(١٨) قصة إضافية: المسمَّمون

نُشِرت لأول مرة في مجلة «ذا نوفل ماجازين» في مايو ١٩١٢.
نُقِّحت للنشر في مجموعة «رجال عدالة قرطبة» عام ١٩١٧.
أُعيدت طباعتها في مجلة «ذا ثريلر» في الثاني من مارس عام ١٩٣٥.

***

نداء السفر

كان السيد إيسلي يتمشى جيئة وذهابًا بخُطًى ثابتة في غرفة مكتبه في حي «فورست هيل». كانت المنضدة مليئة بالرسائل المفتوحة؛ إذ كان الطبيب يجري واحدة من زياراته القصيرة إلى عيادته.

أمسك إحدى الرسائل وقرأها مجددًا. كانت مكتوبة باللغة الفرنسية وممهورة من أعلاها بختم وزارة العدل. ذكر كاتبها أنه يَسعَد ويتشرَّف بإخبار السيد الطبيب بأنَّ رجال العدالة الأربعة قد اختفوا، كما لو أنَّهم قد تلاشوا من على وجه الأرض، وأنَّهم بكل تأكيد ليسوا من مواطني فرنسا.

رمى الطبيب الرسالة من يده. كانت الرسائل كلها تقول الشيء نفسه. لم تساعده أي سُلطة، ولم يتطرَّق الكاتب الإسباني الجديد، دي لا مونتي، الذي تُرجِم كتابه عن الجريمة إلى الإنجليزية مؤخرًا، إلى أولئك الرجال بأيِّ ذِكر. ومع ذلك، كانت كتابات هذا الرجل تنم عن الثقة، وبدا مرجحًا أنَّه يستطيع تقديم معلومات.

وهنا خَطرت بباله فكرة. قلَّب أوراق دفتر الهاتف ووجَد رقمًا. ثم طلب هذا الرقم عبر الهاتف، وفي غضون بضع دقائق، كان يتكلَّم مع دار النشر.

قال: «أنا الدكتور إيسلي، أرغب بشدة في معرفة عنوان مؤلف كتابٍ قد نشرتموه مؤخرًا، اسمه «الجريمة العصرية».»

«عنوان دي لا مونت؟»

«أجل، هو بعينه.»

فقال الصوت عبر الهاتف: «هلا تَنتظرني ريثما أعثر عليه.»

انتظر الطبيب على الهاتف حتى عاد المتحدث.

«إنه في قرطبة.»

فلَمَع وميض مفاجئ في عينَي الدكتور إيسلي.

وقال بلهفة: «حقًّا؟ هل تستطيع أن تعطيني العنوان بالضبط؟»

«المبنى رقم واحد وأربعين في شارع كالي موريريا.»

«شكرًا جزيلًا!» كتب الطبيب العنوان سريعًا، ووضع السماعة.

قرطبة! من بين كل الظروف المواتية التي يُهيِّئها القَدر في الدنيا! لقد كان ثمة اهتمامٌ من نوع آخر يدعوه إلى هذه المدينة؛ إذ كان يرغب في رؤية رجل يُدعى الطبيب كاجالوس.

ضغط على الجرس، فجاءته السيدة العجوز التي كانت قائمةً وحدها على كل شئون بيته الصغير.

قال لها: «سأسافر بضعة أيام، لقد استُدعيت إلى باريس.»

«وإذا اتصل السيد بلاك يا سيدي …»

فقال فورًا: «لن يتَّصل، وحتى لو اتصل، أخبريه بأنني خارج البلدة.»

بعد ذلك، غادر الطبيب إيسلي البيت وسار بنشاط إلى محطَّة القطار؛ كان يسير بنشاط غريب على رجل أشيب الشعر مثله، وكانت حيوية مشيته وعنفوان تأرجُح كتفيه يوحيان بقوة نادرًا ما تكون لدى رجل في الخمسين من عمره.

غير أنه بالرغم من نشاط مشيتِه، لم يكن يشعر بالارتياح؛ إذ كان يراوده هاجس بغيض بأنَّ أحدًا يراقبه. نظر حوله مرتين فجأة، لكنه لم ير شيئًا. فلعن حماقته سرًّا.

قال لنفسه: «لقد جعلت رجال العدالة الأربعة اللعينين هؤلاء يزعجونني بشدة.»

وصل إلى حي «فكتوريا»، واستقل سيارة أجرة إلى محطة «تشارينج كروس». كان عليه أن ينتظر ربع ساعة. وبينما كان يقف أمام كشك الكتب، راوده ذلك الشعور بعدم الارتياح مرة أخرى. لقد كان مُراقَبًا. التفت فجأة ولم يرَ أحدًا سوى أناسٍ مُسالِمين غير مُؤذِين. فالرجل الذي كان يراقبه قد أشاح بوجهه بعيدًا عنه قبل ذلك بجزءٍ من الثانية، ولم يرَ إيسلي منه سوى ظهره العريض وهو ينحني لربط حزام حقيبة السفر التي يأخذها معه.

بابتسامةٍ طفيفة مريرة تُوحي باشمئزازه من نفسه، عاد الطبيب إلى التأمل في كشك الكتب والصحف. كان يُطالع لافتة متوهِّجة تُعلن أنَّ كريسويل بلاك قد استحوذ على شركة «إف أند بي ريلواي». فاشترى صحيفةً وقرأ تفاصيل الخبر:

إننا ندرك أنَّ كل العقبات التي كانت تحُول دون دمج شركتي «فينسبري أند بيرست» و«نورث-إيست لندن ريلواي» لتشغيل القطارات قد تلاشَت مع وفاة السيد جورج واليسون، الرئيس الراحل لشركة «إف أند بي لاين». وكما تتذكرون، فإنَّ السيد واليسون قد مَرِض فجأة في أثناء وليمة في حي المال، وتُوفِّي متأثرًا بقصورٍ في القلب، بالرغم من وجود طبيب بين الحاضِرين. وقد أعرب السيد كريسويل بلاك، في أثناء ترؤُّسه اجتماعًا لشركة «نورث-إيست لندن ريلواي»، عن بالغ أسفه لأنَّ تحقيق خططه قد صار ممكنًا بسبب حادث مؤسف جدًّا كهذا.

طوى الطبيب إيسلي الصحيفة متأبطًا إياها، وسار على الرصيف نحو قطاره منهمكًا في التفكير.

كان الرجل القاعد إلى الطاولة ذات السطح الرخامي في مقهى «جريت كابتن» بقرطبة رجلًا ميسورًا خالي البال. كان جورج مانفريد رجلًا طويل القامة ذا لحية مشذبة وعينَين رماديتَين مُتجهمتَين كانتا تجوبان الشوارع في شرود فكأنه لا يعرف مُبتَغاه. كان يرتشف فنجانًا من القهوة، وينقر على الطاولة بيديه البيضاوين النحيلتين عازفًا نغمة صغيرة.

كان متشحًا بالسواد. وكانت عباءته طويلة ومبطنة بالمخمل الأسود، وكانت الياقة مكسوةً بالمادة نفسها. كان ملبسه تقليديًّا إلى حدٍّ كافٍ في قرطبة، ولربما كان إسبانيًّا بالرغم من عينيه الرماديتين.

كانت طريقة حديثه سليمة بلا أي أخطاء. كان يتحدَّث بلثغة أندلسية؛ مجتزئًا كلماته مثلما يفعل أهل الجنوب. كذلك تجلَّى دليل على أصله الجنوبي في رد فعله تجاه الشحاذ المُتأوِّه الذي جاءه يجر قدميه في ألم ومرارة، مادًّا يده ذات الأصابع المعوجة طلبًا للإحسان.

«باسم العذراء، والقديسين، والرب الذي هو فوق الجميع، أتوسل إليك يا سيدي أن تمنحني عشرة سنتيمات.»

اتجه الرجل ذو اللحية بعينيه الشاردتَين نحو راحة يده الممدودة.

ثم قال باللكنة العربية المميزة لمنطقة المغرب الإسباني: «سوف يُعطيك الرب.»

قال الشحاذ بنبرة رتيبة: «إنني لن أكف أبدًا عن الدعاء لفخامتك بالسعادة، حتى وإن عشتُ مائة عام.»

نظر ذو العباءة المبطَّنة بالمخمل إلى الشحاذ.

كان الشحاذ رجلًا متوسط الطول، حاد الملامح، طليق اللحية على غرار أمثاله، ومعصبًا بضمادات ثقيلة تغطي رأسه وإحدى عينيه. كان أعرج أيضًا تتجسد قدماه في كتل بلا شكل محدد من الضمادات الملفوفة، وكانت يداه الشاحبتان تقبضان بقوة على عصا. قال متأوهًا: «أيها السيد والأمير، بيني وبين آلام الجوع اللعينة عشرة سنتيمات، ولن تهنأ فخامتك بنومك وأنت تراني في خيالك أتقلَّب على جمر الجوع.»

ارتشف الرجل الجالس إلى الطاولة قهوته دون أن يحرك ساكنًا.

وقال: «اذهب في رعاية الرب.»

لم يزل الرجل يَتباطأ ويتلكَّأ.

راح ينظر يمنة ويسرة إلى الشارع المشمس بلا حول ولا قوة، ثم حدق في المقهى البارد المظلم من الداخل، حيث جلس نادلٌ إلى إحدى الطاولات يقرأ الجريدة دونما اكتراث لأي شيء. بعد ذلك مال إلى الأمام، ومد يده ببطء ليأخذ كسرة كعك من الطاولة المُجاوِرة.

سأل بلكنة إنجليزية بحتة: «أتعرف د. إيسلي؟»

بدا السيد المختال بنفسه الجالس إلى الطاولة مُستغرقًا في التفكير.

سأل باللغة نفسها: «لا أعرفه، لكن لماذا؟»

قال الشحاذ: «يجدر بك أن تعرفه؛ إنه شخص مثير للاهتمام.»

وانصرف يجرُّ قدميه بصعوبة عبر الشارع دون أن يزيد كلمة. وراح السيد يراقبه ببعض الفضول، ثم وقف فاردًا قامته التي كان طولها يزيد على ستِّ أقدام، وحرك عباءته قليلًا، ثم بدأ يمشي رويدًا في الاتجاه الذي ذهب منه الشحَّاذ.

لحق بالرجل الذي كان موجودًا في مقهى كال بارايزو واجتازه، ثم بلَغ أخيرًا جسر كالاهورا. وصل إلى منتصف الجسر، ومال من فوقه يراقب باهتمامٍ فاترٍ تلك المياهَ الصفراءَ المتلاطِمة في النهر الكبير.

رأى الشحاذ بزاوية عينه وهو يتقدَّم ببطء نحو البوابة ويسير في اتجاهه. وقد انتظر لوقت طويل؛ إذ كان الرجل يتقدم ببطء. وفي النهاية اقترب منه في حذر، وقبعته في يده وراحة يده ممدودة. كان سلوكه كسلوك الشحَّاذين، لكن صوته حين تكلم، كان صوت رجل إنجليزي مثقف.

قال في نبرة جادة: «مانفريد، لا بد أن ترى هذا الرجل المدعو إيسلي. لديَّ سبب خاصٌّ لطلبي ذاك.»

«من هذا الرجل؟»

ابتسم الشحاذ.

وقال: «إنني أعتمد على الذاكرة إلى حدٍّ كبير؛ إذ إنَّ المكتبة الموجودة في مسكني المتواضع محدودة إلى حد ما، لكن لديَّ فكرة محدودة أنه طبيب في إحدى ضواحي لندن، أو بالأحرى جراح ماهر.»

«ماذا يفعل هنا؟»

ابتسم جونزاليس — كان ذلك هو اسم الشحاذ — مجددًا.

«يوجد في قرطبة رجل يدعى د. كاجالوس. وهو رجل عجيب، يصنع معجزات لا تحلم بها في فلسفتك؛ فيعيد البصر إلى الكفيف، ويُسبِل تعاويذ على المذنبين، ويصنع أشربة الحبِّ المعصوم للأبرياء!»

أومأ مانفريد.

«لقد رأيته وأخذت مشورته.»

دُهِشَ الشحاذ بعض الشيء.

وقال وفي صوته نبرة إعجاب: «أنت رجل رائع يا جورج. متى فعلت ذلك؟»

ضحك مانفريد ضحكة خافتة.

«في إحدى الليالي، قبل بضعة أسابيع معدودة، حين وقف أحد الشحاذين أمام باب الطبيب المبجل ينتظر بصبرٍ ريثما يُنهي زائرٌ غامض، كان مُتخفِّيًا بالكامل، مهمتَه.»

قال الآخر مومئًا: «أذكر ذلك. كان غريبًا من رُندا، وكان لدي فضول لمعرفة أمره. هل رأيتني وأنا أتبعه؟»

قال مانفريد بجدية: «رأيتك. رأيتك بطرف عيني.»

سأل جونزاليس مُندهِشًا: «ألم يكن أنت؟»

قال الآخر: «كان أنا. لقد خرجت من قرطبة لأذهب إلى قرطبة.»

لاذ جونزاليس بالصمت لبرهة.

ثم قال: «سأتقبَّل الإهانة. والآن، بما أنك تعرف الدكتور، أترى أي سبب يدفع طبيبًا إنجليزيًّا عاديًّا إلى زيارة قرطبة؟ لقد قطع هذه المسافة كلها من إنجلترا على متن قطار الجزيرة الخضراء السريع، دون أن يتوقف في محطة واحدة. وسوف يُغادر قرطبة غدًا مع أول ضوء للنهار على القطار السريع نفسه، وسوف يأتي لاستشارة د. كاجالوس.»

تساءل مانفريد قائلًا: «هل أرسل بويكارت أي رسالة؟»

«بويكارت هنا؛ فهو شديد الاهتمام بأمر هذا المدعو إيسلي، حتى إنه سيأتي إلى قرطبة خلسة بصحبة بيدكير، سعيًا للحصول على معلومات بشأن هذا المرشد الرحَّالة، وسيستسلم في خنوع لأخطائه.»

مسَّد مانفريد على لحيته الصغيرة، وفي عينيه الحكيمتَين التعبير التأملي الجاد نفسه الذي ارتسم فيهما عندما شاهد جونزاليس آتيًا يجرجر قدميه من مقهى دي لا جران كابيتان.

تحدث قائلًا: «كانت الحياة لتصبح مملة بدون بويكارت.»

ستكون مملة حقًّا. آه يا سيدي، لأقضين عمري في الثناء عليك، ولسوف يَرتفع في الهواء مثلما يرتفع دخان البخور المقدَّس إلى عرش السماء.»

وفجأة تخلَّى عن أنينه؛ إذ كان ثمة شرطي من حرس المدينة يقترب نحوهما؛ لاشتباهه في الشحاذ الذي وقف بيد ممدودة في ترقب الإحسان.

هز مانفريد رأسه بينما كان الشرطي يجوب الأرجاء مُتمهِّلًا.

ثم قال: «اذهب في سلام.»

قال الشرطي ويده الغليظة تنقض على كتف الشحاذ: «كلب. لص ابن لص، اذهب حتى لا تؤذي أنف هذا السيد المرموق برائحتك.»

ووقفَ يُراقب الرجل وهو يعرج مبتعدًا، واضعًا يديه حول خاصرتَيه، ثم التفت إلى مانفريد.

تحدث بحدة فقال: «لو كنت رأيت هذا الحثالة من قبل يا صاحب الفخامة، لأرحتك من رفقته.»

قال مانفريد بأسلوب تقليدي: «لا عليك.»

سار الرجل بجواره حتى نهاية الجسر، حيث وقفا يتسامَران بالقُرب من المدخل الرئيس للكاتدرائية.

تساءل الشرطي: «فخامتك لستَ من قرطبة، أليس كذلك؟»

قال مانفريد دون تردُّد: «أنا من مالقة.»

أسرَّ إليه الشرطي قائلًا: «كان لي أخت متزوِّجة من صياد من مالقة.»

اكتفى مانفريد بإيماءة؛ إذ كان مُهتمًّا بمجموعة من السائحين كان أحد المرشدين يُريهم أمجاد بويرتا ديل بيردون.

انفصل أحد السائحين عن رفقتِه واتجه نحوهما. كان رجلًا متوسِّط الطول ذا بِنية جسدية قوية. كان ثمَّة تحفظ غريب في سيمائه وهدوء كئيب في قسمات وجهه.

تساءل بلغة إسبانية ركيكة: «هلا أرشدتُماني إلى ساحة باسيو دي لا جران كابيتان؟»

قال مانفريد في دماثة: «ذاك طريقي. إن تفضل السيد بمرافقتي …»

قال الآخر: «سأكون ممتنًّا لك.»

رفعا قبعتيهما تحيةً للشرطي، كان مانفريد قد رفعها بسلاسة، بينما رفعها الآخر ببعض الارتباك، وانطَلَقا.

أخذا يَتحادثان قليلًا حول موضوعات متنوعة، ما بين الطقس والطابع المبهج للمسجد-الكاتدرائية.

قال السائح فجأة: «لا بدَّ أن تأتي وتقابل إيسلي.» وكان يتحدَّث حينها بإسبانية مُمتازة.

قال مانفريد: «حدثني عنه؛ فالحقُّ أنك قد أثرتَ فضولي يا عزيزي بويكارت.»

قال الآخر بجدية: «إنها مسألة مهمَّة. إيسلي طبيب في إحدى ضواحي لندن. لقد وضعته تحت المراقبة لبضعة أشهر. إنَّ لديه عيادة صغيرة — بل صغيرة للغاية في الواقع — ويُشرف على علاج بضع حالات. ليس لديه نشاط ذو أهمية في ضاحيته، وقصته غريبة.

لقد كان طالبًا في كلية لندن الجامعية، وفور حصوله على شهادته الجامعية غادَرَ إلى أستراليا برفقة شابٍّ يُدعى بلاك. كان بلاك فاشلًا ميئوسًا منه وكان يعاني بشدةٍ في اختباراته، غير أنَّ الاثنين سرعان ما تصادقا، وهو ما قد يُفسِّر رحيلهما معًا ليُجرِّبا حظهما في بلد جديد. لم يكن لأيٍّ منهما أيُّ أقارب على الإطلاق.

فور وصولهما إلى ملبورن، انطلق الاثنان عبر البلاد وهما يعتزمان التوجُّه إلى مناجم الذهب الجديدة التي كانت في أوجِ ازدهارها آنذاك. لا أدري موقع هذه المناجم، غير أنَّ إيسلي لم يَصِل إلا بعد ثلاثة أشهر على أيِّ حال، وقد وصَل بمفرده؛ إذ قيل إنَّ رفيقه قد تُوفِّيَ في الطريق. ومن المستحيل أن تكون تلك الأقاويل صحيحة؛ لأنَّ بلاك ظهر مجددًا في نهاية المطاف بعدما اختفى تمامًا.

ولا يَبدو أنَّ إيسلي قد بدأ في ممارسة مهنتِه لثلاث سنوات أو أربع؛ إذ يُمكننا تتبُّع تنقُّلاته من معسكر تنقيبي إلى آخر، حيث نقب قليلًا وقامَرَ كثيرًا، وكان معروفًا في العموم باسم د. إس؛ لعله اختصار لإيسلي. ولم يحاول أن يؤسِّس سمعته كطبيب حتى وصوله إلى أستراليا الغربية. كان لديه شيء أشبه بالعيادة، صحيح أنها لم تكن راقية بالدرجة الكافية، لكنها كانت مربحة بلا شك. اختفى من مدينة كولجاردي في عام ١٩٠٠. ولم يُعاوِد الظهور في إنجلترا حتى عام ١٩٠٨.» كانا قد وصلا إلى الساحة في ذلك الوقت، وكانت الشوارع أكثر ازدحامًا مما كانت عليه حين تبعَ مانفريد الشحَّاذ.

قال مانفريد: «لديَّ شقة هنا. تفضل بالدخول لنَحتسيَ بعض الشاي.»

كان يسكن شقة تقع فوق محلِّ مَصُوغات في كال موريرا. وكانت شقة فخمة جيدة التأثيث. وبينما كان مانفريد يُدخل المفتاح في الباب، تابع موضِّحًا: «وهي مُميزة على نحو خاصٍّ فيما يتعلَّق بالإضاءة.» ووضع غلاية شاي فضِّية على الموقد الكهربائي.

تساءل بويكارت: «الطاولة معدة لاثنين؟»

قال مانفريد بابتسامة خفيفة: «غالبًا ما يأتيني زوار. أحيانًا تُصبح مهنةُ التسول عبئًا لا يُحتمل لصديقنا ليون، ويدخل إلى قرطبة عبر السكة الحديدية، بصفته عضوًا مرموقًا من أعضاء المُجتمَع وكله رغبة في الاستمتاع برفاهيات الحياة، وبالقصص. فلتُكمل قصتك يا بويكارت؛ فأنا متشوِّق لسماعها.»

جلس «السائح» في مقعد وثير ذي ذراعين.

تساءل: «إلى أين وصلت؟ آه، نعم، اختفى د. إيسلي من كولجاردي، وبعد اختفاء دام ثمانية أعوام، عاد للظهور في لندن.»

«هل أحاطت بظهوره أيُّ ظروف استثنائية؟»

«كلا، كان الأمر عاديًّا تمامًا. يبدو أنَّ النسخة الأحدث من نابليون قد تبنَّته؛ أي ذلك الرفيق ذاته الذي أُعلِن عن وفاته، لكنه كان حيًّا يُرزق.»

سأله مانفريد رافعًا حاجبيه: «أتقصد كريسويل بلاك؟»

أومأ بويكارت برأسه بالإيجاب.

ثم قال: «بالضبط. على أيِّ حال، يبدو أنَّ إيسلي يَنعم برغد من العيش، بفضل الحالات التي استطاع سرقتها من الممارسين الآخرين في ضاحيته — في مكان ما في حي فوريست هيل — والحالات التي تأتيه بتزكية من نابليون. لقد جذب انتباهي لأول مرة …»

في تلك اللحظة سُمع طرق على الباب، ورفع مانفريد إصبعه محذرًا. اجتاز الغرفة وفتح الباب. كان حارس البناية واقفًا أمامه، وفي يده قبعة؛ وكان هناك من خلفه على مسافة قصيرة بالأسفل، شخص غريب، وكان واضحًا أنه إنجليزي.

قال الحارس: «يوجد سيد يرغب في لقاء فخامتك.»

قال مانفريد مخاطبًا الغريب بالإسبانية: «مرحبًا بك في منزلي.»

قال الغريب الواقف على السلم: «يؤسفني أنني لا أتحدث الإسبانية جيدًا.»

سأله مانفريد بالإنجليزية: «هلا صعدت؟»

فصعد الآخر السلم بتؤدة.

رجال العدالة الأربعة

كان رجلًا في العقد السادس من العمر. كان شعرُه رماديًّا طويلًا، وحاجباه كثيفين وأشعثين، وكان فكُّه السُّفلي بارزًا، مما أضفى على وجهه مظهرًا منفرًا بعض الشيء. كان يرتدي معطفًا طويلًا ويحمل في يده المكسوة بقفاز قبعة ناعمة ذات حواف عريضة.

أخذ يحدق عبر الغرفة محولًا بصره من أحدهما إلى الآخر.

قال: «اسمي إيسلي. إيسلي.» كرر الاسم وكأنه يستمد بعض الرضا من التكرار، ثم أردف قائلًا: «د. إيسلي.» أشار له مانفريد بالجلوس، لكنه هز رأسه رافضًا.

قال بنبرة حادة: «سوف أقف؛ فحين يكون لديَّ مهمة أظل واقفًا.»

ونظر بارتياب إلى بويكارت.

ثم قال بنبرة تأكيدية: «لديَّ مُهمة خاصة.»

قال مانفريد: «لديَّ ثقة كاملة في صديقي.»

أومأ إيسلي بالموافقة كرهًا.

قال: «أعلم أنك عالم ورجل على دراية كبيرة بإسبانيا.»

هز مانفريد كتفيه؛ فقد كان بصفته الحالية يشتهر بكونه أديبًا شبه علمي، وكان قد نشر كتابًا عن «الجريمة العصرية» تحت اسم «دي لا مونت».

قال الرجل: «وفي ظل معرفتي هذه، جئت إلى قرطبة؛ لا سيما وأنَّ لديَّ مُهمة أخرى أيضًا، لكنها ليست ملحة.»

راح يبحث حوله عن كرسي، فقدم له مانفريد واحدًا هوى فيه، مديرًا ظهره إلى النافذة.

تحدث الطبيب بتروٍّ شديد وقد مال إلى الأمام، ووضع يديه على ركبتيه: «سيد لا مونت، إن لديك قدرًا من المعرفة بالجريمة.»

قال مانفريد: «لقد ألَّفتُ كتابًا عن هذا الموضوع، غير أنَّ ذلك لا يعني ما تقول بالضرورة.»

قال الآخر بصراحة مباشرة: «كان لديَّ هذا التخوف. وكنت أخشى أيضًا ألا تكون متقنًا للإنجليزية. والآن أريد أن أسألك سؤالًا واضحًا، وأريد منك إجابة واضحة.»

قال مانفريد: «سأكون مستعدًّا تمامًا لذلك قدر استطاعتي.»

لوى الطبيب قسمات وجهه في توتر، ثم قال:

«هل سمعت من قبل عن رجال العدالة الأربعة؟»

خيم صمت وجيز.

قال مانفريد بهدوء: «نعم، سمعت عنهم، ولكن ألم يَصيروا الآن ثلاثة فقط؟ لقد قُتل أحدهم، ألا تتذكر؟»

«هل هم في إسبانيا؟»

طُرح السؤال بنبرة حادة.

قال مانفريد: «ليس لديَّ معلومةٌ دقيقة عن ذلك. لماذا تسأل؟»

قال الطبيب مترددًا: «لأن … آه حسنًا أنا مُهتمٌّ بالأمر. يقال إنهم يكشفون الجرائم التي لا يُعاقب عليها القانون؛ إنهم، إنهم يمارسون القتل، صحيح؟»

صارت نبرة صوته أكثر حدة، وضاق جفناه إلى أن صار يجول ببصره من أحدهما إلى الآخر عبر شقين ضيقين.

قال مانفريد: «إن مثل هذا التنظيم معروف وجوده، ومن المعروف أنهم يُصادفون جريمة لا تخضع للعقاب، وينزلون العقاب بمُرتكبِها.»

«أيصلون حتى إلى … إلى القتل؟»

قال مانفريد بجدية: «يصلون حتى إلى القتل.»

انتفض الطبيب واقفًا في غضبٍ شديدٍ وطوح يديه محتجًّا: «ويفلتون دون عقاب! يفلتون دون عقاب! وجميع رجال القانون بالأمم كافَّة لا يُمكنهم الإيقاع بهم! لقد نصبوا أنفسهم قضاة؛ من هم ليُحاكِموا الناس ويُدينوهم؟ من أعطاهم الحق للجلوس على منصة القضاء؟ يوجد قانون، وإذا احتال عليه أحدهم …»

وفجأة كبح جماح نفس، وهز كتفيه، وهوى في مقعدِه بقوة مرة أخرى.

ثم قال بأسلوب فظ: «إنَّ المعلومات التي استطعت الحصول عليها عن هذا الموضوع حتى الآن تفيد بأنَّ هؤلاء الرجال قد توقفوا عن ممارسة نشاطهم؛ فهم خارجون على القانون، وتُوجَد أوامر قضائية بضبطهم في كل بلد.»

أومأ مانفريد.

وقال في لطف: «هذا صحيح تمامًا. أما كونهم لا يزالون يمارسون نشاطهم أم لا، فهذه مسألة لن يكشف عنها إلا الوقت.»

تلوَّى د. إيسلي في كرسيه في غير ارتياح. كان من الجليِّ أن المعلومات أو التأكيد الذي توقع الحصول عليه من هذا الخبير المتخصِّص في الجرائم لم يكن مُرضيًا تمامًا له.

تساءل قائلًا: «وهم في إسبانيا؟»

«هذا ما يُقال.»

قال الطبيب في استياء: «إنهم ليسوا في فرنسا، وليسوا في إيطاليا، وليسوا في روسيا، ولا في ألمانيا؛ فلا بد إذن أنهم في إسبانيا.»

راح يُجيل فكره في الأمر لبعض الوقت في صمت.

قال بويكارت، الذي كان مستمعًا صامتًا حتى الآن: «معذرة، لكن يبدو أنك مُهتم بهؤلاء الرجال أبلغ الاهتمام. هل سيُزعجك إذا طلبت منك، إرضاءً لفضولي، أن تُخبرني بالسبب وراء لهفتك لمعرفة مكانهم؟»

قال الآخر سريعًا: «الفضول أيضًا؛ فأنا دارس مُتواضع لعلم الجريمة نوعًا ما، مثل صديقنا لا مونت.»

قال مانفريد بنبرة هادئة: «بل طالب مُتحمِّس.»

قال إيسلي غير مبالٍ بالتأكيد المعبِّر في نبرات صوت الآخر: «كنت أتمنى لو أنك استطعت تقديم المساعدة؛ فأنا لم أعلم عنهم شيئًا بخلاف حقيقة أنهم قد يكونون في إسبانيا، وهي في النهاية محض فرض.»

قال مانفريد وهو يُرافق ضيفه إلى الباب: «ربما حتى لا يكونون في إسبانيا؛ ربما لا يكون لهم وجود أصلًا؛ ربما تكون مخاوفك لا أساس لها تمامًا.»

قطَّب الطبيب وشحبَت شفتاه، وقال وأنفاسه تتلاحق: «مخاوف؟ هل قلت مخاوف؟»

ضحك مانفريد بلا اكتراث قائلًا: «آسف! ربما لا تكون إنجليزيتي جيدة.»

تساءل الطبيب في نبرة عدوانية: «لماذا أخشاهم؟ لماذا؟ إنك تنتقي كلماتك برعونة شديدة يا سيدي. ليس لديَّ ما يجعلني أخشى رجال العدالة، ولا أي شيء آخر.»

ووقف يلهث عند المدخل كرجل حُجب عنه الهواء على حين غرة.

تمالك نفسه بصعوبة، وتردد للحظة، ثم غادر الغرفة بانحناءة بسيطة متصلبة.

نزل على السلم، ومنه إلى الشارع، ثم عرج إلى ساحة باسيو.

كان هناك شحاذ على الناصية يَرفع يدًا واهنة.

قال متأوِّهًا: «لأجل الرب …»

سدد إيسلي ضربة ليد الشحَّاذ بعصاه وهو يسب، لكنها لم تُصِب؛ إذ كان الشحاذ سريعًا على نحو فريد، ففي ظل كل المشاقِّ التي كان متأهبًا لمواجهتها، لم يكن لدى جونزاليس أي رغبة لتحمُّل كدمة أو خياطة جراحية في يده؛ فقد كانت هاتان اليدان المرهَفَتان هما كل ما يَمتلكه جونزاليس.

سلك الطبيب طريقًا موحشًا متوجهًا إلى فندقه.

عند وصوله إلى غرفته، أغلق الباب وألقى بنفسه على كرسيٍّ ليفكر. أخذ يَلعن حماقته؛ فقد كان جنونًا منه أن يفقد أعصابه، حتى وإن كان ذلك أمام شخص في تفاهة هاوٍ إسباني في مجال العلوم.

وهكذا انتهى النصف الأول من مهمَّته بالفشل. أخذ من جيب مِعطفه الذي كان معلقًا خلف الباب كتيبًا سياحيًّا إسبانيًّا. وأخذ يقلب أوراقه حتى وصل إلى خريطة لقرطبة. وكان ملحقًا بها خريطة أصغر، بدا واضحًا أن مَن وضعها شخص يعرف تضاريس المكان.

كان قد سمع عن د. كاجالوس من أناركي إسباني كان قد قابله في بعض جولاته الليلية الاستطلاعية في لندن. وتحت تأثير نبيذ من نوع جيد، أضفى هذا الرجل الجريء على ساحر قرطبة صفات هي أقرب إلى القوى الإعجازية، وقال أيضًا أشياء أثارت اهتمام الطبيب إلى درجة بالغة. أعقب ذلك رسالة، وكانت النتيجة هي هذه الزيارة.

نظر إيسلي إلى ساعة يده. كانت عقاربها تُشير إلى السابعة تقريبًا. سوف يَتناول عشاءَه، ويذهب إلى غرفته ويستبدلُ ثيابه.

أصلح هندامه على عجل في ظلام الغرفة الآخذ في التزايد — والغريب أنه لم يشعل نور الغرفة — ثم ذهب لتناول العشاء.

اتَّخذ لنفسه طاولة، ودفن وجهه في مجلة إنجليزية أحضرها معه. في أثناء القراءة، كان يُدوِّن ملاحظات من آن لآخر في مفكرة صغيرة تقبع على الطاولة بجوار طبقه. لم تكن لهذه الملاحظات أي صلة بالمقال الذي كان يقرؤه، ولم تكن لها سوى صلة محدودة بالطب؛ فقد كانت تتناول في العموم جوانب مالية معيَّنة لمعضلةٍ خطرت بباله.

فرغ من عشائه، وراح يَتناول قهوته على الطاولة، ثم نهض، ووضع المفكرة الصغيرة في جيبه والمجلة تحت ذراعه، وعاد أدراجه إلى غرفته. أضاء النور، وأسدل الستائر، وسحب مزينة خفيفة تحت المصباح. أبرز المفكِّرة مرة أخرى من جيبه، وبالاستعانة بعدد من الأوراق كان محتواها متلاصقًا للغاية أخذها من حقيبته، استطاع تجميع جدول صغير. وظل مُنهمكًا في ذلك تمامًا لقرابة ساعتين.

وكأن ساعةً مُنبِّهة خفية وغير مسموعة قد نبهته إلى انهماكه ذاك، أغلق المفكرة، ووضع مذكراته في الحقيبة، وارتدى معطفه. وغادر الفندق معتمرًا قبعة ناعمة من اللِّبْد منسدلة على عينيه، وبدون تردد اتخذ الطريق المؤدي إلى جسر كالاهورا. كانت الشوارع التي اجتازها وصولًا إلى وجهته مهجورة، لكنه لم يتردَّد للحظة في اختيار طريقه؛ إذ كان يعرف جيدًا ما تتسم به هذه الضواحي الإسبانية الصغيرة المُفتقِرة إلى أي جاذبية من التزام بالقوانين.

خاض في متاهة من الشوارع الضيقة — وكانت دراسته للخريطة قد قدمت له نفعًا كبيرًا — ولم يتردَّد إلا حين وصل إلى زقاق كان أكثر اتساعًا ورحابة من الشارع الذي تفرع منه. ازداد المكان كآبة بوجود مصباح زيتي واحد في الطرف الأقصى من الشارع. وتراصَّت على كلا الجانبين بيوت عالية بلا نوافذ، قد حُفر في كل منها باب. وبعد لحظة من التردُّد، طرق الطبيب مرتين على الباب الواقع إلى يساره.

فُتح الباب في الحال دون أي ضجيج، مما جعله يتردَّد.

جاء صوت من الداخل يتحدث بالإسبانية قائلًا: «ادخل. لا داعيَ للخوف يا سيد.»

دلف وسط الفراغ الحالك، وأُغلق الباب من خلفه.

قال الصوت: «من هذا الاتجاه.»

استطاع وسط الظلام الحالك أن يتبيَّن جسدًا غير واضح لرجل ضئيل البِنية.

قال الصوت ضاحكًا: «لقد انطفأ المصباح. لا شكَّ أن الأرواح هي مَن أطفأته.»

وضحك مجددًا.

قال: «إنَّ الأرواح والأشباح كثيرة هنا. لقد تحدَّثتُ إلى العديد منها في هذا المكان. إنها لطيفة ومطيعة للغاية، لكنها تُقلق الغرباء. انظر!» توقف عن الحديث فجأة وأمسك بذراع الآخر ثم همس قائلًا: «انظر! تلك روح شخص قد مات بالسم. إنه هو، هو!» قهقه بصورة مُثيرة للرعب، وشعر إيسلي برجفة تسري في جسده. وتابع الرجل الضئيل قائلًا: «إنه شيطان أخضر! وهو حزين للغاية. تلك هي سِمَة الشياطين الخضر؛ لا يتقافزون ويتواثبون مثل نظرائهم، بل يجرجرون أقدامهم ويذرفون دموعًا غزيرة. يا إلهي!» وأردف متمتمًا: «لم البكاء وقد ماتوا ميتة سهلة؟»

قال إيسلي بصوت أجش: «أستحلفك بالرب ألا تتحدث هكذا!»

قال الآخر: «لا يجب أن تنزعج.» وصلا إلى منزل لم يكن واضحًا وسط الظلام، وسمع الطبيب صوت مفتاح في القفل وسمع صوت طقطقته وهو يدور بداخله، «ادخل يا صديقي.»

دلف الطبيب وأخذ يمسح قطرات العرق من على جبينه خلسة. أشعل العجوز مصباحًا، وراح يتفحَّصه بعناية. كان ضئيلًا للغاية، لا يزيد طوله عن أربع أقدام إلا قليلًا. كانت له لحيةٌ بيضاء شعثاء، ورأس أصلع كبيضة. كان وجهه متسخًا وكذلك يداه، وكان مظهره بالكامل يوحي بوجود جفاء بينه وبين الماء.

استقرَّت عيناه السوداوان اللامعتان في غور رأسه، وكانت التجاعيد المحيطة بهما توحي بأنه رجل تحرَّى الجانب المَرِح في الحياة. كان هذا هو د. كاجالوس، أحد مشاهير إسبانيا، غير أنه لم يحظ بمكانة اجتماعية بارزة.

كانت الغرفة التي كانا فيها رحيبة وعالية الجدران. وكان أثاثها مهترئًا؛ فعلى طاولة كبيرة، قبعت مقطرة معوجة مهملة، كما كان هناك عدد لا يحصى من أنابيب الاختبار، والموازين، وأكواب المعايرة المدرجة في مراحل متنوعة من الاتساخ.

قال كاجولوس: «اجلس. سوف نتحدث في هدوء؛ إذ إنَّ لديَّ في الغرفة المجاورة سيدة من الطبقة الراقية في انتظار مقابلتي بشأن علاقة حب مفقودة.»

اتخذ إيسلي موضعه في الكرسي الذي قدمه له، بينما جلس الطبيب على مقعد طويل بجوار الطاولة. كانت هيئة غريبة تلك التي اتخذها بساقيه الضئيلتَين المتدليتين، ووجهِه العجوز، ورأسه الأصلع اللامع.

استهل الطبيب الحديث قائلًا: «كنت قد كتبت إليك بشأن بعض الظواهر الغامضة.» لكن العجوز قاطعه بإشارة سريعة من يده.

وقال: «لقد أتيت لمقابلتي يا سيدي بشأن العقار الذي قمت بتحضيره؛ مستحضر الفيسوستيموناين.»

هب إيسلي واقفًا.

قال متلعثمًا: «أنا، أنا لم أخبرك بذلك.»

قال الآخر بنبرةٍ جدية: «أخبرني الشيطان الأخضر. إنني أتحدث كثيرًا مع الشياطين الحزينة، وهي تتحدَّث بصدقٍ شديد.»

«ظننتُ أن …»

قال العجوز: «انظر.» وقفز من مجلسه العالي بخفة ورشاقة، ثم توجه إلى الجانب المظلم من إحدى الغرف حيث كانت هناك بعض الصناديق. سمع إيسلي صوت شغب، وسرعان ما عاد العجوز حاملًا في يده أرنبًا من أذنَيه وهو يتلوَّى.

بيده الخاوية نزع سدادة زجاجة خضراء صغيرة على الطاولة، ثم التقط ريشة من فوق الطاولة، وغمس طرفها بحذر في الزجاجة. بعد ذلك، لامس أنف الأرنب بطرف الريشة في حذر وخفة بالغين، حتى إنَّ الريشة لم تكد أن تمسَّ أنف الأرنب. وفي الحال، ودون أي مقاومة، صار الارنب يترنَّح ويعرج وكأن جوهر الحياة قد انسحب من الجسد. أعاد كاجالوس السدادة إلى موضعها ووضع الريشة في نيران خافتة أشعلها في وسط الغرفة بواسطة الفحم.

قال باقتضاب: «الفيسوستيموناين هو تركيبة من ابتكاري.»

ووضع الأرنب النافق على الأرض تحت قدمي الآخر.

قال في تباهٍ: «سيدي، سوف تأخذ الأرنب معك وتفحصه؛ سوف تخضعه لاختبارات لا نهاية لها، لكنك لن تكتشف المادة القلوية التي قتلته.»

قال إيسلي: «ليس ذلك صحيحًا؛ فسيكون هناك انقباض لبؤبؤ العين، وهي علامة ثابتة لا تتغير.»

قال العجوز بنبرة انتصار: «ابحث أيضًا عن ذلك.»

أجرى إيسلي الاختبارات الظاهرية ولم يجد حتى لتلك العلامة الثابتة أي أثر.

كان ثمَّة جسد بلا ملامح واضحة يَلتصِق بقوة إلى الجدار بالخارج يرهف السمع. كان واقفًا بجوار النافذة الموصدة. كان معه أنبوب صغير من المطاط المكبرت به مستقبل مكبر للصوت مثبت بأذنه، وكان المطاط الذي يغطي طرف الأنبوب، ذا الشكل الجرسي، مثبَّتًا بمصراع النافذة.

ظل واقفًا على هذا الحال لنصف ساعة بلا حراك، ثم انسحَبَ في هدوء واختفى وسط ظلال بستان البرتقال الذي كان يَنمو في وسط الحديقة الطويلة.

وفي الأثناء فُتح باب المنزل، وبواسطة مصباح في يده، أنار كاجالوس لضيفه الطريق إلى الشارع.

ضحك العجوز قائلًا: «إن الشياطين أكثر اخضرارًا من أي وقت مضى. وي، سوف يكون هناك أحداث ومجريات يا أخي!»

لم ينبس إيسلي بكلمة. كان كل ما يريده هو العودة إلى الشارع مجددًا. وقف واجفًا في جَزَعٍ مُمتزج بالتوتر، بينما كان العجوز يفتح مزلاج الباب الثقيل، وحين انفتح، اندفع نحو الشارع.

قال: «إلى اللقاء!»

قال العجوز: «صحبتك رعاية الرب.» وانغلق الباب بهدوء.

سجل الموت

كان اسم «كريسويل بلاك» بارزًا للغاية في أوساطٍ معيَّنة، بينما لم يُذكَر قَط في أوساطٍ أخرى؛ إذ لم يكن أقطاب المال والأعمال في المدينة — مثل آل فارينج وآل فيرتهاينر وآل سكوت-تيسون — على درايةٍ رسمية بوجوده.

كانوا يقرءون عن كريسويل بلاك بأسلوبهم الجِدِّي الرصين؛ إذ كان ذكره يهيمن أحيانًا على المقالات المتعلقة بالشئون المالية. كانوا يقرءون عن صفقاته العظيمة في مجال الأوراق المالية، وعن صفقته مع إحدى شركات الكهرباء الأرجنتينية، وتمويله شركات المطاط بطرح أسهمها للبيع، ومناجم النحاس الكندية التي يملكها. كانوا يقرءون عنه، بغير استحسان ولا استنكار، وإنما كانوا يعاملونه باهتمامٍ فاتر كذلك الذي يحمله مُحرِّك قطار تجاه سيارة.

جاء بلاك إلى حيِّ المال في لندن في عصر أحد الأيام لحضور اجتماع مجلس إدارة. وقد كان خارج المدينة طوال الأيام القليلة السابقة؛ إذ استبق بتجنيد أفراد جدد من أجل الصراع الذي كان ينتظره، كما قال لمجلس الإدارة بلمسةٍ من الفكاهة.

كان رجلًا متوسط القامة عريض الكتفين. وكان وجهه نحيلًا هزيلًا، وبشرته شاحبة قد كساها اصفرار متجانس غريب. وإذا رأيتَ الكولونيل بلاك مرَّة، فإنك لن تنساه أبدًا، وليس ذلك بسبب وجهه الأصفر أو حاجبه الأشبه بشريطٍ أسود مستقيم أو فمه ذي الشفتين النحيلتين فقط، لكنَّ شخصية الرجل نفسها كانت تترك انطباعًا لا يُمحى في ذهنِ مَن يراه.

كان يتصرف بسرعة وعلى نحو مُباغت، وكانت ردوده فظَّة. أما قراراته، فكانت تتسم بطابعٍ حاسم. وإذا لم يكن أقطاب حيِّ المال يعرفونه، فقد كان الآلاف غيرهم يعرفونه؛ إذ كان اسمه ذائع الصيت في إنجلترا، وكانت جميع عائلات الطبقة الوسطى بأكملها تقريبًا تحمل بعضًا من الأسهم التي كان يطرحها. كان «مُضاربو الشوارع» الصغار يُصغون إلى كلامه باهتمامٍ بالغ، وكان عدد المتقدمين لشراء الأسهم التي يُصدرُها يبلغ ضِعفَ الأسهم المطروحة. لقد رسَّخ وضعه في خمس سنوات، وبعدما كان مغمورًا من قبل، بَلَغ أعلى المكانات شأنًا في هذه المدة القصيرة.

وفي الموعد المُحدَّد بالدقيقة، دَخَل غرفة الاجتماعات في جناح المكاتب الذي كان يشغله في شارع «مورجيت ستريت».

وكان الاجتماع عُرضةً لأن يكون عاصفًا. فمرَّةً أخرى، كان الحضور يستشعرون رائحة دَمجٍ يلوح في الأجواء، ومرَّة أخرى، عارَض رئيس مجموعةٍ من مديري مصانع الحديد — وهي ائتلافٌ لشركات إنتاج الحديد كان يُشكِّله — تهديدات بلاك ومبعوثيه ومداهناتهم.

قال فانكس: «الآخرون يَضعُفُون، وأنت وعدتني بأنَّك ستُفهِّم ساندفورد حقيقة الوضع.»

فقال بلاك بإيجاز: «سأفي بوعدي.»

«لقد كان ويديسون مُصِرًّا على معارضتنا، لكنَّه مات. لا يُمكننا تعليق آمالنا على مساعدة العناية الإلهية طوال الوقت.»

خفَض بلاك حاجبيه.

وقال: «لا أحب هذا النوع من النكات. ساندفورد رجلٌ عنيد ومُتغطرس؛ إنَّه يحتاج إلى معاملةٍ دقيقة خاصة. سأتولى أنا أمره.»

انفض الاجتماع على نحو غير مرضٍ، وكان بلاك يغادر الغرفة حين استدعاه فانكس بإشارةٍ منه.

قال له: «بالمناسبة، التقيت البارحة رجلًا كان يعرف صديقك الطبيب إيسلي في أستراليا.»

«حقًّا؟»

كان وجه كريسويل بلاك خاليًا من أيِّ تعبير.

«نعم، كان يعرفه في أيام صباه. وقد أخبرني عن المكان الذي يستطيع أن يجده فيه.»

هزَّ الآخر كتفيه.

«إيسلي خارج البلاد، أظنُّك لا تحبه، أليس كذلك؟»

فأومأ أوجستس فانكس برأسه.

وقال: «لا أحبُّ الأطباء الذين يزورونني في منتصف الليل، ولا أجدهم حين أحتاج إليهم، ودائمًا ما يتجوَّلون في أنحاء القارة بغرض التسلية.»

فدافع عنه بلاك قائلًا: «إنَّه رجل مشغول. بالمناسبة، أين يمكث صديقك؟»

«إنَّه ليس صديقي، هو مُنقِّبٌ يُدعى ويلد، وقد جاء إلى لندن بمقترحٍ لاستخراج المعادن. ويمكث في فندق «فيرليتس تمبيرانس» في حيِّ بلومزبري.»

قال بلاك مومئًا برأسه: «سأخبر إيسلي حين يعود.»

عاد إلى مكتبه الخاص مستغرقًا في التفكير. لم تكن حال كريسويل بلاك على ما يرام. لقد كان يُذاع عنه أنه من أصحاب الملايين، لكنَّه كان في حقيقة الأمر بمثابة واحد من أولئك الممولين الكثيرين الذين كانوا يعُدُّون ثروتهم بالأوراق. وكان حتى هذه اللحظة كَمَن يتسلَّق؛ فالثروة المادية الحقيقية كانت ما تزال بعيدة عن متناوله. صحيحٌ أنَّه كان يُنظِّم عمليات دمجٍ ناجحة بين الشركات، لكنَّه تحمل في سبيل ذلك تكلفة باهظة. فكانت الملايين تتدفَّق عَبر يديه، ولا يتبقى منها في قبضته سوى أقل القليل.

كان مستغرقًا في أحلام يقظةٍ مُزعِجة، حين انتشلته منها قَرعةٌ على الباب. فُتِح الباب إيذانًا لفانكس بالدخول.

عَبَس بلاك في وجه ذلك المتطفل، لكنَّ الآخر سَحَب كرسيًّا وقَعَد عليه.

ثم قال: «أصغِ إليَّ يا بلاك، أريد أن أقول لك شيئًا.»

«قُله بسرعة.»

فأخذ فانكس سيجارًا من جيبه وأشعله.

ثم قال: «مسيرتك المهنية مُدهِشة. أتذكَّر حين بدأت مسيرتك بمحلِّ مُضاربةٍ غير قانوني في مبنى «كوبتهول هاوس».» ثم استدرك على عَجَلٍ حين لمح الغضب يتصاعد في وجه الآخر: «حسنًا، دعنا لا نُسمِّيه محلَّ مُضاربة غير قانوني، بل مكتب سمسار تداوُل أوراق مالية غير تابع للبورصة. وكان لديك شريكٌ مُغفَّل، أقصد قليل الخبرة، أسهَم برأس المال.»

«نعم.»

«وقد مات فجأة، أليس كذلك؟»

قال بلاك باقتضاب فظ: «أعتقد ذلك.»

فقال فانكس ببطء: «العناية الإلهية مرَّة أخرى. ثم استحوذتَ على الشركة كلها. لقد استحوذتَ على عملية طرح الأسهم وإحدى شركات المطاط، ونجحت هذه الشركة. حسنًا، ثم طرحتَ أسهم منجم قصدير، أو شيء من هذا القبيل، للبيع. ووقعَتْ حالة وفاة، أليس كذلك؟»

«أعتقد ذلك، لقد تُوفِّيَ أحد المديرين، لكنِّي نسيت اسمه.»

أومأ فانكس.

«كان بإمكانه إيقاف طرح الأسهم للبيع؛ إذ كان يُهدد بالاستقالة وفضحِ بعض أساليبك.»

«لقد كان رجلًا عنيدًا جدًّا.»

«وقد مات.»

«نعم» سكت هنيهةً ثم أضاف: «مات.»

كان فانكس ينظر إلى الرجل القاعد أمامه.

قال: «وكان د. إيسلي يشرف على حالته.»

«أعتقد ذلك.»

«ومع ذلك مات.»

فاتَّكأ بلاك على المكتب، وسأله: «ماذا تقصد؟»

قال فانكس: «لا شيء، سوى أنَّ العناية الإلهية ساعدتْك بعض الشيء. فسجلُّ نجاحك سجلُّ وفيات، لقد أرسلت إيسلي ليزورني ذات مرة.»

«لأنَّك كنتَ مريضًا آنذاك.»

فقال فانكس بتجهم: «أجل، وكنتُ أُسبِّب لك بعض المتاعب أيضًا.» نفض رماد سيجارته على السجادة، وقال: «سأستقيل من كلِّ المناصب التي أتولاها في مجالس إدارات شركاتك يا بلاك.»

فضحك الآخر ضحكةً فظَّة.

«يُمكنُك أن تضحك، لكنَّ هذا ليس صوابًا يا بلاك. أنا لا أريد مالًا أدفع نظيره ثمنًا باهظًا للغاية.»

فقال كريسويل بلاك: «يُمكنُك أن تستقيل من العمل يا عزيزي، لكن هل لي أن أسألك عمَّا إذا كان أيُّ شخصٍ آخر يُشاطرك شكوكك العجيبة؟»

هزَّ فانكس رأسه.

وقال: «لا أحد حتى الآن.»

فظلَّ كلاهما ينظر إلى الآخر على مدار نصف دقيقة.

تابع فانكس حديثه فقال: «أريد الرحيل فورًا. أعتقد أنَّ سنداتي وأصولي تساوي ١٥٠ ألف جنيه إسترليني، يُمكنُك شراؤها.»

قال بلاك بخشونة: «إنك تصدمني.»

فتح درج مكتبه، وأخرج منه قنينة زجاجية خضراء وريشة.

وقال مبتسمًا: «إيسلي المسكين يتجوَّل في إسبانيا بحثًا عن أسرار صناعة العطور المغاربية. سيفقد عقله لو عرف ما تُفكر فيه.»

فقال فانكس بتبلُّد: «أفضِّل أن يفقد عقله على أن أفقد حياتي. ماذا لديك هنا؟»

فنَزَع بلاك سدادة القنينة وغَمَس الريشة فيها.

سحب الريشة وقرَّبها إلى أنفه.

فسأله فانكس بفضول: «ما هذا؟»

وجاءت إجابة بلاك بأن رفع الريشة ناحية الرجل ليشمَّها.

قال فانكس: «لا أستطيع شم أي شيء.»

فأمال بلاك طرف الريشة إلى الأسفل سريعًا، ومرَّره على شفتي الآخر. وحينها صاح فانكس: «هنا …» ثم خرَّ على الأرض خائر القوى.

كان الطبيب إيسلي في غرفة مكتبه يُجري فحصًا دقيقًا جدًّا بالميكروسكوب. كانت الغرفة مُظلمة إلا من الضوء الذي انبعث من مصباحٍ كهربائي قويٍّ موجَّه نحو عاكس الجهاز. ومن الواضح أنه كان قد اكتفى بما اكتشفه على شريحة الميكروسكوب؛ إذ إنه سرعان ما أزال الشريحة الزجاجية ورماها وسط النار وأضاء الأنوار.

أخذ من فوق الطاولة صحيفةً وقرأها.

استرعى أحد الأخبار اهتمامه إذ كان يتحدث عن وفاة السيد أوجستس فانكس المفاجئة.

ورد في الخبر: «كان الرجل المتوفَّى منشغلًا مع كريسويل بلاك، الخبير المالي الشهير، في مناقشة تفاصيل الدمج الجديد لبعض شركات الحديد، حين سَقَط فجأة وفارق الحياة، قبل أن تصل إليه الإسعافات الطبية. ويُعتقد بأنَّ الوفاة قد حدثت جراء توقف القلب.»

لن يجري التحقيق في الوفاة، مثلما كان إيسلي يعرف؛ إذ كان قلب فانكس ضعيفًا في الواقع، وكان يتلقَّى رعاية طبية من اختصاصيٍّ كان يكتشف أعراض المرض من أهون داعٍ يجعله يشتبه فيها؛ وذلك لتخصُّصه في مشكلات القلب.

كانت هذه هي نهاية فانكس إذن. أومأ الطبيب رويدًا. نعم، كانت هذه نهايته. والآن؟

أخذ رسالةً من جيبه. كانت تلك الرسالة موجَّهةً إليه ومكتوبةً بخط ساندفورد الذي كان يبدو منحنيًا ومتراميًا بعشوائية.

كان إيسلي قد التقى به في بدايات المعرفة بين ساندفورد وبلاك حين كانا على وفاق؛ إذ كان الخبير المالي قد أوصى رئيس مصنع الحديد به، وكان الطبيب يعالجه من عدة أمراض حين كان يأتي إلى لندن. كان ساندفورد العجوز يصفه بلقب «طبيبي اللندني» كان صاحب مصنع الحديد يقيم في لندن آنذاك، وبعث إلى الطبيب برسالة.

قال فيها: «مع أنني لا أتفق مع صديقنا بلاك، وقد صار بيننا الآن ما صَنَع الحدَّاد، فأنا متيقنٌ من أنَّ ذلك لن يؤثِّر في علاقتي بك، لا سيما وأنَّني أرجو أن تفحص ابنتي، التي تُقيم معي.»

كانت إديث ساندفورد هي قرة عين الرجل العجوز وأغلى ما لديه. تذكَّر إيسلي أنَّه رآها ذات مرَّة؛ فتاة طويلة ذات عينين تتراقَصان بالضحك وبشرةٍ بيضاء كالحليب ووجنتَيْن حمراوَيْن كالورود.

وضع الرسالة في جيبه، ودخَل عيادته الصغيرة، ثم أوصد الباب. وحين خرج، كان يرتدي معطفه الطويل ويحمل حقيبة كتف صغيرة. كان لديه من الوقت ما يكفي بالكاد ليلحق بقطارٍ متجه إلى حيِّ المال في لندن، وفي الساعة الحادية عشرة، وجد نفسه في غرفة الجلوس الخاصة بساندفورد في فندق «جراند ساوث سنترال هوتيل».

قال رئيس مصنع الحديد بابتسامةٍ وهو يُحيِّي زائره: «أنت رجلٌ غريب أيُّها الطبيب. هل تزور معظم مرضاك ليلًا؟»

فأجاب الآخر ببرود: «مرضاي الأرستقراطيون.»

قال صاحب مصنع الحديد: «يا لتعاسة ما أصاب فانكس المسكين! كنت أتعشَّى معه منذ بضع ليال. هل أخبَرك بأنَّه التقى في أستراليا رجلًا يعرفك؟»

مرَّ ظلٌّ من الانزعاج على وجه الآخر.

وقال بفظاظة: «دعنا نتحدث عن ابنتك. ما بها؟»

ابتسم رئيس مصنع الحديد بإحراج.

وقال: «لا شيء، وهذا ما أرجوه. غير أنَّك تعلم، يا إيسلي، أنَّها ابنتي الوحيدة، وأحيانًا ما أتصوَّرُ أنَّها مريضة. يقول لي طبيبي في نيوكاسل إنَّها لا تعاني أيَّ مشكلة.»

قال إيسلي: «أفهم. أين هي؟»

اعترف الأب قائلًا: «إنَّها في المسرح. لا بُدَّ أنَّك تراني أحمق جدًّا لأنني أحضرتك إلى المدينة من أجل الحديث عن صحة فتاةٍ توجد في المسرح.»

فقال الآخر: «معظم الآباء حمقى. سأنتظر ريثما تأتي.» ثم تمشَّى إلى النافذة ونَظَر إلى الخارج نحو الشارع المضاء بأنوار ساطعة.

سأل فجأة: «لماذا تخاصمت مع بلاك؟»

عَبَس الرجل الأكبر سنًّا.

قال باقتضاب: «العمل. إنَّ «بلاك» يضعني في مأزق. لقد ساعدته منذ أربع سنوات …»

فقاطعه الطبيب قائلًا: «لقد ساعَدَك هو أيضًا.»

فقال الآخر بعناد: «ولكن ليس بقدر ما ساعدته. لقد أعطيتُه فرصته. طَرَح أسهم شركتي للبيع في طرحٍ أوَّلي وقد رَبِحت، لكنَّه رَبِح أكثر. والآن توسَّع العَمَل توسُّعًا هائلًا جدًّا لدرجة أنَّ مشاركتي فيه لن تعود عليَّ بالأرباح. لا شيءَ سيُغيِّر قراري النهائي.»

قال إيسلي بينما كان يَمشي مرَّة أخرى نحو النافذة: «أفهم.»

كان يعتقد أنَّ أمثال هذا الرجل يجب أن تُكسَر شوكتهم. تُكسَر! ولم يكن لذلك سوى سبيل واحد؛ ابنته. لم يكن بوسع الطبيب أن يفعل شيئًا الليلة، وقد كان هذا واضحًا، لا شيء.»

قال: «لا أظنُّ أنني سأنتظر ابنتك. ربما سأزورك مساء غد.»

فقال الآخر: «آسفٌ جدًّا …»

لكنَّ الطبيب أسكته.

تحدث قائلًا: «لا داعي إلى الأسف. ستجد رسوم زيارتي مُدرجةً في فاتورتي.»

ضحك رئيس مصنع الحديد وهو يوصله إلى الباب.

وقال: «أنت بارع في الشئون المالية بقدر براعة صديقك تقريبًا.»

فقال الطبيب باقتضاب: «تقريبًا.»

تحذير رجال العدالة

اتجه إيسلي مباشرةً إلى أقرب مكتب اتصالاتٍ واتصل بفندق «تيمبرانس» في بلومزبِري.

كان لديه من الأسباب ما يجعله يرغب في لقاء ذلك الرجل المدعو بالسيد ويلد الذي كان يعرفه في أستراليا.

لم يجد صعوبةً في إيصال الرسالة؛ إذ كان السيد ويلد في الفندق. انتظر الطبيب على الهاتف ريثما يوصله الخادم به. وبعد وقتٍ قصير، سمع صوتًا عبر الهاتف يقول:

«أنا ويلد. هل تريدني؟»

«نعم، اسمي كول. كنتُ أعرفك في أستراليا. لديَّ رسالةٌ إليك من صديق مشترك. هل تستطيع لقائي الليلة؟»

«نعم، أين؟»

كان د. إيسلي قد قرَّر مكان اللقاء سلفًا.

قال: «خارج المدخل الرئيسي للمتحف البريطاني. يوجد القليلُ من الناس هناك في ذلك الوقت من الليل، وبذلك ستقلُّ احتمالية أن تَتُوه منِّي.»

سكت الطرف الآخر هُنيهةً.

ثم قال: «جيد جدًّا، في غضون ربع ساعة؟»

«سيُناسبني ذلك تمامًا، إلى اللقاء.»

أقفل السماعة، وبعدما ترك حقيبتَه في غرفة الأمانات بمحطة «تشارينج كروس»، انطلق سيرًا إلى شارع «جريت راسل ستريت». لم يكن سيستقلُّ سيارة أجرة؛ إذ كان ينبغي ألَّا يترك خلفه دليلًا من ذلك النوع. فما كان بلاك ليتقبل ذلك. ابتسم حين خَطَرت بباله تلك الفكرة.

كان شارع «جريت راسل ستريت» مهجورًا، إلا من تيار مستمر من سيارات الأجرة التي تمر جيئةً وذهابًا، وبعض المشاة الذين يمرون من حينٍ إلى آخر. وَجَد الطبيب رجله منتظرًا. كان طويلًا وهزيلًا بعض الشيء، وكانت تبدو في وجهه سيماء المُفكِّرين المُهذَّبين.

قال الرجل وهو يَتقدَّم نحو الآخر الذي توقَّف آنذاك: «الطبيب إيسلي؟»

قال إيسلي بصرامة: «اسمي كول. ما الذي يجعلك تظنُّني إيسلي؟»

قال الآخر بهدوء: «صوتك. ومع ذلك، لا يُهمُّني ما تُسمِّي به نفسك، لقد أردتُ لقاءك.»

قال إيسلي: «وأنا أيضًا.» سارا مُتجاورَين حتى وصلا إلى شارعٍ جانبي.

وهنا سأله الطبيب: «ماذا تُريد مني؟»

ضَحِك الآخر.

وقال: «أردتُ رؤيتك. إنك لا تُشبه إيسلي الذي كنت أعرفه إطلاقًا. لقد كان أنحف ولم يكن لديه لون بشرتك نفسه، ودائمًا ما كان يُراودُني ظنٌّ بأنَّ إيسلي الذي ذهب إلى البرية في أستراليا قد مات.»

قال إيسلي بشرود: «هذا مُمكن.» كان يريد أن يكسب وقتًا؛ إذ كان الشارع خاليًا. وعلى بُعِد مسافةٍ قصيرة، كان ثمة مَدخلٌ يمكن أن يَرقُدَ فيه رجلٌ دون أن يلاحظه أحدٌ حتى يأتي شُرطي.

كان يحمل في جيبه ريشةً مُشرَّبة ملفوفةً بعناية بضمادة كتَّانية وحريرٍ مدهونٍ بالزيت؛ فسحبها من جيبه خلسةً، وجرَّدها من غلافها بيديه وراء ظهره.

كان الرجل الآخر في هذه الأثناء يُواصل كلامه قائلًا: «الحق أيها الطبيب إيسلي أنني أشعر بأنَّك مُحتال.»

صار إيسلي مواجِهًا له.

قال بصوتٍ خفيض: «إنك تفكر في الأمور أكثر من اللازم، لكنَّني لا أستطيع تمييز هويتك، فلتدِر وجهك ناحية الضوء.»

فأطاعه الشاب، ولم تَكد تمرُّ ثانية حتى رَفَع إيسلي الريشة بسرعةٍ كلمح البصر.

قَبَضت يدٌ فولاذية على معصمه، وظَهَر رجلان آخران كما لو أنَّ الأرض انشقَّت عنهما. وضُغِط على وجهه بشيءٍ ناعم ذي رائحة مُثيرة للغثيان كانت تخنقُه. حاول المقاومة باهتياجٍ جنوني، لكنَّ الأفضلية العددية كانت ضده بفارقٍ كبير. دوى بعد ذلك صوت صافرة شُرطيٍّ وسَقَط على الأرض.

استفاق ليجد شرطيًّا مُنحنيًا تجاهه من فوقه، ثم تحسَّس رأسه بيده في تصرُّفٍ غريزي.

سأله الشرطي: «أيؤلمك يا سيدي؟»

«لا.»

حاول النهوض بصعوبةٍ حتى وقف مُترنِّحًا.

«هل قبضتم على الرجال؟»

«لا يا سيدي، لقد هربوا. كلُّ ما استطعت فعله أنني رأيتُهم بينما كانوا يُسقطونك، لكن ليحفظك الرب يا سيدي، يبدو كأنَّ الأرض انشقت وابتلعتهم.»

نَظَر إيسلي حوله بحثًا عن الريشة، لكنَّها قد اختفت. وببعض التردُّد، ذكر اسمه وعنوانه للشرطي، الذي استدعى له سيارة أجرة.

سأله الشرطي: «أمتيقنٌ من أنَّك لم تفقد شيئًا يا سيدي؟»

قال إيسلي بانزعاج: «لا شيء. لا شيء. أصغِ إليَّ أيها الشرطي، لا تُبلغ أحدًا بما حدث.» دَس عملة ذهبية في يد الشرطي خلسةً، وأضاف: «أريد ألَّا يصل الأمر إلى الصُّحُف.»

قال الرجل: «سمعًا وطاعة يا سيدي، لكني سأُضطرُّ إلى إبلاغ رؤسائي به؛ فقد أطلقت صافرتي مثلما ترى، وسيبلغ زميلي عن الأمر، حتى لو لم أفعل أنا ذلك.»

كان إيسلي مُضطرًّا إلى أن يقنع بذلك. استقلَّ سيارة الأجرة عائدًا إلى منزله في حي «فورست هيل» وكان منهمكًا في التفكير.

من هؤلاء الثلاثة الذين اعتدَوْا عليه يا تُرى؟ وما ذلك الشيء الذي كان لديهم؟

وَصَل إلى المنزل دون أن يقترب قيد أنملة من إجابةٍ عن هذه الأسئلة. فَتَح الباب الموصد ودخل. لم يكن أحدٌ في المنزل سواه هو وتلك المرأة العجوز في الطابق العلوي.

كانت مواعيد خروجه من المنزل ورجوعه إليه متقلبة جدًّا لدرجة أنَّه أرسى نظامًا أتاح له حرية تحرُّك مثاليةً للغاية.

توصل إلى قرار بضرورة وضع نهايةٍ للطبيب إيسلي. يجب أن يختفي إيسلي من لندن. ولم يكن يحتاج إلى إخبار بلاك بذلك؛ فهو سيعرف حتمًا.

قرَّر أن يُسوِّي مسألة رئيس مصنع الحديد وابنته ثم يضع النهاية بعد ذلك.

فتح باب غرفة مكتبه الموصَد، ودخل وأضاء الأنوار.

وجد رسالة على منضدة الكتابة، رسالة موضوعة في ظرفٍ رمادي رقيق؛ فأخذه وتفحَّصه. رأى أنَّه قد سُلِّم باليد وكان يحمل اسمه مكتوبًا بخطٍّ يدوي محكم.

نظر إلى منضدة الكتابة، وانتفض إلى الوراء فجأة.

لقد كُتِبت الرسالة في الغرفة ونُشِّفَت على الورق النشَّاف!

لم يكن يُوجد شكٌّ إطلاقًا في ذلك؛ إذ كان الورق النشَّاف موضوعًا على المنضدة وكان من الواضح أنه قد استُخدِم حديثًا في ذلك اليوم، وكان الخط اليدوي السميك يبدو باتجاهه العكسي من ظَهرِ الظرف.

نَظَر إلى الظرف مجددًا.

كان من المحال أن يكون ذلك من فعل مريضٍ له؛ إذ لم يكن لديه أي مريض. لم تكن مهنة الطب سوى ستارٍ. وفوق ذلك كله، كان الباب موصدًا، وما كان أحدٌ يملك المفتاح سواه. فتح الظرف ممزِّقًا إيَّاه، وأخرج محتوياته التي تمثلت في نصف ورقةٍ من وَرَق الرسائل ورد فيها ثلاثة أسطر هي كما يلي:
لقد أفلتَّ الليلة.
لديك ثمانٍ وأربعون ساعة فقط لتُهيِّئ نفسك للمصير الذي ينتظرك.
رجال العدالة

غاص في كرسيه محطمًا بما عرفه للتو.

لقد كانوا «رجال العدالة»، وقَد أفلَت منهم.

رجال العدالة! دَفَن وجهه بين يديه وحاول أن يفكر. لقد أمهلُوه ثماني وأربعين ساعة. يُمكن فعل الكثير في ثمان وأربعين ساعة. لقد عاش ذُعرَ الموت وهو ذاك الذي أرسل الكثيرين من قبل إلى مصيرهم المحتوم دون أدنى شعورٍ بالندم أو وخز الضمير.

أمسك بحلقومه وأخذ يُحدِّق إلى كلِّ أنحاء الغرفة. إيسلي المُسمِّم — الخبير المتخصص في قبض الأرواح — الرجل الذي أعاد إحياء فن آل «مديتشي» المفقود وخَدَع الشرطة. ثمان وأربعون ساعة! حسنًا، بإمكانه أن يُسوِّي مسألة صاحب مصنع الحديد. لقد كان ذلك ضروريًّا لبلاك.

بدأ يتخذ استعداداتٍ محمومة للمستقبل. لم تكن توجد أوراق ليُتلفها. دخل العيادة وأفرغ ثلاث زجاجات في الحوض. أمَّا الرابعة فقد كان يُريدها؛ فالرابعة، تلك الزجاجة الخضراء الصغيرة ذات السدادة الزجاجية، كانت مفيدةً لبلاك؛ لذا وضعها في جيبه.

ترك المياه تَنساب من الصنبور لتُزيل كل آثار المادة المخدرة التي سَكَبها، ثم هشَّم الزجاجات ورماها في سلة النفايات.

صعد إلى غرفته في الطابق العلوي لكنَّ النوم جافى عينيه. أوصد الباب بالمفتاح وأسند كُرسيًّا إليه. فتَّش داخل الخزانة وتحت السرير وهو يُمسك بمسدس في يده، ثم وضع المسدس تحت وسادته وحاول النوم.

طَلَع عليه صباح اليوم التالي وهو منهكٌ ومُتوعِّك، لكنَّه مع ذلك تأنَّق وتزيَّن بعنايةٍ كالمعتاد.

وفي الموعد المُحدَّد ظُهرًا، قدَّم نفسه في الفندق الذي يقيم فيه رئيس مصنع الحديد؛ فأوصله أحد الخدم إلى غرفة الجلوس.

كانت الفتاة وحدها حين دخل. وقد لاحَظ باستحسانٍ أنَّها كانت شديدة الجمال. كان يعرف بالفطرة أنَّ إديث ساندفورد لم تكن تحمل أيَّ مودَّة تجاهَه. رأى الغيمة التي خيَّمت على وجهها الجميل وهو يقترب منها، وقد استمتع بذلك على طريقته الباردة.

قالت: «أبي في الخارج.»

قال إيسلي: «هذا جيد، يُمكننا التحدث قليلًا ريثما يعود.»

وقَعَد من تلقاء نفسه دون دعوة.

قالت: «يجدر بي أن أخبرك الآن، أيها الطبيب إيسلي، أنَّ مخاوفَ أبي بشأني ليس لها أيُّ أساس.»

دَخَل صاحب مصنع الحديد حينئذٍ وصافَح الطبيب بحرارة.

ثم سأله: «حسنًا، كيف تبدو حالتها في رأيك؟»

فقال الآخر: «المظاهر لا تُخبر المرء بشيء.» لم تكن هذه اللحظة المناسبة لاستخدام الريشة؛ فقد كان عليه أن يفعل أشياء أخرى، ولم تكن الريشة هي السبيل إلى تحقيقها. ظل يتحدث لبعض الوقت ثم نهض، وقال لها: «سأبعث إليكِ بدواء.»

ارتسمت على وجهها تعابير تهكُّمٍ جاف.

سأله ساندفورد: «هل تستطيع المجيء إلى العشاء؟»

فكَّر إيسلي قليلًا، ووجد أنَّ ذلك سيُتيح له فرصة.

قال: «حسنًا، سوف آتي.»

ثم رحل واستقلَّ سيارة أجرة إلى بعض غرف الإيجار بالقرب من سد التايمز؛ فقد كان لديه غرفةٌ مفيدة للغاية هناك.

كان لدى السيد ساندفورد موعدٌ مع كريسويل بلاك. وكان ذلك هو اللقاء الأخير قبل فضِّ الشراكة بينهما.

كان حيُّ المال يعجُّ بالشائعات. وانتشر كلامٌ هامس بأنَّ أمور الخبير المالي ليست على ما يرام؛ وأنَّ اقتراح الدمج الذين كان يعوِّل عليه لم يُقبَل.

جلس بلاك إلى مكتبه عصر ذلك اليوم يلهو وهو شارد الذهن بأحد سكاكين الورق. كان أشد شحوبًا من المعتاد، وكانت اليد التي تمسك السكين ترتعش بعصبية.

تمتم بينه وبين نفسه قائلًا: «لا بد أن يَنتهيَ وجود إيسلي. لقد صار خطِرًا جدًّا، صار خطِرًا للغاية. لقد عاش وقتًا أطول من صلاحية نفعه، ومَن يعش وقتًا أطول من صلاحية نفعه، فهو ميت بالفعل.»

نَظَر إلى ساعة يده. كان هذا وقت مجيء ساندفورد. ضَغَط بلاك جرسًا في جانب مكتبه، فدخل إليه موظف.

سأله: «هل وصل السيد ساندفورد؟»

فقال الرجل: «وصل للتوِّ يا سيدي.»

«أدخِله.»

تبادل الرجلان التحية الرسمية، وأشار بلاك إلى كرسيٍّ. قال باقتضاب: «اقعد يا ساندفورد. والآن، ما موقفنا بالضبط؟»

قال رئيس مصنع الحديد بصرامة وإصرار: «كما هو.»

«لن تُشارك في مخططي؟»

قال الآخر: «كلا، لن أفعل.»

نقَر السيد كريسويل بلاك على المكتب بسكينه، ونَظَر إليه ساندفورد. كان يبدو أكبر سنًّا مما كان عليه حين رآه ساندفورد آخر مرة؛ فقد كان وجهه الأصفر مُشقَّقًا ومجعَّدًا.

قال فجأة: «إنَّ هذا سيَجلبُ الخراب عليَّ. لديَّ دائنون لا حصر لهم. وإذا تمَّ هذا الدمج، فسيستقر وضعي.»

قال الآخر: «هذا خطؤك. لقد تولَّيتَ مهمةً أكبر من إمكانياتك، والأدهى من ذلك أنَّك تعاملت مع الكثير جدًّا من الأمور على أنها من المسلَّمات.»

رَفَع الرجل القاعد إلى المكتب رأسه نحو زائره ناظرًا إليه من أسفل حاجبيه المستقيمين.

قال: «من السهل عليك أن تقعد هناك وتُخبرني بما ينبغي فعله.» وأوحى تهدج صوته إلى الآخر بشيءٍ من الشعور القوي الذي كان يُخفيه. «لا أريد نصيحة ولا عظة، بل أريد مالًا. شاركني في مخططي ووافِق على الدمج، وإلَّا …»

رَدَّ رئيس مصنع الحديد بتحدٍّ قائلًا: «وإلَّا ماذا؟ هل تظنُّني خائفًا من تهديداتك؟»

قال بلاك مُتجهِّمًا: «أنا لا أُهددك، بل أحذرك. أنت تخاطر بأكثر ممَّا تعرف أنك تخاطر به.»

قال ساندفورد: «سأخوض المخاطرة إذن.» نهض من كرسيه وقال: «ألديك شيءٌ آخر تودُّ قوله؟»

«لا شيء.»

«إذن سأودِّعُك.»

أغلَق الباب خلفه بضربةٍ عنيفة، وهبَّ بلاك واقفًا، وكانت قَسمات وجهه تتشنَّج بقوة.

توعَّد قائلًا: «ليفعلنَّ إيسلي أكثر ما يبرع فيه!»

لم يكن لدَيه شيء آخر ليفعله. فعاد بسيارة الأجرة إلى الشقة الأنيقة التي كان يسكنها في شارع «فكتوريا ستريت» وفتح الباب ثم دخلها.

قال له خادمه الذي أتاه مسرعًا ليساعده في خلع المعطف: «ينتظرك رجلٌ يا سيدي.»

«أيُّ نوع من الرجال؟»

«لا أعرف بالضبط يا سيدي، لكنِّي أعتقد أنَّه مُحقِّق.»

«محقق؟»

وجد يدَيه ترتعشان ولعن غباءه. وقف مُتحيِّرًا وسط الصالة لكنَّه تمكَّن في غضون دقيقة من السيطرة على مخاوفه، وأدار مقبض الباب.

نهض رجلٌ ليقابله.

شعر بلاك بأنَّه قد التقاه من قبل. كان ذلك أحد تلك المشاعر التي يَصعُب شرحها.

سأله قائلًا: «أردت لقائي؟»

فقال الرجل بنبرة احترام في صوته: «نعم يا سيدي. أتيتُ لطرحِ بعض الاستفسارات.»

كاد بلاك أن يسأله عمَّا إذا كان ضابطَ شرطة، لكنَّه بطريقةٍ ما، لم يتحلَّ بالشجاعة الكافية لصياغة الكلمات.

كان تكبُّد عناء ذلك غير ضروريٍّ، مثلما ثبت لاحقًا؛ إذ إنَّ كلمات الرجل التالية قد أوضحت مهمته.

قال: «لقد كلَّفتني شركةٌ من المحامين باكتشاف مكان وجود الطبيب إيسلي.»

نظر بلاك إليه بإمعان.

وقال: «من المفترض ألَّا تجد صعوبةً في ذلك؛ فاسم الطبيب واردٌ في سجل الهواتف والعناوين.»

قال الرجل: «هذا صحيح، لكنِّي واجهتُ صعوبةً كبيرة في إيجاده مع أنني بحثتُ عنه كثيرًا.» وأوضح قائلًا: «الحق أنني كنتُ مُخطئًا حين قُلتُ إنني أريد معرفة مكانه، بل أريد إثبات صحَّة هُويته.»

قال بلاك: «لا أفهمك.»

فقال الرجل: «حسنًا، لا أعرف كيف أصوغ قصدي بالضبط. ما دُمتَ تعرف الطبيب إيسلي، فستتذكر أنَّه مكث في أستراليا بضع سنوات.»

قال بلاك: «هذا صحيح، لقد سافَرنا معًا.»

«وقد مكثتما هناك بضع سنوات، أليس كذلك يا سيدي؟»

«بلى، مكثنا هناك عددًا من السنوات، لكنَّنا لم نكن معًا طوال تلك الفترة.»

قال الرجل: «أفهم. أعتقد أنكما قد عُدتما معًا، أليس كذلك؟»

أجاب الآخر بحدة: «نعم، عُدنا في فترتين مختلفتَين.»

«هل رأيته مؤخرًا؟»

«كلا، لم أره، وإن كنت أبعث له مرارًا بالرسائل بشأن مسائل مختلفة.» كان بلاك يحاول قدر المستطاع ألَّا يفقد صبره؛ إذ كان عليه ألا يسمح لهذا الرجل برؤية مدى انزعاجه الكبير من هذه الأسئلة.

دوَّن الرجل شيئًا في دفتر ملاحظاته، وأغلقه ووضعه في جيبه.

سأله بهدوء: «أيُدهشُك أن تعرف أنَّ الطبيب إيسلي الحقيقي الذي سافر إلى أستراليا قد مات هناك؟»

أمسَكَت أصابع بلاك بحافة الطاولة وتمالَك توازنه.

قال: «لم أكن أعرف ذلك. أهذه هي كلُّ الأسئلة التي كنتَ تودُّ طرحها؟»

قال المحقق: «أظنُّ أنَّ ذلك سيكفي يا سيدي.»

فسأله بلاك: «هل لي أن أسألك عمَّن وكَّلك لإجراء هذا التحقيق؟»

«لا يَحقُّ لي الإفصاح عن ذلك.»

وبعدما رحل المُحقق، ظلَّ بلاك يَمشي في الشقة منهمكًا في تفكيرٍ عميق.

لا بُد أن ينتهي وجود إيسلي.

أنزَل من فوق الرف دليلَ سفرٍ وخرائط للقارة من إصدار «بيديكر»، ورَسَم بالقلم الرصاص على ورقةٍ خطةً لتقاعُده. فربما كان ينبغي أن يختفي كريسويل بلاك أيضًا. وما دام الأمر كذلك، فكان من الأفضل أن يستعد. لقد انتهَت لعبته؛ إذ كان رفضُ ساندفورد للتفاوض معه هو النكبة القصوى.

عَبَر الغرفة متجهًا إلى الخزنة التي كانت موجودة في رُكنها وفتحها. كان دُرجها الداخلي يحوي ثلاث رزمٍ متساوية من الأوراق النقدية. أخرجها ووضعها على الطاولة. كانت أوراقًا نقدية من إصدار بنك فرنسا، وكانت كل ورقةٍ منها بألف فرانك.

كان من الأفضل له ألَّا يُجازف؛ لذا وضع الرزم في جيب معطفه الداخلي. إذا فشلت كل الحيل وضاقت به السبل، فستكون هذه النقود طريقه إلى الحرية.

أمَّا بخصوص إيسلي، فقَد ابتسم حين خَطر بباله؛ إذ كان يجب أن يختفي بأيِّ حالٍ من الأحوال.

غادر شقته واستقلَّ سيارة أجرة اتجه بها شرقًا إلى حيِّ المال.

كان ثمة رجلان يتعقبانه، لكنَّه لم يرهما.

سر إيسلي

كانت رفقةً صغيرة راقية تلك التي اجتمعت على العشاء في فندق «جريت ساوث سنترال»؛ إذ كانت ماي ساندفورد قد دَعَت إحدى صديقاتها، وأحضَر السيد ساندفورد شريكه الأصغر في إحدى شركات حي المال، والذي كان يُجري بعض الأعمال معه.

كان إيسلي يرتدي ثيابه اليومية العادية، لكن ذلك لم يُسبِّب أي دهشة؛ إذ لم يُعرف قط بارتداء الثياب التقليدية للإنجليز على العشاء.

بدا واضحًا أنه كان قلقًا ومتوترًا؛ إذ كان تحذير «رجال العدالة» الثاني قد أتاه في ذلك المساء بطريقةٍ غامضة مثلما جاءه تحذيرهم الأول.

قال ساندفورد: «اقعد يا إيسلي.»

كان ثمَّة كرسي فارغ بين رئيس مصنع الحديد وابنته؛ فارتمى الطبيب عليه.

ارتجفت يده وهو يرفع ملعقة الحساء.

فأنزل الملعقة وفتح منديل المائدة الموضوع أمامه.

وقعت من المنديل رسالةٌ على الأرض. كان بلاك قد صار آنذاك على درايةٍ بتلك الأظرُف الرمادية، فكمش الرسالة بيديه واضعًا إيَّاها في جيبه دون أن يحاول قراءتها.

ومنذ تلك اللحظة، استحوذت هذه الرسالة الموضوعة في جيبه على كل تفكيره. رسالةٌ كان يتلمَّسها خلسة من حين إلى آخر ليتيقن من أنها ما تزال في مكانها. كان نصف عقله مشغولًا بذلك الأمر، وكان نصفه الآخر مهتمًّا بإحدى الكئوس. كانت كأس خمرٍ لامعة تقع على يساره وعلى يمين الفتاة. ستشرب الفتاة الشمبانيا من تلك الكأس لاحقًا. وقد كانت هذه مسألة مهمة. ستشرب الشمبانيا منها ثم تخرُّ على الأرض كدُميةٍ متحركة حين تُقطَع عنها الحبال. هذا لو أنَّه استطاع فعل ذلك، لكنَّه كان يفقد أعصابه.

ما كان ليواجه صعوبةً في ذلك قبل أسبوع، بل كان سيُقدِم على تلك الخطوة الجريئة. أمَّا الآن، فقد كان خائفًا؛ إذ كان يشعر بأنه مُراقَب في كل لحظة. وكان ذلك أفظع ما في الأمر. فقد يكون أيٌّ من هؤلاء النُّدُل المهذَّبين الذين كانوا يتنقلون بصمتٍ من ضيف إلى آخر؛ واحدًا من «رجال العدالة». لقد مدَّ يده قبل ذلك ليأخذ كأسها، لكنه شعر بأنَّ عيون الجميع تحدق إليه.

كادت اللحظة المناسبة أن تَحين؛ إذ رأى نادلًا يلف الأسلاك نازعًا إيَّاها عن زجاجات الشمبانيا. وكانت المائدة تضجُّ بقهقهةٍ على تعليق طريف أدلى به الشريك الأصغر. وكان النُّدُل يحومون حول الرجل الذي كان يحمل القنينة.

وفي ثانية، كانت قنينة السائل الأخضر في حِجر إيسلي، بلا سدادة. سكب قليلًا من محتوى القنينة على طرف المنديل. ثم أعاد غلق القنينة، ودَسَّها في جيبه. أخذ الكأس على حِجره، ومسح حافتها من الأعلى مرتين بالمنديل الرطب، ثم أعاد وضع الكأس في مكانها، دون أن يلاحظه أحد.

شعر بتحسُّن آنذاك بعد أن فعل ذلك. اتكأ إلى الوراء في كرسيه، حاشرًا يديه عميقًا في جيبي بنطاله. كان ذلك تصرفًا غير راقٍ، لكنَّه استمد منه شعورًا بالارتياح.

كان ساندفورد يتحدث إليه في تلك اللحظة قائلًا: «إيسلي، استفق يا صديقي العزيز!» واستفاق إيسلي بانتفاضة مفاجئة. «لقد كان صديقي هذا وقحًا للغاية حتى إنه قد علَّق على شعرك.»

قال إيسلي وقد وضع يده على رأسه: «هاه؟»

«حسنًا، إنَّه مُصفَّف وجيد، لكنك ما تزال صغيرًا على أن يكون لديك شعر أبيض.»

«نعم.»

لم يُواصِل المناقشة.

ملأ النادل الكأسين؛ كأس الفتاة أولًا ثم كأسه.

رَفع كأسه باطمئنانٍ وتجرع كل ما فيها. رأى الأصابع البيضاء الممشوقة للفتاة تقترب من ساق الكأس وتحيط بها، ورأى من الفتاة نصف جسدها وهي ترفع الكأس بينما لا تزال تنظر إلى رفيقها.

دَفَع إيسلي كرسيه قليلًا إلى أحد جانبيه حين لامست الكأس شفتيها. تجرَّعت جرعة غير كبيرة، لكنَّها كانت كافية.

حبس الطبيب أنفاسه، ثم أعادت الفتاة وضع الكأس وهي ما زالت تُكلم السيدة الموجودة على يسارها.

ظل إيسلي يعُدُّ الثواني البطيئة. أحصى حتى ستين، ثم مائة، ولم ينتبه إلى ساندفورد الذي كان يُكلمه.

لم يؤدِّ العقار مفعوله!

تلمَّس الطبيب جيبه خلسة إلى أن وجد القنينة مرة أخرى، ثم نزع السدادة وأخرج القنينة من جيبه.

سأل فجأةً وهو يشير إلى ركن الغرفة: «ما ذاك الموجود هناك؟» فاتجهت عيون الجميع إلى حيث أشار، وأفرغ هو محتوى القنينة بأكمله سريعًا في كأس الفتاة.

سأله ساندفورد: «لا أرى شيئًا. إلامَ تشير؟»

«لا شيء، لا شيء، أخشى أنني قد أُجهِدتُ من فرط العمل.»

صار طبيعيًّا في غضون دقيقتين. ضحك بحرج على حماقته، ورفض المغادرة.

ظل يراقب وينتظر مرة أخرى، لكنه شارك في المحادثة هذه المرة. اقترح أحد الحاضرين أن يشربوا نخب المضيف. وصحيح أنَّه اقترح شرب هذا النخب على سبيل المزاح، لكنَّ جميع الحاضرين قد رفعوا كئوسهم، ومن بينهم الفتاة.

لم يحدث شيء.

مرت دقيقتان. لا يمكن أن تكون المادة السامة قد فقدت مفعولها. وضع يده في جيبه ولمس الرسالة، ثم أخرجها.

قال بصوتٍ أجش خافت وهو يُمزق الظرف ليفتح الرسالة: «معذرة، نسيت أن أقرأ هذه.»

أخرج نصف ورقة.

فَرَدها بعناية وقرأها.

كانت الرسالة تقول: «ستُوفِّر على نفسك المتاعب إذا علمت أننا وضعنا الماء في القنينة بدلًا من سم الطبيب كاجالوس.

«رجال العدالة».»

غادَرَ المائدة على عَجَلٍ وخرج من الغرفة وهو يتخبط كالأعمى.

وفي خِضمِّ عجلته في دهليز الفندق، اصطدم برجل هناك. كان ذلك هو الرجل الذي زار بلاك في عصر ذلك اليوم.

النهاية كما نُشِرت في مجلة «ذا ثريلر»

قال الرجل ممسكًا بذراعه: «معذرةً. أنا المُحقق الرقيب كاي من «سكوتلانديارد»، وسآخذك إلى الحجز.»

وحالما شعر الطبيب بالخطر، ابتعد عنه قليلًا. وفجأة انطلقت قبضته ولَكَمت الضابط تحت فكِّه. كانت لكمةً هائلة باغتت المحقق الذي لم يكن مستعدًّا لها؛ فهوى على الأرض كجذعٍ قُطِع من شجرة.

كانت الردهة فارغة. رَكَض الهارب إلى البهو تاركًا الرجل على الأرض. كان بلا قبعة، لكنَّه حجب وجهه بيده ومرَّ وسط الزحام في الرواق وخرج إلى الشارع. لوَّح لإحدى سيارات الأجرة.

قال: «إلى محطة «نيو كروس».»

وعند المحطة، أمر السائق بالانصراف، وقطع تذكرة إلى محطة «لندن بريدج». كان القطار يدخل المحطة حين وصل إيسلي إلى الرصيف. وجد عربةً فارغة في عربات الدرجة الأولى، ودخلها.

وفي أثناء تحرُّك القطار خروجًا من المحطة، ظهر رجلٌ يركض على الدَّرَج، وقَفَز على دواسة الصعود إلى القطار في أثناء تحركه.

أمَّا إيسلي، فسرعان ما بدأ العمل في عربته بعد أن أسدل الستائر. ومن حسن حظه الهائل أنَّ القطار كان أحد قطارات الخطوط الرئيسية، وكان يوجد حوض غسيل في المرحاض؛ فشَرَع في العمل سريعًا.

كان قد انتهى قبل وصول القطار إلى محطة «لندن بريدج». رفع ستارة النافذة، فالتقى وجهه بوجه رجلٍ يقف على دواسة صعود القطار، رجل ذي عينين رزينتَين صارمتين.

صاح إيسلي قائلًا: «دي لا مونت!» وحاول تسديد لكمة عنيفة إليه.

غير أنها لم تصل إليه قط؛ إذ كان دي لا مونت قد ابتعد سريعًا عن الدواسة متجهًا إلى بابٍ لإحدى العربات كان مفتوحًا. رفع إيسلي النافذة مرة أخرى، وأنزَل الستارة. ثم أخرج مسدسًا من جيبه ونظر إليه ببلاهة.

كانت مجموعة من الضباط تنتظر على رصيف المحطة.

قال أحد الضباط لاهثًا: «لقد تلقيت رسالة هاتفية تُخبرني بأنَّ رجلنا كان على متن هذا القطار.»

فسأله المفتش: «هل قبضوا على الرجل الآخر؟»

«بلاك؟ لا يا سيدي. لدينا رجال ينتظرونه في شقته. أتساءل من ذا الذي بعث بالرسالة الهاتفية؟»

توقف القطار تمامًا، وبدأت المجموعة الصغيرة البحث. كانت إحدى النوافذ مُغطاة بالستارة من الداخل. ففتحوا باب عربة تلك النافذة.

وجدوا رجلًا يَرقد على الأرض وبجواره مسدس.

قال المفتش وهو ينظر إلى وجه الميت: «هذا غريب. إذن، فقد كان هذا هو سر إيسلي!»

رفع أحد الزملاء عينيه فجأة نحو المفتش.

وقال بانفعال: «هذا الرجل ليس إيسلي.»

رد المفتش قائلًا: «يؤسفني القول إنك مخطئ. إنه إيسلي، وهو كريسويل بلاك أيضًا. إنهما شخصٌ واحد!»

النهاية كما نُشِرت في قصة «رجال عدالة قرطبة»

قال الرجل ممسكًا بذراعه: «معذرةً. أنا المُحقق الرقيب كاي من «سكوتلانديارد»، وسآخذك إلى الحجز.»

وحالما شعر الكولونيل بالخطر، ابتعد عنه قليلًا. وفجأة انطلقت قبضته ولَكَمت الضابط تحت فكِّه. كانت لكمةً هائلة باغتت المحقق الذي لم يكن مستعدًّا لها؛ فهوى على الأرض كجذعٍ قُطِع من شجرة.

كانت الردهة فارغة. رَكَض الهارب إلى البهو تاركًا الرجل على الأرض. كان بلا قبعة، لكنَّه حجب وجهه بيده ومرَّ وسط الزحام في الرواق وخرج إلى الشارع. لوَّح لإحدى سيارات الأجرة. قال: «بلدة «واترلو»، وسأعطيك جنيهًا، إذا لحقتَ بقطاري.»

وفي غضون أقل من دقيقة، كانت السيارة تُسرِعُ به في شارع «ستراند»، لكنه غيَّر تعليماته للسائق قبل الوصول إلى المحطة.

قال: «لن ألحق بالقطار، أنزلني عند ناصية ميدان «إيتون سكوير».»

وعند ميدان «إيتون سكوير»، دفع للسائق أجرته وأمره بالانصراف. وبشيء من الصعوبة، وجد سيارتين تنتظرانه.

قال: «أنا الكولونيل بلاك.» فحيَّاه السائق الأول بلمس طرف قبعته. قال له بلاك: «اسلك الطريق المستقيم إلى ساوثهامبتون، ودَع السائق الثاني يتبعك.» وقبل أن تقطع السيارة شوطًا طويلًا، غيَّر رأيه؛ فقال: «اذهب أولًا إلى نادي «جونيور تيرف كلوب» للخيول في شارع «بول مول».»

وصل إلى النادي، وأومأ للبواب، ثم أمره قائلًا: «أخبر السير آيزاك بأنني أريده حالًا.»

كان آيكي في النادي، وقد كانت محاولة بلاك محض تخمين، لكنَّه قد أصاب رَجُلَه.

قال بلاك على عَجَلٍ للبارونيت المتحير المهتاج: «أحضِر معطفك وقبعتك.»

«لكن …»

صاح الآخر بغضبٍ وحشي: «من دون جدال، أحضِر معطفك وقبعتك، إلا إذا كنت تريد أن تُجَر من هنا إلى أقرب مركز شرطة.»

رجع آيكي على مضض إلى النادي وعاد في غضون بضع ثوانٍ، وهو يسير بصعوبةٍ وسط معطفه الكبير. سأله بانفعال: «والآن ما سبب كل هذا بحق الجحيم؟» وحين وقع ضوء عمود إنارة على رأس الكولونيل المكشوف، شهق قائلًا: «يا رباه! لقد صار شعرك أبيض! إنك تشبه هذا الرجل المدعو إيسلي تمامًا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤