الفصل الرابع

الرقابة على المواد الإباحية

تشكل المواد الإباحية تحديًا صعبًا لأي شخص يؤمن بحرية التعبير، فهل ينبغي تقبل المواد الإباحية بكل مظاهرها، شريطة ألا يتعرض أي شخص لضرر مباشر في أثناء صناعتها، أم أن هناك قيمًا أخرى على المحك أكثر أهمية من الحرية؟

منذ اختراع الطباعة انتشرت طباعة وتداول المواد الإباحية على نطاق واسع، بالرغم من وجودها الواضح قبل اختراع هذه الوسيلة للطباعة الميكانيكية، أدى اختراع التصوير الفوتوغرافي والصور القابلة لإعادة الإنتاج — التي يمكن إنتاجها بسرعة وتضيف الشعور بوجود حقيقة ضمنية وتقدم تفاصيل دقيقة للغاية — إلى تحول في صناعة المواد الإباحية، وأسفر عن ثراء بعض الأشخاص، أيضًا أدت الصور المتحركة والفيديو والصور الرقمية الحالية مقرونة بالتوزيع العالمي — الذي بدأ عبر أقراص الفيديو الرقمية والقنوات التليفزيونية المشفرة وحديثًا عبر الإنترنت، سواء بالتحميل أو المشاهدة الحية — إلى زيادة إتاحة المواد الإباحية مع وجود خصوصية أكبر في شرائها واستخدامها، أيضًا أدى اختراع الكاميرا الرقمية إلى إضفاء طابع ديمقراطي على إنتاج المواد الإباحية؛ فسهولة إنتاج صور رقمية عالية الجودة — سواء أكانت ثابتة أم متحركة — ونشرها على الإنترنت أصبحت تعني وجود زيادة كبيرة في كم الصور ومقاطع الفيديو الإباحية المتداولة عن أي وقت مضى، ووصول كم أكبر من الأشخاص إليها.

(١) ما المقصود بالمواد الإباحية؟

المواد الإباحية هي في الأساس نوع من صناعة الصور يهدف إلى إثارة المُشاهد جنسيًّا من خلال تصوير فعل جنسي صريح، مع أن المواد الإباحية ليست جميعها مرئية، هناك المواد الإباحية السمعية التي قد تتخذ حاليًّا شكل النشرة الصوتية، وكذلك المواد الإباحية المكتوبة التي ربما تقدم حاليًّا عبر المدونات أو التحميل من الإنترنت بدلًا من الطباعة، يميز كثير من الكُتَّاب في هذا المجال بين المواد الإباحية الصريحة والمواد الإباحية المعتدلة، التي تفرض حدودًا أكثر اعتدالًا على ما تعرضه.

تعريف مثير للجدل للمواد الإباحية

في عام ١٩٨٣، أشارت كل من كاثرين ماكينون وأندريا دوركين إلى أن المواد الإباحية ينبغي أن تستوجب رفع دعوى ضدها لأنها تمثل انتهاكًا للحقوق المدنية، وقدمتا تعريفًا غير محايد للمواد الإباحية هو: «الإخضاع الجنسي التصويري الصريح للمرأة من خلال الصور أو الكلمات أو كليهما معًا.»

واستطردتا في سرد أنواع المحتوى التي تجعل العمل إباحيًّا، بما في ذلك تصوير النساء على أنهن مجردات من الإنسانية، وبوصفهن أدوات جنسية، وسلعًا، واختزالهن في أجزاء من الجسم، وعلى أنهن يستمتعن بالإذلال أو الأذى، وتصويرهن في مواقف مهينة، وما إلى ذلك، اعترفتا كذلك بأن الرجال والأطفال والمخنثين ربما يكونون ضحايا للمواد الإباحية على النحو السابق ذكره.

(٢) هل تندرج المواد الإباحية الصريحة تحت مفهوم الكلام؟

إذا لم تكن المواد الإباحية الصريحة كلامًا، فلا ينبغي أن تحظى بحماية حرية الكلام، وفي هذه الحالة ستوضع ضمن فئة مختلفة عن أنواع الاتصال التي تستحق حماية خاصة، فالخطاب السياسي والتعبير الفني يعبران عن أفكار يمكن أن تفيد المجتمع حتى عندما تكون خاطئة، أما الصور الفوتوغرافية للأفعال الجنسية فيبدو أنها ليست تواصلية على الإطلاق، فهي عادةً ما تكون صورًا عن قرب لفعل جنسي حقيقي أو محاكاة لفعل جنسي، مع عدم وضوح مسألة ما إذا كان الممثلون في الفيلم يؤدون أدوارهم فحسب أم أنهم يُصَورون ببساطة وهم يمارسون الجنس، عادةً تخلو المواد الإباحية الصريحة من محتوى عاطفي، ولا تجسد أفكارًا بشأن ما تعرضه، وتسعى إلى الصراحة في الأفعال التي تعرضها، فهي تساعد في المقام الأول على الإثارة الجنسية، يستمتع معظم من يستمتعون بالمواد الإباحية بهذا النوع لهذا السبب تحديدًا؛ فهي تكون فعالة على وجه الخصوص في إثارة المشاهدين وتكون عادةً حافزًا على الاستمناء، بناء على هذا، تشبه مشاهدة فيلم إباحي صريح أخلاقيًّا في كثير من النواحي اختلاس النظر عبر ثقب الباب والتعرض للإثارة — ربما حتى مرحلة النشوة — من خلال رؤية آخرين يمارسون نوعًا من النشاط الجنسي المنصوص عليه في سيناريو، لكن في ظل وجود موافقة ضمنية ممن يشاهَدون. إن الشخص الذي يقدم لك ثقب الباب ويعرض لك العمل لا يعبر عن أفكار، وإنما يقدم لك طريقة لرؤية أمر ربما لا تستطيع رؤيته بوسيلة أخرى، فالأمر أشبه بتوجيه شخص ما انتباهك لشيء معين.

ربما يؤيد وصف كندال والتون لطبيعة التصوير الفوتوغرافي هذا الرأي عن طبيعة المواد الإباحية الفوتوغرافية، فقد أشار إلى أن الواقعية الفوتوغرافية تختلف عن الواقعية في الأشكال الأخرى لصناعة الصور، فهو يرى أن الصور الفوتوغرافية تسمح لنا فعليًّا برؤية ما كان موجودًا أمام العدسة، بالمعنى غير المجازي لكلمة «رؤية»، ووفقًا لهذا الوصف فإن صورة فوتوغرافية لنشاط جنسي تسمح لنا برؤية هذا النشاط، وسواء أكان والتون محقًّا بشأن هذا الوصف أم لا (وأعتقد أنه ليس محقًّا)، يمكننا التأكيد على أن نوع الرسالة المضمَّنة في المواد الإباحية الصريحة تختلف اختلافًا مميزًا عن أمثلة الكلام التي يسعى مبدأ حرية الكلام لحمايتها.

توجد حجج منفصلة حول سبب ضرورة تمتع البالغين الذين يريدون مثل هذه الصور بحرية الوصول إليها، وربما لا ينبغي للحكومات أن تصدر قوانين ضد هذه المواد، شريطة ألا يتعرض أحد للأذى في إنتاجها، ينطبق هذا بالطبع على المواد الإباحية غير العنيفة، يحصل ملايين من الناس على متعة كبيرة من هذه المواد، وتكون بالنسبة لبعض الأشخاص المصدر الأساسي للإشباع الجنسي، إلا أنه بناء على هذا لا تدخل هذه المواد ضمن مناقشات حرية الكلام، فتقول الحجة إنه إذا لم تكن المواد الإباحية كلامًا أو وسيلة للتواصل بأي حال من الأحوال، فيجب معاملتها كقضية أخلاقية منفصلة. تبنى فريدريك شاور هذا الرأي، واستخدم حجة مختلفة بعض الشيء للوصول إلى هذا الاستنتاج، فكان رأيه أن الفيلم الإباحي الصريح ربما يشبه في تأثيره أداة الاهتزاز: «إن المواد الإباحية الصريحة تكون في أقصى حالاتها أداة جنسية، لا أكثر ولا أقل …» فهو يرى استخدام المواد الإباحية الصريحة بمنزلة نشاط جنسي فعلي، وعلى الرغم من أن الإثارة تنتج عن أشياء مرئية بدلًا من اللمس، فهذا الأمر غير ذي صلة؛ فلا الأدوات الجنسية ولا المواد الإباحية الصريحة تحقق تواصلًا على النحو نفسه الذي تقوم به عادةً اللغة أو الصور. المواد الإباحية الصريحة هي بديل جنسي وشكل من أشكال الإثارة الجنسية، إذا كان شاور محقًّا بشأن هذا الأمر، فلا علاقة للمواد الإباحية الصريحة بحرية الكلام إذن.

ترفض كاثرين ماكينون أيضًا — التي قادت حملة لعدة سنوات ضد المواد الإباحية — فكرة أن المواد الإباحية يجب أن يحميها مبدأ حرية الكلام، كانت كاثرين مسئولة — مع أندريا دوركين — عن صدور مرسوم طُبِّق على الفور بمدينة إنديانا بوليس، وكان من المفترض أن يجعل صناعة المواد الإباحية ونشرها وبيعها غير قانوني، غير أنه حُكم عليه فيما بعد بأنه غير دستوري على أساس أسباب تتعلق بالتعديل الأول. أشارت كاثرين في كتابها «مجرد كلمات» إلى أن المواد الإباحية الصريحة تمثل أحد أشكال إخضاع المرأة، وليست مجرد نوع من التعبير؛ لذا ينبغي استبعادها من المناقشات الخاصة بحرية الكلام تمامًا، فهي ترى أن وصف المواد الإباحية بأنها كلام هو «كذبة»، وتضيف أيضًا أنه في حال تقديم تعريف أكثر دقة للمواد الإباحية، سيظهر الفرق الواضح بينها وبين أنواع التواصل التي تستحق فعليًّا حماية حرية الكلام في مجالات التعبير السياسي والتعليمي والفني والأدبي، وترى أن مجرد الدخول في نقاش حول ما إذا كان ينبغي اعتبار المواد الإباحية إحدى قضايا حرية الكلام ربما يكون ضارًّا:

التعامل بجدية مع الادعاء بأن هذا الشكل من ممارسة الاعتداء الجنسي وعدم المساواة، أو وسيلة الاستعباد هذه، هو نوع من الرأي أو المناقشة — حتى ولو لتفنيده — يسهم إلى حد ما في التزييف القانوني والفكري لهذا الادعاء، يكون هذا بمنزلة التعامل مع هذا الرأي كأن ما يدعيه صحيح — من كونه رأيًا في نقاش صادق — بدلًا من معاملته على أساس حقيقته؛ أنه ستار يبيح الاستغلال الجنسي.

fig8
شكل ٤-١: كاثرين ماكينون.1

لكن على النقيض من هذه الآراء يمكن استخدام الصور والأفلام الإباحية في توصيل أفكار — على نحو مباشر أو غير مباشر — وإن كان هذا لا يحدث عادةً، ربما لا تكون الأفكار التي تعبر عنها المواد الإباحية متعمقة دائمًا، وربما يكون بعضها مسيئًا لكثير من الأشخاص، يحتمل أن تكون هذه الأفكار عن التحرر الجنسي، أو ربما تكون أفكارًا هدَّامة عن أدوار الرجال أو النساء، أو ربما تكون أفكارًا استفزازية بشأن حدود الرقابة، إلا أن المواد الإباحية — بما في ذلك المواد الإباحية الصريحة — يمكن أن تعبر أحيانًا عن أفكار يجب السماح لها بالدخول في سوق الأفكار، بالإضافة إلى ذلك، فإنه من مبادئ الليبرالية أنك إذا التزمت بحرية الكلام وتقبُّل التنوع، فلا يجب عليك إذن فرض رقابة على أي رأي لمجرد أنك تراه مسيئًا أو بغيضًا أو تافهًا أو لأنك تعترض عليه أو لأنه منفر لك أخلاقيًّا، فهذا بمنزلة حكم مسبق على الرأي قبل أن تتاح له فرصة الإسهام في النقاش. يجب أن يكون موقف الدولة محايدًا بشأن الأفكار المتنافسة، وإلا فإن شكلًا من أشكال الرقابة سيحدد ما يدخل سوق الأفكار ويسبب الضرر للجميع. يجب أن ينصب اهتمام الحكومة فحسب على ما إذا كان التعبير يسبب ضررًا فعليًّا للآخرين أو يحرض عليه.

(٣) دفاع نِسْوِيٌّ عن المواد الإباحية

إلا أن ويندي مكيلروي — وهي ناشطة نسوية مؤيدة للمواد الإباحية — تجاوزت مجرد الدفاع عن تقبل المواد الإباحية، فهي تشير — على أساس تجربتها الشخصية وبحثها الموسع في صناعة المواد الإباحية — إلى أن وجود المواد الإباحية إجمالًا مفيد للنساء، وتدعو في كتابها «للكبار فقط: حق المرأة في المواد الإباحية» (١٩٩٥) إلى مذهب فردي نسوي يعطي أهمية كبيرة للاختيار الشخصي، فتؤمن بأن النساء (والرجال) لا يجب حرمانهم من الوصول إلى المواد الإباحية وينبغي أن تكون لهم حرية تقرير ما إذا كانوا يرغبون في استخدام مثل هذه الأشياء أم لا، فمن وجهة نظرها يمكن أن تفيد المواد الإباحية النساء بثلاث طرق على الأقل: (١) تقدم المواد الإباحية رؤية شاملة للاحتمالات الجنسية. (٢) وتسمح للمشاهدين باختبار البدائل الجنسية واستكشافها استكشافًا خياليًّا آمنًا. (٣) أيضًا تقدم المواد الإباحية أنواعًا من المعلومات عن الاتصال الجنسي يختلف عما تقدمه الكتب التعليمية، وهي أيضًا تسمح للمشاهد باكتشاف استجابته الشعورية تجاه سيناريو تخيلي. إذا كانت محقة في هذا، فإن المواد الإباحية الصريحة لن تكون مجرد نوع من الأدوات الجنسية، بل يمكن أن يكون لها أهمية معرفية؛ إذ إنها تسمح للمشاهدين بمعرفة أشياء عن أنفسهم، ومن ثم فإنها لا تخرج تمامًا عن نطاق أي مبدأ عام لحرية الكلام، وبوجه عام ترى مكيلروي أن قمع المواد الإباحية الصريحة يقيد اختيارات النساء بدلًا من زيادتها كما تزعم كاتبات مثل ماكينون.

يتعارض هذا الرأي تعارضًا مباشرًا مع آراء النسويين من أمثال ماكينون، اللاتي يعتقدن أن المواد الإباحية يجب أن تخضع لرقابة مشددة أكثر من الموجودة حاليًّا، أو تُمنع تمامًا، يرجع هذا في الأساس إلى الضرر الجسدي والنفسي والمجتمعي الذي ينتج من إتاحتها.

(٤) الأذى الجسدي والنفسي للمشاركين

يتعرض الأفراد للضرر بسبب المواد الإباحية بعدة طرق؛ أولًا: يوجد ضرر على الممثلين عند صنع المواد الإباحية، يتمثل الضرر المباشر في تعرض الممثلين للإصابة أو الاغتصاب أو حتى الإجبار على القيام بأفعال ضد رغبتهم، ربما يؤدي بعضها إلى أذى جسدي — يتمثل في انتقال أمراض جنسية — وأذى نفسي جسيم. يتعرض ممثلو المواد الإباحية — مثل غيرهم من العاملين في مجال التجارة الجنسية — للإيذاء الجسدي وربما يواجهون مشكلة في عدم تعامل الشرطة معهم بجدية بسبب طبيعة عملهم. وصفت ليندا لافلاس في سيرتها الذاتية «المحنة» كيف أنها تعرضت للضرب من زوجها وأجبرت على التمثيل تحت تهديد السلاح أثناء تصوير فيلم «الحنجرة العميقة»، الذي ربما يعد أشهر فيلم إباحي على مر العصور وحقق توزيعًا كبيرًا في دور السينما الكبرى، تمثل هذه حالات واضحة للضرر، ويمكن أن تطبق عليها قوانين مكافحة الإكراه والاغتصاب، ولا يمكن استخدام مبدأ حرية الكلام للدفاع عن ضرر أو إكراه فعلي، ويزيد من تعقيد هذا الوضع أن المشاركة في فيلم إباحي ربما تكون الملاذ الأخير لمن يعانون ضائقة شديدة، وربما يكون بعض المشاركين ضعفاء ويجدون صعوبة كبيرة في رفض أي طلب مهما كان مهينًا أو مؤلمًا، تزعم كاثرين ماكينون أن المواد الإباحية تشارك فيها «نساء فقيرات يائسات مشردات وبغايا تعرضن للاعتداء الجنسي في طفولتهن».

إن الرأي القائل إن المواد الإباحية الصريحة تشتمل عادةً على أذى جسدي مباشر وإكراه ومن ثم ينبغي حظرها — هو رأي تجريبي في جزء منه؛ فهو يعتمد على حقائق مزعومة حول صناعة المواد الإباحية، ربما يصعب الكشف عنها ويحتمل أن تنطبق فحسب على بعض الأقسام منها، ويصعب تحديد المزاعم بشأن الضرر النفسي، ولا يَعتبر الرأي الليبرالي الكلاسيكي لمِل الضرر النفسي ضررًا حقيقيًّا، إلا أننا بعد مرور ١٥٠ عامًا أصبحنا أكثر حساسية تجاه الضرر الخطير الذي تتسبب فيه الإساءة النفسية للفرد، وسيكون من المنافي للعقل عدم اعتبار الأذى النفسي سببًا لتقييد حرية الكلام، لكننا نواجه مرة أخرى مشكلة تحديد مكان وضع الحدود؛ فمتى يكون الضرر النفسي على درجة من الشدة تسمح له بالحصول على حقوق تفوق حرية الكلام؟ الاعتراف باحتمال صعوبة وضع هذا الحد لا يعني أنه مستحيل، فمن حيث المبدأ يمكن وضع إرشادات واضحة وتطبيقها في هذا السياق.

عادةً ما تكون مسألة تعرض المشاركين للضرر — سواء أكان جسديًّا أو نفسيًّا أو كليهما — واحدة فقط من مجموعة من الحجج المترابطة التي تستخدم من أجل حظر بعض المواد الإباحية، أحد أهم هذه الحجج أن مشاهدة المواد الإباحية ربما تتسبب في ارتكاب الأشخاص لجرائم جنسية ما كانوا ليرتكبوها لولا مشاهدتهم هذه المواد.

(٥) المواد الإباحية والاغتصاب

يتعرض بعض المغتصبين والساديين الجنسيين لكم هائل من المواد الإباحية الصريحة، وفي حالات معينة تؤجج هذه المواد دون شك خيالهم وتُشكل سلوكهم، مع ذلك يصعب للغاية إيجاد دليل قاطع على العلاقة السببية بين التعرض للمواد الإباحية واحتمال ارتكاب جريمة جنسية، إذا استطعنا إثبات وجود علاقة سببية مباشرة بين مشاهدة المواد الإباحية وإلحاق الضرر بالآخرين، فسيكون هذا سببًا واضحًا لفرض الرقابة، إلا أن نتائج الأبحاث العلمية في هذا الجانب لا تبدو حاسمة، وتكمن الصعوبة في إثبات أن المواد الإباحية كانت — إلى حد بعيد — السبب في ارتكاب الجريمة أو أحد العوامل الرئيسية المساهمة فيها، وأن هذه ليست مجرد علاقة تبادلية.

لا ينبغي الخلط بين العلاقة التبادلية والسببية، فالمواد الإباحية تُستخدم على نطاق واسع بين عامة الناس، ولا يرتكب معظمهم أي جرائم جنسية.

تشير كاثرين ماكينون إلى آلية افتراضية تشجع بها المواد الإباحية على الاغتصاب؛ إذ يصبح مستخدمو المواد الإباحية العنيفة معتادين جنسيًّا على الربط بينها وبين الشعور بالإشباع، فهم يحصلون على التحفيز البصري من مشاهدة فيلم عن فعل جنسي عنيف معين، ويحصلون على الإشباع من الإثارة الجنسية التي تصاحبه، فكأن مشاهدة مقطع فيديو عن فعل جنسي عنيف تدريب على ممارسة هذا الفعل على ضحية في الحقيقة. تقول ماكينون:

عاجلًا أو آجلًا وبصورة ما، يرغب المستهلكون في الممارسة الفعلية لهذه المواد الإباحية في بيئة ثلاثية الأبعاد، وعاجلًا أو آجلًا وبصورة ما فإنهم يفعلون، فهي تولد لديهم الرغبة، وعندما يظنون أن بإمكانهم القيام بذلك، وعندما يشعرون أن بإمكانهم الإفلات من العقاب، فإنهم يفعلون.

هذه مبالغة تؤثر في المشاعر، لكن ربما يتضح أن الآلية التي وصفتها هي عامل مهم لدى بعض المجرمين، أما عند التعميم، فمن الواضح أنها خاطئة، فكثير من مستخدمي المواد الإباحية بانتظام لا يتعدون حد المشاهدة فحسب، ولا يتصرفون على نحو غير أخلاقي في ممارساتهم الجنسية الفعلية، تستخدم نسبة كبيرة للغاية من الأشخاص المواد الإباحية في مرحلة معينة من حياتهم، ويصعب تصديق أن هؤلاء الأشخاص سيعتادون كلهم على التصرف بالأسلوب المتطرف الذي تصفه ماكينون.

طُرح الرأي القائل إن قضايا الرقابة تعتمد على البحث التجريبي بشأن العلاقة الفعلية بين المواد الإباحية والضرر طرحًا واضحًا في «تقرير ويليامز عن الفحش والرقابة السينيمائية» (١٩٧٩)، الذي أعلن عن نتائج إحدى المجموعات التي رأسها الفيلسوف برنارد ويليامز:

الافتراض المؤيد لحرية التعبير قوي، لكنه مجرد افتراض، ويمكن أن تطغى عليه اعتبارات متعلقة بالضرر الذي قد يسببه الكلام أو النشر محل النقاش.

بما أن الدليل التجريبي لا يزال غير مؤكد، فإن هذا الجدل حول الرقابة على المواد الإباحية لم يُحسم بعد، إلا أنه بسبب وجود احتمال قوي لوجود نوع من الارتباط بين المواد الإباحية العنيفة والعنف الحقيقي، من الحكمة اقتراح فرض بعض القيود على العنف في المواد الإباحية.

(٦) الضرر المجتمعي

تميل حجج أنصار النسوية ضد المواد الإباحية إلى التركيز على المواد الإباحية متباينة الجنس الموجهة للمستهلكين الذكور، وتأتي هذه النوعية عادةً في شكل صور فوتوغرافية في المجلات أو الأفلام التي توزع في صورة مقاطع فيديو أو أقراص فيديو رقمية أو يجرى تنزيلها عن طريق الإنترنت أو تشاهَد عبره مباشرةً، أو تعرض في دور السينما، أما المواد الإباحية مثلية أو ثنائية الجنس — التي يقدمها الرجال للرجال أو تقدمها النساء للنساء — فنادرًا ما تُذكر.

عادةً توصِّل المواد الإباحية متباينة الجنس رسائل مسيئة عن أن النساء متاحات لممارسة الجنس، وتسوِّغ على ما يُظن معاملتهن بوصفهن أشياء؛ هذا أحد أسباب معارضة كثير من أنصار النسوية لها، أيضًا ربما تقدم المواد الإباحية النساء بأنماط جسدية محددة — مثل الأثداء المكبرة بواسطة التدخل الجراحي — مما يعطي توقعات زائفة عن حقيقة النساء لدى المستهلكين الذكور، بعض المواد الإباحية أيضًا مهينة بطبيعتها لكل النساء، كما يحدث — على سبيل المثال — في حالة المواد الإباحية التي تصور إذلال النساء أو تعرضهن للعنف الجنسي، خاصةً عند تصوير استمتاعهن بذلك، يُفترض وجود انطباع عام هنا بأن استمتاع سيدة واحدة بالإذلال الجنسي في أحد الأفلام يُتخذ رمزًا لمواقف كل النساء؛ فالمرأة في الفيلم ترمز مجازًا لكل النساء، والنتيجة المحتملة لذلك هي دعم صورة مضللة لما ترغب فيه النساء؛ فعلى أقصى تقدير توجد رسالة تفيد بأن كل النساء يجدن متعة جنسية في معاملتهن بعنف وإيذائهن، وأن كل النساء يستمتعن بالتعرض للاغتصاب، أو معاملتهن بوصفهن عبَدَة للجنس، وهي رؤية ربما تكون لها عواقب خطيرة على النساء في الحقيقة.

بالرغم من ذلك، يشير الليبراليون — أمثال رونالد دوركين — إلى أن معظم المواد الإباحية ينبغي ألا تتعرض للرقابة، إلا إذا تعرض الأفراد لضرر مباشر في صناعتها، كما يحدث في حالة وجود أطفال، أو عند تعرض البالغين للإجبار بدلًا من إعطائهم حرية الاختيار: «جوهر الحرية السلبية هو حرية توجيه الإساءة، وينطبق هذا على الأشياء متدنية المستوى ورفيعة المستوى على حد سواء.»

يتمثل الرأي الليبرالي النموذجي في أن الأبوية — أي حماية الأشخاص من أجل مصلحتهم — تصلح تمامًا مع الأطفال والشباب، وربما يتضمن ذلك الإصرار على عدم عرض المواد الإباحية أبدًا في أماكن يحتمل أو يمكن للأطفال مشاهدتها فيها، إلا أن البالغين الذين يختارون استخدام المواد الإباحية أو المشاركة فيها يجب أن تكون لهم حرية القيام بذلك، إلى أن يصلوا إلى مرحلة تعريض شخص آخر للأذى، فمختلف الأشخاص يقومون باختيارات جيدة وسيئة بشأن حياتهم، ولكن — كما يرى الليبراليون — ليس من حق الدولة أن تقرر للأفراد هل يسعون للحصول على الإثارة أو الإشباع الجنسي من خلال استخدام المواد الإباحية أم لا، فينبغي أن تكون الدولة محايدة قدر المستطاع بين أساليب الحياة المختلفة، شريطة ألا تسبب هذه الأساليب ضررًا مباشرًا للآخرين:

يدافع الليبراليون عن المواد الإباحية — مع مقت معظمهم لها — من أجل الدفاع عن أحد مفاهيم التعديل الأول الذي يشتمل — على الأقل كأحد أهدافه — على حماية المساواة في العمليات التي تتشكل من خلالها البيئة الأخلاقية والسياسية.

بالإضافة إلى ذلك، وفيما يتعلق بحرية الكلام هناك خوف من خطورة تعريض حالة بعينها للرقابة؛ إذ ربما تكون هذه أول خطوة على المنحدر الزلق وتسمح بفرض رقابة أوسع نطاقًا مما كان مقصودًا أو مبررًا في الأصل، فكل تقييد لحرية الكلام — حتى الكلام الذي يكون منفرًا للكثيرين — يحمل خطر أن تصبح الديمقراطية والتعبير الذاتي للفرد عما قريب على المحك.

حتى إن كانت المواد الإباحية تسبب خسائر للمجتمع — لا سيما للنساء — أكبر مما تجلب من فوائد، فلا ينبغي أن يؤدي هذا بالضرورة إلى فرض رقابة عليها، يصعب للغاية على المراقب أن يحظر المواد التي تسبب إفسادًا فحسب، فهناك خطر حقيقي من أن يوغل المراقب في ممارسة الرقابة ويمنع مواد ذات قيمة ثقافية أثناء عمله على منع الوصول إلى أكثر المواد الإباحية تفاهة وسطحية، وستكون هذه خسارة كبيرة، ربما تكون الطريقة الأكثر أمانًا هي المخاطرة بتحمل بعض المواد الإباحية المؤذية بدلًا من القضاء — دون قصد — على أعمال قد تجدها الأجيال القادمة مهمة.

(٧) المنهج القانوني لأنصار المبدأ الأخلاقي تجاه المواد الإباحية

يناقض المنهج الليبرالي الذي تهاجمه ماكينون منهج أنصار المبدأ الأخلاقي القانوني — مثل اللورد ديفلن — الذين يؤمنون بأن القانون يجب أن يحفظ القيم المجتمعية، حتى إن أي شيء مفسد أخلاقيًّا أو يُرى فيه تقويض للأسرة التقليدية والقيم الأسرية ينبغي منعه بواسطة القانون، ربما يكون هذا بدافع من المعتقدات الدينية بشأن الكيفية التي ينبغي أن يحيا بها كل البشر، أو من المعتقدات العلمانية المتحفظة.

إن وجود المواد الإباحية وإتاحتها يثير غضب الكثيرين واشمئزازهم، فهم يقولون إنها بذيئة أخلاقيًّا وإن العالم سيصبح مكانًا أفضل إذا مُنع إنتاجها واستهلاكها، فإتاحة المواد الإباحية تتسبب في تدمير النسيج الأخلاقي للمجتمع، ومن ثم من وجهة النظر هذه يُسمح للدولة بالتدخل، بل يكون من واجبها القيام بذلك، يعتقد أنصار هذا المبدأ الأخلاقي القانوني أن جزءًا من دور الدولة ضمان الحفاظ على الثقافة، والمناخ الأخلاقي، وأسلوب الحياة، فحرية الفرد ليست قيمة يجب إعطاؤها أولوية على القيم الأسرية التقليدية، مثل القيم التي يؤمن بها معظم المسيحيين وينادي بها غالبية المدافعين عن الدين المسيحي (حتى إن لم يكونوا يمارسونها طوال الوقت)، يرى هؤلاء المعارضون للمواد الإباحية أن أي دفاع قائم على أساس مبدأ حرية الكلام هو دفاع غير مقبول، فهناك قيم أخرى تحتل مكانة أعلى بكثير.

إن منهج فرض الرقابة على المواد الإباحية من أجل المستهلك المحتمل ومن أجل المجتمع بوجه عام هو شكل من أشكال الأبوية الموجه نحو البالغين، وسيسعد مؤيدو هذا المذهب برؤية السلوك في إطار قانوني، فهم يعتقدون أن الضرر الأخلاقي هو ضرر حقيقي ويريدون منعه من الحدوث، ويرى منتقدو هذا الرأي أنه من الخطأ أن تصدر الحكومات أحكامًا حول الآراء المتنافسة بشأن الحياة الجيدة، يجب على الحكومات — بناءً على هذا الرأي — قبول التعددية، فلا تفرض منظومة أخلاقية واحدة على مواطنيها.

لمؤيدي الحفاظ على القيم الأسرية التقليدية ومعارضي المواد الإباحية بسبب هذه القيم حلفاء ضمن بعض النسويين المعاصرين، لا يرجع ذلك لاشتراك المجموعتين في عدد من القيم الأساسية حول طبيعة الأسرة — فعكس ذلك هو الصحيح — ولكن لأن العديد من النسويين سيسعدون — تمامًا مثل مؤيدي الأخلاقية — بالتخلص من المواد الإباحية؛ بسبب الأذى — المباشر وغير المباشر، والجسدي والنفسي — الذي قد يلحق بالنساء حسب اعتقادهم.

هذا افتراض تجريبي يشتمل على توقع لما يمكن أن يحدث إذا تعرض الوصول للمواد الإباحية لقيود أكثر صرامة أو مُنع تمامًا؛ ألا وهو تحقيق مساواة أكبر بين الجنسين، وإذا وضعنا في الاعتبار السياق التاريخي للعنصرية الجنسية المنظمة والتاريخ المستتر في الأغلب للاستغلال الجنسي للنساء على يد الرجال، فربما يكون هذا الافتراض طريقة لإعادة التوازن، مع أن الحجة تستند على دقة الافتراض المتعلق بتبعات منع المواد الإباحية، يوجد حالة من التوتر بين حرية الكلام التي تتساهل مع إنتاج المواد الإباحية واستخدامها، وبين الالتزام بالمساواة بين الجنسين الذي يبدو أنه يتطلب حظر المواد الإباحية الصريحة.

لا يمكن دائمًا تحقيق أهداف الحرية والمساواة معًا، والسؤال الصعب هنا يتعلق بمقدار الأهمية التي ينبغي إعطاؤها للقيم المختلفة.

تظهر هذه المسألة باستمرار عند مناقشة حرية الكلام، فيجب المفاضلة بين حرية المتحدثين والمتلقين في الاستماع إلى ما يرغبون فيه، ومصالح مَن لا يرغبون في الاستماع لما يقال؛ أولئك الذين يشعرون بالإساءة أو الاشمئزاز أو الغضب من الرسالة، أو من يشعرون بالتعرض للانتهاك أو الإهانة.

يؤمن دائمًا أنصار مبدأ حرية الكلام بضرورة التسليم بحرية الكلام، وأن أي قيود تفرض عليها ينبغي أن ترتكز على ما يتعدى الشعور بالاشمئزاز، فينبغي أن تخضع مثل هذه القيود للمناقشة وتُدعَّم بالأدلة، وألا تكون خطوة على المنحدر الزلق تجعل فرض المزيد من الرقابة المشددة أمرًا محتملًا أو حتى حتميًّا، بالرغم من ذلك، يكاد كل المدافعين عن حرية الكلام يتمنون وضع حدود في مكان ما، وعند الفحص الدقيق لعملية وضع الحدود هذه يتضح أنها نادرًا ما تكون كاملة الاتساق؛ إذ إنها تنطوي على مقاومة بديهيات قوية للغاية موجودة مسبقًا لدى معظمنا.

يُتهم معظم الليبراليين بتهمة عدم الاتساق عندما يتعلق الأمر بالرقابة على المواد الإباحية التي تصور اشتراك الأطفال في نشاط جنسي، فعندما يُستغَل الأطفال أو يُغتصبون — كما يحدث عادةً — عند صناعة المواد الإباحية عن الأطفال، نجد حججًا ليبرالية واضحة أساسها فكرة الضرر، توضح السبب وراء ضرورة منع هذه المواد، لكن يصبح الموقف أكثر تعقيدًا عندما تكون صور الأطفال المعدَّة بواسطة الكمبيوتر هي أساس المواد الإباحية عن الأطفال، فهذا في الأساس شكل من أشكال تركيب الصور، ويمكن تكوين الصور المركبة الفاحشة من لقطات عائلية غير مؤذية، قد يتساهل أشخاص قليلون مع هذا النوع من الصور، لكن المؤمن بمبدأ العواقب يرى أن الحجة لا بد أن ترتكز على الدليل التجريبي بشأن الضرر المحتمل الذي ينتج عن السماح بصناعة هذه الصور وتداولها بحرية، من الواضح أن هناك روابط قوية بين صناعة هذه الصور واستهلاكها من ناحية، وبين خطر تعرض الأطفال للضرر فعليًّا من ناحية أخرى، لكن كثيرًا من الناس يشعرون بوجود روابط قوية مماثلة بين صناعة أنواع معينة من المواد الإباحية الموجهة للبالغين واستهلاكها من ناحية وبين خطر تعرض النساء للضرر فعليًّا، قد يقول الرأي الليبرالي الأكثر إقناعًا في هذا السياق إنه ينبغي التساهل مع الصور المعدَّة بواسطة الكمبيوتر بالرغم من بُغضها، ما لم تقدَّم أدلة تجريبية تثبت صلتها بوقوع أذى فعلي على الأطفال، مع ذلك يبدو من المستبعد للغاية هنا أن تفوق فوائد حرية الكلام خسائرها، فمعظمنا سيشعر بسعادة أكبر إذا منعت هذه الصور بسبب صلتها المحتملة بالميل الجنسي إلى الأطفال، وأخيرًا بتأجيج رغبة الأشخاص الذين ربما يقومون فعليًّا بإيذاء الأطفال.

(٨) الفن والمواد الإباحية

هل هناك أي أسباب وجيهة لحماية صورة روبرت مابلثورب الفوتوغرافية «تماثيل الإخوة تشابمان» الجنسية الصريحة، أو رواية «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف من الرقابة التي ربما تعرضت لها هذه الأعمال لولا صدورها عن فنانين أو كُتاب معروفين؟ هل توجد حجة خاصة يمكن تقديمها بشأن الفنون تعفي مثل هذه الأعمال من الرقابة؟ يوجد رد يقول إنه من الضروري حماية الفنانين من الرقابة بسبب جدية مساعيهم لفهم الحالة الإنسانية، وأيضًا بسبب السمات الأدبية أو الفنية لتفسير الأحداث، التي تُعقد التجربة الموجودة في مثل هذه الأعمال، فنحن نعطي في ثقافتنا امتيازًا — عن استحقاق — لدور الفنان؛ لأن الثقافة تنتقل عبر الفن وتتعرض للفحص الدقيق.

ربما تعد محاكمة «ليدي تشاترلي» في المملكة المتحدة أهم قضية استُخدم فيها دفاع فني، عُقدت هذه المحاكمة — التي أجريت في عام ١٩٦٠ — لتحديد ما إذا كانت رواية دي إتش لورنس ستنشر في بريطانيا أم ستظل محظورة بموجب قانون المنشورات المخلة بالآداب، استُدعي أكثر من خمسين خبيرًا للشهادة بشأن المميزات الأدبية للكِتاب، منهم إي إم فورستر وريموند ويليامز وريتشارد هوجارت، بإجماع الآراء لم تكن رواية «عشيق ليدي تشاترلي» أفضل كُتب لورنس، لكن الشهود شرحوا مميزاتها الأدبية وهم يدركون أنهم يدافعون عن حرية الكاتب في التعبير عن آرائه بشأن الحياة، تمامًا كما كانوا يدافعون عن كِتاب معين، كان الكتاب — باستخدامه المتكرر لكلمة «الجماع» ووصفه المفصل لعملية الزنى — مسيئًا بالتأكيد لكثير من القراء، إلا أن اختبار الفحش قام على أن الكتاب قد يتسبب في إفساد أخلاق القراء، أصدر القاضي في هذه القضية حكمًا بإجازة نشر الكتاب (لكن ليس قبل سؤاله المحلفين هل سيسعدون بقراءة خَدَمِهم الكتاب أم لا).

في عام ١٩٩٠ أقيم معرض «اللحظة المثالية» للمصور الفوتوغرافي روبرت مابلثورب في مركز الفنون المعاصرة في سينسيناتي، احتوى المعرض على صور صريحة للانحراف الجنسي المثلي، وممارسة الذكور للجنس الفموي معًا، وأيضًا صورة «روزي» (١٩٧٦)، وهي صورة لفتاة في الرابعة من عمرها تجلس على مقعد في حديقة مرتدية تنورة تكشف بوضوح أعضاءها التناسلية، وجِّهت لمدير المتحف — دنيس باري — تهمة الفحش وإساءة استخدام قاصر في مادة إباحية، لم تُعرض الصورة عند انتقال المعروضات إلى معرض «هيوارد جاليري» بلندن، وكما حدث في محاكمة «ليدي تشاترلي»، كانت التساؤلات عن المميزات الفنية محورية، أسقِطت التهم عن مدير مركز الفنون دنيس باري على أساس أن أعمال مابلثورب تظهر براعة فنية جنسية.

إن تصوير مابلثورب الفوتوغرافي دائمًا ما يكون جميلًا وشكليًّا للغاية، حتى عندما يمارس الأفراد فيه أنشطة جنسية صريحة منحرفة، وربما أن المعرفة بشذوذه الجنسي سهلت في توضيح موقفه، أوضح في حوار معه كيف أنه أراد استخدام الفحش، ولكن في الوقت نفسه أراد السمو فوقه:

ربما تكون هذه مواد إباحية، ولكن تظل لها قيمة اجتماعية تعويضية، فيمكن أن تكون الاثنين معًا، وهو هدفي من صناعتها؛ بمعنى استخدام كل عناصر المواد الإباحية ومع ذلك الحصول على بناء مضيء يجعلها تتعدى حدود طبيعتها.

مع ذلك فقد ظهر نتيجة لقضيتي «ليدي تشاترلي» ومابلثورب تساؤل عما إذا كان الحكم على الميزة الإبداعية يجب أن يكون عاملًا في تحديد تعرض كتاب أو صورة أو فيلم أو عرض للرقابة.

يشير أكثر المناهج تحررًا إلى أن كل الرقابة الإبداعية خاطئة، فيجب أن يصبح للفنانين — بناءً على هذا الرأي — الحرية في تحدي ما يريدون تحديه، والتعبير عن أنفسهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، بإبداع فني أو دونه، يسهل التأكيد على هذا الرأي بوصفه شعارًا أكثر من تبريره، يكون الأمر على هذا النحو في مجال الصور الجنسية للأطفال على وجه الخصوص، فعندما يتعرض الأطفال للضرر في صناعة مثل هذه الصور، لا توجد حاجة لربط الأمر بقضايا حرية الكلام، إلا أنه حتى في حال عدم تضرر الأطفال جسديًّا — كما في حالة مابلثورب — سيشعر كثيرون (وأنا من بينهم) بأن خطر إثارة الخيال المنحرف لذوي الميول الجنسية تجاه الأطفال يكون ثمنًا باهظًا للحرية الفنية، يرى آخرون ضرورة تقبل مثل هذه الصور، بالرغم مما تثيره من اشمئزاز، فمن السهل عليك أن تتقبل الفن الذي تحبه، لكن الاختبار الحقيقي لإخلاصك لحرية الكلام يأتي عندما تكون مستعدًّا لتقبل الفن الذي تراه مثيرًا للاشمئزاز ومسيئًا للغاية، بالطبع لا يحول هذا التقبل دون إبداء المعارضة التي لا تصل إلى حد المطالبة بفرض الرقابة.

عند حديث المؤرخة الفنية أليس ماهون عن هذه القضية في كتابها «الإثارة الجنسية والفن»، بدت عليها الدهشة من إثارة الصورة لهذا الرعب:

… على الرغم من حقيقة أن الفتاة روزي — التي كانت سيدة تبلغ من العمر ٢٣ عامًا في وقت العرض — لم تكن مستاءة من صورتها، وعرضتها بسعادة في نوتينج هيل في لندن في المطعم الذي تديره.

فإن الموافقة الفعلية للفتاة بأثر رجعي لا تعنينا في هذا السياق، فلنتخيل الوضع إذا شعرت روزي كفتاة بالغة بحرج شديد من صورتها التي تُطبع على نطاق واسع، ففي وقت صناعة الصورة لم تكن في سن تسمح لها بإعطاء موافقة على تصويرها على هذا النحو، على الرغم من عدم تعرضها لأذى جسدي في هذه العملية، فإنه في حال شعورها بالاستياء الشديد من العرض العلني لهذه الصورة، ربما يصبح هذا بمنزلة نوع من الأذى النفسي، لم يكن مابلثورب يعلم أنها ستفتخر فيما بعد بالصورة، بدلًا من الانزعاج منها، فغياب احتمال الموافقة في هذه الحالة يجعلها مختلفة تمامًا عن صورة تؤخذ لشخص بالغ بموافقته.

إن الصورة الفوتوغرافية الملتقطة بجمال والمطبوعة ببراعة للأعضاء الجنسية لفتاة في الرابعة من عمرها، تظل صورة تستطيع بسهولة إثارة ذوي الميول الجنسية تجاه الأطفال، وعرضها علنيًّا ربما ينقل مباشرةً فكرة أن التحديق في أعضاء فتاة في الرابعة من عمرها أمر مقبول اجتماعيًّا، لهذا السبب لا يمكنني غفران عرضها، ونظرًا لسياق عرض الصورة في معرض يحتوي على صور لأفعال جنسية صريحة، سيكون خداعًا أن ندعي عدم وجود إيحاء جنسي في صورة «روزي»، فوضعها بجوار صور لأفراد يمارسون أنواعًا مختلفة من الجنس، ربما يجعل تفسيرها جنسيًّا أمرًا حتميًّا، من الصائب التشكيك في دوافع فنان يلتقط مثل هذه الصورة ويعرضها، ومن الصائب أيضًا الشعور بالقلق حيال الآثار المحتملة لعرضها، في رأيي أن المخاطر المرتبطة بمثل هذه الصورة ومثيلاتها كبيرة للغاية، ولا ينبغي علينا اختيار تقبلها، الواقع أن هناك ما يثير القلق بشأن الرأي القائل إن التعبير الفني ومحاسن هذه الصورة ينبغي أن يحمياها من اعتبارات أخرى؛ كما لو أن الاعتبارات الفنية تفوق دائمًا الاعتبارات الأخلاقية.

ينادي معظم المدافعين الليبراليين عن حرية الكلام بوجود مبدأ رسمي يركز على حماية الكلام المحايد بشأن الأفكار المعبَّر عنها (حتى الوصول إلى مرحلة التحريض على الأذى). مع ذلك، في القضايا التي ناقشناها للتو اعتبرت المميزات الفنية للأعمال المذكورة مهمة، فلو كانت المحاكم أظهرت أن رواية لورنس أو صور مابلثورب تخلو تمامًا من المميزات الفنية، لكانت قد مُنعَت على الأرجح، لكن لماذا تكون المميزات الفنية مهمة؟

إحدى الإجابات عن هذا السؤال هي أن الأعمال الفنية تجسد وتعبر عن أفكار تتعلق بأي شيء تصفه أو تصوره؛ وعليه يكون الهدف من العمل الإباحي نقل ما يحدث أمام العدسة بشفافية، فالأعمال الإباحية هي نوع من اختلاس النظر، في المقابل يُقحم دائمًا العمل الذي يشبه ظاهريًّا العمل الإباحي تفسيرات ومشاركة تخيلية في الموضوع، ربما يصور — كما أشارت سوزان سونتاج — ما أسمته «الخيال الإباحي»، كما في رواية تصور شخصًا لديه ميول جنسية تجاه الأطفال أو ساديًّا جنسيًّا.

لم تُؤلف رواية «عشيق ليدي تشاترلي» على هذا النحو لتتسبب ببساطة في إثارة القراء، ولم تنتَج صور مابلثورب كمجرد مواد إباحية، إنما كان يقصد منها أن تبدو جميلة شكليًّا وتكون لها بعض سمات الفن الكلاسيكي، على أساس هذه الحجة يكون احتمال تقديم هذه الأعمال لفهم عميق أو عرض له طابع مميز للمشاهد أو القارئ، هو ما يأخذها إلى ما وراء الإباحية ويسمح بمعاملتها معاملة مختلفة، من الواضح أن صورة طفلة في الرابعة من عمرها يلتقطها شخص لديه ميول جنسية تجاه الأطفال هي نوع من الإساءة، وبناء على هذه الحجة لا بد من معاملة مابلثورب معاملة تختلف عن من لديه ميول جنسية تجاه الأطفال؛ لأن إبداعه الفني سمح له بإنتاج صورة عن البراءة والجمال بدلًا من التركيز على التحفيز الجنسي، مع ذلك توجد صعوبة عملية في هذا المنهج تتمثل في التمييز بين الفنان وبين من لديه ميول جنسية تجاه الأطفال ويرغب في العمل تحت حماية مبدأ يحمي الفن المثير للغرائز.

توجد حجة أخرى لمعاملة الفن بوصفه منطقة محمية، وهي أن الفن بطبيعته مجال بشري يقدم اختبارات جادة ومهمة للآراء المسلم بها، فوفقًا لهذا الرأي تكون القيود على الحرية الفنية مضرة للغاية؛ لأنها تحد من إبداع الأشخاص أنفسهم الذين يحافظون على ثقافتنا حية ومتأملة لذاتها وناقدة لذاتها.
fig9
شكل ٤-٢: لوحة «تبوُّل المسيح» لأندريس سيرانو.2

لكن هذا المنهج يتناقض مع أي منهج من مناهج سوق الأفكار الحر؛ فهو يفترض ضرورة حماية مجال واحد للتعبير أكثر من غيره، حدث تذرع بمثل هذا النوع من الحماية من الرقابة أيضًا في مجال الفن الذي يسيء لمشاعر الأفراد الدينية، ويكفي ذكر مثالين فحسب اعتبرا مسيئين لتوضيح هذه النقطة: عندما غمر أندريس سيرانو صليبًا في بوله والتقط له صورة أسماها «تبوُّل المسيح»، شعر كثير من المسيحيين بالإساءة الشديدة بسبب هذا العمل الاستفزازي المتعمد، في الواقع طُرحت تساؤلات في مجلس الشيوخ الأمريكي عن استحقاق هذا الفنان الفوز بتمويل عام على عمله، ادعى بعض الذين سخروا من صورة «تبول المسيح» أن سيرانو ليس فنانًا، ربما في اعتراف غير مباشر منهم بحُجة أن الفن يستحق حماية خاصة من الرقابة.

بالمثل، وبالرغم من أنه للوهلة الأولى تبدو لوحة كريس أوفيلي في عام ١٩٩٦ للسيدة العذراء غير مسيئة بقدر كبير، فإن ثدي العذراء الأيمن مرسوم باستخدام روث فيل وخلفية الصورة مزخرفة بصور لأجزاء من الجسم مأخوذة من مجلات إباحية، مرة أخرى وجد العديد من المسيحيين هذا العمل مسيئًا، وعندما سافرت اللوحة إلى متحف بروكلين للفنون كجزء من معرض «سينسيشن» في عام ١٩٩٩، اعترى عمدة نيويورك في هذا الوقت — رودولف جولياني — غضب شديد بسبب هذا المزج الشديد بين التجديف الواضح والتصوير الجنسي الصريح، فاعتبره هجومًا على وجه التحديد على الكاثوليكية الرومانية، وهدد بالامتناع عن دفع سبعة ملايين دولار من التمويل العام للمتحف بسبب هذه اللوحة، مع أنه أُجبر فيما بعد على التراجع عن قراره.

شعر كثيرون في عالم الفن بالهلع من محاولة فرض رقابة على الفن، وادعوا أن الفن ينبغي أن يكون منيعًا ضد هذا النوع من النقد، مع ذلك توجد حجة قوية تقول إن الرقابة هي عمل خاطئ في حد ذاته، وليس فكرة فرض الرقابة على الفن تحديدًا، ففي المجتمع المتحضر، ينبغي حماية حرية توجيه الإساءة، لكن لا توجد أسباب قوية لجعل الفن حالة خاصة، وحمايته من الرقابة لمجرد كونه فنًّا.

هوامش

(1) © Time & Life Pictures/Getty Images.
(2) © Andres Serrano, Courtesy of Yvon Lambert Paris, New York.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤