(١٥) مخاوف السير آيزاك

تحت ضوء مصباحٍ برونزي ساطع، كان كل ما هو فانٍ لدى جيكوبس ممدَّدًا على سرير العمليات. وكانت قامتا الطبيبين، اللذَين لم يكونا يرتديان المعاطف، تتحركان حول جسمه بسرعة.

قال جونزاليس: «لا أظن أننا نستطيع أن نفعل له الكثير. لقد تعرَّض لثقبٍ في أحد الشرايين. ويبدو لي أنه يعاني نزيفًا داخليًّا.»

فحصا الجرح فحصًا سطحيًّا، وكان بويكارت يرى أنَّ حالة الرجل خطيرة للغاية حتى إنه قد بعث برسولٍ إلى أحد القضاة. كان ويلي واعيًا في أثناء الفحص لكنَّه كان ضعيفًا جدًّا ومُنهكًا جدًّا إلى حدٍّ أعجزه عن سرد أي شيءٍ عمَّا حدث.

قال جونزاليس: «الفرصة الوحيدة أمامنا هي أن يَحضُر قاضي الصُّلح في الموعد المناسب ونمنح المصاب قدرًا كافيًا من الاستركنين لنُمكِّنَه من إخبارنا بهُوية مَن فعل به ذلك.»

أكمل جونزاليس: «أعتقد أنها جريمة قتل، لقد أُحدِثَ الجرح بأداةٍ حادة جدًّا. انظر، إنَّ مساحة الجرح لا تزيد عن نصف بوصة. أظنُّ أنَّ الفاعل استخدم خنجرًا، وقد استخدمه ببراعة. إنها لمعجزةٌ أنه لم يُقتَل فورًا.»

حَضَر قاضي الصُّلح الذي استُدعي للحضور على عجل في وقتٍ أبكر بكثير ممَّا كانا يتوقعان، وشرح له جونزاليس حالة الرجل.

قال: «لقد حاول أن يُخبرني، بعدما وضعناه على السرير، بهوية الفاعل، لكنِّي لم أستطع سماع الاسم.»

سأله القاضي: «هل تعرفه؟»

فقال: «أعرفه، ولديَّ ظنون بشأن هوية من فعل ذلك، لكني لا أستطيع تبرير شكوكي.»

كان جيكوبس فاقد الوعي، واغتنمَ جونزاليس أول فرصةٍ أتيحت له للتشاور مع زميله.

قال على عجل: «أظنُّ أنَّ هذا من صُنعِ بلاك. لماذا لا نستدعيه؟ فنحن نعرف أنَّ جيكوبس كان يعمل لديه وكان يتقاضى معاشه منه، وهذا مُبررٌ كافٍ. وربما نستطيع أن نعرف شيئًا إذا استطعنا إحضاره قبل أن يموت هذا الرجل المسكين.»

قال الآخر: «سأُجري مكالمةً هاتفية.»

أخرج من جيبه دفتر مُذكرات وراجَع صفحاته. كانت تحركات بلاك والأماكن التي يتردَّد عليها مُدرجةً بترتيب مُحكَم في ذلك الدفتر، لكنَّ الهاتف لم يوصلهما بالرجل الذي كانا يريدانه.

وفي الساعة الثانية إلَّا ربع صباحًا، فارق جيكوبس الحياة دون أن يَستعيد وعيه، وبدا أنَّ لغزًا آخر قد أضيف إلى قائمةٍ كانت طويلة بالفعل إلى حدٍّ مُرعِب.

وَصَل الخبر إلى ماي ساندفورد في عصر ذلك اليوم. كانت المأساة قد وقعت في وقتٍ متأخر جدًّا من تلك الليلة فلم تَستطِع أن تحجز لتفاصيلها مكانًا في الصحف الصباحية، لكنَّ الفتاة قرأت تفاصيلها من أولى طبعات المجلات المسائية، وقد صدمها ذلك المصير الرهيب الذي لاقاه الرجل.

وهي لم تَعلم بالحادث من ذلك المصدر إلا مصادفة؛ إذ كانت ما تزال تقرأ خبر وفاته في الجريدة حين زارها بلاك، مُتظاهرًا بالاهتياج، وقال لها: «أليس هذا مُروِّعًا يا آنسة ساندفورد؟»

ظنت الفتاة أن قلبه كان مفطورًا من الحزن. قال بصراحة: «سأُدلي بالشهادة بالطبع، لكني سأحرص بشدة على عدم ذكر اسمِكِ فيها. أظن أنَّ الرجل المسكين كان له شركاء سيئون جدًّا بالفعل. لقد اضطررتُ إلى تسريحه بسبب ذلك. لا داعيَ إلى أن يعرف أحد أنه جاء هنا إطلاقًا؛ فلن يكون من الجيد أن تُقحَمي في قضية قذرةٍ كهذه.»

فقالت: «آه، كلا كلا. لا أريد أن أقحَم فيها إطلاقًا. وأنا آسفةٌ للغاية، لكنِّي لا أرى أيَّ مساعدة قد تقدمها شهادتي.»

اتفق معها بلاك قائلًا: «بالطبع.» لم يخطر بباله إلا في صباح ذلك اليوم مدى الأذى الذي قد يلحق به من الشهادة التي يُمكن أن تُدلي بها هذه الفتاة، وكان قد جاء إليها مذعورًا خشية أن تكون قد عَرَضت الإدلاء بها طواعيةً بالفعل. رأت أنه بدا مريضًا وقلقًا، وقد كان كذلك بالفعل؛ إذ إنه لم ينم في الليلة السابقة إلا قليلًا. كان يعلم أنَّه في مأمن من أن يكتشف أحدٌ أنه الفاعل؛ إذ لم يكن أحدٌ قد رآه يقابل الرجل، وصحيحٌ أنَّه زار الأماكن التي يرتادها الرجل، لكنَّه لم يستفسر عنه.

ومع ذلك، كان بلاك مهووسًا بمعرفته أنَّ أناسًا يُضيِّقون الخناق عليه. لم يستطع تخمين هوية مطارديه. راوَدَه في لحظاتٍ غريبة شعورٌ غريب بالذُّعر؛ إذ لم يكن أي من شئونه يسير على ما يرام. وحتى السير آيزاك كان قد أبدى أمارات تمرُّد عليه.

وقبل أن يَنقضيَ اليوم، اكتشف أنَّ لديه ما يكفي من الأمور المزعجة من دون المخاوف التي يحملها له المجهول. ذلك أنَّ الشرطة قد أجرت تحقيقاتٍ مكثَّفة عن مكان وجوده في الليلة التي وقع فيها القتل، حتى إنَّهم جاءوا إليه واستجوبوه بإصرارٍ شديد حتى بدأ يشُك في وجود قوةٍ تُوجِّهُهم. لم يُغالِ في الاهتمام برجال العدالة الأربعة؛ إذ كان يُصدِّق كلام مُخبره الذي قال له إنَّ «الأربعة» مفترقون في الوقت الراهن، وأكَّدت له حقيقة سفر ولكنسون ديسبارد إلى أمريكا صحَّة كل ما أخبره به الرجل.

كان يُعاني شُحًّا في الأموال مرة أخرى؛ فتسديدُ ديون مراهناته قد تركه دون أموالٍ كافية؛ ولهذا كان لا بُدَّ من «إقناع» ساندفورد. وكانت ضرورة ذلك تزداد يومًا تلو الآخر. وفي صباح أحد الأيام، اتصل به السير آيزاك بالهاتف وطلب منه أن يلقاه في الحديقة العامة.

فسأله بلاك: «لِمَ لا تأتي إلى هنا؟»

قال صوت البارونيت: «كلا، أحبِّذ لقاءك في الحديقة.»

حدَّد له الموقع بالضبط، وفي الموعد المُحدَّد، قابله بلاك الذي انزعج قليلًا من اضطرارِه إلى قطع برنامج يومه بسبب هذا التصرُّف الغريب من السير آيزاك ترامبر. أمَّا البارونيت نفسه، فلم يتطرَّق إلى صميم الموضوع فورًا؛ فقد ظل يُلمِّح ويُهمهِم ويُتهته إلى أن نطق فجأة بالحقيقة أخيرًا. قال: «أصغِ إليَّ يا بلاك، لقد كُنَّا صديقين رائعين، وخضنا بعض المغامرات الغريبة معًا، لكنِّي الآن سوف … أريد …» ثم راح يتلعثَم ويتنحنَح.

سأله بلاك بوجهٍ عابس: «ماذا تريد؟»

قال السير في محاولة يائسة لأن يكون حازمًا: «حسنًا، في الحقيقة، أرى أن الوقت قد حان لنفضَّ الشراكة القائمة بيننا.»

سأله بلاك: «ماذا تعني؟»

قال الآخر متلجلجًا: «حسنًا، أنت تعرف أنَّ البعض يتحدثون عنِّي. الناس ينشرون أكاذيب عنِّي. ومؤخرًا، سألني رجلٌ أو اثنان عن طبيعة العمل الذي أُشاركك فيه، و… هذا يُقلقني.» ثم قال بحنق مفاجئ من رجلٍ ضعيف: «يا بلاك، أعتقد أنني قد فقدتُ فرصة تَقرُّبي إلى فيرلوند بسبب علاقتي بك.»

قال بلاك: «أفهمُ.» كانت تلك الكلمة مفضَّلة لديه. وكانت تعني الكثير، بل إنها كانت تعني في تلك اللحظة أكثر ممَّا تعنيه عادةً. قال: «أفهمُ أنك تظن أن السفينة تَغرق، وتتصوَّر، كالفئران، أنَّ الوقت قد حان للقفز منها والسباحة إلى البر.»

اعترض الآخر قائلًا: «لا تكن سخيفًا يا صديقي القديم العزيز، ولا تكن غير عقلاني. إنك تفهم الموقف. حين انضممتُ إليك، كنتَ ستُحقِّق إنجازاتٍ كبيرة؛ عمليات دمجٍ كبيرة واتحادات كبيرة من الشركات الاحتكارية، وبيع سنداتٍ مالية غير مرغوبٍ فيها، وكلُّ ما إلى ذلك.» واعترف معتذرًا: «بالطبع كنتُ أعرف كل شيء عن محل المضاربة غير القانوني، لكنَّه كان مجرد نشاطٍ جانبي إضافي.»

ابتسم بلاك ابتسامةً متجهمة. وقال بواقعية ممزوجة بحسٍّ ساخر: «نشاطٌ إضافي مُربح جدًّا لك.»

قال آيكي الذي كان صبورًا إلى حدٍّ مُستفِز: «أعرف أعرف، لكنَّ الأمر لم يكن يتعلَّق بملايين وغير ذلك، أليس هذا صحيحًا؟»

كان بلاك مستغرقًا في تفكير عميق، وكان يقضم أظافره ويُحدِّق إلى العشب عند قدميه.

أضاف آيكي: «الناس يتحدثون يا صديقي القديم العزيز، يقولون أفظع الأشياء البغيضة. أنت تَعِدُ منذ فترة بهذا الدمج المنتظر مع مسابك ساندفورد، وقد أصدرت أسهُمًا في «مسابك أوروبا المُدمَجة» دون أن يكون لديك ما تبيعُه.»

قال بلاك: «لن يُشاركني ساندفورد، إلَّا إذا دفعت له ربع مليون نقدًا، سيأخذ الباقي أسهُمًا. وأنا أريده أن يأخذ الثمن كله أسهُمًا.»

قال البارونيت بفظاظة: «إنَّه ليس مغفلًا. ساندفورد العجوز ليس مغفلًا، وأراهنُ على أنَّ فيرلوند يدعمه، وهو ليس بمغفل أيضًا.» خيَّم صمتٌ طويل مُحرِج؛ مُحرِج للسير آيزاك الذي كان يشعر برغبةٍ لا تفسير لها في الفرار مسرعًا.

قال بلاك وهو يُواجه عينيه بابتسامةٍ باردة: «إذن، فأنت تريد التسلُّل من الشراكة، أليس كذلك؟»

قال السير آيزاك على عجل: «أصغِ إليَّ يا صديقي العزيز، لا تتبنَّ هذا الرأي القاسي.» ثم قال محاولًا الممازحة: «إنَّ الشراكات تنفضُّ على الدوام؛ فذلك جزء من صميم طبيعتها. ويجب أن أعترفَ بأنني لا أحب بعض مخططاتك.»

فانقلب عليه بلاك بغضبٍ وحشي قائلًا: «لا تحب! هل تحب المال الذي حصلت عليه مقابلها؟ المال الذي كان يُدفَع مقدمًا لإقناع الزبائن الجدد؟ المال الذي مُنحتَ إيَّاه لتسديد ديون رهاناتك في نادي سباقات الخيول؟ عليك أن تستمر في الشراكة يا آيكي، وإلَّا فسأقول الحقيقة كاملةً لفيرلوند وكل صديق لديك.»

قال السير آيزاك بهدوء: «لن يُصدِّقوك؛ فسُمعتُك شنيعة للغاية مثلما تعرف يا عزيزي، وأسوأ ما في السُّمعة السيئة أن لا أحد يصدقك. إذا خُيِّر الوسط الراقي بين تصديقي وتصديقك، فمن سيُصدِّق في رأيك؛ رجلٌ يتمتَّع بالوجاهة ويَنتسِب إلى قائمة بارونيتات بريطانيا العظمى، أم رجلٌ — حسنًا، لنقُل الصراحة بلا تجميل — مثلك؟»

حدَّق بلاك إليه مُطوَّلًا، ثم قال ببطء: «مهما يكن الرأي الذي ستتبنَّاه، فعليك أن تدافع عنه بكلِّ ما أوتيت من قوة. إذا قُبِضَ عليَّ بسبب أيٍّ من الأعمال التي نتشارك فيها الآن، فسأُخبِر الشرطة بمعلوماتٍ عنك. كلانا في مركبٍ واحد؛ إما أن نَغرق معًا أو نسبح معًا.»

لاحَظ القلق الذي بدأ يعتري وجه السير آيزاك ببطء. قال السير: «أصغِ إليَّ، سأُرتِّب لأردَّ لك المال الذي أخذتُه. سأُعطيك كمبيالات …»

ضحك بلاك، وقال: «يا لك من شيطان مُسلٍّ. أنت وكمبيالاتك! أستطيع كتابة كمبيالاتٍ بنفسي، أليس كذلك؟ يُمكنُني في الحال أن آخذ كمبيالات كنَّاسٍ عابر ككمبيالاتك تمامًا. يا إلهي، لديك من العملات الورقية في لندن ما يكفي لتغذية نيران أفران ساندفورد طوال أسبوع.» أوحت هذه الكلمات بفكرةٍ ما «دعنا لا نتطرَّق إلى هذه المسألة مجددًا إلى أن يتمَّ الدمج. من المقرر أن يتم الأسبوع المقبل.» ثم قال بنبرةٍ ألطف: «قد يُحسِّن ذلك من وضعنا كثيرًا يا آيكي. ما عليك سوى أن تنسى فكرة الهروب.»

قال الآخر معترضًا: «لا أهرب. كلُّ ما في الأمر أنني …»

قال بلاك: «أعرف. كل ما في الأمر أنَّك تتَّخذ احتياطات، حسنًا، هذا كل ما يفعله الهاربون. أنت منغمس في ذلك حتى النخاع، فلا تخدع نفسك. لن تستطيع أن تخرج منه، حتى أقول لك: «اخرج».»

فقال السير آيزاك وهو يَقضم أظافره: «سأقعُ في حَرَجٍ إذا فُضِحَت الحيلة. سأقع في مأزق بشع لعين إذا كُشِفَ أنني مُتعاون معك.»

فأجاب بلاك مُنذِرًا إياه بسوء: «بل ستقع في حرجٍ أشد إذا لم تتعاوَن معي في هذه اللحظة المواتية.»

حَشَر ثيودود ساندفورد، وهو رجل لديه الكثير من المشاغل، رأسه الرمادي الأشعث في فتحة باب غرفة جلوس ابنتِه، وقال لها: «يا ماي، لا تنسي أنني سأقيم الليلة مَأدُبة عشاء على شرفك؛ لأنك، إذا لم تَخُني الذاكرة وإذا لم يكن الشيك الذي وجدتِه في صينية فطورك اليوم قد وصل إليكِ بالخطأ، تُتمِّين عامك الثاني والعشرين اليوم.»

أرسلت إليه قبلة في الهواء، وسألته: «من سيأتي؟ كان عليَّ حقًّا أن أدعو الجميع بنفسي.»

فقال والدها مُبتسمًا: «لا وقت لديَّ لإخبارك. أنا آسفٌ على أنَّك تشاجَرتِ مع الشاب فيلو. كنتُ أود أن أدعوه.»

ابتسمت بابتهاج قائلة: «يجب أن أُحضِر شرطيًّا آخر.»

حدَّق إليها مطولًا، وقال بهدوء: «فيلو ليس شرطيًّا عاديًّا. أتعرفين أنني قد رأيته يتعشَّى مع وزير الداخلية منذ بضعة أيام؟»

رفعت حاجبيها، وسألته: «بزيِّه الرسمي؟»

ضحك، ثم قال كاتمًا ضحكته: «كلا أيتها الحمقاء، بل بردائه المنزلي.»

تبعته إلى أسفل الرواق، وقالت بعتاب: «لقد تعلمتَ ذلك من اللورد فيرلوند.» انتظرت حتى حملت السيارة والدها بعيدًا عن ناظرَيها، ثم عادت إلى غرفتها وهي تشعر بسعادةٍ تُبشِّر بسعادة.

كانت الليلة السابقة بائسةً حتى أطاعت الفتاة رغبةً مفاجئة راودتها في إذلال نفسها، ووجدت لذة غريبة في ذلك الإذلال. كان يقينها من أنَّ هذا الشاب لا يزال مثاليًّا لها، ولا يزال يُجسِّد كل ما كانت تُريده فيه، مُستحوذًا على تفكيرها حتى إنها قد غفلت آنذاك عن كل ما سواه. لقد تذكرت، بقشعريرةٍ طفيفة، لقاءهما الأول وافتراقهما، وقد جعلتها هذه الذكرى بائسة للغاية من جديد؛ فوثبَت من على كرسيها وفتحت مكتبها الصغير، وكتبت بخط سريع عشوائي رسالةً موجزة عاجلة تجمع بين الندم والاستبداد، تأمره فيها وتتوسَّل إليه أن يأتي إليها حالَما يتلقى تلك الرسالة.

أتى فرانك على الفور؛ إذ أنبأتها الخادمة بوصوله في غضون عشر دقائق من مغادرة السيد ساندفورد.

نَزلت ماي الدَّرَج راكضةً بخِفة، وانتابتها نوبة خجلٍ مُفاجئة حين وصلت إلى باب المكتبة. كانت ستتوقف، لكنَّ الخادمة، التي كانت تتبعها، كانت تنظر إليها باهتمامٍ مُتعاطِف للغاية، حتى إنَّ ماي قد اضطرَّت إلى التظاهر بفتور هو أبعد ما يكون عما كانت تشعر به، ودخول الغرفة.

كان فرانك واقفًا وظهره إلى الباب، لكنَّه استدار سريعًا حين سمع حفيف ثوبها الخافت. أغلقت ماي الباب، لكنَّها لم تُحاول إطلاقًا الابتعاد عنه. استهلَّت الكلام قائلة: «كيف حالك؟» ومن شدَّة الجهد الذي كانت تبذله لتهدئة نبضات قلبها العنيفة، بدت نبرتها باردة رسمية.

قال لها بنبرةٍ كانت صدًى لنبرتها: «أنا بخير حال. أشكرك.»

واصلت كلامها وهي تُحاوِل أن تبدو طبيعية: «لقد … لقد أردتُ أن أراك.»

رَدَّ قائلًا: «هذا ما استنتجتُه من رسالتِك.»

قالت بأسلوبٍ رسمي تقليدي: «لفتةٌ طيبة منك أنك أتيت. آملُ ألَّا أكونَ قد تسبَّبت لك في أي إزعاج.»

قال: «لا إطلاقًا.» ومرة أخرى كانت نبرة فرانك أشبه بصدًى لنبرتها يعبر به عن كلماته. «كنتُ على وشك الخروج على أيِّ حال؛ ولهذا جئت فورًا.»

قالت: «آه، أنا آسفة، ألَا تلتزم بموعدك الآخر أولًا؟ فأيُّ وقتٍ سيكون مناسبًا لي. الأمر، الأمر ليس مهمًّا.»

وحينها جاء دورُ الشاب في التلعثُم؛ إذ قال: «حسنًا، لم يكن لديَّ موعدٌ بالضبط. في الحقيقة، كنتُ قادمًا إلى هنا.»

«يا إلهي! فرانك، أكنتَ قادمًا حقًّا؟»

«نعم، حقًّا وصدقًا أيتها الفتاة الصغيرة.» لم ترُدَّ ماي، لكنَّ فرانك رأى في مُحيَّاها ما هو أفصح ممَّا تستطيع أن تعبر عنه الكلمات.

عاد السيد ساندفورد إلى البيت عصر ذلك اليوم ليجد شخصَين سعيدَين قاعدَين في غرفة الجلوس شبه المُظلِمة، بينما كان عشرة أعضاء من قسم التحقيقات الجنائية ينتظرون في سكوتلانديارد وهُم يتفوهون باللعنات أحيانًا ويَعتصرُون أياديهم أحيانًا أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤