(٩) مأدبة عشاء لدى اللورد فيرلوند

زار اللورد فيرلوند منزل ساندفورد عصرًا، وقد ذهب لأسبابٍ عديدة لم يتوقَّع أحدٌ أهمها؛ فقد كان يملك حصةً كبيرة في أسهم مسابك «ساندفورد فاوندريس»، ومع انتشار الشائعات عن دمجٍ وشيك، كان يُوجد مبررٌ كافٍ لزيارته. بل إنَّ سبب الزيارة قد بَدَا مُبرَّرًا للغاية حين كان أول من التقاه هناك رجلًا ضخمًا أصفر الوجه ودودًا جدًّا إلى حدٍّ لعين، ولديه استعدادٌ مُبالغٌ فيه للتصادُق من أجل نيل رضا الرجل العجوز.

قال الكولونيل بلاك: «لقد سمعت عنك يا فخامة اللورد.»

فقال الإيرل بصوتٍ حاد مفاجئ: «لا تُنادِني ﺑ «فخامة اللورد» حبًّا للرب. عَجَبًا، إنَّك تطلب مني أن أكون وقحًا معك.»

غير أنه لم يكن من المُمكن لرجلٍ بمكانة فيرلوند أن يكون وقحًا مع الكولونيل، في ظلِّ وجود ابتسامته التلقائية وعينَيه الساطعتَين.

قال بلاك بتلك النبرة المُلطِّفة التي قد يرى البعض أنها علامة على إجلالهم: «أعرفُ أحد أصدقائك.»

فقال الإيرل: «بل تعرفُ آيكي ترامبر، والأمران ليسا سواء.»

فأحدَث الكولونيل صخبًا يعبر به عن تسليته بما قاله الإيرل. واستهلَّ جملةً قائلًا: «إنَّه دائمًا …»

فساعَدَه الإيرل في إكمالها وعيناه تتوهَّجان بخُبثٍ جذَّاب، قائلًا: «إنَّه دائمًا ما يتكلَّم عنِّي بالحُسنى، ويقول كَم أنني رفيق رائع، وكيف أنَّ الدنيا تَفقِد طعمها إذا مرَّ يومٌ دون أن يراني، ويصفُ لك كم أنني رياضيٌّ بارع، وكم أنَّ القلب الذي يَنبض وراء ظاهري غير الجذَّاب بعض الشيء، صادقٌ وطيب، وكيف أنَّ الناس سيُحبُّونني إذا عرفوني فحسب، يقول كل هذا، أليس كذلك؟»

أومأ الكولونيل بالإيجاب.

فقال اللورد فيرلوند بفظاظة: «لا أظن!» ونَظَر إلى الآخر لبعض الوقت، وأضاف: «يَجدر بك أن تأتي إلى بيتي لتتعشَّى معي الليلة، فستَلتقي العديد من الأشخاص الذين يَكرهونك بشدة.»

تمتم الكولونيل قائلًا: «سيُسعدني ذلك.»

كان يأمل أن يُدعى إلى المشاركة في الاجتماع الذي خمَّن أنَّه سيُعقَد بين ساندفورد وفخامة اللورد، لكنَّ أمله في ذلك قد خاب. وقد كان بوسعه حينها أن يُغادر من ذلك المكان، لكنَّه اختار البقاء ومناقشة الفن (الذي لم يكن يفهمه تمامًا) مع آنسةٍ راقية شارِدة كانت تُفكِّر في شيءٍ آخر طوال الوقت.

كانت ترغب بشدةٍ في صرف موضوع المحادثة إلى الحديث عن قوة شرطة العاصِمة، على أمل أن يرد ذكر شرطي شاب صاعِد. كانت ستَسأل عن أحواله، لكنَّ كبرياءها قد منعها من ذلك. والكولونيل بلاك نفسه لم يَتطرَّق إلى الموضوع.

كان لا يزال يُناقش صورًا قد عفا عليها الزمن حين خَرَج اللورد فيرلوند من غرفة المكتب مع ساندفورد، كان الإيرل يقول: «فلتدعُ ابنتك تأتي.»

كان ساندفورد مُتردِّدًا، وقال: «لديَّ الكثير من الالتزامات، ولا أودُّ أن تَذهب وحدها.»

وحينها ثمة شيء قد أتى فجأة في مصلحة الكولونيل بلاك. فرصة!

قال مُتظاهرًا باللامبالاة: «إذا كنتما تتحدَّثان عن العشاء الليلة، فسأسعدُ باستدعاء سيارتي لأوصلك.»

لكنَّ ساندفورد ظلَّ غير مُطمئن. وكانت ماي هي مَن ينبغي عليه أن يأخذ القرار.

قالت: «أظن أنني أودُّ ذلك يا أبي.»

لم تكن تستمع كثيرًا باحتمالية الذهاب إلى أيِّ مكانٍ مع الكولونيل، لكنَّها رأت أنَّها ستكون مجرد رحلةٍ قصيرة.

قال بلاك بنبرةٍ مازحة بعض الشيء: «إذا تسنَّى لي أن أحل محلَّ والد الفتاة الشابة، فسأعدُّ ذلك شرفًا.»

نَظَر حوله فوجد وميضًا غريبًا في عيني اللورد فيرلوند. وكان الإيرل يُحدِّق إليه بتدقيقٍ وشيء من الحدة؛ فاعترى قلب الخبير المالي خوفٌ مُفاجئ لا تفسيرَ له.

تمتم الرجل العجوز وهو ما زال يحدق إليه من أسفل جفنَيه المخفوضين: «ممتاز، ممتاز! ليست مسافة طويلة، وأظنُّك لن تواجه صعوباتٍ في رحلتك.»

ابتسمت الفتاة، لكنَّ حدة النظرة المتجهمة على وجه الإيرل لم تَهدأ.

وقال: «ولأنَّ صحَّتكِ ليست بخير أيتها الآنسة الشابة.» فضحكت ماي ضحكة اعتراضية، لكنَّه واصل قائلًا: «ولأنَّ صحتكِ ليست بخير أيتها الآنسة الشابة، سأجعل السير جيمس باور والسير توماس بيجلاند يلتقيان بكِ — أتعرفُ هذين الطبيبين البارزين أيها الكولونيل؟ سيَعرفهما صديقك الطبيب إيسلي بالتأكيد — كلاهما مُتخصِّصٌ في تأثير أشباه القلويات النباتية.»

تصبَّب وجه بلاك عرقًا غزيرًا، لكنَّه حافظ على تحكمه في تعبيرات وجهه. توهَّج وميضٌ من الخوف والغضب في عينيه، لكنَّه قابل نَظرة الآخر بنظراتٍ متحدية، حتى إنَّه قد ابتسم ابتسامةً بطيئة ببعض الجهد، ثم قال بنبرةٍ شبه مرحة: «هذا يضع نهاية لأي اعتراض.»

غادر الرجل العجوز وكان يَبتسِم لنفسه طوال طريق العودة إلى المدينة.

كان إيرل فيرلوند شديد الالتزام بالنظام والانضباط، كان رجلًا عجوزًا متجهمًا مُحدَّب الجسد. كان المجتمع الراقي يقول عن وجهه إنَّه يَروي قصة حياته ببلاغة، وكان لسانه السليط كافيًا ليضمن له احترام أصدقائه، أو خوفهم الذي يحل محل الاحترام باقتدار إن لم يضمن له احترامهم.

غير أنَّ كلمة «أصدقاء» لا تنطبق على أيٍّ من معارف الإيرل أبدًا بمعناها المعتاد. كان من الواضح أنَّ صديقه الوحيد هو السير آيزاك ترامبر، حتى إنَّه حين سُئل عن صداقاته من شخصٍ كان يعرفه بدرجة تكفي للتطرُّق إلى موضوعٍ شديد الخصوصية كهذا، قال بسخرية: «لديَّ أناسٌ يتعشَّون معي.»

في تلك الليلة، كان ينتظر في المكتبة الكبيرة في منزله بشارع «كارنارفون بليس». كان الإيرل أحد هؤلاء الرجال الذين يلتزمون بجدولٍ زمني صارم في كل يومٍ من أيام حياتهم. ألقى نظرةً خاطفة على ساعته؛ كان من المفترض أن يكون في طريقه إلى غرفة الجلوس في غضون دقيقتَين لاستقبال ضيوفه.

كان هوريس جريشام سيأتي إلى المأدبة. وارتأى السير آيزاك ترامبر أنَّ دعوة ذلك الرجل إلى العشاء كانت تصرُّفًا غريبًا، فغامر بالتعليق على ذلك مُفترضًا أنَّه صديق الإيرل.

فقال الإيرل: «حين أريدُ نصيحتك بشأن قائمة المدعوِّين إلى بيتي يا آيكي، سأبعث إليك ببرقيةٍ مدفوعة مُقدَّمًا.»

قال السير آيزاك متأفِّفًا: «ظننتُ أنَّك تكرهه.»

فقال الإيرل: «أكرهه! بالطبع أكرهه. أكره الجميع. وكان ينبغي أن أكرهك، لكنَّك شيطانٌ تافه. هل صرتَ على وِفاقٍ مع ماري؟»

تذمَّر السير آيزاك قائلًا: «لا أدري ما تقصد ﺑ «صرت على وفاق». حاولتُ التودُّدَ إليها، لكنِّي لم أنجح إلَّا في أن أجعل من نفسي أضحوكةً على ما يبدو.»

قال الرجل النبيل بضحكةٍ قصيرة خافتة: «آه، ستكون أكثر إعجابًا بك وأنت على طبيعتك.»

فَرَمق السير آيزك راعيه بنظرةٍ خاطفة عابسة. وقال: «أظنك تعرف أنني أرغب في الزواج من ماري.»

قال الإيرل: «أعرفُ أنَّك تُريد بعض المال دون أن تكدَّ من أجله. لقد حدثتني عن ذلك مرتين. لا يُمكن أن أنسى ذلك؛ فذلك من نوعية الأمور التي أُفكِّر فيها ليلًا.»

فقال البارونيت مزمجرًا: «أتمنَّى أن تكفَّ عن هذا المزاح معي. هل تَنتظِر أيَّ ضيوفٍ آخرين؟»

زمجر الإيرل غاضبًا: «كلا. أنا جالس على قمة مون بلان آكلُ الأرز باللبن.» لم يأت ردٌّ على هذا، ثم قال الإيرل فجأة: «لقد دعوتُ صديقًا قديمًا جدًّا من أصدقائك، ولكن لا يبدو أنَّه سيَحضر.»

قال آيكي مقطبًا حاجبَيه: «صديقٌ قديم؟»

فأومأ الآخر، ثم قال باقتضاب: «رجلٌ عسكري. كولونيل في الجيش، مع أنَّ أحدًا لا يعرف ذلك الجيش.»

فَغَر السير آيزاك فاه، وقال: «لا تقُل إنك تقصد بلاك؟»

أومأ اللورد فيرلوند برأسه. ظل يومئ عدة مرات كطفلٍ مُبتهِج يعترف بخطأٍ وهو فخورٌ به للغاية. وقال: «إنَّه بلاك.» لكنَّه لم يذكر الفتاة.

نَظَر إلى ساعته مرة أخرى ولوى قسمات وجهه قليلًا، ثم أمَر السير قائلًا: «ابقَ هنا. أنا ذاهبٌ إلى الهاتف.»

«أيُمكنني …»

فقاطعه الإيرل بنبرة حادة: «لا يُمكنُك!» اختفى لبعض الوقت، وحين عاد إلى المكتبة، كان وجهه متبسِّمًا، وقال: «صديقك لن يأتي.» ولم يذكر أيَّ تفسير لتصرُّف الكولونيل الذي لم يكن له تفسير، ولا للابتسامة التي عَلَت وجهه.

على العشاء، وجد هوريس جريشام نفسه جالسًا بجوار أجمل امرأةٍ في الدنيا، بل كانت ألطفَ النساء أيضًا وأسهَلهن تسليةً. كان مُستعدًّا لنسيان الدُّنيا كلها وما فيها من أمثال أولئك الذين كانوا متجمعين حول الإيرل، لكنَّ اللورد فيرلوند كان لديه رأيٌ آخر.

قال فجأة مُخاطِبًا هوريس: «لقد التقيتُ أحد أصدقائك اليوم.»

فأبدى الشاب اهتمامه بأدب، وقال: «حقًّا يا سيدي؟»

أضاف فيرلوند: «ساندفورد؛ ذاك الرجل الناجح ذو الثراء الفاحش من نيوكاسل.» فأومأ هوريس بحذر. والتفت الرجل العجوز بسرعةٍ إلى السير آيزاك قائلًا: «إنَّه صديقك أيضًا، أليس كذلك؟ لقد طلبتُ من ابنته الحضور لتناول العشاء، أمَّا الأب فلم يكن بوسعه الحضور. إنها ليسَت هنا.»

حدَّق إلى القاعدين حول المائدة بحثًا عن الفتاة الغائبة.

قال السير آيزاك بحذرٍ مُماثل؛ لأنَّه كان مُضطرًّا إلى التحدث علانيةً أمام الحاضرين دون معرفة شعور الرجل العجوز تجاه الضيفين الغائبين بالضبط: «ساندفورد صديقي من منظورٍ ما، أو بالأحرى إنَّه صديق صديقي.»

فصاح اللورد فيرلوند مزمجرًا: «بلاك، محتال شركة المُضاربة غير القانونية، هل تُشارِكه في ذلك؟»

سارَع السير آيزاك إلى الإجابة قائلًا: «لقد قطعتُ كل علاقتي به تقريبًا.»

ابتسم فيرلوند، وقال: «هذا يعني أنَّه مُفلِس.» ثم التفت إلى هوريس قائلًا: «ساندفورد يشيد بالثناء على شرطيٍّ ولهان بابنته، أهو صديقك؟»

أومأ هوريس، وقال بهدوء: «إنَّه من أعزِّ أصدقائي.»

«وما هو؟»

قال هوريس: «آه، إنَّه شُرطي.»

قال الإيرل: «وأظنُّ أنَّ لديه ساقين ورأسًا وذراعين، أنت موسوعةٌ تفيض بالمعلومات، أعرف أنَّه شرطي. يبدو أنَّ الجميع يتحدَّث عنه. والآن، ماذا يفعل، ومن أين أتى، وما معنى كلِّ ذلك بحقِّ الجحيم؟»

قال هوريس: «يُؤسفني أنني لا أستطيعُ إعطاءك أيَّ معلومات. الشيء الوحيد الذي أنا مُتيقنٌ منه تمامًا في قرارةِ نفسي أنَّه رجلٌ نبيل.»

فسأله الإيرل بتشكيك: «رجلٌ نبيل وشُرطي؟» أومأ هوريس بالإيجاب. فعلَّق اللورد مُتهكِّمًا: «أهذه مهنةٌ جديدة للابن الأصغر، هاه؟ لقد ولَّى زمن هروب الأبناء الصغار وانضمامهم إلى الجيش، وولَّت أيام خدمتهم في الجُندية البحرية، وولَّى زمن قيادتهم قطعان الماشية في براري أمريكا الجنوبية بالعصا …»

وحينها ظَهَرت نظرة تألُّم في عيني الليدي ماري، ووقعت عينا اللورد العجوز عليها وهو يَلتفِت.

زمجر قائلًا: «آسف. لم أكن أُفكِّر في ذلك الأحمق الصغير. ولَّى زمن فرار الابن الأصغر إلى أقاصي الأرض، وولَّى زمن موته ميتةً خلَّابة مثيرة في وحدات فرسان «كيب مونتد رايفلس» العسكرية، أو ظهوره في اللحظة المناسبة وهو يتأبَّط صرَّةً من العملات السبائكية تحت كلِّ ذراع لإنقاذ الأسرة من الهلاك. إذن، فقد صار الانضمام إلى قوات الشرطة هو الحيلة. يجب أن تكتب روايةً عن ذلك؛ فمَن يستطيع كتابة رسائل إلى الصحف الرياضية يستطيع كتابة أيِّ شيء.»

وأضاف: «بالمناسبة، سأذهب إلى «لنكولن» يوم الثلاثاء لأرى مُهرك ذاك وهو يَخسر.»

قال هوريس: «إذن فستكون رحلتك بلا جدوى. لقد اتخذتُ الترتيبات اللازمة ليَفوز.»

انتظر فرصةً ليُحادث الرجل العجوز مُنفردًا، ولم تسنح تلك الفرصة إلَّا في نهاية العشاء، حين وجد نفسه مع الإيرل وحدهما. قال مُتظاهرًا باللامبالاة: «بالمناسبة، أريد محادثتك بشأن مسألةٍ خاصة عاجلة.»

سأله الإيرل وهو ينظر إليه بارتيابٍ من أسفل حاجبيه الأشعثين: «أتريدُ مالًا؟»

ابتسم هوريس. وقال: «لا، لا أظنُّ أنني سأَقترض مالًا على الأرجح.»

فسأله الرجل العجوز بصراحةٍ وحشية: «أتريدُ أن تتزوج ابنة أخي؟»

فقال هوريس ببرود: «هذا هو ما أريد.» كان يستطيع التكيُّف مع مزاج الرجل العجوز.

فقال الإيرل: «حسنًا، لا يُمكنك ذلك. لقد أعددت الترتيبات ليفوز مهرك، وأنا أعددت الترتيبات ليتزوج آيكي بابنتي.» ثم صحَّح لنفسه قائلًا: «أو بالأحرى، رتَّب آيكي معي لهذه المسألة.»

فسأله هوريس متحدثًا عن ماري: «أتعتقد أنها توافق على هذه الخطة؟»

قال العجوز بابتسامة: «لا أظنُّ ذلك؛ فأنا لا أستطيع تخيُّل أنَّ أيَّ شخصٍ قد يُعجَب بآيكي، أتستطيعُ أنت؟ أظنه شيطانًا بغيضًا. إنَّه لا يُسدِّد ديونه، فهو عديم الشرف وقليلُ الاحتشام. وشركاؤه، وأنا منهم، هُم أسوأ الرجال في لندن.» هزَّ رأسه بارتياب. وأضاف مزمجرًا: «لقد قال لي بسرِّيةٍ شديدة إنَّه قد صار الآن فاضلًا، وأخبرني بأنَّه يَفتح صفحةً جديدة. يا له من اعترافٍ حقير أن يُصرِّح به رجل من عيِّنتِه! لا أثقُ به حين يكون في مزاجه التائب.» رَفَع رأسه فجأة، وقال وقد التمع في عينيه بريق شُعلة الخبث الصغيرة، التي كانت تُضفي على وجهه ذاك الطابع الاستثنائي: «فلتذهب وتنتزعها منه. يا لها من فكرةٍ جيدة! اذهب وانتزعها منه؛ لقد لاحظتُ أنَّ ماري مُهتمَّة بك قليلًا. سُحقًا لآيكي! هيا اذهب!»

قال ذلك وهو يَدفع عنه الشاب المشدوه.

وَجَد هوريس الفتاة في المُستنبت الزجاجي المُلحَق بالبيت. كان يفيض بالسعادة؛ إذ لم يكن يتوقع قَط أن ينال موافَقة الرجل العجوز بهذه السهولة الشديدة. لقد نالها بسهولة شديدة حتى إنه كاد أن يشعر بالخوف. لقد بدا الأمرُ كما لو أنَّ إيرل فيرلوند كان يبتكر طريقةً ما لإحراجه بحسِّه الفكاهي الساخر. أخبرها فورًا من دون تفكير بكلِّ ما حدث.

صاح قائلًا: «لا أستطيع تصديق ذلك؛ كان مُستعدًّا وموافقًا جدًّا. صحيحٌ أنَّه كان قاسيًا بالتأكيد، لكنَّ ذلك كان طبيعيًّا.»

نَظرت إليه بوميضٍ طفيف من الاستمتاع في عينيها، وقالت بهدوء: «لا أظنُّك تعرف العم.»

تلجلج قائلًا: «لكن، لكن …»

أضافت: «نعم، أعرف، فالكلُّ يظنون أنَّهم يعرفونه. يظنون أنَّه أفظع عجوزٍ في الدنيا.» واعترفت قائلة: «وأحيانًا ما أشاركهم هذا الرأي. لا أستطيعُ أبدًا أن أفهم السبب الذي جعل «كون» المسكين يضطرُّ إلى مُغادَرة البلاد.»

فسألها: «أكان ذلك أخاكِ؟»

أومأت برأسها، واغرورقت عيناها بالدموع، ثم قالت برقة: «صبيٌّ مسكين، لم يفهم العَم. وأنا أيضًا لم أكن أفهمه آنذاك.» وأضافت بابتسامةٍ حزينة طفيفة: «وأحيانًا ما أظنُّ أنَّ العم لا يفهم نفسه جيدًا. فلتتذكر الأشياء الفظيعة التي يقولها عن الناس، وكيف أنه يصنع أعداءً له …»

قال هوريس بحماسة: «ومع ذلك، فأنا مُستعدٌّ لتصديق أنَّه «ملاكٌ» حقيقي، وأنه فاعلُ خيرٍ للجنس البشري، وملكٌ بين الرجال، ومُوزِّع هباتٍ عظيمة …»

فقالت له: «لا تكُن سخيفًا.» ووضعت يدها على ذراعه وقادته إلى الطرف المُقابل من البهو الكبير المُزيَّن بأشجار النخيل.

وأيًّا ما كانت السعادة التي أدخلها اللورد العجوز على هوريس، فلم يكن لها أيُّ نظيرٍ في تعامله مع السير آيزاك. ظل يَصفعه على ظهره ويركله حتى تلوَّى البارونيت غاضبًا. وبدا أنَّ الرجل العجوز كان يجد لذَّةً خبيثة في إثارة غيظِ الآخر. ولم ينزعج اللورد من أنَّ الآراء التي عبَّر عنها في الساعة العاشرة من تلك الليلة كانت تتناقض تناقضًا صارخًا مع تلك التي تَفوَّه بها في الساعة الثامنة من الليلة نفسها، بل كان ليغيرها عشرات المرات في اليوم الواحد، إن وجد أيَّ لذةٍ في ذلك.

كان السير آيزاك في حالةٍ مزاجية سيئة للغاية حين أحضر له أحد الخُدَّام رسالةً قصيرة؛ فنَظَر حوله بحثًا عن مكانٍ هادئ ليقرأها فيه؛ إذ خمَّن هوية مُرسِلها، لكن لمَ ضيَّع بلاك فرصةً ثمينة جدًّا للقاء اللورد فيرلوند؟ ربما ستُفسِّر تلك الرسالة السبب.

عَبر الغرفة واتجه مُتمهِّلًا صوب المستنبت الزجاجي وهو يقرأ الرسالة بعناية. قرأها مرتين ثم طواها ووضعها في جيبه، ثم عاد إلى ذاك الجيب مرَّة أخرى في الحال تقريبًا؛ إذ أخرج ساعته لمعرفة الوقت.

وحين غادر ذلك الملاذ المنعزل الصغير متجهًا إلى الصالة، تَرَك وراءه قصاصةً ورقية مطويةً على الأرض.

وجدها هوريس، الذي كان في أشد حالات النشوة والابتهاج، حين كان عائدًا إلى غرفة ألعاب الورق، وسلَّمها إلى اللورد فيرلوند الذي قرأها بلا أيِّ تردُّد بعد أن اختلى بنفسه في غرفة مكتبه وابتسم بعد قراءتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤