاجون في المكسيك، إلى الإنترنت ابتداءً من عام ١٩٩٥، وضعت بذلك علامة للحظة تاريخية في مناصَرة الحفاظ على البيئة استنادًا إلى الإنترنت (شِر ٢٠٠٢).

تُحدُّ أنظمة الاتصالات والنقل من تركُّز المستوطنات؛ ومن ثَمَّ أنماط التنمية. ويعني الاتصال والانتقال السلسان تنميةَ المناطق النائية المتاخمة للمدن الكبرى أيضًا باعتبارها «توابع». ويعني الحراك المتنامي أن هناك درجة أعلى من المرونة في إيجاد مواقع للمكاتب أو الإسكان. وتعني البيوت والبيئات المتصلة فيما بينها درجة أعلى من المرونة للعمال والموظَّفين بالمثل، وتُحدُّ من تركُّز أماكن العمل. هذه عمليات «تجزئة» و«إعادة تجميع» (دبليو جيه ميتشل ٢٠٠٠: ٥٣).

يُقدِّم ميتشل (٢٠٠٠: ٥٨-٥٩) بضعة احتمالات للمحافظة في العصر المتصل شبكيًّا الجديد:
  • استخدام ذكاء رخيص وموزَّع لخلق أنظمةٍ أكفا للإمداد بالكهرباء، والمركبات، وخدمات الأبنية.

  • إعادة تحديد الغرض من البِنى الحضرية الأقدم وإعادة إحيائها: وصْل البِنية الأقدم التي تتمتَّع بطابع معماري عظيم لا يَضرُّ بها، ويُمكن جعلها تناسب أشكالًا جديدة من العمل والنشاط الاقتصادي؛ حيث تُصبح العمارة بذاتها جزءًا من الجذب، مؤدية إلى الحماية المعمارية والحفاظ على الأحياء التاريخية.

  • ربط الوحدات الأساسية يعني أن المزيد من الأماكن ستكون مأهولةً بسكانٍ على مدار اليوم، بدلًا من الإسكان المتقطِّع الذي يُخلي المدينة لفترة طويلة من اليوم: ويُمكن أن تُطوِّر الأحياء المحلية خدمات محلية ممزوجة في المكان، وهي موصولة بالعالم الأوسع.

وقد يُؤدِّي ربط الأحياء أيضًا إلى النزوح إلى الأماكن غير الحضرية الرئيسية، حين يُفضِّل الناس أماكن ذات جماليات «طبيعية» أفضل ومناطق جذابة ماديًّا. وهكذا تَنمو بِنْد وأوريجون والمجتمعات في مقاطعتَي ديشوتس وكروك؛ لأن الناس يُهاجرون، وتُظهر الدراسات التجريبية أنَّ تَغلغُل الإنترنت في هذه الأماكن مُرتفِع وسط أولئك الذين عرَّفوا أنفسهم بوصفهم أعضاء في جماعات المحافظة. الهجرة بدافع الراحة من جانب السكان محترفي التكنولوجيا تُغيِّر الثقافة ومعالم استخدام الأرض في المكان (ليافيت وبيتكين ٢٠٠٢: ١٠١-١٠٢، ١٠٥).

اتجه أنصار البيئة والنشطاء إلى الإنترنت بطُرُقٍ رئيسية في مسعًى لخلق أنظمة وقواعد بيانات بيئية عالَمية. والعلوم المعلوماتية بشأن التنوُّع الأحيائي هي حقل جديد يَعمل إلى جانب علوم الأرض، والعلوم الكمبيوترية، وهندسة البرامج. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، أكَّدت مؤسسة العلوم الوطنية أن العلوم المعلوماتية الحيوية تَحظى بالأولوية العليا فيما يخصُّ إنشاء المعلومات في العلوم البيولوجية. ويَجري إعداد بيانات التنوُّع الأحيائي من مؤسسات التاريخ الطبيعي، بخصوص المناطق، والكائنات، والمجالات الجينومية؛ ومِن ثَمَّ فالبيانات المخزَّنة قابلة للاستخدام الآن من جانب مؤسَّسات البحث والتدريس، من خلال برنامج «سبيسيس أناليست» (برنامج يُمكِّن أي مُستخدِم من أن يطلب قواعد بيانات عديدة في الوقت نفسه)، بما يَسمح للمُستخدِمين بنمذجة شئون الكائنات والتنبُّؤ بها وتحليلها. تُساعد هذه الشاكلة من قواعد البيانات — الإنترنت الخضراء — النشطاء وأنصار المحافظة على السعي باتجاه الحفاظ/الحماية للتنوُّع الأحيائي، ورسم خرائط لتحرُّكات الكائنات، بل حتى إعادة تَصميم المَشاهد الزراعية من خلال تحليل أنواع الآفات (كريشتالكا وآخرون ٢٠٠٢).

يُشكِّل الوصل الإلكتروني لمواقع الكوارث، والحوادث البيئية، وانتهاكات حقوق الإنسان «رؤية بديلة للعالم» تُيسِّرها تكنولوجيات المعلومات والاتصال.

يَفترِض روجر سيلفرستون أن وسائل الإعلام الجماهيرية هي «فضاء ظهور» (٢٠٠٧: ٢٥–٥٥). يَظهر لنا الآخر، ويُصبح معروفًا لنا، فقط على شاشاتنا. والعالم يَظهر ويُشكَّل في ظهوره باعتباره الاختلاف الذي تُظهره الشاشة. ومن الملائم أن نَختم بنسخة مفصَّلة من هذه المقولة. المبادرات المعنية بحقوق الإنسان، ومناصرة البيئة، ودراسات العِرق على الإنترنت هي هذه الشاكلة من «فضاءات الظهور». وهنا، في الفضاء الافتراضي، توجد إمكانية أن نستطيع رؤية معاناة الآخر «و» أن نستجيب لها: حينما يَستنجِد بنا الآخر المُعاني من دارفور، ورواندا، والأندامان، يُمكننا أن نُقدِّم العون.

توحي قراءة ليلا غاندي (٢٠٠٦) الخلاقة لأعمال الإنجليز المناهِضين للاستعمار وصوغهم «سياسة الصداقة» مع الهنود بتَشكُّل هذه المجتمعات. تفترض غاندي أنه في حالة الكثير من المُنشقِّين في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، «خان» الأفراد مصالحهم وأيديولوجياتهم القومية (يتضمَّن المثال الذي ساقته سي إف أندروز، وإي إم فورستر، وحركة النباتيين) لأنهم أعلوا من شأن صداقتهم مع الهنود والثقافات الأخرى على ما سواها. هذه «الممارسة السياسية الأخلاقية لذاتٍ راغبة مُنجذِبة بإصرار نحو الاختلاف» كما تكتب غاندي، أسفرت عن «نزعة كونية وجدانية» (٢٠٠٦: ١٧). وبالربط بين مقولتَي غاندي وسيلفرستون، أرى أن المبادرات الافتراضية الثقافية الإلكترونية من قبيل مشروعات الرابطة الأمريكية لتقدُّم العلوم، تُتيح «جغرافيا وجدانية» للعالم وللبشرية نفسها.

تُعيد الشاشة، وقاعدة البيانات، والخرائط الجغرافيا المكانية للمعاناة صياغةَ العالم، لا باعتباره محيطات ويابسة، ولكن باعتباره مواقع للفظاعة والحرمان والألم. يتيح العالم الافتراضي خلق هذه الشاكلة من «المجتمعات الوجدانية»؛ حيث يكون بالإمكان ظهور سياسة جديدة بالكامل، قائمة على الاهتمام المشترك، بصرف النظر عن مواقع المرء الجغرافية أو العِرقية أو المستندة إلى النوع «الواقعية». مثل هذه التشكيلة الكوكبية من المجتمعات الوجدانية لا يُمكن أن تحدث بالتأكيد إلا باستخدام تكنولوجيات المعلومات والاتصال. ومن الواجب الأخلاقي أن نعترف ﺑ:
  • (١)

    الاختلاف.

  • (٢)

    المعاناة.

  • (٣)

    إمكانية التجاذب.

هذا الواجب «سياسي»، ولا بد أن يقود مستقبل الثقافات الإلكترونية. ما سميتُها «ثقافات إلكترونية ما بعد استعمارية» بتركيزها على العِرق، وحقوق الإنسان، ومناصرة البيئة هي نقلة باتجاه جغرافية وجدانية جديدة تمامًا، للعالم المادي تظهر أولًا افتراضيًّا على شاشاتنا. لكننا إذ نَبدأ على الإنترنت، ونَنتقِل باتجاه الملموس من حيث المساعدة، واللجوء، والفهْم، والوجدان، نَحظى بفرصةٍ لجعل ما هو «افتراضي» فعليًّا.

هوامش

(١) يُوضِّح فيذرستون وفين أن ويكيبيديا تُمثِّل مشروعًا مزعزِعًا للاستقرار تُقوَّض فيه طائفة الخبراء (٢٠٠٦: ١٠). وكما أشرنا في الفصل السادس، بشأن المجال العام، تُشكِّل مواقع الويكي، إلى جانب حركة المصدر المفتوح، والتدوين، وسيلةً مهمَّة لضمان إتاحة المعلومات وتدفُّقها الحر، ضامنة بذلك مجالًا عامًّا «عامًّا» بحق.
(٢) وفقًا لجوميس-بينا، «بوشا نوسترا» pocha nostra هي كلمة منحوتة تعني «دناساتنا» أو حتى «اتحاد الرعاع الثقافيين» (مقتبَس في إن ثورنتون ٢٠٠٧: ١١٣). الهوس ما بعد الاستعماري بالدنس والهُجْنة منعكس في نحت الكلمة نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤