الطاقة

الطاقة لفظ يستعمله العلماء بمعنًى خاص يختلف عن معناه عند الأدباء وإن كان بين المعنيين ارتباط، والعلم من عادته أن يتطفل على لغة الأدباء في كل عصر وفي كل أمة، فيقتبس منها ما يراه ملائمًا لغرضه من الألفاظ والعبارات، ثم هو يعمد إلى تحريفها عن موضعها فيُكسبها معاني ومدلولات اصطلاحية أو تواضعية تحل في لغة العلم والعلماء محل المعاني الأصلية، وكذلك تتنكَّر الكلمات على أهلها وتحتاج إلى من يقدِّمها إليهم في زيها الجديد.

فالطاقة في لغتنا العادية معناها الوسع أو المقدور، يقال ليس ذلك في طاقتي أي ليس في استطاعتي، وهي في الغالب تُضاف إلى الإنسان فيقال: طاقة البشر وطاقة فلان من الناس، أما في الاصطلاح العلمي فقد نشأت فكرة الطاقة مرتبطة بالحركة الميكانيكية للأجسام ثم تطوَّرت تغلفت في التفكير العلمي حتى صارت خاصية أساسية من خواص المادة وارتبطت بالدراسات الطبيعية في سائر نواحيها حتى صار لها من الشأن والأهمية ما للمادة أو أكثر.

(١) نشوء فكرة الطاقة

ويرجع التفكير في الطاقة إلى النصف الأول من القرن السابع عشر حين فكَّر الفيلسوف الفرنسي ديكارت فيما سمَّاه مقدرة الجسم على الحركة، فمن المعلوم أننا إذا قذفنا جسمًا (كحجر مثلًا) في اتجاه رأسي إلى أعلى فإن مقدرته على الاستمرار في الحركة إلى أعلى تتوقف على سرعته، فإذا زادت السرعة التي نقذفه بها زادت مقدرته على الارتفاع وإذا نقصت السرعة نقصت. وكان ديكارت يعتبر هذه المقدرة متناسبة مع سرعة الجسم، فإذا تضاعفت السرعة مثلًا تضاعفت المقدرة. ودلَّل على ذلك بما هو معلوم من أن زمن حركة الجسم الطبيعية يجمع بين العنصرين، عنصر السببية وعنصر الصدفة في آنٍ واحد، لنفرض أننا طرحنا قرشًا على مائدة فإن هذا القرش بعد أن يستقر إما أن يظهر منه وجهه أو أن يظهر منه خلفه. هذه حقيقة نعرفها جميعًا ونستخدمها في الفصل في بعض المسائل التي نحتكم فيها إلى الصدفة أو الحظ فتقول: «الطرة أو الياظ»، فإذا كررنا العملية ظهرت إحدى ناحيتي القرش وهكذا. فلنفرض أننا طرحنا القرش مائة مرة بغير أن نتعمد طرحه على إحدى ناحيتيه دون الأخرى أي بغير أن «نغش» في اللعب فإننا لا ننتظر أن تكون عدد مرات ظهور الوجه أكثر أو أقل بكثير من عدد مرات ظهور الخلف، فإذا كررنا العملية ألف مرة اقترب عدد مرات ظهور الوجه من عدد مرات ظهور الخلف، وهكذا كلما زدنا تكرار العملية تقارب العددان بحيث يصح القول إنهما متساويان. فتساوي هذين العددين في مجموع العمليات قاعدة أو قانون من القوانين ناشئ عن أننا تركنا الصدفة وحدها تتحكم في الأمر. هذا مثال بسيط يمكن الانتقال منه إلى ما هو أكثر تعقيدًا، كأن نقذف حجر النرد مثلًا أو أن ندير مؤشرًا على مائدة مقسمة إلى أقسام ذات ألوان مختلفة كما يحدث في لعبة «الروليت» وهكذا، والبحث في «الاحتمالات» المختلفة كما تُسَمَّى يقع في حساب علماء الرياضيات ويخصصون له طرائق وسبلًا تمكنهم من إيجاد القوانين التي تصلح لكل مسألة من المسائل. هذه القوانين هي ما تُسَمَّى بقوانين المصادفة، وهي كما يرى القارئ تجمع بين عنصر الصدفة التامة وعنصر السببية أو وجود القانون المنظم، وتعتمد جميع شركات التأمين في الأمصار المختلفة على قوانين الصدفة هذه في حساب دفعات التأمين التي تتطلبها من زبائنها.

هل توجد في الطبيعة قوانين ناشئة عن الصدفة؟ الجواب ولا شك بالإيجاب فقانون بويل وماريوت المشهور للغازات هو قانون من قوانين الصدفة، هذا القانون كما يذكر القارئ ينص على أن حاصل ضرب الحجم في الضغط لكمية معلومة من الغاز ثابت، فكلما زدنا الحجم قل الضغط وكلما زدنا الضغط قل الحجم. والغاز كما هو معلوم مُؤَلَّف من عدد عظيم من الجزئيات في اضطراب مستمر. ومن الممكن البرهنة على أن قانون بويل وماريوت إن هو إلا نتيجة لازمة لتحكم الصدفة تحكُّمًا تامًّا في حركات هذه الجزئيات. هذه البرهنة تحتاج إلى تفكير رياضي لا أريد أن أخوض بالقارئ فيه، ولكني أؤكد له بل أقسم له على صحة ما أقول. فالانتظام الظاهري في مجموع هذا العدد العظيم من الجزئيات — أو بعبارة أخرى في الغاز كما نعرفه — هو نتيجة لانعدام النظام في حركة كل جزيء على حدة كما أن قاعدة تَسَاوي الطرة أو الياظ، في عدد كبير من عمليات طرح القرش هو نتيجة لانعدام أية قاعدة في العملية الواحدة، وهنا ينتقل بنا البحث بطريقة طبيعية إلى حركة الجزيء الواحد. إن القرن الماضي قد شجَّعنا على الاعتقاد بأن جزيئات المادة وجواهرها الأساسية التي تتألَّف منها يجب أن يكون لها قوانين تنظِّم حركتها فهل هدانا القرن الحالي إلى مثل هذه القوانين وهل زاد يقيننا بوجودها؟ الجواب حتى اليوم بالنفي. فإن كانت هناك قوانين فإنها هي أيضًا من نوع الاحتمالات. وقد انقضى العهد الذي كنَّا نعتقد فيه أن معرفة حركات الجزئيات المادية في لحظة معينة تمكننا من التنبؤ بمصير العالم بأسره. هذا النوع من السببية المطلقة غريب على التفكير العلمي الحديث. وليس معنى هذا أن العلم الحديث ينكر السببية بل هو يُسلم بها ثم يفسرها كنتيجة لغيرها لا كبديهة من البديهيات الأولية. وكأني بزهير بن أبي سلمى وقد أصاب كبد الحقيقة. ومن يدري لعله أصابها خبط عشواء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤